فصل: باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كِتَاب بَدْءِ الْخَلْقِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب بدء الخلق‏)‏ كذا للأكثر وسقطت البسملة لأبي ذر وللنسفي ‏"‏ ذكر ‏"‏ بدل كتاب، وللصغاني ‏"‏ أبواب ‏"‏ بدل كتاب‏.‏

و ‏"‏ وبدء الخلق ‏"‏ بفتح أوله وبالهمزة أي ابتداؤه والمراد خلق المخلوقات‏.‏

*3*باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ

قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ وَالْحَسَنُ كُلٌّ عَلَيْهِ هَيِّنٌ هَيْنٌ وَهَيِّنٌ مِثْلُ لَيْنٍ وَلَيِّنٍ وَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ وَضَيْقٍ وَضَيِّقٍ أَفَعَيِينَا أَفَأَعْيَا عَلَيْنَا حِينَ أَنْشَأَكُمْ وَأَنْشَأَ خَلْقَكُمْ لُغُوبٌ النَّصَبُ أَطْوَارًا طَوْرًا كَذَا وَطَوْرًا كَذَا عَدَا طَوْرَهُ أَيْ قَدْرَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما جاء في قول الله تعالى ‏(‏وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏)‏ وقال الربيع ابن خثيم‏)‏ بالمعجمة والمثلثة مصغر، وهو كوفي من كبار التابعين، والحسن هو البصري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كل عليه هين‏)‏ أي البدء والإعادة، أي أنهما حملا أهون على غير التفضيل وأن المراد بها الصفة كقوله الله أكبر وكقول الشاعر لعمرك ما أدري وإني لأوجل أي وإني لوجل، وأثر الربيع وصله الطبري من طريق منذر الثوري عنه نحوه، وأما أثر الحسن فروى الطبري أيضا من طريق قتادة وأظنه عن الحسن ولكن لفظه ‏"‏ وإعادته أهون عليه من بدئه، وكل على الله هين ‏"‏ وظاهر هذا اللفظ إبقاء صيغة أفعل على بابها، وكذا قال مجاهد فيما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره وقد ذكر عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة أن ابن مسعود كان يقرؤها ‏"‏ وهو عليه هين ‏"‏ وحكى بعضهم عن ابن عباس أن الضمير للمخلوق لأنه ابتدئ نطفة ثم علقة ثم مضغة، والإعادة أن يقول له كن فيكون، فهو أهون على المخلوق، انتهى‏.‏

ولا يثبت هذا عن ابن عباس بل هو من تفسير الكلبي كما حكاه الفراء، لأنه يقتضي تخصيصه بالحيوان ولأن الضمير الذي بعده وهو قوله‏:‏ ‏"‏ وله المثل الأعلى ‏"‏ يصير معطوفا على غير المذكور قبله قريبا‏.‏

وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس بإسناد صحيح في قوله‏:‏ ‏"‏ أهون عليه ‏"‏ أيسر‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ خوطب العباد بما يعقلون لأن عندهم أن البعث أهون من الابتداء فجعله مثلا وله المثل الأعلى، وذكر الربيع عن الشافعي في هذه الآية قال ‏(‏هو أهون عليه‏)‏ أي في القدرة عليه، لا أن شيئا يعظم على الله، لأنه يقول‏:‏ لما لم يكن كن فيخرج متصلا، وأخرجه أبو نعيم‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم نحوه عن الضحاك وإليه نحا الفراء، والله أعلم قوله‏:‏ ‏(‏وهين وهين مثل لين ولين وميت وميت وضيق وضيق‏)‏ الأول بالتشديد والثاني بالتخفيف في الجميع، قال أبو عبيدة في تفسير الفرقان في قوله تعالى ‏(‏فأحييناه به بلدة ميتا‏)‏ هي مخففة بمنزلة هين ولين وضيق بالتخفيف فيها والتشديد، وسيأتي ذلك أيضا في آخر تفسير سورة النحل، وعن ابن الأعرابي‏:‏ أن العرب تمدح بالهين اللين مخففا وتذم بهما مثقلا، فالهين بالتخفيف من الهون وهو السكينة والوقار ومنه ‏(‏يمشون هونا‏)‏ وعينه واو، بخلاف الهين بالتشديد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أفعيينا‏)‏ أفاعينا علينا حين أنشأكم وأنشأ خلفكم‏.‏

كأنه أراد أن معنى قوله‏:‏ ‏(‏أفعيينا‏)‏ استفهام إنكار، أي ما أعجزنا الخلق الأول حين أنشأناكم، وكأنه عدل عن التكلم إلى الغيبة لمراعاة اللفظ الوارد في القرآن في قوله تعالى ‏(‏هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض‏)‏ وقد روى الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى ‏(‏أفعيينا بالخلق الأول‏)‏ يقول‏:‏ أفأعيا علينا إنشاؤكم خلقا جديدا فتشكوا في البعث‏؟‏ وقال أهل اللغة‏:‏ عييت بالأمر إذا لم أعرف وجهه، ومنه العي في الكلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لغوب النصب‏)‏ أي تفسير قوله‏:‏ ‏(‏وما مسنا من لغوب‏)‏ أي من نصب، والنصب التعب وزنا ومعنى، وهذا تفسير مجاهد فيما أخرجه ابن أبي حاتم‏.‏

وأخرج من طريق قتادة قال‏:‏ أكذب الله جل وعلا اليهود في زعمهم أنه استراح في اليوم السابع فقال ‏(‏وما مسنا من لغوب‏)‏ أي من إعياء، وغفل الداودي الشارح فظن أن النصب في كلام المصنف بسكون الصاد وأنه أراد ضبط اللغوب فقال متعقبا عليه، لم أر أحدا نصب اللام في الفعل، قال وإنما هو بالنصب الأحمق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أطوارا طورا كذا وطورا كذا‏)‏ يريد تفسير قوله تعالى ‏(‏وقد خلقكم أطوارا‏)‏ والأطوار الأحوال المختلفة وأحدها طور بالفتح‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في معنى الأطوار كونه مرة نطفة ومرة علقة إلخ‏.‏

وأخرج الطبري عن ابن عباس وجماعة نحوه وقال‏:‏ المراد اختلاف أحوال الإنسان من صحة وسقم، وقيل معناه أصنافا في الألوان واللغات‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ جَاءَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا بَنِي تَمِيمٍ أَبْشِرُوا قَالُوا بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ فَجَاءَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ فَقَالَ يَا أَهْلَ الْيَمَنِ اقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ قَالُوا قَبِلْنَا فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ بَدْءَ الْخَلْقِ وَالْعَرْشِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا عِمْرَانُ رَاحِلَتُكَ تَفَلَّتَتْ لَيْتَنِي لَمْ أَقُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن صفوان بن محرز عن عمران‏)‏ في رواية أبي عاصم عن سفيان في المغازي ‏"‏ حدثنا صفوان حدثنا عمران‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جاء نفر من بني تميم‏)‏ يعني وفدهم وسيأتي بيان وقت قدومهم ومن عرف منهم في أواخر المغازي قوله‏:‏ ‏(‏أبشروا‏)‏ بهمزة قطع من البشارة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقالوا بشرتنا‏)‏ القائل ذلك منهم الأقرع بن حابس، ذكره ابن الجوزي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتغير وجهه‏)‏ إما للأسف عليهم كيف آثروا الدنيا، وإما لكونه لم يحضره ما يعطيهم فيتألفهم به، أو لكل منهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجاءه أهل اليمن‏)‏ هم الأشعريون قوم أبي موسى، وقد أورد البخاري حديث عمران هذا وفيه ما يستأنس به لذلك‏.‏

