فصل: كِتَاب الْفَرَائِضِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*1*المجلد الثاني عشر

*2*كِتَاب الْفَرَائِضِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏كتاب الفرائض‏)‏ جمع فريضة كحديقة وحدائق، والفريضة فعيلة بمعنى مفروضة مأخوذة من الفرض‏.‏

وهو القطع، يقال فرضت لفلان كذا أي قطعت له شيئا من المال قاله الخطابي، وقيل هو من فرض القوس وهو الحز الذي في طرفيه حيث يوضع الوتر ليثبت فيه ويلزمه ولا يزول، وقيل الثاني خاص بفرائض الله وهي ما ألزم به عباده‏.‏

وقال الراغب‏:‏ الفرض قطع الشيء الصلب والتأثير فيه وخصت المواريث باسم الفرائض من قوله تعالى ‏(‏نصيبا مفروضا‏)‏ أي مقدرا أو معلوما أو مقطوعا عن غيرهم‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ

لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وقول الله‏:‏ يوصيكم الله في أولادكم‏)‏ أفاد السهيلي أن الحكمة في التعبير بلفظ الفعل المضارع لا بلفظ الفعل الماضي كما في قوله تعالى ‏(‏ذلكم وصاكم به‏)‏ و ‏(‏سورة أنزلناها وفرضناها‏)‏ الإشارة إلى أن هذه الآية ناسخة للوصية المكتوبة عليهم كما سيأتي بيانه قريبا في ‏"‏ باب ميراث الزوج‏:‏ قال‏:‏ وأضاف الفعل إلى اسم المظهر تنويها بالحكم وتعظيما له وقال ‏(‏في أولادكم‏)‏ ولم يقل بأولادكم إشارة إلى الأمر بالعدل فيهم، ولذلك لم يخص الوصية بالميراث بل أتى باللفظ عاما وهو كقوله ‏"‏ لا أشهد على جور ‏"‏ وأضاف الأولاد إليهم مع أنه الذي أوصى بهم إشارة إلى أنه أرحم بهم من آبائهم‏.‏

قوله ‏(‏إلى قوله‏:‏ وصية من الله والله عليم حليم‏)‏ كذا لأبي ذر، وأما غيره فساق الآية الأولى وقال بعد قوله عليما حكيما ‏"‏ إلى قوله والله عليم حليم ‏"‏ وذكر فيه حديث جابر ‏"‏ مرضت فعادني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله كيف أصنع في مالي ‏"‏ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث ‏"‏ هكذا وقع في رواية قتيبة، وقد تقدم في تفسير سورة النساء أن مسلما أخرجه عن عمرو الناقد عن سفيان وهو ابن عيينة شيخ قتيبة فيه وزاد في آخره ‏(‏يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة‏)‏ وبينت هناك أن هذه الزيادة مدرجة وأن الصواب ما أخرجه الترمذي من طريق يحيى بن آدم عن ابن عيينة ‏"‏ حتى نزلت يوصيكم الله في أولادكم ‏"‏ وأما قول البخاري في الترجمة ‏"‏ إلى والله عليم حليم ‏"‏ فأشار به إلى أن مراد جابر من آية الميراث قوله ‏(‏وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة‏)‏ وقد سبق في آخر تفسير النساء ما أخرجه النسائي من وجه آخر عن جابر أن ‏(‏يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة‏)‏ نزلت فيه، وقد أشكل ذلك قديما قال ابن العربي بعد أن ذكر الروايتين في إحداهما فنزلت يستفتونك وفي أخرى آية المواريث‏:‏ هذا تعارض لم يتفق بيانه إلى الآن ثم أشار إلى ترجيح آية المواريث وتوهيم يستفتونك، ويظهر أن يقال أن كلا من الآيتين لما كان فيها ذكر الكلالة نزلت في ذلك، لكن الآية الأولى لما كانت الكلالة فيها خاصة بميراث الإخوة من الأم كما كان ابن مسعود يقرأ ‏"‏ وله أخ أو أخت من أم ‏"‏ وكذا قرأ سعد بن أبي وقاص أخرجه البيهقي بسند صحيح استفتوا عن ميراث غيرهم من الإخوة فنزلت الأخيرة، فيصح أن كلا من الآيتين نزل في قصة جابر، لكن المتعلق به من الآية الأولى ما يتعلق بالكلالة، وأما سبب نزول أولها فورد من حديث جابر أيضا في قصة ابنتي سعد بن الربيع ومنع عمهما أن يرثا من أبيهما فنزلت يوصيكم الله الآية فقال للعم أعط ابنتي سعد الثلثين، وقد بينت سياقه من وجه آخر هناك وبالله التوفيق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَبَّ عَلَيَّ وَضُوءَهُ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ

الشرح‏:‏

قد وقع في بعض طرق حديث جابر المذكور في الصحيحين ‏"‏ فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة ‏"‏ وقوله ‏"‏ فلم يجبني بشيء ‏"‏ استدل به على أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يجتهد، ورد بأنه لا يلزم من انتظاره الوحي في هذه القصة الخاصة عموم ذلك في كل قصة ولا سيما وهي في مسألة المواريث التي غالبها لا مجال للرأي فيه، سلمنا أنه كان يمكنه أن يجتهد فيها لكن لعله كان ينتظر الوحي أولا فإن لم ينزل اجتهد، فلا يدل على نفي الاجتهاد مطلقا‏.‏

*3*باب تَعْلِيمِ الْفَرَائِضِ

وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ تَعَلَّمُوا قَبْلَ الظَّانِّينَ يَعْنِي الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب تعليم الفرائض‏.‏

وقال عقبة بن عامر‏:‏ تعلموا قبل الظانين، يعني الذين يتكلمون بالظن‏)‏ هذا الأثر لم أظفر به موصولا، وقوله ‏"‏قبل الظانين ‏"‏ فيه إشعار بأن أهل ذلك العصر كانوا يقفون عند النصوص ولا يتجاوزونها، وإن نقل عن بعضهم الفتوى بالرأي فهو قليل بالنسبة، وفيه إنذار بوقوع ما حصل من كثرة القائلين بالرأي‏.‏

وقيل مراده قبل اندراس العلم وحدوث من يتكلم بمقتضى ظنه غير مستند إلى علم‏.‏

قال ابن المنير‏:‏ وإنما خص البخاري قول عقبة بالفرائض لأنها أدخل فيه من غيرها، لأن الفرائض الغالب عليها التعبد وانحسام وجوه الرأي والخوض فيها بالظن لا انضباط له، بخلاف غيرها من أبواب العلم فإن للرأي فيها مجالا والانضباط فيها ممكن غالبا‏.‏

ويؤخذ من هذا التقرير مناسبة الحديث المرفوع للترجمة‏.‏

وقيل وجه المناسبة أن فيه إشارة إلى أن النهي عن العمل بالظن يتضمن الحث على العمل بالعلم وذلك فرع تعلمه، وعلم الفرائض يؤخذ غالبا بطريق العلم كما تقدم تقريره‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ يحتمل أن يقال لما كان في الحديث ‏"‏ وكونوا عباد الله إخوانا ‏"‏ يؤخذ منه تعلم الفرائض ليعلم الأخ الوارث من غيره، وقد ورد في الحث على تعلم الفرائض حديث ليس على شرط المصنف أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم من حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما ‏"‏ ورواته موثقون، إلا أنه اختلف فيه على عوف الأعرابي اختلافا كثيرا، فقال الترمذي‏:‏ إنه مضطرب والاختلاف عليه أنه جاء عنه من طريق أبي مسعود، وجاء عنه من طريق أبي هريرة، وفي أسانيدها عنه أيضا اختلاف، ولفظه عند الترمذي من حديث أبي هريرة ‏"‏ تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم، وإنه أول ما ينزع من أمتي ‏"‏ وفي الباب عن أبي بكرة أخرجه الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ من طريق راشد الحماني عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه رفعه ‏"‏ تعلموا القرآن والفرائض وعلموها الناس، أوشك أن يأتي على الناس زمان يختصم الرجلان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما ‏"‏ وراشد مقبول لكن الراوي عنه مجهول‏.‏

