فصل: باب: في الرَّهْن وَالحَمِيلِ في البيع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: في الرَّهْن وَالحَمِيلِ في البيع:

ذكر الشافعي، رحمه الله في أول الباب أن الرهن أمانة، وتعلق بطرق من الحجاج، وسيأتي في ذلك باب، ثم قال: "فلو باع رجل شيئاًً على أن يرهنه به من ماله... إلى آخره".
3699- شرط الرهن جائز في البيع، وإن كان مطلقُ العقد لا يقتضيه، ولكن لما كان من مصلحة العقد، عُدَّ شرطه جائزاً، وكذلك شرط الضمان والإشهاد، فهذه الوثائق الثلاث يجوز شرطها في البيع، وذكر الشافعي لفظاً في صدر الفصل، نذكر ما فيه أولاً، ثم نخوض في مقصود الباب.
ظاهر لفظه يدل على أن البائع إذا قال: بعتك عبدي هذا بألفٍ على أن ترهنني دارَك هذه، فقال المشتري: اشتريت ورهنت، فالرهن ينعقد من غير قبول يصدر من البائع، ومقتضى كلامه دليل على إقامة شرط البائع في الرهن مقام قبوله، من غير احتياج إلى شيء آخر. وقد صار إلى هذا طوائف من أصحابنا.
والأصح الذي ارتضاه المحققون أن الرهن لا ينعقد مالم يذكر البائع بعد إيجاب المشتري الرهن قبولاً له، ولا يقع الاكتفاء بالشرط الذي يقدَّم؛ فإن الرهن عقد مفتقرٌ إلى الإيجاب والقبول، فلابد منهما، وليس شرط الرهن بمثابة استدعائه؛ فإنا على قول صحيح نقيم استدعاءَ العقد من أحد الجانبين، مع الإيجاب من الجانب الثاني مقام شقي العقد؛ وليس الشرط في معنى الاستدعاء؛ إذ صيغةُ الاستدعاء: أن يقول: ارهن مني دارَك هذه بألفٍ، فإذا قال: رهنتكها بالألف، كفى ذلك، على الصحيح.
ومن قال بظاهر النص، احتج بأن الرهن وإن كان عقداً قائماً، يتعلق بالبيع من جهة الشرط، فيجوز أن يقوم الشرطُ فيه شِقّاً، بخلاف العقد الذي لا يكون مشروطاًً في عقد، وهذا ضعيف.
فإن قيل: كيف تُؤوّلون ظاهرَ النص؟ قلنا: ليس التعرض للإيجاب والقبول من مقاصد الفصل؛ فلم يفصله الشافعي؛ فالقبول مضمرٌ معنى، وإن لم يصرح به.
3700- ثم إنما يصح شرط الرهن إذا عُيِّن، ولا يسوغ اشتراطُ رهنٍ مطلقاًً وفاقاً، ولو شُرط رهنٌ على الجهالة، كان الشرط فاسداً. وعند ذلك يختلف القول في فساد البيع، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
وكذلك إذا كان يشترط في العقد ضميناً بالثمن، فلابد من تعيينه؛ فإن الأغراض تختلف بمراتب الضمناء.
وإذا شرط رهناً معيناً، فهل يشترط بيان من يوضع على يديه، فوجهان:
أحدهما: لابد من ذلك؛ فإن الغرض يختلف به. ومنهم من قال: لا يشترط، لأن الرهن هو الوثيقة، وهو متعين لا جهالة فيه، وظاهر النص مع الوجه الأول.
وإن فرعنا على الثاني، فإن اتفقا على يد عدلٍ أو على يد المرتهن، فذاك. وإن تنازعا، رفع الأمرُ إلى الحاكم؛ حتى يعيِّن عدلاً، ويقطع الخصومة بينهما. فإن عين رهناً، فلم يفِ المشتري برهنه، ثبت الخيار للبائع في فسخ البيع، وكذلك إذا كان عيّن كفيلا في شرطه، فامتنع ذلك الشخص من الكفالة، تخير البائع. ثم إذا ثبت الخيار في البيع، فإن فسخ فذاك، وإن أجاز، ورضي، لزم العقد، ولم يتخير المشتري. وقال مالك يتخير المشتري، وتعرَّض الشافعي للرد عليه بما لا نحتاج إلى ذكره.
فصل:
قال الشافعي: "ولو كانا جهلا الرهن والحميل، فالبيع فاسد... إلى آخره".
3701- قد ذكرنا أن الوثائق ثلاث: الرهن، والكفيل، والشهادة، أما الرهن والكفيل، فلابد من تعيينهما، وأما الشهادة، فلا يشترط تعيين من يتحمل الشهادة؛ وذلك أن الأغراض تختلف على الجملة باختلاف الرهون والضمناء، فأما الشهادة، فالغرض منها أن يتحمل عُدُولٌ العقدَ أو الإقرار به، وهذا لا يختلف باختلاف العدول، واتفق أصحابنا عليه، فلا يشترط إذن تعيين الشاهد.
ولكن لو عين العاقد شهوداً في شرطه، فهل يتعينون كالرهن والكفيل، فعلى وجهين:
أحدهما: يتعينون كالرهن والكفيل، فإن لم يشهد المتعينُ، تخير الشارط.