ثم ظهر لي أن المراد بأهل اليمن هنا نافع بن زيد الحميري مع من وفد معه من أهل حمير، وقد ذكرت مستند ذلك في ‏"‏ باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن ‏"‏ وأن هذا هو السر في عطف أهل اليمن على الأشعريين مع أن الأشعريين من جملة أهل اليمن، لما كان زمان قدوم الطائفتين مختلفا ولكل منهما قصة غير قصة الآخرين وقع العطف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اقبلوا البشرى‏)‏ بضم أوله وسكون المعجمة والقصر أي اقبلوا مني ما يقتضي أن تبشروا إذا أخذتم به بالجنة، كالفقه في الدين والعمل به، وحكى عياض أن في رواية الأصيلي ‏"‏ اليسرى ‏"‏ بالتحتانية والمهملة، قال‏:‏ والصواب الأول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذ لم يقبلها‏)‏ في الرواية الأخرى ‏"‏ أن لم يقبلها ‏"‏ وهو بفتح ‏"‏ أن ‏"‏ أي من أجل تركهم لها ويروى بكسر إن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بدء الخلق والعرش‏)‏ ، أي عن بدء الخلق وعن حال العرش، وكأنه ضمن ‏"‏ يحدث ‏"‏ معنى يذكر، وكأنهم سألوا عن أحوال هذا العالم وهو الظاهر، ويحتمل أن يكونوا سألوا عن أول جنس المخلوقات، فعلى الأول يقتضي السياق أنه أخبر أن أول شيء خلق منه السماوات والأرض، وعلى الثاني يقتضي أن العرش والماء تقدم خلقهما قبل ذلك، ووقع في قصة نافع بن زيد ‏"‏ نسألك عن أول هذا الأمر‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ قَالُوا قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ قَالُوا قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالُوا جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ قَالَ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَنَادَى مُنَادٍ ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا ابْنَ الْحُصَيْنِ فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا وَرَوَى عِيسَى عَنْ رَقَبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامًا فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالوا جئنا نسألك‏)‏ كذا الكشميهني، ولغيره ‏"‏ جئناك لنسألك ‏"‏ وزاد في التوحيد ‏"‏ ونتفقه في الدين ‏"‏ وكذا هي في قصة نافع بن زيد التي أشرت إليها آنفا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن هذا الأمر‏)‏ أي الحاضر الموجود، والأمر يطلق ويراد به المأمور ويراد به الشأن والحكم والحث على الفعل غير ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان الله ولم يكن شيء غيره‏)‏ في الرواية الآتية في التوحيد ‏"‏ ولم يكن شيء قبله ‏"‏ وفي رواية غير البخاري ‏"‏ ولم يكن شيء معه ‏"‏ والقصة متحدة فاقتضى ذلك أن الرواية وقعت بالمعنى، ولعل راويها أخذها من قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه في صلاة الليل - كما تقدم من حديث ابن عباس - ‏"‏ أنت الأول فليس قبلك شيء ‏"‏ لكن رواية الباب أصرح في العدم، وفيه دلالة على أنه لم يكن شيء غيره لا الماء ولا العرش ولا غيرهما، لأن كل ذلك غير الله تعالى ‏"‏ ويكون قبله ‏"‏ وكان عرشه على الماء ‏"‏ معناه أنه خلق الماء سابقا ثم خلق العرش على الماء، وقد وقع في قصة نافع بن زيد الحميري بلفظ ‏"‏ كان عرشه على الماء ثم خلق القلم فقال‏:‏ اكتب ما هو كائن، ثم خلق السموات والأرض وما فيهن ‏"‏ فصرح بترتيب المخلوقات بعد الماء والعرش‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض‏)‏ هكذا جاءت هذه الأمور الثلاثة معطوفة بالواو، ووقع في الرواية التي في التوحيد ‏"‏ ثم خلق السماوات والأرض ‏"‏ ولم يقع بلفظ ‏"‏ ثم ‏"‏ إلا في ذكر خلق السماوات والأرض، وقد روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا ‏"‏ أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ‏"‏ وهذا الحديث يؤيد رواية من روى ‏"‏ ثم خلق السماوات والأرض ‏"‏ باللفظ الدال على الترتيب‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في بعض الكتب في هذا الحديث ‏"‏ كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان ‏"‏ وهي زيادة ليست في شيء من كتب الحديث، نبه على ذلك العلامة تقي الدين بن تيمية، وهو مسلم في قوله، ‏"‏ وهو الآن ‏"‏ إلى آخره، وأما لفظ ‏"‏ ولا شيء معه ‏"‏ فرواية الباب بلفظ ‏"‏ ولا شيء غيره ‏"‏ بمعناها‏.‏

ووقع في ترجمة نافع بن زيد الحميري المذكور ‏"‏ كان الله لا شيء غيره ‏"‏ بغير واو‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان عرشه على الماء‏)‏ قال الطيبي‏:‏ هو فصل مستقل لأن القديم من لم يسبقه شيء، ولم يعارضه في الأولية، لكن أشار بقوله ‏"‏ وكان عرشه على الماء ‏"‏ إلى أن الماء والعرش كانا مبدأ هذا العالم لكونهما خلقا قبل خلق السموات والأرض، ولم يكن تحت العرش إذ ذاك إلا الماء‏.‏

ومحصل الحديث أن مطلق قوله ‏"‏ وكان عرشه على الماء ‏"‏ مقيد بقوله ‏"‏ ولم يكن شيء غيره ‏"‏ والمراد بكان في الأول الأزلية وفي الثاني الحدوث بعد العدم‏.‏

وقد روى أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي رزين العقيلي مرفوعا ‏"‏ أن الماء خلق قبل العرش ‏"‏ وروى السدي في تفسيره بأسانيد متعددة ‏"‏ أن الله لم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء ‏"‏ وأما ما رواه أحمد والترمذي وصححه من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا ‏"‏ أول ما خلق الله القلم، ثم قال اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ‏"‏ فيجمع بينه وبين ما قبله بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش أو بالنسبة إلى ما منه صدر من الكتابة، أي أنه قيل له اكتب أول ما خلق، وأما حديث ‏"‏ أول ما خلق الله العقل ‏"‏ فليس له طريق ثبت، وعلى تقدير ثبوته فهذا التقدير الأخير هو تأويله والله أعلم‏.‏