وعن أبي سعيد الخدري بلفظ ‏(‏تعلموا الفرائض وعلموها الناس ‏"‏ أخرجه الدار قطني من طريق عطية وهو ضعيف‏.‏

وأخرج الدارمي عن عمر موقوفا ‏"‏ تعلموا الفرائض كما تعلمون القرآن ‏"‏ وفي لفظ عنه ‏"‏ تعلموا الفرائض فإنها من دينكم ‏"‏ وعن ابن مسعود موقوفا أيضا ‏"‏ من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض ‏"‏ ورجالها ثقات إلا أن في أسانيدها انقطاعا، قال ابن الصلاح‏:‏ لفظ النصف في هذا الحديث بمعنى أحد القسمين وإن لم يتساويا، وقد قال ابن عيينة إذ سئل عن ذلك‏:‏ إنه يبتلى به كل الناس‏.‏

وقال غيره‏:‏ لأن لهم حالتين حالة حياة وحالة موت والفرائض تتعلق بأحكام الموت، وقيل لأن الأحكام تتلقى من النصوص ومن القياس والفرائض لا تتلقى إلا من النصوص كما تقدم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ إياكم والظن ‏"‏ الحديث وقد تقدم من وجه آخر عن أبي هريرة في ‏"‏ باب ما ينهي عن التحاسد ‏"‏ في أوائل كتاب الأدب، وتقدم شرحه مستوفى وفيه بيان المراد بالظن هنا وأنه الذي لا يستند إلى أصل، ويدخل فيه ظن السوء بالمسلم، وابن طاوس المذكور في السند هو عبد الله‏.‏

*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نورث ما تركنا صدقة‏)‏ هو بالرفع أي المتروك عنا صدقة وادعى الشيعة أنه بالنصب على أن ما نافية ورد عليهم بأن الرواية ثابتة بالرفع، وعلى التنزل فيجوز النصب على تقدير حذف تقديره ما تركنا مبذول صدقة قاله ابن مالك، وينبغي الإضراب عنه والوقوف مع ما ثبتت به الرواية‏.‏

وذكر فيه أربعة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ وَالْعَبَّاسَ عَلَيْهِمَا السَّلَام أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا حِينَئِذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَيْهِمَا مِنْ فَدَكَ وَسَهْمَهُمَا مِنْ خَيْبَرَ فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهِ لَا أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهِ إِلَّا صَنَعْتُهُ قَالَ فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَتْ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ

الشرح‏:‏

حديث أبي بكر في ذلك وقصته مع فاطمة، قد مضى في فرض الخمس مشروحا وسياقه أتم مما هنا، وقوله فيه ‏"‏ إنما يأكل آل محمد من هذا المال ‏"‏ كذا وقع وظاهره الحصر وأيهم لا يأكلون إلا من هذا المال، وليس ذلك مرادا وإنما المراد العكس وتوجيهه أن من للتبعيض والتقدير إنما يأكل آل محمد بعض هذا المال يعني بقدر حاجتهم وبقيته للمصالح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِي مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ انْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ فَأَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَأُ فَقَالَ هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ قَالَ نَعَمْ فَأَذِنَ لَهُمْ ثُمَّ قَالَ هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ عَبَّاسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا قَالَ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ فَقَالَ الرَّهْطُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ قَالَا قَدْ قَالَ ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ قَدِيرٌ فَكَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ فَعَمِلَ بِذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتَهُ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ قَالُوا نَعَمْ ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ قَالَا نَعَمْ فَتَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضَهَا فَعَمِلَ بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ أَنَا وَلِيُّ وَلِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا مَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ وَأَتَانِي هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا فَقُلْتُ إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَإِنْ عَجَزْتُمَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهَا

الشرح‏:‏

حديث عمر في قصة علي والعباس مع عمر في منازعتهما في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قول عمر لعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بي أبي وقاص والزبير بن العوام‏:‏ هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ لا نورث ما تركنا صدقة ‏"‏ يريد نفسه‏؟‏ فقالوا‏:‏ قد قال ذلك‏.‏

وفيه أنه قال مثله لعلي وللعباس فقالا كذلك الحديث بطوله، وقد مضى مطولا في فرض الخمس وذكر شرحه هناك‏.‏

‏(‏تنبيهات‏)‏ ‏:‏ الراء من قوله ‏"‏ لا نورث ‏"‏ بالفتح في الرواية، ولو روي بالكسر لصح المعنى أيضا، وقوله ‏"‏فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية أبي ذر عن المستملي والكشميهني خاصة، وقوله ‏"‏لقد أعطاكموه ‏"‏ أي المال في رواية الكشميهني ‏"‏ أعطاكموها ‏"‏ أي الخالصة له، وقوله ‏"‏فوالله الذي بإذنه ‏"‏ في رواية الكشميهني بحذف الجلالة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة وإسماعيل شيخه هو ابن أبي أويس المدني ابن أخت مالك وقد أكثر عنه‏"‏، وأما إسماعيل بن أبان شيخه في الحديث الذي قبله بحديث فلا رواية له عن مالك‏.‏

قوله ‏(‏لا يقتسم‏)‏ كذا لأبي ذر عن غير الكشميهني وللباقين ‏"‏ لا يقسم ‏"‏ بحذف التاء الثانية، قال ابن التين‏:‏ الرواية في الموطأ وكذا قرأته في البخاري برفع الميم على أنه خبر والمعنى ليس يقسم، ورواه بعضهم بالجزم كأنه نهاهم إن خلف شيئا لا يقسم بعده، فلا تعارض بين هذا وما تقدم في الوصايا من حديث عمرو بن الحارث الخزاعي ‏"‏ ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ‏"‏ ويحتمل أن يكون الخبر بمعنى النهي فيتحد معنى الروايتين، ويستفاد من رواية الرفع أنه أخبر أنه لا يخلف شيئا مما جرت العادة بقسمته كالذهب والفضة وأن الذي يخلفه من غيرهما لا يقسم أيضا بطريق الإرث بل تقسم منافعه لمن ذكر‏.‏

قوله ‏(‏ورثتي‏)‏ أي بالقوة لو كنت ممن يورث، أو المراد لا يقسم مال تركه لجهة الإرث فأتى بلفظ ‏"‏ ورثتي ‏"‏ ليكون الحكم معللا بما به الاشتقاق وهو الإرث، فالمنفي اقتسامهم بالإرث عنه قاله السبكي الكبير‏.‏

قوله ‏(‏ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة‏)‏ تقدم الكلام على المراد بقوله ‏"‏ عاملي ‏"‏ في أوائل فرض الخمس مع شرح الحديث وحكيت فيه ثلاثة أقوال، ثم وجدت في ‏"‏ الخصائص لابن دحية ‏"‏ حكاية قول رابع أن المراد خادمه وعبر عن العامل على الصدقة بالعامل على النخل وزاد أيضا وقيل الأجير، ويتحصل من المجموع خمسة أقوال‏:‏ الخليفة والصانع والناظر والخادم وحافر قبره عليه الصلاة والسلام، وهذا إن كان المراد بالخادم الجنس، وإلا فإن كان الضمير للنخل فيتحد مع الصانع أو الناظر، وقد ترجم المصنف عليه في أواخر الوصايا ‏"‏ باب نفقة قيم الوقف ‏"‏ وفيه إشارة إلى ترجيح حمل العامل على الناظر‏.‏

