فصل: كِتَاب أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كِتَاب أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم كتاب أحاديث الأنبياء‏)‏ كذا في رواية كريمة في بعض النسخ‏.‏

وفي رواية أبي علي بن شبويه نحوه، وقدم الآية الآتية في الترجمة على الباب، ووقع في ذكر عدد الأنبياء حديث أبو ذر مرفوعا ‏"‏ أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ‏"‏ صححه ابن حبان‏.‏

والأنبياء جمع نبي، وقد قرئ بالهمزة فقيل هو الأصل وتركه تسهيل، وقيل الذي بالهمز من النبأ والذي بغير همز من النبوة وهي الرفعة، والنبوة نعمة يمن بها على من يشاء ولا يبلغها أحد بعلمه ولا كشفه ولا يستحقها باستعداد ولايته، ومعناها الحقيقي شرعا من حصلت له النبوة‏.‏

وليست راجعة إلى جسم النبي ولا إلى عرض من أعراضه، بل ولا إلى علمه بكونه نبيا، بل المرجع إلى إعلام الله له بأني نبأتك أو جعلتك نبيا‏.‏

وعلى هذا فلا تبطل بالموت كما لا تبطل بالنوم والغفلة‏.‏

*3*باب خَلْقِ آدَمَ

صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَذُرِّيَّتِهِ صَلْصَالٍ طِينٌ خُلِطَ بِرَمْلٍ فَصَلْصَلَ كَمَا يُصَلْصِلُ الْفَخَّارُ وَيُقَالُ مُنْتِنٌ يُرِيدُونَ بِهِ صَلَّ كَمَا يُقَالُ صَرَّ الْبَابُ وَصَرْصَرَ عِنْدَ الْإِغْلَاقِ مِثْلُ كَبْكَبْتُهُ يَعْنِي كَبَبْتُهُ فَمَرَّتْ بِهِ اسْتَمَرَّ بِهَا الْحَمْلُ فَأَتَمَّتْهُ أَنْ لَا تَسْجُدَ أَنْ تَسْجُدَ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ فِي كَبَدٍ فِي شِدَّةِ خَلْقٍ وَرِيَاشًا الْمَالُ وَقَالَ غَيْرُهُ الرِّيَاشُ وَالرِّيشُ وَاحِدٌ وَهُوَ مَا ظَهَرَ مِنْ اللِّبَاسِ مَا تُمْنُونَ النُّطْفَةُ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ النُّطْفَةُ فِي الْإِحْلِيلِ كُلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَهُوَ شَفْعٌ السَّمَاءُ شَفْعٌ وَالْوَتْرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فِي أَحْسَنِ خَلْقٍ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا مَنْ آمَنَ خُسْرٍ ضَلَالٍ ثُمَّ اسْتَثْنَى إِلَّا مَنْ آمَنَ لَازِبٍ لَازِمٌ نُنْشِئُكُمْ فِي أَيِّ خَلْقٍ نَشَاءُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ نُعَظِّمُكَ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَهُوَ قَوْلُهُ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا فَأَزَلَّهُمَا فَاسْتَزَلَّهُمَا وَ يَتَسَنَّهْ يَتَغَيَّرْ آسِنٌ مُتَغَيِّرٌ وَالْمَسْنُونُ الْمُتَغَيِّرُ حَمَإٍ جَمْعُ حَمْأَةٍ وَهُوَ الطِّينُ الْمُتَغَيِّرُ يَخْصِفَانِ أَخْذُ الْخِصَافِ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ يُؤَلِّفَانِ الْوَرَقَ وَيَخْصِفَانِ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ سَوْآتُهُمَا كِنَايَةٌ عَنْ فَرْجَيْهِمَا وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ هَا هُنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْحِينُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى مَا لَا يُحْصَى عَدَدُهُ قَبِيلُهُ جِيلُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب خلق آدم وذريته‏)‏ ذكر المصنف آثارا، ثم أحاديث تتعلق بذلك، ومما لم يذكره ما رواه الترمذي والنسائي والبزار وصححه ابن حبان من طريق سعيد المقبري وغيره عن أبي هريرة مرفوعا‏.‏

إن الله خلق آدم من تراب فجعله طينا ثم تركه، حتى إذا كان حما مسنونا خلقه وصوره ثم تركه، حتى إذا كان صلصالا كالفخار كان إبليس يمر به فيقول‏:‏ لقد خلقت لأمر عظيم؛ ثم نفخ الله فيه من روحه‏.‏

وكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه، فعطس فقال‏:‏ الحمد لله‏.‏

فقال الله‏:‏ يرحمك ربك ‏"‏ الحديث‏.‏

وفي الباب عدة أحاديث‏:‏ منها حديث أبي موسى مرفوعا ‏"‏ إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ‏"‏ الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان‏.‏

ومنها حديث أنس رفعه ‏"‏ لما خلق الله آدم تركه ما شاء أن يدعه، فجعل إبليس يطيف به؛ فلما رآه أجوف عرف أنه لا يتمالك ‏"‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏

وآدم اسم سرياني وهو عند أهل الكتاب آدام بإشباع فتحة الدال بوزن خاتام وزنه فاعال، وامتنع صرفه للعجمة والعلمية‏.‏

وقال الثعلبي التراب بالعبرانية آدام فسمي آدم به، وحذفت الألف الثانية‏.‏

وقيل هو عربي جزم به الجوهري والجواليقي‏.‏

وقيل هو بوزن أفعل من الأدمة وقيل من الأديم لأنه خلق من أديم الأرض وهذا عن ابن عباس، ووجهوه بأن يكون كأعين ومنع الصرف للوزن والعلمية، وقيل هو من أدمت بين الشيئين إذا خلطت بينهما لأنه كان ماء وطينا فخلطا جميعا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صلصال طين خلط برمل فصلصل كما يصلصل الفخار‏)‏ هو تفسير الفراء، هكذا ذكره‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ الصلصال اليابس الذي لم تصبه نار، فإذا نقرته صل فسمعت له صلصلة، فإذا طبخ بالنار فهو فخار‏.‏

