فصل: باب: ما جاء في الكلام الذي ينعقد به النكاح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب




.باب: ما جاء في الكلام الذي ينعقد به النكاح:

قال الشافعي رضي الله عنه: "سمى الله تعالى النكاحَ في كتابه باسمين... إلى آخره".
7971- مذهبنا: أن انعقاد النكاح يختص بالإنكاح والتزويج، ومعناهما في كل لسان في أصل الوضع، ومبنى المسألة عندنا؛ على أنا تُعبّدنا باستعمال هذين اللفظين، وهما المشهوران عرفاً وشرعاً، وكل لفظ سواهما يقدّر استعماله في الباب؛ ينقسم إلى ما هو صريح في مقصود آخر، وإلى ما ليس صريحاً في مقصود آخر، ولكنه كنايةٌ عن النكاح.
فإن كان صريحاً في مقصود آخر، وقبِل المحلُّ نفوذَ ذلك المقصود فيه، كالهبة- والمزوّجةُ جارية- فاستعمال لفظ الهبة صريح في تمليك الرقبة، وكذلك التمليك والبيع بالعوض إذا أمكن بتقدير اللفظ فيما هو صريح فيه، فلا يجوز صرفه عنه بالنِّية، كما لو قال الرجل لامرأته: "أنت طالق"، وزعم أنه نوى ظهاراً، فيحصل الطلاق، ولا يحصل الظهار.
وإن كان اللفظ كناية في فنٍّ، ولم يكن صريحاً في فن، وكان محتملاً لمقصود النكاح؛ لم ينعقد به النكاح؛ فإنّ شرط انعقاده الإشهادُ عليه، ولا مطلع للشهود على النيات، والألفاظ مستقلة من جهة أنها كناية.
هذا معتمد المذهب في الباب.
7972/م- ولو عدل المزوِّج عن لفظ التزويج والإنكاح، وذكر معناهما الصريح بلسانه، وأفهم المخاطَب؛ فللأصحاب في هذا تردد، ونحن نجمع مقالاتهم في نظمٍ واحد، فنقول: إن كان لا يحسن العربية، وكان لا يتأتى منه تعليماً؛ فالذي ذهب إليه أئمة المذهب: أن النكاح ينعقد بمعنى اللفظ، ولم يخالف فيه أحد إلا أبو سعيد الإصْطخري، فإنه قال: لا ينعقد النكاح إلا بلفظ العربية، ومن لا يحسنها، فليصبر إلى أن يتعلمها، أو ليكل الأمرَ إلى من يحسنها، وليوكّل بتعاطي العقد من يعقده بالعربية.
فأما إذا كان يحسن العربية، فعدل عنها قصداً إلى المعنى؛ ففيه اختلاف مشهورٌ بين الأصحاب: فمنهم من قال: يصح النكاح؛ فإن المتبع المعنى، وإنما يجب اتباع اللفظ فيما يتأكد التعبد فيه، ومحله العبادات.
ومنهم من قال: لا مَعْدِل عن اللفظ مع التمكن من استعماله، كما لا معدل عن الأصول المنصوصة في الزكاة، وإن كانت الأَبْدال تسد مسدها في سد الحاجة.
والقائل الأول ينفصل عن الزكاة، فإنها عبادة، ولذلك لا تقع الموقع من غير نية. هذا فيه إذا كان يحسن العربية، فعدل عنها.
فأما إذا كان لا يحسن العربية ولكن كان يتمكن من تعلّمها، فلم يتعلمها، واكتفى بالمعنى، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين في الصورة الأولى، والفرق لائح.
وقد قال العراقيون: إن كان يحسن العربية، لم يجز له العدول عنها، وجهاً واحداً.
وإن كان لا يحسنها، ويتمكن من تعلّمها على القرب؛ ففي المسألة وجهان. وإذا ضممنا من يحسن إلى من لا يحسن، وكان يتمكن من التعلم، اتسق في المسألتين ثلاثة أوجه: أحدها: المنع فيهما.
والثاني: الجواز فيهما.
والثالث: الفرق، كما نبّهنا عليه.
7972/م- وحاصل القول في الألفاظ تتضمنها مراتب.
