فصل: باب الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الرُّؤْيَا مِنْ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب‏)‏ بالتنوين ‏(‏الرؤيا من الله‏)‏ أي مطلقا، وإن قيدت في الحديث بالصالحة فهو بالنسبة إلى ما لا دخول للشيطان فيه، وأما ما له فيه دخل فنسبت إليه نسبة مجازية، مع أن الكل بالنسبة إلى الخلق والتقدير من قبل الله، وإضافة الرؤيا إلى الله للتشريف، ويحتمل أن يكون أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما سأبينه، وظاهر قوله ‏"‏ الرؤيا من الله والحلم من الشيطان ‏"‏ أن التي تضاف إلى الله لا يقال لها حلم والتي تضاف للشيطان لا يقال لها رؤيا وهو تصرف شرعي، وإلا فكل يسمى رؤيا، وقد جاء في حديث آخر ‏"‏ الرؤيا ثلاث ‏"‏ فأطلق على كل رؤيا، وسيأتي بيانه في ‏"‏ باب القيد في المنام‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ

الشرح‏:‏

حديث أبي قتادة، وزهير في السند هو ابن معاوية أبو خيثمة الجعفي، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن‏.‏

قوله ‏(‏الرؤيا الصادقة‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ الصالحة ‏"‏ وهو الذي وقع في معظم الروايات، وسقط الوصف من رواية أحمد بن يحيى الحلواني عن أحمد بن يونس شيخ البخاري فيه أخرجه أبو نعيم في المستخرج بلفظ ‏"‏ الرؤيا من الله ‏"‏ كالترجمة، وكذا في الطب من رواية سليمان بن بلال والإسماعيلي من رواية الثوري وبشر بن المفضل ويحيى القطان كلهم عن يحيى بن سعيد، ولمسلم من رواية الزهري عن أبي سلمة كما سيأتي قريبا مثله، ووقع في رواية عبد ربه بن سعيد عن أبي سلمة كما سيأتي في باب إذا رأى ما يكره ‏"‏ الرؤيا الحسنة من الله ‏"‏ ووقع عند مسلم من هذا الوجه ‏"‏ الصالحة ‏"‏ زاد في هذه الرواية ‏"‏ فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يخبر به إلا من يحب ‏"‏ ولمسلم في رواية من هذا الوجه ‏"‏ فإن رأى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر إلا من يحب ‏"‏ وقوله فليبشر بفتح التحتانية وسكون الموحدة وضم المعجمة من البشرى، وقيل بنون بدل الموحدة أي ليحدث بها، وزعم عياض أنها تصحيف، ووقع في بعض النسخ من مسلم ‏"‏ فليستر ‏"‏ بمهملة ومثناة من الستر، وفي حديث أبي رزين عند الترمذي ‏"‏ ولا يقصها إلا على واد ‏"‏ بتشديد الدال اسم فاعل من الود ‏"‏ أو ذي رأي ‏"‏ وفي أخرى ‏"‏ ولا يحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا ‏"‏ وفي أخرى ‏"‏ ولا يقص الرؤيا إلا على عالم أو ناصح ‏"‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ أما العالم فإنه يؤولها له على الخير مهما أمكنه، وأما الناصح فإنه يرشد إلى ما ينفعه ويعينه عليه، وأما اللبيب وهو العارف بتأويلها فإنه يعلمه بما يعول عليه في ذلك أو يسكت، وأما الحبيب فإن عرف خيرا قاله وإن جهل أو شك سكت‏.‏

قلت‏:‏ والأولى الجمع بين الروايتين فإن اللبيب عبر به عن العالم والحبيب عبر به من الناصح، ووقع عند مسلم في حديث أبي سعيد في حديثي الباب ‏"‏ فليحمد الله عليها وليحدث بها‏"‏‏.‏

قوله ‏"‏والحلم من الشيطان ‏"‏ كذا اختصره، وسيأتي ضبط الحلم ومعناه في ‏"‏ باب الحلم من الشيطان ‏"‏ إن شاء الله تعالى، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من الطريق المشار إليها فزاد ‏"‏ فإذا رأى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث عن شماله ثلاث مرات ويتعوذ بالله من شرها وأذاها فإنها لا تضر ‏"‏ وكذا مضى في الطب من رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، وسيأتي للمصنف في ‏"‏ باب الحلم من الشيطان ‏"‏ من طريق ابن شهاب عن أبي سلمة بلفظ ‏"‏ فإذا حلم أحدكم الحلم يكرهه فليبصق عن يساره وليستعذ بالله منه فلن يضره ‏"‏ ولمسلم من هذا الوجه ‏"‏ عن يساره حين يهب من نومه ثلاث مرات، وسيأتي في ‏"‏ باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من طريق عبيد بن أبي جعفر عن أبي سلمة بلفظ ‏"‏ فمن رأى شيئا يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثا وليتعوذ من الشيطان فإنها لا تضره‏"‏، ومن رواية عبد ربه بن سعيد عن أبي سلمة الآتية في ‏"‏ باب إذا رأى ما يكره، بلفظ ‏"‏ وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثا ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره ‏"‏ وهذه أتم الروايات عن أبي سلمة لفظا‏.‏

قال المهلب‏:‏ سمى الشارع الرؤيا الخالصة من الأضغاث صالحة وصادقة وأضافها إلى الله، وسمى الأضغاث‏.‏

حلما وأضافها إلى الشيطان إذ كانت مخلوقة على شاكلته فأعلم الناس بكيده وأرشدهم إلى دفعه لئلا يبلغوه أربه في تحزينهم والتهويل عليهم‏.‏

وقال أبو عبد الملك‏:‏ أضيفت إلى الشيطان لكونها على هواه ومراده‏.‏

وقال ابن الباقلاني يخلق الله الرؤيا الصالحة بحضرة الملك ويخلق الرؤيا التي تقابلها بحضرة الشيطان، فمن ثم أضيف إليه، وقيل أضيفت إليه لأنه الذي يخيل بها ولا حقيقة لها في نفس الأمر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ اللَّهِ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا وَلَا يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ

الشرح‏:‏

عن أبي سعيد الخدري، قوله ‏(‏حدثني ابن الهاد‏)‏ هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن عبد الله ابن شداد بن الهاد الليثي، وسيأتي منسوبا في ‏"‏ باب إذا رأى ما يكره‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فإنما هي من الله‏)‏ في الرواية المذكورة‏.‏

‏"‏ فإنها من الله، فليحمد الله عليها وليتحدث بها‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ فليتحدث ‏"‏ ومثله في الرواية المذكورة‏.‏

قوله ‏(‏وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ‏)‏ زاد في نسخة ‏"‏ بالله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره‏)‏ في رواية الكشميهني في باب إذا رأى ما يكره ‏"‏ فإنها لن تضره‏"‏، فحاصل ما ذكر من أبواب الرؤيا الصالحة ثلاث أشياء‏:‏ أن يحمد الله عليها، وأن يستبشر بها، وأن يتحدث بها لكن لمن يحب دون من يكره وحاصل ما ذكر من أدب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء‏:‏ أن يتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، وأن يتفل حين يهب من نومه عن يساره ثلاثا، ولا يذكرها لأحد أصلا‏.‏

ووقع عند المصنف في ‏"‏ باب القيد في المنام ‏"‏ عن أبي هريرة خامسة وهي الصلاة ولفظه ‏"‏ فمن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل ‏"‏ لكن لم يصرح البخاري بوصله وصرح به مسلم كما سيأتي بيانه في بابه، وغفل القاضي أبو بكر بن العربي فقال‏:‏ زاد الترمذي على الصحيحين بالأمر بالصلاة انتهى، وزاد مسلم سادسة وهي التحول عن جنبه الذي كان عليه فقال ‏"‏ حدثنا قتيبة حدثنا ليث وحدثنا ابن رمح أنبأنا الليث عن أبي الزبير عن جابر رفعه إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق على يساره ثلاثا وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه ‏"‏ وقال قبل ذلك ‏"‏ حدثنا قتيبة ومحمد بن رمح عن الليث بن سعد وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير كلهم عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد ‏"‏ يعني عن أبي سلمة عن أبي قتادة مثل حديث سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد وزاد ابن رمح في هذا الحديث ‏"‏ وليتحول عن جنبه الذي كان عليه ‏"‏ وذكر بعض الحفاظ أن هذه الزيادة إنما هي في حديث الليث عن أبي الزبير كما اتفق عليه قتيبة وابن رمح، وأما طريق يحيى بن سعيد في حديث أبي قتادة فليست فيه ولذلك لم يذكرها قتيبة، وفي الجملة فتكمل الآداب ستة الأربعة الماضية والصلاة والتحول، ورأيت في بعض الشروح‏.‏

ذكر سابعة وهي قراءة آية الكرسي ولم يذكر لذلك مستندا فإن كان أخذه من عموم قوله في حديث أبي هريرة ولا يقربنك شيطان فيتجه، وينبغي أن يقرأها في صلاته المذكورة، وسيأتي ما يتعلق بآداب العابر، وقد ذكر العلماء حكمة هذه الأمور‏:‏ فأما الاستعاذة بالله من شرها فواضح وهي مشروعة عند كل أمر يكره، وأما الاستعاذة من الشيطان فلما وقع في بعض طرق الحديث أنها منه وأنه يخيل بها لقصد تحزين الآدمي والتهويل عليه كما تقدم، وأما التفل فقال عياض‏:‏ أمر به طردا للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة تحقيرا له واستقذارا، وخصت به اليسار لأنها محل الأقذار ونحوها‏.‏

قلت‏:‏ والتثليث للتأكيد‏.‏

وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ فيه إشارة إلى أنه في مقام الرقية ليتقرر عند النفس دفعه عنها وعبر في بعض الروايات بالبصاق إشارة، إلى استقذاره، وقد ورد بثلاثة ألفاظ النفث والتفل والبصق، قال النووي في الكلام على النفث في الرقية تبعا لعياض‏:‏ اختلف في النفث والتفل فقيل هما بمعنى ولا يكونان إلا بريق‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ يشترط في التفل ريق يسير ولا يكون في النفث، وقيل عكسه، وسئلت عائشة عن النفث في الرقية فقالت‏:‏ كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه‏.‏

قال‏:‏ ولا اعتبار بما يخرج معه من بلة بغير قصد، قال‏:‏ وقد جاء في حديث أبي سعيد في الرقية بفاتحة الكتاب ‏"‏ فجعل يجمع بزاقه ‏"‏ قال عياض‏:‏ وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفث للمباشر للرقية المقارن للذكر الحسن كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء‏.‏

وقال النووي أيضا‏:‏ أكثر الروايات في الرؤيا ‏"‏ فلينفث ‏"‏ وهو نفخ لطيف بلا ريق فيكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا‏.‏