والثاني: لا يتعينون، وإن عُينوا شرطاً؛ إذ لو تعينوا، لوجب شرطُ تعيينهم كالرهن والكفيل.
ثم قال الأئمة: إذا حكمنا بأنهم لا يتعينون، وألغينا شرط التعيين، فلا يفسد العقد بهذا؛ من جهة أنا أخرجنا تعيين الشهود من مقاصد العقود، وكل شرط لا يتعلق بمقصود العقد، ففساده لا يبطل العقد، كما لو قال: بعتك هذا العبد على أن يلبس الخز، وما في معناه من الشرائط اللاغية.
ثم إذا لم يتعين الشهود، فلا يبعد أن يقال: ينبغي أن يأتي المشروط عليه برجالٍ يقربون من المعينين في الصفات المقصودة في الشهادة، حتى لا يكتفي بإشهاد أقوام يظهر انحطاطهم عنهم. والعلم عند الله تعالى.
3702- ثم إذا شُرط في العقد رهن مجهول، أو كفيل من غير تعيين، فقد ذكرنا فساد الشرط. ثم إذا فسد الشرط، ففي فساد البيع قولان:
أحدهما: يبطل كسائر الشروط الفاسدة.
والثاني: لا يفسد البيع؛ لأن الرهن عقدٌ مبتدأ ينفصل عن البيع. وقد يتأخر عقدُ الرهن عن عقد البيع، فليس إذن هو صفة في البيع، فلا يفسد البيع بفساده. والصداق لما لم يتأصل ركناً في العقد، وتصور انفراد النكاح عنه، لا جرم لم يفسد النكاح بفساده.
فإن قيل: لم قطعتم بذلك في الصداق، وجعلتم المسألة على قولين في شرط الحَميل والرهن؟ قلنا: في الصداق قولٌ ضعيف أيضاًً سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى؛ ثم الرَّهن إذا كان مجهولاً، صار الثمن مجهولاً؛ فإنه متعلَّق الثمن، وجهالة الثمن تُبطل العقد. وهل يرد على هذا شرط الرهن الصَّحيح؛ فإنه إذا انضم إلى الثمن، كان زيادة، وليست مضبوطة، فكأن العين مبيع بألفٍ وشيء. قلنا: إذا كان الرهن معلوماً، فليس يخفى وقعه، ثم هو كالأجل والخيارِ في أنه من مصالح العقد، فاحتمل شرطه، ولا ضرورة في شرط المجاهيل، كما ذكرناه في الأجل.
فصل:
ولو قال: "رهنتك أحدَ عبديَّ... إلى آخره".
قد ذكرنا أن هذا مجهول، وشرط الرهن المجهول فاسد.
ثم قال: "لو أصاب المرتهن بعد القبض بالرهن عيباً... إلى آخره".
3753- إذا اختلف الراهن والمرتهن بعد قبض الرَّهن في عيبٍ كان بالرهن، فقال الراهنُ: حدث العيب في يدك، وقال المرتهن: بل كان قديماً في يدك، فالقول قول الراهن، كما قدمناه في اختلاف المتبايعين. وهذا إذا لم تكذِّب المشاهدةُ أحدهما، فلا يخفى حكمه إن كان كذلك. ثم إن كان الرهن مبتدأ غير مشروط، فلا أثر للعيب فيه؛ فإن المرتهن لو أراد أن يفسخ الرهن من غير عيب، كان له ذلك، وإنما مسائل عيوب الرهن فيه إذا كانت مشروطة في البيع، فإذا فُرض الرهن مشروطاًً في البيع، ثم اطلع المرتهن على عيبٍ قدبم به، كان له أن يفسح البيع، ولا يتأتى ذلك منه، ما لم يردّ الرهنَ، ففائدة الاطلاع على عيب المرهون ردُّ البيع.
ولو قال: لست أفسخ البيع، ولكني أردّ الرهن. قيل له: لا فائدة في ردك إذاً إلا فسخ الرهن، ولو لم تطلع على عيب، لكنتَ متمكناً من فسخ الرهن.
3704- ولو كان الرهن مشروطاًً في البيع، فقبضه المرتهن، وتلف في يده، ثم اطلع على عيب قديم به، فالرد بعد التلف غيرُ ممكن في المبيع والثمن، ولكن يثبت للمطلع على العيب الرجوع بأرشه عند تعذر رده. والأرش لا معنى له في الرهن؛ فإن معناه في البيع الرجوعُ بقسطٍ من العوض المقابل للمبيع الفائت، والمرهون لا عوض له حتى يُفرضَ الرجوعُ في قسطٍ منه، فإذا لم يكن الرجوع ممكناً، فهل يثبت للمطلع على العيب حقُّ فسخ البيع؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يثبت؛ فإن حق الفسخ مرتب على رد الرهن، فإذا عسر رده، ولم يمكنّا أن نثبت للعيب أرشاً، فلا وجه إلا سدُّ باب الرد وإلزامُ البيع.
والوجه الثاني- أنه يرد البيعَ ويفسخه ويقول: استحققت بالشرط رهناً سليماً، فلم يتفق الوفاء به، فكأنك لم ترهن عندي، ولو شرط البائع رهنَ عبدين عيَّنَهما، فرهنَ المشتري أحدهما دون الثاني، فللبائع فسْخُ العقد بنقصان الصفة؛ من حيث إنه يؤثر في المقصود بمثابة نقصان العين.
