فصل: باب الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب مَا يَقَعُ مِنْ النَّجَاسَاتِ فِي السَّمْنِ وَالْمَاءِ

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ لَا بَأْسَ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ أَوْ رِيحٌ أَوْ لَوْنٌ وَقَالَ حَمَّادٌ لَا بَأْسَ بِرِيشِ الْمَيْتَةِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي عِظَامِ الْمَوْتَى نَحْوَ الْفِيلِ وَغَيْرِهِ أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ سَلَفِ الْعُلَمَاءِ يَمْتَشِطُونَ بِهَا وَيَدَّهِنُونَ فِيهَا لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ وَلَا بَأْسَ بِتِجَارَةِ الْعَاجِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء‏)‏ أي هل ينجسهما أم لا، أو لا ينجس الماء إلا إذا تغير دون غيره‏؟‏ وهذا الذي يظهر من مجموع ما أورده المصنف في الباب من أثر وحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الزهري‏)‏ صله ابن وهب في جامعه عن يونس عنه، وروى البيهقي معناه من طريق أبي عمرو وهو الأوزاعي عن الزهري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا بأس بالماء‏)‏ أي لا حرج في استعماله في كل حالة، فهو محكوم بطهارته ما لم يغيره طعم أي من شيء نجس أو ريح منه أو لون، ولفظ يونس عنه كل ما فيه قوة عما يصيبه من الأذى حتى لا يغير ذلك طعمه ولا ريحه ولا لونه فهو طاهر، ومقتضى هذا أنه لا يفرق بين القليل والكثير إلا بالقوة المانعة للملاقي أن يغير أحد أوصافه، فالعبرة عنده بالتغير وعدمه، ومذهب الزهري هذا صار إليه طوائف من العلماء، وقد تعقبه أبو عبيد في كتاب الطهور بأنه يلزم منه أن من بال في إبريق ولم يغير للماء وصفا أنه يجوز له التطهر به، وهو مستبشع، ولهذا نصر قول التفريق بالقلتين، وإنما لم يخرجه البخاري لاختلاف وقع في إسناده، لكن رواته ثقات‏.‏

وصححه جماعة من الأئمة، إلا أن مقدار القلتين لم يتفق عليه، واعتبره الشافعي بخمس قرب من قرب الحجاز احتياطا، وخصص به حديث ابن عباس مرفوعا ‏"‏ الماء لا ينجسه شيء ‏"‏ وهو حديث صحيح رواه الأربعة وابن خزيمة وغيرهم، وسيأتي مزيد للقول في هذا في الباب الذي بعده‏.‏

وقول الزهري هذا ورد فيه حديث مرفوع قال الشافعي لا يثبت أهل الحديث مثله، لكن لا أعلم في المسألة خلافا، يعني في تنجيس الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة، والحديث المشار إليه أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة وإسناده ضعيف وفيه اضطراب أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال حماد‏)‏ هو ابن أبي سليمان الفقيه الكوفي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا بأس بريش الميتة‏)‏ أي ليس نجسا ولا ينجس الماء بملاقاته، سواء كان ريش مأكول أو غيره، وأثره هذا وصله عبد الرزاق عن معمر عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الزهري في عظام الموتى نحو الفيل وغيره‏)‏ أي مما لا يؤكل ‏(‏أدركت ناسا‏)‏ أي كثيرا والتنوين للتكثير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويدهنون‏)‏ بتشديد الدال من باب الافتعال، ويجوز ضم أوله وإسكان الدال، وهذا يدل على أنهم كانوا يقولون بطهارته، وسنذكر الخلاف فيه قريبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن سيرين وإبراهيم‏)‏ لم يذكر السرخسي إبراهيم في روايته ولا أكثر الرواة عن الفربري، وأثر ابن سيرين وصله عبد الرزاق بلفظ ‏"‏ أنه كان لا يرى بالتجارة في العاج بأسا ‏"‏ وهذا يدل على أنه كان يراه طاهرا لأنه لا يجيز بيع النجس ولا المتنجس الذي لا يمكن تطهيره بدليل قصته المشهورة في الزيت‏.‏

