فصل: باب حُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ وَاسْتِتَابَتِهِمْ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كِتَاب اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُعَانِدِينَ وَقِتَالِهِمْ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم‏)‏ كذا في رواية الفربري‏.‏

وسقط لفظ ‏"‏ كتاب ‏"‏ من رواية المستملي، وأما النسفي فقال ‏"‏ كتاب المرتدين ‏"‏ ثم بسمل ثم قال ‏"‏ باب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم وإثم من أشرك إلخ‏)‏ وقوله ‏"‏ والمعاندين ‏"‏ كذا للأكثر بالنون‏.‏

وفي رواية الجرجاني بالهاء بدل النون والأول الصواب‏.‏

*3*باب إِثْمِ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إثم من أشرك بالله تعالى وعقوبته في الدنيا والآخرة‏.‏

قال الله عز وجل ‏(‏إن الشرك لظلم عظيم‏)‏ و ‏(‏لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين‏)‏ في رواية القابسي بعد قوله وقتالهم ‏"‏ وإثم من أشرك إلخ ‏"‏ وحذف لفظ ‏"‏ باب ‏"‏ والواو في قوله ‏(‏ولئن أشركت‏)‏ لعطف آية على آية والتقدير وقال لئن أشركت لأنه في التلاوة بلا واو، قال ابن بطال‏:‏ الآية الأولى دالة على أنه لا إثم أعظم من الشرك، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه فالمشرك أصل من وضع الشيء في غير موضعه لأنه جعل لمن أخرجه من العدم إلى الوجود مساويا فنسب النعمة إلى غير المنعم بها، والآية الثانية خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، والإحباط المذكور مقيد بالموت على الشرك لقوله تعالى ‏(‏فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم‏)‏ ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ

الشرح‏:‏

حديث ابن مسعود في تفسير قوله تعالى ‏(‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏)‏ وقد مضى شرحه في كتاب الإيمان في أوائل الكتاب، وأشرت هناك إلى ما وقع في أحاديث الأنبياء في قصة إبراهيم عليه السلام من طريق حفص بن غياث عن الأعمش بهذا الإسناد والمتن وفي آخره ‏"‏ ليس كما يقولون ‏(‏لم يلبسوا إيمانهم بظلم‏)‏ بشرك ‏"‏ الحديث، وقد أرسل التفسير المذكور بعض رواته، فعند ابن مردويه من طريق عيسى ابن يونس عن الأعمش مختصرا ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ‏(‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏)‏ قال‏:‏ بشرك، ومن طريق أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري عن الأعمش مثله سواء، وقد أخرجه الطبري من طريق منصور عن إبراهيم في قوله ‏(‏ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏)‏ قال‏:‏ لم يخلطوه بشرك، هكذا أورده موقوفا على إبراهيم، ومن وجه آخر عن علقمة مثله‏.‏

وأخرج من طريق الأسود بن هلال عن أبي بكر الصديق مثله موقوفا عليه، وعن عمر أنه قرأ هذه الآية ففزع فسأل أبي بن كعب فقال‏:‏ إنما هو ولم يلبسوا إيمانهم بشرك، ومن طريق زيد بن صوحان أنه قال لسلمان‏:‏ آية قد بلغت مني كل مبلغ، فذكرها فقال سلمان‏:‏ هو الشرك، فسر زيد بذلك وأورد من طرق جماعة من الصحابة ومن التابعين مثل ذلك، ثم أورد عن عكرمة قولا آخر أنها خاصة بمن لم يهاجر ومن وجه آخر عن علي أنه قال‏:‏ هذه الآية لإبراهيم خاصة، ليست لهذه الأمة‏.‏

وسندهما ضعيف، وصوب الطبري القول الأول وأنها على العموم لجميع المؤمنين‏.‏

قال الطيبي ردا على من زعم أن لفظ اللبس يأبى تفسير الظلم هنا بالشرك معتلا بأن اللبس الخلط ولا يصح هنا لأن الكفر والإيمان لا يجتمعان، فأجاب بأن المراد بالذين آمنوا أعم من المؤمن الخالص وغيره واحتج بأن اسم الإشارة الواقع خبرا للموصول مع صلته يقتضي أن ما بعده ثابت لمن قبله لاكتسابه ما ذكر من الصفة، ولا ريب أن الأمن المذكور ثانيا هو المذكور أولا فيجب أن يكون الظلم عين الشرك لأنه تقدم قوله ‏(‏وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون - إلى قوله - أحق بالأمن‏)‏ قال وأما معنى اللبس فلبس الإيمان بالظلم أن يصدق بوجود الله ويخلط به عبادة غيره، ويؤيده قوله تعالى ‏(‏وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون‏)‏ وعرف بذلك مناسبة ذكرها في أبواب المرتد، وكذلك الآية التي صدر بها، وأما الآية الأخرى فقالوا هي قضية شرطية ولا تستلزم الوقوع، وقيل الخطاب له والمراد الأمة، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ ح و حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ ثَلَاثًا أَوْ قَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ

الشرح‏:‏

حديث أبي بكرة في أكبر الكبائر، وقد مضى شرحه في الشهادات وفي عقوق الوالدين من كتاب الأدب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ قَالَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ قَالَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ قُلْتُ وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ قَالَ الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ

الشرح‏:‏

حديث عبد الله بن عمرو في ذكر الكبائر أيضا، وقد تقدم شرحه في ‏"‏ باب اليمين الغموس ‏"‏ من كتاب الأيمان والنذور‏.‏

قوله ‏(‏جاء أعرابي‏)‏ لم أقف على اسمه‏.‏

قوله ‏(‏قلت وما اليمين الغموس‏)‏ السائل عن ذلك قد بينته عند شرح الحديث المذكور، ومحمد بن الحسين بن إبراهيم في أول السند هو المعروف بابن إشكاب أخو علي وهو من أقران البخاري ولكنه سمع قبله قليلا ومات بعده‏.‏

وعبيد الله بن موسى شيخه هو من كبار شيوخ البخاري المشهورين وقد أكثر عنه بلا واسطة، وأقرب ذلك ما تقدم في أواخر الديات في ‏"‏ باب جنين المرأة ‏"‏ وربما روي عنه بواسطة كهذا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ وَالْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سفيان‏)‏ هو الثوري‏.‏

قوله ‏(‏قال رجل‏)‏ لم أقف على اسمه‏.‏

قوله ‏(‏ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر‏)‏ قال الخطابي‏:‏ ظاهره خلاف ما أجمعت عليه الأمة أن الإسلام يجب ما قبله‏.‏

وقال تعالى ‏(‏قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏)‏ قال‏:‏ ووجه هذا الحديث أن الكافر إذا أسلم لم يؤاخذ بما مضى، فإن أساء في الإسلام غاية الإساءة وركب أشد المعاصي وهو مستمر الإسلام فإنه إنما يؤاخذ بما جناه من المعصية في الإسلام ويبكت بما كان منه في الكفر كأن يقال له‏:‏ ألست فعلت كذا وأنت كافر فهلا منعك إسلامك عن معاودة مثله‏؟‏ انتهى ملخصا، وحاصله أنه أول المؤاخذة في الأول بالتبكيت وفي الآخر بالعقوبة، والأولى قول غيره‏:‏ إن المراد بالإساءة الكفر لأنه غاية الإساءة وأشد المعاصي فإذا ارتد ومات على كفره كان كمن لم يسلم فيعاقب على جميع ما قدمه، وإلى ذلك أشار البخاري بإيراد هذا الحديث بعد حديث ‏"‏ أكبر الكبائر الشرك ‏"‏ وأورد كلا في أبواب المرتدين، ونقل ابن بطال عن المهلب قال‏:‏ معنى حديث الباب من أحسن في الإسلام بالتمادي على محافظته والقيام بشرائطه لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أي في عقده بترك التوحيد أخذ بكل ما أسلفه، قال ابن بطال‏:‏ فعرضته على جماعة من العلماء فقالوا لا معنى لهذا الحديث غير هذا، ولا تكون الإساءة هنا إلا الكفر للإجماع على أن المسلم لا يؤاخذ بما عمل في الجاهلية‏.‏

قلت‏:‏ وبه جزم المحب الطبري‏.‏

ونقل ابن التين عن الداودي معنى من أحسن مات على الإسلام، ومن أساء مات على غير الإسلام‏.‏