وكل شيء له صوت فهو صلصال‏.‏

وروى الطبري عن قتادة بإسناد صحيح نحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويقال منتن يريدون به صل كما يقولون صر الباب وصرصر عند الإغلاق مثل كبكبته يعني كببته‏)‏ أما تفسيره بالمنتن فرواه الطبري عن مجاهد، وروى عن ابن عباس أن المنتن تفسيره المسنون، وأما بقيته فكأنه من كلام المصنف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمرت به استمر بها الحمل فأتمته‏)‏ هو قول أبي عبيدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن لا تسجد أن تسجد‏)‏ يعني أن ‏"‏ لا ‏"‏ زائدة، وأخذه من كلام أبي عبيدة، وكذا قاله وزاد‏:‏ و ‏"‏ لا ‏"‏ من حروف الزوائد كما قال الشاعر‏:‏ وتلحينني في اللهو أن لا أحبه وللهو داع دائب غير غافل وقيل ليست زائدة، بل فيه حذف تقديره ما منعك من السجود فحملك على أن لا تسجد‏؟‏ قوله‏:‏ ‏(‏وقول الله عز وجل وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة‏)‏ كذا وقع هنا، ووقع في رواية أبي علي بن شبويه في صدر الترجمة وهو أولى ومثله للنسفي، ولبعضهم هنا ‏"‏ باب ‏"‏ والمراد بالخليفة آدم أسنده الطبري من طريق ابن سابط مرفوعا قال‏:‏ والأرض مكة، وذكر الطبري أن مقتضى ما نقله السدي عن مشايخه أنه خليفة الله في الأرض، ومن وجه آخر أنهم يعنون بني آدم يخلف بعضهم بعضا، ومن ثم قالت الملائكة ‏(‏أتجعل فيها من يفسد فيها‏)‏ الآية، وحكى الماوردي قولين آخرين أنه خليفة الملائكة أو خليفة الجن وكل منهما بناء على أنه كان في الأرض من سكنها قبل آدم، وذكر الطبري قال‏:‏ زعم أبو عبيدة أن ‏"‏ إذ ‏"‏ في قوله‏:‏ ‏(‏وإذ قال ربك‏)‏ صلة، ورد عليه فقال القرطبي‏:‏ إن جميع المفسرين ردوه حتى قال الزجاج إنها جراءة من أبي عبيدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لما عليها حافظ إلا عليها حافظ‏)‏ وصله ابن أبي حاتم وزاد إلا عليها من الملائكة‏.‏

وقال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏إن كل نفس لما عليها حافظ‏)‏ ما زائدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في كبد في شدة خلق‏)‏ هو قول ابن عباس أيضا، رويناه في تفسير ابن عيينة بإسناد صحيح، وزاد في آخره ‏"‏ ثم ذكر مولده ونبات أسنانه ‏"‏ وأخرجه الحاكم في ‏"‏ المستدرك ‏"‏ وقال أبو عبيدة الكبد الشدة، قال لبيد‏:‏ يـا عين هـلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصـوم في كبد قوله‏:‏ ‏(‏ورياشا المال‏)‏ هو قول ابن عباس أيضا، وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال غيره الرياش والريش واحد وهو ما ظهر من اللباس‏)‏ هو قول أبي عبيدة، وزاد‏:‏ تقول أعطاني ريشه أي كسوته، قال‏:‏ والرياش أيضا المعاش‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما تمنون النطفة في أرحام النساء‏)‏ هو قول الفراء قال‏:‏ يقال أمنى ومنى، والأول أكثر وقوله ‏"‏ تمنون ‏"‏ يعني النطف إذا قذفت في أرحام النساء ‏(‏أأنتم تخلقون ذلك أم نحن‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال مجاهد ‏(‏على رجعه لقادر‏)‏ النطفة في الإحليل‏)‏ وصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه، وقيل‏:‏ معناه قادر على رجع النطفة التي في الإحليل إلى الصلب وهو محتمل، ويعكر على تفسير مجاهد أن بقية الآيات دالة على أن الضمير للإنسان ورجعه يوم القيامة لقوله‏:‏ ‏(‏يوم تبلى السرائر إلخ‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كل شيء خلقه فهو شفع السماء شفع والوتر الله‏)‏ هو قول مجاهد أيضا، وصله الفريابي والطبري ولفظه ‏"‏ كل خلق الله شفع‏:‏ السماء، والأرض، والبر والبحر، والجن والإنس، والشمس والقمر ونحو هذا شفع، والوتر الله وحده ‏"‏ وبهذا زال الإشكال، فإن ظاهر إيراد المصنف في اقتصاره على قوله‏:‏ ‏"‏ السماء شفع ‏"‏ يعترض عليه بأن السموات سبع والسبع ليس بشفع، وليس ذلك مراد مجاهد وإنما مراده كل شيء له مقابل يقابله ويذكر معه فهو بالنسبة إليه شفع، كالسماء والأرض والإنس والجن إلخ، وروى الطبري عن مجاهد أيضا قال في قوله تعالى ‏(‏ومن كل شيء خلقنا زوجين‏)‏ الكفر والإيمان، والشقاء والسعادة، والهدى والضلالة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والجن والإنس، والوتر الله‏.‏

وروي من طريق أبي صالح نحوه‏.‏

وأخرج عن ابن عباس من طريق صحيحة أنه قال‏:‏ الوتر يوم عرفة والشفع يوم الذبح‏.‏

وفي رواية أيام الذبح‏.‏

وهذا يناسب ما فسروا به قوله قبل ذلك ‏(‏وليال عشر‏)‏ أن المراد بها عشر ذي الحجة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في أحسن تقويم في أحسن خلق أسفل سافلين إلا من آمن‏)‏ هو تفسير مجاهد أخرجه الفريابي أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خسر ضلال ثم استثنى فقال إلا من آمن‏)‏ هو تفسير مجاهد أخرجه الفريابي أيضا، قال في قوله‏:‏ ‏(‏إن الإنسان لفي خسر‏)‏ يعني في ضلال، ثم استثنى فقال ‏"‏ إلا من آمن ‏"‏ وكأنه ذكره بالمعنى، وإلا فالتلاوة ‏(‏إلا الذين آمنوا‏)‏ قوله‏:‏ ‏(‏لازب لازم‏)‏ يريد تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا، إنا خلقناهم من طين لازب‏)‏ وقد روى الطبري عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏من طين لازب‏)‏ قال لازق‏.‏

ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ من التراب والماء يصير طينا يلزق‏.‏

