فصل: كتاب السلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب السلم:

.باب: السَّلفِ والنهي عن بيع ما ليسَ عندك:

3446- الأصل في السلم الكتابُ والسنة والإجماع. فأما الكتاب فآية المداينات: قال ابن عباس في تفسير الآية: أشهد بالله أن السلف المضمون إلى أجلٍ مسمى أحلّه الله وأذن فيه، وتلا هذه الآية. وروى ابنُ عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة، فوجدهم يسلفون في التمر السنة، وربما قال السنتين، والثلاث. فقال عليه السلام: «من أسلف، فليسلف في كليلٍ معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم». والإجماع منعقد على صحة السلم.
والسلم والسلف اسمان للعقد الذي قُصد في هذا الكتاب بيان أحكامه. وذكر الأصحاب عبارتين مشعرتين بمقصود السلم: إحداهما- أنه عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطَى عاجلاً. والثانية- أنه عقد يفتقر إلى بذل ما يُستَحَق تسليمه عاجلاً في مقابلة ما لا يستحق تسليمه عاجلاً. وقال أبو حنيفة: بدل عاجل في آجل.
واللقب الخاص للعقد السلمُ. والسلف يستعمل فيه وفي القرض.
ثم قال الأئمة في توطئة الكتاب: السلم يستند إلى سبعة شرائط: شرطان في رأس المال. وخمسة في المسلم فيه:
أحدها: أن يكون ديناً في الذمة.
والثاني: أن يكون موصوفاً بالصفات التي تختلف بها الأثمان والأعواض.
والثالث: أن يكون معلوم القدر إن كان مما يقدّر.
والرابع: أن يكون عامَّ الوجود عند المحل.
والخامس: تعيين مكان التسليم على أحد القولين. وكل ما ذكرناه تراجم ستأتي مفصلة في مواضعها، إن شاء الله تعالى.
3447- ثم مما يجب الاعتناء به أن لفظ السلم له أثر في العقد، ومتضمنه أن يكون المطلوب ديناً؛ فإن العين لا تسمى سلماً. وأما استحقاق تسليم رأس المال في المجلس، فلا يتلقى من اللفظ، وإنما هو يعتدّ بمثابة التعبد برعاية التقابض في بدلي العقد في الصرف وما يلتحق به.
فلو قال الرجل: اشتريت منك طعاماً صفته كذا وكذا بهذا العبد، فقال: بعته منك بهذا. فهل يثبت حكم السَّلم؟ فعلى وجهين ذكرهما صَاحبُ التقريب وغيره:
أحدهما: أنه يثبت حكم السلم من كل وجه، ويشترط فيه إقباض رأس المال في المجلس، ويمتنع الاعتياض عن المسلم فيه. والوجه الثاني- لا يثبت حكم السلم، ولا يجب تسليم الثمن المعيّن في المجلس. وعلى هذا الوجه في الاعتياض عن المسلم فيه تردّدٌ: فمن أصحابنا من خرّجه على قولين في جواز الاعتياض عن الثمن، وقد تقدم ذكرهما. ومنهم من قطع بمنع الاعتياض، وإن لم يُثبت للعقد حكم السلم؛ فإن الموصوف في الذمة مقصودُ الجنس، فكان كالمبيع المعيّن في كونه مقصودَ العين. والغالب على الأثمان قصدُ المالية لا قصدُ الجنسِ.
ومما يتعلق بالكلام على اللفظ أن الرجل إذا قال: أسلمت هذا الحمار أو هذا العبد في ثوبك هذا، وذكر لفظ السلم، ولم يف بحكمه وشرطه، فلا شك أن ما جاء به ليس بسلم. وهل ينعقد بيع العين بهذا اللفظ؟ فعلى قولين ذكرهما القاضي:
أحدهما: لا ينعقد اعتباراً باللفظِ، والثاني: ينعقد نظراً إلى المعنى، وليس البيع إلا تمليك مال بمال يتواجب بين المتعاقدين. وهذا أصلٌ طرده القاضي. والمسألة التي ذكرناها في آخر البيع من حمل البيع المقيد بنفي الثمن على الهبة أبعد عما ذكرناه الآن.
وحاصل الأصل راجع إلى أن الاعتبار بما يفهمه المتعاقدان من اللفظ، أو بمعنى
اللفظ في وضعه.
فصل:
قال: "وقد أذن الله تعالى في الرهن والسلم... إلى آخره".
3448- هذا وإن كان من كتاب الرهن، فلابد من ذكره؛ إذ ذكره الشافعي- رحمة الله عليه- فالرهن بالمسلم فيه جائز، وإذا ثبت بتفسير ابن عباس أن الدين المذكور في آية المداينات هو السلم، وقد قرنه الله تعالى بالرُّهُن المقبوضة، فينبغي أن يتوثق مستحق السَّلم بالرهن أو الحَميل. أمّا الرهن، فغرضه الأظهر الوثيقةُ، فإذا حل السلم وامتنع المسلم إليه، واستمكن المرتهن من إثبات حقه في مجلس القاضي، تولى القاضي بيع الرهن في حقّه.
وإن لم يتمكن من إثبات حقه، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع بتسليط المرتهن على بيع الرهن عند العجز عن التوصّل إلى ذلك بالحكم والقضاء. ومنهم من خرّج ذلك على ما إذا ظفر الإنسان بمال من عليه الحق. وفيه تفصيل سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى. وإن كان بالمسْلم فيه حَميلٌ، طالبه المسلِمُ بحقه بالمحل، فإذا أدّاه وكان ضمن بالإذن، رجع على المضمون عنه. على تفصيلٍ يشتمل على خلافٍ ووفاقٍ في المسائل. وإذا ثبت له الرجوع، نُظر في المضمون. فإن كان مثلياً، رجع بمثل ما ضمن، وإن كان من ذوات القيم، فيرجع بالقيمة أو بالمثل، فعلى وجهين كالوجهين في القرض؛ فإن الضامن في حكم المقرض للمضمون عنه ما يرجع به عليه، وهذا بيّن.
قال القاضي: ولو قال أحد من في السفينة لصاحبه: ألق متاعك في البحر، فإذا ألقاه وكان مثلياً، ضمن المستدعي مثلَه. على تفصيل يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وإن كان من ذوات القيم، فيضمن له القيمة أو المثل، فعلى الخلاف المذكور في القرض. وهذا فيه احتمال؛ من جهة أنه ليس بإقراضٍ على الحقيقة. وإنما هو استدعاء إتلافٍ لمصلحة. وهو قريب من تعاطي المضطر أكل طعام الغير، فالغالب على الظن أن القاضي يسلم القطعَ في ذلك بالرجوع إلى القيمة إذا كان المتلفُ من ذوات القيم.
فصل:
قال: "وإذا جاز السَّلف في التمر السنين... إلى آخره".
3449- يجوز السلم في المنقطع حالة العقد عندنا إذا كان يغلب على الظن عمومُ وجوده عند المحل. وشرط أبو حنيفة أن يكون الجنس المسلمُ فيه موجوداً حالة العقد، وشرط ألا يكون مما ينقطع بين العقد والمحل.
واحتج الشافعي عليه بما رواه ابن عباس: "أن أهل المدينة كانوا يسلفون في التمر السنة والسنتين". ولا يكاد يخفى أن من أسلف في التمر سنتين، فالتمر ينقطع في الأثناء. ومعنى المذهب مذكور في (الأساليب).
وإذا أسلم في شيءٍ ببلد، وكان لا يوجد مثله في ذلك البلد، ويوجد فيما عداه من البلاد والقرى، فإن كان البلد الذي يعم وجود المسلم فيه قريباً من بلد العقد، صحَّ. وإن كان بعيداً، لم يصح.
3450- ثم قال الأئمة: لا يعتبر فيما أطلقناه من القرب والبعد مسافةُ القصر والقصورُ عنها.
وهذا مما يجب الاعتناء فيه بتقريب مأخذ يخرجه عن عماية الإجمال؛ فإن القول في مثله ينتشر. ولا ضبطَ في قول القائل: إن كان بحيث يشق النقل لم يصح السلم، وإن كان بحيث لا يشق النقل يصح.
وقد يقرب في هذا أن يقول: إن جرت العادة بنقل ذلك الجنس إلى ذلك البلد، يجوز؛ فالمسلم فيه مقدور على تسليمه. وإن كان ذلك لا يعتاد، فهو ملتحق بما لا يقدر عليه. ولا اعتبار بما ينقله آحاد الناس للتحف. وإنما الاعتبار بما ينقل لأغراض المعاملة.
وهذا لا بأس به، وإن قيل: المتبع هو الذي يلقى متحمِّلُ النقل مشقةً ظاهرة خارجة عن اعتياد النقل.
وقد أجرى الشافعي في هذا لفظاً، فليتأمله الناظر، فقال: "هو كما لو أسلم في رطب البصرة، وبلد المسلم من بلاد خُراسان". وهذا سرف في تصوير التعذّر، وهو يحصل بدون هذا.
وبالجملة السلم عقد إرفاق من الجانبين، والمحكَّم فيما ينتشر من أحكامِ المعاملة العرفُ، فكل مشقة لا يبعد في غرض المعاملة أن تحتمل لاستعمال رأس المال، فتلك المشقة لا تقدح في صحة السَّلم، وكل مشقة لا تحتمل في أغراض التعامل، فلا يبتنى جواز العقد عليها. وليس للفقيه أن يصور غرضنا وراء المعاملة، مثل أن يتفق تضييق وإرهاق في مصادرة وحاجةٍ حاقة في الرضا بمقاساة الكُلف للتجارة من الضرورة الناجزة. فلا اعتبار بأمثال هذه الأحوال.
ويمكن أن يقال: سبيل الضبط أو القرب منه أنّ النقل إذا كان يُلحق المنقولَ بما لا يعم إمكان الوصول إليه، فهو من المتعذر الذي لا يجوز السلم فيه.
وهذه العبارات تُشير إلى تقريب واحد.
فصل:
قال: "فإن نفد الرطب أو العنب حتى لا يبقى منه شيء... إلى آخره".
3451- مقصود الفصل ذكر حكم انقطاع جنس المسلم فيه، والوجه أن نبدأ
بالحكم، ونُجري فيه ما يليق، ثم نذكر دقيقةً في معنى الانقطاع.
فإذا انقطع جنس المسلم فيه حالة المحل لآفةٍ أو جائحةٍ، فللشافعي قولان:
أحدهما: أن العقد ينفسخ.
والثاني: أنه لا ينفسخ. ولكن للمسلم حق الخيار في الفسخ، وله الانتظار إن أراد إلى زمان الإمكان.
3452- توجيه القولين: من قال بانفساخ العقد احتج بأن عقد السَّلم تناول ثمرةَ السنة المعينة، فإذا انقطعت، فقد فات المعقود عليه، وكان هذا بمثابة ما لو اشترى قفيزاً من صُبرة، ثم تلفت الصبرة، فالعقد ينفسخ.
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن المسلم فيه دين، والدين متعلق بالذمة، ولا اختصاص له بوقتٍ وزمان، وأما الآجال لإثبات أوقات المطالبات. ولعل القياسَ هذا القول. ثم انقطاع الجنس في وقت المحل يضاهي إباق العبد المبيع عن يد البائع، فالبيع لا ينفسخ بإباقه، ولكن يثبت الخيار للمشتري، كذلك يثبت الخيار في مسألتنا للمسلم، فإن فسخ العقد، فذاك، وإن رأى إنظار المسلم إليه إلى قابل، فله ذلك.
ثم قال الأصحاب: إذا أنظرة، ثم بدا له أن يفسخ، فله ذلك. وقد وجدت الطرق متفقة في هذا.
وشبه الأصحاب هذا برضا المرأة بالمُقام تحت زوجها المُولي بعد انقضاء مدة الإيلاء، فإذا هي رضيت بعد توجه المطالبة بالمُقام، ثم ندمت، وأرادت رفع زوجها إلى مجلس الحاكم، فلها ذلك. وهذا تشبيه مسألة بمسألةٍ.
والمعنى المعتمد أن الإنظار-في التحقيق- تأجيلٌ والأجل لا يلحق بعد لزوم العقد، وإذا لم يلحق الأجل، لغا الإنظار.
وكان شيخي يقول: حقه في الطلب يتجدد حالاً على حالٍ، ورضاه ينحصر على وقته. وهذا في قبيل إسقاط الحقوق يضاهى الإعارة في قبيل التسليط على الانتفاع.
وكان يقطع بهذا المسلك في الخيار الذي ثبت للمشتري عند إباق العبد.
فإن قيل: أليس الإباق من قبيل العيوب التي يثبت الرد بها، ومن رضي بالعيب، لم ينفعه الندم، ولم يملك الرجوع؟ قلنا: اعتياد الإباق عيب، واتفاق الإباق لا يُلحق بالعيوب. ثم غرضنا لا يختص بهذا. ولو غصب غاصبٌ ذلك العبد وعيّبه، فغرضنا يحصل فيه.
ومما يتعلق بهذا الفن أن المشتري في العبد الآبق: لو قال أبطلت حقي من الفسخ، فالمذهب أن حقه لا يبطل وإن صرح به. وكذلك القول في السَّلم إذا صرح بإبطال حقه من الفسخ. والتفريع على أن السلم لا ينفسخ.
وقد أبعد بعض أصحابنا؛ فقال عن عجز وخَوَر: "يبطل حق الفسخ؛ فإن مستحق الحق أبطله". وإن كان يخرج هذا على أصلٍ، فأقرب الأمور إليه الإبراء عما سيكون وقد ثبت سبب وجوبه.