وعن أبي عبد الملك البوني‏:‏ معنى من أحسن في الإسلام أي أسلم إسلاما صحيحا لا نفاق فيه ولا شك، ومن أساء في الإسلام أي أسلم رياء وسمعة وبهذا جزم القرطبي، ولغيره معنى الإحسان الإخلاص حين دخل فيه وداومه عليه إلى موته، والإساءة بضد ذلك فإنه إن لم يخلص إسلامه كان منافقا فلا ينهدم عنه ما عمل في الجاهلية فيضاف نفاقه المتأخر إلى كفره الماضي فيعاقب على جميع ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وحاصله أن الخطابي حمل قوله ‏"‏ في الإسلام ‏"‏ على صفة خارجة عن ماهية الإسلام، وحمله غيره على صفة في نفس الإسلام وهو أوجه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ حديث ابن مسعود هذا يقابل حديث أبي سعيد الماضي في كتاب الإيمان معلقا عن مالك، فإن ظاهر هذا أن من ارتكب المعاصي بعد أن أسلم يكتب عليه ما عمله من المعاصي قبل أن يسلم، وظاهر ذلك أن من عمل الحسنات بعد أن أسلم يكتب له ما عمله من الخيرات قبل أن يسلم، وقد مضى القول في توجيه الثاني عند شرحه، ويحتمل أن يجيء هنا بعض ما ذكر هناك كقول من قال إن معنى كتابة ما عمله من الخير في الكفر أنه كان سببا لعمله الخير في الإسلام‏.‏

ثم وجدت في ‏"‏ كتاب السنة ‏"‏ لعبد العزيز بن جعفر وهو من رءوس الحنابلة ما يدفع دعوة الخطابي وابن بطال الإجماع الذي نقلاه، وهو ما نقل عن الميموني عن أحمد أنه قال‏:‏ بلغني أن أبا حنيفة يقول إن من أسلم لا يؤاخذ بما كان في الجاهلية، ثم رد عليه بحديث ابن مسعود ففيه أن الذنوب التي كان الكافر يفعلها في جاهليته إذا أصر عليها في الإسلام فإنه يؤاخذ بها لأنه بإصراره لا يكون تاب منها وإنما تاب من الكفر فلا يسقط عنه ذنب تلك المعصية لإصراره عليها، وإلى هذا ذهب الحليمي من الشافعية، وتأول بعض الحنابلة قوله ‏(‏قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏)‏ على أن المراد ما سلف مما انتهوا عنه، قال‏:‏ والاختلاف في هذه المسألة مبني على أن التوبة هي الندم على الذنب مع الإقلاع عنه والعزم على عدم العود إليه والكافر إذا تاب من الكفر ولا يعزم على عدم العود إلى الفاحشة لا يكون تائبا منها فلا تسقط عنه المطالبة بها والجواب عن الجمهور أن هذا خاص بالمسلم وأما الكافر فإنه يكون بإسلامه كيوم ولدته أمه والأخبار دالة على ذلك كحديث أسامة لما أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قتل الذي قال لا إله إلا الله حتى قال في آخره ‏"‏ حتى تمنيت أنني كنت أسلمت يومئذ‏"‏‏.‏

*3*باب حُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ وَاسْتِتَابَتِهِمْ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَقَالَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا وَقَالَ مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وَقَالَ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ لَا جَرَمَ يَقُولُ حَقًّا أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ إِلَى لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب حكم المرتد والمرتدة‏)‏ أي هل هما سواء أم لا‏.‏

قوله ‏(‏واستتابتهم‏)‏ كذا لأبي ذر‏.‏

وفي رواية القابسي ‏"‏ واستتابتهما ‏"‏ وحذف للباقين لكنهم ذكروها كأبي ذر بعد ذكر الآثار عن ابن عمر وغيره‏.‏

وتوجيه الأولى أنه جمع على إرادة الجنس، قال ابن المنذر‏:‏ قال الجمهور تقتل المرتدة‏.‏

وقال علي تسترق وقال عمر بن عبد العزيز تباع بأرض أخرى‏.‏

وقال الثوري تحبس ولا تقتل وأسنده عن ابن عباس قال وهو قول عطاء‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ تحبس الحرة ويؤمر مولى الأمة أن يجبرها‏.‏

قوله ‏(‏وقال ابن عمر والزهري وإبراهيم‏)‏ يعني النخعي‏:‏ تقتل المرتدة، أما قول ابن عمر فنسبه مغلطاي إلى تخريج ابن أبي شيبة، وأما قول الزهري وإبراهيم فوصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في المرأة تكفر بعد إسلامها قال‏:‏ تستتاب فإن تابت وإلا قتلت، وعن معمر عن سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم مثله، وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور عن هشيم عن عبيدة بن مغيث عن إبراهيم قال‏:‏ إذا ارتد الرجل أو المرأة عن الإسلام استتيبا فإن تابا تركا وإن أبيا قتلا‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة عن حفص عن عبيدة عن إبراهيم ‏"‏ لا يقتل ‏"‏ والأول أقوى فإن عبيدة ضعيف، وقد اختلف نقله عن إبراهيم، ومقابل قول هؤلاء حديث ابن عباس ‏"‏ لا تقتل النساء إذا هن ارتددن ‏"‏ رواه أبو حنيفة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة والدار قطني، وخالفه جماعة من الحفاظ في لفظ المتن‏.‏

وأخرج الدار قطني عن ابن المنكدر عن جابر ‏"‏ أن امرأة ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها ‏"‏ وهو يعكر على ما نقله ابن الطلاع في الأحكام أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل مرتدة‏.‏

قوله ‏(‏وقال الله تعالى‏:‏ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق - إلى قوله - غفور رحيم إن الذين كفروا إلى آخرها‏)‏ كذا لأبي ذر وساق الآية إلى ‏(‏الظالمون‏)‏ وفي رواية القابسي بعد قوله ‏(‏لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون‏)‏ وفي رواية النسفي ‏(‏كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم - الآيتين إلى قوله - كافرين‏)‏ كذا عنده، وكأنه وقع عنده خلط هذه بالتي بعدها وساق وفي رواية كريمة والأصيلي ما حذف من الآية لأبي ذر، وقد أخرج النسائي وصححه ابن حبان عن ابن عباس ‏"‏ كان رجل من الأنصار أسلم ثم ندم وأرسل إلى قومه فقالوا يا رسول الله هل له من توبة‏؟‏ فنزلت ‏(‏كيف يهدي الله قوما - إلى قوله - إلا الذين تابوا‏)‏ فأسلم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وقال يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين‏)‏ قال عكرمة نزلت في شاس بن قيس اليهودي، دس على الأنصار من ذكرهم بالحروب التي كانت بينهم فتمادوا يقتتلون، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فذكرهم فعرفوا أنها من الشيطان فعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا سامعين مطيعين فنزلت، أخرجه إسحاق في تفسيره مطولا‏.‏

وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس موصولا وفي هذه الآية الإشارة إلى التحذير عن مصادقة أهل الكتاب إذ لا يؤمنون أن يفتنوا من صادقهم عن دينه‏.‏

قوله ‏(‏وقال إن الذين آمنوا ثم كفروا‏)‏ إلى ‏(‏سبيلا‏)‏ كذا لأبي ذر، وللنسفي ‏(‏ثم كفروا ثم آمنوا ثم ازدادوا كفرا‏)‏ الآية وساقها كلها في رواية كريمة‏.‏

وقد استدل بها من قال لا تقبل توبة الزنديق كما سيأتي تقريره‏.‏

قوله ‏(‏من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه‏)‏ وساق في رواية كريمة إلى الكافرين، ووقع في رواية أبي ذر ‏(‏من يرتدد‏)‏ بدالين وهي قراءة ابن عامر ونافع، وللباقين من القراء ورواة الصحيح ‏(‏من يرتد‏)‏ بتشديد الدال، ويقال إن الإدغام لغة تميم والإظهار لغة الحجاز، ولهذا قيل إنه وجد في مصحف عثمان بدالين، وقيل بل وافق كل قارئ مصحف بلده، فعلى هذا فهي في مصحفي المدينة والشام بدالين وفي البقية بدال واحدة‏.‏

قوله ‏(‏ولكن من شرح بالكفر صدرا‏)‏ إلى ‏(‏وأولئك هم الغافلون‏)‏ كذا لأبي ذر وساق في رواية كريمة الآيات كلها، وهي حجة لعدم المؤاخذة بما وقع حالة الإكراه كما سيأتي تقريره بعد هذا‏.‏

قوله ‏(‏لا جرم‏)‏ يقول حقا ‏(‏أنهم في الآخرة هم الخاسرون - إلى - لغفور رحيم‏)‏ والمراد أن معنى لا جرم حقا وهو كلام أبي عبيدة وحذف من رواية النسفي ففيها بعد قوله صدرا الآيتين إلى قوله غفور رحيم، وفي الآية وعيد شديد لمن ارتد مختارا لقوله تعالى ‏(‏ولكن من شرح بالكفر صدرا‏)‏ إلى آخره‏.‏