والقائل الأول يقول: شُرط للبائع رهنٌ معين، فوفَّى المشتري به، فلم يوجد من جهته تأخير وتقصير يكون به غير موفٍ بالشرط، ثم تعذر الرَّدُّ، فَفَسْخُ عَقْده بعيد.
وليس كما لو شرط رهن عبدين، فلم يف بأحدهما. وهذا يتوجه عليه أن الرد ثبت إذا كان المرهون باقياً، ولا يقال: قد وفى المشتري بما شُرِط عليه في معين.
هذا بيان الوجهين.
فصل:
قال: "ولو اشترط أن يكون المبيع بعينه رهناً، فالبيع مفسوخ... إلى آخره".
3705- إذا شرط البائع جعل المبيع رهناً بالثمن، نُفرِّع هذا على الأقوال في أن البداية في وجوب التسليم بمن؟ فإن حكمنا بأن البداية بالبائع، فشرطُ حبس المبيع بطريق الرهن يخالف هذا المقتضى، وإذا خالفه، فسد، وأفسد العقدَ. وكذلك إذا قلنا: هما يجبران على تسليم العوضين، أو قلنا: لا يجبران. ومن بدأ بتسليم العوض الذي التزمه، أجبر صاحبه على تسليم مقابله. فإذا وقع التفريع على هذين القولين، ثم جرى في العقد شرط رهن المبيع، فسد الشرط، وفسد البيع، من جهة أنه تضمَّن خروج البيع عن مقتضاه، فلا يحتمل هذا.
ومن الأصول المعتمدة في البياعات أن العقد إذا كان له مقتضى عند الإطلاق، فلا يجوز تغييره في مقتضى إطلاقه بما لا نفع فيه ولا مصلحة تتعلق بالعقد. فأما الشرط الذي يتعلق بمصلحة العقد، فلا يجوز الاسترسال في تجويزه، بل يُتَّبع فيه توقيفُ الشارع، كالخيار وما في معناه؛ فإن هذه الأشياء في المعاملات كالرخص في العبادَاتِ، فلئن ثبت الرهن بنص الكتاب والإجماع، فرهن المبيع من وجهٍ لا حاجة إليه، وهو على حالٍ مغيرٌ لمقتضى إطلاق العقد، ولا توقيف فيه، فلا سبيل إلى احتماله.
فإذا قلنا: البداية بالتسليم على المشتري، والمبيع بحق العقد محبوس بالثمن، فلو شرط البائع رهن المبيع عنده بالثمن، فهل يصح الشرط على هذا القول؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يصح؛ فإنه موافق لمقتضى العقد؛ إذ مقتضاه على هذا القول حبس المبيع بالثمن. والرهن يوافق هذا المعنى.
والوجه الثاني- لا يجوز الشرط، ويفسد العقد به؛ لأن المبيع إذا كان محبوساً بالثمن، فهو من ضمان البائع، والرهن لو قدر ثبوته، فمقتضاه أن يكون المرهون أمانة في يد المرتهن، فقد اختلف موجَب الحبسين، فشرطُ أحدهما مع الثاني طلب الجمع بين مختلفين.
ثم إن حكمنا بصحة الشرط ووفَّى المشتري به، فالمبيع يكون مرهوناً عند البائع مضموناً عليه بحكم العقد؛ فإن ضمان العقد لا يزول إلا بالقبض، ولا يتصور على مذهبنا مرهون يسقط الدين بتلفه إلا هذا، ولكن الثمن لا يسقط بسبب تلف الرهن من حيث كان رهناً. وإنما يسقط بتلف المبيع من حيث كان مضموناً على البائع.
3706- ثم قال الشافعي: "ولو قال للذي عليه الحق: أرهنك على أن تزيدني في الأجل... إلى آخره". إذا قال المشتري والثمن مؤجل عليه للبائع: أزيدك رهناً، فزدني أجلاً. فنقول: الزيادة لا تلحق بالعقد؛ فلا مطمع في حصول هذا الغرض. ويُنظر إلى الرهن الذي يزيده المشتري، فإن أطلقه وما ذكر معه شرطاً، فالذي تقدم من الزيادة في الأجل لغوٌ، وهذا الرهن ثابت. وإن شرط في الرهن الزيادة في الأجل، فقد ضمّن الرهنَ شرطاً فاسداً، ففسد الرهن به.
فصل:
قال: "ولو أقر أن الموضوع على يديه الرهنُ قبض الرهن... إلى آخره".
3707- إذا رهن الرجل عيناً، وكانا ذكراً عدلاً. ثم قال الراهن: سلّمت الرهن إلى العدل، وقبضه عن جهة الرهن، ثم استرددته منه بعد لزوم الرهن للانتفاع أو غيره من الأغراض. فقال العدل: ما قبضتُ، ثبت لزوم الرهن بقول الراهن؛ فإنه معترف على نفسه بلزوم الحق للمرتهن، فكان مؤاخذاً بإقراره. وقوله غير مقبول على العدل، حتى لو بيع ذلك الرهن و خرج مستحقا، فليس لمستحقه مطالبة العدل، بناء على أن متاعه قد مر بيده؛ فإنا لم نصدق الراهن على العدل، وإنما حكمنا عليه بموجب إقراره ليثبت حق المرتهن، وهذا هين المُدرَك في أحكام الأقارير وما يتصل يها من القضايا.