المرتبة الأولى: لفظ يُعنى لنظمه، ورد به الأمرُ في عبادة، وهذا كقراءة القرآن في الصلاة، ومن حكم هذه المرتبة التعيّن، حتى لو فرض عجز، لم يقم معنى اللفظ مقامه، وإن مسّت الحاجة إلى بدل، كان ذلك البدل ذكراً آخر، وإن لم يكن معنى اللفظ المعجوز عنه.
والمرتبة الثانية- في ألفاظ تُعُبِّدنا بها في عبادة، والغرض الأظهر في معناها، وليس نظمُها على خاصية تخالف مناظم الكلام، وهذا ممثل بالتشهد والتكبير، وهذه المرتبة محطوطة عن القراءة؛ من جهة أن من عجز عن ألفاظ التشهد وصيغة التكبير؛ فإنه يأتي بمعناها، ويتعين عليه ذلك، حتى لو أقام لفظاً آخر معناه مخالف لمعنى ما عجز عنه، لم يقم ما أتى به مقام ما عجز عنه؛ والسبب فيه أن الغرض الأظهر في القرآن نظمه المعجز، والغرض الأظهر في الأذكار معانيها، والرتبتان متساويتان في أنه لا يسوغ العدول عن اللفظ مع القدرة عليه، ويجب التعلم، وإنما افتراقهما في البدل عند تحقق العجز، كما ذكرناه.
المرتبة الثالثة: في لفظ النكاح. وحاصل ما ذكره الأصحاب فيه ناشىءٌ من تردّدٍ في أصلٍ، وهو أن التعبد هل يرعى فيه أم لا؟ فمنهم من قال: لا تعبد فيه، وإنما يتعين الإنكاح والتزويجُ ومعناهما لمسيس الحاجة إلى الإشهاد؛ فإن الإشهاد على الكنايات غير ممكن، وهؤلاء يقولون: يجوز العدول إلى المعنى؛ فإنه صريح بين أهله، فيحصل الإشهاد عليه.
ومن أصحابنا من قال: للتعبد مدخل في لفظ النكاح، وسببه أن مقصوده يخالف مقصود كل عقد، على ما قررناه في الأساليب، ويتضح ذلك بأنه لا ينعقد إلا بلفظ النكاح والتزويج، وهذا يشعر باختلاف المقاصد؛ فإذا كان وضع النكاح مخصوصاً، لم يبعد أن يكون لفظه مخصوصاً.
والطريقة الأولى تضعف بمسألة، وهي: أن أهل قُطر لو استعملوا لفظة على الطرد في إرادة النكاح، وتواطؤوا عليه؛ فالنكاح لا ينعقد به.
ثم من طرَّق التعبد إلى اللفظ انقسموا: فمنهم من غلا في ذلك- وهو الاصطخري، ومنهم من اقتصد، وقد تفصل القول في ذلك نقلاً.
المرتبة الرابعة: في صرائح الطلاق، فإن الشافعي حصر صرائح الطلاق في ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق، والسراح، وأشار إلى اعتبار تكرر هذه الألفاظ في الكتاب والسنة، وهذا مستأخِر عن النكاح؛ من جهة أن النكاح يفتقر إلى الإشهاد، بخلاف الطلاق.
ومن أئمتنا من لم يخصص الصرائح، ورأى كل لفظ شاع في العرف في إرادة الطلاق صريحاً فيه، وهذا هو القياس، كما سيأتي شرحه في الطلاق، إن شاء الله عز وجل.
ثم سبب حصر الصريح على مذهب من يراه أنه حلٌّ غريبٌ، يرد على محلول غريب. وبيان ذلك: أن المحلول مختص كما ذكرنا، والحل ليس فسخاً، وليس في حكم العتق المتقرب به، فيقبل التعبد، لما ذكرناه.
ودليل القائل الآخر أن ألفاظ الفسخ في النكاح لا تنضبط، والمتبع فيها الشيوع واطراد العرف.
المرتبة الخامسة: في ألفاظ العقود، سوى النكاح، وهي تنقسم إلى ما يفيد الملك المحقق، وإلى ما لا يتمحض هذا المعنى فيه: فأما ما تمحض التمليك فيه؛ فلا حصر من طريق الشرع لصرائحه، بل المتبع فيه العرف، كما ذكرناه، ولكن في انعقاده بالمكاني وجهان، وسبب ذلك أنها تشتمل على الإيجاب والقبول. وحق الموجِب أن يُفهم المخاطَب، وذلك يتعذر في المكاني، ومن جوز العقد بالكنايات، عوّل على ما يقترن بها من قرائن الأحوال، هذا لابد منه، وإن كنا قد نعدّ التعويل على قرائن الأحوال من مذهب أبي حنيفة.
