فصل:  مقدمة المؤلف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب




. مقدمة المؤلف:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الشيخُ الإمام الأجل فخر الإسلام، إمام الحرمين، والأئمة، مقدَّمُ أهل السنة. أبو المعالي عبدُ الملك بنُ عبد الله بن يوسف الجويني، رضي الله عنه:
1- أحمد الله عزت قدرتُه حقَّ حمده، وأصلي على محمّد نبيّهِ، وخاتم رسله، وعبدِه، وأبتهل إليه في تيسير ما هممتُ بافتتاحه من مذهبٍ مُهذَّبٍ، للإمام المُطَّلِبي الشافعي رضي الله عنه، يحوي تقريرَ القواعد وتحرير الضوابط والمعاقد، في تعليل الأصول، وتبيين مآخذ الفروع، وترتيب المفصَّل منها والمجموع، ومشتملٍ على حل المشكلات، وإبانة المعضلات، والتنبيه على المَعاصات والمُعْوِصات، ويُغني عن الارتباك في المتاهات، والاشتباك في العمايات.
ولستُ أُطنب في وصفه، وسيتبين شرفَه من يوفّق لمطالعته ومراجعته، وهو على التحقيق نتيجةُ عمري، وثمرةُ فكري في دهري. لا أغادر فيه بعون الله أصلاً ولا فرعاً إلاّ أتيت عليه، مُنتحياً سبيلَ الكشف، مؤثراً أقرب العبارات في البيان، والله المستعان وعليه التُّكلان.
2- وسأجري على أبواب "المختصر" ومسائلها جهدي، ولا أعتني بالكلام على ألفاظ السواد، فقد تناهى في إيضاحها الأئمةُ الماضون، ولكنّي أنسبُ النصوصَ التي نقلها المزني إليه، وأتعرض لشرح ما يتعلق بالفقه منها، إن شاء الله تعالى.
3- وما اشتهر فيه خلافُ الأصحاب ذكرتُه، وما ذُكر فيه وجهٌ غريبٌ منقاسٌ، ذكرت ندورَه وانقياسَه، وإن انضم إلى ندوره ضعفُ القياس، نبهتُ عليه، بأن أذكر الصوابَ، قائلاً: "المذهب كذا"، فإن لم يكن له وجهٌ، قلتُ بعد ذكر الصواب: وما سوى هذا غلط.
وإن ذكر أئمةُ الخلاف وجهاً مرتبكاًً أنبه عليه بأن أقول: اتفق أئمةُ المذهب على كذا، فتجري وجوهٌ من الاختصار، مع احتواء المذهب على المشهور والنادر.
وإن جرت مسألةٌ لم يبلغني فيها مذهبُ الأئمة خرّجتُها على القواعد، وذكرت مسالك الاحتمال فيها، على مبلغ فهمي.
وتعويلي في متصرفات أموري على فضل الله تعالى. وقد استقرّ رأيي على تلقيبه بما يُشعر بمضمونه، فليشتهر بـ (نهاية المطلب في دراية المذهب)
والله ولي التوفيق، وبيده التيسير، وهو بإسعاف راجيه جدير.

.كتاب الطهارة:

قال الشافعي رحمه الله: قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]... إلى آخره.
4- ومقصود هذا الباب تفصيلُ القول في الماء الطاهر، الذي يتغير ببعض الأشياء الطاهرة.
فأقول: اختلف طرق الأئمة في ضبط مقصود الباب، فالذي أراه المسلكَ المرضي أن اختصاص طهارات الأحداث بالماء يُتَّبع فيه موردُ الشرع، ولا يُطلب له معنى وعلّة؛ فإنّ طُهْرَ الحدث، واختصاصَه بالماء غيرُ معقول المعنى، وإذا كان كذلك، فالوجه اتباعُ لفظ الشارع، وربطُ الحكم به، وقد مَنّ الله تعالى على عباده بإنزال الماء الطهور؛ فقال عزّ من قائل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وتكرّر ذكرُ الماء في الأخبار المأثورة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فممّا روي قوله صلى الله عليه وسلم: «خُلقَ الماءُ طهوراً»، وغيرُه.
فالوجه أن يقال: كل ما يسمى ماءً على الإطلاق، ويُفهم من لفظ الماء، فهو على الإطلاق صالحٌ للطهارات، إذا كان طاهراً، وما يتغيرُ تغيُّراً يخرجُ بسببه عن اسم الماء مطلقاً، فهو غير صالحٍ للطهارات.