ولو قال لمن وكله بالبيع: قد بِعْتَ ما وكلتُك ببيعه من فلان، فإقراره محكوم به مقبول في حق المعيَّن للشراء، ولكن لا يُقبل إقرارُه على الوكيل إذا كان يتعلق بالوكيل ضمان أو عهدة، فلو أراد المشتري المقَرُّ له أن يطالب الوكيل بعهدة العقد بناء على إقرار البائع له بالبيع، لم يمكنه ذلك؛ لأن الوكيل لم يعترف بالبيع، وإقرار الموكل إنما يقبل على نفسه للمشتري، ولا يقبل على الوكيل حتى يلزمه عُهدة.
فصل:
قال المزني: "وجملة قوله في اختلاف الراهن والمرتهن أن القول قول الراهن في الحق، والقول قول المرتهن في الرهن... إلى آخره".
3708- أراد المزني أن يضبط الصور التي يُصَدَّقُ فيها الراهن، والمسائل التي يُصَدَّقُ فيها المرتهن، فأتى بقول مبهمٍ لا يفهم، وأجرى كلاماً ظاهره الفساد، ولا يجوز أن يشكل عليه وجه الحق فيه، فاجتمع أمران:
أحدهما: أنه لم يُنتفَعْ بضبطه، والآخر- أنا نحتاج إلى تأويل اللفظ.
أما قوله: "القول قول الراهن في الحق"، فصحيح، ومعناه لو اختلفا في قدر الحق، فقال الراهن: رهنت بخمسمائة، وقال المرتهن: بألفٍ، أو اختلفا في الجنس، فقال الراهن: رهنت بالدنانير، وقال المرتهن: بل بالدراهم التي لي عليك، وكانت له عليه دراهم ودنانير. فالقول قول الراهن.
وأما قوله: "القول قول المرتهن في الرهن"، فمشكل؛ فإن الراهن والمرتهن لو اختلفا في مقدار الرهن، أو في إقباضه، فنفى الراهنُ مقداراً عن الرهن، أو نفى الإقباضَ، فالقول في ذلك كله قول الراهن، فلا يستدّ مطلق قول المزني، ولابد للفظه من تأويل، فنذكر وجهه، وهو على التحقيق مراده، وسياق كلامه دليل عليه: فمراده أن الرهن إذا كان مشروطاًً في البيع، فالمرتهن هو البائع والراهن المشتري، فإذا تنازعا في أصل الرهن، كان أو لم يكن، أو في قدره، أو جنسه، فهذا اختلاف المتبايعين في صفة العقد، والحكم فيه التحالف. ثم البداية على الأصح تقع بالبائع وهو المرتهن، فالمعني بقوله: "القول قول المرتهن " هذا.
ويمكن أن يُفرض نزاعٌ في بعض أحكام الرهن، والقول فيها قول المرتهن: وذلك إذا اتفقا على الرهن والقبض، فقال الراهن: فسخنا الرهن. وقال المرتهن: لم نفسخه، فالقول قول المرتهن؛ لأن الأصل أن لا فسخ.
ثم قال: "فيما يشبه ولا يشبه": وهذا رد على مالكٍ؛ فإنه يقول: لو كان الدّين ألفاً، فقال المرتهن رهنتني هذا العبد، وقيمته ألف، فقال الراهن: بل رهنتك الآخر، وقيمته خمسمائة. قال مالك: القول قول المرتهن؛ لأن الظاهر أنه لا يرضى أن يرتهن بالألف ما يساوي خمسمائة، وهذا الذي ذكره مالك لا عبرة به، ولا نظر إلى مقدار القيمة.
فصل:
قال الشافعي: "ولو قال الرجل لرجلين: رهنتماني... إلى آخره".
3709- إذا ادعى رجل على رجلين أنهما رهنا منه عبدهما بمائة، نُظر: فإن صدّقاه، ثبت الرهن، وإن كذباه، فالقول قولهما مع اليمين؛ لأن الأصل عدم الرهن. فإن صدقه أحدهما وكذبه الآخر، فنصيب المصدِّق وهو النصف رهنٌ بخمسين إذا كان الدين مائة، ونصيب المكذِّب خارج عن الرهن إن حلف على ما نفاه، فإن شهد المصدِّق على المكذِّب، فشهادته مقبولة؛ فإن شهادة الشريك على الشريك مقبولة، وإنما النظر في شهادة الشريك للشريك، كما سنذكره الآن، إن شاء الله عز وجل.
3710- ولو ادعى رجلان على رجل أنه رهن عِندهما ثوباً له. فإن صدقهما، فذاك. وإن كذبهما، فالقول قوله مع يمينه. وإن صدق أحدهما دون صاحبه، فالنصف رهن من المصدَّق، فإن شهد هذا المصدَّق للمكذَّب، ففي قبول شهادته وجهان:
أحدهما: أنها مقبولة؛ إذ لا جرَّ في شهادته، ولا دفع. والوجه الثاني- لا تقبل شهادته له، وهذا الخلاف في الشهادة يبتني على أصل سنذكره في كتاب الأقارير وكتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى.