ومما يسأل عنه تخصيص النساء بالنفقة والمؤنة بالعامل وهل بينهما مغايرة‏؟‏ وقد أجاب عنه السبكي الكبير بأن المؤنة في اللغة القيام بالكفاية والإنفاق بذل القوت، قال‏:‏ وهذا يقتضي أن النفقة دون المؤنة، والسر في التخصيص المذكور الإشارة إلى أن أزواجه صلى الله عليه وسلم لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة كان لا بد لهن من القوت فاقتصر على ما يدل عليه، والعامل لما كان في صورة الأجير فيحتاج إلى ما يكفيه اقتصر على ما يدل عليه انتهى ملخصا، ويؤيده قول أبي بكر الصديق ‏"‏ إن حرفتي كانت تكفي عائلتي فاشتغلت عن ذلك بأمر المسلمين ‏"‏ فجعلوا له قدر كفايته‏.‏

ثم قال السبكي‏:‏ لا يعترض بأن عمر كان فضل عائشة في العطاء لأنه علل ذلك بمزيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها‏.‏

قلت‏:‏ وهذا ليس مما بدأ به لأن قسمة عمر كانت من الفتوح‏.‏

وأما ما يتعلق بحديث الباب ففيما يتعلق بما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يبدأ منه بما ذكر، وأفاد رحمه الله أنه يدخل في لفظ ‏"‏ نفقة نسائي ‏"‏ كسوتهن وسائر اللوازم وهو كما قال، ومن ثم استمرت المساكن التي كن فيها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم كل واحدة باسم التي كانت فيه، وقد تقدم تقرير ذلك في أول فرض الخمس، وإذا انضم قوله ‏"‏ إن الذي تخلفه صدقة ‏"‏ إلى أن آله تحرم عليهم الصدقة تحقق قوله ‏"‏ لا نورث ‏"‏ وفي قول عمر ‏"‏ يريد نفسه ‏"‏ إشارة إلى أن النون في قوله ‏"‏ نورث ‏"‏ للمتكلم خاصة لا للجمع، وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ ‏"‏ نحن معاشر الأنبياء لا نورث ‏"‏ فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ ‏"‏ نحن ‏"‏ لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد بلفظ ‏"‏ إنا معاشر الأنبياء لا نورث ‏"‏ الحديث أخرجه عن محمد ابن منصور عن ابن عيينة عنه، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه‏.‏

وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور، وأخرجه الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ بنحو اللفظ المذكور، وأخرجه الدار قطني في ‏"‏ العلل ‏"‏ من رواية أم هانئ عن فاطمة عليها السلام عن أبي بكر الصديق بلفظ ‏"‏ إن الأنبياء لا يورثون ‏"‏ قال ابن بطال وغيره‏:‏ ووجه ذلك والله أعلم أن الله بعثهم مبلغين رسالته وأمرهم أن لا يأخذوا على ذلك أجرا كما قال ‏(‏قل لا أسألكم عليه أجرا‏)‏ وقال نوح وهود وغيرهما نحو ذلك، فكانت الحكمة في أن لا يورثوا لئلا يظن أنهم جمعوا المال لوارثهم، قال‏:‏ وقوله تعالى ‏(‏وورث سليمان داود‏)‏ حمله أهل العلم بالتأويل على العلم والحكمة، وكذا قول زكريا ‏(‏فهب لي من لدنك وليا يرثني‏)‏ وقد حكى ابن عبد البر أن للعلماء في ذلك قولين وأن الأكثر على أن الأنبياء لا يورثون، وذكر أن ممن قال بذلك من الفقهاء إبراهيم بن إسماعيل بن علية، ونقله عن الحسن البصري عياض في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏ وأخرج الطبري من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله تعالى حكاية عن زكريا ‏(‏وإني خفت الموالي‏)‏ قال‏:‏ العصبة‏.‏

ومن قوله ‏(‏وهب لي من لدنك وليا يرثني‏)‏ قال‏:‏ يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة، ومن طريق قتادة عن الحسن نحوه لكن لم يذكر المال، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن رفعه مرسلا ‏"‏ رحم الله أخي زكريا ما كان عليه من يرث ماله‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وعلى تقدير تسليم القود المذكور فلا معارض من القرآن لقول نبينا عليه الصلاة والسلام ‏"‏ لا نورث ما تركنا صدقة ‏"‏ فيكون ذلك من خصائصه التي أكرم بها، بل قول عمر ‏"‏ يريد نفسه ‏"‏ يؤيد اختصاصه بذلك، وأما عموم قوله تعالى ‏(‏يوصيكم الله في أولادكم‏)‏ إلخ فأجيب عنها بأنها عامة فيمن ترك شيئا كان يملكه، وإذا ثبت أنه وقفه قبل موته فلم يخلف ما يورث عنه فلم يورث، وعلى تقدير أنه خلف شيئا مما كان يملكه فدخوله في الخطاب قابل للتخصيص لما عرف من كثرة خصائصه، وقد اشتهر عنه أنه لا يورث فظهر تخصيصه بذلك دون الناس‏.‏

وقيل الحكمة في كونه لا يورث حسم المادة في تمني الوارث موت المورث من أجل المال، وقيل لكون النبي كالأب لأمته فيكون ميراثه للجميع، وهذا معنى الصدقة العامة‏.‏

وقال ابن المنير في الحاشية‏:‏ يستفاد من الحديث أن من قال داري صدقة لا تورث أنها تكون حبسا ولا يحتاج إلى التصريح بالوقف أو الحبس، وهو حسن لكن هل يكون ذلك صريحا أو كناية‏؟‏ يحتاج إلى نية، وفي حديث أبي هريرة دلالة على صحة وقف المنقولات وأن الوقف لا يختص بالعقار لعموم قوله ‏"‏ ما تركت بعد نفقة نسائي ‏"‏ إلخ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ

الشرح‏:‏

ذكر حديث عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة‏:‏ أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا نورث ما تركنا صدقة ‏"‏ أورده من رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة، وهذا الحديث في الموطأ ووقع في رواية ابن وهب عن مالك حدثني ابن شهاب، وفي الموطأ للدار قطني من طريق القعنبي ‏"‏ يسألنه ثمنهن ‏"‏ وكذا أخرجه من طريق جويرية بن أسماء عن مالك‏.‏

وفي الموطأ أيضا أرسلن عثمان بن عفان إلى أبي بكر الصديق، وفيه فقالت لهن عائشة وفيه ‏"‏ ما تركنا فهو صدقة ‏"‏ وظاهر سياقه أنه من مسند عائشة، وقد رواه إسحاق بن محمد الفروي عن مالك بهذا السند عن عائشة عن أبي بكر الصديق أورده الدار قطني في الغرائب وأشار إلى أنه تفرد بزيادة أبي بكر في مسنده، وهذا يوافق رواية معمر عن ابن شهاب المذكورة في أول هذا الباب فإن فيه عن عائشة أن أبا بكر قال ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ فذكره، فيحتمل أن تكون عائشة سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعه أبوها ويحتمل أن تكون إنما سمعته من أبيها عن النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلته عن النبي صلى الله عليه وسلم لما طالب الأزواج ذلك والله أعلم‏.‏

*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من ترك مالا فلأهله‏)‏ هذه الترجمة لفظ الحديث المذكور في الباب من طريق أخرى عن أبي سلمة، وأخرجه الترمذي في أول كتاب الفرائض من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة بهذا اللفظ، وبعده ‏"‏ ومن ترك ضياعا فإلي ‏"‏ وقال بعده‏:‏ رواه الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أطول من هذا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَعَلَيْنَا قَضَاؤُهُ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ

الشرح‏:‏

قوله في السند ‏(‏عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد، وقد بينت في الكفالة الاختلاف على الزهري في صحابية وأن معمرا انفرد عنه بقوله ‏"‏ عن جابر ‏"‏ بدل ‏"‏ أبي هريرة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏)‏ هكذا أورد، مختصرا، وتقدم في الكفالة من طريق عقيل عن ابن شهاب بذكر سببه في أوله ولفظه ‏"‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتي بالرجل المتوفى عليه الدين فيقول‏:‏ هل ترك لدينه قضاء‏؟‏ فإن قيل نعم صلى عليه، وإلا قال‏:‏ صلوا على صاحبكم‏.‏

فلما فتح الله عليه الفتوح قال‏:‏ أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ‏"‏ الحديث، وتقدم في الفرض وفي تفسير الأحزاب من رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم‏:‏ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ‏"‏ الحديث وفي حديث جابر عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ‏"‏ أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ‏"‏ وقوله هنا ‏"‏ فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه ‏"‏ يخص ما أطلق في رواية عقيل بلفظ ‏"‏ فمن توفي من المؤمنين وترك دينا فعلي قضاؤه ‏"‏ وكذا قوله في الرواية الأخرى في تفسير الأحزاب ‏"‏ فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه أو وليه ‏"‏ فعرف أنه مخصوص بمن لم يترك وفاء، وقوله ‏"‏فليأتني ‏"‏ أي من يقوم مقامه في السعي في وفاء دينه، أو المراد صاحب الدين، وأما الضمير في قوله ‏"‏ مولاه ‏"‏ فهو للميت المذكور، وسيأتي بعد قليل من رواية أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ فأنا وليه فلا دعي له ‏"‏ وقد تقدم شرح ما يتعلق بهذا الشق في الكفالة وبيان الحكمة في ترك الصلاة على من مات وعليه دين بلا وفاء وأنه كان إذا وجد من يتكفل بوفائه صلى عليه وأن ذلك كان قبل أن يفتح الفتوح كما في رواية عقيل، وهل كان ذلك من خصائصه أو يجب على ولاة الأمر بعده‏؟‏ والراجح الاستمرار، لكن وجوب الوفاء‏.‏

إنما هو من مال المصالح‏.‏

ونقل ابن بطال وغيره أنه كان صلى الله عليه وسلم يتبرع بذلك، وعلى هذا لا يجب على من بعده، وعلى الأول قال ابن بطال‏:‏ فإن لم يعط الإمام عنه من بيت المال لم يحبس عن دخول الجنة لأنه يستحق القدر الذي عليه في بيت المال ما لم يكن دينه أكثر من القدر الذي له في بيت المال مثلا‏.‏

قلت‏:‏ والذي يظهر أن ذلك يدخل في المقاصة، وهو كمن له حق وعليه حق، وقد مضى أنهم إذا خلصوا من الصراط حبسوا عند قنطرة بين الجنة والنار يتقاصون المظالم حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فيحمل قوله لا يحبس أي معذبا مثلا والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏ومن ترك مالا فلورثته‏)‏ أي فهو لورثته وثبتت كذلك هنا في رواية الكشميهني وكذا لمسلم‏.‏

وفي رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة ‏"‏ فليرثه عصبته من كانوا ‏"‏ ولمسلم من طريق الأعرج عن أبي هريرة ‏"‏ فإلى العصبة من كان ‏"‏ وسيأتي بعد قليل من رواية عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ فما له لموالي العصبة ‏"‏ أي أولياء العصبة، قال الداودي‏:‏ المراد بالعصبة هنا الورثة لا من يرث بالتعصيب، لأن العاصب في الاصطلاح من له سهم مقدر من المجمع على توريثهم ويرث كل المال إذا انفرد ويرث ما فضل بعد الفروض بالتعصيب، وقيل المراد بالعصبة هنا قرابة الرجل وهم من يلتقي مع الميت في أب ولو علا، سموا بذلك لأنهم يحيطون به يقال عصب الرجل بفلان أحاط به ومن ثم قيل تعصب لفلان أي أحاط به‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ المراد العصبة بعد أصحاب الفروض، قال‏:‏ ويؤخذ حكم أصحاب الفروض من ذكر العصبة بطريق الأولى، ويشير إلى ذلك قوله ‏"‏ من كانوا ‏"‏ فإنه يتناول أنواع المنتسبين إليه بالنفس أو بالغير، قال ويحتمل أن تكون من شرطية‏.‏

*3*باب مِيرَاثِ الْوَلَدِ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ

وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِذَا تَرَكَ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ بِنْتًا فَلَهَا النِّصْفُ وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ بُدِئَ بِمَنْ شَرِكَهُمْ فَيُؤْتَى فَرِيضَتَهُ فَمَا بَقِيَ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ميراث الولد من أبيه وأمه‏)‏ لفظ الولد أعم من الذكر والأنثى ويطلق على الولد للصلب وعلى ولد الولد وإن سفل، قال ابن عبد البر‏:‏ أصل ما بنى عليه مالك والشافعي وأهل الحجاز ومن وافقهم في الفرائض قول زيد بن ثابت، وأصل ما بنى عليه أهل العراق ومن وافقهم فيها قول علي بن أبي طالب، وكل من الفريقين لا يخالف قول صاحبه إلا في اليسير النادر إذا ظهر له مما يجب عليه الانقياد إليه‏.‏

قوله ‏(‏وقال زيد بن ثابت إلخ‏)‏ وصله سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة ابن زيد بن ثابت عن أبيه فذكر مثله سواء إلا أنه قال بعد قوله وإن كان معهن ذكر فلا فريضة لأحد منهن ويبدأ بمن شركهم فيعطى فريضته فما بقي بعد ذلك فللذكر مثل حظ الأنثيين، قال ابن بطال‏:‏ قوله ‏"‏ وإن كان معهن قال شركهم ولم يقل شركهن فيعطى الأب مثلا فرضه ويقسم ما بقي بين الابن والبنات للذكر مثل حظ الأنثيين، قال‏:‏ وهذا تأويل حديث الباب وهو قوله ألحقوا الفرائض بأهلها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏ابن طاوس‏)‏ هو عبد الله‏.‏

قوله ‏(‏عن ابن عباس‏)‏ قيل تفرد وهيب بوصله، ورواه الثوري عن ابن طاوس لم يذكر ابن عباس بل أرسله أخرجه النسائي والطحاوي وأشار النسائي إلى ترجيح الإرسال ورجح عند صاحبي ‏"‏ صحيح الموصول ‏"‏ لمتابعة روح بن القاسم وهيبا عندهما ويحيى بن أيوب عند مسلم وزياد بن سعد وصالح عند الدار قطني، واختلف على معمر فرواه عبد الرزاق عنه موصولا أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه ورواه عبد الله بن المبارك عن معمر والثوري جميعا مرسلا أخرجه الطحاوي، ويحتمل أن يكون حمل رواية معمر على رواية الثوري وإنما صححاه لأن الثوري وإن كان أحفظ منهم لكن العدد الكثير يقاومه، وإذا تعارض الوصل والإرسال ولم يرجح أحد الطريقين قدم الوصل والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏ألحقوا الفرائض بأهلها‏)‏ المراد بالفرائض هنا الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى وهي النصف ونصفه ونصف نصفه والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما والمراد بأهلها من يستحقها بنص القرآن، ووقع في رواية روح ابن القاسم عن ابن طاوس ‏"‏ اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله ‏"‏ أي على وفق ما أنزل في كتابه‏.‏

