فصل: كتاب الرهن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: مَا لاَ يَجُوزُ فِيْهِ السَّلمُ:

3504- ذكر الشافعي-رحمة الله عليه- في الباب الأول ما يجوز السلم فيه، وأراد الإيناس بذكر الأوصاف، فذكر أجناساً، وأشار في كل جنسٍ إلى ما يليق به، ومقصوده في هذا الباب أن يُبيّن ما لا يجوز السلم فيه، ويشير إلى وجوه امتناع الوصف، حتى يجتمع للناظر من الباب الأول وهذا الباب ما يفيد الامتناعَ، وما يفيد التجويز. وقد صدر الباب بالنَّبل فقال: "لا يجوز السلم في النَّبل".
والأمر على ما قال. وسبب المنع التركّب من أركانٍ: الخشبُ والعَقَب، والريش، والنصل في مكان الرَّعْظ. وكل جنس من هذه الأجناس مقصود القدر في السهم، وهو مجهول، وفيه التخريط، والأخذ في الدقة عن غِلظ، وهو يتضمن جهالة، والغرض يختلف به اختلافاً بيّناً. هذا معلومٌ، لا يلزم عليه إلا أن يعارَض بالحيوان.
وقد ذكرنا أنه خارج عن قياس الباب، وقد انتهض بعض الأصحاب للانتصار فقال: "أفراد أركان الحيوان ليست مقصودة، وإنما المقصود البنية". ولا شفاء في هذا ما لم يحط المرء بما ذكرناه.
ويجوز السلم في خشب النَّبل، وفي بيع السهم وعليه الريش، نظرٌ؛ لمعنىً في بيع العين؛ فان الريش المستعمل على النشاب نجس، على القول الظاهر. وقد يقع الكلام في تفريق الصفقة على تنجيس الريش، فالوجه بيع النشابة دون الريش، فيكون كبيع ثوب متضمخ بالنجاسة.
فصل:
قال: "ولا في اللؤلؤ، ولا في الزبرجد... إلى آخره".
3505- قال أصحابنا: يمتنع في النفائس من هذه الجواهر، وعلل بعضُهم بأن الضبط غيرُ ممكن، وليس الأمر كذلك؛ فإن الضبط غيرُ مقصودٍ على أقصى الوجوه، فيقال: ياقوتة وزنها كذا، وشكلها كذا، لحمية أو جمرية، أو وردية، أو رمانية.
ويقال: لؤلؤة مدحرجة، صافية اللون، براقة البياض. وزبرجد أخضر ريحاني، أو سِلْقي.
فسبب المنع أن الأوصاف إن لم تذكر، كان السلم فيه مجهولاً، وإن ذكرت جَرَّت عزة.
والسلم في اللآلىء الصغار التي تباع وزنا ولا يُجرّدُ النظرُ إلى آحاد حباتها، جائزٌ.
وكان شيخي يقول: يجوز السلم في الدرّ التي يُتحلَّى بها، إذا لم تثقل، وكان في الحبة سدس مثلاً؛ فإن هذا لا يعز وجوده.
ومنع بعض الأصحاب ذلك، فإن اتفاق السدس من غير مزيد ولا نقصان، مع استجماع الصفات المرعية نادر. والمسألة محتملة.
فإذاً مدار الفصل على الجهالة والإفضاء إلى العزة. وأن يكون المرء محيطاً بمسائلِ السلم؛ حتى يضع السلم في الحيوان نبذة في فكره لا يقيس بها شيئاً، ولا نقيسها على شيء، ويجري في تفريعها جريان من لم يدرك أصله بقياسه. وإنما زعه على قدر الضرورة.
فصل:
قال الشافعي: "وأرى الناس تركوا وزن الرؤوس... إلى آخره".
3506- السلمُ في الرؤوس والأكارع قبل التنقية غير جائز، لما عليها من الصوف والشعر، والمقصود مستتر بها.
وفي السلم فيها بعد التنقية قولان:
أحدهما: الجواز، كالسلم في لحم الفخذ وغيره من الأعضاء.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه يختلف اختلافا متبايناً في المشافر، والمناخر، وعظم اللحيين، وعظم الأسنان، واللسان، فقد يعظم منها ما لا يؤكل إلا على تكره، ويصغر منها ما يقصد، وهذا يختص بالرأس، والتجويز في الأكارع أقرب.
ثم من صحح السلم شرط الوزن.
3507- وذكر بعد هذا منعَ السلم في الجلود. يعني الجلودَ الطاهرة؛ فإنها لا تنضبط بتشكيل، وفيها انعطافات متباينة، والغرض من الأَدَم لا ينحصر على الوزن، فالسلم إذاً فيها كالسلم في ثوب من غير ذرعٍ.
ولو قطعت وشكلت أشكالاً تقبل المساحة، كالنعال السبتية، ففي السلم فيها وجهان:
أحدهما: وهو الأصح الجواز.
والثاني: المنع؛ لأن ثخانتها ودقتها خارجان عن الحصر، وأطراف الأدَم متفاوتة في ذلك، ولا يتأتى درك الجميع بسَبْر طرفٍ.
والأصح الصحة. والاعتمادُ على الوزن لا محالة. ولا التفات إلى الحيوان.
ولا يصح السلم في الخفاف والصنادل؛ لأنها مجهولة كالنشاشيب.
وإذا امتنع السلم في النشاب، فالقوس المركب، وهو قوس العجم أولى بالمنع.
والنَّبعة التي يتخذ منها قوس العرب بأخذٍ في التخريط من الطرفين، فتتطرق إليه الجهالة.
والأواني المنطبعة إن كانت على شكل واحد، لا تفاوت فيها تضايقاً واتساعاً، جاز السلم فيها، والاعتماد على الوزن. وإن كانت تختلف أشكالُها تضايقاً واتساعاً، فالسلم يمتنع.
هذا مجموع ما ذكره رضي الله عنه.

.باب: التَّسْعِير:

وهل ينادي منادي الإمام في البلد، ويأمر بسعرٍ مقدرٍ في جنس حتى لا يتعدَّوْه؟
3508- فنقول: ليس للإمام هذا في رخاء الأسعار وسكون الأسواق؛ فإنه حجرٌ على الملاك، وهو ممتنع. فأما إذا غلت الأسعار، واضطر الناسُ، فهل يجوز للإمام أن يسعّر؟ فيه وجهان مشهوران:
أحدهما: المنع طرداً للقياس الكلي.
والثاني: الجواز، نظراً إلى مصلحة العامة. وقد روي: "أن عمرَ بن الخطاب-رضي الله عنه- مر بحاطب بن أبي بلتعة، وبين يديه غَرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعره، فَسَعَّر مُدَّين بدرهم فرآه عمرُ غالياً، وقال: "حُدّثتُ بعِيرٍ مقبلة من الطائف تحمل زبيباً، وهم يعتبرون بسعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإمَا أن تدخل زبيبك البيتَ، فتبيعه كيف شئت". وأراد برفع السعر الزيادة في وزن الزبيب.
ومن منع التسعير احتج بما روي عن أنس أنه قال: غلت الأسعار بالمدينة، وقلنا: يا رسول الله لو سعرت لنا! فقال عليه السلام: «إن الله هوَ المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس لأحد منكم مظلمة في دم ولا مال» وأما حديث عمر فقد روي أنه كان يحاسب نفسه كل ليلة بما جرى له في نهاره، فروي أنه فعل ذلك، فوجد فيما جرى له في يومه تسعيره على حاطب، فندم وأتاه في جوف الليل، وقال له: «إن الذي قلتُ ليس بعزيمة ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت، فبع، وكليف شئت، فبع».
فصل:
3509- روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون» وقال عليه السلام: «من احتكر طعاماً أربعين يوماً يقصد به الغلاء على الناس برئت منه ذمة الله».
والجالب هو الذي يجلب الطعام إلى البلد وقتَ الضيق والغلاء ليوسع على المسلمين، وهو على مضادة المحتكر؛ فإن المحتكر هو الذي يحبس الطعام حتى تزداد الأسعار غلاءً وارتفاعاً.
ثم قال الأصحاب: المحتكر الذي يلحقه اللعن والوعيد صاحب مال يشتري الطعامَ ويحبسه، ولا يتركه حتى يشتريه المساكين والضعفاء.
فأما من يشتري الطعام في وقت الرخص وكساد الأسواق، ويحبسه ليبيعه إذا غلا، فلا بأس؛ فإن أصل احتكاره وتربّصه كان في رخاء الأسعار، حيث لا ضرار، وربما يكون ما ادخره قائماً مقام الذُّخر للناس، ولولا ادخاره، لكان يضيع، ويتفرق.
وكذلك من اتفقت له غَلة من ضيعته، فحبسها على أي قصد أراد، لم يتعرض للوعيد.
والقول في هذا الآن يتعلق بقطب عظيم، وهو أن الناس إذا كانوا يتهاوَوْن على الرَّديء، وقد أسرع فيهم المَوَتَانُ العظيم الذريع، وانتهى كل واحدٍ إلى استحلال الميتة وطعام الغير، فالقول في هذا وفي كل ما يدّخره كل إنسان لنفسه ولعياله ليس بالهين.
وسأذكر فيه في باب المضطر أصلاً يرقى عن مجال الفقهاء، وننبه على قاعدة عظيمة، إن شاء الله عز وجل.

.باب: امْتِنَاعِ ذِي الحق:

3510- إذا أتى المسلَمُ إليه بما عليه على الصفات المطلوبة، فلا كلام. وإن أتى بجنسٍ آخر، فهو الاعتياض عن المسلم فيه، وهو باطل.
وإن كان أجودَ مما وُصف، جاز قبولُه. وإن قال: لا أقبله ولا أتقلّد المنة، فالأصح أنه يجبر على قبوله.
ومن أصحابنا من قال: لا يجبر؛ لمكان المنّة، وهي ثقيلة على ذوي المروءات.
ولو أتى بأردأ مما وصف، لم يلزم المسلِمَ القبولُ. وإن قبل محابياً، جاز. وإن أتى بنوعٍ آخر والجنسُ متحد، مثل أن يقع السلم في الزبيب الأبيض فيأتي بالزبيب الأسود أو الطائفي، ففي المسألة وجهان عند التراضي:
أحدهما: يصح قبوله، ولا يكون اعتياضاً.
والثاني: لا يجوز قبوله؛ فإن اختلاف النوع كاختلاف الجنس.
ولو أسلم في الحنطة النفيسة، فأتى بالخسيسة، فمن أئمتنا من جعل ذلك كاختلاف النوع، حتى يخرج على الخلاف. ومنهم من جعل النوع واحداً، وجعل هذا اختلافَ صفة، مع اتحاد النوع.
وإذا جاء بعبد هندي والمسلَمُ فيه تركي، فطريقان: منهم من جعله كاختلاف الجنس، ومنهم من جعله كاختلاف النوع، على ما مضى.
ولو أسلم في الحنطة، لم يُقبل التراب والتبن فيه، وقد ضبطت هذا في كتاب الربا وبيّنت القدرَ المحتمل منه.
وإذا أسلم في التمر، فأتى بالرطب من ذلك النوع، فطريقان: منهم من جعل الرطب مع التمر نوعين، ومنهم من جعلهما نوعاً واحداً.
وإذا أسلم في لحم الطير، لم يُقبل الرأس والرجل، يعني ما لا لحم عليه من الرجل.
ولو أسلم في لحم السمك، لم يقبل الرأس والذنب؛ لأن مطلق اسم اللحم لا ينصرف إليه ولا يقتضيه، وليس كالعظم في أثناء اللحم؛ فإنه كالنوى في التمر، وقد جرى العرف بتنحية الرأس والذنب في السمك.
وفي هذا نظر عندي فأقول: إن أسلم في لحم السمك، فالأمر على ما قال الأصحاب، وإن أسلم في السمك، فلا يكلف تنحية الرأس والذنب، والعلم عند الله.
وأجنحة الطائر تُمَعَّط فيقع التسليم بعد ذلك. ويجوز أن يقال: يزال ذنب السمك وجناحه؛ فإن الحيتان صحيحة الأوساط، وكأنها طيور الماء.
ثم ذكر الشافعي أنه إذا أسلم في مكيل وقبض وزناً، أو في موزونٍ وقبض كيلاً، فليس هذا قبضاً صحيحاً، وهو بمثابة القبض جزافاً، وقد قدمته في قبوض البيع على أكمل وجه.
فصل:
قال: "ولو جاءه بحقه قبل مَحِلِّه... إلى آخره".
3511- من عليه الحق إذا جاء به، فلا يخلو إما أن يكون الحق حالا أو مؤجلاً، فإن كان مؤجلاً، وأتى به قبل الحلول، نظر: فإن كان لصاحب الحق غرضٌ في التأخير. كأن كان حيواناً لا غنى به عن علف، أو كان في وقت نهب، وليس للمعطي غرض ظاهر إلاّ براءة الذمة، وخيفة هجوم الموت، فلا يجبر صاحب الحق على قبول حقه حيث انتهى التصوير إليه، قولاً واحداً؛ فإن غرضه في الامتناع عن القبول لائح.
ولو لم يكن لمستحق الحق غرض ظاهرٌ في الامتناع من القبول، وكان للمعجِّل غرض في التعجيل، كالمكاتب يستفيد بالتعجيل العتقَ، وكذلك من رهن بالدين المؤجل عليه رهناً، فهو يطلب بتعجيل الدين فك الرهن. ومن الأغراض الظاهرة أن يكون بالدين ضامن، وكان من عليه الدين يحاول تفريغ ذمته.
فإذا لم يكن لذي الحق غرض في الامتناع، وظهر غرضُ المعجل أُجبر صاحبُ الحق على القبول.
وإن لم يكن لواحدٍ منهما غرض: لا لذي الحق في الامتناع، ولا للمعجل، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن ذا الحق لا يجبر، وله أن يبني الأمر على الوفاء بالأجل، ويجعل المعجِّلَ كالمتبرع المعطي مزيداً، وإذا كان كذلك، فله الامتناع من تقلّد هذه المنة.
والقول الثاني- أنه يجبر؛ فإن الأجل حق من عليه الدين، فإن أسقطه، لم يكن لمستحق الحق أن يمتنع. وإذا كان أصل الحق يسقط بإبراء مستحقه من غير شرط القبول على الأصح، فينبغي أن يسقط حق الأجل من غير حاجة إلى قبول من يستحق أصل الدين.
ولو كان لصاحب الحق غرض في الامتناع، وكان للمعجل غرض ظاهر في التعجيل، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنا نرعى جانب مستحق الحق، ونقطع بأنه لا يجبر لعذره اللائح، ومن أصحابنا من جعل تقابل العذرين كسقوطهما، وخرَّج المسألة على القولين كما ذكرناه.
ولو لم يكن للمستحق غرض في الامتناع، وظهر غرضُ المؤدي، فقد قطع الأصحاب بالإجبار في هذه الصورة.
ولو كان الدين سلماً، فعمّ وجودُ المسلمِ فيهِ قبل الحلول، وكان يخاف المسلَمُ إليه من انقطاع الجنس قبل الحلول؛ فهل يعد ذلك عذراً في جانب المعجِّل؛ حتى يبنى عليه ما تقدم من التفصيل في أعذار المعجِّل؛ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه عذرٌ؛ فإنه قد يترتب على التأخير انفساخ العقد، أو حق فسخه.
والثاني: أنه ليس بعذر؛ فإن العقد إن انفسخ، رد رأس المال، وسقط عنه الدين، في مقابلة ما يرد.
هذا كله في الدين المؤجل إذا عجَّله مَن عليه.
3512- فأما إذا كان الدين حالا، فجاء به من عليه، وامتنع المستحق من القبول، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قال بإجبار ذي الحق. فيقال له: إما أن تقبل، وإما أن تبرىء ذمته من الدين.
ومن أصحابنا من ذكر في ذلك قولين أيضاً؛ فإن مستحق الدين يقول: الحق لي، وإليّ طلبه، فليس لمن عليه الحق أن يحتكم عليَّ في طلب الحق.
ومما يجب التَنبُّهُ له أنا في الدين المؤجل فصلنا بين المعذور وبين ما لا عذر له، وإذا حل الدين، فنقول: أما جانب مستحق الحق، فلا يختلف بأن يكون معذوراً، ووجه بيّن. وأما المعطي، فإن كان معذوراً، أُجبر صاحبه على القبولِ قولاً واحداً.
ولم يجر القولان؛ من قِبَل أن العذر يوجب قبول ما يَنْقُدُه من الدين المؤجل، فما الظن بالدين الحالّ؟
ثم إذا وجد العذر في الجانبين، والدّين حال، فصاحب الحق مجبر على القبول قولاً واحداً؛ فإنا قد أوضحنا أن عذر مستحق الدين لا اعتبار به إذا كان الدين حالاً.
ثم حيث يجبر على القبول، فإن لم يقبل، قبض القاضي عنه، أو أناب من يقبض.
وإذا جرى ذلك، فقد برئت ذمة المديون، وكان المال أمانةً لمستحق الحق في يد الحاكم، أو في يد من أنابه.
3513- وممّا يتصل بهذا أن من عليه الحق إذا ظفر بمستحق الحق في غير المكان المتعيّن شرعاً أو شرطاً، وأراد إجبار مستحق الحق على القبول، فالتفاوت في المكان كالتفاوت في الزمان: فإن كان على الناقل مؤونة، لم يجبر مستحق الحق على قبوله، وهو يناظر في الزمان ما إذا ظهر غرض بيّن في الامتناع قبل الحلول.
وإن لم يكن في نقل المستحق مؤونة، فهل يجبر مستحِق الحق على قبوله في غير المكان المستحق؛ فعلى القولين المقدمين فيه، إذا جاء بالحق قبل حلول الأجل؛ فالتفاوت المكاني في الحكم الذي أردناه كالتفاوت الزماني.
فرع:
3514- تردد الأئمة في السلم في الثوب الذي يصبغ بعد نسجه، فيما ذكره العراقيون: فأجازه بعضهم، وهو ما قطع به الإمام.
ولا خلاف في جواز السلم في الثوب الذي ينسج بعد الصبغ.
ولا فرق؛ فإن عين الصبغ قائم في الثوبين.
ومن أئمتنا من منع السلم في الثوب المصبوغ بعد النسج، واحتج عليه بأن الصبغ عينٌ ضمت إلى الثوب، وهو مجهول المقدار. والغرض يتفاوت. وهذا إنما كان يتجه لو امتنع السلم في الذي صبغ غزلُه، ثم نسج. والأصح التجويز؛ فإن الصبغ صار صفة في الثوبِ لا يُطلب تمييزه وفصله.
فرع:
3515- حكى صاحب التقريب عن ابن سريج أنه قال في السّمك المملح: إن كان يظهر للملح وزن، فلا يصح السلم لجهالة مقدار المسلَم فيه.
وإن كان لا يظهر للملح وزن، لم يخل إما أن يكون له قيمة أو لا يكون، فإن لم تكن له قيمة، فلا أثر له؛ إذ لا قيمة ولا وزن، والسلم صحيح. وإن كان له قيمة، فهو كالثوب المصبوغ بعد النسج.
فإن قيل: أرأيتم لو كان للصبغ وزن في الثوب؟ قلنا: لا أثر لوزنه في الثوب؛ فإن الثوب لا يوزن.
فرع:
3516- إذا. قبض المسلِمُ المسلَم فيه، وتلف في يده، واطلع على عيب، فرده، فالاستبدال منه غير ممكن بعد التلف. ولكن له الرجوع بالأرش، وهو قسط من رأس المال. وإذا حصل الرجوع، لم يكن هذا استرداداً، ولكنه في حكم فسخ العقد في ذلك المقدار المسترد. وذهب المزني إلى أن الرجوع بالأرش لا يثبت بعد تلف المقبوضِ.

.كتاب الرهن:

3517- الرهن توثيق الدين بعين مالٍ يسلمها الراهن إلى صاحب الدين، وحقيقةُ الرهن الإثبات، ومنه قيل: الحالة الراهنة، أي القائمة الثابتة.
والأصل في الرهن الكتاب، والسنة، والإجماع. فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، قوله تعالى {فَرِهَانٌ} مصدر أقيم جزاءً للشرط بحرف التعقيب، وهو الفاء، فقام مقامَ الأمرِ؛ فإن الشرط والجزاء لا يعتقبان إلا على الأفعال، فجرى ذلك مجرى الأمر، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]، وقوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] وقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196]، وقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] أي فحرروا، وافدوا، واضربوا، وصوموا.
و" رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه من أبي الشحم اليهودي، بشعير استقرضه منه، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون".
والرهن محثوث عليه، وليس حتماً، فإنه قال تعالى في سياق الآية {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283].
وأصل الرهن مجمع عليه، وهو يشتمل على ركنين: مرهون، ومرهون به. أما المرهون، فلا يكون إلا عيناً، لأن الغرض من الرهن التوثيق، ولا يتوثق الدين بالدين، وهو مشبه بالهبة، من حيث إنه تبرع يفتقر إلى القبول. ثم الهبة تختص بالعين. ولو قال: وهبت منك ألف درهم ثم نقدها عن ذمته، وأقبض لم يصح، بخلاف ما لو باع ألفاً بألف، ثم نقدا وتقابضا قبل التفرق. هذا في المرهون.
وأما المرهون به، فلا يكون إلا ديناً؛ فإن الغرض استيفاء الدين من العين، عند فرض العسر. ولو كان المرهون به عيناً، فاستيفاؤها من المرهون محال، وهي متعينّة.
وفي ضمان الأعيان المضمونة كلام وتردد سنفرعه على قولي كفالة الأبدان من كتاب الضمان. وإذا جوزنا ضمان الأعيان المضمونة، فهو بتقدير ضمان قيمتها إذا تلفت، ولا يجوز الرهن بالعين على هذا التقدير في المذهب الظاهر؛ لأن الضامن لا ضرر عليه إذا امتد بقاء العين، فالذمة متسعة لالتزام الحقوق. ولو جاز الرهن على هذا التقدير، لجر ضرراً دائماً لا نهاية له؛ فإن العين التي يقدر الرهن بها ربما لا تتلف أبداً، فيبقى الرهن دائماً، ويطرد الحجر بدوامه.