والذي لابد من ذكره هاهنا أن رجلين إذا ادعيا اتِّهابهما عبداً من رجلٍ، وأنه وهبه منهما وسلمه إليهما، فصدَّق المدعى عليهِ أحدهما، وكذب الثاني فَيَسْلم من تصديقه الهبةُ في النصف، ثم ذلك النصف هل يستبدُّ به المقَرُّ له؟ أم لصاحبه أن يقول: نحن فيما بيننا تصادقنا وتقارَرْنا على أن الهبة جرت مشتركة إيجاباً وقبولاً وتسليماً. وقد سلم النصف بإقراره، فليكن هذا مشتركاً؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن النصف يَسْلم للمقرّ له لا نزاع فيه.
والثاني: أن صاحبه يشاركه في النصف الذي سَلِم. وهذا التردد يجري في كل ملكٍ وحقٍّ متلقّىً من عقدٍ على سبيل الشيوع.
ولو اعترف بأن هذه الدار ورثتها أنا وفلان من أبينا، وكانت مجحودة، فسلم لأحدهما بعضها، فيشركه فيها شريكُه في الميراث. وسيأتي هذا بأصله وتفريعه.
عُدنا إلى غرضنا: إذا ادعيا على رجل أنه رهن منهما، فأقر لأحدهما، فذلك
الحاصل بالإقرار إن قلنا: يختص به المصدَّق، فشهادته مقبولة للمُكذَّب، وإن قلنا: يَشْركُه فيه المكذَّب؛ فشهادته تتضمن دفعاً عن نفسه؛ فترد لذلك.
3710/ م- ولو ادعى رجلان على رجلين أنهما رهنا عبداً لهما منهما، فإن صدقاهما، ثبت الرهن، وإن كذباهُما، فالقول قولهما مع أَيْمانهما، والنزاع بينهم يتصور على وجوه، ولا يكاد يخفى مُدرك جميعها على متأملٍ.
ونحن نذكر أغمض الصور، فنقول: إذا ادعى بكر وخالد على زيد وعمرو أنهما رهنا منهما عبدَهما المشتركَ بينهما، فصدَّق زيد خالداً وكذَّب بكراً، وصدق عمرو بكراً، وكذب خالداً. وكلّ واحدٍ من زيدٍ وعمرٍو له نصفُ العبد، وقد جمع في نصفه بين إقرار وإنكار، فيضمن بكر من جهة المقر مُقِرّاً له بربع العبد، وهو نصف نصيب أحدهما، وكذلك الثاني. ولا غموض لهذا.
وإنما يهاب المبتدىء هذا لما نقل بعضُ الأئمة أن ابن سريج قال: ما انتهيت إلى هذه المسألة إلا احتجت إلى إتقان الفكر، حتى أثبتها على حاشية الكتاب.
فصل:
قال: "وإن كان له على رجل ألفان... إلى آخره".
3711- إذا استحق على رجل دينين من جهتين، ومبلغ كلِّ دين ألفٌ، فإن رهن بألفٍ في جهة مخصوصة عبداً، ثم إنَّ مَنْ عليه الدين أدى ألفاً، وتنازع الراهن والمرتهن، فقال المرتهن: أديت الألفَ الذي لم يكن موثقاً بالرهن، والرهن باقٍ بالألف الثاني. وقال المؤدي: بل أديتُ عن الرهن، وفككته.
فنقول: لا شك أن الاعتبار بقصد المؤدِّي، حتى لو فرض منه قصد في أداء دين مخصوص، ولم يُفرض من القابض قصدٌ في القبض؛ فإن المؤدَّى يقع في حُكم الله تعالى على نحو قصد المؤدي. فإذاً تبين هذا حكماً، حتى قال الأصحاب: لو ظن القابض أن المؤدِّي يودعه الألفَ، وأنه مستحفظ فيه، وقصد المؤدِّي قضاءَ حقه، فالقبض يتم، وذمة المؤدي تبرأ.
وهذا فيه أدنى نظر عندي؛ فإن الإقباض شرطه التمليك، وكل من عليه الدين إذا أداه، فكأنه يُملّك القابضَ، ويثبت له في الأعيان ملكاً؛ فإن حقه لم يكن متعلِّقاً بعين، فإن وصل المُقبضُ فِعله بقولٍ، فذاك. وإن لم يصله بقول، فلا يبعد أن نقول: لابد من مَخِيلة مُملِّكة مشعرة بتسليط القابض؛ فإن التمليك بالمبهمات غيرُ متجه.
3712- فإذا تبين ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ بعده إلى طريق فصل التنازع.
فنقول: إذا اختلف الراهن والمرتهن على ما ذكرناه، فالقول قول الراهن مع يمينه. ولو قال: أديتُ الألفَ، وقصدت أن يكون نصفُه عن جهة الرهن، ونصفه عن الألف المرسل، فهو مصدَّق، فإن نُوزع، يُحَلَّف.