وحكى أبو العلاء الهمداني أن للعلماء قولين في أيهما خلق أولا العرش أو القلم‏؟‏ قال‏:‏ والأكثر على سبق خلق العرش، واختار ابن جرير ومن تبعه الثاني، وروى ابن أبي حازم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ‏"‏ خلق الله اللوح المحفوظ مسيرة خمسمائة عام، فقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش‏:‏ اكتب، فقال وما أكتب‏؟‏ قال علمي في خلقي إلى يوم القيامة ‏"‏ ذكره في تفسير سورة سبحان، وليس فيه سبق خلق القلم على العرش، بل فيه سبق العرش‏.‏

وأخرج البيهقي في ‏"‏ الأسماء والصفات ‏"‏ من طريق الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال ‏"‏ أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب، فقال‏:‏ يا رب وما أكتب‏؟‏ قال أكتب القدر، فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة ‏"‏ وأخرج سعيد بن منصور عن أبي عوانة عن أبي بشر عن مجاهد قال ‏"‏ بدء الخلق العرش والماء والهواء، وخلقت الأرض من الماء ‏"‏ والجمع بين هذه الآثار واضح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكتب‏)‏ أي قدر ‏(‏في الذكر‏)‏ أي في محل الذكر أي في اللوح المحفوظ ‏(‏كل شيء‏)‏ أي من الكائنات، وفي الحديث جواز السؤال عن مبدأ الأشياء والبحث عن ذلك وجواز جواب العالم بما يستحضره من ذلك، وعليه الكف إن خشي على السائل ما يدخل على معتقده‏.‏

وفيه أن جنس الزمان ونوعه حادث، وأن الله أوجد هذه المخلوقات بعد أن لم تكن، لا عن عجز عن ذلك بل مع القدرة‏.‏

واستنبط بعضهم من سؤال الأشعريين عن هذه القصة أن الكلام في أصول الدين وحدوث العلم مستمران في ذريتهم حتى ظهر ذلك منهم في أبي الحسن الأشعري، أشار إلى ذلك ابن عساكر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فنادى مناد‏)‏ في الرواية الأخرى ‏"‏ فجاء رجل فقال‏:‏ يا عمران ‏"‏ ولم أقف على اسمه في شيء من الروايات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ذهبت ناقتك يا ابن الحصين‏)‏ أي انفلتت، ووقع في الرواية الأولى ‏"‏ فجاء رجل فقال‏:‏ يا عمران راحلتك ‏"‏ أي أدرك راحلتك فهو بالنصب، أو ذهبت راحلتك فهو بالرفع، ويؤيده الرواية الأخرى ولم أقف على اسم هذا الرجل‏.‏

وقوله ‏"‏تفلتت ‏"‏ بالفاء أي شردت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا هي يقطع‏)‏ بفتح أوله ‏(‏دونها السراب‏)‏ بالضم أي يحول بيني وبين رؤيتها، والسراب بالمهملة معروف، وهو ما يرى نهارا في الفلاة كأنه ماء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فوالله لوددت أني كنت تركتها‏)‏ في التوحيد ‏"‏ أنها ذهبت ولم أقم ‏"‏ يعني لأنه قام قبل أن يكمل النبي صلى الله عليه وسلم حديثه في ظنه، فتأسف على ما فاته من ذلك‏.‏

وفيه ما كان عليه من الحرص على تحصيل العلم‏.‏

وقد كنت كثير التطلب لتحصيل ما ظن عمران أنه فاته من هذه القصة إلى أن وقفت على قصة نافع بن زيد الحميري فقوي في ظني أنه لم يفته شيء من هذا القصة بخصوصها لخلو قصة نافع بن زيد عن قدر زائد على حديث عمران، إلا أن في آخره بعد قوله وما فيهن ‏"‏ واستوى على عرشه عز وجل‏"‏‏.‏

الحديث الثاني حديث عمر قال ‏"‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وروى عيسى عن رقبة‏)‏ كذا للأكثر وسقط منه رجل فقال ابن الفلكي‏:‏ ينبغي أن يكون بين عيسى ورقبة أبو حمزة، وبذلك جزم أبو مسعود‏.‏

وقال الطرقي‏:‏ سقط أبو حمزة من كتاب الفربري وثبت في رواية حماد بن شاكر فعنده عن البخاري ‏"‏ روى عيسى عن أبي حمزة عن رقبة قال ‏"‏ وكذا قال ابن رميح عن الفربري، قلت‏:‏ وبذلك جزم أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ وهو يروي الصحيح عن الجرجاني عن الفربري، فالاختلاف فيه حينئذ عن الفربري، ثم رأيته أسقط أيضا من رواية النسفي، لكن جعل بين عيسى ورقبة ضبة، ويغلب على الظن أن أبا حمزة ألحق في رواية الجرجاني وقد وصفوه بقلة الإتقان، وعيسى المذكور هو ابن موسى البخاري ولقبه غنجار بمعجمة مضمومة ثم نون ساكنة ثم جيم، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع، وقد وصل الحديث المذكور من طريق عيسى المذكور عن أبي حمزة وهو محمد ابن ميمون السكري عن رقبة الطبراني في مسند رقبة المذكور، وهو بفتح الراء والقاف والموحدة الخفيفة ابن مصقلة بفتح الميم وسكون الصاد المهملة وقد تبدل سينا بعدها قاف، ولم ينفرد به عيسى فقد أخرجه أبو نعيم من طريق علي بن الحسن بن شقيق عن أبي حمزة نحوه، لكن بإسناد ضعيف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى دخل أهل الجنة‏)‏ هي غاية قوله ‏"‏ أخبرنا ‏"‏ أي أخبرنا عن مبتدأ الخلق شيئا بعد شيء إلى أن انتهى الأخبار عن حال الاستقرار في الجنة والنار، ووضع الماضي موضع المضارع مبالغة للتحقق المستفاد من خبر الصادق، وكان السياق يقتضي أن يقول‏:‏ حتى يدخل، ودل ذلك على أنه أخبر في المجلس الواحد بجميع أحوال المخلوقات منذ ابتدئت إلى أن تفنى إلى أن تبعث، فشمل ذلك الإخبار عن المبدأ والمعاش والمعاد، في تيسير إيراد ذلك كله في مجلس واحد من خوارق العادة أمر عظيم، ويقرب ذلك مع كون معجزاته لا مرية في كثرتها أنه صلى الله عليه وسلم أعطى جوامع الكلم، ومثل هذا من جهة أخرى ما رواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال ‏"‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال للذي في يده اليمنى‏:‏ هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا؛ ثم قال للذي في شماله مثله في أهل النار‏.‏

وقال في آخر الحديث ‏"‏ فقال بيديه فنبذهما ثم قال فرغ ربكم من العباد، فريق في الجنة وفريق في السعير ‏"‏ وإسناده حسن‏.‏

ووجه الشبه بينهما أن الأول فيه تيسير القول الكثير في الزمن القليل، وهذا فيه تيسير الجرم الواسع في الظرف الضيق، وظاهر قوله فنبذهما بعد قوله وفي يده كتابان أنهما كانا مرئيين لهم والله أعلم‏.‏

ولحديث الباب شاهد من حديث حذيفة سيأتي في كتاب القدر إن شاء الله تعالى، ومن حديث أنى زيد الأنصاري أخرجه أحمد ومسلم قال ‏"‏ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، ثم نزل فصلى بنا الظهر‏.‏