قوله ‏(‏ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا - إلى قوله - وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏)‏ كذا لأبي ذر وساق في رواية كريمة أيضا الآيات كلها، والغرض منها قوله ‏(‏إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر‏)‏ إلى آخرها فإنه يقيد مطلق ما في الآية السابقة ‏(‏من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم‏)‏ إلى آخرها قال ابن بطال‏:‏ اختلف في استتابة المرتد فقيل يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهو قول الجمهور، وقيل يجب قتله في الحال جاء ذلك عن الحسن وطاوس وبه قال أهل الظاهر‏.‏

قلت‏:‏ ونقله ابن المنذر عن معاذ وعبيد بن عمير وعليه يدل تصرف البخاري فإنه استظهر بالآيات التي لا ذكر فيها للاستتابة والتي فيها أن التوبة لا تنفع، وبعموم قوله ‏"‏ من بدل دينه فاقتلوه ‏"‏ وبقصة معاذ التي بعدها ولم يذكر غير ذلك، قال الطحاوي‏:‏ ذهب هؤلاء إلى أن حكم من ارتد عن الإسلام حكم الحربي الذي بلغته الدعوة فإنه يقاتل من قبل أن يدعى، قالوا‏:‏ وإنما تشرع الاستتابة لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة، فأما من خرج عن بصيرة فلا‏.‏

ثم نقل عن أبي يوسف موافقتهم لكن قال‏:‏ إن جاء مبادرا بالتوبة خليت سبيله ووكلت أمره إلى الله تعالى وعن ابن عباس وعطاء‏:‏ إن كان أصله مسلما لم يستتب وإلا استتيب، واستدل ابن القصار لقول الجمهور بالإجماع يعني السكوتي لأن عمر كتب في أمر المرتد‏:‏ هلا حبستموه ثلاثة أيام وأطعمتموه في كل يوم رغيفا لعله يتوب فيتوب الله عليه‏؟‏ قال‏:‏ ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة كأنهم فهموا من قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏من بدل دينه فاقتلوه ‏"‏ أي إن لم يرجع، وقد قال تعالى ‏(‏فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم‏)‏ واختلف القائلون بالاستتابة هل يكتفى بالمرة أو لا بد من ثلاث‏؟‏ وهل الثلاث في مجلس أو في يوم أو في ثلاثة أيام‏؟‏ وعن علي يستتاب شهرا، وعن النخعي يستتاب أبدا كذا نقل عنه مطلقا، والتحقيق أنه في من تكررت منه الردة وسيأتي مزيد لذلك في الحديث الأول عند ذكر الزنادقة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ أُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أيوب‏)‏ هو السختياني وعكرمة هو مولى ابن عباس‏.‏

قوله ‏(‏أتي علي‏)‏ هو ابن أبي طالب، تقدم في ‏"‏ باب لا يعذب بعذاب الله ‏"‏ من كتاب الجهاد من طريق سفيان بن عيينة عن أيوب بهذا السند أن عليا حرق قوما، وذكرت هناك أن الحميدي رواه عن سفيان بلفظ ‏"‏ حرق المرتدين ‏"‏ ومن وجه آخر عند ابن أبي شيبة ‏"‏ كان أناس يعبدون الأصنام في السر ‏"‏ وعند الطبراني في الأوسط من طريق سويد بن غفلة ‏"‏ أن عليا بلغه أن قوما ارتدوا عن الإسلام فبعث إليهم فأطعمهم ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فحفر حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم ورماهم فيها ثم ألقى عليهم الحطب فاحرقهم ثم قال‏:‏ صدق الله ورسوله ‏"‏ وزعم أبو المظفر الإسفرايني في ‏"‏ الملل والنحل ‏"‏ أن الذين أحرقهم علي طائفة من الروافض ادعوا فيه الإلهية وهم السبائية وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ يهوديا ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة، وهذا يمكن أن يكون أصله ما رويناه في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص من طريق عبد الله ابن شريك العامري عن أبيه قال‏:‏ قيل لعلي إن هنا قوما على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم ويلكم ما تقولون‏؟‏ قالوا‏:‏ أنت ربنا وخالقنا ورازقنا‏.‏

فقال‏:‏ ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا، فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال‏:‏ قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال أدخلهم فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فقال يا قنبر ائتني بفعلة معهم مرورهم فخذ لهم أخدودا بين باب المسجد والقصر وقال‏:‏ احفروا فأبعدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال‏:‏ إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال‏:‏ إني إذا رأيت أمرا منكرا أوقدت ناري ودعوت قنبرا وهذا سند حسن، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق قتادة ‏"‏ أن عليا أتي بناس من الزط يعبدون وثنا فأحرقهم ‏"‏ فسنده منقطع، فإن ثبت حمل على قصة أخرى، فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضا من طريق أيوب بن النعمان ‏"‏ شهدت عليا في الرحبة، فجاءه رجل فقال إن هنا أهل بيت لهم وثن في دار يعبدونه فقام يمشي إلى الدار فأخرجوا إليه بمثال رجل قال فألهب عليهم على الدار‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏بزنادقة‏)‏ بزاي ونون وقاف جمع زنديق بكسر أوله وسكون ثانيه، قال أبو حاتم السجستاني وغيره‏:‏ الزنديق فارسي معرب أصله ‏"‏ زنده كرداي ‏"‏ يقول بدوام الدهر لأن زنده الحياة وكرد العمل، ويطلق على من يكون دقيق النظر في الأمور‏.‏

وقال ثعلب‏:‏ ليس في كلام العرب زنديق وإنما قالوا زندقي لمن يكون شديد التحيل، وإذا أرادوا ما تريد العامة قالوا ملحد ودهري بفتح الدال أي يقول بدوام الدهر، وإذا قالوها بالضم أرادوا كبر السن‏.‏

وقال الجوهري‏:‏ الزنديق من الثنوية، كذا قال وفسره بعض الشراح بأنه الذي يدعي أن مع الله إلها آخر، وتعقب بأنه يلزم منه أن يطلق على كل مشرك، والتحقيق ما ذكره من صنف في الملل أن أصل الزنادقة أتباع ديصان ثم ماني ثم مزدك الأول بفتح الدال وسكون المثناة التحتانية بعدها صاد مهملة، والثاني بتشديد النون وقد تخفف والياء خفيفة، والثالث بزاي ساكنة ودال مهملة مفتوحة ثم كاف، وحاصل مقالتهم أن النور والظلمة قديمان وأنهما امتزجا فحدث العالم كله منهما، فمن كان من أهل الشر فهو من الظلمة ومن كان من أهل الخير فهو من النور‏.‏

وأنه يجب السعي في تخليص النور من الظلمة فيلزم إزهاق كل نفس‏.‏

وإلى ذلك أشار المتنبي حيث قال في قصيدته المشهورة‏:‏ وكم لظلام الليل عندك من يد تخبر أن المانوية تكذب وكان بهرام جد كسرى تحيل على ماني حتى حضر عنده وأظهر له أنه قبل مقالته ثم قتله وقتل أصحابه وبقيت منهم بقايا اتبعوا مزدك المذكور، وقام الإسلام والزنديق يطلق على من يعتقد ذلك، وأظهر جماعة منهم الإسلام خشية القتل ومن ثم أطلق الاسم على كل من أسر الكفر وأظهر الإسلام حتى قال مالك الزندقة ما كان عليه المنافقون وكذا أطلق جماعة من الفقهاء الشافعية وغيرهم أن الزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر، فإن أرادوا اشتراكهم في الحكم فهو كذلك وإلا فأصلهم ما ذكرت، وقد قال النووي في لغات الروضة‏:‏ الزنديق الذي لا ينتحل دينا‏.‏

وقال محمد بن معن في ‏"‏ التنقيب على المهذب ‏"‏‏:‏ الزنادقة من الثنوية يقولون ببقاء الدهر وبالتناسخ، قال ومن الزنادقة الباطنية وهم قوم زعموا أن الله خلق شيئا ثم خلق منه شيئا آخر فدبر العالم بأسره ويسمونهما العقل والنفس وتارة العقل الأول والعقل الثاني، وهو من قول الثنوية في النور والظلمة إلا أنهم غيروا الاسمين، قال ولهم مقالات سخيفة في النبوات وتحريف الآيات وفرائض العبادات، وقد قيل إن سبب تفسير الفقهاء الزنديق بما يفسر به المنافق قول الشافعي في المختصر‏:‏ وأي كفر ارتد إليه مما يظهر أو يسر من الزندقة وغيرها ثم تاب سقط عنه القتل، وهذا لا يلزم منه اتحاد الزنديق والمنافق بل كل زنديق منافق من غير عكس وكان من أطلق عليه في الكتاب والسنة المنافق يظهر الإسلام ويبطن عبادة الوثن أو اليهودية، وأما الثنوية فلا يحفظ أن أحدا منهم أظهر الإسلام في العهد النبوي والله أعلم‏.‏