قلت‏:‏ لكن المطلوب في الموضعين مختلف، لأن المطلوب في الرقية التبرك برطوبة الذكر كما تقدم، والمطلوب هنا طرد الشيطان وإظهار احتقاره واستقذاره كما نقله هو عن عياض كما تقدم، فالذي يجمع الثلاثة الحمل على التفل فإنه نفخ معه ريق لطيف، فبالنظر إلى النفخ قيل له نفث وبالنظر إلى الريق قيل له بصاق‏.‏

قال النووي وأما قوله ‏"‏ فإنها لا تضره ‏"‏ فمعناه أن الله جعل ما ذكر سببا للسلامة من المكروه المترتب على الرؤيا كما جعل الصدقة وقاية للمال انتهى‏.‏

وأما الصلاة فلما فيها من التوجه إلى الله واللجأ إليه، ولأن في التحرم بها عصمة من الأسواء وبها تكمل الرغبة وتصح الطلبة لقرب المصلي من ربه عند سجوده، وأما التحول فللتفاؤل بتحول تلك الحال التي كان عليها‏.‏

قال النووي‏:‏ وينبغي أن يجمع بين هذه الروايات الأحاديث‏.‏

قلت‏:‏ لم أر في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحدة، نعم أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية في دفع شرها وكأنه أخذه من قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون‏)‏ فيحتاج مع الاستعاذة إلى صحة التوجه ولا يكفي إمرار الاستعاذة باللسان‏.‏

وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ الصلاة تجمع ذلك كله، لأنه إذا قام فصلى تحول عن جنبه وبصق ونفث عند المضمضة في الوضوء واستعاذ قبل القراءة ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه فيكفيه الله شرها بمنه وكرمه‏.‏

وورد في صفة التعوذ من شر الرؤيا أثر صحيح أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة عن إبراهيم النخعي قال‏:‏ ‏"‏ إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره فليقل إذا استيقظ‏:‏ أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله من شر رؤياي هذه أن يصيبني فيها ما أكره في ديني ودنياي‏"‏، وورد في الاستعاذة من التهويل في المنام ما أخرجه مالك قال‏:‏ ‏"‏ بلغني أن خالد بن الوليد قال‏:‏ يا رسول الله إني أروع في المنام فقال‏:‏ قل أعوذ بكلمات الله التامات من شر غضبه وعذابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ‏"‏ وأخرج النسائي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ ‏"‏ كان خالد بن الوليد يفزع في منامه ‏"‏ فذكر نحوه وزاد في أوله ‏"‏ إذا اضطجعت فقل‏:‏ باسم الله ‏"‏ فذكره، وأصله عند أبي داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه، واستثنى الداودي من عموم قوله ‏"‏ إذا رأى ما يكره ‏"‏ ما يكون في الرؤيا الصادقة لكونها قد تقع إنذارا كما تقع تبشيرا وفي الإنذار نوع ما يكرهه الرائي فلا يشرع إذا عرف أنها صادقة ما ذكره من الاستعاذة ونحوها، واستند إلى ما ورد من مرائي النبي صلى الله عليه وسلم كالبقر التي تنحر ونحو ذلك، ويمكن أن يقال‏:‏ لا يلزم من ترك الاستعاذة في الصادقة أن لا يتحول عن جنبه ولا أن لا يصلي، فقد يكون ذلك سببا لدفع مكروه الإنذار مع حصول مقصود الإنذار، وأيضا فالمنذورة قد ترجع إلى معنى المبشرة لأن من أنذر بما سيقع له ولو كان لأيسره أحسن حالا ممن هجم عليه ذلك فإنه ينزعج ما لا ينزعج من كان يعلم بوقوعه فيكون ذلك تخفيفا عنه ورفقا به، قال الحكيم الترمذي‏:‏ الرؤيا الصادقة أصلها حق تخبر عن الحق وهو بشرى وإنذار ومعاتبة لتكون عونا لما ندب إليه، قال‏:‏ وقد كان غالب أمور الأولين الرؤيا إلا أنها قلت في هذه الأمة لعظم ما جاء به نبيها من الوحي ولكثرة من في أمته من الصديقين من المحدثين بفتح الدال وأهل اليقين‏.‏

فاكتفوا بكثرة الإلهام والملهمين عن كثرة الرؤيا التي كانت في المتقدمين‏.‏

وقال القاضي عياض‏:‏ يحتمل قوله الرؤيا الحسنة والصالحة أن يرجع إلى حسن ظاهرها أو صدقها، كما أن قوله الرؤيا المكروهة أو السوء يحتمل سوء الظاهر أو سوء التأويل، وأما كتمها مع أنها قد تكون صادقة فخفيت حكمته، ويحتمل أن يكون لمخافة تعجيل اشتغال سر الرائي بمكروه تفسيرها، لأنها قد تبطئ فإذا لم يخبر بها زال تعجيل روعها وتخويفها ويبقى إذا لم يعبرها له أحد بين الطمع في أن لها تفسيرا حسنا، أو الرجاء في أنها من الأضغاث فيكون ذلك أسكن لنفسه‏.‏

واستدل بقوله‏:‏ ‏"‏ ولا يذكرها على أن الرؤيا تقع على ما يعبر به ‏"‏ وسيأتي البحث في ذلك في ‏"‏ باب إذا رأى ما يكره ‏"‏ إن شاء الله تعالى، واستدل به على أن للوهم تأثيرا في النفوس لأن التفل وما ذكر معه يدفع الوهم الذي يقع في النفس من الرؤيا، فلو لم يكن للوهم تأثير لما أرشد إلى ما يدفعه، وكذا في النهي عن التحديث بما يكره لمن يكره والأمر بالتحديث بما يحب لمن يحب‏.‏

قوله في حديث أبي سعيد ‏(‏وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان‏)‏ ظاهر الحصر أن الرؤيا الصالحة لا تشتمل على شيء مما يكرهه الرائي، ويؤيده مقابلة رؤيا البشرى بالحلم وإضافة الحلم إلى الشيطان، وعلى هذا ففي قول أهل التعبير ومن تبعهم أن الرؤيا الصادقة قد تكون بشرى وقد تكون إنذارا نظر، لأن الإنذار غالبا يكون فيما يكره الرائي، ويمكن الجمع بأن الإنذار لا يستلزم وقوع المكروه كما تقدم تقريره، وبأن المراد بما يكره ما هو أعم من ظاهر الرؤيا ومما تعبر به وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏‏:‏ ظاهر الخبر أن هذا النوع من الرؤيا يعني ما كان فيه تهويل أو تخويف أو تحزين هو المأمور بالاستعاذة منه لأنه من تخيلات الشيطان، فإذا استعاذ الرائي منه صادقا في التجائه إلى الله وفعل ما أمر به من التفل والتحول والصلاة أذهب الله عنه ما به وما يخافه من مكروه ذلك ولم يصبه منه شيء، وقيل بل الخبر على عمومه فيما يكرهه الرائي بتناول ما يتسبب به الشيطان وما لا تسبب له فيه، وفعل الأمور المذكورة مانع من وقوع المكروه كما جاء أن الدعاء يدفع البلاء والصدقة تدفع ميتة السوء وكل ذلك بقضاء الله وقدره، ولكن الأسباب عادات لا موجودات، وأما ما يرى أحيانا مما يعجب الرائي ولكنه لا يجده في اليقظة ولا ما يدل عليه فإنه يدخل في قسم آخر وهو ما كان الخاطر به مشغولا قبل النوم ثم يحصل النوم فيراه فهذا قسم لا يضر ولا ينفع‏.‏

*3*باب الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة‏)‏ هذه الترجمة لفظ آخر أحاديث الباب، فكأنه حمل الرواية الأخرى بلفظ ‏"‏ رؤيا المؤمن ‏"‏ على هذه المقيدة، وسقطت هذه الترجمة للنسفي وذكر أحاديثها في الباب الذي قبله، وذكر فيه خمسة أحاديث‏:‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا لَقِيتُهُ بِالْيَمَامَةِ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا حَلَمَ فَلْيَتَعَوَّذْ مِنْهُ وَلْيَبْصُقْ عَنْ شِمَالِهِ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ وَعَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير وأثنى عليه خيرا لقيته باليمامة‏)‏ هكذا للأكثر‏.‏

وفي رواية القابسي بعد قوله خيرا ‏"‏ قال لقيته باليمامة ‏"‏ وفاعل أثنى هو مسدد وهي جملة حالية كأنه قال أثنى عليه خيرا حال تحديثه عنه، وقد أثنى عليه أيضا إسحاق بن أبي إسرائيل فيما أخرجه الإسماعيلي من طريقه قال ‏"‏ حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير وكان من خيار الناس وأهل الورع والدين‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏عن أبيه‏)‏ هو عطف على السند الذي قبله، ففي رواية إسحاق بن أبي إسرائيل المذكورة بعد أن ساق طريق أبي سلمة قال‏:‏ ‏"‏ وحدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير عن أبيه عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه مثل حديث أبي سلمة وتقدم في صفة إبليس من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وحده عن أبي قتادة ‏"‏ وأخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق أبي خليفة عن مسدد كرواية البخاري عن مسدد، ومن طريق إبراهيم الحربي عن مسدد بهذا السند فقال عن أبي هريرة بدل أبي قتادة، ولعله كان عند أبي سلمة عنهما، وكان عند مسدد على الوجهين، فقد أخرجه ابن عدي من رواية إسحاق بن أبي إسرائيل بهذا السند إلى أبي سلمة فقال عن أبي قتادة تارة وعن أبي هريرة أخرى، وعن عبيد الله بن يحيى بن أبي كثير عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة حديث ‏"‏ رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

قوله ‏(‏الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فإذا حلم أحدكم‏)‏ تقدم شرحه في الباب الذي قبله مستوفى، وقد اعترضه الإسماعيلي فقال‏:‏ ليس هذا الحديث من هذا الباب في شيء، وأخذه الزركشي فقال‏:‏ إدخاله في هذا الباب لا وجه له بل هو ملحق بالذي قبله، قلت‏:‏ وقد وقع ذلك في رواية النسفي كما أشرت إليه، ويجاب عن صنيع الأكثر بأن وجه دخوله في هذه الترجمة الإشارة إلى أن الرؤيا الصالحة إنما كانت جزءا من أجزاء النبوة لكونها من الله تعالى بخلاف التي من الشيطان فإنها ليست من أجزاء النبوة، وأشار البخاري مع ذلك إلى ما وقع في بعض الطرق عن أبي سلمة عن أبي قتادة، فقد ذكرت في الباب الذي قبله أنه وقع في رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن أبي قتادة في هذا الحديث من الزيادة ‏"‏ ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا غندر‏)‏ هو محمد بن جعفر‏.‏