ثم صعد المنير فخطبنا ثم صلى العصر كذلك حتى غابت الشمس، فحدثنا بما كان وما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا ‏"‏ لفظ أحمد‏.‏

وأخرجه من حديث أبي سعيد مختصرا ومطولا، وأخرجه الترمذي من حديثه مطولا، وترجم له ‏"‏ باب ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم مما هو كائن إلى يوم القيامة ‏"‏ ثم ساقه بلفظ ‏"‏ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة العصر ثم قام يحدثنا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه ‏"‏ ثم ساق الحديث وقال‏:‏ حسن‏.‏

وفي الباب عن حذيفة وأبي زيد بن أخطب وأبي مريم والمغيرة بن شعبة انتهى‏.‏

ولم يقع له حديث عمر حديث الباب وهو على شرطه، وأفاد حديث أبي زيد بيان المقام المذكور زمانا ومكانا في حديث عمر رضي الله عنه وأنه كان على المنبر من أول النهار إلى أن غابت الشمس، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَشْتِمُنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتِمَنِي وَيُكَذِّبُنِي وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَمَّا شَتْمُهُ فَقَوْلُهُ إِنَّ لِي وَلَدًا وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ فَقَوْلُهُ لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي أحمد‏)‏ هو محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري وسفيان هو الثوري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يشتمني ابن آدم‏)‏ بكسر التاء من ‏"‏ يشتمني ‏"‏ والشتم هو الوصف بما يقتضي النقص، ولا شك أن دعوى الولد لله يستلزم الإمكان المستدعي للحدوث، وذلك غاية النقص في حق الباري سبحانه وتعالى، والمراد من الحديث هنا قوله ليس يعيدني كما بدأني وهو قول منكري البعث من عباد الأوثان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏لما قضى الله الخلق‏)‏ أي خلق الخلق كقوله تعالى ‏(‏فقضاهن سبع سماوات‏)‏ أو المراد أوجد جنسه، وقضى يطلق بمعنى حكم وأتقن وفرغ وأمضى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كتب في كتابه‏)‏ أي أمر القلم أن يكتب في اللوح المحفوظ، وقد تقدم في حديث عبادة بن الصامت قريبا ‏"‏ فقال للقلم اكتب ‏"‏ فجرى بما هو كائن ‏"‏ ويحتمل أن يكون المراد بالكتاب اللفظ الذي قضاه، وهو كقوله تعالى ‏(‏كتب الله لأغلبن أنا ورسلي‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فهو عنده فوق العرش‏)‏ قيل معناه دون العرش، وهو كقوله تعالى ‏(‏بعوضة فما فوقها‏)‏ ، والحامل على هذا التأويل استبعاد أن يكون شيء من المخلوقات فوق العرش، ولا محذور في إجراء ذلك على ظاهره لأن العرش خلق من خلق الله، ويحتمل أن يكون المراد بقوله ‏"‏ فهو عنده ‏"‏ أي ذكره أو علمه فلا تكون العندية مكانية بل هي إشارة إلى كمال كونه مخفيا عن الخلق مرفوعا عن حيز إدراكهم، وحكى الكرماني أن بعضهم زعم أن لفظ ‏"‏ فوق ‏"‏ زائد كقوله‏:‏ ‏(‏فإن كن نساء فوق اثنتين‏)‏ والمراد اثنتان فصاعدا، ولم يتعقبه وهو متعقب، لأن محل دعوى الزيادة ما إذا بقي الكلام مستقيما مع حذفها كما في الآية، وأما في الحديث فإنه يبقى مع الحذف، فهو عنده العرش وذلك غير مستقيم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن رحمتي‏)‏ بفتح أن على أنها بدل من كتب، وبكسرها على حكاية مضمون الكتاب قوله‏:‏ ‏(‏غلبت‏)‏ في رواية شعيب عن أبي الزناد في التوحيد ‏"‏ سبقت ‏"‏ بدل غلبت، والمراد من الغضب لازمه وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، لأن السبق والغلبة باعتبار التعلق، أي تعلق الرحمة غالب سابق على تعلق الغضب، لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة وأما الغضب فإنه متوقف على سابقة عمل من العبد الحادث، وبهذا التقرير يندفع استشكال من أورد وقوع العذاب قبل الرحمة في بعض المواطن، كمن يدخل النار من الموحدين ثم يخرج بالشفاعة وغيرها‏.‏

وقيل معنى الغلبة الكثرة والشمول، تقول غلب على فلان الكرم أي أكثر أفعاله، وهذا كله بناء على أن الرحمة والغضب من صفات الذات‏.‏

وقال بعض العلماء الرحمة والغضب من صفات الفعل لا من صفات الذات، ولا مانع من تقدم بعض الأفعال على بعض فتكون الإشارة بالرحمة إلى إسكان آدم الجنة أول ما خلق مثلا ومقابلها ما وقع من إخراجه منها، وعلى ذلك استمرت أحوال الأمم بتقديم الرحمة في خلقهم بالتوسع عليهم من الرزق وغيره، ثم يقع بهم العذاب على كفرهم‏.‏

وأما ما أشكل من أمر من يعذب من الموحدين فالرحمة سابقة في حقهم أيضا، ولولا وجودها لخلدوا أبدا‏.‏

وقال الطيبي في سبق الرحمة إشارة إلى أن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب وأنها تنالهم من غير استحقاق وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق، فالرحمة تشمل الشخص جنينا ورضيعا وفطيما وناشئا قبل أن يصدر منه شيء من الطاعة، ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق معه ذلك‏.‏

*3*باب مَا جَاءَ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ السَّمَاءُ سَمْكَهَا بِنَاءَهَا الْحُبُكُ اسْتِوَاؤُهَا وَحُسْنُهَا وَأَذِنَتْ سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ وَأَلْقَتْ أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنْ الْمَوْتَى وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ طَحَاهَا دَحَاهَا بِالسَّاهِرَةِ وَجْهُ الْأَرْضِ كَانَ فِيهَا الْحَيَوَانُ نَوْمُهُمْ وَسَهَرُهُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما جاء في سبع أرضين‏)‏ أو في بيان وضعها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقول الله سبحانه وتعالى ‏(‏الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن‏)‏ الآية‏)‏ قال الداودي‏:‏ فيه دلالة على أن الأرضين بعضها فوق بعض مثل السماوات ونقل عن بعض المتكلمين أن المثلية في العدد خاصة وأن السبع متجاورة، وحكى ابن التين عن بعضهم أن الأرض واحدة، قال وهو مردود بالقرآن والسنة‏.‏

قلت‏:‏ لعله القول بالتجاور، وإلا فيصير صريحا في المخالفة، ويدل للقول الظاهر ما رواه ابن جرير من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في هذه الآية ‏(‏ومن الأرض مثلهن‏)‏ قال‏:‏ في كل أرض مثل إبراهيم، ونحو ما على الأرض من الخلق، هكذا أخرجه مختصرا وإسناده صحيح‏.‏