والعاج هو ناب الفيل، قال ابن سيده‏:‏ لا يسمى غيره عاجا‏.‏

وقال القزاز‏:‏ أنكر الخليل أن يسمى غير ناب الفيل عاجا‏.‏

وقال ابن فارس والجوهري‏:‏ العاج عظم الفيل، فلم يخصصاه بالناب‏.‏

وقال الخطابي تبعا لابن قتيبة‏:‏ العاج الذبل وهو ظهر السلحفاء البحرية، وفيه نظر ففي الصحاح‏:‏ المسك السوار من عاج أو ذبل، فغاير بينهما‏.‏

لكن قال القالي‏:‏ العرب تسمى كل عظم عاجا، فإن ثبت هذا فلا حجة في الأثر المذكور على طهارة عظم الفيل، لكن إيراد البخاري له عقب أثر الزهري في عظم الفيل يدل على اعتبار ما قال الخليل‏.‏

وقد اختلفوا في عظم الفيل بناء على أن العظم هل تحله الحياة أم لا، فذهب إلى الأول الشافعي، واستدل له بقوله تعالى ‏(‏قال من يحيي العظام وهي رميم‏.‏

قل يحيها الذي أنشأها أول مرة‏)‏ فهذا ظاهر في أن العظم تحله الحياة، وذهب إلى الثاني أبو حنيفة وقال بطهارة العظام مطلقا‏.‏

وقال مالك‏:‏ هو طاهر إن ذكى بناء على قوله إن غير المأكول يطهر بالتذكية وهو قول أبي حنيفة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ وَكُلُوا سَمْنَكُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس‏.‏

قوله ‏(‏عن ميمونة‏)‏ هي بنت الحارث خالة ابن عباس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سئل عن فأرة‏)‏ بهمزة ساكنة والسائل عن ذلك هي ميمونة‏.‏

ووقع في رواية يحيى القطان وجويرية عن مالك في هذا الحديث ‏"‏ أن ميمونة استفتت ‏"‏ رواه الدارقطني وغيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سقطت في سمن‏)‏ زاد النسائي من رواية عبد الرحمن بن مهدي عن مالك ‏"‏ في سمن جامد‏"‏، وزاد المصنف في الذبائح من رواية ابن عيينة عن ابن شهاب ‏"‏ فماتت‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وما حولها‏)‏ أي من السمن‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ خُذُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ قَالَ مَعْنٌ حَدَّثَنَا مَالِكٌ مَا لَا أُحْصِيهِ يَقُولُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا معن‏)‏ هو ابن عيسى القزاز‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خذوها وما حولها فاطرحوه‏)‏ أي الجميع وكلوا الباقي كما دلت عليه الرواية الأولى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال معن‏)‏ هو قول علي بن عبد الله فهو متصل، وأبعد من قال إنه معلق، وإنما أورد البخاري كلام معن وساق حديثه بنزول - بالنسبة للإسناد الذي قبله - مع موافقته له في السياق للإشارة إلى الاختلاف على مالك في إسناده، فرواه أصحاب الموطأ عنه واختلفوا، فمنهم من ذكره عنه هكذا كيحيى بن يحيى وغيره، ومنهم من لم يذكر فيه ميمونة كالقعنبي وغيره، ومنهم من لم يذكر فيه ابن عباس كأشهب وغيره، ومنهم من لم يذكر فيه ابن عباس ولا ميمونة كيحيى بن بكير وأبي مصعب، ولم يذكر أحد منهم لفظة ‏"‏ جامد ‏"‏ إلا عبد الرحمن بن مهدي، وكذا ذكرها أبو داود الطيالسي في مسنده عن سفيان بن عيينة عن ابن شهاب، ورواه الحميدي والحفاظ من أصحاب ابن عيينة بدونها وجودوا إسناده فذكروا فيه ابن عباس وميمونة وهو الصحيح، وراوه عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب مجودا، وله فيه عن ابن شهاب إسناد آخر عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ولفظه ‏"‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع في السمن، قال‏:‏ إذا كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه ‏"‏ وحكى الترمذي عن البخاري أنه قال في رواية معمر هل هذه‏:‏ هي خطأ‏.‏