قوله ‏(‏عن أنس‏)‏ في رواية أحمد عن محمد بن جعفر المذكور بسنده المذكور ‏"‏ سمعت أنس بن مالك يحدث عن عبادة، وقد خالف قتادة غيره فلم يذكروا عبادة في السند وهو الحديث الثالث حديث أنس‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَرَوَاهُ ثَابِتٌ وَحُمَيْدٌ وَإِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَشُعَيْبٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏ورواه ثابت وحميد وإسحاق بن عبد الله وشعيب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي بغير واسطة، فأما رواية ثابت فتأتي موصولة بعد خمسة أبواب من طريق عبد العزيز بن المختار عنه تلو حديث أوله ‏"‏ من رآني في المنام فقد رآني ‏"‏ وقال فيه ‏"‏ ورؤيا المؤمن ‏"‏ ووصلها مسلم من طريق شعبة عن ثابت كذلك، وأخرجها البزار وقال لا نعلم رواه عن ثابت إلا شعبة، ورواية عبد العزيز ترد عليه، ووقع في أطراف المزي أن البخاري أخرجه في التعبير معلقا فقال‏:‏ رواه شعبة عن ثابت، ولم أر ذلك في البخاري، وأما رواية حميد فوصلها أحمد عن محمد بن أبي عدي عنه ولفظ المتن مثل رواية قتادة وأما رواية إسحاق وهو ابن عبد الله بن أبي طلحة فتقدمت قريبا وأما رواية شعيب وهو ابن الحبحاب بمهملتين مفتوحتين وموحدتين الأولى ساكنة فرويناها موصولة في ‏"‏ كتاب الروح لأبي عبد الله بن منده ‏"‏ من طريق عبد الوارث بن سعيد وفي الجزء الرابع من فوائد أبي جعفر محمد بن عمرو الرزاز من طريق سعيد بن زيد كلاهما عن شعيب ولفظه مثل حميد وأشار الدار قطني إلى أن الطريقين صحيحان‏.‏

الحديث الرابع، حديث أبي هريرة من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عنه ولفظه مثل قتادة، وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه فزاد في أوله أن التي للتأكيد، وأخرجه من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ أبي سعيد آخر أحاديث الباب، ومن طريق أبي سلمة ومن طريق همام كلاهما عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ رؤيا الرجل الصالح ‏"‏ بدل لفظ المؤمن‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد من رواية ابن أبي حازم والدراوردي واسم كل منهما عبد العزيز واسم أبي حازم سلمة بن دينار واسم والد الدراوردي محمد بن عبيد ويزيد شيخهما هو المعروف بابن الهاد والسند كله مدنيون ولفظ المتن مثل الترجمة كما تقدم‏.‏

قوله ‏(‏من النبوة‏)‏ قال بعض الشراح كذا هو في جميع الطرق وليس في شيء منها بلفظ ‏"‏ من الرسالة ‏"‏ بدل ‏"‏ من النبوة ‏"‏ قال وكأن السر فيه أن الرسالة تزيد على النبوة بتبليغ الأحكام للمكلفين بخلاف النبوة المجردة فإنها اطلاع على بعض المغيبات وقد يقرر بعض الأنبياء شريعة من قبله ولكن لا يأتي بحكم جديد مخالف لمن قبله، فيؤخذ من ذلك ترجيح القول بأن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأمره بحكم يخالف حكم الشرع المستقر في الظاهر أنه لا يكون مشروعا في حقه ولا في حق غيره حتى يجب عليه تبليغه وسيأتي بسط هذه المسألة في الكلام على حديث ‏"‏ من رآني في المنام فقد رآني ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب الْمُبَشِّرَاتِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب المبشرات‏)‏ بكسر الشين المعجمة جمع مبشرة وهي البشرى، وقد ورد في قوله تعالى ‏(‏لهم البشرى في الحياة الدنيا‏)‏ هي الرؤيا الصالحة، أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبادة بن الصامت ورواته ثقات إلا أن أبا سلمة لم يسمعه من عبادة، وأخرجه الترمذي أيضا من وجه آخر عن أبي سلمة قال‏:‏ ‏"‏ نبئت عن عبادة ‏"‏ وأخرجه أيضا هو وأحمد وإسحاق وأبو يعلى من طريق عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر عن عبادة، وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أن هذا الرجل ليس بمعروف، وأخرجه ابن مردويه من حديث ابن مسعود قال‏:‏ ‏"‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكر مثله، وفي الباب عن جابر عند البزار وعن أبي هريرة عند الطبري وعن عبد الله بن عمرو عند أبي يعلى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَمْ يَبْقَ مِنْ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ قَالُوا وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ قَالَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏لم يبق من النبوة إلا المبشرات‏)‏ كذا ذكره باللفظ الدال على المضي تحقيقا لوقوعه والمراد الاستقبال أي لا يبقى، وقيل هو على ظاهره لأنه قال ذلك في زمانه واللام في النبوة للعهد والمراد نبوته، والمعنى لم يبق بعد النبوة المختصة بي إلا المبشرات، ثم فسرها بالرؤيا، وصرح به في حديث عائشة عند أحمد بلفظ ‏"‏ لم يبق بعدي ‏"‏ وقد جاء في حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في مرض موته أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن أبيه عن ابن عباس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف الستارة ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه والناس صفوف خلف أبي بكر فقال‏:‏ يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ‏"‏ الحديث، وللنسائي من رواية زفر بن صعصعة عن أبي هريرة رفعه أنه ‏"‏ ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة ‏"‏ وهذا يؤيد التأويل الأول، وظاهر الاستثناء مع ما تقدم من أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة أن الرؤيا نبوة وليس كذلك لما تقدم أن المراد تشبيه أمر الرؤيا بالنبوة، أو لأن جزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه له كمن قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، رافعا صوته لا يسمى مؤذنا ولا يقال إنه أذن وإن كانت جزءا من الأذان، وكذا لو قرأ شيئا من القرآن وهو قائم لا يسمى مصليا وإن كانت القراءة جزءا من الصلاة، ويؤيده حديث أم كرز بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي الكعبية قالت‏:‏ ‏"‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ذهبت النبوة وبقيت المبشرات ‏"‏ أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان، ولأحمد عن عائشة مرفوعا ‏"‏ لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا ‏"‏ وله وللطبراني من حديث حذيفة بن أسيد مرفوعا ‏"‏ ذهبت النبوة وبقيت المبشرات ‏"‏ ولأبي يعلى من حديث أنس رفعه ‏"‏ إن الرسالة والنبوة قد انقطعت ولا نبي ولا رسول بعدي ولكن بقيت المبشرات، قالوا‏:‏ وما المبشرات‏؟‏ قال‏:‏ رؤيا المسلمين جزء من أجزاء النبوة ‏"‏ قال المهلب ما حاصله‏:‏ التعبير بالمبشرات خرج للأغلب، فإن من الرؤيا ما تكون منذرة وهي صادقة يريها الله للمؤمن رفقا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ معنى الحديث أن الوحي ينقطع بموتي ولا يبقى ما يعلم منه ما سيكون إلا الرؤيا، ويرد عليه الإلهام فإن فيه إخبارا بما سيكون، وهو للأنبياء بالنسبة للوحي كالرؤيا، ويقع لغير الأنبياء كما في الحديث الماضي في مناقب عمر ‏"‏ قد كان فيمن مضى من الأمم محدثون ‏"‏ وفسر المحدث بفتح الدال بالملهم بالفتح أيضا، وقد أخبر كثير من الأولياء عن أمور مغيبة فكانت كما أخبروا، والجواب أن الحصر في المنام لكونه يشمل آحاد المؤمنين بخلاف الإلهام فإنه مختص بالبعض، ومع كونه مختصا فإنه نادر، فإنما ذكر المنام لشموله وكثرة وقوعه، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فإن يكن ‏"‏ وكان السر في ندور الإلهام في زمنه وكثرته من بعده غلبة الوحي إليه صلى الله عليه وسلم في اليقظة وإرادة إظهار المعجزات منه، فكان المناسب أن لا يقع لغيره منه في زمانه شيء، فلما انقطع الوحي بموته وقع الإلهام لمن اختصه الله به للأمن من اللبس في ذلك، وفي إنكار وقوع ذلك مع كثرته واشتهاره مكابرة ممن أنكره‏.‏

*3*باب رُؤْيَا يُوسُفَ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَقَوْلِهِ تَعَالَى يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ فَاطِرٌ وَالْبَدِيعُ وَالْمُبْدِعُ وَالْبَارِئُ وَالْخَالِقُ وَاحِدٌ مِنْ الْبَدْوِ بَادِيَةٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب رؤيا يوسف‏)‏ كذا لهم، ووقع للنسفي ‏"‏ يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ‏"‏ وقوله عز وجل ‏(‏إذا قال يوسف لأبيه‏)‏ فساق إلى ‏(‏ساجدين‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ إلى قوله عليم حكيم ‏"‏ كذا لأبي ذر والنسفي، وساق في رواية كريمة الآيات كلها‏.‏

قوله ‏(‏وقوله تعالى‏:‏ وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا - إلى قوله - وألحقني بالصالحين‏)‏ كذا لأبي ذر والنسفي أيضا‏.‏

وساق في رواية كريمة الآيتين، والمراد أن معنى قوله ‏(‏تأويل رؤياي‏)‏ أي التي تقدم ذكرها وهي رؤية الكواكب والشمس والقمر ساجدين له، فلما وصل أبواه وإخوته إلى مصر ودخلوا عليه وهو في مرتبة الملك وسجدوا له وكان ذلك مباحا في شريعتهم فكان التأويل في الساجدين وكونها حقا في السجود، وقيل التأويل وقع أيضا في السجود ولم يقع منهم السجود حقيقة وإنما هو كناية عن الخضوع، والأول هو المعتمد‏.‏

وقد أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن قتادة في قوله ‏(‏وخروا له سجدا‏)‏ قال ‏"‏ كانت تحية من قبلكم، فأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ وكانت تحية الناس يومئذ أن يسجد بعضهم لبعض ‏"‏ ومن طريق ابن إسحاق والثوري وابن جريج وغيرهم نحو ذلك، قال الطبري‏:‏ أرادوا أن ذلك كان بينهم لا على وجه العبادة بل الإكرام، واختلف في المدة التي كانت بين الرؤيا وتفسيرها، فأخرج الطبري والحاكم والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن سلمان الفارسي قال ‏"‏ كان بين رؤيا يوسف وعبارتها أربعون عاما ‏"‏ وذكر البيهقي له شاهدا عن عبد الله بن شداد وزاد ‏"‏ وإليها ينتهي أمد الرؤيا ‏"‏ وأخرج الطبري من طريق الحسن البصري قال‏:‏ كانت مدة المفارقة بين يعقوب ويوسف ثمانين سنة وفي لفظ ثلاثا وثمانين سنة، ومن طريق قتادة خمسا وثلاثين سنة، ونقل الثعلبي عن ابن مسعود تسعين سنة، وعن الكلبي اثنتين وعشرين سنة قال وقيل سبعا وسبعين، ونقل ابن إسحاق قولا أنها كانت ثمانية عشر عاما والأول أقوى والعلم عند الله‏.‏