وقد اختلف النقلة في الذين وقع لهم مع علي ما وقع على ما سأبينه، واشتهر في صدر الإسلام الجعد بن درهم فذبحه خالد القسري في يوم عيد الأضحى، ثم كثروا في دولة المنصور وأظهر له بعضهم معتقده فأبادهم بالقتل ثم ابنه المهدي فأكثر في تتبعهم وقتلهم، ثم خرج في أيام المأمون بابك بموحدتين مفتوحتين ثم كاف مخففة الخرمي بضم المعجمة وتشديد الراء فغلب على بلاد الجبل وقتل في المسلمين وهزم الجيوش إلى أن ظفر به المعتصم فصلبه، وله أتباع يقال لهم الخرمية وقصصهم في التواريخ معروفة‏.‏

قوله ‏(‏فبلغ ذلك ابن عباس‏)‏ لم أقف على اسم من بلغه، وابن عباس كان حينئذ أميرا على البصرة من قبل علي‏.‏

قوله ‏(‏لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعذبوا بعذاب الله‏)‏ أي لنهيه عن القتل بالنار لقوله لا تعذبوا وهذا يحتمل أن يكون مما سمعه ابن عباس من النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون سمعه من بعض الصحابة، وقد تقدم في ‏"‏ باب لا يعذب بعذاب الله ‏"‏ من كتاب الجهاد من حديث أبي هريرة ‏"‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما الحديث وفيه إن النار لا يعذب بها إلا الله ‏"‏ وبينت هناك اسمهما وما يتعلق بشرح الحديث، وعند أبي داود عن ابن مسعود في قصة أخرى ‏"‏ أنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية إسماعيل بن علية عند أبي داود في الموضعين ‏"‏ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏ زاد إسماعيل بن علية في روايته ‏"‏ فبلغ ذلك عليا فقال‏:‏ ويح أم ابن عباس ‏"‏ كذا عند أبي داود وعند الدار قطني بحذف ‏"‏ أم ‏"‏ وهو محتمل أنه لم يرض بما اعترض به ورأى أن النهي للتنزيه كما تقدم بيان الاختلاف فيه، وسيأتي في الحديث الذي يليه مذهب معاذ في ذلك وأن الإمام إذا رأى التغليظ بذلك فعله، وهذا بناء على تفسير ‏"‏ ويح ‏"‏ بأنها كلمة رحمة فتوجع له لكونه حمل النهي على ظاهره فاعتقد التحريم مطلقا فأنكر؛ ويحتمل أن يكون قالها رضا بما قال، وأنه حفظ ما نسيه بناء على أحد ما قيل في تفسير ويح أنها تقال بمعنى المدح والتعجب كما حكاه في النهاية، وكأنه أخذه من قول الخليل‏:‏ هي في موضع رأفة واستملاح كقولك للصبي ويحه ما أحسنه حكاه الأزهري، وقوله من هو عام تخص منه من بدله في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر فإنه تجري عليه أحكام الظاهر ويستثنى منه من بدل دينه في الظاهر لكن مع الإكراه كما سيأتي في كتاب الإكراه بعد هذا، واستدل به على قتل المرتدة كالمرتد، وخصه الحنفية بالذكر وتمسكوا بحديث النهي عن قتل النساء وحمل الجمهور النهي على الكافرة الأصلية إذا لم تباشر القتال ولا القتل لقوله في بعض طرق حديث النهي عن قتل النساء لما رأى المرأة مقتولة ‏"‏ ما كانت هذه لتقاتل ‏"‏ ثم نهى عن قتل النساء، واحتجوا أيضا بأن من الشرطية لا تعم المؤنث، وتعقب بأن ابن عباس راوي الخبر قد قال تقتل المرتدة، وقتل أبو بكر في خلافته امرأة ارتدت والصحابة متوافرون فلم ينكر ذلك عليه أحد، وقد أخرج ذلك كله ابن المنذر‏.‏

وأخرج الدار قطني أثر أبي بكر من وجه حسن‏.‏

وأخرج مثله مرفوعا في قتل المرتدة لكن سنده ضعيف، واحتجوا من حيث النظر بأن الأصلية تسترق فتكون غنيمة للمجاهدين والمرتدة لا تسترق عندهم فلا غنم فيها فلا يترك قتلها‏.‏

وقد وقع في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له ‏"‏ أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها ‏"‏ وسنده حسن، وهو نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه، ويؤيده اشتراك الرجال والنساء في الحدود كلها الزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف، ومن صور الزنا رجم المحصن حتى يموت فاستثني ذلك من النهي عن قتل النساء، فكذلك يستثنى قتل المرتدة، وتمسك به بعض الشافعية في قتل من انتقل من دين كفر إلى دين كفر سواء كان ممن يقر أهله عليه بالجزية أو لا وأجاب بعض الحنفية بأن العموم في الحديث في المبدل لا في التبديل، فأما التبديل فهو مطلق لا عموم فيه، وعلى تقدير التسليم فهو متروك الظاهر اتفاقا في الكافر ولو أسلم فإنه يدخل في عموم الخبر وليس مرادا، واحتجوا أيضا بأن الكفر ملة واحدة فلو تنصر اليهودي لم يخرج عن دين الكفر، وكذا لو تهود الوثني، فوضح أن المراد من بدل دين الإسلام بدين غيره لأن الدين في الحقيقة هو الإسلام قال الله تعالى ‏(‏إن الدين عند الله الإسلام‏)‏ وما عداه فهو بزعم المدعي، وأما قوله تعالى ‏(‏ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه‏)‏ فقد احتج به بعض الشافعية فقال‏:‏ يؤخذ منه أنه لا يقر على ذلك، وأجيب بأنه ظاهر في أن من ارتد عن الإسلام لا يقر على ذلك، سلمنا لكن لا يلزم من كونه لا يقبل منه أنه لا يقر بالجزية بل عدم القبول والخسران إنما هو في الآخرة، سلمنا أن عدم القبول يستفاد منه عدم التقرير في الدنيا لكن المستفاد أنه لا يقر عليه، فلو رجع إلى الدين الذي كان عليه وكان مقرا عليه بالجزية فإنه يقتل إن لم يسلم مع إمكان الإمساك بأنا لا نقبل منه ولا نقتله، ويؤيد تخصيصه بالإسلام ما جاء في بعض طرقه‏:‏ فقد أخرجه الطبراني من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس رفعه ‏"‏ من خالف دينه دين الإسلام فاضربوا عنقه ‏"‏ واستدل به على قتل الزنديق من غير استتابة وتعقب بأن في بعض طرقه كما تقدم أن عليا استتابهم وقد نص الشافعي كما تقدم على القبول مطلقا وقال يستتاب الزنديق كما يستتاب المرتد، وعن أحمد وأبي حنيفة روايتان إحداهما لا يستتاب والأخرى إن تكرر منه لم تقبل توبته، وهو قول الليث وإسحاق، وحكى عن أبي إسحاق المروزي من أئمة الشافعية ولا يثبت عنه بل قيل إنه تحريف من إسحاق بن راهويه والأول هو المشهور عند المالكية، وحكى عن مالك إن جاء تائبا يقبل منه وإلا فلا، وبه قال أبو يوسف، واختاره الأستاذان أبو إسحاق الإسفرايني وأبو منصور البغدادي‏.‏