وإذا لم يتجه معنىً، ولزم اتباعُ اللفظ، والاقتصارُ على مقتضاه، فموجَب ذلك تحكيم معنى الاسم في النفي والإثبات.
هذا بيان ما يضبط مقصودَ الباب، وسنفصله بتخريج المسائل عليه.
5- فإذا تغيّر الماء بوقوع طاهرٍ فيه، نُظر: فإن تغير ريحُه بمجاورة الواقع فيه، مثل أن يقع فيه كافورٌ صلب، أو ما في معناه من الأدهان ذوات الروايح الفايحة، وهي لا تخالط الماء، بل تعلوه طافيةً، فإذا تغيرّت رائحةُ الماء بهذه الأشياء؛ فالماء طهورٌ؛ فإنه يسمى ماءً مطلقاً، والمتبعُ الاسم.
6- وإن تغير الماء بمخالطة الواقع فيه، فهو ينقسم على ما رسمه الأصحاب، إلى ما يمكن صونُ الماء عنه، وإلى ما لا يمكن صونُه عنه.
فأما ما يمكن صون الماء عنه كالزعفران والدقيق وغيرِهما، فإذا خالط شيءٌ منها الماءَ ولم يغيره، فالماء طهورٌ، مفهوم من مطلق اسم الماء.
وإن غيّره، نُظر: فإن تفاحش التغيرُ، بحيث يستجد ذلك المتغير اسماً، بأن يسمى صبغاً أو حبراً؛ فقد خرج عن كونه طهوراً؛ لسقوط اسم الماء المطلق عنه، ولا فرق بين أن يُعرَض على النار أو لا يُعرَض عليها.
وإن حصل أدنى تغيّر، ولم يَصِر الماءُ بحيث يتجدد له اسمٌ سوى الماء، فهو على موجب هذه الطريقة طهورٌ؛ فإنه يسمى ماءً على الإطلاق.
وما ذكرتُه من تفصيل القول في التغيّر ذكره شيخُنا أبو بكر الصيدلاني فيما جمعه من طريقة القفال، ولا يستدّ في المذهب والخلاف غيره.
7- فأما إذا كان المغيِّرُ بحيث لا يمكن صونُ الماء عنه، فمعظم ما وقع في هذا القسم يجاورُ الماءَ، كالكبريت في منبع الماء، ومجراه، وكذلك النُّوْرة في مجرى الماء والقطران الخاثر، الذي فيه دهنيّة.
وقد تقدم أن تغتر المجاورة لا أثر له.
فأما ما يخالط كالأوراق الخريفيّة إذا انتثرت في الماء وتعفنت، وبليت فيه، فمقتضى هذه الطريقة أن الماء طهورٌ، وإن تفاحش التغيُّر؛ لأن أهل اللسان لا يسلبون عن مياه الغُدران والأنهار اسمَ الماءِ عند تغيرها بما وصفناه، وقد تقرر أن التعويلَ على بقاء الاسم المطلق، ولعل العرب فهمت تعذرَ الاحتراز، وعلمت أن آلةَ الغَسل الماءُ، فأدامت على ما يتغير بهذه الجهة اسمَ ما هو مُعدٌّ للغسل، فالتعليل ببقاء الاسم، والمظنونُ أن سبَب بقاء الاسم تعذُّرُ التحرّز، فليفهم الفقيه مراتبَ الكلام.
8- وأما الماء المتغير بالتراب أوانَ المدّ، فقد قيل: إن التراب لا يخالط الماء، بل يجاورُه باجزائه المنتثرة فيه، وآيةُ ذلك أن الماء المتغيّر به لو سكن في إناءٍ، لتميّزت أجزاءُ التراب راسبةً.
وإن اعترض متكلفٌ من أهل الكلام على فصل الفقهاء بين المجاورة والمخالطة، فزعم أن الزعفران ملاقاته مجاورة أيضاًً؛ فإن تداخل الأجرام محال.
قيل له: مدارك الأحكام التكليفية لا تؤخذ من هذا المأخذ، بل تؤخذ ممّا يتناوله أفهامُ الناس، لاسيما ما يُبنَى الأمر فيه على معنى اللفظ.