قوله ‏(‏قال أبو عبد الله‏)‏ هو المصنف، وسقط هذا وما بعده إلى آخر الباب للنسفي‏.‏

قوله ‏(‏فاطر والبديع والمبدع والبارئ والخالق واحد‏)‏ كذا لبعضهم البارئ بالراء، ولأبي ذر والأكثر البادئ بالدال بدل الراء والهمز ثابت فيهما، وزعم بعض الشراح أن الصواب بالراء وأن رواية الدال وهم، وليس كما قال فقد وردت في بعض طرق الأسماء الحسنى كما تقدم في الدعوات، وفي الأسماء الحسنى أيضا المبدئ‏.‏

وقد وقع في العنكبوت ما يشهد لكل منهما في قوله ‏(‏أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده - ثم قال - فانظروا كيف بدأ الخلق‏)‏ فالأول من الرباعي واسم الفاعل منه مبدئ والثاني من الثلاثي واسم الفاعل منه بادئ وهما لغتان مشهورتان، وإنما ذكر البخاري هذا استطرادا من قوله في الآيتين المذكورتين ‏(‏فاطر السماوات والأرض‏)‏ فأراد تفسير الفاطر، وزعم بعض الشراح أن دعوى البخاري في ذلك الوحدة ممنوعة عند المحققين، كذا قال، ولم يرد البخاري بذلك أن حقائق معانيها متوحدة وإنما أراد أنها ترجع إلى معنى واحد وهو إيجاد الشيء بعد أن لم يكن، وقد ذكرت قول الفراء أن فطر وخلق وفلق بمعنى واحد قبل ‏"‏ باب رؤيا الصالحين‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال أبو عبد الله‏:‏ من البدء وبادئه‏)‏ كذا وجدته مضبوطا في الأصل بالهمز في الموضعين وبواو العطف لأبي ذر، فإن كان محفوظا ترجحت رواية الدال من قوله والبادئ، ولغير أبي ذر ‏"‏ من البدو وبادية ‏"‏ بالواو بدل الهمز وبغير همز في بادية وبهاء تأنيث، وهو أولى لأنه يريد تفسير قوله في الآية المذكورة ‏(‏وجاء بكم من البدو‏)‏ ففسرها بقوله بادية أي جاء بكم من البادية، وذكره الكرماني فقال‏:‏ قوله من البدو أي قوله ‏(‏وجاء بكم من البدو‏)‏ أي من البادية، ويحتمل أن يكون مقصوده أن فاطر معناه البادئ من البدء أي الابتداء أي بادئ الخلق، فمعنى فاطر بادئ والله أعلم‏.‏

*3*باب رُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قَالَ مُجَاهِدٌ أَسْلَمَا سَلَّمَا مَا أُمِرَا بِهِ وَتَلَّهُ وَضَعَ وَجْهَهُ بِالْأَرْضِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب رؤيا إبراهيم عليه السلام‏)‏ كذا لأبي ذر، وسقط لفظ باب لغيره‏.‏

قوله ‏(‏وقوله عز وجل‏:‏ فلما بلغ معه السعي - إلى قوله - نجزي المحسنين‏)‏ كذا لأبي ذر وسقط للنسفي، وساق في رواية كريمة الآيات كلها‏.‏

قيل كان إبراهيم نذر إن رزقه الله من سارة ولدا أن يذبحه قربانا فرأى في المنام أن أوف بنذرك أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي قال‏:‏ فقال إبراهيم لإسحاق انطلق بنا نقرب قربانا وأخذ حبلا وسكينا ثم انطلق به حتى إذا كان بين الجبال قال‏:‏ يا أبت أين قربانك‏؟‏ قال‏:‏ أنت يا بني، إني أرى في المنام أني أذبحك الآيات، فقال‏:‏ اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي فتراه سارة فتحزن، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي، ففعل ذلك إبراهيم وهو يبكي وأمر السكين على حلقه فلم تحز وضرب الله على حلقه صفيحة من نحاس فكبه على جبينه وحز في قفاه، فذاك قوله ‏(‏فلما أسلما وتله للجبين ونودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا‏)‏ فالتفت فإذا هو بكبش فأخذه وحل عن ابنه، هكذا ذكره السدي ولعله أخذه عن بعض أهل الكتاب، فقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح أيضا عن الزهري عن القاسم قال‏:‏ اجتمع أبو هريرة وكعب فحدث أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لكل نبي دعوة مستجابة، فقال كعب‏:‏ أفلا أخبرك عن إبراهيم‏؟‏ لما رأى أنه يذبح ابنه إسحاق قال الشيطان إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدا، فذهب إلى سارة فقال‏:‏ أين ذهب إبراهيم بابنك‏؟‏ قالت‏:‏ في حاجته، قال‏:‏ كلا إنه ذهب به ليذبحه يزعم أن ربه أمره بذلك، فقالت‏:‏ أخشى أن لا يطيع ربه، فجاء إلى إسحاق فأجابه بنحوه، فواجه إبراهيم فلم يلتفت إليه، فأيس أن يطيعوه‏.‏

وساق نحوه من طريق سعيد عن قتادة وزاد‏:‏ أنه سد على إبراهيم الطريق إلى المنحر، فأمره جبريل أن يرميه بسبع حصيات عند كل جمرة، وكأن قتادة أخذ أوله عن بعض أهل الكتاب وآخره مما جاء عن ابن عباس وهو عند أحمد من طريق أبي الطفيل عنه قال‏:‏ إن إبراهيم لما رأى المناسك عرض له إبليس عند المسعى فسبقه إبراهيم فذهب به جبريل إلى العقبة فعرض له إبليس فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، وكان على إسماعيل قميص أبيض، وتم تله للجبين فقال‏:‏ يا أبت إنه ليس لي قميص تكفنني فيه غيره فاخلعه، فنودي من خلفه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، فالتفت فإذا هو بكبش أبيض أقرن أعين فذبحه‏.‏

وأخرج ابن إسحاق في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ عن ابن عباس نحوه وزاد‏:‏ فوالذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة‏.‏

وأخرجه أحمد أيضا عن عثمان بن أبي طلحة قال ‏"‏ أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فواريت قرني الكبش حين دخل البيت‏"‏‏.‏

وهذه الآثار من أقوى الحجج لمن قال إن الذبيح إسماعيل، وقد نقل ابن أبي حاتم وغيره عن العباس وابن مسعود وعن علي وابن عباس في إحدى الروايتين عنهما وعن الأحنف عن ابن ميسرة وزيد بن أسلم ومسروق وسعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه وعطاء والشعبي وكعب الأحبار أن الذبيح إسحاق، وعن ابن عباس في أشهر الروايتين عنه وعن علي في إحدى الروايتين وعن أبي هريرة ومعاوية وابن عمر وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والشعبي في إحدى الروايتين عنهما ومجاهد والحسن ومحمد بن كعب وأبي جعفر الباقر وأبي صالح والربيع بن أنس وأبي عمرو بن العلاء وعمر بن عبد العزيز وابن إسحاق أن الذبيح إسماعيل، ويؤيده ما تقدم وحديث ‏"‏ أنا ابن الذبيحين ‏"‏ رويناه في ‏"‏ الخلعيات ‏"‏ من حديث معاوية، ونقله عبد الله بن أحمد عن أبيه وابن أبي حاتم عن أبيه وأطنب ابن القيم في الهدي في الاستدلال لتقويته، وقرأت بخط الشيخ تقي الدين السبكي أنه استنبط من القرآن دليلا وهو قوله في الصافات ‏(‏وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين - إلى قوله - إني أرى في المنام أني أذبحك‏)‏ وقوله في هود ‏(‏وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق - إلى قوله - وهذا بعلي شيخا‏)‏ قال‏:‏ ووجه الأخذ منهما أن سياقهما يدل على أنهما قصتان مختلفتان في وقتين الأولى عن طلب من إبراهيم وهو لما هاجر من بلاد قومه في ابتداء أمره فسأل من ربه الولد ‏(‏فبشره بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك‏)‏ والقصة الثانية بعد ذلك بدهر طويل لما شاخ واستبعد من مثله أن يجيء له الولد وجاءته الملائكة عندما أمروا بإهلاك قوم لوط فبشروه بإسحاق، فتعين أن يكون الأول إسماعيل ويؤيده أن في التوراة أن إسماعيل بكره وأنه ولد قبل إسحاق‏.‏

قلت‏:‏ وهو استدلال جيد وقد كنت أستحسنه وأحتج به إلى أن مر بي قوله في سورة إبراهيم ‏(‏الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق‏)‏ فإنه يعكر على قوله إنه رزق إسماعيل في ابتداء أمره وقوته لأن هاجر والدة إسماعيل صارت لسارة من قبل الجبار الذي وهبها لها وإنها وهبتها لإبراهيم لما يئست من الولد فولدت هاجر إسماعيل فغارت سارة منها كما تقدمت الإشارة إليه في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء وولدت بعد ذلك إسحاق واستمرت غيرة سارة إلى أن كان من إخراجها وولدها إلى مكة ما كان، وقد ذكره ابن إسحاق في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ مفصلا، وأخرجه الطبري في تاريخه من طريقه‏.‏

وأخرج الطبري من طريق السدي قال‏:‏ انطلق إبراهيم من بلاد قومه قبل الشام فلقي سارة وهي بنت ملك حران فآمنت به فتزوجها، فلما قدم مصر وهبها الجبار هاجر ووهبتها له سارة وكانت سارة منعت الولد وكان إبراهيم قد دعا الله أن يهب له ولدا من الصالحين فأخرت الدعوة حتى كبر فلما علمت سارة أن إبراهيم وقع على هاجر حزنت على ما فاتها من الولد‏.‏

ثم ذكر قصة مجيء الملائكة بسبب إهلاك قوم لوط وتبشيرهم إبراهيم بإسحاق فلذلك قال إبراهيم ‏(‏الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق‏)‏ ويقال لم يكن بينهما إلا ثلاث سنين، وقيل كان بينهما أربع عشرة سنة، وما تقدم من كون قصة الذبيح كانت بمكة حجة قوية في أن الذبيح إسماعيل لأن سارة وإسحاق لم يكونا بمكة والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏وقال مجاهد‏:‏ أسلما سلما ما أمرا به، وتله‏:‏ وضع وجهه بالأرض‏)‏ قال الفريابي في تفسيره‏:‏ حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى ‏(‏فلما أسلما‏)‏ قال سلما ما أمرا به‏.‏