قوله ‏(‏فما بقي‏)‏ في رواية روح بن القاسم فما تركت أي أبقت‏.‏

قوله ‏(‏فهو لأولى‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فلأولى ‏"‏ بفتح الهمزة واللام بينهما واو ساكنة أفعل تفضيل من الولي بسكون اللام وهو القرب، أي لمن يكون أقرب في النسب إلى المورث، وليس المراد هنا الأحق، وقد حكى عياض أن في رواية ابن الحذاء عن ابن ماهان في مسلم ‏"‏ فهو لأدنى ‏"‏ بدال ونون وهي بمعنى الأقرب، قال الخطابي‏:‏ المعنى أقرب رجل من العصبة‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ المراد بأولى رجل أن الرجال من العصبة بعد أهل الفروض إذا كان فيهم من هو أقرب إلى الميت استحق دون من هو أبعد فإن استووا اشتركوا، قال‏:‏ ولم يقصد في هذا الحديث من يدلي بالآباء والأمهات مثلا لأنه ليس فيهم من هو أولى من غيره إذا استووا في المنزلة، كذا قال ابن المنير‏.‏

وقال ابن التين إنما المراد به العمة مع العم وبنت الأخ مع ابن الأخ وبنت العم مع ابن العم وخرج من ذلك الأخ والأخت لأبوين أو لأب فإنهم يرثون بنص قوله تعالى ‏(‏وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين‏)‏ ويستثنى من ذلك من يحجب كالأخ للأب مع البنت والأخت الشقيقة وكذا يخرج الأخ والأخت لأم لقوله تعالى ‏(‏فلكل واحد منهما السدس‏)‏ وقد نقل الإجماع على أن المراد بها الأخوة من الأم، وسيأتي مزيد في هذا في‏.‏

‏"‏ باب ابني عم أحدهما أخ لأم والآخر زوج‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏رجل ذكر‏)‏ هكذا في جميع الروايات، ووقع في كتب الفقهاء كصاحب النهاية وتلميذه الغزالي ‏"‏ فلأولى عصبة ذكر ‏"‏ قال ابن الجوزي والمنذري‏:‏ هذه اللفظة ليست محفوظة‏.‏

وقال ابن الصلاح‏:‏ فيها بعد عن الصحة من حيث اللغة فضلا عن الرواية فإن العصبة في اللغة اسم للجمع لا للواحد، كذا قال والذي يظهر أنه اسم جنس، ويدل عليه ما وقع في بعض طرق حديث أبي هريرة الذي في الباب قبله ‏"‏ فليرثه عصبته من كانوا ‏"‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ قد استشكل بأن الأخوات عصبات البنات والحديث يقتضي اشتراط الذكورة في العصبة المستحق للباقي بعد الفروض، والجواب أنه من طريق المفهوم، وقد اختلف هل له عموم‏؟‏ وعلى التنزل فيخص بالخبر الدال على أن الأخوات عصبات البنات، وقد استشكل التعبير بذكر بعد التعبير برجل فقال الخطابي‏:‏ إنما كرر للبيان في نعته بالذكورة ليعلم أن العصبة إذا كان عما أو ابن عم مثلا وكان معه أخت له أن الأخت لا ترث ولا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، وتعقب بأن هذا ظاهر من التعبير بقوله ‏"‏ رجل ‏"‏ والإشكال باق إلا أن كلامه ينحل إلى أنه للتأكيد، وبه جزم غيره كابن التين قال‏:‏ ومثله ابن لبون ذكر، وزيفه القرطبي فقال‏:‏ قيل إنه للتأكيد اللفظي، ورد بأن العرب إنما تؤكد حيث يفيد فائدة إما تعين المعنى في النفس وإما رفع توهم المجاز وليس ذلك هنا‏.‏

وقال غيره‏:‏ هذا التوكيد لمتعلق الحكم وهو الذكورة، لأن الرجل قد يراد به معنى النجدة والقوة في الأمر، فقد حكى سيبويه مررت برجل رجل أبوه فلهذا احتاج الكلام إلى زيادة التوكيد بذكر حتى لا يظن أن المراد به خصوص البالغ، وقيل خشية أن يظن بلفظ رجل الشخص وهو أعم من الذكر والأنثى‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ في قوله ذكر الإحاطة بالميراث إنما تكون للذكر دون الأنثى، ولا‏:‏ يرد قول من قال إن البنت تأخذ جميع المال لأنها إنما تأخذه بسببين متغايرين والإحاطة مختصة بالسبب الواحد وليس إلا الذكر فلهذا نبه عليه بذكر الذكورية، قال‏:‏ وهذا لا يتفطن له كل مدع‏.‏

وقيل إنه احتراز عن الخنثى في الموضعين فلا تؤخذ الخنثى في الزكاة ولا يحرز الخنثى المال إذا انفرد، وقيل للاعتناء بالجنس، وقيل للإشارة إلى الكمال في ذلك كما يقال امرأة أنثى، وقيل لنفي توهم اشتراك الأنثى معه لئلا يحمل على التغليب، وقيل ذكر تنبيها على سبب الاستحقاق بالعصوبة وسبب الترجيح في الإرث ولهذا جعل للذكر مثل حظ الأنثيين وحكمته أن الرجال تلحقهم المؤن كالقيام بالعيال والضيفان وإرفاد القاصدين ومواساة السائلين وتحمل الغرامات وغير ذلك، هكذا قال النووي، وسبقه القاضي عياض فقال‏:‏ قيل هو على معنى اختصاص الرجال بالتعصيب بالذكورية التي بها القيام على الإناث، وأصله للمازري فإنه قال بعد أن ذكر استشكال ما ورد في هذا وهو رجل ذكر وفي الزكاة ابن لبون ذكر قال والذي يظهر لي أن قاعدة الشرع في الزكاة الانتقال من سن إلى أعلى منها ومن عدد إلى أكثر منه وقد جعل في خمسة وعشرين بنت مخاض وسنا أعلى منها وهو ابن لبون فقد يتخيل أنه على خلاف القاعدة وأن السنين كالسن الواحد لأن ابن اللبون أعلى سنا لكنه أدنى قدرا فنبه بقوله ذكر على أن الذكورية تبخسه حتى يصير مساويا لبنت مخاض مع كونها أصغر سنا منه، وأما في الفرائض فلما علم أن الرجال هم القائمون بالأمور وفيهم معنى التعصيب وترى لهم العرب ما لا ترى للنساء فعبر بلفظ ذكر إشارة إلى العلة التي لأجلها اختص بذلك، فهما وإن اشتركا في أن السبب في وصف كل منهما بذكر التنبيه على ذلك لكن متعلق التنبيه فيهما مختلف، فإنه في ابن اللبون إشارة إلى النقص وفي الرجل إشارة إلى الفضل، وهذا قد لخصه القرطبي وارتضاه‏.‏

وقيل إنه وصف لأولى لا لرجل قاله السهيلي وأطال في تقريره وتبجح به فقال‏:‏ هذا الحديث أصل في الفرائض وفيه إشكال وقد تلقاه الناس أو أكثرهم على وجه لا تصح إضافته إلى من أوتى جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا فقالوا‏:‏ هو نعت لرجل، وهذا لا يصح لعدم الفائدة لأنه لا يتصور أن يكون الرجل إلا ذكرا وكلامه أجل من أن يشتمل على حشو لا فائدة فيه ولا يتعلق به حكم، ولو كان كما زعموا لنقص فقه الحديث لأنه لا يكون فيه بيان حكم الطفل الذي لم يبلغ سن الرجولية، وقد اتفقوا على أن الميراث يجب له ولو كان ابن ساعة فلا فائدة في تخصيصه بالبالغ دون الصغير، قال‏:‏ والحديث إنما سبق لبيان من يستحق الميراث من القرابة بعد أصحاب السهام، ولو كان كما زعموا لم يكن فيه تفرقة بين قرابة الأب وقرابة الأم، قال فإذا ثبت هذا فقوله ‏"‏ أولى رجل ذكر ‏"‏ يريد القريب في النسب الذي قرابته من قبل رجل وصلب لا من قبل بطن ورحم، فالأولى هنا هو ولي الميت فهو مضاف إليه في المعنى دون اللفظ وهو في اللفظ مضاف إلى النسب وهو الصلب فعبر عن الصلب بقوله ‏"‏ أولى رجل ‏"‏ لأن الصلب لا يكون إلا رجلا فأفاد بقوله ‏"‏ لأولى رجل ‏"‏ نفي الميراث عن الأولى الذي هو من قبل الأم كالخال، وأفاد بقوله ‏"‏ ذكر ‏"‏ نفي الميراث عن النساء وإن كن من المدلين إلى الميت من قبل صلب لأنهن إناث، قال‏:‏ وسبب الإشكال من وجهين أحدهما أنه لما كان مخفوضا ظن نعتا لرجل ولو كان مرفوعا لم يشكل كأن يقال فوارثه أولى رجل ذكر، والثاني أنه جاء بلفظ أفعل وهذا الوزن إذا أريد به التفضيل كان بعض ما يضاف إليه كفلان أعلم إنسان فمعناه أعلم الناس فتوهم أن المراد بقوله ‏"‏ أولى رجل ‏"‏ أولى الرجال وليس كذلك وإنما هو أولى الميت بإضافته النسب وأولى صلب بإضافته كما تقول هو أخوك أخو الرخاء لا أخو البلاء، قال‏:‏ فالأولى في الحديث كالولي‏.‏