وعن بقية الشافعية أوجه كالمذاهب المذكورة، وخامس يفصل بين الداعية فلا يقبل منه وتقبل توبة غير الداعية، وأفتى ابن الصلاح بأن الزنديق إذا تاب تقبل توبته ويعزر فإن عاد بادرناه بضرب عنقه ولم يمهل، واستدل من منع بقوله تعالى ‏(‏إلا الذين تابوا وأصلحوا‏)‏ فقال‏:‏ الزنديق لا يطلع على صلاحه لأن الفساد إنما أتى مما أسره فإذا اطلع عليه وأظهر الإقلاع عنه لم يزد على ما كان عليه، ولقوله تعالى ‏(‏إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم‏)‏ الآية، وأجيب بأن المراد من مات منهم على ذلك كما فسره ابن عباس فيما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره، واستدل لمالك بأن توبة الزنديق لا تعرف، قال وإنما لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين للتألف ولأنه لو قتلهم لقتلهم بعلمه فلا يؤمن أن يقول قائل إنما قتلهم لمعنى آخر، ومن حجة من استتابهم قوله تعالى ‏(‏اتخذوا أيمانهم جنة‏)‏ فدل على أن إظهار الإيمان يحصن من القتل، وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر وقد قال صلى الله عليه وسلم لأسامة ‏"‏ هلا شققت عن قلبه ‏"‏ وقال للذي ساره في قتل رجل ‏"‏ أليس يصلي‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ أولئك الذين نهيت عن قتلهم ‏"‏ وسيأتي قريبا أن في بعض طرق حديث أبي سعيد أن خالد بن الوليد لما استأذن في قتل الذي أنكر القسمة وقال كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ‏"‏ أخرجه مسلم، والأحاديث في ذلك كثيرة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعِي رَجُلَانِ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِي وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِي وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ فَكِلَاهُمَا سَأَلَ فَقَالَ يَا أَبَا مُوسَى أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قَالَ قُلْتُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَطْلَعَانِي عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمَا وَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سِوَاكِهِ تَحْتَ شَفَتِهِ قَلَصَتْ فَقَالَ لَنْ أَوْ لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَبَا مُوسَى أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ إِلَى الْيَمَنِ ثُمَّ اتَّبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً قَالَ انْزِلْ وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ قَالَ مَا هَذَا قَالَ كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ قَالَ اجْلِسْ قَالَ لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ ثُمَّ تَذَاكَرَا قِيَامَ اللَّيْلِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَرْجُو فِي نَوْمَتِي مَا أَرْجُو فِي قَوْمَتِي

الشرح‏:‏

حديث أبي موسى الأشعري، وهو مشتمل على أربعة أحكام‏:‏ الأول السواك وقد تقدم في الطهارة أتم مما هنا، الثاني ذم طلب الإمارة ومنع من حرص عليها وسيأتي بسطه في كتاب الأحكام، الثالث بعث أبي موسى على اليمن وإرسال معاذ أيضا، وقد تقدم بيانه في كتاب المغازي بعد غزوة الطائف بثلاثة أبواب، الرابع قصة اليهودي الذي أسلم ثم ارتد وهو المقصود هنا‏.‏

قوله ‏(‏يحيى‏)‏ هو ابن سعيد القطان والسند كله بصريون‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي موسى‏)‏ في رواية أحمد عن يحيى القطان بهذا السند ‏"‏ قال أبو موسى الأشعري‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ومعي رجلان من الأشعريين‏)‏ هما من قومه ولم أقف على اسمهما، وقد وقع في ‏"‏ الأوسط للطبراني ‏"‏ من طريق عبد الملك عن عمير عن أبي بردة في هذا الحديث أن أحدهما ابن عم أبي موسى، وعند مسلم من طريق يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي بردة رجلان من بني عمي‏.‏

قوله ‏(‏فكلاهما سأل‏)‏ كذا فيه بحذف المسئول، وبينه أحمد في روايته المذكورة فقال فيها ‏"‏ سأل العمل ‏"‏ وسيأتي بيان ذلك في الأحكام من طريق يزيد بن عبد الله ولفظه ‏"‏ فقال أحدهما أمرنا يا رسول الله، فقال الآخر مثله ‏"‏ ولمسلم من هذا الوجه ‏"‏ أمرنا على بعض ما ولاك الله ‏"‏ ولأحمد والنسائي من وجه آخر عن أبي بردة ‏"‏ فتشهد أحدهما فقال‏:‏ جئناك لتستعين بنا على عملك فقال الآخر مثله ‏"‏ وعندهما من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه ‏"‏ أتاني ناس من الأشعريين فقالوا انطلق معنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لنا حاجة، فقمت معهم، فقالوا أتستعين بنا في عملك ‏"‏ ويجمع بأنه كان معهما من يتبعهما وأطلق صيغة الجمع على الاثنين‏.‏

قوله ‏(‏فقال يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس‏)‏ شك من الراوي بأيهما خاطبه، ولم يذكر القول في هذه الرواية، وقد ذكره أبو داود عن أحمد بن حنبل ومسدد كلاهما عن يحيى القطان بسنده فيه فقال ‏"‏ ما تقول يا أبا موسى ‏"‏ ومثله لمسلم عن محمد بن حاتم عن يحيى‏.‏

قوله ‏(‏قلت والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما‏)‏ يفسر به رواية أبي العميس ‏"‏ فاعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قالوا وقلت لم أدر ما حاجتهم، فصدقني وعذرني ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ فقال لم أعلم لماذا جاءا‏.‏

قوله ‏(‏لن أو لا‏)‏ شك من الراوي‏.‏

وفي رواية يزيد عند مسلم ‏"‏ إنا والله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لا نستعمل عل عملنا من أراده‏)‏ في رواية أبي العميس ‏"‏ من سألنا ‏"‏ بفتح اللام وفي رواية يزيد ‏"‏ أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه ‏"‏ وفي أخرى ‏"‏ فقال إن أخونكم عندنا من يطلبه فلم يستعن بهما في شيء حتى مات‏)‏ أخرجه أحمد من رواية إسماعيل بن أبي خالد عن أخيه عن أبي بردة، وأدخل أبو داود بينه وبين أبي بردة رجلا‏.‏

قوله ‏(‏ثم أتبعه‏)‏ بهمزة ثم مثناة ساكنة‏.‏

قوله ‏(‏معاذ بن جبل‏)‏ بالنصب أي بعثه بعده‏.‏

وظاهره أنه ألحقه به بعد أن توجه، ووقع في بعض النسخ واتبعه بهمزة وصل وتشديد، ومعاذ بالرفع لكن تقدم في المغازي بلفظ ‏"‏ بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذا إلى اليمن فقال يسرا ولا تعسرا ‏"‏ الحديث ويحمل على أنه أضاف معاذا إلى أبي موسى بعد سبق ولايته لكن قبل توجهه فوصاهما عند التوجه بذلك، ويمكن أن يكون المراد أنه وصى كلا منهما واحدا بعد آخر‏.‏

قوله ‏(‏فلما قدم عليه‏)‏ تقدم في المغازي أن كلا منهما كان على عمل مستقل، وأن كلا منهما كان إذا سار في أرضه فقرب من صاحبه أحدث به عهدا، وفي أخرى هناك ‏"‏ فجعلا يتزاوران فزار معاذ أبا موسى ‏"‏ وفي أخرى ‏"‏ فضرب فسطاطا ‏"‏ ومعنى ‏"‏ ألقى له وسادة ‏"‏ فرشها له ليجلس عليها، وقد ذكر الباجي والأصيلي فيما نقله عياض عنهما أن المراد بقول ابن عباس ‏"‏ فاضطجعت في عرض الوسادة ‏"‏ الفراش، ورده النووي فقال‏:‏ هذا ضعيف أو باطل، وإنما المراد بالوسادة ما يجعل تحت رأس النائم، وهو كما قال، قال وكانت عادتهم أن من أرادوا إكرامه وضعوا الوسادة تحته مبالغة في إكرامه‏.‏

وقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه فألقى له وسادة ‏"‏ كما تقدم في الصيام، وفي حديث ابن عمر ‏"‏ أنه دخل على عبد الله بن مطيع فطرح له وسادة، فقال له ما جئت لأجلس ‏"‏ أخرجه مسلم ولم أر في شيء من كتب اللغة أن الفراش يسمى وسادة‏.‏

قوله ‏(‏قال انزل‏)‏ أي فاجلس على الوسادة‏.‏

قوله ‏(‏فإذا رجل إلخ‏)‏ هي جملة حالية بين الأمر والجواب، ولم أقف على اسم الرجل المذكور، وقوله ‏"‏كان يهوديا فأسلم ثم تهود ‏"‏ في رواية مسلم وأبي داود ثم راجع دينه دين السوء‏.‏

ولأحمد من طريق أيوب عن حميد بن هلال عن أبي بردة قال ‏"‏ قدم معاذ بن جبل على أبي موسى فإذا رجل عنده فقال‏:‏ ما هذا - فذكر مثله وزاد - ونحن نريده على الإسلام منذ أحسبه شهرين وأخرج الطبراني من وجه آخر عن معاذ وأبي موسى ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهما أن يعلما الناس، فزار معاذ أبا موسى فإذا عنده رجل موثق بالحديد فقال‏:‏ يا أخي أو بعثت تعذب الناس إنما بعثنا نعلمهم دينهم ونأمرهم بما ينفعهم فقال إنه أسلم ثم كفر، فقال‏:‏ والذي بعث محمدا بالحق لا أبرح حتى أحرقه بالنار‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله‏)‏ بالرفع خبر مبتدأ محذوف ويجوز النصب‏.‏