فصل:
قال الشافعي: "والدين حق، فيجوز الرهن به... إلى آخره".
3518- قال الأصحاب: أراد حق لازم.
فنقول: قد تقدم أن المرهون به يشترط أن يكون ديناً. وغرضنا انحصار الرهن في قبيل الديون. وهذا الفصل يحوي تقاسيم الديون، فهي منقسمة ثلاثة أقسام: دينٌ لازم مستقر في الذمة، كالسلم، والقرض، والأروش، والأثمان، والمهور، والأجور، فيجوز الرهن بهذه الديون.
والقسم الثاني- دين لا يتصف باللزوم، ولا يُفضي إليه، وهو كنجوم الكتابة، فلا يجوز الرهن بها؛ فإنها لم تتأكد باللزوم، ولا يتصور أن تنتهي إليه في نفسه. فالتوثيق به لا معنى له. فان قيل: إذا أدى المكاتب النجم، فقد انتهى إلى التأكد. قلنا: نعم هو كذلك، ولا حاجة بعده إلى التوثيق.
والقسم الثالث: دين لا يتصف باللزوم في نفسه، ولكنه يفضي إلى اللزوم.
وهذا ينقسم قسمين: منه ما أصله اللزوم، والجواز دخيل فيه مرفق. ومنه ما أصله الجواز، ولكنه يفضي إلى اللزوم.
أما القسم الأول، فهو كالثمن في زمان الخيار، فالرهن به جائز. وهذا يتطرق إليه خلافٌ، لا محالة، متلقى من اختلاف القول في أن البيع في زمان الخيار هل يتضمن نقل الملك في المبيع إلى المشتري، وفي الثمن إلى البائع؟ فإن حكمنا بأنه يقتضي النقلَ، فعليه قطع الأصحاب بصحة الرهن. وإن قلنا: إنه لا يقتضي النقلَ أصلاً، فالظاهر منعُ الرهن؛ إذ لا دين، فيقع الرهن لو وقع قبل ثبوت الدين.
هذا قسم من قسمين انقسم إليهما القسم الثالث.
والقسم الثاني- الجُعْل في الجعالة، فمبناه في وضع العقد على الجواز، ولكنه ينتهي إلى اللزوم عند تمام العمل، ففي جواز الرهن به وجهان:
أحدهما: أنه جائز كالثمن في زمان الخيار.
والثاني: لا يجوز؛ فإنه قبل اللزوم بعيد عن التوثيق؛ إذ لا يتصور من المتعاقدين في الجعالة أن يلزما الجُعل باختيارهما قبل العمل. ويتصور من المتبايعين إلزام الثمن باختيارهما.
ومن قال بالوجه الأول، انفصل عن هذا، وقال: لو كان ثبوت الرهن مأخوذاً من اختيار اللزوم، لكان الرهن بالثمن في زمان الخيار متضمناً إلزامَ العقد. وليس كذلك.
3519- وكل ما جاز الرهن به صح ضمانه، وكل ما صح ضمانه جاز الرهن به، إلا العهدة فإن ضمانها جائز على ظاهر المذهب-وهو ضمان الدَّرَك- ولا يجوز الرهن بعهدة المبيع. والفارق بينهما أن ضمان العهدة إنما جاز مصلحة في العقد، إذ قد لا يثق المشتري بغريب يبايعه، فينكف عن معاملته. ويلتحق بهذا السبب ضرار بالجانبين، فسوغ الشرع التوثيقَ بالضمان. ثم لا ضرر في ذلك الضمان؛ فإن الضامن لا طَلِبة عليه قبل بدوّ الاستحقاق. وإن جوزنا الرهن بالعهدة، لكان ذلك التزام حجرٍ في المرهون لا نهاية له، وهو تنجيز ضرار لا نهاية له على مقابلة توقع ضرار.
وحكى شيخي عن شيخه القفال وجهاًً في جواز الرهن بالعهدة. والسبب فيه أن الثقة قد لا تحصل إلا به، والرهن منصوص عليهِ في آية المداينات في طلب الوثائق دون الضمان، وما قدر من الضرار غيرُ سديد؛ فإنه إنما يعظم وقع الضرار لما يلزم من غير اختيار، وكلامنا هذا في جواز الرهن إذا وقع الرضاً به، لا في وجوبه.
قال: "وكذلك كل حق لزم في حين الرهن وما تقدم الرهن... إلى آخره".
3520- أشار الشافعي إلى أن الآية في دين مخصوص، ثم بين أن ما سواه من الديون اللازمة في معناه.
فنقول: إذا وجب الدين وأنشىء الرهنُ بعده، فهذا رهنٌ لا كلام فيه. ولو قدم الرهن بشقيه على وجوب الدين، لم يصح عند الشافعي.
فلو قال: رهنتك هذه العين بألف تقرضنيه، فقال المخاطب: ارتهنتُ، ولا إقراض بعدُ؛ فهذا مردود، وإن جرى القرضُ بعد ذلك؛ فإن الرهن توثيق الدين، ولا يعقل التوثيق قبل الدين، إلا على مذهب التعليق، وتعليق الرهن باطل.
والقول في الضمان قبل الوجوب كالقول في الرهن. ثم في المذهب تفصيل طويل في ضمان ما لم يجب. سيأتي في أولِ كتاب الضمان، ونذكر ترتيبين في القديم والجديد.
ثم الرهن يجاري الضمان في محل الوفاق والخلاف، إلا في أمثال ضمان العهدة؛ فإن الرهن ينفصل في ظاهر المذهب عن الضمان، ويجري وجه مطرد للقفال في تنزيل الرهن منزلة الضمان.
هذا قولنا في طرفي الثبوت والنفي: ذكرنا تقدم الدين، وإنشاء الرهن بعده، ثم ذكرنا تقدم الرهن بشقيه وابتداء الوجوب بعده.
3521- ونحن نذكر الآن حكم الاقتران بين الرهن والدين، ونُجري فيه حكم التعاقب أيضاًً. ونرسم في غرضنا مسائل أرسالاً.
فلو تقدم شِقَّا الرهن على البيع، وذلك أن يتراهنا بالثمن، ثم لا يتفرقا حتى يتبايعا، فالمذهب المثبوت أن ذلك غيرُ جائز. وأبعد بعض الأصحاب، فجوّز ذلك إذا جمع المجلسُ الرهنَ والبيعَ، وجعل اتحادَ المجلس كالاقتران بالإيجاب والقبول، كما سنصفه الآن.
وهذا ليس بشيء؛ فإن المجلس إن ثبت له حكم، فهو بعد البيع، وعقد الرهن لا مجلس له، ولا أثر لخيار المجلس فيه، كما قدمناه. ثم لو قدر له مجلس، فالبيع بعده ليس من لواحقه. ونحن إن رأينا إلحاق شيء بالعقد في مجلسه، فهو في توابع العقد الذي المجلس مضاف إليه. ولولا ذكرُ الأصحاب هذا، لأضربنا عنه.
هذا بيان اجتماع الاقتران بتقدير تقدم الرهن، وتعقب البيع.
فأما إن امتزج إيجاب الرهن واستيجابه بالتواجب في البيع، فالوجه أن نفصله.
فمن صور ذلك أن يتقدم ذكر الرهن، بأن يقول البائع: ارتهنت ثوبك هذا بألف، وبعتك هذه الدار به، فقال المشتري: رهنتُ واشتريت، أو قال: اشتريت ورهنت.
فإذا قدم المبتدىء ذكر الرهن، وعقبه في استكمال الكلام بذكر ما يليق به من شقي البيع، فظاهر المذهب أن هذا غير جائز.
ويلتحق بهذه الصورة أن يقول البائع: بعت وارتهنت، ويقول المشتري رهنت واشتريت، فسواء وجد تقدم شقي الرهن على شقي البيع على صورة الاقتران، أو وجد من أحد الجانبين تقديم شق من الرهن، فالوجه منع صحة الرهن.
ويقرب أن يرتب هذا على تقدم الشقين من الرهن. ووقوع البيع بعدهما.
ولكن لا ينبغي أن يُعتقد ذلك الوجه الضعيف من أصل المذهب، حتى يُبتنى عليه أو يُرتَب عليه.
فلنبتدىء قائلين: الأصح أن الرهن يفسد في الصورة التي ذكرناها؛ لأنه قُدِّم شق منه أو شقاه على شقي البيع المثبت للثمن، وإذا كان الرهن يستدعي ثبوت الدين، فأحد شقيه يستدعي ذلك أيضاًً. ووضع الرهن استئخار أوله عن ثبوت الدين.
3522- ومن المسائل في الباب أن يتقدم مصراع البيع على مصراع الرهن، وذلك مثل أن يقول للبائع: بعت منك هذه الدار، وارتهنت هذا الثوب بالثمن. فقال المشتري: اشتريت ورهنت، فقدم كل واحد شقَّ البيع على شق الرهن، ووقع شقا الرهن ممتزجين بشقي البيع، على ما وصفناه، وميزنا هذا النوع في التصوير عما تقدم عليه بذكر كل واحد من المتخاطبين شق البيع أولاً، فإنه لو ذكر أحدهما شق الرهن، ثم شق البيع، اتصل بالفن المتقدم على هذا.
ومن صور هذا القسم أن المشتري لو قال: بعني هذه الدار ورهنت هذا الثوب، فقال البائع: بعت وارتهنت، وجعلنا الاستدعاء قبولاً كما سيأتي في موضعه.
هذا بيان الصور.
ونصُّ الشافعي ظاهر في تصحيح البيع في هذه الصور، واتفق على القول بالصحة فيها الأصحاب.
وذكر القاضي في طريقه تخريجاً من عند نفسه، لم ينقله؛ فقال: هذا مشكل؛ فإن أحد شقي الرهن يقع لا محالة قبل ثبوت الثمن بانعقاد البيع، ووضع الرهن يقتضي استئخار إنشاء الرهن عن ثبوت الدين، فقال يظهر أن يخرَّج هذا قولاً. ويقول: لا يصح الرهن ما لم يتقدم الدين بشقيه، ثم يُنشأ أولُ الرهن بعدهما.
وهذا يظهر تخريجه من مسألة للشافعي في الكتابة؛ فإنه قال: إذا قال السيد لعبده: كاتبتك على ألف درهم، وبعت هذا العبد منك بألف، فقال العبد: قبلت الكتابة والبيع. قال الشافعي: لا يصح البيعُ؛ فإنه يستدعي ثبوت الكتابة أولاً، وقد جرى أحد شقي البيع قبل انعقاد الكتابة، ولا يصير العبد من أهل المعاملة مع مولاه ما لم تتم الكتابة، فيخرج منع الرهن على هذا خروجاً ظاهراً.
ثم قال: لو أردنا فصلاً بين الأصلين فقهياً، لم نجده إلا أن نتعلق بمصلحة العقد، فنقول: الرهن من مصلحة البيع، فإن نفذ مقترناً بالبيع، كان هذا لائقاً بالمصلحة؛ من جهة أن البائع ربما كان يطلب وقوع الاستيثاق بالرهن مع وقوع البيع، والوجه مزج العقد بالعقد كما ذكرناه. والبيع ليس من مصلحة الكتابة، فجرى فساد البيع على القياس الذي مهدناه.
وكان شيخنا أبو محمد لا يفرق بين أن يقول البائع: ارتهنت وبعت، أو يقول بعت وارتهنت. والأحسن أن نفصل بينهما كما ذكرناه.
فإن قيل: لمَ؟ وشق الرهن وقع قبل انعقاد البيع من الوجهين؟ فإذا كان كذلك فأي أثر لتقديم شق البيع أو شق الرهن؟ قلنا: قول القائل: بعت بألف، وارتهنت به، منتظم إلى أن يحكم بالصحة أو الفساد، وقوله: ارتهنت بألف وبعت، ليس له نظم صحيح؛ فإن الرهن يستدعي استئخاراً عن ذكر مرهونه، فيظهر الفرق في نظم العقد، وإن لم يظهر في الوجوب والثبوت.
فرع:
3523- لو قال: بعتك هذه الدار بألف درهم، بشرط أن ترهنني ثوبك بالألف. فقال: اشتريت ورهنت. والتفريع على النص في الحكم بصحة الرهن. قال الأصحاب: يتم الرهن بما جرى، لأنه وجد من البائع استدعاء الرهن، فكان ذلك بمثابة الارتهان والتلفظ به.
قال القاضي: الذي عندي أنه لابد من لفظ الارتهانِ، أو القبول من البائع بعد قول المشتري: رهنت؛ لأن الذي وجد منه شرط الإيجاب، وليس باستيجاب. وهذا يبتني على أن الاستيجاب في البيع والرهن هل يكون بمثابة القبول؛ فإذا قال الرجل: بعني عبدك هذا بألف، فقال البائع: بعته منك بالألف، فما تقدم من الاستيجاب واستدعاء الإيجاب هل يكفي؟ وهل يحل محل التصريح بالاشتراء والقبول؟ فيه قولان وترتيبُ نصوص سنذكرها في موضعها. فإن قلنا: الاستيجاب لا يكفي، فلا كلام. وإن قلنا: الاستيجاب يكفي في البيع، فإنه كاف في الرهن أيضاً.
فعلى هذا إذا قال البائع: بعتك هذه الدار بألف درهم بشرط أن ترهنني ثوبك، فقال: اشتريت ورهنت. فقوله بشرط أن ترهنني هل ينزل منزلة قوله بعت منك بألف وارهنِّي ثوبَك؛ فيه تردُّدٌ. والأصح في القياس ما ذكره القاضي. وإن كان الأشهر غيره.
فصل:
قال: "ولا معنى للرهن حتى يكون مقبوضاً... إلى آخره".
3524- لا يلزم الرهن دون القبض، خلافاً لمالك-رحمه الله- وهذا الخلاف مطرد معه في الهبة والعارية المؤقتة. والتأجيل في القرض واعتبار الرهن بالهبة قريب؛ من قِبل أن كل واحد منهما تبرع، والمتبرع قد يتعرض للندم، والمعاوضات تبعد عن إمكان الندم. ثم جعل الشارع لما ذكرناه من توقع الندم منتهى ومَردّاً، وهو القبض، ولسنا نتمسك بهذا المعنى تمسك من يقصد الاستقلال به، بل مقصودُنا تشبيه الرهن بالهبة، وهو ظاهر.
ثم المعتمد في الهبة حديمث لأبي بكر-رضي الله عنه- في ذلك، سنذكره في كتاب الهبات، إن شاء الله تعالى.
ثم قال الشافعي: "حتى يكون مقبوضاً من جائز الأمر حين رهَنَ، وحين أقبض... إلى آخره".
3525- أما اشتراط الاستقلال والاتصاف بشرائطه عند العقد وعند القبض، فبيّن لا إشكال فيه، وإنما الكلام فيه إذا تخللت أحوال بين العقد وبين القبض، ثم فرض زوالها، فهل يُقضى بارتفاع العقد وانفساخه؟ أم كيف الكلام؟
الذي يقتضيه الترتيب أن نذكر موت الراهن، أو موت المرتهن بين العقد والقبض، نص الشافعي على أن الرهن يسلم إلى ورثة المرتهن، وهذا تصريح منه بأن الرهن لا يبطل بموت المرتهن قبل القبض.
وحكى بعض أصحابنا نصّاً أن الراهن لو مات قبل الإقباض، بطل الرهن. ثم اختلف الأئمة: فمنهم من جعل في موت الراهن والمرتهن قبل القبض قولين:
أحدهما: أن الرهن يبطل بموت كل واحد منهما؛ فإنه على حقيقة الجواز قبل القبض، والعقود الجائزة تنفسخ بموت أحد المتعاقدين في أثناء الجواز، والذي يحقق ذلك أن القبض فيما يشترط القبض فيه يقع موقع أحد جوابي البيع وغيره؛ فإنه ركن في تحصيل مقصود العقد.
والقول الثاني- لا يبطل العقد بموت كل واحد منهما؛ فإن مصير العقد إلى اللزوم على الحد المعلوم، فكان الموت قبل القبض كموت أحد المتعاقدين في زمان الخيار.
ومن أصحابنا من قال: يبطل الرهن بموت الراهن قبل القبض، ولا يبطل بموت المرتهن. والفارق أن الراهن ربما يموت وعليه ديون مستغرقة، فإذا لم يلزم الرهن بالقبض، فالوجه انقطاع الرهن، وتقديم الحقوق اللازمة. وإن لم يكن ديون، فلا نظر إلى هذا، بل النظر إلى إمكانه.
قال الشيخ أبو محمد: السديد في ذلك أن نقول: إن مات الراهن وخلَّف ديوناً مستغرقة، فلأصحاب الديون المنعُ من تخصيص المرتهن بشيء. لا يجوز خلاف ذلك.
فأما إذا لم تكن ديون مستغرقة، أو كانت، ورضي الغرماء بالتخصيص وإنفاذ الرهن؛ فإذ ذاك يختلف الأصحاب.
3526- والمذهب الظاهر أن الرهن لا يبطل بموت المرتهن، ولا بموت الراهن، لما ذكرناه من أن العقد مصيره إلى اللزوم، والعقود الجائزة التي تنفسخ بالموت فمستندها أمر وقول لا لزوم له، فإذا مات القائل، انقطع أثر قوله، كالجِعالة، والوكالة. ولهذا قال المحققون: لا يشترط القبول في الجِعالة والوكالة، فإذا آل سبب الانفساخ إلى انقطاع قول القائل، تضمن الموتُ لا محالة الانفساخَ. والرهنُ عقدٌ تام يشير إلى مقصود يتوقف لزومه على القبض، فكان هذا يقتضي أن يبقى العقد على صفته بعد العاقدين. وبعد موت أحدهما.
التفريع:
3527- إن حكمنا أن الموت لا يُبطل الرهن، فلو فرض طريان الجنون، فهو أولى بأن لا يبطله. ثم إن جُن المرتهن، نصب القاضي قيماً يقبض الرهنَ إن ساعده عليه الراهن. وإن جُن الراهن، نظر القيم في صلاح الأمر، فإن رأى الأصلحَ له أن يقبض أقبض، وإن رأى الأصلح في الفسخ، فسخ.
وإن قلنا: طريان الموت يتضمن انفساخ الرهن، ففي طريان الجنون وجهان، وسنذكر تفصيل الجنون والإغماء، وما في معناهما، إن شاء الله عز وجل.
وإن طرأ السفه بين العقد والقبض، فاقتضى طريانه عود الحجر أو إعادته، فإذا طرأ الحجرُ، ففي انفساخ الرهن خلافٌ مرتب على الجنون، وهذا أولى بأن لا ينفسخ الرهن فيه؛ لأنه بالسفه لم يخرج عن أن يكون من أهل العبارة لو أُذن له فيها، واستقصاء ذلك في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى.
فرع:
3528- إذا باع الراهن الرهن قبل القبض، أو وهب، أو أصدق، أو أعتق، فكل ذلك يصح منه، ويكون رجوعاً في الرهن.
فأما إذا أجَّر المرهون قبل القبض، أو زوج الجارية: أما التزويج قبل القبض، فإنه لا يكون رجوعاً في الرهن؛ فإن التزويج لا يرِد على مورد الرد، ولا يمتنع رهنُ المزوَّجة ابتداء.
وأما الإجارة، فإن قلنا: لا يمتنع رهن المُكرَى وبيعُه، فهو كالتزويج. وإن قلنا: يمتنع رهنُ المكرَى، الأصح أن الإجارة تكون رجوعاً. ومن أصحابنا من لم يجعلها رجوعاًً على هذا القول. وهو بعيد.
ولو دبر العبدَ قبل القبض، فالمنصوص أن ذلك رجوع عن الرهن، وخرَّج الرّبيعُ قولاً آخر أنه لا يكون رجوعاًً، وهذا منقاس؛ إذ بيع المدبَّر جائز عندنا، وهذا كاختلاف القول في أن المدبر هل يجوز رهنه.
ولو دبر عبداً، ثم رهنه، ففيه كلام يأتي بعد هذا على قرب. وكل ذلك ينشأ من نصّ الشافعي: في أن من أصدق امرأته عبداً، فدبرته، فطلقها الزوج قبل المسيس، فهل يرجع في نصف المدبر؟ فيه كلام سيأتي، إن شاء الله عز وجل.
وسأجمع-بتوفيق الله- مراتب الكلام في الرجوع في كل فن يقبل الرجوع، في باب الرجوع عن الوصايا. وقد قدمت طرفاً منه في أول البيع.
فصل:
قال: "وما جاز بيعه جاز رهنه... إلى آخره".
3529- قال الأصحاب: الأشياء في البيع والرهنِ على أربعة أقسام: أحدها: ما لا يجوز بيعه، ولا يجوز رهنه ككل ما لا يُملَك، وكالموقوف، وأم الولد، والآبق، وما لا يتمول.
والقسم الثاني- ما لا يجوز رهنه، وفي بيعه تفصيل، ومنه الدين، فإنه لا يجوز رهنه وفي جواز بيعه خلاف، وقد يلتحق بهذا القسم المدبر والمعلق عتقُه بصفةٍ، فإن بيعهما نافذ، وفي رهنهما كلام سيأتي.
والقسم الثالث: ما يجوز رهنه على وجه، وفي بيعه خلاف، ومنه العقد على الأم دون الولد، وعلى الولد دون الأم. هذا جائز في الرهن، وفي البيع كلام.
والقسم الرابع- ما يجوز بيعه ورهنه، وهو معظم الأعيان المملوكة على الإطلاق.
وسنلحق بكل قسم ما يليق به في مسائل الكتاب، والذي ذكرناه الآن تراجم.