وقال ابن أبي حاتم عن أبيه‏:‏ إنها وهم‏.‏

وأشار الترمذي إلى أنها شاذة‏.‏

وقال الذهلي في الزهريات‏:‏ الطريقان عندنا محفوظان، لكن طريق ابن عباس عن ميمونة أشهر‏.‏

والله أعلم‏.‏

وقد استشكل ابن التين إيراد البخاري كلام معن هذا مع كونه غير مخالف لرواية إسماعيل، وأجيب بأن مراده أن إسماعيل لم ينفرد بتجويد إسناده‏.‏

وظهر لي وجه آخر وهو أن رواية معن المذكورة وقعت خارج الموطأ هكذا، وقد رواها في الموطأ فلم يذكر ابن عباس ولا ميمونة، كذا أخرجه الإسماعيلي وغيره من طريقه، فأشار المصنف إلى أن هذا الاختلاف لا يضر، لأن مالك كان يصله تارة ويرسله تارة، ورواية الوصل عنه مقدمة قد سمعه منه معن بن عيسى مرارا وتابعه غيره من الحفاظ‏.‏

والله أعلم‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ أخذ الجمهور بحديث معمر الدال على التفرقة بين الجامد والذائب، ونقل ابن عبد البر الاتفاق على أن الجامد إذا وقعت فيه ميتة طرحت وما حولها منه إذا تحقق أن شيئا من أجزائها لم يصل إلى غير ذلك منه، وأما المائع فاختلفوا فيه، فذهب الجمهور إلى أنه ينجس كله بملاقاة النجاسة، وخالف فريق‏:‏ منهم الزهري والأوزاعي، وسيأتي إيضاح ذلك في كتاب الذبائح، وكذلك مسألة الانتفاع بالدهن النجس أو المتنجس إن شاء الله تعالى‏.‏

قال ابن المنير‏:‏ مناسبة حديث السمن للآثار التي قبله اختيار المصنف أن المعتبر في التنجيس تغير الصفات، فلما كان ريش الميتة لا يتغير بتغيرها بالموت وكذا عظمها فكذلك السمن البعيد عن موقع الميتة إذا لم يتغير، واقتضى ذلك أن الماء إذا لاقته النجاسة ولم يتغير أنه لا يتنجس‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذْ طُعِنَتْ تَفَجَّرُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أحمد بن محمد‏)‏ أي ابن أبي موسى المروزي المعروف بمردويه، وعبد الله هو ابن المبارك قوله‏:‏ ‏(‏كل كلم‏)‏ بفتح الكاف وإسكان اللام ‏(‏يكلمه‏)‏ بضم أوله وإسكان الكاف وفتح اللام، أي كل جرح يجرحه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في سبيل الله‏)‏ قيد يخرج ما يصيب المسلم من الجراحات في غير سبيل الله، وزاد في الجهاد من طريق الأعرج عن أبي هريرة ‏"‏ والله أعلم بمن يكلم في سبيله ‏"‏ وفيه إشارة إلى أن ذلك إنما يحصل لمن خلصت نيته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تكون كهيئتها‏)‏ أعاد الضمير مؤنثا لإرادة الجراحة، ويوضحه رواية القابسي عن أبي زيد المروزي عن الفربري ‏"‏ كل كلمة يكلمها ‏"‏ وكذا هو في رواية ابن عساكر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تفجر‏)‏ بفتح الجيم المشددة وحذف التاء الأولى إذ أصله تتفجر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والعرف‏)‏ بفتح المهملة وسكون الراء الريح، والحكمة في كون الدم يأتي يوم القيامة على هيئته أنه يشهد لصاحبه بفضله وعلى ظالمه بفعله، وفائدة رائحته الطيبة أن تنتشر في أهل الموقف إظهارا لفضيلته أيضا، ومن ثم لم يشرع غسل الشهيد في المعركة‏.‏