وأخرجه الحاكم والبيهقي من طريق عطاء بن السائب عن أبي الضحى مطولا وأوله أي سبع أرضين ‏"‏ في كل أرض آدم كآدمكم ونوح كنوحكم وإبراهيم كإبراهيمكم وعيسى كعيسى ونبي كنبيكم ‏"‏ قال البيهقي‏:‏ إسناده صحيح، إلا أنه شاذ بمرة‏.‏

وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ لو حدثكم بتفسير هذه الآية لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها‏.‏

ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه وزاد وهن مكتوبات بعضهن على بعض‏.‏

وظاهر قوله تعالى ‏(‏ومن الأرض مثلهن‏)‏ يرد أيضا على أهل الهيئة قولهم أن لا مسافة بين كل أرض وأرض وإن كانت فوقها، وأن السابعة صماء لا جوف لها، وفي وسطها المركز وهي نقطة مقدرة متوهمة، إلى غير ذلك من أقوالهم التي لا برهان عليها‏.‏

وقد روى أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ إن بين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وأن سمك كل سماء كذلك، وأن بين كل أرض وأرض خمسمائة عام ‏"‏ وأخرجه إسحاق بن راهويه والبزار من حديث أبي ذر نحوه، ولأبي داود والترمذي من حديث العباس بن عبد المطلب مرفوعا ‏"‏ بين كل سماء وسماء إحدى أو اثنتان وسبعون سنة ‏"‏ وجمع بين الحديثين بأن اختلاف المسافة بينهما باعتبار بطء السير وسرعته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والسقف المرفوع السماء‏)‏ هو تفسير مجاهد، أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وغيرهما من طريق ابن أبي نجيح عنه، ومن طريق قتادة نحوه، وسيأتي عن علي مثله في ‏"‏ باب الملائكة ‏"‏ ولابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس ‏"‏ السقف المرفوع‏:‏ ‏"‏ العرش، كذا قال، والأول أكثر، وهو يقتضي الرد على من قال إن السماء كرية لأن السقف في اللغة العربية لا يكون كريا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سمكها‏)‏ بفتح المهملة وسكون الميم ‏(‏بناءها‏)‏ بالمد، يريد تفسير قوله تعالى ‏(‏رفع سمكها‏)‏ أي رفع بنيانها، وهو تفسير ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه، ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله وزاد ‏"‏ بغير عمد ‏"‏ ومن طريق قتادة مثله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والحبك استواؤها وحسنها‏)‏ هو تفسير ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه‏.‏

وأخرج من طريق سعد الإسكاف عن عكرمة عنه بلفظ ‏"‏ ذات الحبك ‏"‏ أي البهاء والجمال، غير أنها كالبرد المسلسل ‏"‏ ومن طريق علي بن أبي طلحة عنه قال ‏"‏ ذات الحبك أي الخلق الحسن ‏"‏ والحبك بضمتين جمع حبيكة كطرق وطريقة وزنا ومعنى، وقيل وأحدها حباك كمثال ومثل، وقيل الحبك الطريق التي ترى في السماء من آثار الغيم، وروى الطبري عن الضحاك نحوه، وقيل هي النجوم أخرجه الطبري بإسناد حسن عن الحسن، وروى الطبري عن عبد الله بن عمرو أو المراد بالسماء هنا السماء السابعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أذنت سمعت وأطاعت‏)‏ بريد تفسير قوله تعالى ‏(‏إذا السماء انشقت، وأذنت لربها وحقت‏)‏ ومعنى سمعها وإطاعتها قبولها ما يراد منها، وروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏وأذنت لربها‏)‏ أي أطاعت، ومن طريق الضحاك ‏(‏أذنت لربها‏)‏ أي سمعت، ومن طريق سعيد بن جبير ‏(‏وحقت‏)‏ أي حق لها أن تطيع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وألقت‏)‏ أخرجت ما فيها من الموتى ‏(‏وتخلت‏)‏ أي ‏(‏عنهم‏)‏ يريد تفسير بقية الآيات، وهو عند ابن أبي حاتم من طريق مجاهد نحوه، ومن طريق سعيد بن جبير ألقت ما استودعها الله من عباده وتخلت عنهم إليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏طحاها دحاها‏)‏ هو تفسير مجاهد أخرجه عبد بن حميد وغيره من طريقه، والمعنى بسطها يمينا وشمالا من كل جانب‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم أيضا من طريق ابن عباس والسدي وغيرهما‏:‏ دحاها أي بسطها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالساهرة وجه الأرض كان فيها الحيوان نومهم وسهرهم‏)‏ هو تفسير عكرمة أخرجه ابن أبي حاتم، أو المراد بالأرض أرض القيامة‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مصعب بن ثابت عن أبي حازم عن سهل بن سعد في قوله‏:‏ ‏(‏فإذا هم بالساهرة‏)‏ قال‏:‏ أرض بيضاء عفراء كالخبزة، وسيأتي من وجه آخر عن أبي حازم مرفوعا في الرقاق لكن ليس فيه تفسير الساهرة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ فِي أَرْضٍ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَ لَهَا ذَلِكَ فَقَالَتْ يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبْ الْأَرْضَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ

الشرح‏:‏

حديث عائشة ‏"‏ من ظلم فيد شبر ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب المظالم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في المعنى، وقد تقدم هناك أيضا، وعبد الله في إسناده هو ابن المبارك، والراوي عنه بشر بن محمد مروزي سمع من ابن المبارك بخراسان، وهو يؤيد البحث الذي قدمته من أنه لا يلزم من كون هذا الحديث ليس في كتب ابن المبارك بخراسان أن لا يكون حدث به هناك، ويحتمل أن يكون بشر صحب ابن المبارك فسمعه منه بالبصرة فيصح أنه لم يحدث به إلا بالبصرة والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ

الشرح‏:‏

حديث أبي بكرة ‏"‏ أن الزمان قد استدار كهيئته ‏"‏ وسيأتي بأتم من هذا السياق في آخر المغازي في الكلام على حجة الوداع، ويأتي شرحه في تفسير براءة، ومضي شرح أكثر في العلم وبعضه في الحج‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن محمد بن سيرين عن ابن أبي بكرة عن أبي بكرة‏)‏ اسم ابن أبي بكرة عبد الرحمن كما تقدم في ‏"‏ باب رب مبلغ أوعى من سامع ‏"‏ في كتاب العلم من وجه آخر عن أيوب، وذكر أبو علي الجياني أنه سقط من نسخة الأصيلي هنا عن ابن أبي بكرة وثبت لسائر الرواة عن الفربري، قلت‏:‏ وكذا ثبت في رواية النسفي عن البخاري، قال الجياني‏:‏ ووقع في رواية القابسي هنا عن أيوب عن محمد بن أبي بكرة، وهو وهم فاحش‏.‏

قلت‏:‏ وافق الأصيلي لكن صحف ‏"‏ عن ‏"‏ فصارت ‏"‏ ابن ‏"‏ فلذلك وصفه بفحش الوهم وسيأتي هذا الحديث بالسند المذكور هنا في ‏"‏ باب حجة الوداع ‏"‏ من كتاب المغازي على الصواب للجماعة أيضا حتى الأصيلي، واستمر القابسي على وهمه فقال هناك أيضا ‏"‏ عن محمد بن أبي بكرة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كهيئته‏)‏ الكاف صفة مصدر محذوف تقديره استدار استدارة مثل صفته يوم خلق السماء‏.‏