3453- فانتظم من مجموع ما ذكرناه أن هذا النوع من الفسخ لا يُبطله التأخير، ولا يُبطله بذلُ اللسان بالإنظار من غير تصريح بإبطال خيار الفسخ. وإن فرض التصريح، فهو على التردد الذي ذكرناه، فإن حكمنا بالانفساخ، أو فسخ المسلِم على القول الصحيح ونفذ فسخه، نظرنا إلى رأس المال: فإن كان معيناً في ابتداء العقد وعينُه باقٍ، فيسترده الفاسخ. وإن كان تالفاً، يرجع إلى بدله، فإن كان مثلياً، فالمثل. وإن كان متقوماً، فالقيمة.
وليس هذا بمثابة إفلاس المشتري بالثمن والمبيع تالف؛ فإن البائع لا يملك فسخ البيع والرجوعَ بقيمة المبيع. كما سيأتي مفصلاً مشروحاً في كتاب التفليسِ إن شاء الله تعالى.
والسَّبب فيه أن غرض البائع الانفراد بالمبيع، والخروج عن جهة المضاربة ولو فسخ البيع تقديراً ورجع بالقيمة، لضارب بها. وسيعود هذا في مواضعه. فليكتف الناظر بالمرامز إذا أحلناه.
3454- ولو كان رأس المال موصوفاً في الذمة أولاً، ثم عُجل في المجلسِ، فإذا
تسلمه المسلم إليه، وكان عينه باقياً في يده، فهل يُسترد؟ أم للمسلم إليهِ أن يأتي
ببدله؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يتعين استرداد ذلك المقبوض؛ فإنه لما عُين
بالإقباض آخراً، كان كالمعين أولاً.
والثاني: لا يتعين؛ لأن العقد لم يتناول تلك
الأعيان.
وأصل هذا الخلاف أن المسلم لو ردّ المسلمَ فيه بعيب، وقال: ليس على
الوصف الذي أستحقه، فهل يجعل ذلك نقضاً للملك من الأصل تبيناً، أو هو نقضٌ
في الحال؟ فيه اختلافٌ قدمناهُ، وعليه بنينا وجوبَ الاستبراء على المسلَم إليه إذا كان
المردود جارية.
فإن قلنا: ما يجري من ذلك في الموصوفات يتضمن رفع الملك من أصله، فعلى
المسلم إليه وقد فسخ السلم ردُّ عين ما قبضه. وإن قلنا: يتضمن نقض الملك في
الحال، فللمسلم إليه الإبدال. وهذا بيّنٌ للمتأمل.
3455- وإذا انتهى الكلام إلى هذا، فنذكر ما فيه من مزيد، فنقول: أجمع أئمتنا على أن المتعاقدين لو تبايعا الدراهم بالدنانير وصفاً، ثم عجلا في المجلس، وتفرقا عن تقابض، صح ذلك وإن اعتمد العقد في ابتدائه الذمة من الجانبين، وهل يصح العقد على هذا الوجه بعبارة السلم؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي في الشرح. وهذا مأخوذ من خلاف للأصحاب سنذكره في أن السلم هل يصح في الدراهم والدنانير إذا كان رأس المال ثوباً، أو غيره؟
ولو اشتمل العقد على عوضين من أموال الربا يشترط التقابض فيهما، كالمطعومات يباع بعضها بالبعض، فلابد من التقابض في المجلس.
فلو وصفا في الشقين، ثم عجلا، وجرى التقابض كما ذكرنا في الدراهم والدنانير، ففي صحة ذلك وجهان مشهوران:
أحدهما: الصحة كالنقود، والثاني: لا يصح؛ فإن الوصف يطول في العروض، وتعيين الدراهم يقرب من وصفه، ولهذا يكتفى في النقود الغالبة بالإطلاق من غير وصف، والقياس أن لا فرق؛ فإن الوصف وإن كان يطول، فإذا ذكر، فهو كالوصف الذي يقرب ولا يطول.
ويتصل بهذا أنه لو استحق على رجل ديناً مستقراً، ثم اعتاض عنه دراهم معينة، صحَّ. ولو اعتاض دراهم موصوفةً، ثم عجلها في المجلس، صح. فإن لم يعجلها في المجلس نُظر: فإن كان الدين نقداً، لم يجز. وإن كان الدين عَرْضاً، ففي المسألة خلاف قدمناه في كتاب البيع.
وغرضنا الآن أنا حيث نشترط التعجيل في المجلس يجوز الاعتماد في أصل العقد على الوصف في الدراهم، وهل يجوز الاعتماد على الوصف في العروض على أن تعجل في المجلس؟ فعلى وجهين. وهذا بعينه هو الذي قدمناه.
3456- ومما يتعلق بأطراف الكلام أن المسلم إذا فسخ السَّلم، فإن كان رأس المال قائماً، فيجوز الاستبدال عنه قبل القبض؛ لأنه وإن كان مضموناً، فليس هو ضمان مقابلة على التحقيق، وقد انفسخ العقد، والاستبدال عن الأعيان المضمونة بالقيم جائز، كما مهدناه في البيع. ومنع أبو حنيفة الاستبدال عمَّا في يد الغير على حكم العقد المفسوخ، وليس معه متعلق من طريق المعنى.
وكل ما ذكرناه فيه إذا تعذر الوصول إلى جميع المسلم فيه.
فأمَّا إذا فرض التعذر في بعضه، فالقول في الانفساخ وثبوت حق الفسخ في المقدار
المتعذر على ما تقدم، ثم يزداد في هذه الصورة تفريع تفريق الصفقة، وقد مضى في
موضعه مفصلاً. فليعرف الفقيه الفصلَ بين أن يقبض الميسور ثم يطرأ التعذر وبين أن
يطرأ التعذّر قبل قبض الميسور، وليتذكر الفرقَ إذا قبض الميسور بين أن يتلف وبين أن
يكون باقياً.
ولا مزيد على ما مهدناه في قواعد التفريق.
وقد نجز الغرض في هذا.
3457- وبقي علينا ما وعدناه من فضل النظر في بيان معيى الانقطاع، فممّا نستعين به في هذا ما قدمنا في الفصل السابق من تفصيل القول في أن من أسلم في جنس وهو ببلدة لا يوجد ذلك الجنس بها، فهل يكون هذا من السلم في المنقطع حالة الحلول؟
وهذا قد تمهد على قرب العهد.
ونعود الآن فنقول:
إن تحقق انقطاع الجنس بالكلية بأن يسلم في جنس لا يوجد إلا في بلده، ثم اتفق
انقطاع ذلك الجنس في تلك السنة، هذا هو الانقطاع المحقق، الذي يجري فيه
القولان في الفسخ والانفساخ.
فأمّا إذا انقطع الجنس في تلك البلدة، وكان النقل إليه ممكناً على حدٍّ لو فرض السَّلم في البلد، لعُد المسلم فيه بتقدير النقل من الممكنات، فهذا ليس بأنقطاع.
وإن كان النقل عسراً، بحيث يمتنع السلم، نُظر: فإن كان لا يتصوّر أصلاً، مثل أن يكون المسلم فيه جنساً لو نقل من مسافة شاسعة، لفسد، فهذا انقطاع أيضاً.
وإن كان النقل ممكناً على عسر، فالأصح القطع بأن السلم لا ينفسخ، فإن قول الانفساخ إنما يجري إذا جعل ثمن السنة مع إضافة المستحق إليها بمثابة صُبرة بيع صاع منها.
فأما إذا كان الإحضار ممكناً على عسر، فهو كإباق العبد إذا طرأ، فيثبت خيار الفسخ، وإن كان يمتنع إيراد العقد عليه.
ومن أصحابنا من يجعل التعذر الذي يمتنع بسببه السلم ابتداء إذا طرأ بمثابة الانقطاع
الحقيقي، حتى يُخرّج قولَ الانفساخ. وهذا القائل يزعم أن التعذر في عقد الغرر
كالتلف الحقيقي، وبه يتوجه قول الانفساخ في أصله، مع أن المسلم فيه دينٌ.
3458- ومما يتعلق بتمام البيان في هذا الفصل أنه إذا أسلم في جنس يعم وجوده
غالباً عند المحل، فاتفق انقطاع الجنس قبل المحل على وجه يعلم أن الانقطاع يدوم
في السنة. قال القاضي: في المسألة قولان:
أحدهما: أنه لا ينفسخ العقد في الحال
على قول الانفساخ، ولا يثبت الخيار على قول الخيار، حتى يحل الأجل. فإذا
حل، فإذ ذاك يجيء القولان. والقول الثاني- أنه يتنجز قبل المحل ما ثبت عند
الحلول. قال: وهذا يقرب من خلاف في الأيمان، وإن كان مأخذ الأيمان يبعد عن
مأخذ الأحكام. وذلك الأصل هو أن من حلف ليأكلن هذا الطعام غداً، فتلف الطعام قبل دخول الغد، فهل يحنث في الحال؟ أم يتأخر الحنث إلى مجيء الغد؟ فيه خلاف سيأتي ذكره، ووجه الشبه بيّن.
فصل:
قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيماً عن بيع ما ليس عنده، وأجاز السلف... إلى آخره".
3459- غرض الشافعي رحمه الله- الكلام على حديث حكيم بن حزام، وعلى الأخبار الدالة على السلم، ولم يقصد نقلَ إجازة السَّلف، مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في متن حديث واحد، ثم لا يخفى وجه الكلام، فالذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيماً عنه في بيع الأعيان من غير تقدير وصفٍ والتزامٍ في الذمة، وفي حديث حكيم ما ينبه على هذا؛ فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليأتيني فيساومني السلعة وليست عندي، فأبيعها منه، ثم أدخل السوق، فأشتريها وأسلمها إليه. فقال عليه السلام: يا حكيم لا تبع ما ليس عندك».
فصل:
قال: "وإذا أجازه صلى الله عليه وسلم بصفةٍ مضموناً إلى أجل، كان حالاً أجوزَ، ومن الغرر أَبْعَدَ... إلى آخره".
3460- السلم يفرض على ثلاثة أقسام: مؤجل- وهو جائز بالاتفاق. وحالٌّ مقيد بالحلول- وهو جائز عند الشافعي إذا كان المسلمُ فيه عامَّ الوجود حالة العقد، خلافاً لأبي حنيفة، ومعتمد المذهب أن الحلول لا يجرّ إلى العقد غرراً وعسراً، وإن أثر في قطع مَرفِق، فمسوّغٌ تسويغ الرخص، معلقاً بغرر، فإذا وقع التراضي على حذفه لم يضر.
وأما التأجيل في الكتابة فمستَحق، واعتمد بعض الأصحاب فيه تحققَ عجز المكاتب عن الوفاء بحق الحلول، وهذا لست أرضاه؛ لما سأذكره في الكتابة إن شاء الله تعالى. والمعتمد أن الكتابة حائدة عن قوانين المعاملات، وحيْدُها محتملٌ لمكان رِفق، فإذا زال الرِّفق، فارق العقدُ موردَه الشرعي، والسلم موضوع على مصالح المتعاملين، وليس نائياً نأيَ الكتابة.
فأما القسم الثالث من السلم- فهو ما يفرض مطلقاً من غير تعرض لأجل أو حلولٍ، وقد اشتهر خلاف الأصحاب فيه، فذهب بعضهم إلى أن العقد لا يصح؛ فإن المطلق في العقود محمول على العادة، وللعادة وقعٌ عظيم في المعاملات، وقد عم العرف بتأجيل المسلم فيه، فالمطلق يحمل على الأجل، فإذا لم يبيّن، كان مجهولاً.
والأقيس الحكم بصحة السَّلم؛ فإن الإطلاق مشعر بالحلول في وضعه، فإنّه يتضمن الالتزام، وكل ملتزِم مطالَب، وعليه بنينا حملَ الأجرة على الحلول في الإجارة المطلقة.
فصل:
قال المزني: "والذي اختاره الشافعي أن لا يسلف جزافاً من ثياب ولا غيرها... إلى آخره".
3461- مقصود الفصل الكلامُ فيما يصح أن يكون رأس مالٍ، فنقول: إذا كان رأس المال مشاراً إليه، ولكن كان جزافاً، ففي صحة السلم قولان:
أحدهما: وهو الأقيس الصحة، وهو اختيار المزني، ووجهه أن المعيّن المشار إليه معلوم في عقود المعاوضات، والإشارة مغنيةٌ عن القدر والوصف، إذا لم يكن علينا تعبد في رعاية المماثلة، ولم يكن على العاقد نظر في جهة الغبطة لطفل أو غيره ممن يليه، وهذا قياسٌ ظاهر.
والقول الثاني- أنه لابد من معرفة القدر والوصف، كما في المسلم فيه، والسلم عقد غرر، وقد يفرض فيه فسخ أو انفساخ، ثم تمس الحاجةُ إلى رجوع رأس المال، وينتظم منه نزاع يعسر فصله، والذي يليق بالحال أن العقد إذا كان مبناه على احتمالِ غررٍ لمكان غرض، فينبغي أن يُتوقَّى من الغرر الذي لا يقتضيه ذلك المرفق. ورأس المال إذا لم يقدّر بهذه المثابة.
قال المحققون: اختلاف القول في هذا يقرب من اختلاف القول في الجمع في صفقة واحدة بين سلمٍ وبيع، ووجه الشبه أنا نقدر تطرق الفسخ إلى أحدِ العقدين دون الثاني، ثم يفضي القول فيه إلى نزاع عند محاولة التوزيع في الفسخ والإبقاء، فينبغي أن يبعد السلم من هذا، ولا يكتفَى بحصول العلم والإحاطة في الحال.