وفي قوله ‏(‏وتله للجبين‏)‏ قال‏:‏ وضع وجهه بالأرض قال‏:‏ لا تذبحني وأنت تنظر في وجهي لئلا ترحمني، فوضع جبهته في الأرض‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي قال ‏(‏فلما أسلما‏)‏ أي سلما لله الأمر، ومن طريق أبي صالح قال‏:‏ اتفقا على أمر واحد، ومن طريق قتادة سلم إبراهيم لأمر الله وسلم إسحاق لأمر إبراهيم، وفي لفظ‏:‏ أما هذا فأسلم نفسه لله وأما هذا فأسلم ابنه لله، ومن طريق أبي عمران الجوني‏:‏ تله للجبين كبه لوجهه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ هذه الترجمة والتي قبلها ليس في واحد منهما حديث مسند، بل اكتفى فيهما بالقرآن، ولهما نظائر‏.‏

وقول الكرماني إنه كان في كل منهما بياض ليلحق به حديث يناسبه محتمل مع بعده‏.‏

*3*باب التَّوَاطُؤِ عَلَى الرُّؤْيَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب التواطؤ على الرؤيا‏)‏ أي توافق جماعة على شيء واحد ولو اختلفت عباراتهم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أُنَاسًا أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ وَأَنَّ أُنَاسًا أُرُوا أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أن أناسا أروا ليلة القدر في السبع الأواخر أن أناسا‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ ناسا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أروها في العشر الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ التمسوها في السبع الأواخر‏)‏ كذا وقع في هذه الرواية من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، وتقدم في أواخر الصيام من طريق مالك عن نافع مثله لكن لفظه ‏"‏ أرى رؤياكم تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها ‏"‏ الحديث، ولم يذكر الجملة الوسطى، واعترضه الإسماعيلي فقال‏:‏ اللفظ الذي ساقه خلاف التواطؤ، وحديث التواطؤ ‏"‏ أرى رؤياكم قد تواطأت على العشر الأواخر‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ لم يلتزم البخاري إيراد الحديث بلفظ التواطؤ وإنما أراد بالتواطؤ التوافق وهو أعم من أن يكون الحديث بلفظه أو بمعناه، وذلك أن أفراد السبع داخلة في أفراد العشر، فلما رأى قوم أنها في العشر وقوم أنها في السبع كانوا كأنهم توافقوا على السبع فأمرهم بالتماسها في السبع لتوافق الطائفتين عليها، ولأنه أيسر عليهم فجرى البخاري على عادته في إيثار الأخفى على الأجلى، والحديث الذي أشار إليه تقدم في كتاب قيام الليل من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال ‏"‏ رأيت كأن بيدي قطعة استبرق الحديث ‏"‏ وفيه ‏"‏ وكانوا لا يزالون يقصون على النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا ‏"‏ وفيه ‏"‏ أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر ‏"‏ الحديث، ويستفاد من الحديث أن توافق جماعة على رؤيا واحدة دال على صدقها وصحتها كما تستفاد قوة الخبر من التوارد على الأخبار من جماعة‏.‏

*3*باب رُؤْيَا أَهْلِ السُّجُونِ وَالْفَسَادِ وَالشِّرْكِ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ وَقَالَ الْفُضَيْلُ عِنْدَ قَوْلِهِ يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأْبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ وَادَّكَرَ افْتَعَلَ مِنْ ذَكَرَ أُمَّةٍ قَرْنٍ وَتُقْرَأُ أَمَهٍ نِسْيَانٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَعْصِرُونَ الْأَعْنَابَ وَالدُّهْنَ تُحْصِنُونَ تَحْرُسُونَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب رؤيا أهل السجون والفساد والشرك‏)‏ تقدمت الإشارة إلى أن الرؤيا الصحيحة وإن اختصت غالبا بأهل الصلاح لكن قد تقع لغيرهم، ووقع في رواية أبي ذر بدل الشرك ‏"‏ الشراب ‏"‏ بضم المعجمة والتشديد جمع شارب، أو بفتحتين مخففا أي وأهل الشراب والمراد شربة المحرم، وعطفه على أهل الفساد من عطف الخاص على العام كما أن المسجون أعم من أن يكون مفسدا أو مصلحا، قال أهل العلم بالتعبير‏:‏ إذا رأى الكافر أو الفاسق الرؤيا الصالحة فإنها تكون بشرى له بهدايته إلى الإيمان مثلا أو التوبة أو إنذار من بقائه على الكفر أو الفسق، وقد تكون لغيره ممن ينسب إليه من أهل الفضل، وقد يرى ما يدل على الرضا بما هو فيه ويكون من جملة الابتلاء والغرور والمكر ونعوذ بالله من ذلك‏.‏

قوله ‏(‏وقوله تعالى‏:‏ ودخل معه السجن فتيان - إلى قوله - ارجع إلى ربك‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة الآيات كلها وهي ثلاث عشرة آية، قال السهيلي‏:‏ اسم أحدهما شرهم والآخر شرهم كل منهما بمعجمة إحداهما مفتوحة والأخرى مضمومة، قال وقال الطبري‏:‏ الذي رأى أنه يعصر خمرا اسمه نبوء، وذكر اسم الآخر فلم أحفظه‏.‏

قلت‏:‏ سماه مخلث بمعجمة ومثلثة وعزاه لابن إسحاق في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ وبه جزم الثعلبي، وذكر أبو عبيد البكري في كتاب ‏"‏ المسالك ‏"‏ إن اسم الخباز واشان والساقي مرطس، وحكوا أن الملك اتهمهما أنهما أرادا سمه في الطعام والشراب فحبسهما إلى أن ظهرت براءة ساحة الساقي دون الخباز، ويقال إنهما لم يريا شيئا وإنما أرادا امتحان يوسف، فأخرج الطبري عن ابن مسعود قال‏:‏ لم يريا شيئا وإنما تحاكما ليجربا، وفي سنده ضعف‏.‏

وأخرج الحاكم بسند صحيح عن ابن مسعود نحوه وزاد‏:‏ فلما ذكر لهما التأويل قالا إنما كنا نلعب، قال‏:‏ قضي الأمر الآية‏.‏

قوله ‏(‏وقال الفضيل إلخ‏)‏ وقع لأبي ذر بعد قوله ‏(‏ارجع إلى ربك‏)‏ وعند كريمة عند قوله ‏(‏أأرباب متفرقون‏)‏ وهو الأليق، وعند غيرهما بعد قوله ‏"‏ الأعناب ‏"‏ والدهن‏.‏

قوله ‏(‏وادكر افتعل من ذكرت‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ من ذكر ‏"‏ وهو من كلام أبي عبيدة قال‏:‏ ادكر بعد أمة افتعل من ذكرت فأدغمت التاء في الذال فحولت دالا يعني مهملة ثقيلة‏.‏

قوله ‏(‏بعد أمة قرن‏)‏ هو قول أبي عبيدة قاله في تفسير آل عمران‏.‏

وقال في تفسير يوسف ‏"‏ بعد حين ‏"‏ وأخرجه الطبري بسند جيد عن ابن عباس مثله، ومن طريق سماك عن عكرمة قال ‏"‏ بعد حقبة من الدهر ‏"‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ‏"‏ بعد سنين‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ويقرأ أمه‏)‏ بفتح أوله وميم بعدها هاء منونة نسيان، أي تذكر بعد أن كان نسي، وهذه القراءة نسبت في الشواذ لابن عباس وعكرمة والضحاك، يقال رجل مأموه أي ذاهب العقل، قال أبو عبيدة‏:‏ قرئ بعد أمه أي نسيان، تقول أمهت آمه أمها بسكون الميم قال الشاعر‏:‏ أمهت وكنت لا أنسى حديثا وقال الطبري‏:‏ روي عن جماعة أنهم قرءوا ‏"‏ بعد أمه ‏"‏ ثم ساق بسند صحيح عن ابن عباس أنه كان يقرؤها ‏"‏ بعد أمه ‏"‏ وتفسيرها بعد نسيان، وساق مثله عن عكرمة والضحاك، ومن طريق مجاهد نحوه لكن قالها بسكون الميم‏.‏

قوله ‏(‏وقال ابن عباس يعصرون الأعناب والدهن‏)‏ وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ‏(‏ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون‏)‏ يقول الأعناب والدهن، وفيه رد على أبي عبيدة في قوله إنه من العصرة وهي النجاة فمعنى قوله يعصرون ينجون، ويؤيد قول ابن عباس قوله في أول القصة ‏(‏إني أراني أعصر خمرا‏)‏ وقد اختلف في المراد به فقال الأكثر‏:‏ أطلق عصر الخمر باعتبار ما يئول إليه وهو كقول الشاعر‏:‏ الحمد لله العلي المنان صار الثريد في رءوس القضبان أي السنبل، فسمي القمح ثريدا باعتبار ما يئول إليه‏.‏

وأخرج الطبري عن الضحاك قال‏:‏ أهل عمان يسمون العنب خمرا‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ سمعت معتمر بن سليمان يقول‏:‏ لقيت أعرابيا معه سلة عنب فقلت ما معك‏؟‏ قال خمر، وقرأ ابن مسعود ‏"‏ إني أراني أعصر عنبا ‏"‏ أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن، وكأنه أراد التفسير‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة أن الساقي قال ليوسف‏:‏ رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبة فنبتت فخرج فيها ثلاث عناقيد فعصرتهن ثم سقيت الملك، فقال‏:‏ تمكث في السجن ثلاثا ثم تخرج فتسقيه أي على عادتك‏.‏