فأما ما لا يتمحض التمليك فيه؛ فهو كالإجارة، وسبب اختلال التمليك فيه عند الفقهاء: أن المنافع معدومة، وسببه عندنا أن المنفعة مشكلة في نفسها، لا تقع على جنس من الأعيان أو صفاتها، كما تقرر ذلك في الإجارات. والذي يوضح هذا أنه ينعقد بالإجارة، وإن لم يكن لفظ الإجارة مُشعراً بإفادة التمليك، بل معنى الإجارة تخصيص المستأجر بالدار على وجه يلتزم به أجرة الدار، فلو عُقدت الإجارة بلفظٍ يقتضي التمليك، فإن أضيف اللفظ إلى الرقبة؛ لم يصح، وإن أضيف التمليك إلى المنافع؛ ففيه وجهان: مثل أن يقول ملّكتك منافع الدار شهراً.
المرتبة السادسة: لفظ يجري غير مفتقر إلى القبول في المعاملات، كالإبراء، والفسخ، وما في معناهما، فالكنايات تتطرق إليها بلا خلاف؛ إذ لا حاجة إلى إفهام قابل، ولا إلى إشهاد، وكان القياس يقتضي في جميعها جوازَ التعليق بالصفات، ولكن ليس يجري ذلك عندنا إلا في العتاق، وإطلاق الوصايا، وما يقبل المجاهيل كالجعالات ونحوها.
فهذه جُمل في مراتب الألفاظ يأنس بها من يطلب الأغواص محل الإعواص.
فرع:
7973- إذا كان أحد المتناكحين يحسن العربية، وأتى بلفظ الإنكاح والتزويج، وقابله الثاني بالفارسية- والتفريع على أن النكاح ينعقد بالفارسية، فإن كان الآتي بالفارسية يحسن العربية ويفهمها، صح النكاح، وإن كان لا يفهم العربية، ولكن أخبره من يثق به أن معنى اللفظ الذي أتى به صاحبه النكاحُ، هل ينعقد العقد والحالة هذه؟ ذكر العراقيون في ذلك وجهين:
أحدهما: أنه يصح؛ ثقةً بتفسير المترجم الموثوق به.
والثاني: لا يصح. وهذا الوجه عندنا يجري فيه إذا لم يتعلم ذلك القائل صيغة اللفظ، ولم ينته إلى حالة لو أراد استعماله، لتمكن منه، ولو سمعه مرة أخرى، لكان ذلك يخرج هذا الوجه، فأما إذا علّمه هذا المترجم؛ فقد التحق بمن يعلم، ووجب الحكم بانعقاد العقد.
فصل:
قال: "أو يقول الخاطب: زوّجنيها. ويقول الولي: زوّجتكها... إلى آخره".
7974- قد تكلمنا في التزويج والإنكاح ومعناهما. ونحن الآن نتكلم في القبول، فنقول: إن قال الموجِب: "زوجتكها". وقال المخاطب: "تزوجتها"، انعقد العقد وهذا، وإن سمي قبولاً، فهو عندنا ليس قبولاً على التحقيق، ولكنهما أتيا بشقي العقد. وكل واحد منهما صالح للابتداء به، وإنما القبول على الحقيقة ما لايتأتى الابتداء به.
7975- ولو قال المزوِّج: "زوجتك فلانة"، أو "هذه". فقال القائل: "قبلت نكاحها"، أو "قبلت هذا النكاح"، انعقد النكاح وفاقاً.
فإن قال: "قبلت" واقتصر على ذلك، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا ينعقد النكاح؛ فإن المجيب لم يذكر لفظ النكاح في قبوله، ولم يضف القبول إلى المرأة أيضاًً، والنكاح يتطرق إليه الاعتناء باللفظ، كما سبق تقريره.
ومنهم من قال: يصح؛ فإن الجواب يترتب على الخطاب، حتى كأن الخطاب في حكم المعاد في الجواب.