وإن قال: لم يكن لي قصدٌ في تعيين جهةٍ، وإنما أديت الألف مرسلاً، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنا نقول له: الآن اصرف الألفَ إلى أي جهة شئت. فإن صرفه إلى الرهن، انفك. وإن صرفه إلى الآخر، بقي الرهن، وإن قسمه عليهما، انقسم. والوجه الثاني- أن الأداء المطلق محمول على التقسيم، فيقع عن كلّ دين قسطٌ من المؤدَّى. فإن استويا في المقدار يقسط عليهما بالسوية، وإن اختلفا، يقسط عليهما على تفاوت القدرين.
ولهذا نظائر منها: أنه لو أقرض مشرك مشركا ألفاً بألفين، ثم قضاه أحد الألفين في الشرك، ثم أسلما، فقال المؤدي: أديتُ في الشرك ما أديتُ عن جهة الربح، فالألف قائم عليه، وهو مطالبٌ به في الإسلام. وإن زعم أن الذي أديتُه قصدتُ به تأدية رأس المال، فهو مصدّق، وإن اتهم، حُلِّف. وموجب تصديقه الحكمُ ببراءته؛ فإن أصل الدين قد تأدى؛ ولا ربحَ في الإسلام. وإن زعم أني أديت الألف ولم أقصد صرفَه إلى جهة مخصوصة، فوجهان:
أحدهما: أن المؤدّى مُقسط على الربح ورأس المال. وحكم ذلك أن يطالبه في الحال بخمسمائة؛ فإنه قد أدَّى خمسمائة من الأصل، ولم يبق إلا خمسمائة، ولا ربح.
والوجه الثاني- أنه يقال له: اصرف ما أديته الآن إلى ما شئت، فإن صرفه إلى الربح، فعليه الألف التام عن جهة رأس المال. وإن صرفه إلى رأس المال، سقط الربح، وسقطت المطالبة. وإن بعَّض قصدَه تبعّض الأمرُ، ولم يختلف الحكم، كما قدمناه.
وكذلك لو ترابيا في الشرك درهماً بدرهمين، وأقبض الزائدُ المُفْضِلُ أحدَهما، ثم أسلماً، فالقول في القصد والاختلاف على حسب ما مضى. وهذه المسألة مفروضة في البيع، والأخرى التي قبلها مفروضة في القرض. ولا فرق.
ولو وكل الرجلان رجلاً ليقتضي دينين لهما على رجلٍ، وكل دين ألف مثلاً فدفع
من عليه الدينان ألفاً إلى الوكيل، فإن قال حال الدفع: خُذْه عن دين فلان، وعيّن أحدَ
موكِّلَيْه، وقع عن تلك الجهة. ولو قال بعد ذلك: قصدتُ خلافَ ما قلت، لم يقبل
منه. وهذا يطرد في جميع المسائلِ التي ذكرناها. ولو لم يقل شيئاًً، ثم راجعناه، فقال: قصدت أحدَ الموكلَيْن، وقع المقبوض على حسب قصده. وإن قال: لم
أقصد تعيين واحد منهما، فيعود الوجهان، نقول في أحدهما: يتقسط ما أداه على
ديْنَي الموكِّلَيْن، ونقول في الثاني للمؤدي: اصرف الآن قصدَك إلى من شئت منهما أو
قسِّط عليهما.
3713- ولو قال من عليه الدين للوكيل من جهة المستحقَّيْن: خذ الألفَ وادفعه إلى فلان. فقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فمنهم من قال: إذا جرى ذلك، انعزل الوكيل بالقبض عن حكم ذلك التوكيل، وصار وكيلا للمؤدِّي؛ فإنَّ حكم قوله: ادفعه أن يتوقف الأمر على وصوله إلى الموكِّل، وحكم البقاء على توكيله بالقبض أن يبرأ الدافع بالدفع إلى الوكيل، فلا يكون لقوله: ادفع إلى فلان معنى.
ومن أصحابنا من قال: لا ينعزل عن التوكيل بالقبض، وإن قبل التوكيل بالدفع على اللفظ الذي حكيناه؛ وذلك أن يدَ الوكيل ليست تنتهي بالقبض ومعنى قبضه أن يوصّلَه إلى موكِّله. فإذا قال من عليه الدين: ادفع هذا إلى موكِّلك، لم يكن ما قاله مضاداً للقبض، والمسألة محتملة لطيفة. والأفقه الوجه الأول.
3714- ثم مما يجب التنبه لهُ في تصوير المسألة أنا لا نشترط من الوكيل تصريحاً بالقبول لمّا قال من عليه الدين: ادفع إلى موكلك، بل مجرد قوله له: ادفع يتضمن أني لا أقنع بيدك على حسب ما وكلك صاحبك، ولكن آمرك ابتداءً بأن تسلمه إليه.
هذا ما نشأ منه التردد. وهو لا يفتقر إلى تصوير قبول. فليفهم الناظر.
وأثر ما ذكرناه أنا إذا قلنا: لا يقع قبضه على حكم توكيل موكِّله، فلو تلف في يده، فذمة من عليه الدين مشغولة. وإن قلنا: إنه يبقى على حكم التوكيل بالقبض، فلو تلف ما قبضه في يده، كان من ضمان موكِّله، وقد برىء المؤدِّي، فإن لم يكن منْ الوكيل تقصير، فلا ضمان أصلاً، وإن كان منه تقصير، فهو متعدٍّ في ملك غيره. وطرف الإنصاف والانتصاف بينهما بيِّن، والغرضُ ما اتضح من براءة المؤدِّي.