وقد استشكل إيراد المصنف لهذا الحديث في هذا الباب، فقال الإسماعيلي‏:‏ هذا الحديث لا يدخل في طهارة الدم ولا نجاسته، وإنما ورد في فضل المطعون في سبيل الله‏.‏

وأجيب بأن مقصود المصنف بإيراده تأكيد مذهبه في أن الماء لا يتنجس بمجرد الملاقاة ما لم يتغير، فاستدل بهذا الحديث على أن تبدل الصفة يؤثر في الموصوف، فكما أن تغير صفة الدم بالرائحة الطيبة أخرجه من الذم إلى المدح فكذلك تغير صفة الماء إذا تغير بالنجاسة يخرجه عن صفة الطهارة إلى النجاسة‏.‏

وتعقب بأن الغرض إثبات انحصار التنجيس بالتغير وما ذكر يدل على أن التنجيس يحصل بالتغير وهو وفاق، لا أنه لا يحصل إلا به وهو موضع النزاع‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ مقصود البخاري أن يبين طهارة المسك ردا على من يقول بنجاسته لكونه دما انعقد، فلما تغير عن الحالة المكروهة من الدم وهي الزهم وقبح الرائحة إلى الحالة الممدوحة وهي طيب رائحة المسك دخل عليه الحل وانتقل من حالة النجاسة إلى حالة الطهارة، كالخمرة إذا تخللت‏.‏

وقال ابن رشيد‏:‏ مراده أن انتقال الدم إلى الرائحة الطيبة هو الذي نقله من حالة الذم إلى حالة المدح، فحصل من هذا تغليب وصف واحد وهو الرائحة على وصفين وهما الطعم واللون، فيستنبط منه أنه متى تغير أحد الأوصاف الثلاثة بصلاح أو فساد تبعه الوصفان الباقيان، وكأنه أشار بذلك إلى رد ما نقل عن ربيعة وغيره أن تغير الوصف الواحد لا يؤثر حتى يجتمع وصفان، قال‏:‏ ويمكن أن يستدل به على أن الماء إذا تغير ريحه بشيء طيب لا يسلبه اسم الماء، كما أن الدم لم ينتقل عن اسم الدم مع تغير رائحته إلى رائحة المسك لأنه قد سماه دما مع تغير الريح، فما دام الاسم واقعا على المسمى فالحكم تابع له‏.‏

ا هـ كلامه‏.‏

ويرد على الأول أنه يلزم منه أن الماء إذا كانت أوصافه الثلاثة فاسدة ثم تغيرت صفة واحدة منها إلى صلاح أنه يحكم بصلاحه كله، وهو ظاهر الفساد‏.‏

وعلى الثاني أنه لا يلزم من كونه لم يسلب اسم الماء أن لا يكون موصوفا بصفة تمنع من استعماله مع بقاء اسم الماء عليه والله أعلم‏.‏

وقال ابن دقيق العيد لما نقل قول من قال إن الدم لما انتقل بطيب رائحته من حكم النجاسة إلى الطهارة ومن حكم القذارة إلى الطيب لتغير رائحته حتى حكم له بحكم المسك وبالطيب للشهيد، فكذلك الماء ينتقل بتغير رائحته من الطهارة إلى النجاسة، قال‏:‏ هذا ضعيف مع تكلفه‏.‏

*3*باب الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب البول في الماء الدائم‏)‏ أي الساكن، يقال دوم الطائر تدويما إذا صف جناحيه في الهواء فلم يحركهما‏.‏