وغرض الشافعي بما قال تجويز رهن المشاع، وهو مذهبنا، والخلاف فيه مع أبي حنيفة مشهور. ثم إذا جرى الرهنُ في المشاع، فالقبض فيه يتأتى بتسليم كله، ثم يرتد إلى المالك النصفُ الذي لم يرهن على مهايأة ومناوبةِ، ولا يمتنع صحة الرهن. وإن كان القبض يتبعض بحكم الشيوع. ونحن قد نبعض القبض لتوفير المنافِع على الراهن، على ما سيأتي ذلك، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ويجوز ارتهان الحاكم، وولي المحجور عليه، ورهنهما عليه في النظر له... إلى آخره".
3530- صوّر الأئمة من ولي الطفل الارتهانَ للطفل، وصوروا منه أيضاًً رهن مال الطفل، واتفقوا على الجملةِ أن الرهن والارتهان منه متقيد بشرط الغبطة، ورعاية المصلحة.
اتفق العراقيون على أن الأب ليس له أن يبيع شيئاًً نسيئةً من مال الطفل، ولو باع بأضعاف الثمن من مليء وفي إلى أجلٍ قريب، ولم يرتهن شيئاً ولكن وثق بيسار المشتري وانتظام حاله، وزعموا أن هذا تغريرٌ بمال الطفل، ورفعٌ للملك واليد عنه لا في مقابلة عوض ناجز.
وهذا الذي ذكروه لم أر في طرقنا ما يخالفه على التصريح، ولكن في معاني طرقنا ما يجوِّز ذلك، وليس بيع ماله نسيئة من غير رهن بأكثر من الإبضاع بمال الطفل، وقد ذكرنا في تجارة الوصي في مال اليتيم أن ذلك جائز، ومعظم الأرباح ونماء التجاير يقع في النسايا.
أما البيع نسيئة مع الارتهان، فجائز لا منع فيه على الجملة، على شرط رعاية الغبطة.
3531- وها نحن نفصلها بالمسائل. فنذكر الارتهان للطفل، ثم نذكر رهن مال الطفل، فأما الارتهان للطفل، فقد يفرض في بعضِ المواضع نظراً محضاً، فالوجه القطع بنفوذه، وذلك إذا أتلف رجل مالاً من أموال الطفل، والتزم قيمتَه، فإذا رهن بما لزمه للطفل مالاً، فلا شكّ في صحة الرهن؛ فإنه يقع محض فائدة مجرّدة للصَّبي؛ فإنه يتوثق دينُه إلى اتفاق القضاء وليس عليه من الارتهان غرر ولا ضرر.
ومن صور الارتهان للطفل أن الولي إذا رأى أن يبيع شيئاًً. من ماله نسيئة على أن يرتهن، والبيع على شرط الغبطة، فالرهن صحيح. والعراقيون لما قطعوا بمنع البيع نسيئة، قيدوا القطع في المنع بما إذا لم يكن بالثمن رهن. فأمّا إذا كان به رهن واقترنت المصلحة بالمعاملة، فلا مانِع من الجواز.
وإذا كان الولي يخاف النهب والغارة فرأى إيقاع مال الطفل في ذمة مليء وفيّ على أن يرتهن له، كان ذلك جائزاً. ولو باع مالَه نسيئة بمثل ما يُشترى به نقداً وارتهن، فالبيع باطل، والارتهان فاسد؛ فإن ثبوت الرهن موقوف على ثبوت مرهون به، فإذا لم يثبت، لم يصح الرهن.
ثم إذا قبض الرهن على الفساد، فهو أمانة. هذا من الأصول المتفق عليها؛ فإن ما لا يقتضي ضماناً إذا صح، ففاسده لا يقتضي الضمان، على ما سيأتي ضبط أمثال ذلك.
وكذلك لو أقرض مال الطفل، لا في نهب ولا عند إرهاق حاجة، فالإقراض فاسد.
ثم إذا أفسدنا المعاملة على مال الطفل، فالعين مُتَّبعةٌ أينما صودفت، وإن تلفت في يد المشتري أو المستقرض، توجّه الضمانُ عليه، والضمان على كل حال متوجه على الولي لتفريطه، ورفعه اليدَ عن مال الطفل لا على جهة الغبطة.
فهذا تفصيل الصور التي يجرى فيها الارتهان للطفل.
3532- فأما رهن مال الطفل، فهو إيقاع طائفة من ماله في حَجْر الرهن، ولا يجوز هذا إلا بغبطةٍ ظاهرة عريّة عن الغرر، أو حاجة ماسَّة على ما سنصف المسائل الآن.
فأمّا الحاجة: فإذا مست حاجة الطفل إلى ما يصرف إلى نفقته، وكان ماله عقاراً، فضن الولي بالعقارِ، ولم ير بيعه واستمكن من استقراض شيء يُتزجَّى به، ولم يُبْعِد أن يتأدى ذلك الدين من رَيْع الضيعة، ولكن لا يتمكن من هذا إلا برهن ذلك العقار، فهذا جائز، وظهور المصلحة فيه بيّن.
هذا بيان الحاجة.
فأما الغبطة: فإذا رأى الولي شيئاً يباع بألفٍ نسيئة. وكان يساوي ألفين، ولكن كان لا يستمر الأمر إلا برهن شيء يساوي ألفاً من مال الطفل، فالولي يفعل ذلك؛ فإنه يتنجز فائدةَ الطفل، وليس عليه غرر؛ فإن الرهن لو تلف وأدى الولي ألفاً، لم يخسر الطفل شيئاً؛ فإن المشترَى يساوي ألفين. وبمثله لو كان لا يقنع في هذه المعاملة إلا برهنٍ يساوي ألفين، فلا غبطة؛ من جهة أن الحيلولة تقع ناجزة بين التصرف للطفلِ، وبين الرهن في الحال، ويجب بذل ألف في ثمن السلعةِ، فإذا بذل الألف وفُرض التلف في الرهن، فالثمن وقيمة المرهون ثلاثة آلاف، والحاصل للطفل من المعاملة ألفان.
فإن قيل: العين المرهونة كانت تتلف أيضاً لو بقيت في يد الطفلِ غير مرهون.
قلنا: نعم ولكن انتجز منعُ التصرف فيه، ولو كان التصرف سائغاً لكان ربما يسبق التصرف، فآل المنعُ إلى تنجيز الحجر وضم الثمن.
قال شيخي أبو محمد لو كان المرهون بحيث لا يتلف في مطّرد العادة كقراح من الأرض، فهذا فيه احتمال؛ من جهة أن الزيادة حاصلة في قيمة المبيع، وتحصيل الزيادة تنجيزُ ملك له على مقابلة حجر في الحال، والتسبب إلى رفعه بأداء الثمن قريب. وهذا الذي ذكره محتمل حسن؛ فإن الذي حقق الغرر تقدير تلفِ المرهون أمانة، كما سبق التصوير فيه.
والذي ذكره شيخنا وإن كان منقاساً، فهو على خلاف ظاهر المذهب.
هذا تفصيل القول في الارتهان للطفل، وفي الرهن من ماله.
3533- وذكر العراقيون وجهاًً بعيداً أخرته حتى لا ينتظم في ترتيب المذهب: وذلك أنهم قالوا: ذهب بعض أصحابنا إلى أن بيع مال الطفل نسيئةَ قط لا يجوز، وإن فرض التوثق بالرهن، والتشوف إلى الغبطة الظاهرة، وإنما يجوز التأجيل في بعض الثمن إذا نقد من الثمن قيمةَ السلعة، يعني القيمة التي تشترى بها نقداً، وذلك إذا كانت السلعة تساوي مائة نقداً، ومائة وعشرين نسيئة فباع الولي بمائة وعشرين، مائة منها نقداً وعشرون نسيئة وبالعشرين رهن. قال هذا القائل: لا تجوز النسيئة إلا كذلك في بعضٍ من الثمن.
وهذا بعيد لا أصل له، ولا ينتظر هذا عاقل. ثم اشتراط الرهن في الفاضل من القيمة المنقودة خارج عن قياس المعاملات؛ فإن تيك الزيادة لو لم تحصل، لم يضع بتعذرها شيء من مال الطفل، فلا أصل لهذا الوجه. والتعويل على ما رتبناه في الارتهان والرهن.
3534- ثم قال المعتبرون من أئمة المذهب: تصرف المكاتب في الرهن والبيع بنسيئة كتصرف الولي للطفل؛ فإن تصرف المكاتب-إذا لم يشتمل على تركِ النظر- مُطلق لهُ وأقصى النظر المرعي ما نأمر به الأولياء في حق الطفل.
وذكر العراقيون والشيخ أبو علي وجهاً آخر أن المكاتب لا يبيع نسيئة، على الاستقلال، وهو على كل حال في حقه معدود من التبرعات، سواء ارتهن أو لم يرتهن. والولي في مال الطفل أبسطُ يداً من المكاتب وعليه حجرُ الرق، فإذاً بيعه نسيئة على هذا الوجه ملحق بتبرعاته. فإن استقل، لم ينفذ، وإن استأذن السيد، فعلى قولين قياساً على سائر تبرعاته.
ولو رهن المكاتب حيث ينفذ رهن الولي في مال الطفل، ففي رهنه من الكلام ما في بيعه نسيئة. فالذي ذهب إليه أهل التحقيق أنه ينفذ رهنه حيث ينفذ رهن الولي.
وفي المسألة وجه آخر حكَوْه: أن رهنه تبرع، ولا يخفى حكم تبرعه.
ثم إن قلنا: لا ينفذ الرهن من المكاتب، ففي نفوذه من العبد المأذون وجهان؛ من جهة أن الرهن في نفسه حجر، وليس من عقود التجارة. وهذا يقرب من الاختلاف الذي ذكرناه في أن العبد هل يملك إجارة الرقاب التي يتصرف فيها؟ ووجه التشبيه أن الإجارة والرهن ليس من عين التجارة، وهو مأذون له في التجارة.
فصل:
قال: "ولو كان لابنه الطفل عليه حق... إلى آخره".
3535- ما قدمناه من رهن مال الصبي على شرط الغبطة، ومن الارتهان له، يستوي فيه الأب، والقيم الأجنبي، والوصي، فلا خلاف في وجوه التصرّفات ووجوه النظر.
وإنما خالف الولي الوصيَّ فيما قدمناه في كتاب البيع من حمل ظاهر تصرف الولي على المصلحة، وعلى من يدعي خلافَها الحجةُ، والوصي يطالب بإقامة الحجة على رعاية المصلحة.
وهذا الفصل يختص مضمونه بالأب والجد، فإذا كان لابنه الطفل عليه دين، فارتهن مال نفسه لطفله بالدين الذي للطفل عليه، جاز هذا. ولو ارتهن مال الطفل من نفسه حيث يجوز له أن يرهنه من غيره، فيصح، ولا يأتي هذا في الوصي والقيّم والحاكم؛ فإن هؤلاء لا يتولَّوْن طرفي العقد.
ثم إذا باع الأب من نفسه مال طفله، أو باع من طفله مال نفسه، أو رهن منه أو ارتهن له، فهل عليهِ أن يأتي بشقي العقد الإيجاب والقبول؛ أم يكفيه الإتيان بأحد الشقين؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: لابد من أن يقول: رهنت وارتهنت، وبعت واشتريت، أو بعت ورهنت، وقبلت؛ لأن العقد استقلاله بركنيه وبهما كان عقداً.
والثاني: يكتفى بأحد الشقين، والتعيين إلى اختيار الولي؛ فإن التواجب تخاطب، وهذا لا ينتظم من الشخص الواحد، فيكفي الإثبات بشق لرسم العقد، والتنصيص عليه. وإذا اكتُفي بعاقد واحد لم يبعد الاكتفاء بلفظ واحد.
وإذا باع الأب من طفله أو ابتاع من ماله، ففي ثبوت خيار المجلس خلاف: من أصحابنا من قال: لا يثبت؛ فإن المجلس منتهاه التفرق وهو بين شخصين.
ومنهم من أثبت خيار المجلس.
ثم اختلف هؤلاء، فقال بعضهم: ينقطع الخيار بمفارقة مجلس العقد. وقال آخرون: لا ينقطع الخيار إلا أن يختارَ إلزام العقد، ويقطعَ الخيارَ لفظاً؛ فإنه في مقام البائع والمشتري، فمفارقته المجلس كاصطحاب المتعاقدين ومفارقتهما المجلس.
وإذا رهن من طفله أو ارتهن من مال طفله، فهل يحتاج إلى إجراء قبض؟ الكلام فيه كالكلام فيما إذا رهن الوديعة عند المودعَ، وسيأتي ذلك في فصلٍ، فإذا استقصيناه، أعدنا القول في الأب.
فصل:
قال: "وإذا قبض الرهنَ، لم يكن لصاحبه إخراجُه من الرهن... إلى آخره".
3536- إذا رهن شيئاً وألزم الرهنَ بالإقباض، تأكدت الوثيقة، ولا فكاك إلا بسقوط الدين إما بالأداء وإما بالإبراء، أو بفسخ المرتهن الرهنَ؛ فإن الرهن جائز في حقه. أما الراهن، فلا يجد سبيلاً إلى الفِكاك ما بقي الدين، فلو أدى معظمَ الدين، لم ينفك من الرهن شيء، ما بقي من الدين حبة، أو أقل، ولا يتوزع الدينُ على قيمة المرهون؛ حتى يقال: إذا أدى بعضاً، فك من الرهن بقسطه.
وإذا أثبتنا حق الحبس للبائع، فلو أدى المشتري بعض الثمن، فالذي اختاره الأئمة أنه لا يستحق تسليمَ شيء من المبيع إليه ما لم يوفِّ الثمنَ بكماله، والمحبوس في هذا الحكم بالثمن كالمرهون المحبوس بالدين.
ولو كان لرجل على رجلين دين عن جهة واحدةٍ، أو جهتين، فرهنا بما عليهما عبداً مشتركاً عند مستحِق الدين، وأقبضاه إياه، فإذا أدى أحدُهما ما عليه من الدين، انفك الرهنُ في حصته؛ إذ لا تعلّق لرهنه نصيبَه برهن صاحبه.
ولو وكلا وكيلاً حتى رهن عبدهما المشترك من مستحِق الدين، فإن علم المرتهن صورةَ الحال، فالأمر على ما تقدم. ولا يختلف الأمر باتحاد الوكيل.
وقد ذكرنا تردد الأصحاب في اتحاد الوكيل وتعدده في البيع والشراء، وأن الاعتبار في تعدد الصفقة بالوكيل المباشر للعقد أم بالموكل، هذا ذكرناه على الاستقصاء في كتابِ البيع في الفصل المشتمل على شراء رجلين عبداً من رجل، أما الرهن، فلا أثر فيه للوكيل، والنظر إلى الموكل؛ إذ ليس الرهن عقد ضمان حتى ينظر فيه إلى من تولاه، بخلاف البيع.
ولو جرى الرهن والاقتراض من شخص واحد، ولم يشعر المقرِض المرتهن بكون المستقرض الراهن وكيلاً، ثم تبين أنه وكيل شخصين في الاقتراض والرهن، فالمذهب الأصح في هذه الصورة أن أحد الموكِّلين إذا أدى الدين، انفك الرهن في حصته.
ومن أصحابنا من قال: إذا جرى الرهن على ظن أن المتعاطي هو صاحب الأمر، لم يحصل الانفكاك في شيء ما بقي من الدين شيء.
وهذا غريب. ولكن حكاه صاحب التقريب قولاً وكرره، في مواضع. ومثل هذا القول يشوّش قاعدة المذهب، فحق الناظِر أن يكتفي بمعرفته، ولا يعتده من أصل المذهب.
فرع:
3537- إذا رهن رجل عبداً من رجل بألف درهم، ومات الراهن، وخلف ابنين؛ فأدى أحدُهما حصته، وهو خَمسمائة، فهل ينفك الرهن في نصف العبد؟ ذكر صاحب التقريب قولين:
أحدهما: ينفك، كما لو كان الراهن في الابتداء اثنين.
وهذا ضعيف لا أصل له. والقول الثاني- أنه لا ينفك من الرهن شيء ما بقي من الدين شيء، وهذا ما قطع به الإمام والمحققون؛ فإن الرهن في الابتداء اقتضى وثيقةً على وجهٍ، فلتدم تلك الوثيقة.
وإنما ينقدح القولان في فك تعلّق التركة، فإذا مات رجل وعليه دين متعلق بتركته، فإذا أدّى أحد الوارثين لحصته، فانفكاك تعلق الدين بحصته لا يبعد أن يخرج على قولين مبنيين على أن أحدهما لو أقر بالدين، وأنكر الثاني، فهل يلزم المقر تأدية الدين من حصته من التركة؟ فيه قولان مشهوران، كما سنذكرهما في كتاب الأقارير.
فأما وثيقة أثبتها شخص واحد على قضية، فيبعد أن تزول تلك القضية بموته، وتعدد ورثته، ولهذا التفاتٌ على موت السّيد المكاتِب وتخليفه ورثة، وأداء المكاتَب حصةَ بعضهم. والقول في هذا طويل.
فصل:
قال: "ولو أكرى الرهنَ من صاحبه أو أعاره أياماً، لم ينفسخ الرهن... إلى آخره".
3538- اختلف الأصحاب في صورة المسألة: فمنهم من قال: صورة المسألة أن يكتري الراهن المرهونَ من المرتهن، لأن الإكراء إنما يصح منه؛ إذ هو المالك والمستحِق للتصرف في المنفعة، فعلى هذا يسمَّى المرتهن صاحبَ الرهن بماله من حق الحبس. وقصد الردَّ على أبي حنيفة حيث قال: الرهن والكراء لا يجتمعان.
وإذا أجزنا، فآخرهما ينقضُ أولهما.
ومن أصحابنا من قال: صورة المسألة أن يكري المرتهن المرهون من الراهن، ويُقبضه على اعتقاد الإجارة، فلا شكّ أن الإجارة فاسدة؛ فإنها ليست صادرة عن استحقاق، ولكن الغرض أَن المرهون وإن رجع إلى يد الراهن، فلا يُقضى بانفساخ الرهن، وإن كان العود إلى يده برضا مستحِق اليد، وهو المرتهن.
ومن أصحابنا من صور إجارةً تصح من المرتهن لينتظم كلامُ الشافعي، فقال: لو أكرى رجل عبداً من رجل، ثم إنه رهنه منه، فالعقدان ثابتان، والمرتهن يتصرف في المنافع؛ فإنه مستحقها بالإجارة السابقة. فإذا أجر ذلك العبدَ من الراهن ففي صحة الإجارة وجهان، سيأتي ذكرهما في كتاب الإجارة. وسبب الخلاف كون المستأجر مالكاً للرقبة، فهذه صورة الإجَارة الصحيحة على وجه. وغرضُ الفصل أن الرهن لا يبطل برجوع العين إلى يد الراهن.
فصل:
قال: "ولو رهنه وديعةً له في يده... إلى آخره".
3539- إذا أودع رجل عيناً عند رجل، ثم إن مالك العين رهنها من المودَع، فالذي نص عليه هاهنا أنه لابد في القبض من إذنٍ، ونفسُ عقد الرهن مع ثبوت اليد للمرتهن، لا يكون متضمناً إذن في القبض.
ونص على أنه لو وهبَ شيئاً وهو في يد المتهب، صار مقبوضاً من غير إذنٍ جديد.
ونصه هذا يخالف نصَّه في الرهن، فاختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من جعل في المسألة قولين بالنقل والتخريج أحدهما- لا يشترط الإذن في القبض، لا في الرهن، ولا في الهبة؛ فنفس العقد إذا صادف اليدَ من المرتهن والمتهب، كان متضمنا إذناً في القبض. والقول الثاني- وهو القياس أنه لابد من الإذن في القبض في المسألتين؛ فإنه لم يَجْر له تعرض، واليدُ السابقة كانت يدَ وديعة أو يداً عن جهة أخرى.
ومن أصحابنا من أقر النَّصين في الرهن والهبة قرارَهما، وشرط الإذن في القبض في الرهن، ولم يشترط ذلك في الهبة. وفرق بينهما بالقوة والضعف، فالهبة مملِّكة والرهن مقصوده إثباتُ اختصاص.
فإن قلنا: لابد من الإذن، فالعقد قبل الإذن على الجواز، وهو رهن غير مقيدٍ بالقبض، وإذا جرى الإذن، لم يحصل القبض بمجرد الإذن أيضاً، حتى يمضي من الزمان ما يتأتى فيه القبض، وهو زمان يسع الرجوع إلى موضع الوديعة.
وعلة هذا أنا نريد أن نجعل دوام اليد كابتداء القبض بالإذن، ولا أقل من أن يجري زمنٌ يُتصوّر فيه ابتداء القبض لو أُريد ذلك.
وإن جعلنا نفسَ العقد إذناً في القبض، فلابد وأن يمضي من وقت العقد زمان يسع إمكان الإقباض بتقدير الرجوع إلى المكان الذي به العين. وقد اتفقت الطرق على اعتبار الزمان.
قال الشافعي: "لو كان في المسجد والوديعةُ في البيت، لم يكن قبضاً حتى يصير إلى منزله الذي هو فيه".
فإذا ثبت اعتبارُ مضي الزمان، فهل يشترط حقيقةُ الرجوع من القابض، ومعاينة العين، فعلى وجهين:
أحدهما: لا يشترط ذلك، بل يكتفى بمضي زمان إمكان الرجوع؛ فإن الأمر مبني على استدامة، لا على ابتداء فعل. والذي يليق ثَمَّ بالاستدامة الاكتفاء بزمان الرجوع.
والوجه الثاني- أنه لابد من الرجوع حتى يصير الدوام مع الثقة بوجود العين بمثابة افتتاح إقباض. ونصُّ الشافعي دليل عليه؛ فأنه قال: "لو كان في المسجد والوديعةُ في البيت، لم يكن قبضاً حتى يصير إلى منزله".