والدليل عليه: أن من قال لصاحبه: "أطلّقت امرأتك ثلاثاً؟ " فقال: "نعم"، كان ذلك إقراراً منه بالطلاق على ظاهر المذهب، كما سيأتي في مسائل الطلاق، إن شاء الله تعالى، وإن كان قوله "نعم" لو انفرد؛ لم يكن مستقلاً، ولا مفيداً معنى.
كذا إذا قال: "قبلت النكاح" ولم يضف النكاح إلى المرأة، ولا عيّنه بتقدير الإشارة إليه، مثل أن يقول: "قبلت هذا النكاح"، فالنكاح مشار إليه، فإذا لم يُشر، ولم يضف؛ ففي المسألة أيضاًً وجهان، مرتبان على الوجهين فيه، إذا قال: "قبلت" واقتصر عليه، وهذه الصورة الأخيرة أولى بالصحة، لتعرض القابل فيها لذكر النكاح.
ولو قال: "قبلتها"، فأضاف القبول إلى المرأة، ولم يذكر لفظ النكاح؛ ففي المسألة أيضاًً وجهان، مرتبان على الوجهين فيه؛ إذا قال: "قبلت" ولم يضف، ولم يذكر النكاح، ووجه الترتيب قريب مما سبق.
وضبط القول: أن القابل إذا ذكر النكاح، وأضافه إلى المرأة؛ فلا خلاف في الصحّة.
وإن ذكر القبول ولم يُضف إلى المرأة، ولم يذكر النكاح؛ فالمسألة مختلف فيها.
وإن ذكر النكاح، ولم يُضفه إليها، أو أضاف القبول إليها، ولم يذكر النكاح؛ ففيه الخلاف الذي تقدم ذكره.
7976- ثم ذكر الشافعي بعد ذلك استدعاء الإيجاب مع الإيجاب، وذلك أن يقول الخاطب للولي: "زوّج ابنتك هذه مني بكذا". فإذا قال الولي: "زوّجتها"، فهذا تصوير المسألة، وظاهر النص أن النكاح ينعقد بذلك.
ونقل الأئمة عن الشافعي قولين في أن البيع، هل ينعقد على هذه الصورة؛ إذا قال الطالب: "بع عبدك مني بألفِ". فقال المجيب: "بعتكه بالألف"؟ أحد القولين: أن البيع يصحّ.
والقول الثاني: أنه لا يصحّ. والوجه ترتيب المذهب نقلاً في العقود، ثم التعرض لتوجيه القولين، والتفريع عليهما.
قال الأئمة: إذا قالت المرأة لزوجها: "خالعني بألف"، أو "طلقني بألف".
فقال: "أنتِ طالق"، لزم الطلاق، ولزم العوض، وبانت المستدعية، ولا حاجة إلى تقدير قبول منها، بعد ما تقدم الاستدعاء والإجابة.
وكذلك إذا قال العبد لسيده: "أعتقني على ألف"، فقال: "أعتقتك".
وكذلك إذا قال من عليه القصاص: "صالحني على ألف"، فقال مستحق الدم: "صالحتك". فهذه المسائل تثبت وتصح، ويستقل النفوذ فيها بالاستدعاء والإجابة، من غير حاجة إلى تقدير قبول بعد الإجابة بالإيجاب.
وفي البيع والإجارة قولان.
وفي النكاح طريقان: من أصحابنا من أجرى القولين فيهما، كما تقدم في البيع والإجارة، ومن أصحابنا من قطع القول بصحة النكاح واستقلاله بالإيجاب والاستيجاب، كما ذكرناه في العتاق والطلاق والصلح عن الدم.
وكان شيخي يُنزل الكتابة في معظم أجوبته منزلة الخلع والطلاق، ويقول: إذا قال العبد: "كاتبني على كذا"، فكاتبه، صحّ على شرط الشرع، من غير حاجة إلى إعادة القول، وسمعته في آخر العهد به يقول: الكتابة حقها أن تنزل منزلة النكاح، حتى يخرج فيها قولان على إحدى الطريقين، وفيها احتمال على الجملة، وهذا أصل ما نقله رواة المذهب.
7977- توجيه القولين في البيع: من قال: لا ينعقد بالاستيجاب والإيجاب ما لم يترتب على الإيجاب قبول، احتج بأن صورة العقد تقع على وجهين:
أحدهما: أن يأتي كل واحد من العاقدين بشق من العقد يليق به، ولا يكون أحدهما قبولاً، وليس واحد منهما بأن يسمى قابلاً أو موجباً أولى من الثاني.