والزمان اسم لقليل الوقت وكثيره، وزعم يوسف بن عبد الملك في كتابه ‏"‏ تفضيل الأزمنة ‏"‏ أن هذه المقالة صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم في شهر مارس وهو آذار وهو برمهات بالقبطية، وفيه يستوي الليل والنهار عند حلول الشمس برج الحمل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ خَاصَمَتْهُ أَرْوَى فِي حَقٍّ زَعَمَتْ أَنَّهُ انْتَقَصَهُ لَهَا إِلَى مَرْوَانَ فَقَالَ سَعِيدٌ أَنَا أَنْتَقِصُ مِنْ حَقِّهَا شَيْئًا أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ ظُلْمًا فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ لِي سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

حديث سعيد بن زيد في قصته مع أروى بنت أنيس في مخاصمتها له في الأرض، وقد تقدمت مباحثه مستوفاة في كتاب المظالم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن أبي الزناد عن هشام‏)‏ أي ابن عروة ‏(‏عن أبيه قال لي سعيد بن زيد‏)‏ أراد المصنف بهذا التعليق بيان لقاء عروة سعيدا، وقد لقي عروة من هو أقدم وفاة من سعيد كوالده الزبير وعلي وغيرهما‏.‏

*3*باب فِي النُّجُومِ

وَقَالَ قَتَادَةُ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثٍ جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ أَخْطَأَ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَشِيمًا مُتَغَيِّرًا وَالْأَبُّ مَا يَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالْأَنَامُ الْخَلْقُ بَرْزَخٌ حَاجِبٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَلْفَافًا مُلْتَفَّةً وَالْغُلْبُ الْمُلْتَفَّةُ فِرَاشًا مِهَادًا كَقَوْلِهِ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ نَكِدًا قَلِيلًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب في النجوم وقال قتادة إلخ‏)‏ وصله عبد بن حميد من طريق شيبان عنه به وزاد في آخره ‏"‏ وأن ناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة‏:‏ من غرس بنجم كذا كان كذا ومن سافر بنجم كذا كان كذا ولعمري ما من النجوم نجم إلا ويولد به الطويل والقصير والأحمر والأبيض والحسن والدميم، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر شيء من هذا الغيب انتهى‏.‏

وبهذه الزيادة تظهر مناسبة إيراد المصنف ما أورده من تفسير الأشياء التي ذكرها من القرآن وإن كان ذكر بعضها وقع استطرادا والله أعلم‏.‏

قال الداودي‏:‏ قول قتادة في النجوم حسن، إلا قوله ‏"‏ أخطأ وأضاع نفسه ‏"‏ فإنه قصر في ذلك، بل قائل ذلك كافر انتهى‏.‏

ولم يتعين الكفر في حق من قال ذلك، وإنما يكفر من نسب الاختراع إليها، وأما من جعلها علامة على حدوث أمر في الأرض فلا، وقد تقدم تقرير ذلك وتفصيله في الكلام على حديث زيد ابن خالد فيمن قال ‏"‏ مطرنا بدرء كذا ‏"‏ في ‏"‏ باب الاستسقاء ‏"‏ وقال أبو علي الفارسي في قوله تعالى ‏(‏وجعلناها رجوما‏)‏ ‏:‏ الضمير للسماء؛ أي وجعلنا شهبها رجوما على حذف مضاف، فصار الضمير للمضاف إليه‏.‏

وذكر ابن دحية في ‏"‏ التنوير ‏"‏ من طريق أبي عثمان النهدي عن سليمان الفارسي قال‏:‏ النجوم كلها معلقة كالقناديل من السماء الدنيا كتعليق القناديل في المساجد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس هشيما متغيرا‏)‏ لم أره عنه من طريق موصولة‏.‏

لكن ذكره إسماعيل بن أبي زياد في تفسيره عن ابن عباس‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏هشيما‏)‏ أي يابسا متفتتا، و ‏(‏تذروه الرياح‏)‏ أي تفرقه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والأب ما تأكل الأنعام‏)‏ هو تفسير ابن عباس أيضا، وصله ابن أبي حاتم من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عنه قال‏:‏ الأب ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا تأكله الناس، ومن طريق ابن عباس قال‏:‏ الأب الحشيش، ومن طريق عطاء والضحاك‏:‏ الأب هو كل شيء ينبت على وجه الأرض، زاد الضحاك‏:‏ إلا الفاكهة، وروى ابن جرير من طريق إبراهيم التيمي ‏"‏ أن أبا بكر الصديق سئل عن الأب فقال‏:‏ أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله بغير علم ‏"‏ وهذا متقطع‏.‏

وعن عمر أنه قال ‏"‏ عرفنا الفاكهة فما الأب ‏"‏ ثم قال ‏"‏ إن هذا لهو التكلف ‏"‏ فهو صحيح عنه، أخرجه عبد بن حميد من طرق صحيحة عن أنس عن عمر، وسيأتي بيان ذلك في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والأنام الخلق‏)‏ هو تفسير ابن عباس أيضا، أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله تعالى ‏(‏والأرض وضعها للأنام‏)‏ قال‏:‏ للخلق، والمراد بالخلق المخلوق، ومن طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ الأنام الناس، وهذا أخص من الذي قبله، ومن طريق الحسن قال‏:‏ الجن والإنس‏.‏

وعن الشعبي قال‏:‏ هو كل ذي روح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏برزخ‏:‏ حاجب‏)‏ في رواية المستملي والكشميهني ‏"‏ حاجز ‏"‏ بالزاي، وهذا تفسير ابن عباس أيضا وصله ابن أبي حاتم من الوجه المذكور إلا قوله‏:‏ ‏(‏وقال مجاهد ‏(‏ألفافا‏)‏ ملتفة والغلب الملتفة‏)‏ وصلهما عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال ‏(‏وجنات ألفافا‏)‏ قال‏:‏ ملتفة‏.‏

ومن طريقه قال ‏(‏وحدائق غلبا‏)‏ أي ملتفة، وروى ابن أبي حاتم من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس‏:‏ الحدائق‏.‏

ما التفت والغلب‏:‏ ما غلط‏.‏

ومن طريق عكرمة عنه الغلب شجر بالجبل لا يحمل يستطل به‏.‏

ومن طريق علي بن أبى طلحة عنه قال ‏(‏وجنات ألفافا‏)‏ أي مجتمعة‏.‏

وقال أهل اللغة‏:‏ الألفاف جمع لف أو لفيف‏.‏

وعن الكسائي‏:‏ هو جمع الجمع‏.‏

وقال الطبري‏:‏ اللفاف جمع لفيفة وهي الغليظة، وليس الالتفاف من الغلظ في شيء إلا أن يراد أنه غلط بالالتفاف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فراشا‏:‏ مهادا كقوله ‏(‏ولكم في الأرض مستقر‏)‏‏)‏ هو قول قتادة والربيع بن أنس وصله الطبري عنهما، ومن طريق السدي بأسانيده ‏(‏فراشا‏)‏ هي فراش يمشي عليها وهي المهاد والقرار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نكدا‏:‏ قليلا‏)‏ أخرجه ابن أبي حاتم من طريق السدي قال ‏(‏لا يخرج إلا نكدا‏)‏ قال‏:‏ النكد الشيء القليل الذي لا ينفع، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ هذا مثل ضرب للكفار كالبلد السبخة المالحة التي لا تخرج منها البركة‏.‏