وذكر بعض أصحابنا وجهاًً ثالثاً، فقال: إن كانت العين مأمونةَ التلف، فلا حاجة إلى الرجوع والمعاينة، وإن كان لا يأمن تلفه، فلابد من الرجوع والمعاينة.
ثم ما ذكرناه من الأمر يُكتفى فيه بغلبةِ الظن، ولا يشترط اليقين في ذلك.
قال العراقيون: هذا هو المذهب. عنَوْا مضيَّ الزمان وحَكَوْا عن حرملة من أصحابنا: أنا إذا لم نشترط إذناً، فلا نشترط مضيَّ مدة أيضاًً، ولكن يتم القبض بنفس العقد ولفظه حكماً. فظاهر ما نقلوه عن حرملة سقوطُ اعتبار الزمان على قولنا: أنا لا نشترط إذناً في القبض. ومقتضى نقلهم أنه يوافق الأصحابَ على قول اشتراط الإذن، ويعتبر مضي الزمان من وقت الإذن.
وقياس مذهبه إسقاط اعتبار الزمان بعد الإذن، كما يسقط اعتباره بعد العقد إذا لم يشترط الإذن.
3540- ومن تمام التفريع على المذهب المشهور أنا إذا اشترطنا الرجوعَ إلى مكان العين، فهل يشترط أن ننقلها من مكان إلى مكان، كما يقع مثله قبضاً وإقباضاً بين اثنين؛ فعلى وجهين:
أحدهما: لابد منه، لتثبت صورة القبض. وكأن هذا القائل ليس يقنع بدوام اليد. وهذا ضعيف؛ فإنه إن كان يشترط إجراء قبضٍ، فكيف يكون الشخص الواحد قابضاً مقبضاً؛ وقد ذكرنا ما فيه من مسائل القبض في كتاب البيع.
ثم استكمل التفريع الشيخ أبو علي فقال: إذا ثبت أنه لابد في القبض من انقضاء زمان بعد الإذن، ولابد من الإذن، فابتداءُ المدة من وقت الإذن، فلو كان الكلام في مبيع، فهو قبل انقضاء المدة في ضمان البائع لو تلف، ولو تلف بعد المدة، فهو من ضمان المشتري.
وإذا شرطنا الإذن في القبض في الرهن والهبة؛ فيصح الرجوع عن الإذن قبل انقضاء المدة. ولو انقضت المدة، ولم نشترط الرجوع إلى عينه، لم يؤثر رجوعه عن الإذن.
وكل ذلك بيّن. ولكني أحببت نقلَه منصوصاً لإمام.
وتمام بيان الفصل في شيء: وهو أنا إذا جعلنا نفسَ العقد منهما إذناً في القبض، فهل يملك العاقد الرجوعَ قبل مضي الزمانِ؟ فعلى وجهين أشار إليهما صاحب التقريب، وصرح بهما شيخي:
أحدهما: أن الرجوع ممكن؛ إذ لا قبض بعدُ.
والثاني: لا؛ فإن القبض صار ضمناً للعقد.
ولعل حرملة قال ما قال عن هذا، حيث أسقط اعتبار الزمان على قول اشتراط الإذن.
هذا كشف الغطاء في الفصل.
3541- ولم نتعرض فيما أجريناه للبيع والقبض فيه، وهذا أوانُ ذكرِه. وقد قطع الأئمة في الطرق أنه لا حاجة إلى إذنٍ في القبض في البيع، بل إذا باع مالك الوديعةِ الوديعةَ من الموح، ومضى زمان يحتمل الرجوعَ، فقد استقر العقد، وانتقل الضمان.
وفرّقوا بَيْن البيع، والهبة، والرهن، بأن قالوا: البيع مقتضاه وجوب الإقباض على الجملة، فإذا أورده المالك على يد المشتري فقد أوجب له القبضَ. والقبضُ لا يستحق قط على الراهن والواهب، بل وَضْعُ العقدين على وقوف القبض على اختياره. وهذا يتأكد بحصول الملك للمشتري، فإذا انضم ملكُه إلى دوام يده و ورد عليه العقد، تم الأمرُ.
وعلى هذا ظهر خلاف بين الأصحاب في أن الزمان هل يعتبر بعد جريان العقد؟
فمنهم من قال: لا حاجة إلى الزمان مع تأكد الحال في اجتماع الملك واليد. ومنهم من قال: لابد من اعتبار الزمان، كما ذكرناه في الرهن والهبة.
هذا هو المسلك المشهور للأصحاب.
وذكر الشيخ أبو علي في الشرح وجهاًً أن القبض لا يحصل، ولا يبطل حق البائع في حبس المبيع إذا أثبتنا له حقَّ الحبس، ما لم يأذن في القبض، أو يتوفر عليه الثمن من جهة المشتري. وهذا غريب. وإن كان قياسه على قبض الهبة والرهن واضحاً.
ثم لو وفر الثمن على هذا الوجه الضعيف أو أذن البائع في القبض، ففي اعتبار الزمان ما ذكرناه من الخلاف.
والذي ينقدح لنا في هذا: أنا إن لم نُحصل القبضَ حتى يتوفر الثمن، فينبغي أن تكون العين في يد المشتري بمثابة المبيع يقبضه قبل توفير الثمن، حتى لو فرض التلف، لجرى الأمر فيه كما أوضحناه في كتاب البيع. وهذا يلتفت على قبض الطعام المشترى مكايلة جزافاً.
هذا منتهى البيان في أطراف الفصل.
3542- وقد كنا وعدنا أن نذكر حكم قبض الأبِ إذا رهن من طفله، أو ارتهن من مال طفله.
فنقول: إن ارتهن من مال طفله، فاليد في مال طفله له؛ فهو كالموح، ولكن الترتيب في المودَع يتعلق بإذن المالك، والمرعيّ هاهنا قصد الأب. ثم الكلام بعد قصده في الزمان كما مضى.
هذا إذا ارتهن من مال طفله.
فأما إذا رهن من الطفل فيرعى أن يقصد إقباضَه، وإقباضُه أن يقبض له.
ثم القول في المدة وما يتصل بها كما مضى.
ونجز الفصل على أبلغ وجه في البيان.
فصل:
قال: "ولا يكون القبض إلا ما حضره المرتهن أو وكيله... إلى آخره".
3543- قبض المرهون مما يتطرق النيابة إليه. فإن قبض المرتهن بنفسه عند إقباض الراهن إياه، أو عند إذنه له في القبض فذاك. وإن وكل وكيلاً حتى يقبضه له، صح.
وليكن ذلك الوكيل ممن يصح قبضُه، ولا تكون يده يدَ الراهن. هذا عقدُ الفصل.
فلو وكل عبدَ الراهن، أو مدبَّره، أو أمَّ ولده، حتى يقبض، لم يحصل القبضُ بأيديهم؛ فإنها بمثابة يد المالك الراهن. ولو وكل مكاتَب الراهن، صح قبضُه، فإن يدَه مستقلة، وهو بمحل أن يعامل سيدَه.
ولو وكل عبدَ الراهن المأذونَ في التجارة، فقد ذكر الشيخ أبو علي ثلاثةَ أوجه:
أحدها: أن قبضه لا يصح. وهو الأصح؛ فإنه قِنٌّ لمالكه. والوجه الثاني- أنه يصح لانفراده بالتصرف والتزام العهد. والوجه الثالث: وهو اختيار الشيخ أنه إن لم يكن مديوناً، لم يصح قبضه للمرتهن. وإن كان مديوناً، صح ذلك؛ فإنه إذا أحاطت به الديون تُثبت له أحكاماً لا تثبت قبلها.
قال الشيخ: لو اشترى المأذون شقصاً وسيده شريك في الدار، فإن لم يكن عليه دين، فلا شفعة للسيد؛ فإن الشراء وقع له، فلا فائدة في الشفعة، وإن كان عليه دين، فهل تثبت الشفعة للسيد؛ فعلى وجهين.
وهذا بعيد عندي؛ من جهة أن الملك يقع له، ومن يمنعه من أداء الديون، وتخليص الشقص المشترَى لنفسه؟ ولعلِّي أعود إلى هذا في كتاب الشفعة.
ولو وكل المرتهن صبياً بقبضه، فقبضُ الصبي باطل، ولا يلزم الرهن به. وقد ذكرنا طرفاً صالحاً منه في كتاب البيع.
فرع:
3544- ذكر العراقيون نصّين عن الشافعي فيه إذا قال الراهن للمرتهن: قد أذنت لك في قبض الرهن، فلم يقبضه. وقال المرتهن: قد قبضتُه. قالوا: قال الشافعي في موضعٍ " القول قول المرتهن"، وقال في موضع: "القول قول الراهن". ثم قالوا: ليست المسألة على قولين، ولكنها على حالين، فحيث قال: "القول قول المرتهن"، أراد إذا كان الرهن في يده. وحيث قال: "القول قول الراهن"، أراد إذا كانت يدُه ثابتة على العين المرهونة.
فرع:
3545- إذا رهن المودِع الوديعة عند المودع، وقلنا: لابد من الرجوع إلى مكان الوديعة، فلو وكل وكيلاً حتى يرجع، ويشاهد، وينوب عنه، فهل يصح التوكيل في ذلك؟ أم لابد من رجوع المرتهن بنفسه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يصح التوكيل فيه، وهو الأصح، كالتوكيل في أصل القبض.
والثاني: لا يصح؛ فإنه ليس قبضاً على الحقيقة، وإنما هو أمر حكمي، واليد للمودَع، فليكن الرجوع منه.
3546- فرع متصل بقبض الصّبيان، وما يتلف في أيديهم، نقله بعض الأثبات من أجوبة القاضي عن مسائلِ الوقائع: سئل عن تلاعب الصبيان بالجوز فقال: إنه قمار، ولا حرج على الصبيان لعدم التكليف، وما يتلف في يد الصبي من جوز صبي فضمانه ثابت في مال الصبي الذي تلف في يده.
فإن كان يلاعبهم بالغ، فما يتلف في يده من جوز الصبيان مضمون عليه، وما يتلف في أيدي الصبيان من جوزه، فلا ضمان؛ فإنه المفرِّط بتسليطهم على جوزه وإثبات أيديهم عليها.
وإذا حصل في يد صبي جوزات صبي، وعلم بها القيم، أو الأب، ومن يلي بنفسه أو بتوليةٍ، فإذا لم ينتزعها، وجب الضمان على القيّم، أو الولي للتفريط.
وإن علمت به أُمُّه، ولم تنتزعها، فالأصح أنه لا ضمان عليها؛ تخريجاً على أن الأم ليست وليّة، فسبيلها ولا نظر لها كسبيل الأجانب.
ولا إشكال في شيء ممّا ذكرناه، وإنما المستفاد منه التسبب إلى تخريج مسألة مبنية على أصول هي أقطاب المذهب.
فصل:
قال: "والأقرار بقبض الرهن جائز... إلى آخره".
3547- إذا أقر المالك بالرهن والإقباض، حكم عليه بموجب إقراره.
ولو قامت البينة على إقراره بالرهن والإقباض، فقال: قد أشهدت على إقراري وما أقبضتُ نُظر: فإن ذكر سبباً لا يستنكر وقوع مثله، مثل أن يقول: ظننت أني أقبضتُ، فأقررت على موجب ظني، ثم تبينت خلاف ذلك، أو قال: اعتمدت كتاب وكيلٍ لي، ثم تبينت أنه مزور، أو قال: ظننت أن الإقباض بالقول صحيح، فبنيت إقراري عليه، أو قدمت الإشهاد على الصك والعرف جابى بمثله. فهذه جهات غير منكرة. فإذا ادَّعى شيئاً منها، واقتصر على دعواه هذه، لم يلتفت إليه، وقد جرى القضاء بالإقرار.
وإن قال: حلّفوا المرتهن أنه قبض، فله تحليفه. ثم لا يخفى طريق فصل الخصومة عند عرض اليمين وفرض الحلف أو النكول. وإنما جوزنا تحليفه؛ لأن ما قاله ممكن، والمدعي يكتفي في ثبوت دعواه بإمكانها. وكيفما فُرض الأمر، فغايته أن يُسعَف بتحليف خصمه.
ولو أنه أقر بالإقباض، ثم قال: كذبتُ فيما قلت. ولم يذكر جهة يستند إليها صَدَرُ إقراره ودعواه التي يدعيها بعده، فالذي قطع به المراوزة أنه لا يقبل منه على هذه الصيغة، ولا يملك تحليفَ خصمه وهذه صيغة لفظه.
وذكر العراقيون هذه المسألة: وهي إذا كذّب نفسه صريحاً في إقراره السابق، وقالوا: ما صار إليه معظم الأصحاب أن له أن يحلِّف خصمه، ويحمل تكذيبه نفسَه على جهة من الجهات التي ذكرناها، لا على الكذبِ الصريح؛ فإن هذا ممكن. وقد ذكرنا أن الدعوى لا تعتمد إلا الإمكان. وهذا متحقق في التكذيب.
قالوا: قال أبو إسحاق المروزي: ليس له في هذه الصورة أن يُحلِّف، وهذا الذي قطع به المراوزة. وكان شيخي أبو محمد يحكي عن شيخه القفال أن ما ذكره من ملك الدعوى والتحليف فيه إذا ثبت الإقرار في مجلس القاضي بالبينة. فأما إذا ادعى الخصمُ الرهنَ والإقباضَ، فاعترف في مجلس القضاء، ثم أراد أن يذكر لإقراره محملاً ويحلّف خَصمه عند ذلك القاضي، لم يكن له ذلك.
وهذا تخييل عندي، فإنا إذا كنا نعتمد الإمكان، فينبغي أن يُكتفى به. نعم إن اتحد المجلس، فقد يتجه أن نجعل هذا بمثابة تكذيبه نفسَه، وإن قام من ذلك المجلس وعاد وأبدى عذراً، فيتجه تنزيل هذا منزلة ما لو أبدى عذراً في مخالفة الشهود.
وإن أقام الفقيه لما يجري في مجلس القضاء مزية، واعتضد فيه بأمر يتعلق بخرم أبهة القضاء والغض من مجالس القضاة، وذلك أن الرجل إذا أقر بين يدي القاضي، ثم قال على الفور: كذبت أو أخطأت، فحلّف خصمي، فهذا مما لا يعتمد مثله. ولو فرض، لم نشك أن القضاة الأولين كانوا لا يسعفون بالتحليف، بل ربما كانوا يرون ذلك لو وقع من مظانّ التأديب والتعزير. وكل هذا والمذكور إقرار.
فأما إذا شهد عدلان على فعل الإقباض، فقال المشهود عليه للقاضي: حلّف خصمي، لم يجب إلى ذلك؛ فإنه كذبَ الشهودَ، وليس كذلك إذا شهدوا على الإقرار، فإنه في طلب التحليف ليس يكذِّب الشهود وإنما يجمع بين تقدير ذلك الإقرار وبين وجهٍ ممكن.
وهذا معترِض في هذا الباب، واستقصاء أصله وتفصيله في كتاب الدعاوى.
فصل:
قال: "والقبض في العبد والثوب... إلى آخره".
3548- أراد الشافعي أن يتكلم في طرف من كيفية القبض. وقد مضى استقصاء هذا في البيع، وبيّنا ثَمَّ ما يكون قبضاً في المنقول، وما يكون قبضاً في العقار.
والذي يقع الاكتفاء به هاهنا أن ما يكون قبضا ناقلاً للضمان في البيع، فهو قبض في الرهن؛ فإن صور القبوض لا تختلف باختلاف المقاصد.
قال القاضي: ذكرنا قولاً في كتاب البيع في أن التخلية في المنقولاتِ هل تكون قبضاً أم لابد من النقل؟ وهذا لا يخرّج في الرهن والهبة؛ من جهة أن خروجه اتجه في البيع بكون القبض مستحقاً فيه، فإذا ارتفع حجر البائع-وهو مستحِق الحبس- بالتخلية، وانضم إليه ملك المشتري واستحقاقُه القبضَ، لم يبعد أن تكون التخليةُ كافيةً. وهذا المعنى لا يتحقق في الرهن والهبة؛ فإن القبض غيرُ مستَحق فيها.
وهذا الذي ذكره حسن. ولكن صرح الأصحاب بذكر قولِ التخلية في الهبة والرهن؛ مصيراً إلى أن القبوض صورٌ، فلا تختلف باختلاف المحال.
فصل:
قال: "ولو كان في يد المرتهن بغصبٍ... إلى آخره".
3549- مالك العين إذا صادفها مغصوبة، فرهنها عند الغاصب، فالرهن صحيح، والذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن القول في حصول القبض بنفس الرهن كالقول فيه إذا رهن المودِع عند المودعَ بلا اختلاف.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن القول الذي يخرّج في المودعَ: في أن نفس الرهن يتضمن الإقباض لا يخرّج هاهنا؛ فإن يد المودع صدرت عن حكم المالك، فإذا صادفها الرهن، كان دوامُ اليد بمثابة ابتدائها في قولٍ. وهذا لا يتحقق في يد الغاصب.
وهذا تخييل. والأصح ما عليه الجمهور.
ثم إذا حكمنا بتمام الرهن على التفاصيل المقدمة، أو صرح الراهن بالإذن في الإمساك عن جهة الرهن، فمذهب الشافعي أن ضمان الغصب لا يزول بهذا، فتكون العين مرهونةً في يد الغاصب مضمونة عليه بحكم الغصب، وبناء المذهب على أن الضمان يثبت بيد الغاصب، فلا يزول ما لم تزل يد الغاصب إلى المالك، أو يزول ملك المالك إلى الغاصب.
وقنع بعض أصحابنا بأن أطلقوا إمكان اجتماع الرهن والغصب إذا فرض طريان العدوان. وهذا غير سديد؛ فإنّ طريان العدوان سببه إحداث المرتهن ما لم يكن له أن يحدثه، وليس يشبه هذا إذنَ المالك للغاصب في الإمساك. ومن لا يستشعر غموضَ هذه المسألة فليس من الفقه في شيء؛ فإن ضمان الغصب سببه عدوانُ الغاصب. وقد انقطع العدوان بالإذن في جهة غير مضمِّنة.
ولو أودع العينَ المغصوبة عند الغاصب، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في انقطاع ضمان الغصب، فمنهم من قال: لا ينقطع ما لم تتبدَّلُ اليد. ومنهم من قال: يزول ضمان الغصب؛ فإن الائتمان مقصود في الإيداع، وليس الائتمان مقصوداً في الرهن، بل مقصوده التوثيق. ثم الأمانة من موجَبه ومقتضاه.
3550- ولو أجر المالك العين المغصوبة من الغاصب، والعين المستأجرة أمانة في يد المستأجر، فهل يُقضَى بأن المغصوب ينقلب أمانة في يد الغاصب بالإجارة؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين في الإيداع. والإجارة أولى بأن لا تُسقط ضمان الغصب؛ لأن الائتمان ليس مقصوداً فيها.
ولو وكل المالكُ الغاصبَ بالبيع فإن استحفظه في الحال مودَعاً، ثم أذن له في البيع إذا وجد طالباً، فالاستحفاظ إيداع، وقد مضى الكلام فيه. وإن لم يجر استحفاظٌ، فالوكالة المطلقة في البيع نازلةٌ منزلة الإجارة؛ لأن الائتمان غيرُ مقصود فيها، بخلاف الإيداع؛ وكانت الوكالة من هذه الوجوه كالإجارة.
ويجوز أن يقال: الوكالة المطلقة أولى بأن لا تُبطل ضمان الغصب؛ من قِبل أن الإجارة في ضمنها تسليط القبض والإمساك، والتوكيل في البيع ليس كذلك، فيتجه ترتيب الوكالة المطلقة على الإجارة.
فإن قيل: اعتمدتم في ترتيب المذهب أن الأمانة ليس مقصوداً في الإجارة، وإن كانت الأمانة من حكمها، فهلاّ نزلتم الرهنَ منزلة الإجارة؛ فإن الرهن في وضعه لا يقتضي ضماناً كالإجارة؟
قلنا: نود لو كان كذلك، ولكن لم نطلع في هذا على خلافي للأصحاب معتبرٍ، والاعتبار بما يُجريه أئمةُ النظر في مسائل الخلاف، إذا كان لا يستند إلى أصل في المذهب من طريق النقل.
والذي ينتظم في محاولة الفرق بين الرهن والإجارة أن بناء بقاء الضمان على أنه حكم ثابت باليد؛ فلا يزول مع دوام اليدِ والملكِ. والإيداعُ خرج على الخلاف، والظاهر أنه يقطع الضمان؛ لأن يد المودع مقصورةٌ على غرض المالك وحظه، فنزِّل الإيداع منزلة الرد.
ويد المستأجر (مستأجرة) من يد المودع؛ من حيث إن الحظ فيها ليس للمالك على التمخض، ولكن الحظ مشترك، فحظّ المستأجِر استيفاءُ المنفعة، وحظ المالك تقرير عوض المنفعة، فاقتضى ذلك فرقاً ظاهراً بين يد المستأجر ويد المودع. فأما يد الرهن، فلا حظ فيها للمالك أصلاً، وإنما الحظ كله للمرتهن.
وإذا كان كذلك لم تنزل يدُ المرتهن منزلة الرد على المالك.
فإن قيل: إذا كان الحظ للمرتهن، فهلا جعلتم يده يد ضمان كيد المستعير؟ قلنا: إنما كان ذلك لأن المقصود من الرهن الوثيقةُ، والتعرضُ لغرر الضمان لا يطابق الوثيقة.
فإن قالوا: نفيُ الضمان إذاً مقتضى الرهن، فاجعلوا الأمر كذلك، فأسقطوا ضمان الغصب أو لا تصححوا يدَ الراهن.