ولا شك أن أرباب اللسان لغة وشرعاً قسّموا التغيُّر إلى ما يقع بسبب المجاورة، وإلى ما يقع بسبب المخالطة، وإن كان ما يسمى مخالطة في الإطلاق مجاورة في الحقيقة، فالنظر إلى تصرف اللسان.
ومنتهى هذه الطريقة النظر إلى الاسم، وهذا لا انقسام فيه، وإنما الانقسام في أسباب بقاء الاسم وزواله، فهذه هي الطريقة الصحيحة، ونصُّ الشافعي في آخر الباب موافقٌ لهذه الطريقة؛ فإنه قال في ذكر ما لا يجوز التَوضؤ به، أو غير ذلك، مما لا يقع عليه اسم ماء مطلق: "حتى يضافَ إلى ما يُخالطه أو خرج منه" وهذا ظاهرٌ في أن أدنى تغيّر لا يُؤثر.
9- وذكر طوائفُ من أئمتنا مسلكاً آخر في ضبط مقصود هذا الباب، ونفتتحه بالقول في المتغير بمخالطة ما يمكن صون الماء عنه.
ذهب أئمّةُ العراق إلى أن الماء إذا تغيّر بالزعفران وما في معناه أدنى تغيّرٍ، خرج عن كونه طهوراً، وهذا ما كان ينقله شيخي عن القفال.
ولست أرى لهذا المسلك وجهاً سديداً، لكنّي أذكر الممكنَ في توجيهه، فأقول: لعلّ هؤلاء يقولون: المكلّفون فهموا من ذكر الماءِ في الطهارات أنه شيء لطيفٌ عامُّ الوجود، يقلع آثار النجاسات، ولا يُكسب ما يُغسَل به صفةً في نفسه، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] يشير إلى الماء الباقي على صفاتِ فطرته، والماءُ المتغيّر-على هذا التقدير- خارجٌ عمّا فُهم من صفة الماء، والماء الكثير الذي لا يقبل النجاسة ما لم يتغيّر، إذا تغيَّر بها أدنى تغيّرٍ، صار نجساً، فتغيُّرُ الماء القليل بمخالطة الطاهرات، كتغيّر الماء الكثير بالنجاسة على موجَب هذه الطريقة.
فأمّا ما يتغيّر بالمجاورة، كالماء المتغيّر برائحة الكافور الصلب وغيرِه، فيجوز التوَضؤ به عند هؤلاء، وإن كانوا يكتفون في المخالطَة بادنى تغيّر؛ فإنّ اكتساب الماءِ رائحةَ الكافور الواقع فيه كاكتسابه رائحة الكافور بالقرب منه غيرَ واقعٍ فيه.
10- وذكر شيخي: أن صاحب التلخيص ذكر قولاً في أنّ الماءَ المتغيّر بمجاورة ما وقع فيه ليس بطهورٍ، وهذا غريب مزيفٌ.
ثم قال هذا الفريق: "لو تغيّر الماءُ بمخالطة ما لا يمكن صونُ الماءِ عنه، كالأوراق الخريفية وغيرها، فيجوز التوضؤ به؛ لمكان التعذّر، وهذا كعفونا عمّا يتعذّر الاحتراز منه من النجاسات، كدم البراغيث وغيره".
فالماء المتغير إذاً ينقسم إلى ما يتغيّر بالمجاورة، وإلى ما يتغيّر بالمخالطة، فأما ما يتغير بالمجاورة، فطهورٌ على ظاهر المذهب، وفيه القول الغريب الذي ذكره صاحب التلخيص.
وأمّا ما يتغيّر بالمخالطة، فإنه ينقسم إلى ما يمكن صونُ الماءِ عنه، وإلى ما يتعذر الاحتراز منه.
فأمّا ما لا يمكن التحرّز منه، فإذا حصل التغيّر به؛ فالماء طهورٌ.
وما يمكن التحرز منه إذا خالطه، نُظر، فإن لم يُغيّر الماءَ أصلاً، جاز التوضؤ به، وإن غيّره أدنى تغيّرٍ، لم يجز التوضؤ به.
11- وذكر الشيخ أبو بكر الصيدلاني طريقةً ثالثةً لبعض أصحابنا، وهو النظر إلى التغير بالمخالطة، قال هؤلاء: كل ما يتغير بالمخالطة فلا يجوز التطهر به، وإن كان مما يتعذّر الاحتراز منه في بعض المياه.