وأما تفسيره باللازم فكأنه بالمعنى، وهو تفسير أبي عبيدة قال‏:‏ معنى اللازب اللازم، قال النابغة ‏"‏ ولا يحسبون الشر ضربة لازب ‏"‏ أي لازم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ننشئكم في أي خلق نشاء‏)‏ يريد تفسير قوله تعالى ‏(‏وننشئكم فيما لا تعلمون‏)‏ وقوله ‏(‏في أي خلق نشاء‏)‏ هو تفسير قوله‏:‏ ‏(‏فيما لا تعلمون‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نسبح بحمدك نعظمك‏)‏ هو تفسير مجاهد، نقله الطبري وغيره عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو العالية فتلقى آدم هو قوله تعالى ربنا ظلمنا أنفسنا‏)‏ وصله الطبري بإسناد حسن، واستشكل بأن ظاهر الآيات أن هذا التلقي كان قبل الهبوط لأن بعده ‏(‏قلنا اهبطوا منها جميعا‏)‏ ويمكن الجواب بأن قوله قلنا اهبطوا كان سابقا للتلقي، وليس في الآيات صيغة ترتيب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال فأزلهما استزلهما ويتسنه يتغير آسن المسنون المتغير حمأ جمع حمأة وهو الطين المتغير‏)‏ كذا وقع عند أبي ذر، وهو يوهم أنه من كلام أبي العالية، وليس كذلك بل هي من تفسير أبي عبيدة، وكأنه كان في الأصل‏:‏ وقال غيره‏.‏

ووقع في رواية الأصيلي وغيره بحذف ‏"‏ قال ‏"‏ فكان الأمر فيه أشكل‏.‏

وقوله ‏"‏فأزلهما ‏"‏ أي دعاهما إلى الزلة، وإيراد قوله ‏"‏ يتسنه يتغير ‏"‏ في أثناء قصة آدم ذكر بطريق التبعية للمسنون لأنه قد يقال إنه مشتق منه‏.‏

قال الكرماني هنا بعد أن قال أن تفسير يتسنه وآسن‏:‏ لعله ذكره بالتبعية لقوله مسنون، وفي هذا تكثير لحجم الكتاب لا لتكثير الفوائد، والله أعلم بمقصوده‏.‏

قلت‏:‏ وليس من شأن الشارح أن يعترض على الأصل بمثل هذا، ولا ارتياب في أن إيراد شرح غريب الألفاظ الواردة في القرآن فوائد، وادعاؤه نفي الفائدة مردود، وهذا الكتاب وإن كان أصل موضوعه إيراد الأحاديث الصحيحة فإن أكثر العلماء فهموا من إيراده أقوال الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار أن مقصوده أن يكون كتابه جامعا للرواية والدراية، ومن جملة الدراية شرح غريب الحديث‏.‏

وجرت عادته أن الحديث إذا وردت فيه لفظة غريبة وقعت أو أصلها أو نظيره في القرآن أن يشرح اللفظة القرآنية فيفيد تفسير القرآن وتفسير الحديث معا، ولما لم يجد في بدء الخلق وقصص الأنبياء ونحو ذلك أحاديث توافق شرطه سد مكانها ببيان تفسير الغريب الواقع في القرآن، فكيف يسوغ نفي الفائدة عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يخصفان أخذ الخصاف من ورق الجنة يؤلفان الورق ويخصفان بعضه إلى بعض‏)‏ هو تفسير أبي عبيدة، وروى الطبري عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏يخصفان‏)‏ قال‏:‏ يرقعان كهيئة الثوب، وتقول العرب خصفت النعل أي خرزتها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سوآتهما كناية عن فرجيهما‏)‏ هو تفسير أبي عبيدة أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومتاع إلى حين الحين عند العرب من ساعة إلى ما لا يحصى عدده وهو هنا إلى يوم القيامة‏)‏ قال أبو عبيدة في قوله ومتاع إلى حين‏:‏ أي إلى وقت يوم القيامة، ورواه الطبري من طريق ابن عباس نحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قبيله جيله الذي هو منهم‏)‏ هو تفسير أبي عبيدة أيضا وروى الطبري عن مجاهد في قوله ‏(‏وقبيله‏)‏ قال‏:‏ الجن والشياطين‏.‏

ثم ذكر المصنف في الباب أحد عشر حديثا أفرد الأخير منها بباب في بعض النسخ‏:‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ثُمَّ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا ‏"‏ كذا وقع من هذا الوجه، وعبد الله الراوي عن معمر هو ابن المبارك، وقد رواه عبد الرزاق عن معمر فقال ‏"‏ خلق الله آدم على صورته وطوله ستون ذراعا، ‏"‏ وهذه الرواية تأتي في أول الاستئذان، وقد تقدم الكلام على معنى هذه اللفظة في أثناء كتاب العتق، وهذه الرواية تؤيد قول من قال إن الضمير لآدم، والمعنى أن الله تعالى أوجده على الهيئة التي خلقه عليها لم ينتقل في النشأة أحوالا ولا تردد في الأرحام أطوارا كذريته بل خلقه الله رجلا كاملا سويا من أول ما نفخ فيه الروح، ثم عقب ذلك بقوله ‏"‏ وطوله ستون ذراعا ‏"‏ فعاد الضمير أيضا على آدم، وقيل معنى قوله ‏"‏ على صورته‏:‏ أي لم يشاركه في خلقه أحد، إبطالا لقول أهل الطبائع‏.‏

وخص بالذكر تنبيها بالأعلى على الأدنى، والله أعلم قوله‏:‏ ‏(‏ستون ذراعا‏)‏ يحتمل أن يريد بقدر الذراع المتعارف يومئذ عند المخاطبين، والأول أظهر لأن ذراع كل أحد بقدر ربعه فلو كان بالذراع المعهود لكانت يده قصيرة في جنب طول جسده قوله‏:‏ ‏(‏فلما خلقه قال اذهب فسلم‏)‏ سيأتي شرحه في أول الاستئذان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكل من يدخل الجنة على صورة آدم‏)‏ أي على صفته، وهذا يدل على أن صفات النقص من سواد وغيره تنتفي عند دخول الجنة، وقد تقدم بيان ذلك في ‏"‏ باب صفة الجنة ‏"‏ وزاد عبد الرزاق في روايته هنا ‏"‏ وطوله ستون ذراعا ‏"‏ وإثبات الواو فيه لئلا يتوهم أن قوله ‏"‏ طوله ‏"‏ تفسير لقوله ‏"‏ على صورة آدم ‏"‏ وعلى هذا فقوله ‏"‏ طوله ‏"‏ إلخ ‏"‏ من الخاص بعد العام، ووقع عند أحمد من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ كان طول آدم ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا ‏"‏ وأما ما روى عبد الرزاق من وجه آخر مرفوعا ‏"‏ أن آدم لما أهبط كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء، فحطه الله إلى ستين ذراعا ‏"‏ فظاهره أنه كان مفرط الطول في ابتداء خلقه، وظاهر الحديث الصحيح أنه خلق في ابتداء الأمر على طول ستين ذراعا وهو المعتمد، وروى ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن أبي بن كعب مرفوعا ‏"‏ أن الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن‏)‏ أي أن كل قرن يكون نشأته في الطول أقصر من القرن الذي قبله، فانتهى تناقص الطول إلى هذه الأمة واستقر الأمر على ذلك‏.‏