فصل:
قال: "ولو قال: رهنته هذه الدارَ التي في يده بألفٍ... إلى آخره".
3715- إذا اعترف الرَّجل بأنه رهن داره من إنسان، وصادفنا تلك الدار في يد المرتهن، ثم اختلفا، فقال الراهن: غصبته مني. وقال المرتهن: بل أقبضتنيه، فالقول قول الراهن في أصل المذهب " لأن الأصل عدم القبض والخيار إلى المقبض.
ولو قال الراهن: أعرتُه، أو أودعتُه، أو أكريتُه، أو أكريتُ الدار من فلانٍ، فأكراها منه أو أعارها منه، فحصلت تحت يده بهذه الجهة. وقال المرتهن: بل أقبضتنيه عن جهة الرَّهن، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: القولُ قول الراهن كالمسألة الأولى، وهي إذا ادعى الراهن الغصبَ وادعى المرتهن القبض المستحق. والوجه الثاني- القول قول المرتهن، لتقارِّهما على أن القبض لا عدوان فيه وأن صدَرَه عن الإذن، ثم ظاهرُ اليد يدل على حق ذي اليد، كما أن ظاهرها يدّل على ملك ذي اليد، إذا كان المتنازَعُ الملكَ. والظاهر بناء القبض على العقد المقتضي للقبض.
هذا الذي سردناه أصلُ المذهب. وقد أبعد بعض الأصحاب، فذكر وجهاًً ضعيفاً في أن القول قول المرتهن، وإن قال الراهن غصبتنيه، وهذا ضعيف غيرُ معتد به، وسنعيده مع تفريعاتٍ في كتاب العارية، إن شاء الله تعالى.
3716- فلو قال البائع: غصبتنيه، وقال المشتري: بل أقبضتنيه. والتفريع على أن المبيع محبوس بالثمن، وعلى المشتري البداية. فإذا تنازعا كما وصفناه. فإن كان قد وفر المشتري الثمنَ، أو كان الثمنُ مؤجَّلا، فلا معنى لهذا الاختلاف؛ فإن قبض المبيع مستحَق للمشتري. وإن كانَ الثمن حالاً، ولم يوفر المشتري الثمن فالقول قول البائع؛ لأن الأصل عدمُ الإقباض. وإن قال البائع: أعرتكه أو أودعتكه، وقال المشتري: بل أقبضتنيه عن البيع، ففي المسألة وجهان: أظهرهما- الحكمُ بالقبض؛ لأن المبيع ملك المشتري، وحق البائع في الحبس ضعيف.
وهذا يصفو بشيء، وهو أن البائع لو أعار المشتري المبيعَ على أن ينتفع به ويردَّه محبوساً بالثمن، فالإعارة هل تُبطل حق حبسه؟ وجهان ذكرهما الشيخ، وصاحب التقريب، وطائفة من العراقيين. أحدهما- أن حق حبسه يبطل، فإنه لم يكن حقّاً مقصوداَّ بَعقد، فإذا ثبتت يدُ المشتري وهو مالك، وكان زوال اليد عن رضاً، فلا عود إلى اليد.
والوجه الثاني- أن حق البائع لا يسقط، فإنه لم يسقطه، فيجب الوقوف على منتهى قصده.
ولو أودع البائع المبيع عند المشتري، ففي بطلان حق البائع من الحبس وجهان مرتبان على الوجهين في العارية، و اختلف أصحابنا في كيفية الترتيب، فمنهم من جعل الإيداع أولى ببطلان حق البائع؛ من جهة أنه يبعد كل البعد أن يحفظ المالك ملكه لغيره، وفي الإعارة غرضٌ على حالٍ سوى الحفظ.
ومن أصحابنا من جعل الإيداع أولى بأن لا يُبطل حقَّ البائع؛ فإنه ليس فيه تسليط أصلاَّ، وفي الإعارة تسليط.
ولم يختلف أئمتنا في أن المرتهن لو رَدَّ الرهنَ إلى يد الراهن بأية جهة فرضت مع استمراره على الرهن، فحقه قائم لا يبطل.
3717- عاد الآن بنا الكلامُ إلى ما كنا فيه من اختلاف البائع والمشتري. فإن قلنا: الإعارة، والإيداع يُبطل حقَّ البائع، فلا معنى للاختلاف؛ فإنه اعترف بمبطلِ حقه.
وإن قلنا: الإعارة والإيداع لا يبطلان حقَّه من الحبس، فإذا تنازعا، انتظم الخلاف الذي ذكرناه. والوجه الضعيف في ادعاء البائع للغصب، وادعاء المشتري الإقباض عائدٌ.
وبالجملة يد البائع ضعيفة. وآية ذلك أن المشتري إذا قتل العبدَ المشترى، جعل ذلك قبضاً منه ناقلاً للضّمان، وإن كان على كُره من البائع، وكان من الممكن أن نقولَ يغرم قيمةَ المبيع، ويسلمَها لتُحبس على الثمن، كما نقول: يغرَم الراهن قيمةَ المرهون إذا قتله لتوضع رهناً إلى أداء الدين.
وذكر صاحب التقريب وجهاً في كتاب البيع: أن إتلاف المشتري لا يكون قبضاً، وأن القيمة تلزمه، فتجعلُ محبوسةً كما ذكرناه في الرهن.