ونظر أصحابُ هذه المقالة إلى أن التغيّر بالاختلاط في حكم انقلاب الجنس، فكأنّ الماء خرج عن كونه ماءً إذا غيّره ما خالطهُ، من حيث لا يُتوقَّع تميّز أحدهما عن الثاني، واتحد كل واحد من المخالطَيْن بصاحبه.
والمجاورة لا تقتضي هذا المعنى، ثم معظم ما لا يتأتى التصوّن منه مجاورٌ، والأوراق الخريفية، كالخشب تجاورُ، وليس فيها رطوبات تخالط، حتى لو انتثرت وفيها رطوبة، فخالطت وغيّرت، سلبت الماءَ طهوريَّتَه.
فهذا تحصيل طرق الأصحاب، في مقصود هذا الباب.
ونحن نرسم الآن فروعاً نذكر فيها مقالات الأئمّة، ونُخرِّجُها على الطرق، فتتهذّب بذكرها القواعد والأصول.
فرع:
12- الماء إذا ألقي فيه ملح، صودف منعقداً عن الماء الأُجاج، فتفاحش تغيُّره به، فقد ذكر أئمّة المذاهب فيه خلافاً، وقالوا: من أصحابنا من جوّز التوضؤَ به؛ لأن الملح انعقد من ماءٍ، فإذا ذاب في ماء عذبٍ، كان كالجَمْد، يذوب في الماء، وأيضاًً فلا خلاف أن الماء الملح-الذي ينعقد منه الملح- لو انصبَّ في ماء عذبٍ وظهرَ تغيُّره به، يجوز التوضؤ به؛ فليكن الملح بنفسه بمثابته.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز التوضؤ بالماء الذي ظهر تغيُّره بالملح الواقع فيه؛ فإنه مع العلم به لا يسمى ماء مطلقاً، إذا تفاحش تغيُّرُه، وليس الملح من أجزاء الماءِ وجوهره؛ فإن المياه نزلت من السماء عذبة، ثمّ سلكها الله سبحانه وتعالى ينابيعَ في الأرض، فاكتسبَ ما انسلك في السبخات صفاتِها، ثم الملح المنعقد هي أجزاء السبخة تتجمع، وليست أجزاء الماء، ولذلك لا ينماعُ الملحُ في الشمس.
وأما انصباب الماء الأُجاج على العذب، فالمتبع فيه الاسم في مجاري الكلام؛ فالناس يقولون: "ماءٌ انصب على ماء"، وكان يجوز التوضؤ بالماء الأجاج عند انفراده، وإذا ذاب ملحٌ في ماءٍ يظهر تغيّره به، فيمتنع أهلُ اللسان من تسميته ماء على الإطلاق.
وما ذكرناه في الملح المنعقد من الماء، فأما الملح المنتقَر المحتفر من الجبال، الذي لم يُعهد منعقداً من الماء، فإذا ظهر تغيّر الماءِ به، قطعنا بزوال طهوريته، ولم ندرجه في الخلاف أصلاً، ومن ظنّ فيه خلافاًً، فهو غالط.
فرع:
13- إذا وقع في الماء كافورٌ صلبٌ، وغيّر رائحة الماء، فقد ذكرنا أن الماء طهورٌ عند الأئمة، والمجاورة لا أثر لها، فلو كان كافوراً رَخواً، فذاب في الماء، وخالطه، وظهرت رائحتُه، والكافور قليل، وسبب تغيّر الماء ظهورُ الرائحة الفائحة الغالبة، فمن لم يكتف من أئمتنا بأدنى تغيّرٍ، واتبع الاسم، حكم بأن هذا الماء طهور.
ومن صار إلى أن التغيّر اليسير بالزعفران يسلب تطهير الماء، فقد اختلفوا في الصورة التي ذكرناها، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز التوضؤ به؛ فإنّه متغيّر والكافور مخالط في محل التصوير.
وذهب الأكثرون إلى جواز التوضؤ به، فإن الكافورَ وإن كان مخالطاً، فليست المخالطة سببَ التغيّر، وإنما سببُ التغيّر قوة ريح الكافور، فالماء في معنى ما يتغيّر بمجاورة الكافور.
فرع:
14- إذا جرت رياح في الربيع، ونثرت الأوراقَ الرطبة، وتغيّرت المياه بها، فمن اتبع المخالطة والمجاورة، منع التوضؤ به إذا تغيّرت المياه بمخالطة الأوراق إياها.