وقال ابن التين قوله ‏"‏ فلم يزل الخلق ينقص ‏"‏ أي كما يزيد الشخص شيئا فشيئا، ولا يتبين ذلك فيما بين الساعتين ولا اليومين حتى إذا كثرت الأيام تبين، فكذلك هذا الحكم في النقص، ويشكل على هذا ما يوجد الآن من آثار الأمم السالفة كديار ثمود فإن مساكنهم تدل على أن قاماتهم لم تكن مفرطة الطول على حسب ما يقتضيه الترتيب السابق، ولا شك أن عهدهم قديم، وأن الزمان الذي بينهم وبين آدم دون الزمان الذي بينهم وبين أول هذه الأمة، ولم يظهر لي إلى الآن ما يزيل هذا الإشكال‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَتْفِلُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ أَمْشَاطُهُمْ الذَّهَبُ وَرَشْحُهُمْ الْمِسْكُ وَمَجَامِرُهُمْ الْأَلُوَّةُ الْأَنْجُوجُ عُودُ الطِّيبِ وَأَزْوَاجُهُمْ الْحُورُ الْعِينُ عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة في صفة الجنة وقد تقدم في ‏"‏ باب صفة الجنة ‏"‏ وقوله ‏"‏ الألنجوج ‏"‏ بفتح الهمزة واللام وسكون النون بجيمين الأولى مضمومة والواو ساكنة‏:‏ هو العود الذي يتبخر به، ولفظ الألنجوج هنا تفسير الألوة، والعود تفسير التفسير، وقوله في آخره ‏"‏ على خلق رجل واحد ‏"‏ هو بفتح أول خلق لا بضمه، وقوله ‏"‏ستون ذراعا في السماء ‏"‏ أي في العلو والارتفاع‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ الْغَسْلُ إِذَا احْتَلَمَتْ قَالَ نَعَمْ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ تَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبِمَ يُشْبِهُ الْوَلَدُ

الشرح‏:‏

حديث أم سلمة في سؤالها عن غسل المرأة إذا احتلمت وقد تقدم الكلام عليه في الطهارة، والغرض منه قوله في آخره ‏"‏ فبم يشبه الولد‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ مَقْدَمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ قَالَ مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ إِلَى أَخْوَالِهِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَّرَنِي بِهِنَّ آنِفًا جِبْرِيلُ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ وَأَمَّا الشَّبَهُ فِي الْوَلَدِ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَشِيَ الْمَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ وَإِذَا سَبَقَ مَاؤُهَا كَانَ الشَّبَهُ لَهَا قَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ إِنْ عَلِمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ فَجَاءَتْ الْيَهُودُ وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَيْتَ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ قَالُوا أَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا وَأَخْبَرُنَا وَابْنُ أَخْيَرِنَا

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ قَالُوا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَوَقَعُوا فِيهِ

الشرح‏:‏

حديث أنس في قصة إسلام عبد الله بن سلام، وسيأتي بأتم من هذا السياق في أوائل الهجرة، والغرض منه بيان سبب الشبه، وقد علله هنا بالسبق، وفي حديث ثوبان عند مسلم بالعلو، وسأذكر وجه الجمع بينهما في المكان المذكور إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ يَعْنِي لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزْ اللَّحْمُ وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنَّ أُنْثَى زَوْجَهَا

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه‏)‏ لم يسبق للمتن المذكور طريق يعود عليها هذا الضمير، وكأنه يشير به إلى أن اللفظ الذي حدثه به شيخه هو بمعنى اللفظ الذي ساقه، فكأنه كتب من حفظه وتردد في بعضه، ويؤيده أنه وقع في نسخة الصغاني بعد قوله ‏"‏ نحوه ‏"‏ يعني ولم أره من طريق ابن المبارك عن معمر إلا عند المصنف، وسيأتي عنده في ذكر موسى عليه السلام من رواية عبد الرزاق عن معمر بهذا اللفظ، إلا أنه زاد في آخره ‏"‏ الدهر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم‏)‏ يخنز بفتح أوله وسكون الخاء وكسر النون وبفتحها أيضا بعدها زاي أي ينتن، والخنز التغير والنتن، قيل أصله أن بني إسرائيل ادخروا لحم السلوى وكانوا نهوا عن ذلك فعوقبوا بذلك حكاه القرطبي وذكره غيره عن قتادة وقال بعضهم‏:‏ معناه لولا بني إسرائيل سنوا ادخار اللحم حتى أنتن لما ادخر فلم ينتن، وروى أبو نعيم في ‏"‏ الحلية ‏"‏ عن وهب بن منبه قال‏:‏ في بعض الكتب لولا أني كتبت الفساد على الطعام لخزنه الأغنياء عن الفقراء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولولا حواء‏)‏ أي امرأة آدم وهي بالمد، قيل سميت بذلك لأنها أم كل حي، وسيأتي صفة خلقها في الحديث الذي بعده، وقوله ‏"‏لم تخن أنثى زوجها ‏"‏ فيه إشارة إلى ما وقع من حواء في تزيينها لآدم الأكل من الشجرة حتى وقع في ذلك، فمعنى خيانتها أنها قبلت ما زين لها إبليس حتى زينته لآدم، ولما كانت هي أم بنات آدم أشبهها بالولادة ونزع العرق فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها بالفعل أو بالقول، وليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش حاشا وكلا، ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة وحسنت ذلك لآدم عد ذلك خيانة له، وأما من جاء بعدها من النساء فخيانة كل واحدة منهن بحسبها‏.‏