فإن قيل كيف يضاف للواحد وليس بجزء منه‏؟‏ فالجواب إذا كان معناه الأقرب في النسب جازت إضافته وإن لم يكن جزءا منه كقوله صلى الله عليه وسلم في البر ‏"‏ بر أمك ثم أباك ثم أدناك ‏"‏ قال وعلى هذا فيكون في هذا الكلام الموجز من المتانة وكثرة المعاني ما ليس في غيره، فالحمد لله الذي وفق وأعان انتهى كلامه‏.‏

ولا يخلو من استغلاق‏.‏

وقد لخصه الكرماني فقال‏:‏ ذكر صفة لأولى لا لرجل، والأولى بمعنى القريب الأقرب فكأنه قال‏:‏ فهو لقريب الميت ذكر من جهة رجل وصلب لا من جهة بطن ورحم، فالأولى من حيث المعنى مضاف إلى الميت، وأشير بذكر الرجل إلى الأولوية فأفاد بذلك نفي الميراث عن الأولى الذي من جهة الأم كالخال، وبقوله ذكر نفيه عن النساء بالعصوبة وإن كن من المدلين للميت من جهة الصلب انتهى‏.‏

وقد أوردته كما وجدته ولم أحذف منه إلا أمثلة أطال بها وكلمات طويلة تبجح بها بسبب ما ظهر له من ذلك، والعلم عند الله تعالى‏.‏

قال النووي‏:‏ أجمعوا على أن الذي يبقى بعد الفروض للعصبة يقدم الأقرب فالأقرب فلا يرث عاصب بعيد مع عاصب قريب، والعصبة كل ذكر يدلي بنفسه بالقرابة ليس بينه وبين الميت أنثى، فمتى انفرد أخذ جميع المال، وإن كان مع ذوي فروض غير مستغرقين أخذ ما بقي وإن كان مع مستغرقين فلا شيء له‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وأما تسمية الفقهاء الأخت مع البنت عصبة فعلى سبيل التجوز لأنها لما كانت في هذه المسألة تأخذ ما فضل عن البنت أشبهت العاصب، قلت‏:‏ وقد ترجم البخاري بذلك كما سيأتي قريبا‏.‏

قال الطحاوي‏:‏ استدل قوم - يعني ابن عباس ومن تبعه - بحديث ابن عباس على أن من خلف بنتا وأخا شقيقا وأختا شقيقة كان لابنته النصف وما بقي لأخيه ولا شيء لأخته ولو كانت شقيقة، وطردوا ذلك فيما لو كان مع الأخت الشقيقة عصبة فقالوا لا شيء لها مع البنت بل الذي يبقى بعد البنت للعصبة ولو بعدوا، واحتجوا أيضا بقوله تعالى ‏(‏إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك‏)‏ قالوا‏:‏ فمن أعطى الأخت مع البنت خالف ظاهر القرآن‏.‏

قال‏:‏ واستدل عليهم بالاتفاق على أن من ترك بنتا وابن ابن وبنت ابن متساويين أن للبنت النصف وما بقي بين ابن الابن وبنت الابن ولم يخصوا ابن الابن بما بقي لكونه ذكرا بل ورثوا معه شقيقته وهي أنثى، قال فعلم بذلك أن حديث ابن عباس ليس على عمومه بل هو في شيء خاص وهو ما إذا ترك بنتا وعما وعمة فإن للبنت النصف وما بقي للعم دون العمة إجماعا قال‏:‏ فاقتضى النظر ترجيح إلحاق الأخت مع الأخ بالابن والبنت لا بالعم والعمة، لأن الميت لو لم يترك إلا أخا وأختا شقيقتين فالمال بينهما، فكذلك لو ترك ابن ابن وبنت ابن، بخلاف ما لو ترك عما وعمة فإن المال كله للعم دون العمة باتفاقهم، قال‏:‏ وأما الجواب عما احتجوا به من الآية فهو أنهم أجمعوا على أن الميت لو ترك بنتا وأخا لأب كان للبنت النصف وما بقي للأخ، وأن معنى قوله تعالى ‏(‏ليس له ولد‏)‏ إنما هو ولد يحوز المال كله لا الولد الذي لا يحوز، وأقرب العصبات البنون ثم بنوهم وإن سفلوا ثم الأب ثم الجد والأخ إذا انفرد واحد منهما، فإن اجتمعا فسيأتي حكمه، ثم بنو الإخوة ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأعمام ثم بنوهم وإن سفلوا ومن أدلى بأبوين يقدم على من أدلى بأب لكن يقدم الأخ من الأب على ابن الأخ من الأبوين ويقدم ابن أخ لأب على عم لأبوين ويقدم عم لأب على ابن عم لأبوين، واستدل به البخاري على أن ابن الابن يحوز المال إذا لم يكن دونه ابن وعلى أن الجد يرث جميع المال‏.‏

إذا لم يكن دونه أب وعلى أن الأخ من الأم إذا كان ابن عم يرث بالفرض والتعصيب، وسيأتي جميع ذلك والبحث فيه‏.‏

*3*باب مِيرَاثِ الْبَنَاتِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ميراث البنات‏)‏ الأصل فيه كما تقدم في أول كتاب الفرائض قوله تعالى ‏(‏يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين‏)‏ وقد تقدمت الإشارة إليه وإلى سبب نزولها وأن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون البنات كما حكاه أبو جعفر بن حبيب في ‏"‏ كتاب المحبر ‏"‏ وحكى أن بعض عقلاء الجاهلية ورث البنت لكن سوى بينها وبين الذكر وهو عامر بن جشم بضم الجيم وفتح المعجمة، وقد تمسك بالسبب المذكور من أجاب عن السؤال المشهور في قوله تعالى ‏(‏فإن كن نساء فوق اثنتين‏)‏ حيث قيل ذكر في الآية حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن دون الانفراد وذكر حكم البنت الواحدة في الحالين وكذا حكم ما زاد على البنتين، وقد انفرد ابن عباس بان حكمهما حكم الواحدة وأبى ذلك الجمهور، واختلف في مأخذهم فقيل حكمهما حكم الثلاث فما زاد، ودليله بيان السنة فإن الآية لما كانت محتملة بينت السنة أن حكمهما حكم ما زاد عليهما، وذلك واضح في سبب النزول فإن العم لما منع البنتين من الإرث وشكت ذلك أمهما قال صلى الله عليه وسلم لها ‏"‏ يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث، فأرسل إلى العم فقال ‏"‏ أعط بنتي سعد الثلثين ‏"‏ فلا يرد على ذلك أنه يلزم منه نسخ الكتاب بالسنة فإنه بيان لا نسخ، وقيل بالقياس على الأختين وهما أولى لما يختص بهما من أنهما أمس رحما بالميت من أختيه فلا يقصر بهما عنهما، وقيل إن لفظ ‏"‏ فوق ‏"‏ في الآية مقحم وهو غلط‏.‏