قلنا: ذلك لأنا لا نرى الأيدي الطارئة على الغصب منقسمة، ويدُ المرتهن لو لم يسبقها عدوان لا تقتضي ضماناً، ولكنها لا تقوى على إزالة ضمان. وهذا في نهاية الإشكال. وهو من فنون الاحتيال التي نكرهها من أصحاب أبي حنيفة في مدافعات الكليات الجلية.
والأصل الذي يبتدره الفقيه المنصف أن يزول الضمان عند انقطاع العدوان.
فهذا منتهى الإمكان. ومعتمد المذهب النقل.
3551- ومما يتعلق بأطراف المسألة أن المالك إذا قال للغاصب: أبرأتك عن ضمان الغصب، ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يبرأ.
والثاني: أنه يبرأ؛ وتصير يدهُ يدَ أمانة، والوجهان مأخوذان من الأصل المشهور في أن ما لم يجب ووُجد سببُ وجوبه هل يصح الإبراء منه؟ وفيه قولان. وبيان ذلك أن القيمة إنما تجب على الغاضب، إذا فاتت العين، وامتنع ردها، والغصب سببٌ ناجز لاقتضاء هذا الضمان، عند تعذر الرد.
3551/م- ثم ذكر الشيخ أبو علي للرهن المغصوب ترتيباً، هو تتمة الكلام، فقال: إذا رهن المالك المغصوبَ من الغاصب، وأذن في القبض، وتم القبض كما فصلناه فيما تقدم، فقد انبرم الرهن، حتى لو أراد الراهن الفسخ، لم يجد إليه سبيلاً.
ولو أراد المرتهن أن يزول عنه ضمان الغصب، فليرد العين إلى الراهن، فيخرج عن ضمان الغصب، ولا ينقطع حقه من الوثيقة. ثم إنه كما رده على المالك يملك استردادَه. ويخرج من ذلك أن له أن يجبر الراهن على قبض الرهن؛ ليزول عنه الضمان، وليس للراهن أن يمتنع من ذلك. ثم ما قبضه يلزمه أن يردّه على المرتهن؛ لأن الرد لازم.
وجرى في أثناء كلام الشيخ ما يدل على أن للراهن أن يسترد العين المغصوبة، ثم يردها، حتى إذا امتنع المرتهن من ذلك أجبر على الرد، ثم يرد عليه.
هذا ما أجراه.
والقياس عندي أن الراهن لا يملك هذا؛ فإنه أثبت للمرتهن يداً لازمة، ونحن إنما جوزنا للمرتهن أن يجبر الراهن على استرداد العين، ليحصّل غرضَه في الخروج عن الضمان، وهذا لا يتحقق في جانب الراهن؛ فإنه لا غرض له في تبرئة ذمة المرتهن عن عهدة الضمان. وقد صرح القاضي بهذا في " الأسرار"، والمسألة ظاهرة.
فرع:
3552- العارية مضمونة في يد المستعير، فلو رهن العينَ العاريَّةَ من المستعير، وأذن له في قبضه عن الرهن، فهل يزول ضمان العارية؛ فعلى وجهين: ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: لا يزول، كما لا يزول ضمان الغصب.
والثاني: يزول؛ فإن ضمان العارية أخف من ضمان الغصب، وهذا الْتفاتٌ منه على الخلاف المشهور في أن العارية هل تضمن ضمان الغصوب؟
وأنا أقول: المرتهن مراعٍ حظَّ نفسه وعلةُ الضمان في حق المستعير أنه قابض لحظ نفسه من غير استحقاق. فلما ثبت الاستحقاق في حق المرتهن، وانطبق هذا على الإذن، ظهر فيه زوال الضمان، وليس كذلك ضمان الغصب.
ولست أذكر هذا عن اعتقاد؛ فإن مضادة الرهن للعدوان أوقع مما تكلفناه في الرهن والعارية.
فصل:
قال: "ولو رهنه دارين، فقبض إحداهما... إلى آخره".
3553- إذا رهن عبدين أو دارين بدَين، وأقبض إحداهما دون الأخرى، فالتي جرى القبض فيها مرهونة بجميع الدين عندنا، خلافاً لأبي حنيفة.
ومعوّل المذهب أن الدين لا يتعلق بالمرهون تعلق التقسيط، بل كل جزء من الرهن مرهون بكل الدين، ولا خلاف أنه لو تلف أحدهما في يد الراهن، وأقبض الثاني، كان مرهوناً بالجميع.
وإذا باع الرجل عبدين بمبلغ من الثمن، ثم انفسخ البيع في أحدهما، لم يكن الباقي في مقابلة جميع الثمن؛ لأن انفساخ العقد في المعوض يوجب انفساخه في العوض الذي يقابله، ومساق هذا يتضمن سقوطَ مقدارٍ من الثمن، فكيف يُتخيل والحالة هذه أن يكون الباقي محبوساً بجميع الثمن، وقد تحقق سقوط قسط من الثمن. وليس الدين عوضاً للرهن حتى يفرض بانفساخ الرهن في بعض المرهون سقوط بعض الدين.
وقد ذهب الأئمة المعتبرون إلى أن من باع مقداراً من المكيل بثمن معلوم، وتوفر عليه معظم الثمن، والتفريع على أن حق الحبس ثابت للبائع، فلا يلزم تسليم شيء ما بقي من الثمن شيء. فلما كان الثمن باقياً، جرى حبس المبيع على قياس حبس الرهن، وآل افتراق البابين إلى سقوط بعض العوض في البيع عند فوات بعض المبيع.
وهذا لا يتصور في الدين بالإضافة إلى الرهن.
وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن توفير بعض الثمن يوجب على البائع تسليمَ مقدارِه من المثمن، إذا كان المبيع قابلاً للقسمة. وهذا رديء غيرُ معتد به، والأصل ما قدمناه.
وهذا الوجه ليس بأبعد في القياس عن قول مشهور في الحكاية في تفريع تفريق الصفقة: وهو أن كل الثمن يبقى وإن انفسخ العقد في معظم الثمن، ورب وجه منقاس لا أعده من المذهب؛ إذ لم يشتهر نقله، وأعد قولاً أضعف منه لاشتهار النقل فيه.
3554- ثم ذكر الشافعي أن من ارتهن داراً وقبضها، وانهدمت في يده، فالرهن باقٍ على الساحة، والنقض المنهدم رهن؛ فإنَّ تغيّر صفة المرهون لا يخرجه عن كونه رهناً. وهذا مستبين.
فصل:
قال: "ولو رهنه جارية... إلى آخره".
3555- هذا الفصل يقتضي تأخير ما قدمه الشافعي، وتقديم ما أخره، فنبدأ باستقصاء القول في عتاق الراهن العبدَ المرهون، واستيلادِه الجاريةَ المرهونة، حتى إذا استوفينا أطراف الكلام، انعطفنا حينئذ على صدر الفصل.
فإذا رهن الرجل عبداً وسلمه، وانبرم الرهن فيه، ثم أعتقه من غير إذن المرتهن، ففي نفوذ عتقه أقوال: أحدها: أنه ينفذ لوروده على الملكِ الثابت للمعتِق، وكون المعتِق من أهل العتق، ومبنى العتق على النفوذ.
والقول الثاني- أنه لا ينفذ العتق؛ فإن الرهن يتضمن حجراً لازماً على الراهن، فلو سلطناه على الإعتاق، لكان مناقضاً للحجر المحكوم بلزومه.
والقول الثالث: أنا نَفْصِل بين كون الراهن موسراً، وبين أن يكون معسراً، فإن كان موسراً، نفذ عتقه، وغرِم قيمةَ العبد المرتهن ليكون رهناً. وإن كان معسراً لا ينفذ عتقه أصلاً.
وهذا القائل يشبه جريانَ العتق وسريانَه إلى حق المرتهن بمثابة سريان عتق أحد الشريكين إلى نصيب صاحبه من العبد المشترك. وقد تحقق أنا نفصل في عتق الشريك بين الموسر والعسر.
ثم قال العراقيون: إذا فرعنا على قول التفصيل، فلو كان الراهن موسراً وأعتق، فكيف الترتيب في نفوذ عتقه؟
قالوا: اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يخرّج في وقت نفوذ عتقه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يتعجل نفوذ العتق، وبعده يتوجه الغرم، كما نفصله.
والثاني: نفوذ العتق يقع مع غرامة القيمة للمرتهن.
والثالث: أن الأمر موقوف.
وهذا القائل يُجري هذه الأقوال من الأقوال المشهورة في وقت نفوذ عتق الشريك سرياناً إلى نصيب الشريك. هذه طريقة.
قالوا: ومن أصحابنا من قطع بأن العتق ينفذ عاجلاً قولاً واحداً، وليس على قياس سريان العتق إلى ملك الشريك. والسبب فيه أن عتق الراهن صادف ملكَه، والعتق الذي نُسرِّيه في العبد المشترك ينفذ في ملك الغير، فيجوز أن يتوقف انتقالُ الملك فيه إلى المعتِق على تقرير ملك الشريك على العوض، وإنما يستقر الملك على عوض التلف إذا بُذل، وثبتت يدُ المتلَف عليه على ذلك العوض.
وهذا القائل يقول: لو كان عتق الراهن على قياس سريان العتق، لقطعنا بالفرق بين الموسر والمعسر. ولا قطعَ، بل الأصح أن لا فرق.
التفريع:
3556- إن حكمنا بأن العتق ينفذ، فعلى الراهن أن يغرَم القيمةَ للمرتهن، والاعتبار بقيمة ساعة الإعتاق؛ فإنها ساعةُ الإتلاف.
ثم إذا بذل القيمة وسلّمها، لم يشترط عقد رهن فيها، بل نفس التسليم إلى المرتهن على قصد الغُرم يجعل المسلَّم رهناً، ولا شك أنه لا يتم ذلك ما لم يقصد الراهن المعتِق التسليمَ عن جهة الغُرم. وهذا جار في كل مالٍ يلزم الذمةَ، ثم يسلّمه ملتزمُه. حتى لو سلَّم، ثم قال: قصدت الإيداعَ عندك، فالقول قوله، ويقع المقبوض وديعة.
3557- وإن قلنا: لا ينفذ العتق، فيبقى الرهن، فإن مست الحاجة إلى بيعه في الدين، بعناه. ثم إذا بيع، فلو عاد إلى الراهن المعتِق يوماً بعد زوال ملكه، فلا ينفد عتقه الآن، وإن زالت الموانع.
وإن انفك الرهن، ولم يزل ملك الراهن عنه بأن يفك المرتهن الرهن، أو بأن ينفك بأداءٍ أو إبراء، فهل ينفذ العتق الآن؟ فعلى وجهين: أقيسهما- أنه لا ينفذ؛ فإنه وجه على العبد منجزاً، فرأينا ردَّه، واللفظ إذا رُدّ وأُبطل حكمه، لم يبق له بعد بطلان أثره حكم.
وسيكون لنا إلى هذا الفصل عودة من وجه آخر، وعنده نفصل الأمر، ونبين الحقيقة المطلوبة.
3558- ولو علق الراهن عتقَ العبد المرهون، نُظر: فإن علق عتقه على انفكاك الرهن فانفك الرهن، نفذ العتقُ المعلّق؛ لأن التعليق لا يزاحم حقَّ المرتهن.
وإذا نفذنا العتق بعد انفكاك الرهن، لم يكن نفوذ العتق وارداً على حق المرتهن.
وليس تعليق العتق على ما وصفناه بمثابة تقديم تعليق العتق على حصول الملك.
ولو علق عتق العبد المرهون بصفة قد توجد قبل انفكاك الرهن، فنقول: إن وجدت في استمرار الرهن، فالعتق مردود تفريعاً على رد تنجيز العتق؛ فإن التعليق والصفة اجتمعا في دوام لزوم الرهن، وكانا كتنجيز العتق، ولو وُجدت تلك الصفة بعد انفكاك الرهن، ففي المسألة خلافٌ، والأصح النفوذ إذا كان لا يفضي الحكم بالنفوذ إلى إبطالِ حق المرتهن.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح التعليق أصلاً، كما لا يصح التنجيز. وهذا يقرب من خلاف الأصحاب فيه إذا قال العبد لزوجته: إن دخلت الدار، فأنت طالق ثلاثاً. ثم عَتَقَ العبدُ، فدخلت الدار، ففي وقوع الطلقة الثالثة خلاف. وبين القاعدتين فرق؛ فإن العبد لو قال لزوجته: إن عَتَقتُ، فأنت طالق ثلاثاً، جرى الخلاف في هذه الصورة.
ولو قال الراهن: إذا انفك الرهن، فهذا العبد حر، نفذ العتق بعد انفكاكه.
والفارق أن الطلقة ليست مملوكة للعبد، ومحل العتق مملوك للراهن. وسبب امتناع العتق حق المرتهن؛ إذ لو أَذِن، نفذ العتق.
فهذا ما أردناه.
3559- ولو علق عتق عبده بصفة، ثم رهنه، فوجدت الصفة بعد لزوم الرهن، ففيه اختلاف مشهور. وللمسألة نظائر، يجمعها أن الاعتبار بحالة التعليق، أو بحالة وجود الصفة. وعليه يخرّج خلاف الأصحاب في أن الصحيح إذا علق عتق عبد بصفة، ثم مرض مرض الموت، ووجدت الصفة، فالعتق من رأس المال، أو هو محسوب من الثلث؟ فيه خلاف مشهور. وسيأتي أصل ذلك وفرعه في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى.
3560- ومما يتفرع على العتق أن الرجل إذا رهن نصفاً من عبد مملوك له، واستبقى منه نصفاً، فالرهن صحيح. فلو أعتق النصفَ الذي لم يرهنه، نفذ العتق فيه. وفي سريان العتق إلى النصف المرهون على القول الذي نفرع عليه وجهان: أصحهما- النفوذ؛ فإن العتق إذا كان يسري من الملك إلى ملك الغير، فلأن يسري إلى محل حق الغير أولى.
والوجه الثاني- أنه لا يسري؛ لأن العبد بجملته مملوك للراهن، فلا يحمل عتقُه على مذهب السريان، بل إن نفذ التنجز، فذاك. وإلا فلا نفوذ. وهذا يعتضد بأن الراهن هو الذي حجر على نفسه، فليس له التسبب إلى مناقضة الحجر. ولا يلزم عليه ما لو باع النصف من عبده؛ فإن ذاك ليس حجراً، إنما هو خروج منه في المبيع عن رتبة الملاّك. ولو نفذنا سريان عتقه على الأصح، فإنْ وجّه العتقَ على المرهون قصداً، وقال: أعتقت ما رهنت من هذا العبد، فالوجه القطع برد عتقه، إذا كان التفريع على الرد.
ثم قال المحققون: إذا رأينا تنفيذ سريان العتق في صورة الوجهين، فنقطع بالفصل بين الموسر والمعسر؛ فإن سبب نفوذ هذا قياسُ السراية، وقياس السراية في مذهب الشافعي يقتضي الفصْلَ بين الموسر والمعسر، كما سيأتي في كتاب العتق.
وأما إعتاق المشتري العبدَ في يد البائع على قولنا بثبوت حق الحبس، فقد مضى مفصلاً. ولا شك أن عتق المشتري أولى بالنفوذ من عتق الراهن؛ فإن حق الحبس في المبيع لم يثبت بعقدٍ مقصود في إثبات الحجر، والرهنُ عقد متضمنه حجر مقصودٌ على المالك.
هذا كله بيان القول في إعتاق الراهن.
3561- ونحن نبتدىء بعد ذلك التفصيل في استيلاده.
فنقول: إذا أقبض الجارية المرهونة-إن صححنا رهن الجواري، كما سيأتي، وهو الأصح- فإذا استولدها الراهن بعد انبرام الرهن: أما الولدُ فلا شك في انعقاده حراً؛ فإنه لا حق للمرتهن في ولد المرهونة رقيقاً فُرِض أو حراً، ولا يغرَم قيمة الولد؛ لما ذكرناه من انقطاع حق المرتهن عن الولد، والمهر لا ريب في أنه لا يلزم؛ فإنه عوض منافع البضع، ولا حق للمرتهن في المنافع.
والكلام وراء ذلك في ثبوت الاستيلاد.
3562- وقد خرّج الأئمة نفوذ الاستيلادِ على الأقوال المتقدمة في نفوذ العتق، ثم رأَوْا أن يرتبوا الاستيلادَ، ويجعلوه أولى بالنفوذ؛ من قِبَل أنه فِعْل، والأفعال بعيدة عن الرد، والأقوال عرضة الإفساد والتصحيح، والفسخ بعد النفوذ؛ ولذلك ينفذ الاستيلاد ممن هو محجور عليه في تصرفاته، كالسفيه والمجنون، واستيلاد المريض جاريتَه نافذٌ، والعتق يحسب من رأس المال، وهو بمثابة الاستهلاك الحسي.
فإن حكمنا بأن الاستيلاد ينفذ، فينفسخ الرهن، وعلى الراهن قيمةُ الجارية معتبرةً بوقت العلوق، ففيه حصل الاستيلاد، والخروج عن الرق المطلق. وقد مضى القول في القيمة.
3563- وإن قلنا: لا ينفذ الاستيلاد، فالجارية مرهونة كما كانت، فإن حل الحق وهي حامل، فالذي أطلقه الأئمة قطعُ القول بأنه يمتنع بيعها؛ لمكان اشتمال رحمها على الولد الحر، وزعموا أن مطلق البيع لا يقصر عن الولد، وتناوله للجنين الحرّ محالٌ.
وقد قدمت في هذا خلافاً في كتاب البيع، ونزّلته منزلة ما لو باع الرجل جاريةً حاملاً بولدٍ مملوك، واستثنى حملَها، ولا فرق بين أن يقع الاستثناء شرطاً، وبين أن يقع استثناؤه شرعاً. ولكن المذهب المنع كما ذكره الأصحاب، وإن كان تجويز البيع منقاساً.
ولو ولدت المرهونة وماتت في الطلق، فالذي صار إليه جماهير الأصحاب أن الراهن يلتزم قيمةَ الجارية للمرتهن، فيضعُها مرهونة، كما لو قتل الجارية المرهونة.
والسبب فيه أن الطلق مترتب على العلوق، وهو مترتب على وطء الراهن، والضمان يناط بالأسباب تارة، وبالمباشرات أخرى.
وفي بعض التصانيف أن ضمان القيمة لا يجب؛ من جهة أن إحالة التلف على العلوق فيه بعد، وقد تفرض أسباب جِبِلِّية، هي التي جرّت الطلق الشديد.
ولا خير في هذا الوجه، فلا تعتبروا به، والتفريع على وجوب الضمان، كما ذكرناه.
3564- فلو وطىء جاريةَ إنسان بشبهة، فولدت، فماتت في الطلق، التزم قيمتها، تفريعاً على الأصح.
ولو وطىء حرة بشبهة، وأعلقها، فماتت من الطلق، ففي وجوب الدية وجهان:
أحدهما: أنها تلزم اعتباراً بالأمة؛ فإن التسبب حاصل، كما تقدم.
والثاني: لا تلزم الدية؛ فإن الأمةَ يتُصوّر الاستيلاء عليها، فيصير الوطء في حكم الاستيلاء فيها أوّلاً، ثم العلوق أثرٌ باقٍ من الاستيلاء السابق، كالسراية تستند إلى الجراحة، وكالصيد يُنفِّره المحرم، فيبقى نِفارُه إلى العشار، والموت، والحرة لا يتصور الاستيلاء عليها، أولاً، وليس الوطء في نفسه سبباً قويّاً.
وهذا وإن كان مشهوراً، وقد قطع به طوائف من أصحاب المذهب، فالقياس الأول؛ فإن طريق الضمان التسبب إلى الإتلاف. وهذا لا يختلف بالحرية والرق، بمثابة احتفارِ البئر في محل العدوان، وغيرِه من أسباب الضمان.
ولو زنا بامرأة فعلِقت منه، وطُلِقَت، وماتت، فالذي ذكره الأصحاب أن الضمان لا يجب، وإن فرض ذلك في الأمة. وكذلك إن قدرت مضبوطة غيرَ ممكِّنة، والسبب فيه أن الطلقَ مترتب على العلوق، والولد المنتسب إلى الواطىء يُسبب الطلقَ، وولد الزنا لا انتساب له، وليس العلوق من هذا الشخص المعيّن معلوماً؛ حتى يحمل هذا على جناية متحققة. ولولا حكم الشرع بانتساب الأولاد إلى الآباء، لما وثقنا بكون ولد من رجل.
وإذا علقت امرأة الرجل منه، وماتت في الطلق، فلا ضمان من قِبَل أن العلوق مترتب على سبب مستَحق للزوج، والمترتب على المستحقات غيرُ مضمون عندنا. ولذلك أهدرنا سراية القصاص.
3565- ثم إذا ألزمنا الرجلَ قيمةَ الجارية التي ماتت في الطلق، فأيةُ قيمةٍ تراعى في ذلك؛ للعراقيين ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يجبُ أقصى القيم من يوم الإحبال إلى الموت، كما يجب على الغاصب أقصى القيمة، من يوم القبض إلى التلف، وكأن الجارية في يد الواطىء منذ علقت إلى أن ماتت.
والثاني: أنه يجب قيمةُ يوم الإحبال؛ فإنه سبب الإتلافِ، والأمة وإن بقيت مملوكة، فهي مع سبب الردى هالكة. ولهذا نظائر ستأتي في كتاب الجراح إن شاء الله تعالى.
والثالث: وهو اختيار ابن أبي هريرة أنه يجب قيمة يوم الوضع؛ فإن التلف تحقق يومئذ، وما تقدم غير موثوقٍ به، ولا مُحاطٍ به. وهذا كاعتبار النهايات في أروش الجنايات على الأحرار.
3566- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن الراهن إذا وطىء الجارية وأعلقها، فولدت، ونَقَصها الولادةُ، وجب على الراهن أرشُ النقص، ووضعه رهناً، وهكذا سبيل أروش جناياته على المرهون، على ما ستأتي فصول الجنايات.