والصورة الثانية- أن يتقدم إيجاب، ويترتب عليه قبول، فأما طلب الإيجاب؛ فإنه ليس شِقاً في العقد، ولا قبولاً مترتباً على الإيجاب، وكأن معناه: ابتدىءْ العقدَ، فإذا ابتدأ العقد، قبله بطريق قبوله.
ومن قال: لا حاجة إلى القبول؛ احتج بأن الغرض من شِقّي العقد، صدورُ لفظين من الجانبين يدل على رضاهما بموجب العقد على جزم، وهذا المعنى يحصل بالاستيجاب والإيجاب، وأيضاًً؛ فإن اشتراط القبول، سببه ألا يدخل الشيء في ملك الإنسان قهراً، وإلا فالقياس الاكتفاء بالتمليك؛ فإذا استوجب؛ فقد تحقق ما اشتُرط القبول لأجله.
فإن قيل: لم قطعتم بصحة العتق والطلاق على مال والصلح عن دم العمد؟ قلنا: لأن الغالب على هذه المعاملات التعليق، ولذلك تصح مع صيغة التعليق، ولهذا يصح بذل المال على الطلاق والعتاق من أجنبي، فرجع حاصل الأمر في هذه العقود إلى افتداءٍ مجرد. وآية هذا: أن المبيع إن قُبل، كان قبوله تملكاً له، والطلاق لا يَقْبل ذلك، والعَتاق والعفو عن الدم، والمقصود من هذه العقود العفو، والعتق، والطلاق، والأعواض تجري فيها على طريق التبعية.
وأما النكاح-والعوض وإن لم يكن مقصوداً فيه، بخلاف الثمن- فالعوض فيه ألزم منه في الطلاق والعَتاق والصلح، بدليل أن هذه المقاصد الثلاثة يمكن تحصيلها من غير عوض، والنكاح لا يخلو عن العوض في وضعه، إلا في مسألة شاذة، سيأتي الشرح عليها، إن شاء الله تعالى.
وأيضاًً، فإن الخاطب إذا قبل النكاح، فقد قبل لنفسه حقاً مستحقاً، فانتظم القبول فيه وإن لم يتأصل العوض فيه.
وتردُّدُ الإمام والدي- في الكتابة؛ سببه: تردد الكتابة بين المعاوضات وبين عقد العتاقة.
7978- ثم قال الأصحاب: لو قال: "أتزوِّج ابنتكَ مني"؟ فقال: "زوجتكها"، لم ينعقد النكاح، فإنه لم يجزم الاستدعاء، وإنما تردد فيه مستفهِماً.
وكذلك لو جرت هذه الصيغة في العتاق والطلاق والصلح، فلا حكم للاستفهام في هذه الصور كلها. وهذا متفق عليه.
وكان اتفق برزةٌ لشيخي إلى بعض الجهات، وأخذ يلقي المسائل، ثم أجرى في أثنائها طريقة عن بعض الأصحاب في تخريج مسألة العتاق والطلاق والصلح على قولين؛ طرداً لهذا في كل ما يفتقر إلى الإيجاب والقبول، وهذا حسنٌ متجه في القياس، ولكنه غريب في النقل، والمذهبُ التفصيل الذي ذكرناه، ولذلك أخرنا ذكره على عادتنا المعروفة.
فصل:
7979- إذا أخبر رجل بأنه وُلد له ولد، فقال الآخر: إن كان المولود بنتاً، فقد تزوجتها منك". فقد قال الأصحاب: لا ينعقد النكاح وإن بان المولود أنثى؛ وذلك لأنه عقد على صيغة التعليق، والتعليقُ ينافي عقدَ النكاح، وأيضاًً فإن العقد موقوف، والوقف ينافي صحة النكاح، فقد اجتمع فيه وجهان من الفساد.
وكذلك لو قال: "إن كان ابنتي طلّقها زوجها، وانقضت عدتها، فقد زوجتكها"، ثم بان أنه كذلك، لم يصح النكاح.