وقال المبرد‏:‏ يؤخذ من جهة أن أقل عدد يجتمع فيه الصنفان ذكر وأنثى فإن كان للواحدة الثلث كان للبنتين الثلثان‏.‏

وقال إسماعيل القاضي في ‏"‏ أحكام القرآن ‏"‏‏:‏ يؤخذ ذلك من قوله تعالى ‏(‏للذكر مثل حظ الأنثيين‏)‏ لأنه يقتضي أنه إذا كان ذكر وأنثى فللذكر الثلثان وللأنثى الثلث، فإذا استحقت الثلث مع الذكر فاستحقاقها الثلث مع أنثى مثلها بطريق الأولى‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ يؤخذ ذلك من المجيء بلام التعريف التي للجنس في قوله ‏"‏ حظ الأنثيين، فإنه يدل على أنهما استحقا الثلثين وأن الواحدة لها مع الذكر الثلث، وكان ظاهر ذلك أنهن لو كن ثلاثا لاستوعبن المال فلذلك ذكر حكم الثلاث فما زاد واستغنى عن إعادة حكم الأنثيين لأنه قد تقدم بدلالة اللفظ‏.‏

وقال صاحب ‏"‏ الكشاف ‏"‏‏:‏ وجهه أن الذكر كما يحوز الثلثين مع الواحدة فلاثنتان كذلك يحوزان الثلثين، فلما ذكر ما دل على حكم الثنتين ذكر بعده حكم ما فوق الثنتين وهو منتزع من كلام القاضي، وقرر الطيبي فقال‏:‏ اعتبر القاضي الفاء في قوله تعالى ‏(‏فإن كن نساء‏)‏ لأن مفهوم ترتيب الفاء ومفهوم الوصف في قوله ‏(‏فوق اثنتين‏)‏ مشعران بذلك، فكأنه لما قال ‏(‏للذكر مثل حظ الأنثيين‏)‏ علم بحسب الظاهر من عبارة النص حكم الذكر مع الأنثى إذا اجتمعا، وفهم منه بحسب إشارة النص حكم الثنتين لأن الذكر كما يحوز الثلثين مع الواحدة فالثنتان يحوزان الثلثين، ثم أراد أن يعلم حكم ما زاد على الثنتين فقال ‏(‏فإن كن نساء فوق اثنتين‏)‏ فمن نظر إلى عبارة النص قال أريد حالة الاجتماع دون الانفراد، ومن نظر إلى إشارة النص قال إن حكم الثنتين حكم الذكر مطلقا‏.‏

واعترض على هذا التقرير بأنه ثبت بما ذكر أن لهما الثلثين في صورة ما، وليست هي صورة الاجتماع دائما إذ ليس للبنتين مع الابن الثلثان، والجواب عنه عسر إلا إن انضم إليه أن الحديث بين ذلك، ويعتذر عن ابن عباس بأنه لم يبلغه فوقف مع ظاهر الآية وفهم أن قوله ‏(‏فوق اثنتين‏)‏ لانتفاء الزيادة على الثلثين لا لإثبات ذلك للثنتين، وكذا يرد على جواب السهيلي أن الاثنتين لا يستمر الثلثان حظهما في كل صورة والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرِضْتُ بِمَكَّةَ مَرَضًا فَأَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَأَتَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَتِي أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لَا قَالَ قُلْتُ فَالشَّطْرُ قَالَ لَا قُلْتُ الثُّلُثُ قَالَ الثُّلُثُ كَبِيرٌ إِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَ وَلَدَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آأُخَلَّفُ عَنْ هِجْرَتِي فَقَالَ لَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي فَتَعْمَلَ عَمَلًا تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ رِفْعَةً وَدَرَجَةً وَلَعَلَّ أَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ قَالَ سُفْيَانُ وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ

الشرح‏:‏

ذكر المصنف في الباب حديث سعد بن أبي وقاص في الوصية بالثلث، وقد مضى شرحه مستوفى في الوصايا، والغرض منه قوله ‏"‏ وليس يرثني إلا ابنتي ‏"‏ وقد تقدم أن الذي نفاه سعد أولاده وإلا فقد كان له من العصبات من يرثه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ شَيْبَانُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ أَتَانَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِالْيَمَنِ مُعَلِّمًا وَأَمِيرًا فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَأُخْتَهُ فَأَعْطَى الِابْنَةَ النِّصْفَ وَالْأُخْتَ النِّصْفَ

الشرح‏:‏

حديث معاذ في توريث البنت والأخت سيأتي شرحه قريبا في ‏"‏ باب ميراث الأخوات مع البنات ‏"‏ من وجه آخر عن الأسود، وأبو النضر المذكور في سنده هو هشام بن هارون في القاسم وشيبان هو ابن عبد الرحمن والأشعث هو ابن أبي الشعثاء سليم المحاربي، وقد أخرجه يزيد بن هارون في ‏"‏ كتاب الفرائض ‏"‏ له عن سفيان الثوري عن أشعث بن أبي الشعثاء عن الأسود بن يزيد قال قضى ابن الزبير في ابنة وأخت فأعطى الابنة النصف وأعطى العصبة بقية المال، فقلت له إن معاذا قضى فيها باليمن فذكره قال فقال له أنت رسولي إلى عبد الله بن عتبة وكان قاضي الكوفة فحدثه بهذا الحديث، وأخرجه الدارمي والطحاوي من طريق الثوري نحوه‏.‏

*3*باب مِيرَاثِ ابْنِ الِابْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ابْنٌ

وَقَالَ زَيْدٌ وَلَدُ الْأَبْنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهُمْ وَلَدٌ ذَكَرُهُمْ كَذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ كَأُنْثَاهُمْ يَرِثُونَ كَمَا يَرِثُونَ وَيَحْجُبُونَ كَمَا يَحْجُبُونَ وَلَا يَرِثُ وَلَدُ الِابْنِ مَعَ الِابْنِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن‏)‏ أي للميت لصلبه سواء كان أباه أو عمه‏.‏

قوله ‏(‏وقال زيد بن ثابت إلخ‏)‏ وصله سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة ابن زيد عن أبيه، وقوله ‏"‏بمنزلة الولد ‏"‏ أي للصلب وقوله ‏"‏ إذا لم يكن دونهم ‏"‏ أي بينهم وبين الميت، وقوله ‏"‏ولد ذكر ‏"‏ احترز به عن الأنثى، وسقط لفظ ذكر من رواية الأكثر وثبت للكشميهني وهي في رواية سعيد بن منصور المذكورة، وقوله ‏"‏يرثون كما يرثون ويحجبون كما يحجبون ‏"‏ أي يرثون جميع المال إذا انفردوا ويحجبون من دونهم في الطبقة ممن بينه وبين الميت مثلا اثنان فصاعدا ولم يرد تشبيههم بهم من كل جهة، وقوله في آخره ‏"‏ ولا يرث ولد الابن مع الابن ‏"‏ تأكيد لما تقدم، فإن حجب أولاد الابن بالابن إنما يؤخذ من قوله إذا لم يكن دونهم إلى آخره بطريق المفهوم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس ‏"‏ ألحقوا الفرائض بأهلها ‏"‏ قد مضى شرحه قريبا، قال ابن بطال قال أكثر الفقهاء فيمن خلفت زوجا وأبا وبنتا وابن ابن وبنت ابن‏:‏ تقدم الفروض فللزوج الربع وللأب السدس وللبنت النصف وما بقي بين ولدي الابن للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كانت البنت أسفل من الابن فالباقي له دونها، وقيل الباقي له مطلقا لقوله فما بقي فلأولى رجل ذكر، وتمسك زيد بن ثابت والجمهور بقوله تعالى ‏(‏في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين‏)‏ وقد أجمعوا أن بني البنين ذكورا وإناثا كالبنين عند فقد البنين إذا استووا في التعدد، فعلى هذا تخص هذه الصورة من عموم ‏"‏ فلأولى رجل ذكر‏"‏‏.‏