ولو وطىء الجارية المرهونة وكانت بكراً، وافتضها، فعليه أرش البكارة. وليس هذا بمثابة المهر في الثيب؛ فإن الافتضاض جنايةٌ على جزء من الجملة، والجملة بأجزائها مرهونة.
فإن قيل: لمَّا فرعتم على نفوذ الاستيلاد، قطعتم القولَ بأن الاعتبار بقيمة يوم العلوق، وردّدتم المذهب حيث انتهيتم في التفريع إليه؟ قلنا: إذا ثبت الاستيلاد، انفك الرهن، ولم يتوقف انفكاكه على الولادة، فتعين اعتبارُ ذلك اليوم، وما يفرض من نقصان أو زيادةٍ بعد الانفكاك، فلا تعلق له بحق المرتهن.
وإذا قلنا: لا ينفذ الاستيلاد، وأوجبنا القيمة بسبب الهلاك، وقد تقدم السبب المقتضي له، فتردُّدُ الأصحابِ بين السبب والتلف كما تقدم.
ومما يتفرع على قولنا: لا يثبت الاستيلاد لحق المرتهن، أنها تباع في الرهن إذا مست الحاجة إلى بيعها، ثم إذا بيعت، فلو عادت يوماً إلى المستولد، فهل تصير أم ولدٍ له؛ فعلى قولين مشهورين، ولا اختصاص لهما بهذه الصورة، بل كل جارية علقت بولد حر، من مستولد محترم، وامتنع نفوذ الاستيلاد، فإذا ثبت للمستولد الملكُ المطلقُ فيها، ففي نفوذ الاستيلاد القولان.
ومن صور القولين أن يطأ جارية الغير بالشبهة ويُعْلِقَها، ثم يشتريها. وقد ذكرنا في التفريع على ردّ عتق الراهن أن العبد المرهون الذي أعتقه الراهنُ إذا بيع في الدَّين، وعاد ملكاً إلى الراهن، فلا ينفذ العتق المردود، والفارق ظاهر؛ فإن اللفظ إنما ينفذ حيث ينفذ بصيغته، وكان صيغة إعتاق الراهن التنجيزَ، فإذا رُدّ، ارتد، وقد زال الملك الذي كان إعتاقه تصرفاً فيه.
والاستيلاد فعل، والأفعال قد تتوقف، وكأنا نقدّر إعلاق الجارية بولدٍ حُر تسبُّباً إلى حصول الحرية يوماً من الدهر، ومبنى الاستيلاد على هذا؛ فإنه لا يُنجِّز العتاقة.
3567- ولو انفك الرهن عن الجارية، وكنا رددنا استيلادَ الراهن، فلأصحابنا طريقان: فمنهم من قطع بنفوذ الاستيلاد في هذه الصورة لاستمرار الملك، وانقطاع المزاحم، ومنهم من خرَّجه على قولين، ورتبهما على القولين في صورة وطء الشبهة، وفيه إذا زال الملك عن المرهونة، ثم عاد. ولا يكاد يخفى وجه الترتيب، وطريق الفرق.
والأوجه عندي القطعُ بنفوذ الاستيلاد إذا انفك الرهن. والاستيلاد عندي على هذا القول مشبَّه بتعليق العتق على ما بعد الانفكاك. وقد قدمنا القطعَ بنفوذ التعليق على هذا الوجه.
3568-وإذا أعتق الراهنُ العبدَ المرهون، ورددنا عتقه، ثم انفك الرهن، فقد أشرنا إلى خلافٍ في ذلك. والسبب فيه استمرار الملك، وزوالُ الحجر. وهذا يقرب من اختلاف القول في أن المحجور عليه بالفلس إذا أعتق عبداً من جملة مالِه، فرددنا عتقه، ثم انفك الحجر عنه، ولم يتَّفق بيعُ ذلك العبدِ في ديونه، ففي نفوذ العتق عند إطلاق الحجر قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب التفليس، إن شاء الله تعالى، ووجه التشبيه بيّن.
ولا خلاف أن العتق لا ينفذ في اطراد الحجر عليه؛ فإن فائدة الحجر منعُه من التصرف في ماله. وتفاصيل ذلك يأتي في موضعه. والراهن مطلقٌ، وقد أبقى ملكَ نفسه في الرقبة، فظن ظانون أنه مطلق صادف عتقُه ملكَه، وسرى إلى حق غيره.
ثم سنذكر في بيع المفلس مالَه-إذا انفك الحجر عنه، ولم يتفق صرفُ مبيعه في دينه- قولين.
3569- وأطلق الأصحاب القول بأن بيع الراهن في المرهون مردود، ولم يقفوه على انفكاك الحجر، ولا فرق عندي بين البابين، ولا محمل لتصحيح بيع المفلس مالَه على قولٍ إلا الحملُ على الوقف، ومحمل القولين لا يمتنع جريانه في الرهن.
وبالجملة لا فرق بين البابين إلا أن أحد الحجرين جرى من غير اختيار المحجور عليه في جميع ماله، والحجر الذي نحن فيه وهو الرهن جرى في مالٍ خاص باختيار مالكه، فالوجه التسويةُ بين البابين، وتنزيلُ البيع والعتقِ على ترتيب واحد، فالعتق أولى بالنفوذ، والبيع أبعدُ منه. وهذا فنّ من الوقف زائد على الأصناف التي ذكرناها في كتاب البيع، وتقريرُه في كتاب الحجر.
والفارق بين البيع والعتق أن تنفيذ التصرف بطريق الوقف ملتفت إلى مذهب التعليق، فكأن المفلس قال: إذا انفك الحجر، فهذا العبد حر، وهذا يتطرق إلى العتق، ويبعد عن البيع، والمحجور المبذّر عتقه مردودٌ في الحال، وإذا انفك الحجر عنه، وظهر الرشد، لم ينفذ من العتق ما رددناه.
ولو قال في سفهه: إذا ظهر رشدي، فعبدي هذا حر، لم ينفذ عتقه إذا آنس رشدَه. وأما استيلاده، فنافذ في الحالِ؛ فإنه يجري على مذهب الاستهلاك، وهذا واضح.
وقد نجز غرضنا من تفصيل القول في إعتاق الراهن واستيلاده وما يتعلق بأطراف الكلام في ذلك.
3570- ثم قال الشافعي في أثناء الكلام تفريعاً على ثبوت الاستيلاد: "وتعتِق بموت السيد في قول من يعتقها".
وهذا ترديدُ قولٍ منه في بيع أمهات الأولاد. وهذا القول مشهور في القديم، وترديده القولَ فيما نقله المزني غريب. والاستيلاد على قوله القديم لا أثر له، وهو من ضروب الاستخدام، فكأن السيد إذا أودعها ماءه، ثم انفصل، فبقيت على رقها كالظرف يحتوي على شيء ثم يفرغ منه. وعلى هذا لا تعتق مستولدة، ولا يمتنع بيعُها. وهذا قولٌ لا عمل به، ولا فتوى. وقد كان فيه اختلاف في الصدر الأول، ثم أطبق العلماء بعدهم على المنع، فالتحق هذا بإجماع بعد خلاف. وهذا مستقصى في فن الأصول.
فإذا مهدنا هذا الأصل الكبير، فقد حان أن نرجع إلى صدر الفصل، فنقول:
إذا رهن الرجل جارية، فظهر بها حمل، وقال الراهن: هذا الولد مني، وقد كانت علقت به ولم أشعر، فرهنتها: فإن صدقه المرتهن، فلا كلام، فيثبت النسب والولد حرٌّ، لا ولاء عليه، والجارية أم ولد، والرهن باطل، وليس على الراهن قيمةٌ توضع رهناً؛ من قِبل أنه لم يجن على رهنٍ لازم، بل تبيّنا أن لا رهن.
نعم لو كان هذا الرهن مشروطاً في بيعٍ، وقد تبين امتناعهم بالسبب الذي ظهر، فيثبت الخيار للبائع؛ من قِبل تعذر الوفاء بالشرط المذكور في العقد. وسيأتي هذا في موضعه من الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
هذا إذا صدقه المرتهن.
فإن كذبه المرتهن، وقال: ليس الولدُ منك، فإن كانت للراهن بينة أقامها، أو أقامتها الجارية، والشهادة على جريان الوطء من الراهن قبل العقد، أو بعد الرهن قبل الإقباض. والحكم ما قلناه في المسألة الأولى.
فإن قيل: يحتمل أن يثبت الوطء، ولا يثبت العلوق. قلنا: نعم، هو كذلك.
ولكن العلوق عيبٌ، ولا شيء يدار الإقرارُ والإنكار عليه إلا الوطء، ولهذا قلنا: إن السيد إذا اعترف بوطء مملوكته وأتت بولدٍ لزمانٍ يمكن أن يكون من الوطء، فالنسب لاحق على تفصيل يأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى، وهذا يعتضد باستلحاقه النسبَ، فصار مجموع هذا مثبتاً للاستيلاد.
وإن كذبه المرتهن، ولا بينة، فنقول: أما نسبُ المولود، فثبت لاستلحاق الراهن، وتثبت حريةُ الولد. وأما الاستيلاد، فهل يحكم به حتى يبتني عليه تبين بطلان الرهن؛ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها: لا يحكم به؛ لأنه أثبت للمرتهن حقاً، ثم ادعى ما يتضمن بطلانَه، فلا يقبل.
والوجه الثاني- أنه مقبول؛ من جهة انتفاء التهمة؛ إذ إقراره لو ثبت، فمتضمنه زوال الرق، وقد يقبل الإقرار في محل حق الغير، لانتفاء التهمة، وعليه بنينا قبول إقرار العبد بما يوجب سفك دمه، أو بما يوجب عقوبةً عليه.
والوجه الثالث: أنا نفصّل بين أن تأتي بالولد لستة أشهرٍ، فما دونها من وقت الإقباض، وبين أن تأتي بالولد لأكثر من ستة أشهر؛ فإن الأمر إذا كان كذلك، اتسع مسلك الإمكان، ولم يبعد أن يُفرض العلوقُ بعد تمام الرهن. وتحقيق الفرق أنا إذا أثبتنا العلوق حالة القبض، فإقرار الراهن يرد على غير محل الرهن، ولو كان موجوداً حالة القبض، فيقع ثبوت الاستيلاد تابعاً.
وهذا يلتفت إلى أصل سيأتي بعد هذا. وهو أن من رهن عبداً أو باعه، ثم زعم بعد ظهور اللزوم، أنه كان أعتقه، أو كان باعه. وهذا سيأتي في مسائل الرهن، إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: إن قبلتم إقراره، فلا سؤال. وإن لم تقبلوه، فهلا خرَّجتم هذا على الأقوال في أنه لو أنشأ الاستيلاد هل يثبت؛ حتى تقولوا: إن نفذنا منه الاستيلاد ابتداء، ينفذ إقراره، وإن لم ينفذ منه الاستيلاد ابتداء، فلا يقبل إقراره، تخريجاً على تنزيل الإقرار بالشيء منزلة إنشائه؛ فإن الوكيل بالبيع لو أقر بالبيع، نفذ إقراره كما ينفذ إنشاؤه البيع. ولو أظهر الموكِّل عزله، ثم ادعى الوكيلُ البيعَ، لم ينفذ قوله. وهذا يطرد لنا وينعكس.
قلنا: هذا جارٍ في التصرفاتِ التي يسلِّط الشرعُ على الإقدام عليها، فيجعل الإخبارَ عن الشيء بمثابة إنشائه، إذا كان إنشاؤه مملوكاً للمقر. والراهن على كل مذهب ممنوعٌ من الإقدام على استيلاد الجارية المرهونة. وهذا مما اختلف أصحابنا فيه، وتخريجه على أصلٍ سيأتي في كتابِ الحجر.
وهو أن المبذر لو أقر بالطلاق، نَفَذَ، اعتباراً بأنشائه، ولو أقر أنه أتلف مالاً، ففي قبول إقراره خلاف؛ فإن الإتلاف ليس ما يملكه شرعاً، ولكن يتصور وقوعه منه، وهل يقبل إخباره فيه؟ فعلى وجهين.
كذلك قلنا: لو وقع استيلاد الراهن، لنفذ، فإذا اعترف به، ففي نفوذه الخلاف الذي أشرنا إليه.
فصل:
3571- كل تصرف يمتنع نفوذُه لحق المرتهن، فإذا أذن فيه، نفذ؛ فإن المانع حقُّه. وإذا أذن للرّاهن في بيع المرهون، أو في هبته، فباع أو وهب، نفذ. وإذا فرعنا على أن العتق لا ينفذ من الراهن، فإذا أذن فيه المرتهن، نفذ. وسنذكر أن الراهن لا يجوز له أن يطأ الجارية المرهونة إذا كانت بصدد أن تحبل، وفي التي لا تحبل كلام سيأتي، إن شاء الله تعالى.
وإذا أذن في الوطء، فوطىء الراهن بالإذن وترتب عليه العلوق، ثبت الاستيلاد، وإن وقع التفريع على أن الاستيلاد لا ينفذ لو انفرد الراهن.
ثم الإذن المجرّد لا يرفع عقد الرهن، حتى يتصل بوقوع التصرف.
وللمرتهن أن يرجع قبل التصرف عن إذنه. وإذا أذن في الهبة والإقباض، فوهب الراهن، ورجع المرتهن عن الإذن، لم يملك الراهن الإقباضَ، ولو أذن في البيع من غير تعجيل حق ولا شرط جَعْل الثمن رهنا، فباع الراهن على شرط الخيار، فقال المرتهن رجعت عن الإذن؟
الذي ذهب إليه المحققون أن رجوعه لا ينفعه، وللراهن إلزام العقد، وقطع الخيار، كالهبة مع القبض، وذلك لأن القبض ركنُ العقد فيه. وهو ينزل منزلة القبول من الإيجاب، وكأن الهبة عدلاً والوفاء بها الإقباض، والبيع مبناه على اللزوم والخيار دخيل فيه، فهو مفوّض إلى من له الخيار.
ولو أذن في الوطء فوطىء، ولم يتفق العلوق، فحق الرهن باق؛ فإن الوطء لا ينافي الرهن، وإنما ينافيه العلوق، وثبوت الاستيلاد. فلو لم يأذن إلا في وطأة، فلم تَعْلق، فلا يعود الراهن إلى الوطء. ولو كان أذن في جنس الوطء، ثم رجع عن إذنه، تعين على الراهن أن يمتنع.
3572- ثم فرض الشافعي والأصحابُ صوراً في اختلاف الراهن والمرتهن في الحكم الذي نحن فيه. ونحن نرسم مسائل تستوعب الغرض.
فمنها أن يختلفا في أصل الإذن، فيقول الراهن: أذنت في الوطء، وأنكر المرتهن، فالقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن.
ثم إذا كان أولدها وجرى الخلاف كما وصفناه، وحلف المرتهن، عاد التفريع إلى وقوع الاستيلاد. والأولى تفريع صور الخلاف على أن الاستيلاد لا يثبت على استبدادٍ. فإن نكل الراهن عن يمين الرد، فأرادت الجارية أن تحلف لمكان حقها من عُلقة الحرية، فهل لها ذلك؟ على وجهين ذكرهما العراقيون: قالوا: والأصح أنها لا تحلف؛ فإنها ليست بمتأصلة في الحق، وإنما يثبت أمرها تبعاً، والأيمان لا تعرض على الأتباع، ولذلك لا يحلف الوكيل، وسنذكر نظائر ذلك في كتاب القسامة، ثم في كتاب الدعاوى، إن شاء الله- هذه مسألة في الاختلاف.
المسألة الثانية- أن يقع الوفاق على أصل الإذن، ويعودَ الخلاف إلى جريان الوطء، فقال الراهن: قد وطئتُ، وأنكر المرتهن ذلك. فيقول: ما وطئتَ، وليس الولد الذي جاءت به الجارية منك. هذا أصل التصوير.
ثم ذكر الأئمة صورتين: إحداهما- أن يبتدىء الراهن فيقول: أذنتَ لي في الوطء، فوطئتُ، وأعلقتُ. ثم يقول المرتهن: أذنت لك، وما وطئت، فالقول قول الراهن؛ فإن الإذن متفق عليه، والوطء المختلف فيه من فعل الراهن، فليكن الرجوع إليه في فعله.
هذا هو الأصح.
ومن أصحابنا من قال: الأصل عدمُ الوطء، وبقاء الرهن. وهذا يناظر ما لو قال الرجل لامرأته: إن زنيتِ، فأنت طالق، فإذا زعمت أنها زنت، فالقول قول الزوج في إنكار زناها؛ فإن الأصل عدم وقوع الطلاق، وعدم الزنا.
هذا أصل المذهب. وليس كما لو قال: إن حضت، فإنت طالق، فقالت: حضتُ، فالقول قولها؛ إذ لا يُطلع على حيضها إلا من جهتها، ويُطَّلع على سائر أفعالها من غير جهتها. ولا فرق بين ما يخفى في العادة وبين ما يظهر، كدخول الدّار ونحوه.
ومن أصحابنا من صدق المرأة فيما يخفى وتطرد العادة بكتمانه، كالزنا ونحوه.
وهذا مزيف لا أصل له. فإن قيل: لم كان ظاهر المذهب تصديقَ الراهن في الصورة التي ذكرتموها؟ وما الفرق؟ قلنا: إذا كان الوطء مأذوناً، فادّعاه من أُذن له، كان هذا ادعاءَ أمر يملك إنشاءه، وكل مأذون في شيء يدعي مع دوام الإذن إيقاعَ ما أُذن فيه، فقوله مقبولٌ، كالوكيل بالبيع إذا ادّعى البيعَ قبل أن يُعزل؛ فتصديق الراهن يؤخذ من هذا الأصل، وهو غير متحقق في تعليق الطلاق بالصفات؛ إذ ليس في التعليق تسليطٌ على أمرٍ وتولية في شيء، والطلاق يعلق تارةً بما يدخل تحت اختيار الزوجة، وتارة يعلّق بأمور ضرورية، لا اختيار فيها كغروب الشمس وطلوعها. هذا فيه إذا قال الراهنُ أولاً: أذنت لي، فوطئت. وقال المرتهن بعده: ما وطئتَ.
فأما إذا قال المرتهن أولاً: أذنتُ لك في الوطء، فما وطئتَ، فقال الراهن بعده: أذنت لي فوطئتُ. ذكر الأئمة في هذه الصورة وجهين ورتبوهما على الخلاف في الصورة الأولى، وجعلوا هذه الصورة الأخيرة أولى أن يصدَّق المرتهن فيها، وعلّلوا بأن قول المرتهن إذا تقدَّم يتضمن عزل الراهن عن الإذن في الوطء، فيقع قول الراهن بعد انعزاله، وليس كالصورة الأولى إذا تقدم قول الراهن. وهذا ليس بشيء. وليس ما قاله المرتهن قطعاً للإذن، ولا عزلاً، وإنما هو خبر عن الإذن، واعتراف به، ثم ادعاءُ عدم الوطء؛ فلا عزل إذاً.
وحصل من الصورتين أوجه: أحدُها- أن القول قول المرتهن في الصورتين؛ فإن الأصل عدم الوطء.
والثاني: أن القولَ قولُ الراهن في الصورتين كما استشهدنا به من ادعاء الوكيل البيع الذي وكل به. والوجه الثالث: أنه يفصل بين أن يتقدم قول الراهن وبين أن يتقدم قول المرتهن، فالمصدَّق من يقدَّم قوله. وهذا ما اختاره القاضي، وهو ضعيف؛ فإنه بناه على العزل، وزعم أن قول المرتهن يتضمن عزلَ الراهن، وهذا غيرُ مفهوم.
ثم قال لو قال الوكيل بالبيع لموكله: أذنتَ لي في البيع، فبعتُ، وأنكر الموكِّل بيعَه، واعترف بالإذن، فالقول قول الوكيل. ولو قال الموكل أولاً: أذنت لك في البيع، فلم تبع. وقال الوكيل: قد بعتُ. ذكرَ وجهين في هذه الصورة أخذاً مما تخيله من أن قول الآذن في ذلك رجوع عن الإذن. وهذا كلام عريٌّ عن التحصيل.
3573- ومن مسائل الاختلاف: أن يتفقا على الإذن، وجريان الوطء، ويقول المرتهن: هذا الولد الذي أتت الجارية به ليس منك، ولم تُعلقها أنت بوطئك، وإنما زنت، وأتت بولدٍ من غيرك، فالقول في هذه الصورة قول الراهن بلا خلاف؛ فإن أصل الإذن متفق عليه، وكذلك جريان الوطء، ولا يبقى بعد هذا في نفوذ الاستيلاد شيء إلا استلحاق المولود، والاستلحاق إلى الواطىء، وهو من الأمور المفوّضةِ إليه، فلا معنى لتقدير مزاحمته.
ثم وجدت الطرق متفقة على أن الراهن لا يحلَّف في الصورة الأخيرة، ويكفي استلحاقُه. وإذا جعلنا القولَ قولَ الراهن في ادعاء الوطء، فهل يحلّف؟
ذكر الأصحاب وجهين. والأظهر عندي أن يحلّف. ووجهُ قول من لا يحلّفه أن حاصل كلامه يرجع إلى استلحاق المولود، وقد تقدم أنه لا استحلاف فيه.
ولو ادعى الوطء، ولم يتعرض لاستلحاق النسب، لم يثبت الاستيلاد. والوجهان في تحليف الراهن على الوطء ذكرهما صاحب التقريب على النسق الذي ذكرناه.
وإن رأينا تصديق المرتهن في نفي الوطء، فلا يُثبت يمينُه؛ فإن كل من أراد نفيَ فعل غيره، لم يزد في يمينه على نفي العلم به، وهذا لو صح الرجوع إلى قول المرتهن أصل لا مراء فيه. وبه يضعف أصلُ هذا الوجه؛ فإن المرتهن في الغالب لا يطلع على الوطء؛ ومهما حلف على نفي العلم بالوطء، برَّت يمينُه، فيؤدي هذا المسلكُ إلى أن لا يثبت حقُّ وطء الراهن قط إلا أن يطأ على رؤوس الأشهاد.