ثم نحن في طرد القولين لا نفصل بين المكيل والموزون، وبين ما ليس كذلك. فلو جعل رأس المال ثوباً غيرَ معلوم الذُّرعان. اطرد القولان. وأبو حنيفة يفصل بين المقدور وغيره، فيُبطل السلمَ إذا ترك تقدير ما يقبل التقدير، ولا يبالي بتطرق الجهالة إلى الثياب وغيرها إذا جعلت رأس مال.
وهذا تحكّم؛ فإن التقدير فيما يقبل التقدير إنما يطلب لما فيه من الإعلام المنافي للجهالة، والجهالة هي المحذورة في عاقبة السَّلم، فإذا تحققت في الثيابِ، كانت كما لو تحققت بترك المقدار فيما يقبل التقدير.
ومما يتصل بهذا أَنَّ رأس المال إذا أحيط بصفاته بطريق العِيان، ولكن كان مجهول القيمة عند المتعاقدَيْن أو عند أحدهما، فالذي ذهب إليه الأكثرون القطعُ بصحة السلم. وقال آخرون: الجهل بالقيمة يتضمن تخريج المسألة على قولين؛ فإن التوزيع يقع باعتبارها. والتراجع يكون بحسبها.
3462- ولو كان العوض جزافاً في الإجارة، فلأصحابنا طريقان: منهم من أجراه مجرى رأس المال في السلم، حتى يخرّج على القولين. وليس عوضُ الإجارة عند هذا القائل كعوض البيع؛ فإن الإجارة لا ثبات لها إلى انقضاء مدتها؛ فإن الدار إذا سلمت، لم ينقطع غررُ الإجارة؛ إذ هي عرضةُ الانفساخ إذا تلفت الدار في أثناء المدة، ولو عابت في يد المستأجر، تعرضت الإجارة لخيار الفسخ، فشابهت الإجارةُ السلمَ فيما ذكرناه؛ لكنها تفارقه في أن التسليم في عوضها ليس شرطاً.
ومن أصحابنا من قطع بأن الأجرة في الإجارة على قياس العوض في البيع. والإجارة لا تعد من عقود الغرر، وتقدير التعذر في مقصودها ليس كتقدير التعذر في السلم.
3463- ولو كان السلم حالاًّ، فمن أئمتنا من قطع بأن رأس المال لو كان جزافاً فيه، جاز، وإنما القولان في السلم المؤجل؛ فإنه المعرض للخطر، والسلم الحال تعامل على ناجز. وهذا اختيار القاضي.
ومن أئمتنا من قال: لا فرق بين السلم الحال والمؤجل في تخريج المسألة على قولين إذا كان رأسُ المال جزافاً.
3464- ولو كان رأس المال دُرّة لا يصح السلم فيها، فضبطها بالوصف غير ممكنٍ. وإذا انضم إلى ذلك كونها مجهولة القيمة. فهذا من صور القولين إذا كان السلم مؤجلاً، وإن كانت قيمتها معلومة، فيعتبر ضبط وصفها. فإن حَرَصا على ذكر الوصف، فالأصح صحة السلم. فإن قيل: لم يمتنع السلم فيها مع إمكان وصفها؟ قلنا: لعزة وجودها، وقد ذكرنا أن الشرط في المسلم فيه عموم الوجود، ولا معنى لاشتراط هذا في رأس المال.
وقال بعض أصحابنا: كل ما لا يصح السلم فيه لا يصح جعله رأس مالٍ على أحد القولين. ومثل هذا وإن ذكر في الكتب محمول عندي على ما إذا لم يطلع على وصفه أو قيمته، غير أن معظم الناس لا يعتنون بنهايات البيان، وإذا فصل مفصل، كان ظاهر تفصيله مخالفاً لإطلاق الأولين، ولا مخالفة.
فصل:
3465- قال: "والذي أحتج به في تجويز السلم في الحيوان... إلى آخره". السلم في الحيوان جائز عند الشافعي، ولا يشك الفقيه أنه لا يجوز السلم في كل حيوان، فإنه ما من جنسٍ يطلق القول بجواز السلم فيه إلا وفيه ما يمتنع السلم فيه على ما سنصفه الآن.
والمرعي فيما يجوز السلم فيه أن يكون قابلاً للوصف المعتبر. عامَّ الوجود على الوصف المعتبر، والقول في الوصف المعتبر لم يعتنَ بضبطه على ما ينبغي، والذي أراه أن نذكر مسائل السَّلم على ترتيب السواد، ونورد في كل مسألة ما يليق بها. ثم نختم المسائل. ونعطفُ عليها ما يضبط القول في الوصف المعتبر.
ففي الحيوانات ما تضبطه الأوصافُ المقصودة، مع بقاء عموم الوجود. ثم استدل الشافعي على جواز السلم في الحيوان بأخبار وردت في استقراض الحيوان، وعلم الشافعي أن المخالف في السلم في الحيوان يخالف في استقراضه. ومبنى مسائل السلم على ذكر ما يجوز السَّلم فيه وما لا يجوز على الجملة، حتى إذا انتجز الكلام في الجمل، انعطف الشافعي على ما أجمله، وذكر مجامع الوصف في كل فن.
وكنت أوثر أن أجمع مسائلها في تقاسيم ضابطة، ولكن الجريان على ترتيب السواد أولى.
فصل:
3466- أجمع الأئمة على أن الاعتياض عن المسلم فيه لا يجوز؛ فإنه وإن كان موصوفاً، فهو كالبيع في كونه مقصوداً، وإذا امتنع التصرف في المبيع قبل القبض مع فرض توفير الثمن، فالمسلم فيه وهو في الذمة لم يتحصل بعدُ، بذلك أولى.
وذكرنا في الاعتياض عن الأثمان قولين في كتاب البيوع.
وغرض هذا الفصل أن النقد إن التحق به باءُ الثمنية، فهو ثمن، وفي الاعتياضِ
عنه القولان. وإن اتصل باءُ الثمنية بثوبٍ أو غيرِه، فقد ذكرنا في مسائل البيع خلافاً في
أنه هل يكون ثمناً. فلو قال: اشتريت منك عشرة دنانير-ووصفها- بهذا الثوب، وقد اتصل باء الثمن بالثوب، وأقيم النقد على هذه الصيغة مقام المثمن. فإن قلنا: الدراهم ثمنٌ كيف أثبتت في العقد، فيجوز الاعتياض عنه على أحد القولين في هذه الصورة.
وإن قلنا: الثمن ما اتصل به باء التثمين، فالثوب ثمن. ولا يجوز الاعتياض عن الدراهم قولاً واحداً. وإذا منعنا الاعتياض على هذا الترتيب، فهل يجب تسليم الثوب في المجلس؟ فعلى وجهين، قدمنا أصلَهما. فإن اتبعنا المعنى، فالعقد سلمٌ، وإن اتبعنا اللفظ، فلم يجر لفظ السلم. فلا يجب التسليم في المجلس.
وممّا يتعلق بهذا الفصل أن الفلوس إذا جرت في بعض البلاد وراجت رواج النقود، فقد ذهب شرذمةٌ من الأصحاب إلى أنها تلتحق بالنقود في الأحكام. ومنهم من قال: ليس لها حكم النقود، وإنما هي كالأعواض الرائجة، وإن كسدت، فهي كالأعواض الكاسدة.
فإذا تبين هذا بنينا عليه أنه لو قال: اشتريت منك مائة فلس بهذا الثوب، فإن
قلنا: الفلوس من العُروض، فليس في الصفقة ما هو ثمن في جوهره. وإن قلنا:
الفلوس لها حكم النقود، فإذا قال: اشتريت منك مائة فلسٍ بهذا الثوب، فهو كما لو قال: اشتريت منك مائة درهم بهذا الثوب. وقد سبق الكلام فيه.
وإذا كسدت الفلوس فنادى منادي السلطان بالنهي عن التعامل عليها، فتنقلب إذ ذاك عروضاً بلا خلاف.
ثم جعل أبو حنيفة كساد الفلوس بمثابة تعذر تسليم المعقود عليه. واضطربوا وراء هذا، قال منهم قائلون: هو كتلف المعقود عليه. وقال آخرون: هو كإباق العبد. واضطربوا على وجوه في الفَلَس لسنا لها. ومأخذها ما ذكرناه. والمذهب أن الفلوس في جوهرها من العروض.
فصل:
قال: "ولو لم يذكر أجلاً، فذكراه قبل أن يتفرقا، جاز... إلى آخره".
3467- إذا عُقد السلم مطلقاً، وحكمنا بصحته حملاً على الحلول، وهو الأصح. فلو أثبتا أجلاً في مجلس العقد، فظاهر النص أن الأجل يلحق، وهذا مشهور عند الأصحاب معدود من أصل المذهب.
وفي المسألة وجه آخر، أن الزوائد لا تلحق في جواز العقد، كما لا تلحق بعد لزومها. وهذا منقاس. وإن كان المشهور غيره.
وقد استقصينا القول في هذا في كتاب البيع.
3468- ولو ذكر المتعاقدان في السلم، أو في بيع الأعيان أجلاً مجهولاً في العوض الثابت في الذمة، ثم حذفا تلك الجهالة في مجلس العقد، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن الحذف لا ينفع، وفساد العقد مستمر. فإن أعاداه على الصحة، كان عقداً مبتدءاً.
وذكر صاحب التقريب وجهاً غريباً حكاه، معظم الأصحاب عنه. وهو أنهما لو
حذفا الأجل المجهول في مجلس العقد، فهل ينحذف حتى يحكم بصحة العقد؟
واحتج عليه بأن قال المتعاقدان في مجلس العقد بمثابتهما بين التواجب، فكأن
العقد لا قرار له ما لم يتفرقا.
وهذا الوجه مزيف لا يستقيم على قاعدة مذهب الشافعي؛ فإن المجلس إنما يتعلق به الحكم إذا صح العقد، وإذا ذكر في صيغته مفسدٌ، فلا عقد، وإذا لم يكن عقدٌ، فلا مجلس.
ثم تكلم أصحابنا على هذا الوجه الضعيف من وجهين:
أحدهما: يتعلق بضبط القول في مجرى هذا الوجه وبيان الأحكام التي يجرى فيها هذا الوجه، والأحكام التي لا يجري فيها.
لا خلاف أن الثمن والمثمن لو أثبت أحدهما على الفساد، فلا ينفع إصلاحهما في مجلس العقد. وهذا الوجه جارٍ في الأصل كما ذكرناه.
واختلف أصحابنا في جريانه في الخيار الفاسد إذا شرط، والرهنِ والحَميل، وزوائدِ العقد: فمن أصحابنا من طرد هذا في جميع الزوائد التي تثبت على الفساد. والأصح تخصيص ما ذكرناه بالأجل؛ وسببه أن المتعاقدين في مجلس العقد على حكم الأجل في الثمن؛ من قِبَل أن البائع لا يملك مطالبة المشتري بالثمن في المجلس، وعاقبة المجلس مجهولة، فكان الأجل مجهولاً؛ فلم يبعد أن يصلح الأجل في مجلس الخيار، والكفيل والحميل ليسا في هذا المعنى، كالأجل. وأمّا شرط الخيار الزائد إذا حذف في المجلس، فهو أقرب إلى الأجل من الكفيل والحميل؛ فإنه تأخيرٌ في لزوم العقد وليس كالأجل؛ فإنه يتصور رفعه على البت.
والخيار يتصف به العقد. والأجل فُسحةٌ في عوض العقد.
والحاصل مما رتب في ذلك أن ما صار إليه الجمهور أن الفساد لا يصلح إلا باستئناف العقد.
وقال صاحب التقريب: فساد الأجل يصلح.
وقال غيره: نعم فساد الأجل يصلح، وكذلك فساد الرهن، والحَميل، والخيار.
وقال آخرون: لا يصلح إلاّ فسادُ الأجل والخيار.
فهذا ما تكلم الأصحاب فيه.
3469- ومما ذكروه تفريعاً على هذا الوجه البعيد أن العقد لو شرط فيه الخيار على الصحة، وأثبت فيه أجلٌ مجهول، وتفرق المتعاقدان، وزمان الخيار باقٍ. فهل يكون الإصلاح في زمان الخيار بعد التفرق بمثابة الإصلاح في المجلس؟ فعلى جوابين: قال قائلون: زمان الخيار بمثابة زمان المجلس في أن جهالة الأجل يصلح.
وهذا بعيد؛ فإن مجلس العقد في حكم الحريم للعقد، فلا يقاس به الخيار المستمر بعد التفرق.
وكل ذلك خبط، وخروج عن حد المذهب، وجريان على مجاري مذهب أبي حنيفة.
والذي صح عندي من قول صاحب التقريب: أنا إذا جعلنا إطلاق السَّلم لا يجوز لتردده بين الحلول والتأجيل. فلو فرض إطلاقه، ثم تبين حلوله أو تأجيله في المجلس، فقد قال صاحب التقريب: لا يبعد أن يحتمل ذلك؛ فإن العقد لم يشتمل على جهالة محققة.
وهذا في هذا الطَّرف بعيد أيضاًً، فإنا إذا حملنا إطلاق اللفظ على التردد، لزم القضاء بالفساد، وإذا تحقق الفساد، فلا عقد ولا مجلس.
فصل:
قال: "ولا يجوز في السلف حتى يدفع الثمن قبل أن يفارقه... إلى آخره".
3470- ذكرنا أن من الشرائط في السلم تسليمَ رأس المال في المجلس. وهذا متفق عليه. ولو فرض التفرق قبل قبضه، فسد العقد، ولو جرى القبض في البعض دون الباقي وحصل التفرق، فسد العقد في القدر الذي لم يجر القبض فيه، ويسقط بنسبته من المسلم فيه، وهل يبطل في الباقي؟ كان شيخي يقول: إذا اشتملت الصفقة أولاً على حلالٍ وحرامٍ؛ ففي انعقاد الصفقة في الحلال قولان. وإذا انعقد العقد على عبدين مثلاً، ثم تلف أحدهما قبل القبض، وانفسخ العقد فيه، فهل ينفسخ في العبد الباقي؟ فعلى قولين مرتبين على التفرّق في الابتداء والانتهاء. والانتهاء أولى بقبول التفرّق؛ لأنه صح أولاً، ثم اختص الطارىء بالبعض.