قوله ‏(‏تحصنون تحرسون‏)‏ كذا لهم من الحراسة، وعند أبي عبيدة في ‏"‏ المجاز ‏"‏ تحرزون بزاي بدل السين من الإحراز‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس تخزنون بخاء معجمة ثم زاي ونونين من الخزن‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَأَبَا عُبَيْدٍ أَخْبَرَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ ثُمَّ أَتَانِي الدَّاعِي لَأَجَبْتُهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏جويرية‏)‏ بالضم مصغر وهو ابن إسماعيل الضبعي وروايته عن مالك من الأقران‏.‏ قوله ‏(‏لو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته‏)‏ كذا أورده مختصرا، وقد تقدم ترجمة يوسف من أحاديث الأنبياء من هذا الوجه وزاد فيه قصة لوط، وتقدم شرحه في أحاديث الأنبياء، وأخرجه النسائي في التفسير من هذا الوجه وزاد في أوله ‏"‏ نحن أحق بالشك من إبراهيم ‏"‏ الحديث، وأخرجه مسلم من هذا الوجه لكن قال‏:‏ مثل حديث يونس بن يزيد عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة بطوله، ومن طريق أبي أويس عن الزهري مثل مالك وأخرجه الدار قطني في ‏"‏ غرائب مالك ‏"‏ من طريق جويرية بطوله أخرجوه كلهم من رواية عبد الله بن محمد بن أسماء عن عمه جويرية بن أسماء، وذكر أن أحمد بن سعيد بن أبي مريم رواه عنه فقال ‏"‏ عن أبي سلمة ‏"‏ بدل أبي عبيد ووهم فيه فإن المحفوظ عن مالك أبو عبيد لا أبو سلمة، وكذلك أخرجه من طريق سعيد بن داود عن مالك أن ابن شهاب حدثه أن سعيدا وأبا عبيد أخبراه به، وقد وقع في بعض طرقه بأبسط من سياقه، فأخرج عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة رفعه ‏"‏ لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره حتى سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أجبت حتى أشترط أن يخرجوني، ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول - يعني ليخرج إلى الملك - فقال ارجع إلى ربك، ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة ولبادرت الباب ولما ابتغيت العذر، وهذا مرسل وقد وصله الطبري من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي بضم المعجمة والزاي عن عمرو بن دينار بذكر ابن عباس فيه فذكره وزاد ‏"‏ ولولا الكلمة التي قالها لما لبث في السجن ما لبث ‏"‏ وقد مضى شرح ما يتعلق بذلك في قصة يوسف من أحاديث الأنبياء‏.‏

*3*بَاب مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ إِذَا رَآهُ فِي صُورَتِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد‏.‏

قوله ‏(‏أن أبا هريرة قال‏)‏ في رواية الإسماعيلي من طريق الزبيدي عن الزهري ‏"‏ أخبرني أبو سلمة سمعت أبا هريرة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏من رآني في المنام فسيراني في اليقظة‏)‏ زاد مسلم من هذا الوجه ‏"‏ أو فكأنما رآني في اليقظة، هكذا بالشك ووقع عند الإسماعيلي في الطريق المذكورة ‏"‏ فقد رآني في اليقظة ‏"‏ بدل قوله ‏"‏ فسيراني ‏"‏ ومثله في حديث ابن مسعود عند ابن ماجه‏.‏

وصححه الترمذي وأبو عوانة ووقع عند ابن ماجه من حديث أبي جحيفة ‏"‏ فكأنما رآني في اليقظة ‏"‏ فهذه ثلاثة ألفاظ‏:‏ فسيراني في اليقظة، فكأنما رآني في اليقظة، فقد رآني في اليقظة وجل أحاديث الباب كالثالثة إلا قوله ‏"‏ في اليقظة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال أبو عبد الله قال ابن سيرين إذا رآه في صورته‏)‏ سقط هذا التعليق للنسفي ولأبي ذر وثبت عند غيرهما، وقد رويناه موصولا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سليمان بن حرب وهو من شيوخ البخاري عن حماد بن زيد عن أيوب قال ‏"‏ كان محمد - يعني ابن سيرين - إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ صف لي الذي رأيته، فإن وصف له صفة لا يعرفها قال‏:‏ لم تره وسنده صحيح‏.‏

ووجدت له ما يؤيده‏:‏ فأخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب ‏"‏ حدثني أبي قال‏:‏ قلت لابن عباس رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قال‏:‏ صفه لي، قال‏:‏ ذكرت الحسن بن علي فشبهته به، قال‏:‏ قد رأيته ‏"‏ وسنده جيد، ويعارضه ما أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أبي هريرة قال ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رآني في المنام فقد رآني، فإني أرى في كل صورة ‏"‏ وفي سنده صالح مولى التوأمة وهو ضعيف لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط، ويمكن الجمع بينهما بما قال القاضي أبو بكر ابن العربي‏:‏ رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإن الصواب أن الأنبياء لا تغيرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة وإدراك الصفات إدراك المثل، قال وشذ بعض القدرية فقال‏:‏ الرؤيا لا حقيقة لها أصلا وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعيني الرأس حقيقة‏.‏

وقال بعض المتكلمين‏:‏ هي مدركة بعينين في القلب قال وقوله ‏"‏ فسيراني ‏"‏ معناه فسيرى تفسير ما رأى لأنه حق وغيب ألقي فيه، وقيل معناه فسيراني في القيامة، ولا فائدة في هذا التخصيص، وأما قوله ‏"‏ فكأنما رآني ‏"‏ فهو تشبيه ومعناه أنه لو رآه في اليقظة لطابق ما رآه في المنام فيكون الأول حقا وحقيقة والثاني حقا وتمثيلا، قال‏:‏ وهذا كله إذا رآه على صورته المعروفة‏:‏ فإن رآه على خلاف صفته فهي أمثال، فإن رآه مقبلا عليه مثلا فهو خير للرائي وفيه وعلى العكس فبالعكس‏.‏

وقال النووي قال عياض‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بقوله فقد رآني أو فقد رأى الحق أن من رآه على صورته في حياته كانت رؤياه حقا، ومن رآه على غير صورته كانت رؤيا تأويل‏.‏

وتعقبه فقال‏:‏ هذا ضعيف بل الصحيح أنه يراه حقيقة سواء كانت على صفته المعروفة أو غيرها انتهى، ولم يظهر لي من كلام القاضي ما ينافي ذلك، بل ظاهر قوله أنه يراه حقيقة في الحالين‏.‏

لكن في الأولى تكون الرؤيا مما لا يحتاج إلى تعبير والثانية مما يحتاج إلى التعبير‏.‏

قال القرطبي‏:‏ اختلف في معنى الحديث فقال قوم هو على ظاهره فمن رآه في النوم رأى حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء، قال وهذا قول يدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره، وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل وقالت طائفة‏:‏ معناه أن من رآه رآه على صورته التي كان عليها، ويلزم منه أن من رآه على غير صفته أن تكون رؤياه من الأضغاث، ومن المعلوم أنه يرى في النوم على حالة تخالف حالته في الدنيا من الأحوال اللائقة به وتقع تلك الرؤيا حقا كما لو رئي ملأ دارا بجسمه مثلا فإنه يدل على امتلاء تلك الدار بالخير، ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشيء مما كان عليه أو ينسب إليه لعارض عموم قوله ‏"‏ فإن الشيطان لا يتمثل بي ‏"‏ فالأولى أن تنزه رؤياه وكذا رؤيا شيء منه أو مما ينسب إليه عن ذلك، فهو أبلغ في الحرمة وأليق بالعصمة كما عصم من الشيطان في يقظته، قال‏:‏ والصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة ليست باطلة ولا أضغاثا بل هي حق في نفسها ولو رئي على غير صورته فتصور تلك الصورة ليس من الشيطان بل هو من قبل الله وقال وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطيب وغيره، ويؤيده قوله ‏"‏ فقد رأى الحق ‏"‏ أي رأى الحق الذي قصد إعلام الرائي به فإن كانت على ظاهرها وإلا سعى في تأويلها ولا يهمل أمرها لأنها إما بشرى بخير أو إنذار من شر إما ليخيف الرائي وإما لينزجر عنه وإما لينبه على حكم يقع له في دينه أو دنياه‏.‏

وقال ابن بطال قوله ‏"‏ فسيراني في اليقظة ‏"‏ يريد تصديق تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها وخروجها على الحق، وليس المراد أنه يراه في الآخرة لأنه سيراه يوم القيامة في اليقظة فتراه جميع أمته من رآه في النوم ومن لم يره منهم‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ المراد من آمن به في حياته ولم يره لكونه حينئذ غائبا عنه فيكون بهذا مبشرا لكل من آمن به ولم يره أنه لا بد أن يراه في اليقظة قبل موته قاله القزاز‏.‏

وقال المازري‏:‏ إن كان المحفوظ ‏"‏ فكأنما رآني في اليقظة ‏"‏ فمعناه ظاهر وإن كان المحفوظ ‏"‏ فسيراني في اليقظة ‏"‏ احتمل أن يكون أراد أهل عصره ممن يهاجر إليه فإنه إذا رآه في المنام جعل علامة على أنه يراه بعد ذلك في اليقظة وأوحى الله بذلك إليه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال القاضي‏:‏ وقيل معناه سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها، وقيل معنى الرؤيا في اليقظة أنه سيراه في الآخرة وتعقب بأنه في الآخرة يراه جميع أمته من رآه في المنام ومن لم يره يعني فلا يبقى لخصوص رؤيته في المنام مزية، وأجاب القاضي عياض باحتمال أن تكون رؤياه له في النوم على الصفة التي عرف بها ووصف عليها موجبة لتكرمته في الآخرة وأن يراه رؤية خاصة من القرب منه والشفاعة له بعلو الدرجة ونحو ذلك من الخصوصيات، قال‏:‏ ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المذنبين في القيامة بمنع رؤية نبيه صلى الله عليه وسلم مدة‏.‏

وحمله ابن أبي جمرة على محمل آخر فذكر عن ابن عباس أو غيره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فبقي بعد أن استيقظ متفكرا في هذا الحديث فدخل على بعض أمهات المؤمنين ولعلها خالته ميمونة فأخرجت له المرآة التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فنظر فيها فرأى صورة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ير صورة نفسه، ونقل عن جماعة من الصالحين أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك‏.‏

قلت‏:‏ وهذا مشكل جدا ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويعكر عليه أن جمعا جما رأوه في المنام ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة وخبر الصادق لا يتخلف، وقد اشتد إنكار القرطبي على من قال من رآه في المنام فقد رأى حقيقته ثم يراها كذلك في اليقظة كما تقدم قريبا، وقد تفطن ابن أبي جمرة لهذا فأحال بما قال على كرامات الأولياء فإن يكن كذلك تعين العدول عن العموم في كل راء، ثم ذكر أنه عام في أهل التوفيق وأما غيرهم فعلى الاحتمال، فإن خرق العادة قد يقع للزنديق بطريق الإملاء والإغواء كما يقع للصديق بطريق الكرامة والإكرام، وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة انتهى‏.‏

والحاصل من الأجوبة ستة‏:‏ أحدها أنه على التشبيه والتمثيل، ودل عليه قوله في الرواية الأخرى ‏"‏ فكأنما رآني في اليقظة‏"‏‏.‏

ثانيها أن معناها سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة أو التعبير، ثالثها أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه رابعها أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذلك، وهذا من أبعد المحامل‏.‏

خامسها أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية لا مطلق من يراه حينئذ ممن لم يره في المنام‏.‏