وهذا ينفصل عن تعليق الطلاق؛ فإن وقوع الطلاق ليس من حقها، وكذلك فعلُها الذي هو صفة في الطلاق، فإن كان لا يظهر وقوع الطلاق، فليس فيه تعطيل حق، والراهن يطأ بحق الملك؛ فإن الوطء لا يستباح بالإذن، ولكن الإذن يرفع المانع من اليمين.
وإذا كان هذا من حق الراهن، فينبغي له أن يمهّد له سبيلٌ إلى إثباته على يسر.
3574- ثم إن المزني ذكر المسألة الأخيرةَ، وحكى عقيبها عن الشافعي أنه قال: إن كان موسراً، فعليه القيمةُ، وإن كان معسراً، فلا شيء عليه. ذكر هذا في صورة الاعتراف بالإذن والوطء، ثم أخذ يعترض ويقول: وجب أن لا نلزم القيمة، لأن الوطء جرى بالإذن، فوجب بطلان حقه.
قلنا: الأمر على ما ذكرتَ، ولكن أخطأتَ ووهمت في النقل، والشافعي ذكر هذا في المسألة الأولى من مسائل الاختلاف: وهي إذا أنكر المرتهن أصلَ الإذن وحلف. وقد تتبّع الأثباتُ نصوصَ الشافعي في الكتب، فلم يجدوا ما ذكره المزني من الفرق بين الموسر والمعسر، إلا على أثر إنكار المرتهن أصلَ الإذن.
فرع:
3575- ذكر العراقيون في أثناء الكلام عند ذكرهم إذْنَ المرتهن مسألة في الإذن أحببت نقلها، وهي أنهم قالوا: لو قال السيد: اضرب عبدي، فضربه، وأتى الضرب عليه. قالوا: لا ضمان على الضارب. وقالوا: الزوج مأذون من جهة الشرع في ضرب زوجته، ولو ضربها وأتى الضرب عليها، ضمنها، وفرقوا بأن الإذن في ضرب الزوجة مقيد بتوقي القتل وإبقائها والإبقاء عليها. والإذنُ في الضرب مطلق في المسألة التي ذكرناها لا تقييد فيه.
وكأنهم رأوا الأمر بالضرب أمراً بجنسه بالغاً ما بلغ.
وهذا محتمل عندي؛ فإن الضرب يخالف القتل، فالأمر به أراه مُشعراً بالاقتصار عليه، ومن قتل إنساناً لا يقال: ضربه. ولو قال: أدِّب عبدي، فلا يجوز أن يُشكَّ في أنه لو قتله، ضمنه؛ فإن التأديب مصرِّحُ بإبقاء المؤدَّب.
فصل:
قال: "ولو وطئها المرتهن... إلى آخره".
قد ذكرنا فيما تقدم وطءَ الراهن بالإذن وغيرِ الإذن. وهذا الفصل مضمونه ذكرُ وطء المرتهن الجاريةَ المرهونة. ولذلك صورتان:
إحداهما- أن يقع الوطء من غير إذن الراهن. والأخرى- أن يقع الوطء بإذنه.
فأما إذا وطىء بغير إذن الراهن، فلا يخلو إما أن يكون عالماً بالتحريم، وإما أن يدعي الجهلَ به، فإن كان عالماً بالتحريم، فهو زان يلزمه الحد. فإن استكره الموطوءة، التزم مهرَها للراهن. وإن طاوعته، فهي زانية.
واختلف الأصحاب في وجوب المهر: منهم من قال: لا مهر، وإليه ميلُ المحققين. ومنهم من أوجب المهر.
3576- التوجيه: من قال: يجبُ المهر، احتج بأنَ مُطاوعتها إباحة منها، وإباحتها مهدرة في حق المولى، فأشبه ما لو أباحت قطع طرفها لجانٍ؛ فإن الضّمان لا يسقط بإباحتها.
ومن قال: يسقط، احتج بأن قال: هي بغيّ أوّلاً، وقد " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي " ومنافع البضع تقوّمت بالشرع إذا استهلكت وهي محترمة، ولا حرمة مع البغاء.
وفيه لطيفةٌ من جهة المعنى، وذلك أنها إذا طاوعت، فهي مشاركة في العمل، وليس الزاني منفرداً بإتلاف المنفعة، ولا تمييز ولا تشطير. والشرع لا يتقاضى إثباتَ البدل لحقٍّ حرمه، فلا شيء.
هذا إذا كان عالماً بالتحريم.
فأما إذا كان جاهلاً فيما زعم، بأن كان حديث العهد بالإسلام، وظن أن الارتهان يبيح المرهونة، فإذا ادعى الجهلَ ولم يبعُد ما قال، فلا حد. وإذا انتفى الحد، فالكلام بعده في المهر، والنسب، والحكم برق الولد وحريته.
الظاهر أن النسب يثبت؛ لمكان الشبهة الدارئة للعقوبة. وإذا اندفع الحد لشبهة، كان الوطء على حظ من الحرمة؛ فيثبت النسب.
ومن أصحابنا من قال: لا يثبت. ثم الطريقة الصحيحة تخريج رق المولود على الخلاف في النسب، فإن حكمنا بالنسب، فالولد حر، وإن نفينا النسب، فالولد رقيق.
وقال بعض أصحابنا: النسبُ يثبت وفاقاً. وفي ثبوت الحرية وجهان. وهذا القائل يزعم أن النسب أسرع إلى الثبوت.
وعكس بعض من ينتسب إلى التحقيق هذا، فقطع بإثبات الحرية، وردّد القول في النسب، وصار إلى أن الولد النسيب هو المنعقد من ماء محترم، والحرمة غير متكاملة.
وهذا كله خبط.
والوجه إجراء النسب والحرية مجرى واحداً. والمذهب ثبوتهما. وكان شيخي يعلل الوجه الآخر بضعف الشبهة، ويقول: الحدّ يندرىء بأدنى شبهة. والنسب يستدعي شبهة لها وقعٌ.
وقرّر القاضي في هذا كلاماً، وقال: من لا يعلم حكم الإسلام تحريم هذا الوقاع فكأن لا شبهةَ ولا بصيرة. ثم قال: إذا زنى مجنون بعاقلة، فالقول في النسب يجب أن يخرّج على هذين الوجهين، فإن المجنون ليس ممن يدري، وليس ممن يتصف بنقيض الدراية، والشبهةُ إنما تثبت في حق من يعذر بظنٍّ وهو (بصدد) الدراية، وعليه يخرّج عندي الخلاف في عمد المجنون في القتل؛ فإن إلحاقه برتبة المخطىء لا وجه له وإقدامُه معلوم حساً. وهذا لائح في المجنون. فأما إلحاق عاقل جهل التحريم-ومن الممكن أن يعرفه- بالمجنون، فبعيد. فأما المهر، ففيه تردد للأصحاب؛ من جهة ضعف الشبهة، وأنها لم تورِث حرمة، والأصح ثبوت المهر.
هذا كله إذا وطىء المرتهن من غير إذن الراهن.
3577- فأما إذا وطىء بإذن الراهن، فإذا كان عالماً بالتحريم، لزمه الحد في ظاهر المذهب.
وقيل: لا حدَّ عليه لشبهة الخلاف؛ فإن عطاء بن أبي رباح، كان يجوّز إعارة الجواري، وكان يبعث بجواريه إلى ضيفانه، فلينتهض مذهبُه شبهة في درء الحدّ.
وهذا ليس بشيء؛ فإن الحد لا يدرأ بالمذاهب، وإنما يدرأ بما يتمسك به أهل المذاهب من الأدلة، ولا نرى لفظاً في هذا متمسكاً، ولا أصل لهذا الوجه.
فإن قلنا: لا حد، فالكلام في النسب وحرية الولد على ما قدمناه في حق من وطىء من غير إذن وادّعى الجهل بالتحريم.
وإن أوجبنا الحد، فلا نسب، والولد رقيق.
وإن ادعى الجهل بالتحريم عند إذن الراهن، فالدعوى في هذه الصورة أظهر.
واتفق الأصحابُ على أنه يتعلق بها دفع الحد، وثبوت النسب، وحريةُ الولد.
ولا تصير الجارية أم ولد، وإذا ملكها يوماً من الدهر، ففيها القولان المشهوران. وأما المهر، فقد اختلف قولُ الشافعي في وجوبه، فقال في قول: لا يجب؛ لأن الإذن من الحرّ المستوجب للمهر قد حصل، وإذا سلطه ذو الحق على إتلاف حقّهِ، فلا ضمان.
وقال في قول آخر: يجب المهر؛ فإن الإباحة لا وقع لها في الأبضاع، وليس الوطء زنا.
قال القاضي: هذا الاختلافُ قريب من اختلاف قول الشافعي في أن المفوضة هل تستحق المهر، وسيأتي ذلك مفصلاً في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى.
هذا قولنا في المهر.
فأما قيمة الولد وقد ثبتت حريته، ففيها طريقانِ: فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنها تجب، ولا تسقط بسبب الإذن في الوطء؛ فإن العلوق لا صنع فيه للواطىء، فلا يكون الإذن في الوطء متعلِّقاً به.
هذا أحد الطريقين.
وقد ذكر صاحب التقريب طريقة أخرى في تخريج قيمة الولد على قولي المهر؛ فإن العلوق مترتب على الوطء المأذون فيه. والدليل عليه أنّ إذنَ المرتهن للراهن في الوطء يوجب تنفيذ الاستيلاد، وسقوطَ الغرامة، وإن كان الاستيلاد ترتب على العلوق.
وليس هو من صنع الواطىء. ولكن التسبب إلى الشيء بمثابة مباشرته.
فصل:
قال: "ولو كان الرهن إلى أجلٍ، فأذن للراهن في بيع الرهن... إلى آخره".
3578- إذا أذن المرتهن للراهن في العتق، فأعتق بإذنه، بطل حقُّه من الرهن، سواء كان الحق حالاًّ أو مؤجلاً؛ فإن الإعتاق إتلافٌ للمالية، لا إلى عوض؛ فإذا أذن المرتهن به، سقط حقه بالكلية من الوثيقة.
فأمَّا إذا أذن بالبيع، فلا يخلو: إما أن يكون حالاًَ، أو مؤجلاً.
فإن كان مؤجلاً، ففيه مسائل: أحدها: أن يُطلق المرتهن الإذن في البيع، ولا يقيده بشرط، فإذا باع الراهن بالإذن، انفك الرهن، ولا يلزم البائعَ جعلُ الثمن رهناً مكان ما باع، خلافاً لأبي حنيفة. هذه مسألة.
3579- والمسألة الثانية- أن يأذن في البيع على شرط أن يعجل الدين من ثمنه، فهذا الشرط باطل؛ فإنه يتضمن إثبات حق غيرِ ثابت، وهو التعجيل. وإذا تبين فساد هذا الشرط، فالإذن يفسد بفساد الشرط ولا ينفذ بيع الراهن، وينزل ما جرى منزلة ما لو باع مستبداً من غير إذن، وهذا يعد من مشكلات المذهب.
وذهب المزني إلى أن البيع نافذ بالإذن. واحتج عليهِ بأن قال: الإذن في البيع لا فساد فيه، وإنما الفساد في الشرط المقرون به، فليفسد الشرط، وليصح البيع بالإذن، واستشهد عليه بالتوكيل بالبيع مع شرط فاسد، مثل أن يقول: بع عبدي هذا ولك عشرُ ثمنه، فالأجرة فاسدة؛ من جهة أن مبلغ الثمن مجهول، والجزء من المجهول مجهول. ولكن البيع من الوكيل نافذ، والرجوع إلى أجر المثل، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه؛ حتى يصح البيع، ويفسدَ الشرط.
وهذا الذي ذكره المزني في ظاهره معنى كلي.
وقد قال العراقيون: حكي عن أبي إسحاق المروزي أنه ذكر قولاً مخرجاً موافقاً لمذهب المزني، فحكم بنفوذ البيع، وبفساد الشرط. هذا حكَوْه، ثم زيفوه.
وقالوا: التعويل فيما يُنقل عن أبي إسحاق على ما يوجد في شرحه. وهذا غير موجود في شرحه، فالوجه القطع بما نص عليه الشافعي.
وما ذكره المزني نقول فيه: الإذن في البيعِ في مسألتنا مُعَارض باشتراط شيء لا يستحَق، فكأن المرتهن أَذِنَ، وقابَل الإذن بشرط يجر به منفعة إلى نفسه، ولم يُثبت الشرع ذلك الشرط، ففسد، وإذا فسد مقابلُ الشيء، فسد ذلك الشيء. وهذا يمثَّل بفساد أحد العوضين في المعاملات؛ فإن من حكمه فسادُ مقابلِهِ. وليس كذلك التوكيل بالبيع؛ فإنَ أصل الإذن لا مقابِل له، وإنما المقابلة في عمل الوكيل وما شُرط له، والإذن في البيع خارج عنهما، فاستقل الإذن بالصحة، وتقابل العمل والشرط، فقيل لَحِقَهما الفسادُ. أما أثر الفساد في العمل، فهو أنه لا يستحق، وأثر الفساد في العوض لائح، فيخرج منه نفوذ البيع بحكم الإذن المطلق، والرجوع إلى أجر المثل على قياس المعاوضات الفاسدة.
ونفس الإذن في مسألتنا مقابَل بفسادٍ، وذلك الفساد عوض الإذن.
هذا منتهى الإمكان في هذا.
3580- والمسألة الثالثة- أن يأذن في البيع، ويشترطَ وضعَ ثمنه رهناً مكانه. وفي المسألة قولان:
أحدهما: أن الشرط يفسد، ثم يفسد بفساده الإذن في البيع، كما قدمناه في المسألة الثانية.
والقول الثاني- أن الشرط صحيح، والإذن في البيع صحيح، فإذا بيع المرهون، لزم جعلُ ثمنه رهناً. وهذا في حكم نقل الرهن من العين إلى عوضه، فإذا كان يجري هذا وفاقاً؛ فإن المرهون إذا هلك تعلق حق الوثيقة بقيمته، وما يقع لا يمتنع شرطه.
وهذا يترتب على أصل سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى. وهو أن من رهن ما يتسارع الفساد إليه، فهل يصح الرهن فيه والدين مؤجل؟ فعلى قولين، أحدهما- لا يصح؛ فإن مقتضى الرهن الحبسُ إلى حلول الدين، والحبس يفسد الرهن.
والقول الثاني- يصح الرهن، ويباع ويوضع ثمنه رهناً، وسيأتي ذلك. فإن أفسدنا فيما يفسد من يومه، فذاك لمصيرنا إلى امتناع النقل، فلا يجوز إذاً شرط النقل.
وإن صححنا رهنَ ما يفسد، ونزلنا على نقل الوثيقة من العين إلى ثمنها، فلا يمتنع شرطه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الدين مؤجلاً وجرى الإذن من المرتهن في البيع قبل حلول الأجل مطلقاً أو مقيداً.
3580/م- وأما إذا كان الحق حالاًّ، فأذن المرتهن في البيع، نُظر: فإن كان الإذن مطلقاًً، نفذ البيع، ولزم قضاء الحق من ثمنه؛ لأن هذا مستحق بحكم الرهن، فمطلق الإذن محمول عليه. فإنْ شَرَطَ قضاءَ الحق منه، فقد زاد تأكيداً، وصرح بما يقتضيه الإطلاق.
ولو أذن في البيع على شرط أن يوضع ثمنه رهناً، ففي المسألة قولان والحقُّ حالٌّ، كالقولين إذا كان مؤجلاً، فلا يختلف الترتيب في هذا الشرط في الحالّ والمؤجل، فإنَّ نقل الرهن غيرُ مستحق في الحالتين. هذا بيان المسألة.
3581- ثم ذكر الشافعي بعد هذا اختلافاً بين الراهن والمرتهن في كيفية الإذن، والقول مفروض في الدين المؤجل، فإذا باع الراهن الرهنَ بالإذن، ثم اختلف الراهن والمرتهن: فقال الراهن: أذنتَ في البيع المطلق، وقال المرتهن أذنتُ في البيع وشرطتُ أن يوضع ثمنُه رهناً، فظاهر المذهب أن القول قول المرتهن مع يمينه؛ فإن البائع يدعي الإذن على وجه ينقطع فيه تعلق المرتهن، والمرتهن يأبى ذلك، والأصل استمرار تعلقه بحق الوثيقة.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر في ذلك، ووجهوه بأن أصل الإذن متفق عليه، و المرتهن يدعي ضم شيء إلى الإذن، والأصل عدمه. وهذا ليس بشيء، والمذهب الأول.
وهذا ذكره شيخي وأنا أحسبه هفوة، فلا يعتد به.
ثم أطنب المزني في التعلّق بمسألة الوكيل الذي شرط له الجعل الفاسد، وقد تكلمنا عليه بما فيه مقنع مذهباً وحجاجاً.
فرع:
3582- إذا أذن المرتهن في البيع مطلقاًً والدين مؤجل، ثم رجع عن الإذن قبل جريان البيع، صح رجوعه، ونفس الإذن في البيع لا يبطل حقَّ المرتهن، بل الأمر موقوفٌ على جريان البيع على حكم الإذن. فلو اختلف الراهن والمرتهن، وقد جرى الإذنُ في البيع والرجوعُ، فقال الراهن: بعتُ قبل رجوعك. وقال المرتهن: بل رجعتُ قبل بيعك، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن القول قول المرتهن؛ فإنه تقابل هاهنا أصلان:
أحدهما: أن الأصل عدم بيعه في الوقت الذي يدعيه، والأصل عدم رجوع المرتهن أيضاًً في ذلك الوقت، فيتقابلان ويبقى أصل الرهن على ما تقرر ابتداء.
ومن أصحابنا من قال: ينفذ البيع؛ فإن الأصل استمرار المرتهن على حكم الإذن الذي سبق منه.
وهذه المسألة تلتفت على اختلاف الزوجين في الرجعة وانقضاء العدة، وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولو رهنه أرضاً من أرض الخراج، فالرهن مفسوخ؛ لأنها غير مملوكة... إلى آخره".
3583- أراد بأرض الخراج سوادَ العراق وكان غنمه المسلمون، واستولَوْا عليه عَنْوة، واقتسموا واشتغلوا بالحراثة وتعلقوا بأذناب البقر، وتقاعدوا عن الجهاد، فاستطاب أمير المؤمنين عمرُ-رضي الله عنه- قلوبَهم عنها، فاستردَّ ها منهم بعوض وغير عوض، ثم حبّسها على المسلمين، وردَّها على سكان العراق ووظّف عليهم أجرة. هذا مذهب الشافعي، وسيأتي شرحه في موضعه، إن شاء الله عز وجل في كتاب السِّير والجزية، والغرض من ذكره الآن تفصيل القول في رهن تلك الأراضي.
وزعم ابنُ سريج أن عمر باع تلك الأراضي من أهل العراق، وما حبسها وجعل الثمن موظفاً عليهم. وهذا يخالف نصَّ الشافعي، فإن ابن سريج يزعم أن سواد العراق على التأويل الذي ذكره مملوك، فينفذ بيعه ورهنه. ونص الشافعي يصرح بأن تلك الأراضي محبَّسةٌ ممتنعٌ بيعها ورهنها.
قال العراقيون: سواد العراق من عَبَّادان إلى الموصل طولاً، ومن القادسية إلى حُلوان عرضاً، فلو فعل الإمام فينا مثلَ هذا، جاز. والقول فيه يطول، وليس هو من غرض الكتاب، وإنما المقصود الكلامُ في أن رهن سواد العراق غيرُ جائز على النص؛ فإنه محبس. وهو جائز على تخريج ابن سريج.
وأما بيع ما فيهِ من أبنية، فكل بناء كان من برّية العراق، فهو أيضاً غير مملوك، وما لم يكن من برّيته، فمملوك، والغراس لا شك أنه مستحدث، فإذا كان مملوكاً، فالرهن فيه جائز، وكذلك البيع.
ولو جمع بين رهن أرضٍ من السواد وغراس فيه مملوك، فهذا من باب تفريق الصفقة.
ثم مما وقع التعرض له في هذا الفصل أن بيع الأرض هل يستتبع الغراس؟ وهذا قد استقصيناه في كتاب البيع على أبلغ وجه، فلا معنى لإعادته، وشرط هذا الكتاب أن نضم فيه أطرافَ الكلام في المثنيات والمكررات.
3584- ثم قال الشافعي: "لو أدى عنه الخراج، فهو متطوِّع... إلى آخره".
فالمراد أن من رهن بناء مملوكاً أو غراساً، فالخراج على الراهن، فلو أدى المرتهن الخراج نُظر: فإن أداه من غير إذن من عليه الخراج، فهو متطوع لا يجد إلى ما أداه مرجعاً. ولو أداه بإذن من عليه بشرط الرجوع، رجع، ولو أدّاه بإذنٍ، وما كان الإذن متقيداً بشرط الرجوع، ففي المسألة وجهان مشهوران.
ولا اختصاص لهذا بما نحن فيه. وكل من أدى ديناً على إنسان، فتفصيله في الرجوع على ما ذكرناه.
ونصُّ الشافعي يميل إلى الرجوع إذا كان الإذن مطلقاًً. قال الشافعي: لو فادى أسيراً دون إذنه، لم يرجع عليه، وإن فاداه بإذنه، رجع عليه، ولم يعتبر شرطَ الرجوع. ونصَّ أيضاًً على أن من اكترى داراً وقبضها وأكراها، فأدى المكتري الثاني الكراءَ عن الأول إلى المُكري بإذنه، رجع. وإن لم يكن بإذنه، لم يرجع، ولم يعتبر شرط الرجوع.