فإذا وضح طرق الكلام، فالتفرق في قبض رأس المال بين الدرجتين، وهو أقرب إلى التفرق في الابتداء من مسألة العبدين؛ فإن قبض رأس المال ركن السلم، فالانفساخ فيه جرى بأن يشبه بالفساد.
فليتخيل الناظر ثلاث مراتب: إحداها- العقد. والثانية- ركن العقد. والثالثة- طريان الانفساخ على البعض بعد تمام العقد بشرائطه.
ولو سلم رأسَ المال في المجلس، وتفرقا، ثم وجد المسلَمُ إليه برأس المال عيباً، فله رده. وإذا رده، كان ذلك فسخاً في العقد بعد الصحة وتوفر الأركان. ولو تعذر ردُّ رأس المال بتلف حكمي أو حسِّي، فيثبت للمسلم إليه الرجوعُ بالأرش، حتى إذا كان العيب الذي حصل الاطلاع عليه مقدارَ عشر القيمة يسقط في مقابلته عشرُ المسلم فيه، وهذا هو الأرش.
3471- ويجب وراء هذا التنبّهُ لدقيقتين: إحداهما- أن هذه الصورة لا تلتحق بتفريق الصفقة، حتى يقال: "ارتفع العقد في عشرٍ، فهل يرتفع في التسعة الأعشار؟ فعلى قولين"، بل لا يرتفع في التسعة الأعشار قولاً واحداً. والسبب فيه أن القبض قد جرى في رأس المال. وهذا المستدرك لم يتضمن تبعيض القبض في رأس المال، والدليل عليه أنه لو كان باقياً، أمكن الرّضا به. ولكن أثبت الشرع طريقاً في استدراك الظُّلامة، وجِهةُ الاستدراك عند البقاء الرد، وعند الفوات الأرشُ. والعقد لم يختل ركنه؛ فالعشر إذن محطوط. ولا يقال: انفسخ العقد فيه، بل حطه مستحق.
فهذا بيان ما ذكرناه.
ومما وجب التنبّه له أنه إذا سقط العشر مثلاً، فلا خيار لمن يحط العشر عن استحقاقه. ونحن نثُبت الخيار لخيالات تنحط عن هذا. ولكن الوجه أن هذا حقٌّ مستحَقّ شرعاً، فلا خِيَرَة مع حكم الشرع.
والدقيقة الثانية- أن الرد إذا تعذّر، ففي كلام الأصحاب تردد في أن الأرش يثبت من غير إثبات. أم لابد من إثباته؟ ظاهر كلام القاضي أن الأرش يثبت من غير حاجة إلى إثباته، وإنما التردد والخِيَرة في حالة البقاء. فإن شاء ردّ. وإن شاء رضي به معيباً.
وسبب التردد أنا لو لم نقل به، لكان بدوُّ العيب متضمناً انفساخ العقد. وهذا بعيد عن وضع العقد ومصلحته. فأما إذا فات الردّ، فالوجه ثبوت حق صاحب الحق مع بقاء العقد.
ومن أصحابنا من قال: لا يثبت الأرش بنفس الاطلاع على العيب مع تعذر الرد؛ فإنَّ الرضا بالعيب كان ثابتاً في البقاء، فليثبت إمكانه وحكمه بعدَ الفوات. فعلى هذا يثبت الأرش بالطلب الجازم.
وهذا قريب من التردد في أنّ ملك الشفيع متى يثبت في الشقص المشفوع، غير أنه يتجه في الشفعة جهاتٌ من القضاء، وتأدية الثمن والطلب، وهاهنا لا وجه إلا الربط بالطلب.
فصل:
قال: "ويكون ما يسلف فيه موصوفاًً... إلى آخره".
3472- قد ذكرنا أن أحد شرائط السَّلم كونُ المسلم فيه موصوفاً؛ فإن الإعلام لابد منه. فإذا لم يكن عِيانٌ ومشاهدة، فلابد من الوصفِ. ثم بعض الأوصاف المقصودة لا تكفي، ولابد من استقصاء كل وصف مقصود.
ثم يكفي-عند القبض والتسليم- في كل وصف ما ينطلق عليه الاسم، ولا يطلب الأقصى؛ فالنهايات لا ضبط لها حتى لو أسلم في كاتب، فيكتفى بما ينطلق عليه اسم الكتابة، لا يشترطُ التبحر فيها. وكذلك القول في الصفات المشروطة في بيع الأعيان. فإذا شرط كون العبد المشترى كاتباً، اكتفي في الوفاء بالشرط بالاسم. كما ذكرناه.
ثم من الأوصاف ما يهتدي إليها الخواص والعوام، كأوصاف الحنطة والشعير، وما في معناهما، والثياب المتخذة من القطن، وما كان من هذا القبيل فأوصافها قليلة. ومنها ما لا يهتدي إلى معرفة أوصافها إلا أهل الصنعة كأنواع القطن والإبريسم والمماليك.
3473- وقد ذكر شيخي وصاحب التقريب في ذلك ترتيباً، ونحن نطرده على وجهه. قالا: إذا وقع السَّلم في موصوف أوصافه المقصودة معروفةٌ في الناس، فالسلم صحيح لا يأتيه خلل من قبيل الوصف. والأَوْلى إذا تعاقدا أن يُشهدا على الأوصاف؛ حتى لا يتنازعا، والإشهاد مستحب غير مستحَق، ولا يستحق الإشهاد إلا في النكاح.
وإن كان الجنس المطلوب مما يختص بمعرفة صفته المتعاقدان فيما زعما، فالسلم باطل؛ فإن المطلوب مجهول عند الناس. ولو تشاجر المتعاقدان لم يُدْرَ كيف تداعيهما، وعاد مقالهما تراطناً بينهما. وعقد السلم عقد غرر، فينبغي أن يُتوقَّى أمثالُ ذلك، ولو لم تُجتنب، لانضم إلى أصل الغرر في العقد وترتب منهما عَماية.
ولو كانت تلك الصفة بحيث يعرفها عدد الاستفاضة، فيصح العقد، ولا يشترط حضور أحد، بل يشترط ما ذكرناه، ليعرف عند النزاع تناكرهما وتقارّهما.
وإن عرف الصفة عدلان، فهل يعتمد العقد معرفتهما حتى يصح؟ أم لابد من عدد الاستفاضة؟ فعلى وجهين.
وزعم الإمام أن هذا القياس يطرد في تعيين المكيال على ما سنعقد فيه فصلاً.
والذي نعجله منه أنهما لو ذكرا مكيالاً شائعاً، صح التقدير به إذا كان يعرفه أهل الاستفاضة. فإن ذكرا مكيالاً زعما أنهما يعرفانه، وكان لا يعرفه غيرهما، فالسلم باطل. وإن كان يعرف ذلك المكيالَ عدلان، فوجهان إذا لم يَشع العلمُ في عدد الاستفاضة.
وليس ما استشهدنا به في تعيين المكيال إشارة إليه؛ فإن ذلك فن يأتي. وإنما هذا في ذكر مكيال معلوم أو مجهول، كما فصلنا.
وهذا الترتيب حسن.
ولكن فيما وقع القطع بفساد السلم فيه احتمال. والأظهر الفساد.
ليس هذا الذي خضنا فيه الفصلَ الموعودَ في ضبط الوصف المعتبر.
وذلك يأتي في فصل، إن شاء الله.
فصل:
قال: "قال الله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189]... إلى آخره".
3474- الغرض من الفصل أن السلم إذا اشتمل على الأجل، فلابد من إعلامه، فإذا أجل إلى شهر، صح، وحمل على الشهر العربي. والشهور العربية بالأهلة، ومعلوم أن الشهر ينقص ويكمل، وما يتوقع من كمالٍ ونقصانٍ محتمل بلا خلاف.
ويبعد تطبيق أول الأجل على أول الشهر، والغالب أن تردد الشهر يقع في الشهر الثاني والثالث. فإذا وقع التأجيل ثلاثة أشهر، فلينكسر الأول غالباً، وكل شهر انكسر في الآجال اكملناه ثلاثين يوماً، ولم ننظر إلى ذلك الشهر انتقص أم تكمّل، فإذاً الشهر الثاني والثالث بالهلال، والشهر الأول المنكسر على الكمال، فنستكمله من أيام الشهر الرابع. حتى لو وقع الأجل وقد بقي من الشهر لحظة، انكسر الشهر بها، ولزم من انكساره إكماله.
وبيان ذلك بالمثال أن ابتداء الأجل لو وقع وقد بقيت لحظة من شهر صفر، فنقص الربيعان، ونقص جُمادى، فأمّا الربيعان فشهران محسوبان بالأهلة، وأمّا جُمادى فإذا نقص، كملناه بيوم من جُمادى الآخر.
وكنت أود في هذه الصورة أن نكتفي بالأشهر الثلاثة؛ فإنها جرت عربية كَوامِل وإن نقصت عدة الأيام. وإنما يكمل إذا كان بقي من الشهر أيام بحيث لا يتمكن من احتساب شهر كاملٍ عربي، فيأخذ من أيام الشهر الثالث ما يكمل أيام شهر صفر ثلاثين.
فأمّا إذا استمرت لنا أشهر عربية، فليقع الاكتفاء بهذا.
وعلى هذا أمر العدة المنوطةِ بالأشهر.
وإذا كان الأجل إلى انقضاء شهرٍ، أو انسلاخه، أو انقضاء السنة، جاز.
ان احتاج المتعاقدان إلى وقفة في درك ما بقي من السنة.
قال الأئمة: هذا في الألفاظ يناظر ربط إعلام المبيع بالعِيان في مثل قول القائل: بعتك من موقف قدمي إلى الشجرة.
ثم كما انقضى الشهر أو السنة حكم بحلول الأجل.
3475- وذكر صاحب التقريب فصولاً في العبارات عن الأجل. ونحن نذكرها، ونتخذها أصولاً.
فمنها أنه لو أجل شيئاً إلى نَفْر الحجيج، فإن قيده بالنفر الأول في سنة مخصوصة، صح. وإن ذكر النفر مطلقاً، أو أضافه إلى السنة المعلومة، ففي المسألة وجهان.
هكذا ذكر صَاحب التقريب:
أحدهما: يفسد الأجل لتردد محله بين النفرين.
والثاني: يصح، ويحمل على النفر الأول؛ فإنه تحقق الاسم به. وهو كما لو قال: إلى يوم عاشوراء، فالأجل صحيح، وآخره محمول على أول جزء من اليوم، فإن الاسم يتحقق به، فحمل على الأول، ولم نلتفت إلى تمادي اليوم إلى غروب الشمس.
وألحق العراقيون بذلك ما لو أجّله بشهر ربيع أو جمادى من سنة معلومةٍ ولم يذكر الأول والآخر، وهذا قياسُ ما ذكره صاحب التقريب في النفر.
ثم يلتحق بهذا عندنا أصل نمهده أولاً، ثم نفرعه، وهو أن آخر الشهر اسمٌ ينطلق على ما يبقى بعد نصف الشهر إلى الانقضاء، وليس المراد بالآخر الجزء الأخير، فيقال: العشر الأواخر. وأواخر الشهر. والقول في الأول كالقول في الآخر، فهو اسم ينطلق على النصف، ولا يتخصص به الجزء الأول.
ثم أطلق أصحابنا وقالوا: إذا قال: إلى آخر الشهر أو إلى أول الشهر الفلاني، كان ذلك مجهولاً، حتى ينص على ما يعينه في الأول والآخر.
وهذا مشكل عندي.
وإذا كان الأصحاب يردّدون القول في الربيع المطلق والنَّفرِ، وحمله بعضهم على ما ينطلق عليه الاسم أول مرة، فهذا يتوجه في الأول والآخر من الشهر، حتى يقال: يحمل الأول على الجزء الأول، ويحمل الآخر على الجزء الأول من النصف الثاني.
وقد ينقدح للفَطن حمل الأخير على الجزء الأخير، وحمل الأول على الجزء الأوّل.
وإذا لم يكن لصاحب المذهب نص، ورجع الكلام إلى معاني الألفاظ، اتسع المقال، وارتفع الحرج.
ولست أرى مثل هذا مخالفةً في المذهب؛ فإن المحذور خلاف نص المذهب؛ كيف وقد نصوا على أن ذكر اليوم-من غير عبارة تقتضي الظرفَ- محمول على أوله وإن كان اسم اليوم يشمل الجميع، فليكن الأول شاملاً لنصف، والآخر شاملاً لنصف شمول اسم اليوم لساعات.
فإذا قال: أجلتك إلى يوم الجمعة، حل الأجل بطلوع فجر يوم الجمعة. وإذا قال: أجلتك إلى شهر كذا، فكما استهل تبين حلول الأجل معه.
ولو قال: تؤديه في يوم كذا، أو شهر كذا، لم يجز؛ لأنه جعل جميع أجزاء اليوم ظرفاً ومحلاً، فكأنه قال: محل الأجل وقتٌ من أوقات يوم كذا. وجوز أبو حنيفة هذا. وذكر صاحب التقريب ذلك وجهاً لبعض أصحابنا، لم أره لغيره.
وإذا جعل محل الأجل فعلاً يتقدم أو يتأخر، فهو مجهول. مثل أن يقول: إلى الحصاد أو إلى الدياس. وكذلك إذا قال: إلى العطاء، يعني خروج الأُعطية. ولو قال: إلى وقت العطاء وكان له وقت معلوم، جاز، ولو قال: إلى وقت الحصاد، لم يجز؛ لأنه ليس له وقت معلوم.