*3*باب مِيرَاثِ ابْنَةِ الِابْنِ مَعَ بِنْتٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ميراث ابنة ابن مع ابنة‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ مع بنت‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو قَيْسٍ سَمِعْتُ هُزَيْلَ بْنَ شُرَحْبِيلَ قَالَ سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنْ بِنْتٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ فَقَالَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْابْنَةِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ ابْنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أبو قيس‏)‏ هو عبد الرحمن بن ثروان بفتح المثلثة وسكون الراء، وهزيل بالزاي مصغر ووقع في كتب كثير من الفقهاء هذيل بالذال المعجمة وهو تحريف هو ابن شرحبيل وهو والراوي عنه كوفيان أوديان، ووقع في رواية النسائي من طريق وكيع عن سفيان ‏"‏ عن أبي قيس واسمه عبد الرحمن‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏سئل أبو موسى‏)‏ في رواية غندر عن شعبة عند النسائي ‏"‏ جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وهو الأمير وإلى سلمان بن ربيعة الباهلي فسألهما ‏"‏ وكذا أخرجه أبو داود من طريق الأعمش عن أبي قيس لكن لم يقل وهو الأمير، وكذا للترمذي وابن ماجه والطحاوي والدارمي من طرق عن سفيان الثوري بزيادة سلمان بن ربيعة مع أبي موسى، وقد ذكروا أن سلمان المذكور كان على قضاء الكوفة‏.‏

قوله ‏(‏وائت ابن مسعود فسيتابعني‏)‏ في رواية الأعمش والثوري المشار إليهما ‏"‏ فقال له أبو موسى وسلمان ابن ربيعة ‏"‏ وفيها أيضا ‏"‏ فسيتابعنا ‏"‏ وهذا قاله أبو موسى على سبيل الظن لأنه اجتهد في المسألة ووافقه سلمان فظن أن ابن مسعود يوافقهما، ويحتمل أن يكون سبب قوله ‏"‏ ائت ابن مسعود ‏"‏ الاستثبات‏.‏

قوله ‏(‏فقال لقد ضللت إذا‏)‏ قاله جوابا عن قول أبي موسى أنه سيتابعه، وأشار إلى أنه لو تابعه لخالف صريح السنة عنده وأنه لو خالفها عامدا لضل‏.‏

قوله ‏(‏أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية الدار قطني من طريق حجاج بن أرطاة عن عبد الرحمن بن مروان ‏"‏ فقال ابن مسعود كيف أقول ‏"‏ يعني مثل قول أبي موسى، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكره‏.‏

‏(‏فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود‏)‏ فيه إشارة إلى أن هزيلا الراوي توجه مع السائل إلى ابن مسعود فسمع جوابه فعاد إلى أبي موسى معهم فأخبروه‏.‏

قوله ‏(‏لا تسألوني ما دام هذا الحبر‏)‏ بفتح المهملة وبكسرها أيضا وسكون الموحدة حكاه الجوهري ورجح الكسر وجزم الفراء بأنه بالكسر وقال سمي باسم الحبر الذي يكتب به‏.‏

وقال أبو عبيد الهروي هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه وهو بالفتح في رواية جميع المحدثين وأنكر أبو الهيثم الكسر‏.‏

وقال الراغب سمي العالم حبرا لما يبقى من أثر علومه، وكانت هذه القصة في زمن عثمان هو الذي أمر أبا موسى على الكوفة وكان ابن مسعود قبل ذلك أميرها ثم عزل قبل ولاية أبي موسى عليها بمدة، قال ابن بطال‏:‏ فيه أن العالم يجتهد إذا ظن أن لا نص في المسألة ولا يتولى الجواب إلى أن يبحث عن ذلك، وفيه أن الحجة عند التنازع سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيجب الرجوع إليها وفيه ما كانوا عليه من الإنصاف والاعتراف بالحق والرجوع إليه، وشهادة بعضهم لبعض بالعلم والفضل، وكثرة اطلاع ابن مسعود على السنة، وتثبت أبي موسى في الفتيا حيث دل على من ظن أنه أعلم منه، قال‏:‏ ولا خلاف بين الفقهاء فيما رواه ابن مسعود، وفي جواب أبي موسى إشعار بأنه رجع عما قاله‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ لم يخالف في ذلك إلا أبو موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة الباهلي وقد رجع أبو موسى عن ذلك، ولعل سلمان أيضا رجع كأبي موسى، وسلمان المذكور مختلف في صحبته وله أثر في فتوح العراق أيام عمر وعثمان واستشهد في زمن عثمان وكان يقال له سلمان الخيل لمعرفته بها، واستدل الطحاوي بحديث ابن مسعود هذا على أن المراد بحديث ابن عباس ‏"‏ فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ‏"‏ من يكون أقرب العصبات إلى الميت، فلو كان هناك عصبة أقرب إلى الميت ولو كانت أنثى كان المال الباقي لها، ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأخوات من قبل الأب مع البنت عصبة فصرن مع البنات في حكم الذكور من قبل الإرث‏.‏

وقال غيره‏:‏ وجه كون الولد المذكور في قوله تعالى ‏(‏إن امرؤ هلك ليس له ولد‏)‏ ذكرا أنه الذي يسبق إلى الوهم من قول القائل قال ولد فلان كذا، فأول ما يقع في نفس السامع أن المراد الذكر وإن كان الإناث أيضا أولادا بالحقيقة ولكن هو أمر شائع وقد قال الله تعالى ‏(‏إنما أموالكم وأولادكم فتنة‏)‏ وقال ‏(‏لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم‏)‏ وقال حكاية عن الكافر الذي قال ‏(‏لأوتين مالا وولدا‏)‏ والمراد بالأولاد والولد في هذه الآي الذكور دون الإناث لأن العرب ما كانت تتكاثر بالبنات فإذا حمل قوله تعالى ‏(‏إن امرؤ هلك ليس له ولد‏)‏ على الولد الذكر لم يمنع الأخت الميراث مع البنت، وعلى تقدير أن يكون الولد في الآية أعم فإنه محتمل لأن يراد به العموم على ظاهره وأن يراد به خصوص الذكر فبينت السنة الصحيحة أن المراد به الذكور دون الإناث، قال ابن العربي‏:‏ يؤخذ من قصة أبي موسى وابن مسعود جواز العمل بالقياس قبل معرفة الخبر، والرجوع إلى الخبر بعد معرفته، ونقض الحكم إذا خالف النص‏.‏

قلت‏:‏ ويؤخذ من صنيع أبي موسى أنه كان يرى العمل بالاجتهاد قبل البحث عن النص وهو لائق بمن يعمل بالعام قبل البحث عن المخصص، وقد نقل ابن الحاجب الإجماع على منع العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص، وتعقب بأن أبوي إسحاق الإسفرايني والشيرازي حكيا الخلاف‏.‏

وقال أبو بكر الصيرفي وطائفة‏:‏ وهو المشهور؛ وعن الحنفية يجب الانقياد للعموم في الحال‏.‏

وقال ابن شريح وابن خيران والقفال‏:‏ يجب البحث، قال أبو حامد‏:‏ وكذا الخلاف في الأمر والنهي المطلق‏.‏