قوله ‏(‏ثلاث مرات‏)‏ أي كرر هذا الكلام ثلاث مرات وبين أبو داود في روايته أنهما كررا القول أبو موسى يقوك اجلس ومعاذ يقول‏:‏ لا أجلس، فعلى هذا فقوله ثلاث مرات من كلام الراوي لا تتمة كلام معاذ، ووقع في رواية أيوب بعد قوله قضاء الله ورسوله ‏"‏ إن من رجع عن دينه - أو قال بدل دينه - فاقتلوه‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏فأمر به فقتل‏)‏ في رواية أيوب ‏"‏ فقال والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه فضرب عنقه ‏"‏ وفي رواية الطبراني التي أشرت إليها ‏"‏ فأتى بحطب فألهب فيه النار فكتفه وطرحه فيها ‏"‏ ويمكن الجمع بأنه ضرب عنقه ثم ألقاه في النار‏.‏

ويؤخذ منه أن معاذا وأبا موسى كانا يريان جواز التعذيب بالنار وإحراق الميت بالنار مبالغة في إهانته وترهيبا عن الاقتداء به‏.‏

وأخرج أبو داود من طريق طلحة بن يحيى ويزيد بن عبد الله كلاهما عن أبي بردة عن أبي موسى قال ‏"‏ قدم على معاذ ‏"‏ فذكر قصة اليهودي وفيه ‏"‏ فقال لا أنزل عن دابتي حتى يقتل فقتل ‏"‏ قال أحدهما‏:‏ وكان قد استتيب قبل ذلك‏.‏

وله من طريق أبي إسحاق الشيباني عن أبي بردة ‏"‏ أتى أبو موسى برجل قد ارتد عن الإسلام فدعاه فأبى عشرين ليلة أو قريبا منها، وجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه ‏"‏ قال أبو داود‏:‏ رواه عبد الملك بن عمير عن أبي بردة فلم يذكر الاستتابة، وكذا ابن فضيل عن الشيباني‏.‏

وقال المسعودي عن القاسم يعني ابن عبد الرحمن في هذه القصة‏:‏ فلم ينزل حتى ضرب عنقه وما استتابه‏.‏

وهذا يعارضه الرواية المثبتة لأن معاذا استتابه، وهي أقوى من هذه والروايات الساكتة عنها لا تعارضها، وعلى تقدير ترجيح رواية المسعودي فلا حجة فيه لمن قال يقتل المرتد بلا استتابة، لأن معاذا يكون اكتفى بما تقدم من استتابة أبي موسى، وقد ذكرت قريبا أن معاذا روى الأمر باستتابة المرتد والمرتدة‏.‏

قوله ‏(‏ثم تذاكرا قيام الليل‏)‏ في رواية سعيد بن أبي بردة ‏"‏ فقال كيف تقرأ القرآن ‏"‏ أي في صلاة الليل‏.‏

قوله ‏(‏فقال أحدهما‏)‏ هو معاذ، ووقع في رواية سعيد بن أبي بردة ‏"‏ فقال أبو موسى أقرؤه قائما وقاعدا وعلى راحلتي وأتفوقه ‏"‏ بفاء وقاف بينهما واو ثقيلة أي ألازم قراءته في جميع الأحوال، وفي أخرى ‏"‏ فقال أبو موسى كيف تقرأ أنت يا معاذ‏؟‏ قال‏:‏ أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت حاجتي فأقرأ ما كتب الله لي‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي‏)‏ ‏"‏ في رواية سعيد ‏"‏ وأحتسب ‏"‏ في الموضعين كما تقدم بيانه في المغازي، وحاصله أنه يرجو الأجر في ترويح نفسه بالنوم ليكون أنشط عند القيام‏.‏

وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم‏:‏ تولية أميرين على البلد الواحد، وقسمة البلد بين أميرين، وفيه كراهة سؤال الإمارة والحرص عليها ومنع الحريص منها كما سيأتي بسطه في كتاب الأحكام، وفيه تزاور الإخوان والأمراء والعلماء، وإكرام الضيف، والمبادرة إلى إنكار المنكر، وإقامة الحد على من وجب عليه، وأن المباحات يؤجر عليها بالنية إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة أو المندوبة أو تكميلا لشيء منهما‏.‏

*3*باب قَتْلِ مَنْ أَبَى قَبُولَ الْفَرَائِضِ وَمَا نُسِبُوا إِلَى الرِّدَّةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قتل من أبى قبول الفرائض‏)‏ أي جواز قتل من امتنع من التزام الأحكام الواجبة والعمل بها، قال المهلب‏:‏ من امتنع من قبول الفرائض نظر فإن أقر بوجوب الزكاة مثلا أخذت منه قهرا ولا يقتل، فإن أضاف إلى امتناعه نصب القتال قوتل إلى أن يرجع، قال مالك في الموطأ‏:‏ الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض الله تعالى فلم يستطع المسلمون أخذها منه كان حقا عليهم جهاده، قال ابن بطال‏:‏ مراده إذا أقر بوجوبها لا خلاف في ذلك‏.‏

قوله ‏(‏وما نسبوا إلى الردة‏)‏ أي أطلق عليهم اسم المرتدين‏.‏

قال الكرماني ‏"‏ ما ‏"‏ في قوله وما نسبوا نافية كذا قال، والذي يظهر لي أنها مصدرية أي ونسبتهم إلى الردة وأشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الذي أورده كما سأبينه، قال القاضي عياض وغيره، كان أهل الردة ثلاثة أصناف‏:‏ صنف عادوا إلى عبادة الأوثان وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي وكان كل منهما ادعى النبوة قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم فصدق مسيلمة أهل اليمامة وجماعة غيرهم وصدق الأسود أهل صنعاء وجماعة غيرهم، فقتل الأسود قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بقليل وبقي بعض من آمن به فقاتلهم عمال النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر، وأما مسيلمة فجهز إليه أبو بكر الجيش وعليهم خالد بن الوليد فقتلوه‏.‏

وصنف ثالث استمروا على الإسلام لكنهم جحدوا الزكاة وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين ناظر عمر أبا بكر في قتالهم كما وقع في حديث الباب‏.‏

وقال أبو محمد بن حزم في ‏"‏ الملل والنحل ‏"‏‏:‏ انقسمت العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقسام‏:‏ طائفة بقيت على ما كانت عليه في حياته وهم الجمهور، وطائفة بقيت على الإسلام أيضا إلا أنهم قالوا نقيم الشرائع إلا الزكاة وهم كثير لكنهم قليل بالنسبة إلى الطائفة الأولى، والثالثة أعلنت بالكفر والردة كأصحاب طليحة وسجاح وهم قليل بالنسبة لمن قبلهم إلا أنه كان في كل قبيلة من يقاوم من ارتد، وطائفة توقفت فلم تطع أحدا من الطوائف الثلاثة وتربصوا لمن تكون الغلبة فأخرج أبو بكر إليهم البعوث وكان فيروز ومن معه غلبوا على بلاد الأسود وقتلوه وقتل مسيلمة باليمامة وعاد طليحة إلى الإسلام وكذا سجاح ورجع غالب من كان ارتد إلى الإسلام فلم يحل الحول إلا والجميع قد راجعوا دين الإسلام ولله الحمد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ يَا أَبَا بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا قَالَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أن أبا هريرة قال‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ عن أبي هريرة ‏"‏ وهكذا رواه الأكثر عن الزهري بهذا السند على أنه من رواية أبي هريرة عن عمر وعن أبي بكر‏.‏