ولو قال إلى النيروز والمهرجان، فالمذهب الجواز؛ لأنه معلوم مفهوم عند الناس، ومنع بعض الأصحاب ذلك، وهو مشهور، ولست أرى له وجهاً إلا الحمل على مسير الشمس؛ فإن النيروز والمهرجان يطلقان على الوقتين اللذين تنتهي الشمس فيهما إلى أوائل برجي الحمل والميزان. وقد يتفق ذلك ليلاً، ثم ينخنس مسير الشمس كل سنة بمقدار ربع يوم وليلة وشيء، ومن اجتماع هذا التفاوت الكبايس في حساب الفلك.
ولو قال: إلى فِصْح النصارى وفطير اليهود، وكان لا يعرف ذلك، والرجوع فيه إلى النصارى واليهود، فهذا مجهول، ولا سبيل إلى اعتماد قول الكفار. هكذا قال الشافعي.
ولو أسلم منهم طائفةٌ، وأخلوا بالفصح والشعانين، وكانوا يعرفون، فمفهوم نص الشافعي في التعليل بالمنع عن الرجوع إليهم يدل على أن ذلك جائز في الذين أسلموا، وهم لا يحتاجون إلى المراجعة.
ومن أصحابنا من لم يجوز ذلك. ولا محمل له إلا اجتناب التأقيت بمواقيت الكفار. ويمكن أن يقرب من اختصاص المتعاقدين بمعرفةِ الأجل حتى ينزّل هذا على ما ذكرناه في الوصف النادر، والمكيال النادر.
فصل:
قال: "وإن كان ما أسلف فيه مما يكال، أو يوزن سمياً مكيالاً معروفاً عند العامة... إلى آخره".
3476- القول في هذا الفصل يتعلق بأمرين:
أحدهما: ذكر المكيال مطلقاًً.
والثاني: تعيين المكيال بالإشارة. فأمّا ذكر المكيال مطلقاً، فقد تقدم بما ذكرنا العامُّ والمستفيضُ، وما لا يعرفه غير المتعاقدين، وما يعرفه عدلان سواهما.
وهذا كالوصف.
والغرض الآخر من الفصل التعيين.
والقول في هذا ينقسم إلى ما يشار إليه في بيع العين، وإلى ما يشار إليه في السلم. فأما تفصيل القول فيما يشار إليه في السلم، فإن وقعت الإشارة إلى قصعةٍ ما جرى العرف في الكيل بها وبأمثالها، فقد اتفق الأئمة على بطلان السلم. والسبب فيه أن مِلأه مجهول، والمسلم لا يدري أن ما أسلم فيه ما سعره؟ أرخيص هو أم غال؟ وينضم إلى ذلك أن القصعة عرضة التلف؛ فهذا غرر أُدخل على السلم من غير مَرْفق. ولو تلفت القصعة، لم يدر المتعاقدان إلى ماذا رجوعهما.
وإن أشار إلى مكيال ملؤه معلوم، وشرط أن يقع الكيل به دون غيره، ففي المسألة وجهان مشهوران:
أحدهما: أن العقد يفسد، لإلزام ما لا يلزم، مع تعرض ذلك المعين للتلف، كما قدمناه. والوجه الثاني- أن السلم يصح، والمعقود عليه ملء ذلك الصاع، وتعيين ذلك فاسد، لا يتعلق بغرض العقد، وقد ذكرنا أن الشرائط التي لا تتعلق بغرض العقد ملغاة، لا حكم لها.
هذا قولنا في تعيين المكيال بالإشارة في السلم.
3477- فأما التعيين في بيع العين، فإذا قال: بعتك ملءَ هذه القصعة من هذه الصُّبرة، فالأصح الصحة. وفيه وجه أنه لا يصح؛ لجهالة المعقود عليه، والعِيان غيرُ محيط بالمبيع، وإنما إحاطته بطرفه. والأصح الوجه الأول، فإن التعويل الأظهر على ما ذكرناه من الغرر في السلم، ولا غرر هاهنا.
ولو عين مِكْيَالاً معتاداً في بيع العين، وشرط الكيلَ به، فبيعُ العين والسلم بمثابةٍ في هذه؛ فإن ملء الكيل معلوم في العقدين، والمكيال لا يتعين بالشرط فيهما.
وإنما الكلام في الحكم بشرط لا يلزم ولا يتعلق بغرض العقد. والسلم الحال بين بيع العين والسلمِ المؤجل. فمن أصحابنا من ألحقه بالقصعة والمكيال المعلوم بالبيع، ومنهم من ألحقه بالسلم المؤجل.
فصل:
قال: "ويكون المسلم فيه مأموناً في مَحِلِّه... إلى آخره".
3478- أراد بذلك أنَّ المسلم فيه ينبغي أن يكون بحيث يغلب وجوده في العادة عند المحل المشروط. فلو كان معدوماً عند المحل، فالسلم باطل قولاً واحداً، وهو كما لو جعل محلَّ الرطب الشتاءَ أو الربيع، وكذلك لو كان نادر الوجود بحيث يتعذر تحصيله، وقد لا يصادَف، فلا يصح السلم. وهذا هو المعني بقول الفقهاء: لا يصح السلم فيما يعسر وجوده، ومثّل الأئمة هذا بالسلم في قدرٍ صالح من تمرٍ في أول ما يدرك الجنس، وهو إن وجد، فقليلٌ يُتهادى باكورُه، وظهور التعسّر في التحصيل كالعدم، وهو بمثابة ما لو باع عبداً آبقاً وكان ردُّه عسراً، فالبيع باطل، وإن لم يكن مأيوساً.
وهذا فيه فضل نظر.
فإن كان المسلمُ فيه مما يغلب على القلب فقده، ولا يبعد-على ندورٍ- وجودُه، فالسلم باطل. وإن كان مما يغلب على القلب وجوده، ولكن كان لا يتوصل إلى تحصيله إلا بمشقة عظيمة، ينكف بمثلها الطالبون عن الطلب غالباً، فمن أئمتنا من قال: السلم باطل في هذه الصورة؛ لأنه عقد غررٍ، فلا يحتمل معاناة المشاق العظيمة. ومنهم من قال: إنه يصح. ولعله القياس.
والمسلم إليه إذا التزم أمراً وكان التحصيل فيه ممكناً غالباًً، فعليه الوفاء بما التزمه على يسر أو عسر. والشرط عند هذا القائل إمكان التحصيل في الوقت المشروط من غير استئخار فيه.
فصل:
3479- ذكر الشافعي من هذا الموضع إلى آخر الباب تفاصيلَ ما يجب ذكره من الأوصاف في الأجناس التي يصح السلم فيها، وعقدَ بعد نجاز غرضه باباً فيما يصح السلم فيه. ونحن نذكر الأجناسَ التي ذكرها على ترتيب السواد، ونورد في كل جنس ما ذكره الأصحاب. ثم نُعقب المسائلَ بما وعدناه من الضبط في الصفات، إن شاء الله تعالى.
قال: "فإن كان تمراً قال: صَيْحاني أو بَرْني " فالمراد أنه إذا أسلم في تمر، فلابد من ذكر نوعه ولونه، ولابد من ذكر كونه حديثاً أو عتيقاً.
وقد ردد أصحابنا ذكرَ الحديث والعتيق في الأطعمة. وليس يطرد القول فيها على منهاجٍ واحد، فكل جنس يختلف الغرض والثمن فيه بأن يكون جديداً أو عتيقاً، كالتمر الذي نحن في بيانه، فلابد من التعرض له. وكل جنس لا أثر للحدوث والعتق فيه، فلا حاجة إلى التعرض لذكره. فلو أسلم في الرطب، ذكر فيه ما ذكرناه في التمر، ولا يتعرض للحدوث والعتق.
وإن أسلم في حنطة، ذكر الأوصاف المقصودة فيها، وتعرض لنوعها، فذكر أنها شامية أو ميشانية. وإن كان يختلف الغرض باختلاف البقاع، نسبها إلى الناحية المقصودة، ويصفها بالحدارة والدقة. وذكر بعض أصحابنا أن التعرض للحدوث والعتق واجب فيها، كما ذكرناه في التمر.
وقال آخرون: لا يجب ذكرهما؛ فإن الغرض لا يختلف في الحنطة. فإن وقع التعرض لذلك، كان احتياطاً؛ فإن العتق المحذور فيها يُدنيها من التسويس، ومطلق العقد يقتضي سلامةَ المسلم فيه، فلا حاجة إلى ذكر ذلك.
ثم قال الشافعي: ويذكر حالاً أو مؤجلاً. وهذا تعلَّق به مَنْ شَرَطَ التعرض للحلول والتأجيل. ومن لم يشترط ذلك وحمل المطلق على الحال-وهو الصحيح- حمل ما ذكره الشافعي على الاحتياط.
ثم قال في الحنطة: يصف حصادَ عامٍ مسمّى. وهذا إن كان مقصوداً، فالأمر فيه يتوقف على أن ذلك هل يدرك، وإن أُدرك، فهل يشيع إدراكه؟ وقد مضى فيه قول بالغ.
فصل:
قال: "ويكون الموضع معروفاً... إلى آخره".
3480- من أصحابنا من قال: أراد الموضعَ الذي يرتفعُ منه الطعام المسلم فيه، فيذكر أنه تمر ناحية كذا، وفُرض فيه إذا كان الغرض يختلف بهذا، أو كانت الناحية التي سماها لا يخلُف رَيْعه غالباًً.
فإن كان موضعاً ضيقاً كقرية صغيرة، أو مَحِلة، أو بستان، فقد أطلق أصحابنا أن هذا النوع من التعيين يُبطل السلم.
وفي هذا نظر ومباحثة. فإن أشار إلى نخلة أو نخلات، أو بستان يحوي نخلات، فالسلم باطل. واختلف أصحابنا في تعليله: فمنهم من قال: سبب البطلان التعيينُ، وهو منافٍ للدَّيْنيّه المرسلة. وحق المسلم فيه أن يكون ديناً مرسلاً ينبسط الملتزِمُ في تحصيله على يسر، فإذا عُينت نخلة أو نخلات، ضاق مجال التحصيل.
وكان المعيَّنُ عرضة للآفات، فيجتمع فيها ظهورُ توقّع الآفة، وضيق مجال التحصيل.
وهذا القائل يقول: المعتبر ما دللنا عليه بمنظوم الكلام ومفهومه، حتى لو عيّن ثمار ناحية متسعة يبعد أن يعمها آفة، ولايضيق مجال التحصيل فيها، فالسلم صحيح.
وسلك بعض أصحابنا مسلكاً آخر فقيهاً فقال: كل تعيين يضيِّق المجال، يفسد السلم، وإن لم يضيِّق المجالَ، فالشرط أن يفيد التعيينُ نَوعيَّةً في المذكور، وهو بمثابة تمر البصرة، أو تمر ناحية أخرى، لو قيس به تمر ناحية أخرى. وإن جمعهما الصنف اشتمالاً لا يجمعهما النَّوعية، وهذا كالمعقلي البصري، يمتاز عن المعقلي البغدادي لا محالة. وهذا عام في فواكه النواحي. ولعله من الأهوية والتربة، في مطرد العرف.
فما كان كذلك، صح. ومالم يكن كذلك، فالتعيين فيه مفسد؛ فإنه تعيين لا غرض فيه. فخرج أن من أصحابنا من اعتبر في الجواز اتساعَ المحل ومنهم من اعتبر ذلك، واعتبر معه غرضَ النوعية. ثم من لم يعتبر غرضَ النوعية، ففي قوله احتمال عندي، يجوز أن يتعين رَيْع القطر الذي عينه، ويجوز أن يقال: الغرض تحصيله أو تحصيل مثله، ويلغو ذكر التعيين، كما يلغو تعيين الصاع في وجه إذا كان له أمثال. ومن اعتبر النوعية، فإذا عينها وبنى العقدَ عليها، فلو فُرض تمر بغداد مساوياً لتمر البصرة من كل وجه، فهذا القائل يكتفي به لا محالة، ويقول: لم يكن الغرض بتعيين الناحية التعيين على الحقيقة، ولكن الغرض العبارة عن النوع. والأوصاف قد لا تصاغ لها عباراتٌ فردة، وإنما تستبان بالإضافات.
هذا تفصيل القول في التعيين المصلح، والتعيين المفسد.
3481- ومن أصحابنا من حمل قول الشافعي: "ويكون الموضع معروفاً " على مكان التسليم. والنصوص مترددة في هذا، والأصحاب مختلفون فيه.
والترتيب أن عقد السلم إن جرى في مكان لا يصلح للتسليم بأن كان في مفازة، فلابد من تعيين مكان التسليم.
وإن وقع العقد في مكان يصلح لتسليم المعقود عليه فيه، فهذا موضع التردد.
من أصحابنا من قال: إن كان لحَمْل المسلم فيه مؤنة، وجب تعيين مكان التسليم ذِكراً، فإن لم يذكر، فسد العقد، وإن لم يكن لحمل المسلم فيه مؤنة، ففي المسألة قولان:
أحدهما: يجب التعيين؛ فإن الأغراض تختلف باختلاف أماكن التسليم، وليست المؤنة كل الغرض.
والثاني: لا يجب، ويحمل مطلق العقد على استحقاق التسليم في مكان العقد.
ولم يصر أحد إلى صحة العقد، وإرسال مكان التسليم، بل إما الفساد وإما تعيين مكان العقد.
وهذه الطريقة في الترتيب هي الصحيحة.