وهذا الذي أطلقه الأصحاب، فيه فضل نظر، تداركه المحققون، فنقول أولاً: إذا زوّج الرجل أمة أبيه في غيبته، أو باعها، وظاهر الأمر بقاء أبيه وحياتُه، ثم تبيّن أنه كان ميتاً وقت التزويج، وأن الجارية كانت رجعت إليه ميراثاً، ففي صحة العقد قولان، وهو من صور وقف العقود، على ما تقدم شرح الوقف في كتاب البيع، وشرط جريان هذين القولين، أن يكون العاقد على ظن في دوام بقاء الغائب، فأما إذا كان علم موته، وجزم البيع والتزويج؛ فلا شك في صحة العقد.
فإن قلنا: لا يصح العقد، وإن تبين أن الجارية كانت ملكاً للمتصرف فيها، فلا كلام.
وإن قلنا بصحة العقد إذا بان كونها مملوكة للمتصرف، فلو علق، وقال: إن مات أبي وورّثني هذه الجارية، فقد زوّجتكها، ثم بان أنه كان ملكها حالة العقد-والتفريع على الحكم بصحة العقد على الوقف- ففي هذه الصورة وجهان:
أحدهما: أن العقد يصح؛ فإنه لو جزمه، لكان تصحيحه على تقدير هذا التعليق، فإذا صرح بالتعليق، كان مصرحاً بمقتضى العقد.
والوجه الثاني- أن العقد لا يصح؛ فإن صيغة التعليق فاسدة، ونحن متعبدون برعاية الصيغة، كما نُتعبد برعاية المعنى.
وهذا الاختلاف يناظر أصلاً كما تقدم في أحكام المعاملات، وهو أن الرجل إذا اشترى زرعاً، واستأجر بائعَه على حصاده، وذكر عوضاً واحداً أجرة وثمناً؛ فهذا صنف من أصناف تفريق الصفقة، ولو عئر عن هذا المعنى بعبارة الشرط، فقال: اشتريت منك هذا الزرع بألف، على أن تحصده، فهل يصح العقد على هذا الوجه؟ والتفريع على أن الصفقة إذا جمعت عقدين مختلفين، صحت، فعلى وجهين، مهدنا ذكرهما، وضربنا في ذلك أمثلة.
هذا تمام النظر في الفصل.
فصل:
7980- إذا قال الرجل لوالد الثيب: "قل زوّجتُها منك". ولم يقل:
"زوِّجنيها"، فقد كان شيخي يرى أنه إذا قال: "زوجتكها"، لابد من قبول المستدعي في هذه الصورة؛ وذلك أنه لم يستدع منه التزويج، حتى يقال كأنه ملّكه أن يُلزمه التزويج، ولكن قال له: "قل زوّجتك". فإذا قال ذلك، استدعى هذا القول منه ما كان يستدعيه لو ابتدأبه، من غير فرض طلبٍ، واستدعاء فيه.
وهذا الذي ذكره حسن لطيف، وليس يخلو عن قبول احتمال، والعلم عند الله تعالى.
فصل:
قال: "وأحب أن يقدّم بين يدي خطبته... إلى آخره".
7981- ذكر الشافعي أنا نستحب لمن يبتدىء خِطبة امرأة، ويطلب نكاحها، أن يبتدىء بحمد الله والثناء عليه، وهذا محبوب في كل أمر له بال وخطر، والنكاح مخصوص منها بتأكد الاستحباب فيما ذكرناه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بحمد الله، فهو أبتر». وروي «فهو أقطع».
ويستحب معه الحمد والثناء والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا تقديم الخُطبة على الخِطبة، فإذا حان الوقت، ودخل وقت إنشائه، استحببنا تقديم خُطبةٍ على العقد على النسق الذي ذكرناه، ثم إن خطب الولي، فحسنٌ، وإن خطب الخاطب، فكذلك، وإن خطب ثالث، ثم تولى العقد الولي والخاطب، فحسنٌ. وهذه عادة عرفت من عهد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم.
ثم إذا حمد الله الولي وصلى على المصطفى، ثم أوجب، وحمد الله الخاطب وصلى ثم قبل؛ فقد قدم كل واحد منهما على قوله حمداً وصلاة.
ولكن يعترض في هذه المسألة أنه تخلل بين الإيجاب والقبول كلام، وهذا من الأصول التي يجب الاعتناء بها، فإن تخلل بين الإيجاب والقبول سكوت في زمن متطاول، يدل مثله على إعراض القابل أو نسيانه، أو غفلته، أو على اشتغاله بالفكر فيما هو بصدده؛ فهذا يقطع الإيجاب عن القبول. وإن قصر زمان السكوت، ولم يُشعر بما ذكرناه، لم يضرّ، وإن تخلل بين الإيجاب والقبول كلام في زمان: لو فرض في مثله السكوت بدلاً عن الكلام، لما كان ينقطع الإيجاب عن القبول؛ فهذا موضع الغرض من المسألة.