وقال يونس بن يزيد عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ أمرت أن أقاتل الناس ‏"‏ الحديث فساقه على أنه من مسند أبي هريرة ولم يذكر أبا بكر ولا عمر أخرجه مسلم، وهو محمول على أن أبا هريرة سمع أصل الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم وحضر مناظرة أبي بكر وعمر فقصها كما هي، ويؤيده أنه جاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة من طرق فأخرجه مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه، ومن طريق أبي صالح ذكوان كلاهما عن أبي هريرة، وأخرجه ابن خزيمة من طريق أبي العنبس سعيد بن كثير بن عبيد عن أبيه، وأخرجه أحمد من طريق همام بن منبه، ورواه مالك خارج الموطأ عن أبي الزناد عن الأعرج، وذكره ابن منده في كتاب الإيمان من رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة كلهم عن أبي هريرة، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا ابن عمر كما تقدم في أوائل الكتاب في كتاب الإيمان وجابر وطارق الأشجعي عند مسلم، وأخرجه أبو داود والترمذي من حديث أنس وأصله عند البخاري كما تقدم في أوائل الصلاة وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن أنس، وهو عند ابن خزيمة من وجه آخر عنه لكن قال ‏"‏ عن أنس عن أبي بكر ‏"‏ وأخرجه البزار من حديث النعمان بن بشير، وأخرجه الطبراني من حديث سهل بن سعد وابن عباس وجرير البجلي وفي الأوسط من حديث سمرة، وسأذكر ما في رواياتهم من فائدة زائدة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏وكفر من كفر من العرب‏)‏ في حديث أنس عند ابن خزيمة ‏"‏ لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏يا أبا بكر كيف تقاتل الناس‏)‏ في حديث أنس ‏"‏ أتريد أن تقاتل العرب‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله‏)‏ كذا ساقه الأكثر‏.‏

وفي رواية طارق عند مسلم ‏"‏ من وحد الله وكفر بما يعبد من دونه حرم دمه وماله ‏"‏ وأخرجه الطبراني من حديثه كرواية الجمهور، وفي حديث ابن عمر ‏"‏ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ‏"‏ ونحوه في حديث أبي العنبس وفي حديث أنس، عند أبي داود ‏"‏ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويأكلوا ذبيحتنا، ويصلوا صلاتنا ‏"‏ وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن ‏"‏ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويؤمنوا بي وبما جئت به ‏"‏ قال الخطابي‏:‏ زعم الروافض أن حديث الباب متناقض لأن في أوله أنهم كفروا وفي آخره أنهم ثبتوا على الإسلام إلا أنهم منعوا الزكاة، فإن كانوا مسلمين فكيف استحل قتالهم وسبي ذراريهم، وإن كانوا كفارا فكيف احتج على عمر بالتفرقة بين الصلاة والزكاة، فإن في جوابه إشارة إلى أنهم كانوا مقرين بالصلاة‏.‏

قال‏:‏ والجواب عن ذلك أن الذين نسبوا إلى الردة كانوا صنفين، صنف رجعوا إلى عبادة الأوثان، وصنف منعوا الزكاة وتأولوا قوله تعالى ‏(‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم‏)‏ فزعموا أن دفع الزكاة خاص به صلى الله عليه وسلم لأن غيره لا يطهرهم ولا يصلى عليهم فكيف تكون صلاته سكنا لهم، وإنما أراد عمر بقوله ‏"‏ تقاتل الناس ‏"‏ الصنف الثاني لأنه لا يتردد في جواز قتل الصنف الأول، كما أنه لا يتردد في قتال غيرهم من عباد الأوثان والنيران واليهود والنصارى، قال‏:‏ وكأنه لم يستحضر من الحديث إلا القدر الذي ذكره، وقد حفظ غيره في الصلاة والزكاة معا، وقد رواه عبد الرحمن بن يعقوب بلفظ يعم جميع الشريعة حيث قال فيها ‏"‏ ويؤمنوا بي وبما جئت به ‏"‏ فإن مقتضى ذلك أن من جحد شيئا مما جاء به صلى الله عليه وسلم ودعي إليه فامتنع ونصب القتال أنه يجب قتاله وقتله إذا أصر، قال‏:‏ وإنما عرضت الشبهة لما دخله من الاختصار، وكأن راويه لم يقصد سياق الحديث على وجهه وإنما أراد سياق مناظرة أبي بكر وعمر واعتمد على معرفة السامعين بأصل الحديث، انتهى ملخصا‏.‏

قلت وفي هذا الجواب نظر، لأنه لو كان عند عمر في الحديث ‏"‏ حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ‏"‏ ما استشكل قتالهم للتسوية في كون غاية القتال ترك كل من التلفظ بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، قال عياض‏:‏ حديث ابن عمر نص في قتال من لم يصل ولم يزك كمن لم يقر بالشهادتين، واحتجاج عمر على أبي بكر وجواب أبي بكر دل على أنهما لم يسمعا في الحديث الصلاة والزكاة إذ لو سمعه عمر لم يحتج على أبي بكر ولو سمعه أبو بكر لرد به على عمر ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله ‏"‏ إلا بحقه‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ إن كان الضمير في قوله ‏"‏ بحقه ‏"‏ للإسلام فمهما ثبت أنه من حق الإسلام تناوله، ولذلك اتفق الصحابة على قتال من جحد الزكاة‏.‏

قوله ‏(‏لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة‏)‏ يجوز تشديد فرق وتخفيفه، والمراد بالفرق من أقر بالصلاة وأنكر الزكاة جاحدا أو مانعا مع الاعتراف، وإنما أطلق في أول القصة الكفر ليشمل الصنفين، فهو في حق من جحد حقيقة وفي حق الآخرين مجاز تغليبا، وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل لأنهم نصبوا القتال فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع، فلما أصروا قاتلهم‏.‏

قال المازري‏:‏ ظاهر السياق أن عمر كان موافقا على قتال من جحد الصلاة فألزمه الصديق بمثله في الزكاة لو رودهما في الكتاب والسنة موردا واجدا‏.‏

قوله ‏(‏فإن الزكاة حق المال‏)‏ يشير إلى دليل منع التفرقة التي ذكرها أن حق النفس الصلاة وحق المال الزكاة، فمن صلى عصم نفسه، ومن زكى عصم ماله، فإن لم يصل قوتل على ترك الصلاة، ومن لم يزك أخذت الزكاة من ماله قهرا، وإن نصب الحرب لذلك قوتل‏.‏

وهذا يوضح أنه لو كان سمع في الحديث ‏"‏ ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة‏)‏ لما احتاج إلى هذا الاستنباط، لكنه يحتمل أن يكون سمعه واستظهر بهذا الدليل النظري‏.‏

قوله ‏(‏والله لو منعوني عناقا‏)‏ تقدم ضبطها في ‏"‏ باب أخذ العناق ‏"‏ وفي ‏"‏ الصدقة ‏"‏ من كتاب الزكاة، ووقع في رواية قتيبة عن الليث عند مسلم ‏"‏ عقالا ‏"‏ وأخرجه البخاري في كتاب الاعتصام عن قتيبة فكنى بهذه اللفظة فقال ‏"‏ لو منعوني كذا ‏"‏ واختلف في هذه اللفظة فقال قوم هي وهم، وإلى ذلك أشار البخاري بقوله في ‏"‏ الاعتصام ‏"‏ عقب إيراده ‏"‏ قال لي ابن بكير ‏"‏ يعني شيخه فيه هنا، وعبد الله يعني ابن صالح عن الليث ‏"‏ عناقا ‏"‏ وهو أصح، ووقع في رواية ذكرها أبو عبيدة ‏"‏ لو منعوني جديا أذوط، وهو يؤيد أن الرواية ‏"‏ عناقا ‏"‏ والأذوط الصغير الفك والذقن، قال عياض واحتج بذلك من يجيز أخذ العناق في زكاة الغنم إذا كانت كلها سخالا وهو أحد الأقوال، وقيل‏:‏ إنما ذكر العناق مبالغة في التقليل لا العناق نفسها، قلت‏:‏ والعناق بفتح المهملة والنون الأنثى من ولد المعز، قال النووي‏:‏ المراد أنها كانت صغارا فماتت أمهاتها في بعض الحول فيزكين بحول الأمهات ولو لم يبق من الأمهات شيء على الصحيح، ويتصور فيما إذا ماتت معظم الكبار وحدثت الصغار فحال الحول على الكبار على بقيتها وعلى الصغار‏.‏

وقال بعض المالكية العناق والجذعة تجزئ في زكاة الإبل القليلة التي تزكى بالغنم، وفي الغنم أيضا إذا كانت جذعة، ويؤيده أن في حديث أبي بردة في الأضحية ‏"‏ فإن عندي عناقا جذعة ‏"‏ وقد تقدم البحث في ذلك في كتاب الزكاة‏.‏

وقال قوم‏:‏ الرواية محفوظة ولها معنى متجه‏.‏

وجرى النووي على طريقته فقال‏:‏ هو محمول على أنه قالها مرتين مرة عناقا ومرة عقالا‏.‏