ومن أصحابنا من عكس، وقال: إن لم يكن للحمل مؤنة، لم يعتبر المكان، وتعيّن مكان العقد. وإن كانت، فقولان:
أحدهما: الفساد.
والثاني: الصحة.
ووجهه أن العرف يَحمل التسليمَ على مكان العقد.
وهذا لا يسلمه القائل الأول.
ومن أصحابنا من طرد القولين فيما فيه مؤنة، وفيما لا مؤنة فيه.
وطرد المحققون أصلاً على هذا في جميع الديون، فقالوا: إذا عجل من عليه الدين المؤجل ما عليه، فامتنع مستحق الدين، فإن كان له غرض من توقي نهب أو غارة، أو فساد يتسرع إلن ما يقتضيه، فله الامتناع. وإن لم يكن له غرض في الامتناع، نُظر: فإن كان للمعجِّل غرضٌ في التعجيل من فك الرهن أو غيره من الأغراض الصحيحة، فظاهر المذهب أن مستحق الدين مجبر على قبضه؛ إذ لا غرض له في الامتناع، وللمعجل غرض في التعجيل. وإن لم يكن للمعجل غرض ظاهر ولا للممتنع غرض بيِّن، ففي المسألة قولان.
ومن أصحابنا من قال بطردِ القولين في الدين المؤجل، وإن كان للمعجل غرض.
ثم كيفما فرض الأمر، فمقصودنا من الفصل أنا إن أجبرنا على القبول، أو فرضنا في الدين الحال، وجرينا على الأصح من أنه يجبر المستحِق على القبول، فإنما يجري الإجبار إذا كان المسلم يُسلِّم ما عليه في المكان المتعين شرعاً أو ذكراً، فمن أراد التسليم في غيره، لم يجز، ولم يجبر صاحبه.
3482- ثم قال الشافعي: "ولا يستغنى في العسل... إلى آخره".
إذا أسلم في العسل ذكر في أوصافه أنه جبلي، أو بلدي. والجبلي خير، وأنه خريفي أو ربيعي، والخريفي خير، ويصف اللون، ويختلف الغرض فيه. ولا يشترط أن يذكر كونَه مصفَّى من الشمع؛ لأن الإطلاق يقتضي ذلك، واسم العسل لا ينطلق على الشمع. ثم إن أتى به مصفى بالشمس أو بالنار اللَّينة القريبة من الشمس حتى لا تعقد أجزاء العسل، ولا تزيد على تمييز الشمع، فيقبل ذلك. وإن كانت النار أثّرت في التعقيد، لم يقبل.
ولا حاجة إلى ذكر هذه التفاصيل في العقد، فإن العسل المطلق هو النقي عن الشمع، من غير أن يلحقه عيب. والتعقيد في العسل عيبٌ؛ ولا حاجة في السلم إلى التعرض للبراءة من العيوب، لا مجملاً، ولا مفصلاً؛ فإن استحقاق السلامة مقتضى إطلاق العقد.
ولو جاء بعسل ذائب، فإن كان بحرارة الهواء، قُبل، وسيتماسك إذا اعتدل الهواء. وإن كان انمياعه بعيب، لم يقبل.
والسلم في الشّهد جائز، وإن كان مركباً. وهذا النوع من التركيب له أثر في بيع العين. ولذلك لم نجوّز بيعَ الشهد بالشهد، وجوزنا بيع اللبن باللبن. والسبب فيه أن تعويل السلم على الوصف، لا على صورة التركيب والاتحاد، والوصف يحيط بالشّهد، وليس كالمعجونات ذوات الأخلاط المقصودة؛ فإنا سنذكر بعد هذا أن السلم فيها باطل، ونوضح الفرق إذ ذاك.
3483- ثم قال: "ولو اشترط أطيب الطعام أو أردأه لم يجز... إلى آخره".
أما لو ذكر الأجود، فإنه لا يجوز؛ فإنه لا جيد إلا ويُرتَقب فوقه أجود منه، فيؤدي ذكر الأجود إلى نزاع لا ينقطع. وأما ذكر الجيد، فليس كذلك؛ لأنة ينزل على أدنى درجات الجودة، وتنقطع الخصومة.
وأما السلم في الرديء شرطاً وذكراً ينظر فيه، فإن كان رداءة النوع، كالسلم في النوع الرديء من التمر، مثل مصران الفارة، والجُعْرور، فالسلم صحيح.
وإن لم يتعرض للنوع الرديء، ولكن ذَكَرَ لفظَ الرديء مع ذكر النوع، فالسلم باطل؛ فإن الرديء إذا لم يرد به النوع، جر نزاعاً لا ينقطع؛ فإن المسلَم يأتي برديء، فيقول المسلِم: هذا غاية في الرداءة، ولست أرضى به، ودون هذا رديء لا يبلغ هذا المبلغ في الرداءة.
ولو أسلم في نوعٍ وعيّنه، وذكر الأردأ، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن العقد يبطل لذكر الرديء.
والثاني: لا يبطل، فإن جاء المسْلَم إليه برديء، فقال المسلِم: أريد أردأ من هذا، لم يلتفت إليه، وعُد متعنتاً في طلب الأردأ. وإن طلب أمثل مما جيء به، لم يكن له ذلك، وقد ذكر الأردأ.
وقد ردد الشافعي شرط الجيد في كل صنف. وائفق الأئمة على أن ذكر الجيد ليس بشرط؛ فإن مطلق الجيد معناه السليم من العيب، وهذا يقتضيه العقد من غير ذكرٍ، فإن ذكر، فلا بأس، وكان احتياطاً.
3484- ثم قال: "وإن كان ما سلف فيه رَقيقاً... إلى آخره".
ذكر في أوصاف العبيد ألفاظاً، نذكرها، ونذكر اختلاف الأصحاب في معناها، ولا اطلاع على المرعي من صفات العبيد والحيوانات إلا في الفصل الضابط.
قال الشافعي رحمة الله عليه- قال: "عبداً نوبياً خُماسياً أو سُداسياً، ووصف سنَّه".
فمن أصحابنا من قال: أراد بالخماسي والسداسي ذكر المولد، أي بذكر أنه خمس أو ست، وقوله: "ووصف سنَّه " أراد الأسنان المعروفة، أي يذكر أنه أفلج الأسنان أو أدراها، وغير ذلك من صفات الأسنان. قال الأصحاب: وهذا احتياط لشى بواجب.
ومنهم من قال: أراد بالخُماسي والسُّداسي القامةَ، أي يذكر أن طوله خمسةُ أشبار أو ستةُ أشبار. وهذا القائل يقول: قوله ووصف سنَّه أراد به المولد.
وقال الأئمة: لابد من ذكر السن والنوع، فيذكر أنه تركي أو هندي، واللون: فيذكر أنه أسود، أو أبيض. ولابد من ذكر الأنوثة والذكورة- ثم معرفة السن من المولودات فينا متيسرة. فأما الجليبة فقلَّما يُعرف سنُّها إلا أن تُفرضَ بالغاً، فيرجع إلى قولها.
3485- ثم قال: "ولا يشترط معها ولدها... إلى آخره".
أراد به إذا وصف جارية وصفاً يضبطها، وشرط أن يكون معها ولدها الرقيق، فهذا باطل؛ لأنه يتصل بما يعزّ وجودُه.
والقول في ذلك يتفاوت، فالزنجية التي لا تكثر صفاتها لا يعزّ ولدُها معها. وإن كانت الجارية تُطلبُ حَظِيةً وسُرِّية، فصفاتها تذكر؛ فتكثر، فإذا ضم إليها شرطُ ولدها، التحقت بما يعزّ. وقد ذكرنا التفصيل فيما يعز وجوده، وما يمتنع السلم فيه لأجل العزّة.
فإن أسلم في جاريتين، وتناهى في وصفهما، فجيء بهما وإحداهما أمٌّ والأخرى بنت، فلا بأس إذا كانتا على الصفات المطلوبة.
وإن أسلم في جارية وشرط كونَها حبلى، فإن جرَّ ذلك عِزَّةً، لم يصح السلم.
وإن كان لا يعز ذلك بأن لا تكون الجارية مطلوبة للتسري، وإنما تُطلب للحضانة، فهذا الآن وإن كان يعم، يخرّج على القولين في أن من اشترى جارية معينة على أنها حبلى هل يصح ذلك؟
والقولان يقربأن في الجارية المعينة، فما استنبطه الأئمة من القولين من معاني كلام الشافعي في أن الحمل هل يقابله قسط من الثمن؟ فإن قلنا: لا يقابله، فهو صفة، ولا يعد في ذكر الصفات الممكنة. وإن قلنا الحمل يقابله قسط من الثمن فإذا ذكر، فقد جُرِّدَ مقصوداً، وهو مجهول، فالسلم يخرج على هذا.
3486- ثم قال: "وإن كان في بعيرٍ، قال: من نَعَم بني فلان، ثَنِيّ غير مُودَن نقي من العيوب، سبط الخلق، أحمر مُجْفَر الجنبين".
والثنيُّ الذي استكمل خمس سنين، والمُودَن الناقص القصير، ومُجْفَرُ الجنبين عظيمهما.
قال الأصحاب: أمّا ذكر الثنيِّ، فلابد منه، فيذكر أنه ابنة لبون أو بنت مخاض. أو ما يريده. والتعرض للذكورة والأنوثة محتوم.
قال: "ويذكر أنه من نَعَم بني فلان".
والغرض يختلف بهذا. والشرط أن تتسع نَعَمُ بني فلان، بحيث لا ينتهي الأمر إلى عزّة الوجود.
فأما قوله: "نقياً من العيوب"، فاحتياطٌ؛ فإن مطلق العقد من اقتضاء السلامة يغني عن هذا.
ثم ذكر السلم في الخيل. فلابد من ذكر النوع، عربي أو تركي، وذِكرُ الألوانِ، والأسنان لابد منه. وقال الأصحاب: الشياتُ ذِكرُها احتياطٌ كالأغر، واللطيم، والمحجّل ونحوها. فلا يجب التعرض لذلك.
3487- ثم قال: "يصف الثيابَ ويذكر جنسها، وأنها من كتان أو قطن أو إبريسم، والصفاقة والرقة، واللين والخشونة، والطول والعرض، ونسجَ البلد: اسكندراني أو يماني أو هَرَوي أو مَرْوي".
قال الأصحاب: هذا إذ كان يختلف الغرض باختلاف نسج البلاد، فأما إذا كان نَسْجُ ذلك الثوب في البلاد على قريب من الاستواء، فلا معنى للذكر.
وذَكَر السلمَ في النحاس، فيذكر النوعَ واللونَ. والقَدْرُ لابد منه.
والحديد يذكر أنه ذكر أو أنثى.
فأما الأواني المتخذة من هذه الجواهر، ففيها كلام يأتي في الباب المشتمل على ذكر ما لا يجوز السلم فيه.
3488- وذَكَر السلمَ في اللحم. وهو جائز، فيذكر الجنسَ والنوعَ: لحمَ بقر أو غنم ضأن أو ماعز، من رضيع أو فطيم. ويذكر المحل الذي منه يعطى، ويبيّن أنه لحم فخذ، أو كتف، أو جنب. ويذكر الذكورةَ والأنوثة. وإذا شرط الذكورة، ذكر أنه خصي أو غيرُه، ويذكر أنه لحم راعيةٍ أو معلوفة. ثم الاكتفاء في العلف بالمرة والمرات، حتى ينتهي إلى مبلغ يؤثر في اللحم، ولا يشترط أن يبيّن كونه منزوعاً عن العظم، بل يصح السلم مطلقاً ويجبر المسلِم على قبول العظم المعتاد، في العضو المذكور، وينزل العظم في اللحم منزلةَ النواة من التمر.
ثم قال: "وأكره اشتراط الأعجف والمشوي والمطبوخ".
وهذا كراهية تحريم؛ لأن الأعجف معيب، وشرط العيب مفسدٌ، وهو شرط الرديء الذي سبق الكلام فيه. فإن أراد بالأعجف الذي لم يسمّن، فلا بأس.
وأما المشوي والمطبوخ، فقد قال الأصحاب: لا يصح السلم فيهما، لخروج أثر النار عن الضبط.
هذا مقتضى النص وهو الذي أطلقه الأصحاب في الطرق.
قال الصيدلاني: إن كان الشي والطبخ بحيث يمكن ضبطه، فلا بأس، وهو كالسلم في الخبز، ولا خلاف في جواز السلم في الخبز. و الطِّلَى والدِّبس، والسكر، والفانيذ.
وذكر بعض أصحابنا وجهاًً بعيداً في منع السلم في الدِّبْس والخبز، أخذاً من منع بيع الدبس بالدبس. والأصح الجوازُ. والفقيه من يُنزل كلَّ باب على معتاده، والمماثلة مرعية في بيع الأعيان الربوية المتجانسة، وذلك يختلف باختلافِ تأثير النار، كما قررناه في باب الربا، والمرعي في السلم قربُ الضبط. وهذا مع الواصف البالغ في الدبس والخبز قريبٌ.
3489- وذَكَر السلم في لحم الصيد، وسبيلُ الوصف فيه بيّن. وينبغي أن يكون بحيث لا يعزّ وجودُه.
وذكر السلمَ في السمن، فنقول سمن ماعز، أو ضأن، أو بقر. وإن كان يختلف بالبلاد ذكرها.
وذكر السلم في اللبن، وبين أوصافه على ما ينبغي. وذكر من جملتها الأوارك، وهي التي ترعى الأراك، والمعلوفة، والراعية. فإن كان الغرض يختلف بجميع ذلك، فهي مشروطة. وإن كان الأمر لا يختلف، فلا يشترط ذكر ما لا يختلف الغرض به. ولا يشترط أن يقول لبنَ حليب؛ فإن الإطلاق يقتضي انتفاء الحموضة؛ إذ الحموضة في اللبن عيبٌ؛ ولا يجوز السلم في المعيب.