وفي رواية الأصيلي ‏"‏ باب لا تبولوا في الماء الدائم ‏"‏ وهي بالمعنى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الْأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏الأعرج‏)‏ كذا رواه شعيب ووافقه ابن عيينة فيما رواه الشافعي عنه عن أبي الزناد، وكذا أخرجه الإسماعيلي، ورواه أكثر أصحاب ابن عيينة عنه عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة، ومن هذا الوجه أخرجه النسائي، وكذا أخرجه أحمد من طريق الثوري عن أبي الزناد، والطحاوي من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، والطريقان معا صحيحان، ولأبي الزناد فيه شيخان، ولفظهما في سياق المتن مختلف كما سنشير إليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نحن الآخرون السابقون‏)‏ اختلف في الحكمة في تقديم هذه الجملة على الحديث المقصود، فقال ابن بطال‏:‏ يحتمل أن يكون أبو هريرة سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم مع ما بعده في نسق واحد فحدث بهما جميعا، ويحتمل أن يكون همام فعل ذلك لأنه سمعهما من أبي هريرة وإلا فليس في الحديث مناسبة للترجمة‏.‏

قلت‏:‏ جزم ابن التين بالأول، وهو متعقب، فإنه لو كان حديثا واحدا ما فصله المصنف بقوله وبإسناده، وأيضا فقوله ‏"‏ نحن الآخرون السابقون ‏"‏ طرف من حديث مشهور في ذكر يوم الجمعة سيأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى، فلو راعى البخاري ما ادعاه لساق المتن بتمامه‏.‏

وأيضا فحديث الباب مروي بطرق متعددة عن أبي هريرة في دواوين الأئمة، وليس في طريق منها في أوله ‏"‏ نحن الآخرون السابقون‏"‏، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق أبي اليمان شيخ البخاري بدون هذه الجملة‏.‏

وقول ابن بطال‏:‏ ويحتمل أن يكون همام وهم، تبعه عليه جماعة‏.‏

وليس لهمام ذكر في هذا الإسناد‏.‏

وقوله إنه ليس في الحديث مناسبة للترجمة صحيح، وإن كان غيره تكلف فأبدى بينهما مناسبة كما سنذكره، والصواب أن البخاري في الغالب يذكر الشيء كما سمعه جملة لتضمنه موضع الدلالة المطلوبة منه وإن لم يكن باقيه مقصودا، كما صنع في حديث عروة البارقي في شراء الشاة كما سيأتي بيانه في الجهاد، وأمثلة ذلك في كتابه كثيرة‏.‏

وقد وقع لمالك نحو هذا في الموطأ إذ أخرج في باب صلاة الصبح والعتمة متونا بسند واحد أولها ‏"‏ مر رجل بغصن شوك ‏"‏ وآخرها ‏"‏ لو يعلمون ما في الصبح والعتمة لأتوهما ولو حبوا ‏"‏ وليس غرضه منها إلا الحديث الأخير لكنه أداها على الوجه الذي سمعه‏.‏

قال ابن العربي في القبس‏:‏ نرى الجهال يتعبون في تأويلها، ولا تعلق للأول منها بالباب أصلا‏.‏

وقال غيره‏:‏ وجه المناسبة بينهما أن هذه الأمة آخر من يدفن من الأمم في الأرض وأول من يخرج منها، لأن الوعاء آخر ما يوضع فيه أول ما يخرج منه، فكذلك الماء الراكد آخر ما يقع فيه من البول أول ما يصادف أعضاء المتطهر، فينبغي أن يجتنب ذلك‏.‏

ولا يخفى ما فيه‏.‏

وقيل‏:‏ وجه المناسبة أن بني إسرائيل وإن سبقوا في الزمان، لكن هذه الأمة سبقتهم باجتناب الماء الراكد إذا وقع البول فيه، فلعلهم كانوا لا يجتنبونه‏.‏

وتعقب بأن بني إسرائيل كانوا أشد مبالغة في اجتناب النجاسة بحيث كانت النجاسة إذا أصابت جلد أحدهم قرضه، فكيف يظن بهم التساهل في هذا‏؟‏ وهو استبعاد لا يستلزم رفع الاحتمال المذكور‏.‏