*3*باب صِفَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِحُسْبَانٍ

قَالَ مُجَاهِدٌ كَحُسْبَانِ الرَّحَى

وَقَالَ غَيْرُهُ بِحِسَابٍ وَمَنَازِلَ لَا يَعْدُوَانِهَا حُسْبَانٌ جَمَاعَةُ حِسَابٍ مِثْلُ شِهَابٍ وَشُهْبَانٍ ضُحَاهَا ضَوْءُهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ لَا يَسْتُرُ ضَوْءُ أَحَدِهِمَا ضَوْءَ الْآخَرِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُمَا ذَلِكَ سَابِقُ النَّهَارِ يَتَطَالَبَانِ حَثِيثَيْنِ نَسْلَخُ نُخْرِجُ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ وَنُجْرِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاهِيَةٌ وَهْيُهَا تَشَقُّقُهَا أَرْجَائِهَا مَا لَمْ يَنْشَقَّ مِنْهَا فَهُمْ عَلَى حَافَتَيْهَا كَقَوْلِكَ عَلَى أَرْجَاءِ الْبِئْرِ أَغْطَشَ وَ جَنَّ أَظْلَمَ وَقَالَ الْحَسَنُ كُوِّرَتْ تُكَوَّرُ حَتَّى يَذْهَبَ ضَوْءُهَا وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ جَمَعَ مِنْ دَابَّةٍ اتَّسَقَ اسْتَوَى بُرُوجًا مَنَازِلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ الْحَرُورُ بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْسِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرُؤْبَةُ الْحَرُورُ بِاللَّيْلِ وَالسَّمُومُ بِالنَّهَارِ يُقَالُ يُولِجُ يُكَوِّرُ وَلِيجَةً كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب صفة الشمس والقمر بحسبان‏)‏ أي تفسير ذلك، وقوله ‏"‏قال مجاهد كحسبان الرحى ‏"‏ وصله الفريابي في تفسيره من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، ومراده أنهما يجريان على حسب الحركة الرحوية الدورية وعلى وضعها، و قوله‏:‏ ‏(‏وقال غيره بحساب ومنازل لا يعدوانها‏)‏ ، ووقع في نسخة الصغاني هو ابن عباس وقد وصله عبد بن حميد من طريق أبي مالك وهو الغفاري مثله، وروى الحربي والطبري عن ابن عباس نحوه بإسناد صحيح وبه جزم الفراء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حسبان جماعة الحساب‏)‏ يعني أن حسبان جماعة الحساب كشهبان جمع شهاب، وهذا قول أبي عبيدة في المجاز‏.‏

وقال الإسماعيلي من جعله من الحساب احتمل الجمع واحتمل المصدر، تقول حسب حسبانا، ثم هو من الحساب بالفتح ومن الظن بالكسر أي في الماضي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ضحاها ضوءها‏)‏ وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال ‏(‏والشمس وضحاها‏)‏ قال‏:‏ ضوءها‏.‏

قال الإسماعيلي‏:‏ يريد أن الضحى يقع في صدر النهار وعنده تشتد إضاءة الشمس، وروى ابن أبي حاتم من طريق قتادة والضحاك قال‏:‏ ضحاها النهار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن تدرك القمر لا يستر ضوء أحدهما ضوء الآخر الخ‏)‏ وصله الفريابي في تفسيره من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بتمامه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نسلخ نخرج إلخ‏)‏ وصله الفريابي من طريقه أيضا بلفظ يخرج أحدهما من الآخر ويجري كل منهما في فلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واهية وهيها تشققها‏)‏ هو قول الفراء، وروى الطبري عن ابن عباس في قوله ‏(‏واهية‏)‏ قال متمزقة ضعيفة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أرجائها ما لم تنشق منها فهو على حافتيها‏)‏ يريد تفسير قوله تعالى ‏(‏والملك على أرجائها‏)‏ ووقع في رواية الكشميهني‏:‏ فهو على حافتها، وكأنه أفرد باعتبار لفظ الملك وجمع باعتبار الجنس، وروى عبد بن حميد من طريق قتادة في قوله ‏(‏والملك على أرجائها‏)‏ أي على حافات السماء ‏"‏ وروى الطبري عن سعيد بن المسيب مثله، وعن سعيد بن جبير‏:‏ على حافات الدنيا، وصوب الأول‏.‏

وأخرج عن ابن عباس قال والملك على حافات السماء حين تنشق، والأرجاء بالمد جمع رجا بالقصر والمراد النواحي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أغطش جن أظلم‏)‏ يريد تفسير قوله تعالى ‏(‏أغطش ليلها‏)‏ وتفسير قوله‏:‏ ‏(‏فلما جن عليه الليل‏)‏ أي أظلم في الموضعين، والأول تفسير قتادة أخرجه عبد بن حميد من طريقه قال‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏أغطش ليلها‏)‏ أي أظلم ليلها، وقد توقف فيه الإسماعيلي فقال‏:‏ معنى أغطش ليلها جعله مظلما، وأما أغطش غير متعد فإن ساغ فهو صحيح المعنى ولكن المعروف أظلم الوقت جاءت ظلمته وأظلمنا وقعنا في ظلمة‏.‏

قلت‏:‏ لم يرد البخاري القاصر لأنه في نفس الآية متعد وإنما أراد تفسير قوله أغطش فقط، وأما الثاني فهو تفسير أبي عبيدة قال في قوله تعالى ‏(‏فلما جن عليه الليل‏)‏ أي غطى عليه وأظلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الحسن كورت تكور حتى يذهب ضوءها‏)‏ وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي رجاء عنه، وكأن هذا كان يقوله قبل أن يسمع حديث أبي سلمة عن أبي هريرة الآتي ذكره في هذا الباب، وإلا فمعنى التكوير اللف تقول كورت العمامة تكويرا إذا لففها، والتكوير أيضا الجمع تقول كورته إذا جمعته، وقد أخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ‏(‏إذا الشمس كورت‏)‏ يقول‏:‏ أظلمت، ومن طريق الربيع بن ختم قال‏:‏ فورت أي رمى بها، ومن طريق أبي يحيى عن مجاهد كورت قال‏:‏ اضمحلت‏.‏