قال: "ولا يسلم في المخيض؛ لأن فيه ماء".
فإن كان كذلك، فهو ملتحق بالمختلطات، وسنعقد فيها فصلاً الآن. وإن لم يكن فيه ماء، فالسلم في المخيض جائز.
فإن قيل: إنه حامض. قلنا: أدنى حموضة في المخيضِ مقصودة. والحموضة في اللبن عيب.
فصل:
قال: "وكذلك كل مختلط... إلى آخره "
3490- منع الشافعي السلم في المختلطات، وقد رتبها العراقيون ترتيباً حسناً.
فقالوا: هي على أربعة أوجه: فمنها مختلط من جهة الخلقة، وهو في نفسه يعد موصوفاًً مضبوطاً، فالسلم فيه جائز كاللبن، والشّهد.
ومنها مختلط خليطهُ من مصلحته، وذلك الخليط في نفسه غير مقصود، وهو كالجبن تخالطه الإنفحَّة، ولكنها غير مقصودة في نفسها، وكأنها كالمستهلكة، والجبنُ على حكم الجنس الفرد، وكذلك الخبز فيه الملح والماء، ولكنهما غيرُ مقصودين.
والضرب الثالث: مختلط ذو أركان، وكل ركن منه مقصود، ولا ينضبط أقدارُ الأخلاط، فلا يصلح السلم فيه، كالغالية من العطر، والمعاجين والجُوَارِشْنات، وكالهرائس من المطبوخات، ومعظمِ المرق ذواتِ الأخلاط المقصودة.
والضرب الرابع- مختلط في الصورة ولكن يتأتى ضبط ذلك لكل قسم منه، وهو مثل الثياب التي نسجت من الغزل والإبريسم، والخزوز بهذه الصفة. فإن لم يتأت الضبط، فالسلم باطل، كالسلم في المعاجين.
وإن أمكن الضبط، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن السلم يصح لإمكان الضبط.
والثاني: لا يصح؛ فإن أحد القسمين لا يتميز في الحسّ عن الثاني في الثياب العتّابية ونحوها. وهذا عندي قياسٌ.
ونقل بعض المعتمدين أن الشافعي نص على جواز السلم في الخزوز، فإن صح هذا، فالخزوز أنواع، فلعله جوّز السلم فيما يتحد جنسه، ومنه ما لا يكون كذلك.
ولو جوزنا السلم في الثياب المختلطة من غير أن يتميز في الحس قسم عن قسم، لوجب تجويز السلم في المعاجين تعويلاً على قول العاجن، وإذا لم يجز ذلك، فسبب المنع ما يتوقع من تنازع بين المسلِم والمسلَم إليه. ومثل هذا غير محتمل في السلم.
وعدّ المزني لما ذكر المختلطات من الأدوية، وفنون الطيب من جملة ما لا يجوز السلم فيه الأدهانَ المرببة المطيّبةَ، كدهن البنفسج والورد، وما أشبههما. وأجمع الأصحاب على أن ما قاله غلط غيرُ راجع إلى مأخذ الأحكام، ولكنه أمرٌ تخيّله في التصوير، فظن أن هذه الأدهان خالطها أشياء ليست منها، وهذا خطأ؛ فإن أصول هذه الأدهان الشيرج، ثم إن السمسم يمزج بالورد والبنفسج وغيرهما، حتى يتروّحَ بها عن مجاورة، ثم يعتصر السمسم؛ فإذاً هو شيرج محض، واكتساب الروائح بالمجاورات لا تمنع صحة السلم.
وعد العراقيون خل التمر والزبيب من المختلطات التي يجوز السلم فيها، وزعموا أن المقدار المعتبر من الزبيب يدرك بقوة الخل وضعفه، والمقصود من الخل حموضته ونفاذُه وحدّتُه، وهذا يقصد منه كما يقصد من الخل من العنب.
وزعموا أن مُدركَ العِيان يبيّن ما يعتبر من الإبريسم والغزل في العتَّابي؛ فإن لهذا الجنس رونق إذا كان الإبريسم فيه على الحد المقصود، لا يخفى دركُه على أهل البصائر كما ذكروه.
وما أشار إليه العراقيون وإن كان كلاماً، فلا نقنع بمثله في التوقي من الغرر في أبواب السلم.
هذا ما أردناه في المختلطات.
3491- ثم ذكر السلم في اللِّبأ والرائب. وهو شائع؛ فإنّ المسلمَ فيه مضبوط، وقد يُعرض اللِّبأ على النار عَرضةً خفيفة، ولا اعتبار بها، ولذلك صححنا السلم في الفانيذ والسكر، وإن تردد الأصحاب في جواز بيع السكر بالسكر، وذكرنا الميز بين البابين في المقصودين.
وذكر بعض المعتمدين تردداً في السلم في الدبس قدمنا ذكره.
ثم ذكر أن من أصحابنا من نزل السكر والفانيذ في باب السلم منزلتهما في بيع الأعيان.
وقد اختلف أصحابنا في بيع السكر بالسكر، والفانيذ بالفانيذ. فهذا القائل يقول: إن جوزنا بيع السكر بالسكر، يجوز السلم فيه، وإن منعنا بيع السكر بالسكر، يمنع السلم فيه أيضاًً. وهذا غير صحيح.
ويترتب عند هذا القائل في الدبس والسكر ثلاثة أوجه: أحدها: المنع فيهما.
والثاني: الجواز. والثالث: الفصل بين الدبس والسكر.
وردد صاحب التقريب جوابه في السلم في المَاوَرْد؛ من حيث إنه اعتقد اختلافَ تأثير النار فيما يتصعد ويقطر. وهذا في نهاية الضعف لم أره لغيره.
ثم ذكر الشافعي السلم في الصوف، وأشار إلى الصفات التي ترعى فيها، وشبهها بما قدمناه، فممّا ذكر أنها طوال أو قصار ليّنة أو خشنة، وذكر اللون. وقال: يكون نقياً مغسولاً. أما النقاء، فيغني عنه شرط السلامة، وأما المغسول، فإن أراد الغَسل ليُنَقَّى من الغبش والقاذورات، فلا حاجة إلى هذا، فإن اشتراط الصوف المجرد يُغني عن قولٍ غيرِه، فإذن الغسل احتياط.
ثم ذكر الكرسفَ، والسلمُ فيه صحيح، والأوصاف المرعية فيه معلومة، من اللين والخشونة، وقد يختلف بالإضافة إلى البقاع.
والضابط ما تقدم.
والسلم في الجوزق المتشقق جائز على شرط التقدير بالوزن. ولا يجوز السلم فيما ليس بمتشقق؛ فإن المقصود منه مستتر بما ليس بمقصود، ولا يبقى فيه.
وإن ظن ظان أن بيعه من أطراف بيع الغائب، فلا مجال لهذا في السلم، فإن الجهالات لا تحتمل في السلم.
وذكر السلم من الإبريسم، وذكر مما يعتبر فيه الدقة والغلظ، والنوع، والناحية التي يجلب منها، إلى غير ذلك مما يتغير به الثمن والغرض.
3492- ثم قال: "ولا بأس أن يسلم في الشيء كيلاً، وإن كان أصله الوزن".
وهو كما قال. و قد ذكرنا في باب الربا أن ما كان موزوناً لا يجوز بيع بعضه ببعض كيلاً، وما كان مكيلاً في عصر الشارع لا يجوز بيع بعضه ببعض وزناً؛ فإن باب تحريم التفاضل في الربا مبناه على التعبد، وباب السلم مبناه على الإعلام واتباع العرف فيما يعد مضبوطاً. وإذا كان يجري الكيل والوزن في شيء، فإعلامه بكل واحدٍ منهما ممكن.
فهذا ما أطلقه الأصحاب.
وفيه فضل نظر عندي في الأشياء الخطيرة، فإن فتات المسك يحصره الكيل، ولست أرى الكيل فيه إعلاماً، وكذلك العنبر، وكل خطيرٍ. فلعل الوجه أن يقال: ما كان مكيلاً لا يجوز السلم فيه بالوزن، فإنه حاصر، وما يوزن عرفاً هل يصح السلم فيه كيلاً؟
هذا ينقسم، فمنه ما يُعدّ الكيلُ في مثله إعلاماً، وإن كان الوزن معتاداً، فليصح هذا، وما لا يُعتاد الكيل في مثلهِ ضابطاً، فلا يجوز السلم فيه كيلاً، وإن كانت صورة الكيل تجري فيه.
وإن كان التعويل على قاعدةٍ واحدة، فمسائل التردد ناشئةٌ من تلك القاعدة، ورأيُ النظار عندي مشترك.
وإن استدرك البعض على البعض، لم يرجع الخلاف إلى الفقه، وإنما يرجع إلى أمور حسّية، أو إلى أمور عُرفية.
ولو أسلم في شيء يكال ويوزن، وشرط الكيلَ والوزنَ جميعاً، فهذا ينتهي إلى التعذّر الذي يفسد السلمُ بمثله، وهو مثل أن يقول: أسلمت في مائةِ صاعٍ على أن يكون وزنها إذا رد إلى الوزن خَمسمائةِ منّ. فهذا حكمٌ لا يتأتى الوفاء به، مع العلم بأن الحنطة يتفاوت وزنها بسب اكتنازها، ورخاوتها وصلابتها.
3493- ولا يجوز السلم في شيءٍ عدداً، وإن كان مضبوطاً، فليقع السلم باعتبار الوزن، وهذا كالسلم في البطيخ والسفرجل، فاكتفاء الناس فيها بالعدد تسامح، والتعويل على العِيان؛ فإنها تتفاوت في القيم. نعم قد يتفق فيها ما لا يتفاوت قيمها، وإن كانت مختلفة الأقدار لتسامع أطبق الناس عليه. وهذا كالبيض والجوز، فلا يجوز التعويل في السلم على العدد، وذلك أن التسامح الذي حكيناه إنما يقع في مقدارٍ يسير كأعدادٍ قليلة من الجوز والبيض، وإذا كثر فالجوزات الكبار والبيضات الكبار، لو جمعت في موضع، وقيست بالصغار تفاوت الأمر، وصدقت الرغبة من الكبار، وظهر تفاوت في الثمن بيّن؛ فلا يجوز التعويل على العدد في شيء من المعدودات.
ويجوز السلم في البطيخ والسفرجل وزناً؛ فإن الوزن يحصر وإن لم يحصر العدد.
وذكر شيخي أن السلم يجوز في البيض وزناً، وكذلك في الجوز واللوز، وما في معناهما. وما ذكره في البيض سديد؛ فإن قشورها لا تختلف اختلافاً به مبالاة. وإن زاد وزنُ قشور الكبار منها، فتلك الزيادة على نسبةٍ غيرِ متفاوتة بالإضافة إلى ما يقصد من المحّ والماح.
فأما قشور الجوز، فأراها تختلف، فمنها رقاق، ومنها غلاظ، ومنها ما ينفرك باليد للطافة القشور، ومنها ما يحتاج إلى معاناة في كسرها، فلست أرى السلمَ مسوَّغاً في الجوز وما في معناه. وإن ذَكر وزنها.
فإن أمكن ضبطُ نوعٍ منها بالوصف يُقرِّب قشورها، ثم اعتمد الوزن، ولم يُفض الأمرُ إلى عزة الوجود، فالجواب الجواز إن اقتضى الحال ذلك.
وقد ذكرت أن اختلاف طرق الأصحاب في هذا الكتاب لا يرجع إلى التردد في أساليب الفقه، وإنما رجوعه إلى مماراةٍ في الوقائع.
وذكر الأصحاب جوازَ السلم في اللَّبِن. والتعويل على الوزن، وقد يجمع إليه العدد، وهو المعتاد، ولا عسر في الجمع، فيسلم المسلم في مائة لبنة، ويقول: اللبنة الواحدة عشرة أمناء. هذا لابد منه وتحصيله لا عسر فيه. ثم إَن وقع تسامحٌ في التسليم، فلا بأس.
والسلم في الآجُر مما اختلف الأصحاب فيهِ اختلافَهم في الدبس، والظاهر الجواز؛ فإن الوصف ممكن، وتحصيل الموصوف لا تعذر فيه.
ثم ذكر الشافعي السلم في لحم الطيور. والوصفُ يحيط به فليذكر النوع والعضو الذي يسلم منه، إن كان يسلم في المقطّع، وإن كان يسلم في الطير المذبوح غيرَ مقطع، فالوزن، والسِّمن، والصنف، وكل ما يختلف الغرض فيه. والطير لا سِنَّ له، فيوصف بالصغر والكبر، ويذكر أنه لحم فروج، أو ناهض.
وكذلك الحيتان.
3494- وأما الخشب فإن كانت تراد للحطب، فأوصافها قريبة فيذكر النوع، وأنها دقاق أو غلاظ جزلة. والوزن لابد منه. وقال الأصحاب: لا حاجة للتعرض لليبوسة؛ فإن الرطوبة والنداوة عيبٌ، والإطلاق يقتضي اليابس. هكذا ذكره المحققون.
وإن كان السلم في الجذوع والعُمد، فالطول والعرض، والصنف، واللون، ويصح السلم إذا استوت الأجزاء، فإن اشترط فيها تخريط، وكان يختلف الأعالي والأسافل، فهذا مما يؤثر في منع السلم عند الشافعي؛ فإنه لا يدري أن الخشبة من أين تأخذ في الدقة، ولا ينضبط هذا مع تعلق القصد به. وإذا أسلم في جذعٍ، ذكر الطولَ والعرضَ، والاستدارةَ واللونَ. وفي ذكر الوزن تردد؛ فإن الوزن لا يقصد في العمد والاسطوانة.