وقريب من هذا حديث ‏"‏ جحد آدم فجحدت ذريته ‏"‏ وفي الحديث إشارة إلى تسلية الرجال فيما يقع لهم من نسائهم بما وقع من أمهن الكبرى، وأن ذلك من طبعهن فلا يفرط في لوم من وقع منها شيء من غير قصد إليه أو على سبيل الندور، وينبغي، لهن أن لا يتمكن بهذا في الاسترسال في هذا النوع بل يضبطن أنفسهن ويجاهدن هواهن، والله المستعان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَمُوسَى بْنُ حِزَامٍ قَالَا حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ مَيْسَرَةَ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏موسى بن حزام‏)‏ بكسر المهملة بعدها زاي خفيفة، وهو ترمذي نزل بلخ، وثقه النسائي وغيره، وكان زاهدا عالما بالسنة، وما له في البخاري، إلا هذا الموضع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ميسرة‏)‏ هو ابن عمارة الأشجعي الكوفي، وما له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد ذكره في النكاح من وجه آخر‏.‏

وله حديث آخر في تفسير آل عمران‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏استوصوا‏)‏ قيل معناه تواصوا بهن، والباء للتعدية والاستفعال بمعنى الإفعال كالاستجابة بمعنى الإجابة‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ السين للطلب وهو للمبالغة أي اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهن، أو اطلبوا الوصية من غيركم بهن كمن يعود مريضا فيستحب له أن يحثه على الوصية والوصية بالنساء آكد لضعفهن واحتياجهن إلى من يقوم بأمرهن، وقيل معناه اقبلوا وصيتي فيهن واعملوا بها وأرفقوا بهن وأحسنوا عشرتهن‏.‏

قلت‏:‏ وهذا أوجه الأوجه في نظري، وليس مخالفا لما قال الطيبي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خلقت من ضلع‏)‏ بكسر المعجمة وفتح اللام ويجوز تسكينها، قيل فيه إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر وقيل من ضلعه القصير، أخرجه ابن إسحاق وزاد ‏"‏ اليسرى من قبل أن يدخل الجنة وجعل مكانه لحم ‏"‏ ومعنى خلقت أي أخرجت كما تخرج النخلة من النواة‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ يحتمل أن يكون معناه أن المرأة خلقت من مبلغ ضلع فهي كالضلع، زاد في رواية الأعرج عن أبي هريرة عند مسلم ‏"‏ لن تستقيم لك على طريقة ‏"‏ قوله‏:‏ ‏(‏وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه‏)‏ قيل فيه إشارة إلى أن أعوج ما في المرأة لسانها، وفي استعمال أعوج استعمال لأفعل في العيوب وهو شاذ، وفائدة هذه المقدمة أن المرأة خلقت من ضلع أعوج فلا ينكر اعوجاجها، أو الإشارة إلى أنها لا تقبل التقويم كما أن الضلع لا يقبله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن ذهبت تقيمه كسرته‏)‏ قيل هو ضرب مثل للطلاق أي إن أردت منها أن تترك اعوجاجها أفضى الأمر إلى فراقها، ويؤيده قوله في رواية الأعرج عن أبي هريرة عند مسلم ‏"‏ وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها ‏"‏ ويستفاد من حديث الباب أن الضلع مذكر خلافا لمن جزم بأنه مؤنث واحتج برواية مسلم ولا حجة فيه لأن التأنيث في روايته للمرأة، وقيل إن الضلع يذكر ويؤنث وعلى هذا فاللفظان صحيحان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ

الشرح‏:‏

حديث عبد الله وهو ابن مسعود ‏"‏ يجمع خلق أحدكم في بطن أمه ‏"‏ الحديث بتمامه، وسيأتي شرحه في كتاب القدر مستوفى إن شاء الله تعالى، ومناسبته للترجمة من قوله فيها ‏"‏ ذريته ‏"‏ فإن فيه بيان خلق ذرية آدم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ فِي الرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ يَا رَبِّ نُطْفَةٌ يَا رَبِّ عَلَقَةٌ يَا رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَهَا قَالَ يَا رَبِّ أَذَكَرٌ يَا رَبِّ أُنْثَى يَا رَبِّ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الْأَجَلُ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ

الشرح‏:‏

حديث أنس في ذلك وسيأتي أيضا هناك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ

الشرح‏:‏

حديث أنس قوله‏:‏ ‏(‏يرفعه‏)‏ هي لفظة يستعملها المحدثون في موضع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك قوله‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى يقول لأهون أهل النار عذابا‏)‏ يقال هو أبو طالب، وسيأتي شرحه في أواخر كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى، ومناسبته للترجمة من قوله ‏"‏ وأنت في صلب آدم ‏"‏ فإن فيه إشارة إلى قوله تعالى ‏(‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم‏)‏ الآية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ

الشرح‏:‏

حديث عبد الله وهو ابن مسعود ‏"‏ لا تقتل نفس ظلما إلا كان على آدم الأول كفل من دمها ‏"‏ وسيأتي شرحه في القصاص، وأورده هنا ليلمح بقصة ابني آدم حيث قتل أحدهما الآخر، ولم يصح على شرطه شيء من قصتهما، وفيما قصه الله علينا في القرآن من ذلك كفاية عن غيره‏.‏

واختلف في اسم القاتل فالمشهور قابيل بوزن المقتول لكن أوله هاء وقيل اسم المقتول ‏"‏ قين ‏"‏ بلفظ الحداد وقيل ‏"‏ قاين ‏"‏ بزيادة ألف‏.‏

وذكر السدي في تفسيره عن مشايخه بأسانيده أن سبب قتل قابيل لأخيه هابيل أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن من ولده بأنثى الآخر، وأن أخت قابيل كانت أحسن من أخت هابيل فأراد قابيل أن يستأثر بأخته فمنعه آدم، فلما ألح عليه أمرهما أن يقربا قربانا فقرب قابيل حزمة من زرع وكان صاحب زرع، وقرب هابيل جذعة سمينة وكان صاحب مواش، فنزلت نار فأكلت قربان هابيل دون قابيل، وكان ذلك سبب الشر بينهما وهذا هو المشهور‏.‏

ونقل الثعلبي بسند واه عن جعفر الصادق أنه أنكر أن يكون آدم زوج ابنا له بابنة له وإنما زوج قابيل جنية وزوج هابيل حورية فغضب قابيل فقال‏:‏ يا بني ما فعلته إلا بأمر الله، فقربا قربانا‏.‏

وهذا لا يثبت عن جابر ولا عن غيره، ويلزم منه أن بني آدم من ذرية إبليس لأنه أبو الجن كلهم أو من ذرية الحور العين وليس لذلك أصل ولا شاهد‏.‏