الطبري‏:‏ التكوير في الأصل الجمع وعلى هذا فالمراد أنها تلف ويرمى بها فيذهب ضوءها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والليل وما وسق أي جمع من دابة‏)‏ وصله عبد بن حميد من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن نحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اتسق استوى‏)‏ وصله عبد بن حميد أيضا من طريق منصور عنه في قوله ‏(‏والقمر إذا اتسق‏)‏ قال‏:‏ استوى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بروجا منازل الشمس والقمر‏)‏ وصله ابن حميد، وروى الطبري من طريق مجاهد قال‏:‏ البروج الكواكب ومن طريق أبي صالح قال هي النجوم الكبار، وقيل هي قصور في السماء رواه عبد بن حميد من طريق يحيى بن رافع، ومن طريق قتادة قال هي قصور على أبواب السماء فيها الحرس، وعند أهل الهيئة أن البروج غير المنازل، فالبروج اثنا عشر والمنازل ثمانية وعشرون ‏"‏ وكل برج عبارة عن منزلتين وثلث منها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فالحرور بالنهار مع الشمس‏)‏ وصله إبراهيم الحربي عن الأثرم عن أبي عبيدة قال‏:‏ الحرور بالنهار مع الشمس‏.‏

وقال الفراء‏:‏ الحرور الحر الدائم ليلا كان أو نهارا، والسموم بالنهار خاصة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس ورؤبة الحرور بالليل والسموم بالنهار‏)‏ أما قول ابن عباس فلم أره موصولا عنه بعد، وأما قول رؤبة وهو ابن العجاج التيمي الراجز المشهور فذكره أبو عبيدة عنه في المجاز‏.‏

وقال السدي‏:‏ المراد بالظل والحرور في الآية الجنة والنار أخرجه ابن أبي حاتم عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقال يولج يكور‏)‏ كذا في رواية أبي ذر، ورأيت في رواية ابن شبويه ‏"‏ يكون ‏"‏ بنون وهو أشبه‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ يولج أي ينقص من الليل فيزيد في النهار وكذلك النهار، وروى عبد بن حميد من طريق مجاهد قال‏:‏ ما نقص من أحدهما دخل في الآخر يتقاصان ذلك في الساعات‏.‏

ومن طريق قتادة نحوه قال‏:‏ يولج ليل الصيف في نهاره أي يدخل، ويدخل نهار الشتاء في ليله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وليجة كل شيء أدخلته في شيء‏)‏ هو قول عبيدة قال قوله ‏"‏ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ‏"‏ كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والمعنى لا تتخذوا أولياء ليس من المسلمين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا يُقَالُ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ

الشرح‏:‏

حديث أبي ذر في تفسير قوله تعالى ‏(‏والشمس تجري لمستقر لها‏)‏ وسيأتي شرحه مستوفى في تفسير سورة يس، والغرض منه هنا بيان سير الشمس في كل يوم وليلة، وظاهره مغاير لقول أهل الهيئة أن الشمس مرصعة في الفلك، فإنه يقتضي أن الذي يسير هو الفلك وظاهر الحديث أنها هي التي تسير وتجري، ومثله قوله تعالى في الآية الأخرى ‏(‏كل في فلك يسبحون‏)‏ أي يدورون، قال ابن العربي‏:‏ أنكر قوم سجودها وهو صحيح ممكن، وتأوله قوم على ما هي عليه من التسخير الدائم، ولا مانع أن تخرج عن مجراها فتسجد ثم ترجع‏.‏

قلت‏:‏ إن أراد بالخروج الوقوف فواضح، وإلا فلا دليل على الخروج، ويحتمل أن يكون المراد بالسجود سجود من هو موكل بها من الملائكة، أو تسجد بصورة الحال فيكون عبارة عن الزيادة في الانقياد والخضوع في ذلك الحين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الدَّانَاجُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله الداناج‏)‏ بتخفيف النون وآخره جيم هو لقبه ومعناه العالم بلغة الفرس، وهو قي الأصل داناه فعرب، وعبد الله المذكور تابعي صغير، واسم أبيه فيروز، وذكر البزار أنه لم يرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن غير هدا الحديث، ووقع في روايته من طريق يونس بن محمد عن عبد العزيز ابن المختار عنه سمعت أبا سلمة يحدث في زمن خالد القسري في هذا المسجد وجاء الحسن أي البصري فجلس إليه، فقال أبو سلمة‏:‏ حدثنا أبو هريرة ‏"‏ فذكره، ومثله أخرجه الإسماعيلي وقال ‏"‏ في مسجد البصرة ‏"‏ ولم يقل خالد القسري، وأخرجه الخطابي من طريق يونس بهذا الإسناد فقال ‏"‏ في زمن خالد بن عبد الله أي ابن أسيد أي بفتح الهمزة وهو أصح فإن خالدا هذا كان قد ولى البصرة لعبد الملك قبل الحجاج بخلاف خالد القسري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مكوران‏)‏ زاد في رواية البزار ومن ذكر معه ‏"‏ في النار، فقال الحسن‏:‏ وما ذنبهما‏؟‏ فقال أبو سلمة أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول وما ذنبهما ‏"‏ قال البزار لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه انتهى‏.‏

وأخرج أبو يعلى معناه من حديث أنس وفيه ‏"‏ ليراهما من عبدهما ‏"‏ كما قال تعالى ‏(‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم‏)‏ ‏.‏

وأخرجه الطيالسي من هذا الوجه مختصرا‏.‏

وأخرج ابن وهب في ‏"‏ كتاب الأهوال ‏"‏ عن عطاء بن يسار في قوله تعالى ‏(‏وجمع الشمس والقمر‏)‏ قال‏:‏ يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في النار، ولابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه موقوفا أيضا، قال الخطابي‏:‏ ليس المراد بكونهما في النار تعذيبهما بذلك، ولكنه تبكيت لمن كان يعبدهما في الدنيا ليعلموا أن عبادتهم لهما كانت باطلا‏.‏

وقيل إنهما خلقا من النار فأعيدا فيها‏.‏

وقال الإسماعيلي‏:‏ لا يلزم من جعلهما في النار تعذيبهما، فإن لله في النار ملائكة وحجارة وغيرها لتكون لأهل النار عذابا وآلة من آلات العذاب وما شاء الله من ذلك، فلا تكون هي معذبة‏.‏

وقال أبو موسى المديني في ‏"‏ غريب الحديث ‏"‏ لما وصفا بأنهما يسبحان في قوله‏:‏ ‏(‏كل في فلك يسبحون‏)‏ وأن كل من عبد من دون الله إلا من سبقت له الحسنى يكون في النار وكانا في النار يعذب بهما أهلهما بحيث لا يبرحان منهما فصارا كأنهما ثوران عقيرا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا

الشرح‏:‏

تقدم شروحه في كتاب الكسوف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ

الشرح‏:‏

تقدم شروحه في كتاب الكسوف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ قَامَ فَكَبَّرَ وَقَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَقَامَ كَمَا هُوَ فَقَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً وَهِيَ أَدْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهِيَ أَدْنَى مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ سَجَدَ سُجُودًا طَوِيلًا ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ سَلَّمَ وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ

الشرح‏:‏

تقدم شروحه في كتاب الكسوف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا

الشرح‏:‏

قوله ‏"‏عن أبي مسعود ‏"‏ كذا في الأصول بأداة الكنية، وهو أبو مسعود البدري، ووقع في بعض النسخ ‏"‏ عن ابن مسعود ‏"‏ بالموحدة والنون وهو تصحيف‏.‏