وكان شيخي يميل إلى اشتراط الوزن؛ صائراً إلى أن كلَّ خشبة تفرض، فلا يمتنع أن تصير حطباً، ويكون الوزن إذ ذاك مقصوداً. وهذا فيه نظر.
3495- والسلم في أحجار الرحى جائز، إذا ذكر الطولَ منها والعرضَ والسمكَ. واتفق على اعتبار الوزن فيها؛ فإن ثقلها مقصود، وهي برَزَانتها تطحن، ويختلف هذا برخاوة الأحجار وصلابتها. ثم إذا ذكر الوزن، فهو ممكن. حتى انتهى الأصحاب إلى تصوير وزن الأرحية الكبار بالسفن وغوصها في الماء. ثم العادة جارية بذكر أمثال هذه الأعلام، ثم يقع التسامح حالة القبض.
ثم ذكر جواز السلم في أنواع العطر وأمتعة الصيادلة، كالمسك، والكافور، والعنبر، والأدوية، ولكل جنس أوصاف مقصودة لا يخفى دركها عند أهل البصيرة.
وقد يقصد في بعضها أن تكون قطعاً كباراً كالعنبر، فليكن التعرض لهذا.
3496- ثم قال: "لا يُسلم فيما خالطه لحوم الحيات".
والسبب فيه مع الاختلاط أن لحوم الحيات نجسة، وقد ذكرنا منع بيع النجس. والتداوي بالترياق جائز على حدّ تجويز أكل الميتة. وفيه كلام طويل سيأتي في الأطعمة، وعنده نذكر التداوي بالخمر. والحدّ المعتبر في التداوي من الحاجة والضرورة.
أما السموم القاتلة الطاهرة، فهل يجوز بيعها، قال الأصحاب: إن قتلت بكثرتها لغلبة الطبيعة والقليل منه يستعمل في الأدوية الحارة، فلا يمتنع بيعه. ومن هذه الجملة السقمونيا، والحنظل والخَرْبَق، وما في معانيها، ومنها الأفيون.
فأما السموم التي لا يستعمل جوهرها في دواء، وهي منافية للقوة الحيوانية بأنفسها من غير كيفية تُعْقَل. وهذا هو السم عند أهله، فقد قال قائلون: لا يجوز بيعها؛ فإنه لا خير فيها؛ إنما هي ضرر كله.
وكنا نقول للشيخ: إذا كانت طاهرةً، فلو أعدت لتستعمل في مكائدَ مع الكفار، فهذا وجهٌ في صلاح السياسة والإيالة، فرأيته يتردد في مواضع، وأراد أن ينزلها منزلة الأسلحة.
ومن قتل إنساناً بسم قتلناه به. فليتأمل الناظر في ذلك.
3497- ثم قال: "ولو أقاله بعضَ السلم".
قد ذكرنا تفصيل القول في الإقالة، وأنها فسخ أم لا. ثم قطعنا بأنها في السلم فسخ، ثم رتبنا كلاماً هو مقصود هذا الفصل. وقلنا: إذا انفسخ العقد في بعض المعقود عليه، ففي تعدي الفسخ إلى غيره ما فيه، كما مضى في تفريق الصفقة. وإن أراد أحدُ المتعاقدين أن يفرد بالرد بعضَ المعقود عليه، ففيه تفاصيل مذكورة في صورة. وإذا أراد المتعاقدان الفسخ في البعض عن تراضٍ، وهو الإقالة، فقد صحَّحَ أئمتنا هذا على التراضي، ولم يخرّجوا على تفريق الصفقة. وقد ذكرت ما يليق بذلك فيما تقدم.
3498- ولا يجزىء في السلم التشريك ولا التَّوْلية، فإنهما بيعان، وبيعُ السلم قبل القبض لا يجوز. ومن جوَّز بيعَ المبيع من البائع قبل القبض، لم يجوز بيعَ المسلَم فيه من المسلَم إليه قبل القبض. وهذا رأيته متفقاً عليه. والفرق عسر. والوجه الاستدلال بموضع الوفاق على تزييف الوجه الضعيف في المبيع.
فهذا منتهى ما نقله المزني في الباب، وعلينا الآن الوفاء بما وعدناه من ضبط القول فيما يُرعى من الصفات.
فصل:
3499- قد كرر الأئمة في طرقهم أنه يجب ذكر الصفات التي تؤثر في القيمة والأغراض، وهذا مضبوط لا لبس فيه، ولا يتطرق إليه إلا شيئان:
أحدهما: أن من الأشياء ما يهون وصفه، وليس إذا وصف عزّ، فيمتنع السلم فيه للعزة، ومنه ما ينتهي إلى صفة لا تُشيع معرفتَه، وفيه ترتيب تقدم ذكره، إذْ ذكرنا ما يعرفه أهلُ الاستفاضة، وما يعرفه عدلان، وما يختص بمعرفته المتعاقدان على زعمهما.
ومما يتعلق بالباب أن الأوصاف التي يمكن الاقتصار فيها على قدر الاسم معتبرة، ثم لا تعتبر غاياتها. وهذا جار في جميع الصفات. وهذا إذا كان الخروج عن الضبط في جهة النهاية. فأما إذا كان الخروج عن الضبط في جهة البداية، فقبيله يمنع السلم، وعليه بنى الأصحاب منعَ السلم في المعيب والرديء؛ فإن المسلِم سيقول: سلم إلي ما هو في المرتبة الأولى في العيب المذكور، والمسلَمُ إليه يزعم أن هذا كذلك، فلا ضبط، ولا يمكننا أن نُنزلهما على شيء. ومن ضم إلى ما ذكره الأصحاب من الصفات المؤثرة في الغرض والقيمة هذه الأحوال الثلاثة، استقل بالكلام في الأوصاف.
وكل هذا والمسلم فيه ليس بحيوان.
3500- فأما إذا كان المسلمُ فيه حيواناً، فنحن نذكر افتراق مسالك الأصحاب في الحيوانات، ونستخرج من بينها ضبطاً.
قال العراقيون: إذا أسلم في جارية، لم يشترط أن يقول في أوصافها دعجاء كحلاء، وكذلك قالوا: لا يشترط ذكر قدِّ الجارية والعبد. وكان الشيخ أبو محمد رحمه الله- يشترط التعرض لجميع ذلك ويقول: لكل صفة عبارة فما غادر الوصافون مقصوداً إلا صاغوا عنه عبارات فلتذكر. ثم لنقتصر من كل صفة على أدنى الدرجات. ومن حمل من أصحابنا الخُماسي والسداسي على القِدَيَيْن الطول والقصر، اعتضد بالنص.
فكان شيخنا يقول: الكَحَل والدَّعج لا ينقصان عن الجعودة في الشعر والسبوطة.
وقد اعتبرهما الأصحاب.
وانتهى تساهلُ العراقيين في الصفات في الحيوانات إلى ما نذكره الآن. قالوا: إذا أسلم في بعير، فإنه يذكر سنه ويذكر أنه من نَعَم بني فلان إذا كانوا جمعاً كثيراً تكثر النَّعم فيهم. ثم قالوا: إن كان نعمهم لا تختلف، كفى ذلك، وإن كان نعمهم تختلف، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنا نكتفي بأقل الاسم على السن المذكور من نعم بني فلان، كما نكتفي بأدنى درجات الجودة. والقول الثاني- أنه لابد من الوصف إذا اختلفت صفات نَعَم بني فلان.
وهذا الذي ذكروه انحلال عظيم وخروج بالكلية عن قياس الباب، ورضا بالعماية والجهالة، واعترافٌ بأن السلم في الحيوان مبناه على احتمال المجاهيل.
وشيخنا كان يتشوف إلى تنزيل السلم في الحيوان منزلة السلم في المكيلات والموزونات، وطلب نهايات الأوصاف. ومن أحاط باللفظ الذي نقلناه عنه تبين ذلك منه، إذ قال-رحمه الله-: الصفات المقصودة معلومة، وعن كل صفة عبارة، والقاعدة الاكتفاء بالأقل.
3501- فإذا بان المسلكان قلنا بعدهما: لا شك أنا لو رُدِدنا إلى القياس المحض، وأردنا أن ندرك من صحة السلم في المكيلات، والمثليات، والمتقوّمات، القليلةِ الأوصاف جوازَ السلم في الحيوان، سيّما في العبيد، الوصائف منهم، والمرموقين من الغلمان، والخيل العربيات، ما كنا نستدرك هذا.
والشافعي لم يعتمد معنى في السلم في الحيوان، وإنما اعتمد أخباراً وردت في إقراض الحيوان، وعلم أن السلم في معنى القرض.
فليعتقد المنصف أن السلم في الحيوان لا يتصوّر أن يلتزم فيه كلّ ما يؤثر في الثمن، أو يتعلق بغرض. وإن أمكن التقريب فيما يؤثر في القيمة، فَطَمَعُ ضبطِ الأعراض طمعٌ في غير مطمع. فالوجه أن نقول: معظم الأوصاف التي تضيق العبارة عنها نقائضها عيوب في الحيوانات، فإطلاق العقد يغني عنها. وهذا جنسٌ عظيم في الصفات.
3502- ومما نذكره أن الأغراض في الحيوان لا ضبط لها، والناس على اختلاف فيها، ولو ذكر كل ما يقصد في جميع الحيوان، انتهى الأمر إلى عزّة الوجود لا محالة. وإذا وضح هذا في الخَلْق، ثم ضمت الأخلاق إليها، صار المسلمُ فيه عنقاءَ مُغرب.
فإذا تنبه المتنبه لما ذكرناه، قلنا بعده: كل فنٍّ يعتبر في غير الحيوان، فهو في الحيوان أولى بالاعتبار. الصنف: وهو يضاهي الأجناس والأنواع. واللون: وقد تمهد اعتباره. والسن: وهو يناظر الحداثة والعتق فيما تقدم ذكره. ولم يعتبر العراقيون القدّ. وهذا خطأ صريح؛ فإنا وجدنا لذلك نظراً في العُمُد والجذوع، ولكن الشَّبْرَ بالأشبار لست أراه؛ فإن مما يتعين محاذرته الوقوعَ في العزّة، غيرَ أن أهل المعرفة يعرفون الطويلَ، والرَّبعَ، والقصيرَ، والتنزيل على أدنى الدرجات قانونُ الكتاب. فهذه الأمور لابد منها، والسلامة فيها غناء عظيم.
وبقي وراء هذا شيئان:
أحدهما: أن ضبط كل عضو بما يليق به، وبما يقصد منه، لا سبيل إليه. وإن كانت القيم تختلف بهذا اختلافاً بيناً.
والكلام في صفاتٍ تداول أهل البصائر اللهج بها كالدَّعج والكَحَل، وكون الوجه مُكَلْثماً، أو أسيلاً. وهذا موضع النظر. فلم أر للعراقيين التعرضَ لهذا. واعتبرها شيخنا. فلو وصف في السلم عضواً أو أعضاء، ولم ينته إلى العزة، فلا بأس.
ولكن لا يشترط الخوض فيه؛ إذ لو شرط الخوض فيه، لاشترط استيعابه، وفي الاستيعاب العزة، وفي ذكر البعض قبل الانتهاء إلى العزة تحكم.
فإن قيل: ليصف إلى أن ينتهي إلى إمكان العزة. قلنا: من أي طرف يبتدىء؟
فإن قال قائل: فما قولكم في التعرض لكونها خميصةً، مثقلةَ الأرداف، ريانة السيقان، شَثنِةَ الأصابع. قلنا: هذا كالكَحَل والدعج. وقد مضى قول الأصحاب فيه.
3503- فقد تَنَخَّل من مجموع ما ذكرناه أنه يذكر في الحيوان ما يذكر في سائر الأجناس التي يُسلَم فيها، أو يذكر فيها ما يداني المذكورَ فيها، كما ذكرناه في الطول والقصر، فإنه يداني القدر في المقدَّرات، أو الطولَ في المذروعات.
ووصف كل عضو مع إمكانه لا يشترط. وكل صفة نقيضها عيب، فلا حاجة إلى ذكرها، وهي كثيرة، والأمور الجُمليّة التي تذكر في الترغيبات، وتوجيه الطلبات نحو الحيوانات كالكَحَل، والدعج، ودِقة الخصر، وثقل الأرداف، وتكلثُم الوجه، وما في معانيها في محل الخلاف، لم يشترطها العراقيون، وشرطها المراوزة.
وموضع زلل العراقيين قولهم: لا يشترط القدّ وذكره، وهذا خطأ؛ فإن أهل العراق مطبقون على ذكره، والقيمةُ تختلف به، ولا يفضي الأمر إلى العزة، وهو على مضاهاة الأقدار في المقدَّرَات. ولا شكّ أن الحِرفَ، وإن كانت مقصودة، فلا يشترط التعرض لها.
وكنا نذكر للشيخ أبي محمد الملاحة، وكان ينقل عن شيخه القفال تردداً في اشتراطها: تارة كان يقول: ليست الملاحة معنىً، بل كل يشتهي فنّاً ويستملح صفة، وقد يستقبح غيرُه تلك الصفة. وهذا في تناصف الخلق، وفي عُرْض الاعتدال، من غير خروج إلى حد العيب.
وكان شيخنا يميل إلى اعتبار الملاحة، ويقول: هي صفة معلومة، لا ينكرها أهل المعرفة، ثم التنزيل على ما ينطلق عليه الاسم.
فهذا منتهى الإمكان في ذلك، ومبناه على اعتقاد خروج الحيوان عن قياس الباب وقد يتفق السلم في حيوان ينضبط بصفات معدودة من غير عُسرٍ، ولا عزة، فيجب التشوّفُ إلى الضبط فيه.