*3*باب الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ

قَالَ قَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ بِهَذَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الأرواح جنود مجندة‏)‏ كذا ثبتت هذه الترجمة في معظم الروايات، وهي متعلقة بترجمة آدم وذريته، للإشارة إلى أنهم ركبوا من الأجسام والأرواح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الليث‏)‏ وصله المصنف في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ عن عبد الله بن صالح عنه قوله‏:‏ ‏(‏الأرواح جنود مجندة إلخ‏)‏ قال الخطابي‏:‏ يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد، وأن الخير من الناس يحن إلى شكله والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر، فإذا اتفقت تعارفت، وإذا اختلفت تناكرت‏.‏

ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجسام، وكانت تلتقي فتتشاءم، فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم‏.‏

وقال غيره‏:‏ المراد أن الأرواح أول ما خلقت خلقت على قسمين، ومعنى تقابلها أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت أو اختلفت على حسب ما خلقت عليه الأرواح في الدنيا إلى غير ذلك بالتعارف‏.‏

قلت‏:‏ ولا يعكر عليه أن بعض المتنافرين ربما ائتلفا، لأنه محمول على مبدأ التلاقي، فإنه يتعلق بأصل الخلقة بغير سبب‏.‏

وأما في ثاني الحال فيكون مكتسبا لتجدد وصف يقتضي الألفة بعد النفرة كإيمان الكافر وإحسان المسيء‏.‏

وقوله ‏"‏جنود مجندة ‏"‏ أي أجناس مجنسة أو جموع مجمعة، قال ابن الجوزي‏:‏ ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضى لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم، وكذلك القول في عكسه‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحا لكنها تتمايز بأمور مختلفة تتنوع بها، فتتشاكل أشخاص النوع الواحد وتتناسب بسبب ما اجتمعت فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة، ولذلك نشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها‏.‏

ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر، وذلك بحسب الأمور التي يحصل الاتفاق والانفراد بسببها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال يحيى بن أيوب‏)‏ هو المصري ‏(‏حدثني يحيى بن سعيد بهذا‏)‏ يعني مثل الذي قبله، وقد وصله الإسماعيلي من طريق سعيد بن أبي مريم عن يحيى بن أيوب به، ورويناه موصولا في مسند أبي يعلى وفيه قصة في أوله عن عمرة بنت عيد الرحمن قالت ‏"‏ كانت امرأة مزاحة بمكة فنزلت على امرأة مثلها في المدينة، فبلغ ذلك عائشة فقالت‏:‏ صدق حبي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فذكر مثله‏.‏

ورويناه في فوائد أبي بكر بن زنبور من طريق الليث أيضا بسنده الأول بهذه القصة بمعناها، قال الإسماعيلي‏:‏ أبو صالح ليس من شرط هذا الكتاب ولا يحيى بن أيوب في الأصول، وإنما يخرج له البخاري في الاستشهاد، فأورد البخاري هذا الحديث من الطريقين بلا إسناد فصار أقوى مما لو ساقه بإسناد ا ه‏.‏

وكان سبب ذلك أن الناظر في كتابه ربما اعتقد أن له عنده إسنادا آخر، ولا سيما وقد ساقه بصيغة الجزم فيعتقد أنه على شرطه، وليس الأمر كذلك‏.‏

قلت‏:‏ وللمتن شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه مسلم

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَادِئَ الرَّأْيِ مَا ظَهَرَ لَنَا أَقْلِعِي أَمْسِكِي وَفَارَ التَّنُّورُ نَبَعَ الْمَاءُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَجْهُ الْأَرْضِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْجُودِيُّ جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ دَأْبٌ مِثْلُ حَالٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه‏)‏ كذا لأبي ذر ويؤيده ما وقع في الترجمة من شرح الكلمات اللاتي من هذه القصة في سورة هود وفي رواية الحفصي ‏(‏واتل عليهم نبأ نوح - إلى قوله - من المسلمين‏)‏ وللباقين ‏(‏إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم‏)‏ إلى آخر السورة، وقد ذكر بعض هذا الأخير في رواية أبي ذر قبل الأحاديث المرفوعة‏.‏

ونوح هو ابن لمك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف ابن متوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام بعدها معجمة ابن خنوخ بفتح المعجمة وضم النون الخفيفة بعدها واو ساكنة ثم معجمة وهو إدريس فيما يقال‏.‏

وقد ذكر ابن جرير أن مولد نوح كان بعد وفاة آدم بمائة وستة وعشرين عاما، وأنه بعث وهو ابن ثلاثمائة خمسين وقيل غير ذلك، وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمائة سنة وخمسين، وقيل‏:‏ إن مدة عمره ألف سنة إلا خمسين عاما قبل البعثة وبعدها وبعد الغرق فالله أعلم‏.‏

وصحح ابن حبان من حديث أبي أمامة ‏"‏ أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله أنبي كان آدم‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فكم كان بينه وبين نوح‏؟‏ قال عشرة قرون‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن عباس بادي الرأي ما ظهر لنا‏)‏ وصله ابن أبي حاتم عن طريق عطاء عنه أي أول النظر قبل التأمل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أقلعي أمسكي وفار التنور نبع الماء‏)‏ وصل ذلك ابن أبي حاتم أيضا من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

‏(‏وقال عكرمة وجه الأرض‏)‏ وصله ابن جرير من طريق أبي إسحاق الشيباني عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏(‏وفار التنور‏)‏ قال وجه الأرض قوله‏:‏ ‏(‏وقال مجاهد الجودي جبل بالجزيرة‏)‏ وصله ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عنه وزاد ‏"‏ تشامخت الجبال يوم الغرق وتواضع هو لله فلم يغرق وأرسيت عليه سفينة نوح‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دأب حال‏)‏ وصله الفريابي من طريق مجاهد أيضا‏.‏