ومن اعتبر في أصل الباب التعذّر والتيسُّر في الاحتراز، اختلفوا في هذه الصورة؛ وسبب الاختلاف أن ما تعلق بالأعذار، فكل عذر يعمّ وقوعُه أثّر، وكل عذر يندر وقوعه، فإذا وقع، تردد الأئمة فيه، فمنهم من ينظر إلى وقوعه إذا وقع، وألحقه بما يعمّ وقوعه، ومنهم من ألحقه بما يتيسّر الاحتراز منه؛ فإن العسر الذي يتعذّر احتماله إنّما يتحقق فيما يعمّ، وما يندر في الأحايين في حكم عارضةٍ تزول.
وسيأتي ما يمهّد هذه القاعدةَ في مسائل التيمّم، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
15- إذا طُرح كفٌّ من التراب في كوز ماءٍ فكدّره، فمن اتبع اسمَ الماءِ في الطريقةِ المرضيّة جوّز التوضؤ به؛ فإن التغيّر بالتراب لا يسلب اسمَ الماءِ.
ومن راعى المخالطةَ، اختلفوا في أن الترابَ مخالطٌ أو مجاورٌ.
وقد أجريتُ ذكرَ هذا في أثناء تمهيد الأصل.
فإن قيل: إنَّه مجاور، لم يضرّ، وجاز التوضؤ به.
وإن قيل: إنه مخالط مغيّر، فقد اختلف هؤلاء الآن في جواز التوضؤ به، فمنعه بعضُهم للتغير والمخالطة، وتيسُّر الاحتراز عنه في هذه الصورة.
وأجازه بعضُهم ذهاباً إلى أن التراب طاهر طهورٌ؛ فهو موافق للماءِ في صفته، فلا يضر تغيّر الماء به.
وهذا من ركيك الكلام، وإن ذكره طوائف؛ فإن التراب غيرُ مطهرٍ، وإنما عُلِّقت به إباحةٌ بسبب ضرورة.
والكلام في أصله مفرعٌّ على طريقةٍ غير مرضيّة، وإذا طال التفريعُ على الضعيف، تضاعف ضعفه.
فرع:
16- إذا صُبَّ على ماءٍ قليلٍ مقدار من الماوَرْد، ولم يكن له طعمٌ محسوس، يخالف طعمَ الماء، ولا ريحٌ، فإن كان مقدارُه بحيث لو فُرض له طعمٌ مخالف لطعم الماءِ لغيَّره، على ما ذكرنا كلامَ الأصحاب في معنى التغير المؤثّر، فإذا بلغ الذي لا طعم له في الكثرة هذا المبلغ، لم يجز التوضُؤ بذلك المختلط؛ فإن ظهور صفة المخالط إن كانت له صفة، إنما أثَّر من حيث أشعر باختلاط الماءِ بغيره، فإذا تحققنا اختلاطهما، فليس المختلط ماءً مطلقاً، ومقدار المخالط كثيرٌ بحيث لا يُعدّ مثله مغموراً.
وإن كان مقدارُ الماوَرْد الخليِّ عن الطعم قليلاً، بحيث لو فرض له طعمٌ، لم يظهر طعمُه في هذا المقدار من الماء، فالوجه أن ننُبّه على مثار الإشكال في ذلك، ثم نوضّح المذهبَ.
فنقول: إذا كان مخالطُ الماء جامداً، وكان يسيراً مغموراً، فالجاري على أعضاء الطهارة ماءٌ لا شك فيه، وإذا كان المخالط مائعاً، فقد نعتقد أنه لم يجرِ على البدن الماءُ المحض، فمن هذه الجهة تردد الأئمةُ على ما أصف مسالكهم.
فأقول: إن كان مع الرجل مقدار من الماء لا يستوعب بدنَه في الغُسل، فصبّ عليه من المَاوَرْد ما كمّله، وكان مقدارُ المَاوَرْد مع ذلك قليلاً، على ما سبق طريقُ اعتبار القلة، فمقدار الماء يجوز استعماله من هذا المختلط، وهل يجوز استعمال الزائد عليه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: وهو مذهب أبي علي الطبري على ما ذكره العراقيون: أنه لا يجوز استعمال الزائد عليه؛ لأنّا لو جوزناه-وإنّما كمل مقدار الوضوء بالمخالِط- فنعلم قطعاً أن الماء لم يعم أعضاءَ الوضوء.