وما قررناه أولى‏.‏

وقد وقع البخاري في كتاب التعبير - في حديث أورده من طريق همام عن أبي هريرة مثل هذا - صدره أيضا بقوله ‏"‏ نحن الآخرون السابقون ‏"‏ قال‏:‏ وبإسناده‏.‏

ولا يتأتى فيه المناسبة المذكورة مع ما فيها من التكلف‏.‏

والظاهر أن نسخة أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة كنسخة معمر عن همام عنه، ولهذا قل حديث يوجد في هذه إلا وهو في الأخرى، وقد اشتملتا على أحاديث كثيرة أخرج الشيخان غالبا وابتداء كل نسخة منهما حديث ‏"‏ نحن الآخرون السابقون‏"‏، فلهذا صدر به البخاري فيما أخرجه من كل منهما، وسلك مسلم في نسخة همام طريقا أخرى فيقول في كل حديث أخرجه منها‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذكر الحديث الذي يريده يشير بذلك إلى أنه من أثناء النسخة لا أولها والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏الذي لا يجري‏)‏ قيل هو تفسير للدائم وإيضاح لمعناه، وقيل احترز به عن راكد يجري بعضه كالبرك، وقيل احترز به عن الماء الدائم لأنه جار من حيث الصورة ساكن من حيث المعنى، ولهذا لم يذكر هذا القيد في رواية أبي عثمان عن أبي هريرة التي تقدمت الإشارة إليها حيث جاء فيها بلفظ ‏"‏ الراكد ‏"‏ بدل الدائم، وكذا أخرجه مسلم من حديث جابر‏.‏

وقال ابن الإنباري‏:‏ الدائم من حروف الأضداد يقال للساكن والدائر، ومنه أصاب الرأس دوام أي دوار، وعلى هذا فقوله ‏"‏ الذي لا يجري ‏"‏ صفة مخصصة لأحد معنى المشترك، وقيل الدائم والراكد مقابلان للجاري، لكن الذي له نبع والراكد الذي لا نبع له‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم يغتسل‏)‏ بضم اللام على المشهور‏.‏

وقال ابن مالك‏:‏ يجوز الجزم عطفا على يبولن لأنه مجزوم الموضع بلا الناهية، ولكنه بني على الفتح لتوكيده بالنون‏.‏

ومنع ذلك القرطبي فقال‏:‏ لو أراد النهي لقال ثم لا يغتسلن، فحينئذ يتساوى الأمران في النهي عنهما لأن المحل الذي تواردا عليه شيء واحد وهو الماء‏.‏

قال‏:‏ فعدو له عن ذلك يدل على أنه لم يرد العطف، بل نبه على مآل الحال، والمعنى أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه فيمتنع عليه استعماله‏.‏

ومثله بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا يضربن أحدكم امرأته ضرب الأمة ثم يضاجعها ‏"‏ فإنه لم يروه أحد بالجزم، لأن المراد النهي عن الضرب لأنه يحتاج في مآل حاله إلى مضاجعتها فتمتنع لإساءته إليها فلا يحصل له مقصوده‏.‏

وتقدير اللفظ ثم هو يضاجعها‏.‏

وفي حديث الباب ‏"‏ ثم هو يغتسل منه ‏"‏ وتعقب بأنه لا يلزم من تأكيد النهي أن لا يعطف عليه نهي آخر غير مؤكد، لاحتمال أن يكون للتأكيد في أحدهما معنى ليس للآخر‏.‏

قال القرطبي‏:‏ ولا يجوز النصب، إذ لا تضمر أن بعد ثم، وأجازه ابن مالك بإعطاء ثم حكم الواو، وتعقبه النووي بأن ذلك يقتضي أن يكون المنهي عنه الجمع بين الأمرين دون إفراد أحدهما، وضعفه ابن دقيق العيد بأنه لا يلزم أن يدل على الأحكام المتعددة لفظ واحد، فيؤخذ النهي عن الجمع بينهما من هذا الحديث إن ثبتت رواية النصب، ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر‏.‏