*3*بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَالِمٌ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ إِنِّي لَأُنْذِرُكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في ذكر الدجال وسيأتي شرحه في الفتن، والغرض منه قوله فيه‏:‏ ‏"‏ ولقد أنذره نوح قومه ‏"‏ وخص نوحا بالذكر لأنه أول من ذكره، وهو أول الرسل المذكورين في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا‏)‏ ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا عَنْ الدَّجَّالِ مَا حَدَّثَ بِهِ نَبِيٌّ قَوْمَهُ إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّهُ يَجِيءُ مَعَهُ بِمِثَالِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَالَّتِي يَقُولُ إِنَّهَا الْجَنَّةُ هِيَ النَّارُ وَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة في المعنى كذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ لَا مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ فَيَقُولُ لِنُوحٍ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد في شهادة أمة محمد صلى الله عليه وسلم لنوح بالتبليغ، وسيأتي شرحه في تفسير سورة البقرة، ويأتي في تفسير سورة نوح بيان السبب في عبادة قوم نوح الأصنام‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَةٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً وَقَالَ أَنَا سَيِّدُ الْقَوْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَلْ تَدْرُونَ بِمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُبْصِرُهُمْ النَّاظِرُ وَيُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي وَتَدْنُو مِنْهُمْ الشَّمْسُ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ أَلَا تَرَوْنَ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ إِلَى مَا بَلَغَكُمْ أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ أَبُوكُمْ آدَمُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغَنَا فَيَقُولُ رَبِّي غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَنَهَانِي عَنْ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا أَمَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا بَلَغَنَا أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَيَقُولُ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ نَفْسِي نَفْسِي ائْتُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْتُونِي فَأَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَهْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ لَا أَحْفَظُ سَائِرَهُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة في الشفاعة قوله فيه‏:‏ ‏(‏دعوة‏)‏ بضم أوله الوليمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فرفعت إليه الذراع‏)‏ أي ذراع الشاة وسيأتي بيان ذلك في الأطعمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فنهس‏)‏ بنون ومهملة أي أخذ منها بأطراف أسنانه، ووقع في رواية أبي ذر في المعجمة وهو قريب من المهملة، قوله‏:‏ ‏(‏أنا سيد الناس يوم القيامة‏)‏ خصه بالذكر لظهور ذلك له يومئذ حيث تكون الأنبياء كلهم تحت لوائه ويبعثه الله المقام المحمود كما سيأتي بيانه في الرقاق مع تتمة شرح الحديث إن شاء الله تعالى‏.‏

والغرض منه هنا قوله‏:‏ ‏"‏ فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبدا شكورا ‏"‏ فأما كونه أول الرسل فقد استشكل بأن آدم كان نبيا وبالضرورة تعلم أنه كان على شريعة من العبادة وأن أولاده أخذوا ذلك عنه فعلى هذا فهو رسول إليهم فيكون هذا أول رسول، فيحتمل أن تكون الأولية في قول أهل الموقف لنوح مقيدة بقولهم إلى أهل الأرض لأنه في زمن آدم لم يكن للأرض أهل أو لأن رسالة آدم إلى بنيه كانت كالتربية للأولاد، ويحتمل أن يكون المراد أنه رسول أرسل إلى بنيه وغيرهم من الأمم الذين أرسل إليهم مع تفرقهم في عدة بلاد، وآدم إنما أرسل إلى بنيه فقط وكانوا‏.‏

مجتمعين في بلدة واحدة، واستشكله بعضهم بإدريس، ولا يرد لأنه اختلف في كونه جد نوح كما تقدم، وقد تقدم شيء من هذا في أول كتاب التيمم فيما يتعلق بخصوصية نبينا بعموم البعثة عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام‏.‏

وأما قولهم ‏"‏ وسماك الله عبدا شكورا ‏"‏ فإشارة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إنه كان عبدا شكورا‏)‏ وروى عبد الرزاق بسند مقطوع ‏"‏ إن نوحا كان إذا ذهب إلى الغائط قال‏:‏ الحمد لله الذي رزقني لذته، وأبقى في قوته، وأذهب عني أذاه‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ مِثْلَ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ

الشرح‏:‏

حديث ابن مسعود في قراءة ‏(‏فهل من مدكر‏)‏ وسيأتي في تفسير اقتربت‏.‏

*3*باب وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ

إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُذْكَرُ بِخَيْرٍ سَلَامٌ عَلَى آلِ يَاسِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ‏(‏وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون - إلى - وتركنا عليه في الآخرين‏)‏‏)‏ سقط لفظ ‏"‏ باب ‏"‏ من رواية أبي ذر، وكأن المصنف رجح عنده كون إدريس ليس من أجداد نوح فلهذا ذكره بعده، وسأذكر ما في ذلك في الباب الذي يليه‏.‏

وإلياس بهمزة قطع وهو اسم عبراني‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏(‏سلام على إلياسين‏)‏ فقرأه الأكثر بصورة الاسم المذكور وزيادة ياء ونون في آخره‏.‏

وقرأ أهل المدينة ‏"‏ آل ياسين ‏"‏ بفصل آل من ياسين، وكان بعضهم يتأول أن المراد سلام على آل محمد صلى الله عليه وسلم وهو بعيد، ويؤيد الأول أن الله تعالى إنما أخبر في كل موضع ذكر فيه نبيا من الأنبياء في هذه السورة بأن السلام عليه فكذلك السلام في هذا الموضع على إلياس المبدأ بذكره، وإنما زيدت فيه الياء والنون كما قالوا في إدريس إدراسين والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن عباس‏)‏ وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏سلام على الياسين‏)‏ يذكر بخير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويذكر عن ابن مسعود وابن عباس أن إلياس هو إدريس‏)‏ أما قول ابن مسعود فوصله عبد بن حميد وابن أبي حاتم بإسناد حسن عنه قال‏:‏ إلياس هو إدريس، ويعقوب هو إسرائيل‏.‏

وأما قول ابن عباس‏.‏

فوصله جويبر في تفسيره عن الضحاك عنه وإسناده ضعيف، ولهذا لم يجزم به البخاري‏:‏ وقد أخذ أبو بكر بن العربي من هذا أن إدريس لم يكن جدا لنوح وإنما هو من بني إسرائيل لأن إلياس قد ورد أنه من بني إسرائيل، واستدل على ذلك بقوله عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح ‏"‏ ولو كان من أجداده لقال له كما قال له آدم وإبراهيم ‏"‏ والابن الصالح ‏"‏ وهو استدلال جيد إلا أنه قد يجاب عنه بأنه قال ذلك على سبيل التواضع والتلطف فليس ذلك نصا فيما زعم‏.‏

وقد قال ابن إسحاق في أول السيرة النبوية لما ساق النسب الكريم فلما بلغ إلى نوح قال‏:‏ ابن لمك بن متوشلخ بن خنوخ وهو إدريس النبي فيما يزعمون، وأشار بذلك إلى أن هذا القول مأخوذ عن أهل الكتاب‏.‏