قال العراقيون: هذا غلطٌ منه، والصحيح استعمال الزائد؛ فإن المخالط مغمور، فكأن المختِلطَ ماءٌ كله.
وكان شيخي يصحح الوجه الأول، ويزيّف ما صحّحه العراقيون، ويعتلّ بما وجهنا به ذلك الوجه.
وما صححه العراقيون يتجه بشيء ظاهر، وهو أن مقدار الماء يجوز استعمالُه قطعاًً وفاقاً، مع العلم بأنه إذا استعمل، فليس ماءً محضاً، وإذا لم يكن محضاً، فليس الواصل إلى الأعضاء ماء.
ومن تمام البيان في ذلك أن مقدارَ الماء إن كان يأتي على الوجه واليدين، ويقصُر عن الرجلين، فيصحّ غسل الوجه واليدين بهذا المختلط، وفي غسل الرجلين الخلاف المذكور، وإن كان مقدار الماء كافياً لوضوءٍ، صحّ الوضوءُ به، مع الاقتصاد في استعمال الماء، وفي استعمال الفاضل في طهارةٍ أخرى الخلاف.
وإن كان مقدار الماوَرْد في القلَّة، بحيث لا يتبيّن له في الحس أثر في تكميل مقدارٍ، ولا يظهر عند عدمه في الماء قصور في مُدرَك الحس، فلا أثر لذلك المخالِط قطعاً.
فإن قيل: قد ذكرتم في أول الكلام تقديرَ طعم المخالط، فما وجه ضبط القول فيه؟ والأمر يختلف بحِدة الطعم ونقيضها، فإن احتدّ طعمُ الشيء، غلبَ القليل منه، وإن لم يحتدّ، لم يغلب إلا مقدارٌ زائد. قلنا: أقصدُ الأمور ووسطها معتبرنا في ذلك.
وقد نجز الغرض من أصل الباب وتفريعه.
فصل:
قال الشافعي: "ولا أكره الماءَ المشمَّسَ إلا من جهة الطب... إلى آخره".
17- يكره استعمالُ الماءِ المشمَّس في الجواهر المنطبعة، كالرصاص والنحاس وغيرهما، وقد نهى عمر رضي الله عنه عن ذلك، وقال: "إنه يُورث البرص"، ورُوي أن عائشة، أم المؤمنين رضي الله عنها، كانت تشمّس الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تفعلي يا حميراء، فإنه يورث البرص».
وقال الأئمة: إنما ثبتت الكراهيّة بشيئين يجتمعان، أحدهما- أن يجرى التشمِيسُ في البلاد الحارّة، دون المعتدلة والباردة.
والثاني: أن يكون التشمِيس في الجواهر التي ذكرناها، فإنّ حَمْيَ الشمس إذا اشتدّ على الماء فيها، فقد يعلوها شيء كالهباء، وهو الضارُّ فيما قيل. فأما التشميس في الخزف والغدران، فلا يضرّ أصلاً.
وإذا كان المرعيُّ أمراً يتعلق بالطبّ، فلا فرق بين أن يشمَّس الماء قصداً، وبين أن تنتهي الشمس إلى إناءٍ من غير قصدٍ.
وخصصّ الشيخ أبو بكر النُّحاسَ بالاعتبار من سائر الأجناس.
وأنا أقول: يَبعُد أن ينفصل من إناء الذهب والفضّة، مع طهارتهما شيء محذورٌ، وكان شيخي يطردُ قولَه فيما ينطبع وينطرق.
وقال العراقيون: تختص الكراهة بما قُصدَ تشميسه دون ما يتفق، ولم يتعرضوا لتفصيل الجواهر، وهذا غلطٌ.
وأنا أقول: ليست الكراهية في هذا الفصل مؤثرةً في تنقيص مرتبة الطهارة؛ فإن سبب الكراهية حِذارُ الوَضَح، وهذا يتعلق بالاستعمال في الوجوه كلها.
وأما الماء المسخّن، فلا كراهية في استعماله أصلاً.
فصل:
18- إزالة النجاسة عند الشافعي رحمه الله تختصّ بالماء، وقد تخيّل رضي الله عنه اختصاص إزالة النجاسة بالماء تعبداً، من حيث رأى الماءَ في الشرع هو المعدّ للطهارات، وقد قررت ذلك على أقصى الإمكان في الخلاف مع إشكاله. والله أعلم.