قلت‏:‏ وهو ما رواه مسلم من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ‏"‏ نهى عن البول في الماء الراكد‏"‏، وعنده من طريق أبي السائب عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ‏"‏ وروى أبو داود النهي عنهما في حديث واحد ولفظه ‏"‏ لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة ‏"‏ واستدل به بعض الحنفية على تنجيس الماء المستعمل، لأن البول ينجس الماء فكذلك الاغتسال، وقد نهى عنهما معا وهو للتحريم فيدل على النجاسة فيهما‏.‏

ورد بأنها دلالة اقتران وهي ضعيفة، وعلى تقدير تسليمها فلا يلزم التسوية، فيكون النهي عن البول لئلا ينجسه، وعن الاغتسال فيه لئلا يسلبه الطهورية‏.‏

ويزيد ذلك وضوحا قوله في رواية مسلم ‏"‏ كيف يفعل يا أبا هريرة‏؟‏ قال‏:‏ يتناوله تناولا ‏"‏ فدل على أن المنع من الانغماس فيه لئلا يصير مستعملا فيمتنع على الغير الانتفاع به، والصحابي أعلم بموارد الخطاب من غيره‏.‏

وهذا من أقوى الأدلة على أن المستعمل غير طهور، وقد تقدمت الأدلة على طهارته، ولا فرق في الماء الذي لا يجري في الحكم المذكور بين بول الآدمي وغيره خلافا لبعض الحنابلة، ولا بين أن يبول في الماء أو يبول في إناء ثم يصبه فيه خلافا للظاهرية، وهذا كله محمول على الماء القليل عند أهل العلم على اختلافهم في حد القليل، وقد تقدم قول من لا يعتبر إلا التغير وعدمه، وهو قوي، لكن الفصل بالقلتين أقوى لصحة الحديث فيه، وقد اعترف الطحاوي من الحنفية بذلك لكنه اعتذر عن القول به بأن القلة في العرف تطلق على الكبيرة والصغيرة كالجرة، ولم يثبت من الحديث تقديرهما فيكون مجملا فلا يعمل به، وقواه ابن دقيق العيد، لكن استدل له غيرهما فقال أبو عبيد القاسم بن سلام‏:‏ المراد القلة الكبيرة، إذ لو أراد الصغيرة لم يحتج لذكر العدد‏.‏

فإن الصغيرتين قدر واحدة كبيرة، ويرجع في الكبيرة إلى العرف عند أهل الحجاز‏.‏

والظاهر أن الشارع عليه السلام ترك تحديدهما على سبيل التوسعة، والعلم محيط بأنه ما خاطب الصحابة إلا بما يفهمون، فانتفى الإجمال، لكن لعدم التحديد وقع الخلف بين السلف في مقدارهما على تسعة أقوال حكاها ابن المنذر، ثم حدث بعد ذلك تحديدهما بالأرطال، واختلف فيه أيضا‏.‏

ونقل عن مالك أنه حمل النهي على التنزيه فيما لا يتغير وهو قول الباقين في الكثير‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ يمكن حمله على التحريم مطلقا على قاعدة سد الذريعة لأنه يفضي إلى تنجيس الماء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم يغتسل فيه‏)‏ كذا هنا‏.‏

وفي رواية ابن عيينة عن أبي الزناد ‏"‏ ثم يغتسل منه‏"‏، وكذا لمسلم من طريق ابن سيرين، وكل من اللفظين يفيد حكما بالنص وحكما بالاستنباط قاله ابن دقيق العيد، ووجهه أن الرواية بلفظ ‏"‏ فيه ‏"‏ تدل على منع الانغماس بالنص وعلى منع التناول بالاستنباط، والرواية بلفظ ‏"‏ منه ‏"‏ بعكس ذلك، وكله مبني على أن الماء ينجس بملاقاة النجاسة‏.‏

والله أعلم‏.‏