واختلف في ضبطه فالأكثر خنوخ بمعجمتين بعد الأولى نون بوزن ثمود، وقيل بزيادة ألف في أوله وسكون المعجمة الأولى، وقيل غير ذلك لكن بحذف الواو، وقيل‏:‏ كذلك لكن بدل الخاء الأولى هاء، وقيل‏:‏ كالثاني لكن بدل المعجمة مهملة‏.‏

واختلف في لفظ إدريس فقيل هو عربي واشتقاقه من الدراسة وقيل له ذلك لكثرة درسه الصحف، وقيل‏:‏ بل هو سرياني، وفي حديث أبي ذر الطويل الذي صححه ابن حبان أنه كان سريانيا، ولكن لا يمنع ذلك كون لفظ إدريس عربيا إذا ثبت بأن له اسمين‏.‏

*3*باب ذِكْرِ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَام

وَهُوَ جَدُّ أَبِي نُوحٍ وَيُقَالُ جَدُّ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَام وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ذكر إدريس‏)‏ سقط لفظ ‏"‏ باب ‏"‏ من رواية أبي ذر وزاد في رواية الحفصي ‏"‏ وهو جد أبي نوح وقيل‏:‏ جد نوح‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ الأول أولى من الثاني كما تقدم، ولعل الثاني أطلق ذلك مجازا لأن جد الأب جد‏.‏

ونقل بعضهم الإجماع على أنه جد لنوح، وفيه نظر لأنه إن ثبت ما قال ابن عباس أن إلياس هو إدريس لزم أن يكون إدريس من ذرية نوح لا أن نوحا من ذريته لقوله تعالى في سورة الأنعام ‏(‏ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان - إلى قوله - وعيسى وإلياس‏)‏ فدل على أن إلياس من ذرية نوح سواء قلنا إن الضمير في قوله‏:‏ ‏"‏ ومن ذريته ‏"‏ لنوح أو لإبراهيم، لأن إبراهيم من ذرية نوح فمن كان من ذرية إبراهيم فهو من ذرية نوح لا محالة‏.‏

وذكر ابن إسحاق في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ أن إلياس هو ابن نسي بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى بن عمران فالله أعلم‏.‏

وذكر وهب في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ أن إلياس عمر كما عمر الخضر وأنه يبقى إلى آخر الدنيا في قصة طويلة‏.‏

وأخرج الحاكم في ‏"‏ المستدرك ‏"‏ من حديث أنس أن إلياس اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وأكلا جميعا وأن طوله ثلاثمائة ذراع وأنه قال إنه لا يأكل في السنة إلا مرة واحدة، أورده الذهبي في ترجمة يزيد بن يزيد البلوي وقال‏:‏ إنه خبر باطل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقوله تعالى ورفعناه مكانا عليا‏)‏ ثم ساق حديث الإسراء من رواية أبي ذر، وقد تقدم شرحه في أوائل الصلاة وكأنه أشار بالترجمة إلى ما وقع فيه أنه وجده ‏"‏ في السماء الرابعة ‏"‏ وهو مكان علي بغير شك، واستشكل بعضهم ذلك بأن غيره من الأنبياء أرفع مكانا منه ثم أجاب بأن المراد أنه لم يرفع إلى السماء من هو حي غيره، وفيه نظر لأن عيسى أيضا قد رفع وهو حي على الصحيح، وكون إدريس رفع وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قوية، وقد روى الطبري أن كعبا قال لابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ورفعناه مكانا عليا‏)‏ أن إدريس سأل صديقا له من الملائكة فحمله بين جناحيه ثم صعد به، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت فقال له أريد أن تعلمني كم بقي من أجل إدريس‏؟‏ قال‏:‏ وأين إدريس‏؟‏ قال‏:‏ هو معي، فقال‏:‏ إن هذا لشيء عجيب، أمرت بأن أقبض روحه في السماء الرابعة فقلت‏:‏ كيف ذلك وهو في الأرض‏؟‏ فقبض روحه، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ورفعناه مكانا عليا‏)‏ وهذا من الإسرائيليات، والله أعلم بصحة ذلك‏.‏

وذكر ابن قتيبة أن إدريس رفع وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة وفي حديث أبي ذر الطويل الذي صححه ابن حبان أن إدريس كان نبيا رسولا وأنه أول من خط بالقلم، وذكر ابن إسحاق له أوليات كثيرة، منها أنه أول من خاط الثياب‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏‏:‏ وقع في أكثر الروايات ‏"‏ وقال عبدان ‏"‏ وفي روايتنا من طريق أبي ذر ‏"‏ حدثنا عبدان ‏"‏ وصله أيضا الجوزقي من طريق محمد بن الليث عن عبد الله بن عثمان وهو عبدان به

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا

قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَقَوْلِهِ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ إِلَى قَوْلِهِ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ فِيهِ عَنْ عَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى وإلى عاد أخاهم هودا‏)‏ هو هود بن عبد الله بن رباح بن جاور بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح‏.‏

وسماه أخا لهما لكونه من قبيلتهم لا من جهة أخوة الدين، هذا هو الراجح في نسبه‏.‏

وأما ابن هشام فقال اسمه عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذ أنذر قومه بالأحقاف - إلى قوله - كذلك نجزي القوم المجرمين‏)‏ الأحقاف جمع حقف بكسر المهملة وهو المعوج من الرمل، والمراد به هنا مساكن عاد، وروى عبد بن حميد من طريق قتادة أنهم كانوا ينزلون الرمل بأرض الشحر وما والاها، وذكر ابن قتيبة أنهم كانوا ثلاث عشرة قبيلة ينزلون الرمل بالدو والدهناء وعالج ووبار وعمان إلى حضر موت، وكانت ديارهم أخصب البلاد وأكثرها جنانا، فلما سخط الله جل وعلا عليهم جعلها مفاوز‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيه عطاء وسليمان عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ انتهى، أما رواية عطاء وهو ابن أبي رباح فوصلها المؤلف في ‏"‏ باب ذكر الريح ‏"‏ من بدء الخلق وأوله ‏"‏ كان إذا رأى مخيلة أقبل وأدبر ‏"‏ وفي آخره ‏"‏ وما أدري لعله كما قال قوم عاد ‏(‏فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم‏)‏ الآية ‏"‏ وأما رواية سليمان وهو ابن يسار فوصلها المؤلف في تفسير سورة الأحقان، ويأتي بقية الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