وهذا بعيد جداً لم يتفق منا حكايتُه في كتاب البيع.
ومما يتعلق باختلاف المحابس لما نحن فيه أنه لو قال من عليه الدين لمستحقه: رهنتك هذا العبدَ بالألف الذي لك عليَّ. وقال صاحب الحق: بل بعتنيه بالألف، فالقول قول من عليه الحق، لا خلاف فيه؛ فإن صاحبه ادعى عليه إزالةَ الملك بطريق البيع، والأصل عدمه، وبقاءُ الملك؛ فينتفي البيعُ بنفيه، ولا نحكم بالرهن؛ لأن المستحِق ليس يدعيه.
ولو كان الخلاف على العكس، فقال من عليه الحق: بعتك هذا العبد بالألف الذي لك علي، وقال صاحب الحق: بل رهنتنيه، فالوجه أن يحلف كل واحد منهما على نفي العقد الذي يُدّعى عليه، فينتفي الرهن والبيع جميعا، فلا يبقى لصاحب اليد حق. أما الرهن فقد نفاه من عليه الحق وهو مصدّق، وأمّا البيع فقد نفاه هو في نفسه.
فرع:
3718- العدل إذا باع الرهن بإذنهما، ثم قال: قد سلمت الثمن إلى المرتهن، و أنكر المرتهن، فالقول قوله، ولا يقبل قول العدل عليه؛ فإنه أمين المرتهن في تحفظ الرهن فحسب، ثم هو بالخيار إن شاء طالب الراهن بدينه، وإن شاء طالب العدلَ. فإن أراد مطالبة العدل، فله ذلك؛ فإنه يقول: قد أقررتَ بحصول عوض رهني في يدك، ورُدّ قولُك في التسليم، فله مطالبته إذن. ثم إذا غرِم العدلُ كما ذكرناه، فلا يجد العدل به مرجعاً على أحد؛ فإنه يعترف بأنه مظلوم من جهة المرتهن، ولا يرجع المظلوم إلا على من ظلمه.
فرع:
3719- حكى العراقيون عن الأصحاب أنهم قالوا: لو كان لرجل ألفُ درهم على رجلين، على كل واحد خمسمائة، ولهما عبد مشترك، فادعى أنكما رهنتماني العبدَ، فأنكر كل واحد رهنَ نصيبه، وزعم صاحبه رهنه وهو في نفسه لم يرهن، ثم شهد كل واحد منهما على صاحبه، وحلف المدعي مع شهادة كل واحد منهما يميناً يميناً، فيثبت له الرهن عليهما جميعاً في جميع العبد. وتعليله بيّن، وهو موجَب القضاء بالشاهد واليمين.
قال الشيخ أبو حامد: في هذا نظر عندي، فينبغي أن لا تقبل شهادة واحد منهما؛ فإن المدَّعي يقول: قد كذب كل واحد منهما لما أنكر الرهن في حق نفسه، فإذا كان يكذِّب شاهدَه في شيء، فكيف تقبل شهادته في حقه.
وفيما قاله الشيخ أبو حامد نظر؛ فإن أقوالهما في إنكارهما مجمل لا يوجب تفسيقهما؛ من تقدير غفلة أو ذهول. وبالجملة ليس من الرأي ابتدار التفسيق مع اتجاه احتمالاتٍ لا فسق فيها.
فرع:
3720- إذا رهن شيئاًً وسلمه إلى المرتهن، فمات المرتهن وقال: لا أرضى بيد الورثة، فكيف السبيل فيه؟ المذهب الأصح أن الأمر يرفع إلى القاضي، فينصب القاضي عدلاً، ويضع الرهن على يده. نقل العراقيون فيه نصَّ الشافعي، وخرّج منه أن للراهن إزالة يد الورثة، ولا فرق بين أن يكونوا عدولاً، وبين أن يكونوا دون مورثهم في الثقة والعدالة.
وقال بعض أئمتنا: لا يزيل القاضي أيدي الورثة؛ فإنهم استحقوها خلافة ووراثة. نعم، للقاضي أن يضم إلى أيديهم يداً إذا استدعاه الراهن، فأما إزالة حقوقهم، فلا سبيل إليه.
فرع:
3721- إذا أراد العدلُ أن يسلم الرهن إلى القاضي، والراهن والمرتهن جميعاً حاضران، فليس له ذلك قبل عرض الأمر عليهما، وليس للقاضي أن يقبله إذا أحاط بالحال، فلو سلم، من غير مراجعة، توجه الضمان على العدل.
فأما إذا غاب الراهن والمرتهن إلى مسافة القصر، فللعدل التسليم إلى الحاكم.
وإن كان دون مسافة القصر، فليس له الرفع إلى الحاكم حتى يستأذنَهما. ولا يمتنع عندنا اعتبار مسافة العدوى في ذلك، حتى يقال: إن كانا على مسافة العدوى، فلابد من مراجعتهما، وإن كانا فوق مسافة العدوى، ففيه تردد.
ولو كانا حاضرين، فعرض عليهما، فامتنعا من الاسترداد، فيرفع الأمرَ إلى القاضي حينئذ، حتى يحملهما على الأخذ منه، ثم لا يخفى منتهى الكلام في ذلك.