قلت‏:‏ وهو بعيد مع اتحاد المخرج والقصة، وقيل العقال يطلق على صدقة عام يقال أخذ منه عقال هذا العام يعني صدقته حكاه المازري عن الكسائي واستشهد بقول الشاعر‏:‏ سعى عقالا فلم يترك لن سندا فكيف لو قد سعى عمرو عقالين وعمرو المشار إليه هو ابن عتبة بن أبي سفيان، وكان عمه معاوية يبعثه ساعيا على الصدقات فقيل فيه ذلك‏.‏

ونقل عياض عن ابن وهب أنه الفريضة من الإبل، ونحوه عن النضر بن شميل، وعن أبي سعيد الضرير‏:‏ العقال ما يؤخذ في الزكاة من نعام وثمار لأنه عقل عن مالكها‏.‏

وقال المبرد‏:‏ العقال ما أخذه العامل من صدقة بعينها فإن تعوض عن شيء منها قيل أخذ نقدا، وعلى هذا فلا إشكال فيه‏.‏

وذهب الأكثر إلى حمل العقال على حقيقته وأن المراد به الحبل الذي يعقل به البعير، نقله عياض عن الواقدي عن مالك بن أبي ذئب قالا العقال عقال الناقة‏.‏

قال أبو عبيد العقال اسم لما يعقل به البعير، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم محمد ابن مسلمة على الصدقة فكان يأخذ مع كل فريضة عقالا‏.‏

وقال النووي‏:‏ ذهب إلى هذا كثير من المحققين‏.‏

وقال ابن التيمي في ‏"‏ التحرير ‏"‏‏:‏ قول من فسر العقال بفريضة العام تعسف، وهو نحو تأويل من حمل البيضة والحبل في حديث لعن السارق على بيضة الحديد وحبل السفينة‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم بيان ذلك في ‏"‏ باب حد السرقة ‏"‏ إلى أن قال‏:‏ وكل ما كان في هذا السياق أحقر كان أبلغ قال‏:‏ والصحيح أن المراد بالعقال ما يعقل به البعير، قال‏:‏ والدليل على أن المراد به المبالغة قوله في الرواية الأخرى ‏"‏ عناقا ‏"‏ وفي الأخرى ‏"‏ جديا ‏"‏ قال‏:‏ فعلى هذا فالمراد بالعقال قدر قيمته، قال الثوري‏:‏ وهذا هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره‏.‏

وقال عياض‏:‏ احتج به بعضهم على جواز أخذ الزكاة في عروض التجارة، وفيه بعد، والراجح أن العقال لا يؤخذ في الزكاة لوجوبه بعينه وإنما يؤخذ تبعا للفريضة التي تعقل به، أو أنه قال ذلك مبالغة على تقدير أن لو كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال النووي‏:‏ يصح قدر قيمة العقال في زكاة النقد وفي المعدن والركاز والمعشرات وزكاة الفطر، وفيما لو وجبت سن فأخذ الساعي دونه، وفيما إذا كانت الغنم سخالا فمنع واحدة وقيمتها عقال‏.‏

قال‏:‏ وقد رأيت كثيرا ممن يتعانى الفقه يظن أنه لا يتصور وإنما هو للمبالغة‏.‏

وهو غلط منه‏.‏

وقد قال الخطابي‏:‏ حمله بعضهم على زكاة العقال إذا كان من عروض التجارة، وعلى الحبل نفسه عند من يجيز أخذ القيم، والشافعي قول إنه يتخير بين العرض والنقد، قال‏:‏ وأظهر من ذلك كله قول من قال إنه يجب أخذ العقال مع الفريضة كما جاء عن عائشة ‏"‏ كان من عادة المتصدق أن يعمد إلى قرن - بفتح القاف والراء وهو الحبل - فيقرن به بين بعيرين لئلا تشرد الإبل، وهكذا جاء عن الزهري‏.‏

وقال غيره في قول أبي بكر ‏"‏ لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ غنية عن حمله على المبالغة‏.‏

وحاصله أنهم متى منعوا شيئا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قل فقد منعوا شيئا واجبا إذ لا فرق في منع الواجب وجحده بين القليل الكثير، قال‏:‏ وهذا يعني عن جميع التقادير والتأويلات التي لا يسبق الفهم إليها، ولا يظن بالصديق أنه يقصد إلى مثلها‏.‏

قلت‏:‏ الحامل لمن حمله على المبالغة أن الذي تمثل به في هذا المقام لا بد وأن يكون من جنس ما يدخل في الحكم المذكور، فلذلك حملوه على المبالغة والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق‏)‏ أي ظهر له من صحة احتجاجه لا أنه قلده في ذلك‏:‏ وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم في كتاب الإيمان‏:‏ الاجتهاد في النوازل، وردها إلى الأصول، والمناظرة على ذلك والرجوع إلى الراجح، والأدب في المناظرة بترك التصريح بالتخظئة والعدول إلى التلطف، والأخذ في إقامة الحجة إلى أن يظهر للمناظر، فلو عاند بعد ظهورها فحينئذ يستحق الإغلاظ بحسب حاله‏.‏

وفيه الحلف على الشيء لتأكيده‏.‏

وفيه منع قتل من قال لا إله إلا الله ولو لم يزد عليها، وهو كذلك لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلما‏؟‏ الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر، فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام حكم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء به بقوله ‏"‏ إلا بحق الإسلام ‏"‏ قال البغوي‏:‏ الكافر إذا كان وثنيا أو ثنويا لا يقر بالوحدانية، فإذا قال لا إله إلا الله حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإسلام ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام، وأما من كان مقرا بالوحدانية منكرا للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول محمد رسول الله، فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة فلا بد أن يقول إلى جميع الخلق، فإن كان كفر بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج أن يرجع عما اعتقده، ومقتضى قوله ‏"‏ يجبر ‏"‏ أنه إذا لم يلتزم تجري عليه أحكام المرتد، وبه صرح القفال واستدل بحديث الباب فادعى أنه لم يرد في خبر من الأخبار ‏"‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أو أني رسول الله ‏"‏ كذا قال وهي غفلة عظيمة، فالحديث في صحيحي البخاري ومسلم في كتاب الإيمان من كل منهما من رواية ابن عمر بلفظ ‏"‏ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ‏"‏ ويحتمل أن يكون المراد بقوله لا إله إلا الله هنا التلفظ بالشهادتين لكونها سارت علما على ذلك، ويؤيده ورودهما صريحا في الطرق الأخرى، واستدل بها على أن الزكاة لا تسقط عن المرتد، وتعقب بأن المرتد كافر والكافر لا يطالب بالزكاة وإنما يطالب بالإيمان، وليس في فعل الصديق حجة لما ذكر وإنما فيه قتال من منع الزكاة، والذين تمسكوا بأصل الإسلام ومنعوا الزكاة بالشبهة التي ذكروها لم يحكم عليهم بالكفر قبل إقامة الحجة‏.‏

وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم هل تغنم أموالهم وتسبى ذراريهم كالكفار أو لا كالبغاة‏؟‏ فرأى أبو بكر الأول وعمل به وناظره عمر في ذلك كما سيأتي بيانه في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى، وذهب إلى الثاني ووافقه غيره في خلافته على ذلك، واستقر الإجماع عليه في حق من جحد شيئا من الفرائض بشبهة فيطالب بالرجوع فإن نصب القتال قوتل وأقيمت عليه الحجة، فإن رجع وإلا عومل معاملة الكافر حينئذ، ويقال إن أصبغ من المالكية استقر على القول الأول فعد من ندرة المخالف‏.‏

وقال القاضي عياض‏:‏ يستفاد من هذه القصة أن الحاكم إذا أداه اجتهاده في أمر لا نص فيه إلى شيء تجب طاعته فيه ولو اعتقد بعض المجتهدين خلافه، فإن صار ذلك المجتهد المعتقد خلافه حاكما وجب عليه العمل بما أداه إليه اجتهاده وتسوغ له مخالفة الذي قبله في ذلك، لأن عمر أطاع أبا بكر فيما رأى من حق مانعي الزكاة مع اعتقاده خلافه ثم عمل في خلافته بما أداه إليه اجتهاده ووافقه أهل عصره من الصحابة وغيرهم، وهذا مما ينبه عليه في الاحتجاج بالإجماع السكوتي، فيشترط في الاحتجاج به انتفاء موانع الإنكار وهذا منها‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ في الحديث أن من أظهر الإسلام أجريت عليه أحكامه الظاهرة ولو أسر الكفر في نفس الأمر‏.‏

ومحل الخلاف إنما هو فيمن اطلع على معتقده الفاسد فأظهر الرجوع هل يقبل منه أو لا‏؟‏ وأما من جهل أمره فلا خلاف في إجراء الأحكام الظاهرة عليه‏.‏