سادسها أنه يراه في الدنيا حقيقة ويخاطبه، وفيه ما تقدم من الإشكال‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ قد تقرر أن الذي يرى في المنام أمثلة للمرئيات لا أنفسها، غير أن تلك الأمثلة تارة تقع مطابقة وتارة يقع معناها، فمن الأول رؤياه صلى الله عليه وسلم عائشة وفيه ‏"‏ فإذا هي أنت ‏"‏ فأخبر أنه رأى في اليقظة ما رآه في نومه بعينه ومن الثاني رؤيا البقر التي تنحر والمقصود بالثاني التنبيه على معاني تلك الأمور ومن فوائد رؤيته صلى الله عليه وسلم تسكين شوق الرائي لكونه صادقا في محبته ليعمل على مشاهدته، وإلى ذلك الإشارة بقوله ‏"‏ فسيراني في اليقظة ‏"‏ أي من رآني رؤية معظم لحرمتي ومشتاق إلى مشاهدتي وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بكل مطلوبه، قال‏:‏ ويجوز أن يكون مقصود تلك الرؤيا معنى صورته وهو دينه وشريعته، فيعبر بحسب ما يراه الرائي من زيادة ونقصان أو إساءة وإحسان‏.‏

قلت‏:‏ وهذا جواب سابغ والذي قبله لم يظهر لي فإن ظهر فهو ثامن‏.‏

قوله ‏(‏ولا يتمثل الشيطان بي‏)‏ في رواية أنس في الحديث الذي بعده ‏"‏ فإن الشيطان لا يتمثل بي ‏"‏ ومضى في كتاب العلم من حديث أبي هريرة مثله لكن قال ‏"‏ لا يتمثل في صورتي ‏"‏ وفي حديث جابر عند مسلم وابن ماجه ‏"‏ إنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل بي ‏"‏ وفي حديث ابن مسعود عند الترمذي وابن ماجه ‏"‏ إن الشيطان لا يستطيع أن يتمثل بي ‏"‏ وفي حديث أبي قتادة الذي يليه ‏"‏ وإن الشيطان لا يتراءى ‏"‏ بالراء بوزن يتعاطى، ومعناه لا يستطيع أن يصير مرئيا بصورتي‏.‏

وفي رواية غير أبي ذر ‏"‏ يتزايا ‏"‏ بزاي وبعد الألف تحتانية، وفي حديث أبي سعيد في آخر الباب ‏"‏ فإن الشيطان لا يتكونني ‏"‏ أما قوله ‏"‏ لا يتمثل بي ‏"‏ فمعناه ‏"‏ لا يتشبه بي ‏"‏ وأما قوله ‏"‏ في صورتي ‏"‏ فمعناه لا يصير كائنا في مثل صورتي، وأما قوله ‏"‏ لا يتراءى بي ‏"‏ فرجح بعض الشراح رواية الزاي عليها أي لا يظهر في زيي، وليست الرواية الأخرى ببعيدة من هذا المعنى، وأما قوله ‏"‏ لا يتكونني ‏"‏ أي لا يتكون كوني فحذف المضاف ووصل المضاف إليه بالفعل، والمعنى لا يتكون في صورتي، فالجميع راجع إلى معنى واحد، وقوله ‏"‏لا يستطيع ‏"‏ يشير إلى أن الله تعالى وإن أمكنه من التصور في أي صورة أراد فإنه لم يمكنه من التصور في صورة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب إلى هذا جماعة فقالوا في الحديث‏:‏ إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان عليها، ومنهم من ضيق الغرض في ذلك حتى قال‏:‏ لا بد أن يراه على صورته التي قبض عليها حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة، والصواب التعميم في جميع حالاته بشرط أن تكون صورته الحقيقية في وقت ما سواء كان في شبابه أو رجوليته أو كهوليته أو آخر عمره، وقد يكون لما خالف ذلك تعبير يتعلق بالرائي قال المازري‏:‏ اختلف المحققون في تأويل هذا الحديث فذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن المراد بقوله ‏"‏ من رآني في المنام فقد رآني ‏"‏ أن رؤياه صحيحة لا تكون أضغاثا ولا من تشبيهات الشيطان، قال‏:‏ ويعضده قوله في بعض طرقه ‏"‏ فقد رأى الحق ‏"‏ قال وفي قوله ‏"‏ فإن الشيطان لا يتمثل بي ‏"‏ إشارة إلى أن رؤياه لا تكون أضغاثا‏.‏

ثم قال المازري‏:‏ وقال آخرون بل الحديث محمول على ظاهره والمراد أن من رآه فقد أدركه ولا مانع يمنع من ذلك ولا عقل يحيله حتى يحتاج إلى صرف الكلام عن ظاهره، وأما كونه قد يرى على غير صفته أو يرى في مكانين مختلفين معا فإن ذلك غلط في صفته وتخيل لها على غير ما هي عليه، وقد يظن بعض الخيالات مرئيات لكون ما يتخيل مرتبطا بما يرى في العادة فتكون ذاته صلى الله عليه وسلم مرئية وصفاته متخيلة غير مرئية، والإدراك لا يشترط فيه تحديق البصر ولا قرب المسافة ولا كون المرئي ظاهرا على الأرض أو مدفونا، وإنما يشترط كونه موجودا، ولم يقم دليل على فناء جسمه صلى الله عليه وسلم، بل جاء في الخبر الصحيح ما يدل على بقائه وتكون ثمرة اختلاف الصفات اختلاف الدلالات كما قال بعض علماء التعبير إن من رآه شيخا فهو عام سلم أو شابا فهو عام حرب، ويؤخذ من ذلك ما يتعلق بأقواله كما لو رآه أحد يأمره بقتل من لا يحل قتله فإن ذلك يجمل على الصفة المتخيلة لا المرئية‏.‏

وقال القاضي عياض‏:‏ يحتمل أن يكون معنى الحديث إذا رآه على الصفة التي كان عليها في حياته لا على صفة مضادة لحاله، فإن رئي على غيرها كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقة، فإن من الرؤيا ما يخرج على وجهه ومنها ما يحتاج إلى تأويل‏.‏

وقال النووي‏:‏ هذا الذي قاله القاضي ضعيف، بل الصحيح أنه يراه حقيقة سواء كانت على صفته المعروفة أو غيرها كما ذكره المازري، وهذا الذي رده الشيخ تقدم عن محمد بن سيرين إمام المعبرين اعتباره، والذي قاله القاضي توسط حسن، ويمكن الجمع بينه وبين ما قاله المازري بأن تكون رؤياه على الحالين حقيقة لكن إذا كان على صورته كأن يرى في المنام على ظاهره لا يحتاج إلى تعبير وإذا كان على غير صورته كان النقص من جهة الرائي لتخيله الصفة على غير ما هي عليه ويحتاج ما يراه في ذلك المنام إلى التعبير، وعلى ذلك جرى علماء التعبير فقالوا‏:‏ إذا قال الجاهل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يسأل عن صفته فإن وافق الصفة المروية وإلا فلا يقبل منه، وأشاروا إلى ما إذا رآه على هيئة تخالف هيئته مع أن الصورة كما هي، فقال أبو سعد أحمد بن محمد بن نصر‏:‏ من رأى نبيا على حاله وهيئته فذلك دليل على صلاح الرائي وكمال جاهه وظفره بمن عاداه، ومن رآه متغير الحال عابسا مثلا فذاك دال على سوء حال الرائي، ونحا الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة إلى ما اختاره النووي فقال بعد أن حكى الخلاف‏:‏ ومنهم من قال إن الشيطان لا يتصور على صورته أصلا فمن رآه في صورة حسنة فذاك حسن في دين الرائي وإن كان في جارحة من جوارحه شين أو نقص فذاك خلل في الرائي من جهة الدين، قال‏:‏ وهذا هو الحق، وقد جرب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه حتى يتبين للرائي هل عنده خلل أو لا، لأنه صلى الله عليه وسلم نوراني مثل المرآة الصقيلة ما كان في الناظر إليها من حسن أو غيره تصور فيها وهي في ذاتها على أحسن حال لا نقص فيها ولا شين، وكذلك قال في كلامه صلى الله عليه وسلم في النوم أنه يعرض على سنته فما وافقها فهو حق وما خالفها فالخلل في سمع الرائي، فرؤيا الذات الكريمة حق والخلل إنما هو في سمع الرائي أو بصره، قال‏:‏ وهذا خير ما سمعته في ذلك‏.‏

ثم حكى القاضي عياض عن بعضهم قال‏:‏ خص الله نبيه بعموم رؤياه كلها ومنع الشيطان أن يتصور في صورته لئلا يتذرع بالكذب على لسانه في النوم، ولما خرق الله العادة للأنبياء للدلالة على صحة حالهم في اليقظة واستحال تصور الشيطان على صورته في اليقظة ولا على صفة مضادة لحاله، إذ لو كان ذلك لدخل اللبس بين الحق والباطل ولم يوثق بما جاء من جهة النبوة، حمى الله حماها لذلك من الشيطان وتصوره وإلقائه وكيده، وكذلك حمى رؤياهم أنفسهم ورؤيا غير النبي للنبي عن تمثيل بذلك لتصح رؤياه في الوجهين ويكون طريقا إلى علم صحيح لا ريب فيه، ولم يختلف العلماء في جواز رؤية الله تعالى في المنام وساق الكلام على ذلك‏.‏

قلت‏:‏ ويظهر لي في التوفيق بين جميع ما ذكروه أن من رآه على صفة أو أكثر مما يختص به فقد رآه ولو كانت سائر الصفات مخالفة، وعلى ذلك فتتفاوت رؤيا من رآه فمن رآه على هيئته الكاملة فرؤياه الحق الذي لا يحتاج إلى تعبير وعليها يتنزل قوله ‏"‏ فقد رأى الحق ومهما نقص من صفاته فيدخل التأويل بحسب ذلك، ويصح إطلاق أن كل من رآه في أي حالة كانت من ذلك فقد رآه حقيقة‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ جوز أهل التعبير رؤية الباري عز وجل في المنام مطلقا ولم يجروا فيها الخلاف في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاب بعضهم عن ذلك بأمور قابلة للتأويل في جميع وجوهها فتارة يعبر بالسلطان وتارة بالوالد وتارة بالسيد وتارة بالرئيس في أي فن كان، فلما كان الوقوف على حقيقة ذاته ممتنعا وجميع من يعبر به يجوز عليهم الصدق والكذب كانت رؤياه تحتاج إلى تعبير دائما، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رئي على صفته المتفق عليها وهو لا يجوز عليه الكذب كانت في هذه الحالة حقا محضا لا يحتاج إلى تعبير‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ ليس معنى قوله ‏"‏ رآني ‏"‏ أنه رأى جسمي وبدني وإنما المراد أنه رأى مثالا صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسي إليه، وكذلك قوله ‏"‏ فسيراني في اليقظة ‏"‏ ليس المراد أنه يرى جسمي وبدني، قال‏:‏ والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية، والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق، قال ومثل ذلك من يرى الله سبحانه وتعالى في المنام فإن ذاته منزهة عن الشكل والصورة ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره، ويكون ذلك المثال حقا في كونه واسطة في التعريف فيقول الرائي رأيت الله تعالى في المنام لا يعني أني رأيت ذات الله تعالى كما يقول في حق غيره‏.‏