قال الأئمة: إن كان ذلك الكلام غير متعلق بغرض العقد؛ ففي ترتب انقطاع العقد عليه وجهان:
أحدهما: أنه ينقطع؛ لأن الكلام اليسير بمثابة السكوت الطويل، بدليل أن السكوت الطويل يقطع تلاوة الفاتحة، ويقطعها الذكر اليسير في أثنائها، كما يقطعها السكوت الطويل.
والوجه الثاني- أن العقد لا ينقطع؛ ونصُّ الشافعي في كتاب الخلع دليلٌ على ذلك؛ فإنه قال: لو قال الرجل لامرأتيه: "أنتما طالقتان على ألف"، فارتدّتا، ثم قبلتا الخلع، وذلك بعد المسيس، ثم عادتا إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، فالخلع صحيح وهذا تصريح بأن تخلّل كلمة الردة بين الإيجاب والقبول ليس ضائراً، هذا إذا لم يكن الكلام المتخلل متعلقاً بالعقد.
فأما إذا كان متعلقاً بالعقد، كحمد الله يقدمه الخاطب بعد تقدم الإيجاب، ثم يعقبه بالقبول، فالأصح صحة العقد؛ فإنّ تخلّل ما وصفناه ليس مُشعراً بإعراض المخاطب عن جواب ما خوطب به. قال الأئمة: هذا بمثابة تخلل الإقامة بين صلاتي الجمع؛ فإنه غير ضائر مع اشتراط التوالي بين صلاتي الجمع، وهذا الاستشهاد تكلّف عندنا؛ فإنه لو تخلل بين صلاتي الجمع بمقدار الإقامة ما ليس من مصلحة الصلاة، لم يضرّ أصلاً. ما ذكرناه ظاهر المذهب.
ومن أصحابنا من ضيق الكلام، ومنع تخليل شيء بين الشقين والطرفين. فإذا جرينا على الأصح، ولم نمنع تخليل الحمد للتيمن به؛ فلا خلاف أن طويله يقطع الإيجاب عن القبول، ثم طويله معتبر بالسكوت الطويل المتخلل، على ما مضى.
7982- ثم قال الشافعي: "وأحب أن يقول ما قال ابن عمر: زوّجتكها على ما أخذ الله للمسلمات على المسلمين من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان".
ومعنى اللفظ أن كل زوج مؤاخذ في أدب الدين بأن يمسك خليلته بمعروف أو يسرّحها بإحسان، والأولى أن يُجريا ذكر ذلك قبل العقد، أو بعد انبرامه، حتى لا يقع شرطاً في العقد، فإن قبل الولي كلامه بذلك، فقال: "زوجتكها على أن تمسكها بمعروف أو تسرحها بإحسان"، فقبل الزوج النكاح مطلقاً، أو صرح بالتزام ما شرط عليه؛ فلأصحابنا وجهان في صحة النكاح:
أحدهما: أنه لا يصح، وهو ما كان يختاره شيخي؛ لأن معناه اشتراط الطلاق في بعض الأحوال، وهذا لا سبيل إليه، وسنوضح أن اشتراط الطلاق مفسد للنكاح.
ومن أصحابنا من قال: يصح النكاح، وهو ما قطع به الصيدلاني نقلاً عن القفال.
ووجهه: أن ذلك ليس شرطاً، وإنما هو تعرّض لذكر ما هو الأدب في الدين.
والذي أراه في ذلك: أنهما إذا أجريا هذا شرطاً، وصرحا بالتزامه؛ فالوجه القطع ببطلان النكاح، فإن ذكراه، وصرّحا بذكر الوعظ به من غير التزام شرط وتطرق وفاءٍ به؛ فالوجه: القطع بصحة العقد، وإن أجريا هذا الكلام مطلقاً؛ احتمل أن يحمل على الشرط لصيغته، وموجبه الإبطال. واحتمل أن يحمل على الوعظ-وهو ما تدل عليه قرينة الحال- وموجبه الصحة.
فهذا كشف القول في ذلك.