وقال أبو قاسم القشيري ما حاصله‏:‏ إن رؤياه على غير صفته لا تستلزم إلا أن يكون هو، فإنه لو رأى الله على وصف يتعالى عنه وهو يعتقد أنه منزه عن ذلك لا يقدح في رؤيته بل يكون لتلك الرؤيا ضرب من التأويل كما قال الواسطي‏:‏ من رأى ربه على صورة شيخ كان إشارة إلى وقار الرائي وغير ذلك‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ المعنى من رآني في المنام بأي صفة كانت فليستبشر ويعلم أنه قد رأى الرؤيا الحق التي هي من الله وهي مبشرة لا الباطل الذي هو الحلم المنسوب للشيطان فإن الشيطان لا يتمثل بي، وكذا قوله ‏"‏ فقد رأى الحق ‏"‏ أي رؤية الحق لا الباطل، وكذا قوله ‏"‏ فقد رآني ‏"‏ فإن الشرط والجزاء إذا اتحدا دل على الغاية في الكمال، أي فقد رآني رؤيا ليس بعدها شيء‏.‏

وذكر الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة ما ملخصه‏:‏ إنه يؤخذ من قوله ‏"‏ فإن الشيطان لا يتمثل بي ‏"‏ أن من تمثلت صورته صلى الله عليه وسلم في خاطره من أرباب القلوب وتصورت له في عالم سره أنه يكلمه أن ذلك يكون حقا، بل ذلك أصدق من مرأى غيرهم لما من الله به عليهم من تنوير قلوبهم انتهى‏.‏

وهذا المقام الذي أشار إليه هو الإلهام، وهو من جملة أصناف الوحي إلى الأنبياء، ولكن لم أر في شيء من الأحاديث وصفه بما وصفت به الرؤيا أنه جزء من النبوة، وقد قيل في الفرق بينهما أن المنام يرجع إلى قواعد مقررة وله تأويلات مختلفة ويقع لكل أحد، بخلاف الإلهام فإنه لا يقع إلا للخواص ولا يرجع إلى قاعدة يميز بها بينه وبين لمة الشيطان، وتعقب بأن أهل المعرفة بذلك ذكروا أن الخاطر الذي يكون من الحق يستقر ولا يضطرب والذي يكون من الشيطان يضطرب ولا يستقر، فهذا إن ثبت كان فارقا واضحا، ومع ذلك فقد صرح الأئمة بأن الأحكام الشرعية لا تثبت بذلك، قال أبو المظفر بن السمعاني في ‏"‏ القواطع ‏"‏ بعد أن حكى عن أبي زيد الدبوسي من أئمة الحنفية أن الإلهام ما حرك القلب لعلم يدعو إلى العمل به من غير استدلال‏:‏ والذي عليه الجمهور أنه لا يجوز العمل به إلا عند فقد الحجج كلها في باب المباح، وعن بعض المبتدعة أنه حجة واحتج بقوله تعالى ‏(‏فألهمها فجورها وتقواها‏)‏ وبقوله ‏(‏وأوحى ربك إلى النحل‏)‏ أي ألهمها حتى عرفت مصالحها، فيؤخذ منه مثل ذلك للآدمي بطريق الأولى، وذكر فيه ظواهر أخرى ومنه الحديث قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏اتقوا فراسة المؤمن ‏"‏ وقوله لوابصة ‏"‏ ما حاك في صدرك فدعه وإن أفتوك‏)‏ فجعل شهادة قلبه حجة مقدمة على الفتوى، وقوله ‏"‏قد كان في الأمم محدثون ‏"‏ فثبت بهذا أن الإلهام حق وأنه وحي باطن، وإنما حرمه العاصي لاستيلاء وحي الشيطان عليه، قال وحجة أهل السنة الآيات الدالة على اعتبار الحجة والحث على التفكر في الآيات والاعتبار والنظر في الأدلة وذم الأماني والهواجس والظنون وهي كثيرة مشهورة، وبأن الخاطر قد يكون من الله وقد يكون من الشيطان وقد يكون من النفس، وكل شيء احتمل أن لا يكون حقا لم يوصف بأنه حق، قال‏:‏ والجواب عن قوله ‏(‏فألهمها فجورها وتقواها‏)‏ أن معناه عرفها طريق العلم وهو الحجج، وأما الوحي إلى النحل فنظيره في الآدمي فيما يتعلق بالصنائع وما فيه صلاح المعاش، وأما الفراسة فنسلمها لكن لا نجعل شهادة القلب حجة لأنا لا نتحقق كونها من الله أو من غيره انتهى ملخصا‏.‏

قال ابن السمعاني‏:‏ وإنكار الإلهام مردود، ويجوز أن يفعل الله بعبده ما يكرمه به، ولكن التمييز بين الحق والباطل في ذلك أن كل ما استقام على الشريعة المحمدية ولم يكن في الكتاب والسنة ما يرده فهو مقبول، وإلا فمردود يقع من حديث النفس ووسوسة الشيطان، ثم قال‏:‏ ونحن لا ننكر أن الله يكرم عبده بزيادة نور منه يزداد به نظره ويقوى به رأيه، وإنما ننكر أن يرجع إلى قلبه بقول لا يعرف أصله، ولا نزعم أنه حجة شرعية وإنما هو نور يختص الله به من يشاء من عباده فإن وافق الشرع كان الشرع هو الحجة انتهى‏.‏

ويؤخذ من هذا ما تقدم التنبيه عليه أن النائم لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بشيء هل يجب عليه امتثاله ولا بد، أو لا بد أن يعرضه على الشرع الظاهر، فالثاني هو المعتمد كما تقدم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في المعجم الأوسط للطبراني من حديث أبي سعيد مثل أول حديث في الباب بلفظه لكن زاد فيه ‏"‏ ولا بالكعبة ‏"‏ وقال‏:‏ لا تحفظ هذه اللفظة إلا في هذا الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَخَيَّلُ بِي وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏من رآني في المنام فقد رآني‏)‏ هذا اللفظ وقع مثله في حديث أبي هريرة كما مضى في كتاب العلم وفي كتاب الأدب، قال الطيبي‏:‏ اتحد في هذا الخبر الشرط والجزاء فدل على التناهي في المبالغة، أي من رآني فقد رأى حقيقتي على كمالها بغير شبهة ولا ارتياب فيما رأى بل هي رؤيا كاملة، ويؤيده قوله في حديثي أبي قتادة وأبي سعيد ‏"‏ فقد رأى الحق ‏"‏ أي رؤية الحق لا الباطل وهو يرد ما تقدم من كلام من تكلف في تأويل قوله ‏"‏ من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، والذي يظهر لي أن المراد من رآني في المنام على أي صفة كانت فليستبشر ويعلم أنه قد رأى الرؤيا الحق التي هي من الله لا الباطل الذي هو الحلم فإن الشيطان لا يتمثل بي‏.‏

قوله ‏(‏فإن الشيطان لا يتمثل بي‏)‏ قد تقدم بيانه، وفيه ‏"‏ ورؤيا المؤمن جزء ‏"‏ الحديث، وقد سبق قبل خمسة أبواب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَمَنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفِثْ عَنْ شِمَالِهِ ثَلَاثًا وَلْيَتَعَوَّذْ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَرَاءَى بِي

الشرح‏:‏

حديث أبي قتادة ‏"‏ الرؤيا الصالحة من الله ‏"‏ وسيأتي شيء من شرحه في ‏"‏ باب الحلم من الشيطان ‏"‏ وفيه ‏"‏ فإن الشيطان لا يتراءى بي ‏"‏ وقد ذكرت ما فيه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ قَالَ أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ تَابَعَهُ يُونُسُ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ

الشرح‏:‏

حديث أبي قتادة ‏(‏من رآني فقد رأى الحق‏)‏ أي المنام الحق أي الصدق، ومثله في الحديث الخامس، قال الطيبي‏:‏ الحق هنا مصدر مؤكد أي فقد رأى رؤية الحق، وقوله ‏"‏فإن الشيطان لا يتمثل بي، لتتميم المعنى والتعليل للحكم‏.‏

قوله ‏(‏تابعه يونس‏)‏ يعني ابن يزيد ‏(‏وابن أخي الزهري‏)‏ هو محمد بن عبد الله بن مسلم، يريد أنهما روياه عن الزهري كما رواه الزبيدي، وقد ذكرت في الحديث الأول أن مسلما وصلهما من طريقهما وساقه على لفظ يونس وأحال برواية ابن أخي الزهري عليه، وأخرجه أبو يعلى في مسنده عن أبي خيثمة شيخ مسلم فيه ولفظه ‏"‏ من رآني في المنام فقد رأى الحق‏)‏ وقال الإسماعيلي‏:‏ وتابعهما شعيب بن أبي حمزة عن الزهري‏.‏

قلت‏:‏ وصله الذهلي في ‏"‏ الزهريات‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَكَوَّنُنِي

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد ‏"‏ من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتكونني ‏"‏ وقد تقدم ما فيه، وابن الهاد في السند هو يزيد بن عبد الله بن أسامة، قال الإسماعيلي‏:‏ ورواه يحيى بن أيوب عن ابن الهاد قال‏:‏ ولم أره يعني البخاري ذكر عنه أي عن يحيى بن أيوب حديثا برأسه إلا استدلالا - أي متابعة - إلا في حديث واحد ذكره في النذور من طريق ابن جريج عن يحيى ابن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر في قصة أخته‏.‏

قلت‏:‏ والحديث المذكور أخرجه البخاري عن أبي عاصم عن ابن جريج بهذا السند، وسقط في بعض النسخ من الصحيح لكنه أورده في كتاب الحج عن أبي عاصم، وليس كما قال الإسماعيلي إنه أخرجه ليحيى بن أيوب استقلالا فإنه أخرجه من رواية هشام بن يوسف عن ابن جريج عن سعيد بن أبي أيوب فكأن لابن جريج فيه شيخين وكل منهما رواه له عن يزيد بن أبي حبيب فأشار البخاري إلى أن هذا الاختلاف ليس بقادح في صحة الحديث، وظهر بهذا أنه لم يخرجه ليحيى بن أيوب استقلالا بل بمتابعة سعيد بن أبي أيوب‏.‏