والمسائل كلها على الخلاف بين الأصحابِ.
فصل:
قال: "ولو اشترى عبداً بالخيار ثلاثاً، فرهنه قبلها، فالرهن جائز، وهو قطع لخياره... إلى آخره".
3585- إذا شرط الخيار لنفسه دون البائع، فالمذهب أن الملك للمشتري، وخرّج فيه قولان آخران، تقدم ذكرهما في أول البيع. والشافعي فرعّ على أن الملك للمشتري، وقال: "لو رهنه في زمان الخيار، صح الرهن، وانقطع الخيار، ولزم البيع".
وهذا مما ذكرناه في كتاب البيع على أبلغ وجه في البيان، وأحسن مساق في التفصيل، والرهن في زمان الخيار بمثابة البيع. وحاصل المذهب ثلاثةُ أوجه: أحدها: أن الرهن فاسد والعقد على جوازه.
والثاني: أن الرهن فاسد، والخيار ينقطع. والثالث:وهو ظاهر النص- أن الرهن يصح، وينقطع الخيار به.
وذكر العراقيون، وصاحب التقريب في الوصية اختلافاً يناظر هذا، فإذا أوصى رجل بعبد لرجلٍ، ومات الموصي، فرهن الموصى له العبدَ الموصَى به بعد موت الموصي، وقبل القبول، ففي المسألة أوجه: أحدها: يصح الرهن، ويكون قبولاً للوصية.
والثاني: لا يصح الرهن، ولا القبول. والثالث: يفسد الرهن، ولكن يقع قبولاً للوصية.
فصل:
3586- ويجوز رهن العبد المرتد، وهذا معنى مستقصى في البيع، ثم ذكرنا المذهبَ في بيع العبد المرتد، وبيع العبد المحارب المستوجب للقتل؛ بسبب القتل والمحاربة، وأوضحنا أن من اشترى عبداً مرتداً، وقبضه، وقتل في يده بالردة، فهو من ضمان البائع أو من ضمان المشتري؟ ولا وجه لإعادة ما سبق.
والقدرُ المتعلق بكتاب الرهن أن من ارتهن عبداً مرتداً، وصححنا الرهن، فقبضه، ثم قتل في يده بالردة، نظر: فإن لم يكن الرهنُ مشروطاً في بيعٍ، فلا أثر لما جرى، وقد ارتفع الرهن بفوات المرهون. وإن كان الرهن مشروطاً في بيع، فإذا قتل العبد في يد المرتهن، ففيه الخلاف المقدم ذكرُه في البيع: ففي وجهٍ يُجعل كما لو قتل في يد الراهن، ولو قتل في يده، لما كان وافياً بالرهن المشروط، ثم حُكمه أن يتخير البائع في فسخ البيع؛ فإن من شرط رهناً، فلم يتفق الوفاء به، ثبت له الخيار.
وسيأتي بيان هذا الأصل.
وإن قلنا: المرتد في يد المرتهن محسوبٌ عليه، فقد توفر عليه المشروط، فلا يثبت له حق فسخ البيع.
3587- ويتصل بهذا الفصل أن الرهن إذا كان مشروطاً، ثم اتفق ضياعه في يد المرتهن، ثم اطلع المرتهن على عيب بعد فوات الرهن، فهذا من غوامض الأحْكام في الرهن. وهو بين أيدينا. ولكن نُنْجز منه شيئاً.
فنقول: إن اطلع على عيب وأمكن الرد ورَدَّ، ففائدة ذلك أن يتخيّر في فسخ البيع.
وإن عسر الرد بالتلف، وقد فرض الاطلاع من بعدُ، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه قد فات الأمر؛ فإن الرد غير ممكن، والأرش لا وجه له؛ فإن الأرش استردادُ جزءٍ من الثمن.
والوجه الثاني- أنه يثبت للمرتهن حق فسخ البيع؛ لأن النقصان الذي اطلع عليه في حكم جزء لم يصل المرتهن إليه، ولم يتحقق الوفاء بالشرط فيه، فهو كما لو شرط رهن أشياءَ، فاتفق الوفاء برهن بعضها دون بعضٍ، فالخيار ثابت.
ونص الشافعي يميل إلى هذا.
فإذا ارتهن مرتداً، فقتل في يده، وفرعنا أنه محسوب عليه، فلو اطلع على الردة من بعدُ، فهذا ما ذكرناه من الاطلاع على العيب بعد فوات الرد.
فصل:
قال: "ولو أسلفه ألفاً برهنٍ... إلى آخره".
3588- إذا رهن من عليه ألف عبداً بالألف، ثم أراد أن يرهن بذلك الألف عبداً آخر أو ما بدا له، فليفعل، ولا منع من هذا؛ والسببُ فيه أن الرهن هو المشغول بالدين، والدين غيرُ مشغولٍ بالرّهن؛ فإنه ليس عوضه، ولا موثقاً به، فالزيادة في الرهن لا منع منها.
فأما إذا أراد أن يزيد في الدين، ويرهن ذلك المرهون بدين آخر، ضما إلى الدين الأول، فإن فسخا الرهن الأول وأعاداه بالدينين، فلا شك في جوازه.
ولو قررا الرهن الأول، وأرادا ضم دين آخر إليه، ففي جواز ذلك قولان:
أحدهما: يجوز، وهو القديم، واختيار المزني.
والثاني: لا يجوز. وهو الجديد. ومذهب أبي حنيفة.
3589- توجيه القولين: من منع ذلك، احتج بأن قال: إذا أُقر الرهنُ الأولُ، وزيد في الدين بذلك الرهن، فهذا رهنُ مرهونٍ، ورهنُ المرهون لا يجوز، كما لو فرض رهنه من آخر.
ومن قال: إنه جائز، فلا وجه لقوله إلا اعتبارُ الدين بالرهن. وقد قدمنا أن الزيادة في الرهن جائزة؛ فإذا لم يمتنع هذا في أحد الجانبين وحكمُ العقود التساوي، لم يمتنع في الجانب الآخر. ولمَّا منعنا الزيادةَ في الثمن بعد لزوم العقد، منعناها في المثمن.
ومن بدائع الأمور اختيار المزني جوازَ هذا الإلحاق، مع ميله إلى القياس في اختياراته، وأبدعُ من هذا منعُ أبي حنيفة لهذا الإلحاق، مع مصيره إلى أن الزيادة تلحق الثمن والمثمن، بعد لزوم العقد.
3590- ومما يتعلق بالمسألة أن العبد المرهون لو جنى جنايةً، وتعلق الأرش برقبته، وسنذكر أنه يباع في الأرش، ولا يبالَى بحق المرتهن إذا لم يَفْدِه الراهن، فلو قال المرتهن: أنا أفديه، ويكون ما أفديه به ديناً على السيد، ويصير العبد مرهوناً بما أُقرضُ الراهنَ في فدائه، ففي جواز ذلك قولان مرتبان على القولين في الأصل.
وهذه الصورة أولى بالجواز، من قِبل أن هذا الفداء من مصلحة الرهن، وهو سبب استبقائه، فكان ما قدرناه فيه أقربَ إلى الجواز.
وقرب الأئمة هذا من أصلٍ رمزنا إليه في كتاب البيع، وهو أن المشرف من الحقوق على الزوال إذا استدركت يُجعل استدراكها بمثابة زوالها وإعادتها أم يحمل الاستدراك على موجب الاستدامة فيها؛ فعلى قولين، مأخوذين من معاني كلام الشافعي. وعليه بنينا استثناء الثمار عن مطلق بيع الأشجار قبل بدوِّ الصلاح، حيث قلنا: إنها إن كانت كالزائلة العائدة، فلابد من شرط القطع في استثنائها، وإن بنينا الأمر فيها على الاستدامة، وهو الصحيح، فلا معنى لشرط القطع.
فإذا جنى العبد المرهون، فقد أشرف الرهن على الزوال، بتقدير أنه يباع في أرش الجناية، فإذا فدى المرتهن بالإذن على الشرط الذي ذكرناه، فهل يجعل هذا كما لو انفك الرّهن ثم أعيد؟ ولو كان كذلك، لصحّ فيه الخلاف الذي ذكرناه.
فصل:
قال: "ولو أشهد المرتهن أن هذا الرهن في يده بألفين... إلى آخره".
3591- صورة المسألة إذا أقر الراهن أن العبد الذي في يد المرتهن مرهون عنده بألفين، ثم ادّعى بعد ذلك أنه رهنه أولاً بألفٍ، ثم ألحق به ألفاً آخر على ما ذكرناه في صورة القولين. فإن قلنا: الزيادة في الدين جائزة، فلا معنى لدعواه. وإن قلنا:
لا يجوز ذلك، فلو صدّقه المرتهن، فذاك، وإن كذّبه، فالقول قول المرتهن.
وللراهن أن يحلّفه؛ فإن ما يدعيه محتمل.
وقد مهدنا فيما سبق أن جواز التحليف يعتمد الإمكان، وإنما جعلنا القول قول المرتهن؛ لظهور الإقرار في ثبوت الرهن بألفين، وظهور الإقرار، واحتمال ما قال الراهن يبيح الرجوعَ إلى قول المرتهن مع يمينه.
ولو ادعى الراهن ما وصفناه، فقال المرتهن: فسخنا الرهن الأول بالألف، وأعدناه بالألفين، وأنكر الراهن الفسخ وادعى الإلحاق من غير فسخ وإعادة، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن القول قولُ المرتهن؛ فإنه معتضد بالإقرار المطلقِ الصادر من الراهن؛ إذ قال أولاً: العبد مرهون بالألفين.
والثاني: أن القول قول الراهن؛ فإن المرتهن ادعى فسخاً وإعادة، والأصل عدم ما ادعاه. وكل من ادعى عقداً جديداً، فهو في مقام المدعين.
3592- ومما يتصل بهذا الفصل أنا إذا منعنا إلحاق الزيادة بالدين مع اتحاد الرهن، فلو قال الراهن لشاهدين: كان هذا العبد رهناً بألفٍ، فجعلته رهناً بألفين، فشهد الشاهدان على لفظه، ونقلاه إلى مجلس القاضي، وكان القاضي يعتقد أن الزيادة لا تلحق، فمعلوم أن اللفظة التي نقلها الشاهدان محتملةٌ لفسخٍ وتجديدٍ، ومحتملة للإلحاق، ففي المسألة وجهان ذكرهما صاحبُ التقريب:
أحدهما: لا يحكم الحاكم بكونه رهناً بالألف الثاني، حتى يتبين له تفصيل الحال.
والثاني: أنه يلزمه الحكم بكونه رهناً؛ فإنه يجب على الحاكم حمل ما ينقله الشهود على الصحة.
والدليل عليه أنهم لو شهدوا على بيع مطلق، حمل على الصّحة في ظاهر المذهب.
مع اختلاف العلماء في الصحيح والفاسد من البيوع.
وهذا الذي ذكرناه فيه إذا لم يطلع الشاهدان على سر الحال، ولكن سمعا من الراهن لفظه المطلق: "إنِّي جعلت هذا رهناً بألفين".
فأمَّا إذا علم الشاهدان أنهما ما جددا عقداً بعد فسخٍ، وإنما ألحقا، وكان الشاهدان يعتقدان أن ذلك لا يجوز، والزيادة لا تلحق، فلو أرادا أن يشهدا مطلقاًً وينقلا لفظ الراهن " إني جعلت هذا رهناً بألفين " فهل لهما أن يشهدا مطلقاًً؟ قال صاحبُ التقريب: هذا ينبني على أن القاضي هل يقبل ذلك؟ فإن قلنا: لا يقبله، فلا نظر إلى إطلاقهما. ثم إذا استفصل القاضي، فصَّلا ما عندهما. وإن قلنا: القاضي يقضي بالمطلق من شهادتهما من غير بحث، فعلى هذا هل يجوز لهما إطلاق الشهادة مع العلم بسر الحال؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحبُ التقريب. قال: والأصح أنه لا يجوز الإطلاق.
والأمر على ما قال. وليس للوجه الثاني وجه.
فصل:
قال: "ولو رهن عبداً قد صارت في عنقه جناية... إلى آخره".
3593- قد تقدم في كتاب البيع اختلافُ القول في بيع العبد الجاني إذا تعلق برقبته أرشُ جنايته، فلو رهن المالك العبدَ الجاني وفي عنقه الأرش، فلأصحابنا طريقان: منهم من أجرى القولين في صحّة الرهن والقبض، كما تقدم في البيع.
ومنهم من قطع بأن الرهن مردود قولاً واحداً بخلاف البيع، واعتلَّ بأن المرهون لو جنى جناية مالية، وتعلق أرشها برقبته، وامتنع السيد من فدائه، عُرض على البيع، وبيع في أرش الجناية. وإذا كان طريان الأرش يتضمن قطعَ حق المرتهن وتقدّمَ حق الأرش على حقه، فينبغي أن يُمْنَع إيراد الرهن على العبد الذي في رقبته أرش. وإذا امتنع رهنُ المرهون، فالوجه امتناع رهن الجاني؛ فإن تعلق الأرش بالرقبة يوثق بها، والمتعلَّق الأظهر في الحال لأرش الرقبة، والدين الذي به رهنٌ يتعلق أصله بالذمة، والتوثق في حكم تأكيد الأصل، فإذا امتنع رهن المرهون، وجب أن يمتنع رهن الجاني الذي في رقبته مالٌ.
ولو جنى العبد جناية توجب القصاص، ففي بيعه تصرفٌ للأصحاب، وخرّجوه على أن موجب العمد ماذا؟ وقد مضى هذا مفصلاً في البيع. فإذا جوزنا البيع جواباً على أن موجب العمد القودُ المحض. وجوّزنا الرهن في هذه الصورة على هذا القول، والجريان على أن تعلقَ الأرض يمنع الرهن، فلو فرض بعد انبرام الرهن بالقبض عفوُ المجني عليه، على مالٍ، أو من غير مالٍ، ورأينا العفو المطلق مقتضياً للمال، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: ثبوتُ المال طارئاً في الصورة التي انتهينا إليها بمثابة جنايةٍ تطرأ على الرّهن من العبد المرهون، ولو كان كذلك، لم نحكم ببطلان الرهن، ولكن يثبت حق بيعه في الجناية، فإن اتفق ذلك، انقطع الرهن. وإن لم يتفق بسببٍ، فالرهن باقٍ. كذلك إذا عفا المجني عليه عفواً يوجب المال.
ومن أصحابنا من قال-وهو اختيار شيخي- نتبين أنّ الرهن في أصله غيرُ منعقد.
ولا شك أن التفريع على منع رهن الجاني جناية مالية. ووجهُ الوجه الذي ذكرناه أن الرهن جرى مقترناً بسبب هو الذي أفضى إلى ثبوت المال في المآل، فتبين آخراً أن السبب المقترن كان مانعاً. ومن الأصول تنزيل الأسباب إذاً أفضت إلى مسبباتها منزلة تحقق المسببات. وليس كالجناية الطارئة التي لا استناد لها إلى سبب متقدّم.
التفريع:
3594- إن جرينا على الوجه الأول، وهو تنزيل ثبوت المالِ طارئاً منزلة طريان الجنايةِ، فلا كلام. وإن أسندنا تبيّن فساد الرهن، فلو كان العبد احتفر بئراً في محل عدوان، فرُهن وأُقبض، وتردّى في البئر متردٍّ، فأرشه يتعلق برقبة العبد المرهون المتسبب بالحفر. ثم كيف السَّبيل فيه على هذا الوجه الذي ذكرناه في العفو عن جناية الرهن عمداً؟ وجهان في هذه الصورة: أحدها: أنا نتبين أن الرهن كان فاسداً، كما تبينا الفساد في العفو الطارىء. والوجه الثاني- أن هذا ليس بالعفو؛ فإن الجناية واقعة في تلك الصورة والعبد منعوت بكونه جانياً. وليس كذلك حفر البئر؛ فإنه ليس جناية واقعة. والفرق لائح.
فهذا منتهى قولنا في ذلك.
3595- ثم إن صححنا رهنه العبد الجاني جناية مالية، فنجعل السيد مختاراً للفداء، كما إذا باعه، وفرعنا على نفوذ بيعه، حتى قال الأئمة: هل يلزمه الفداء أم ننقض عليه بيعَه إذا امتنع؟ فعلى وجهين لا يخفى توجيههما. وعلى حالٍ لا يبطل حق المجني عليه.
3596- ولو باع العبدَ الجاني، وكان معسراً ليس له وفاء بالفداء، فالمذهب الأصح الحكم بفساد البيع، وتخصيص القولين بما إذا كان السيد متمكناً من الفداء.
ومن أصحابنا من نفذ البيع من المعسر لحق ملكه، وأثبت للمجني عليه الخيارَ.
وما ذكرناه في البيع من ذلك كله جارٍ في الرهن. فإذا رهن وأقبض، كان كما لو باع، ومهما اختلف الأصحاب في فساد البيع، فالرهن أحق بالفساد لما ذكرناه في أصل الفصلِ من اختلاف طريق الأصحاب في تصحيح رهن العبد الجاني.
وإذا جرى التفريع على الفساد، فلا فرق بين أن يكون أرشُ الجاني مستغرقاً لقيمته، وبين أن يكون أقلَّ منها، فإن المانع إذا منع التعلق، فهذا المعنى متحقق في القليل والكثير، وهو بمثابة الحكم بفساد بيع المرهون دون إذن المرتهن. ولا فرق بين أن يكون الدين في مقداره مثلَ القيمة، وبين أن يكون أقل منها.
فصل:
قال: "ولو ارتهنه فقبضه ثم أقر الراهن أنه جنى... إلى آخره".
3597- إذا رهن مالك العبد العبدَ، وأقبض، ثم أقر بأنه كان جانياً، والأرش في رقبته، لمّا رهنه، وأنكر المرتهن ذلك، ورام استمرار الرهن له، نُظر: فإن لم يذكر الراهن المجنيَّ عليه، بل أرسل الإقرار بالجناية، وتعلّقِ الأرش، فقوله مردود؛ فإنه رام إبطال حقٍّ التزمه بقوله، ولم يسنده إلى مستحِق، فلم يبطل الحق الذي ظهر التزامُه بقول مبهم بلا ثبت، وسيتضح هذا في أثناء الكلام، إن شاء الله.
وإن أسند الراهن إقراره إلى مجنيٍّ عليه في نفسه، أو ماله، فإن كذبه المقَرُّ له، بطل إقراره، واستمر حق المرتهن. وإن صدقه المقَرّ له، فهذا موضع اختلاف النصوص واضطراب الأقوال.
3598- وحاصل ما نقل في المذهب في تأسيس الفصل ثلاثة أقوال: أحدها: أن إقرارَ الراهن مردود لمنافاته موجَبَ رهنه وإقباضِه. وأصل الشرع أن يؤاخذ الرجل بسابق قوله وفعله، فيما يتعلق بثبوت الحقوق وبطلانها. ولو نفذنا إقراره، لأبطلنا مقتضى تصرفه وإقباضه، وهذا القول أَقْيس الأقوال.
والقول الثاني- أن إقراره مقبول؛ من جهة أن ملكه مستمر في المرهون، والتهمة منتفية؛ من قبل أَنَّ العاقل لا يتسبب إلى التزام مَغرم في ملكه، لإبطال حق وثيقة لغيره. وبيان ذلك أن المعترَف به أصلُ الغرم، وحق المرتهن توثُّق وتعلُّق، فيبعد أن يلتزم أصلَ الغرم لقطع تعلُّقٍ. وهذا يناظر قبولَ إقرار العبد فيما يوجب عليه عقوبة.
والقول الثالث: أن المقر إن كان موسراً، نفذ إقراره، ويلزم أن يغرم للمرتهن قيمةَ المرهون، ليوضع رهناً؛ فإنه بقوله تسبب إلى بطلان حق المرتهن. وإن كان معسراً، لم يقبل إقراره؛ فإن في قبوله إبطالُ حق المرتهن، لا إلى بدلٍ.
واختلاف الأقوال في قبول الإقرار وردِّه قريب المأخذ من اختلاف الأقوال في تنفيذ عتق الراهن وردِّه. وقد ذكرنا فيه ثلاثة أقوالٍ: أحدها: الفرق بين الموسر والمعسر.
والعتقُ على رأي من نفذه يعتمد الملكَ. والإقرارُ عند من ينفِّذه يعتمد الملكَ أيضاً، وانتفاءَ التهمة.
ولهذا التفات على اختلاف القول في أن العبد إذا أقر بسرقة مالٍ، نفذ الإقرار في وجوب القطع. وهل ينفذ في ثبوت المال؛ فيه تردد أشرنا إليه. وسيأتي تقريره في كتاب السرقة، إن شاء الله تعالى.
وعبر الأئمة عن هذه الأصول بأن قالوا: الإقرار ممن هو صحيح العبارة إذا انتفت التهمة عنه بالكلية، وتعلق بما للمقِر فيه حق، فهو مقبول، وإن تضمن بطلانَ حق الغير، كما ذكرناه في ثبوت العقوبة بإقرار العبد.
وإذا اقترن بالإقرار شيء يتعلق الإقرار المقبول به، فهل يقبل الإقرار في قرينة العقوبة؛ فيه اختلاف قولٍ. وأصل الإقرار مقبول من السيد لا خلاف فيه، ولو انفك الرهن، كان مؤاخذاً به؛ فإن الأصل لا تهمة فيه، وهو مصادِف محلَّ حقه، وبطلان حق المرتهن قرينة مقترنة بإقرارٍ مقبول الأصل، وفي نفوذ الإقرار في القرينة التردد الذي ذكرناه.
3599- ولو أقرّ الراهن بأنه كان أعتق العبد قبل أن يرهنه، ففي إقراره الأقوال الثلاثة. وكذلك لو أقر بأنه كان مغصوباً عنده، وأنه رهنه متعدياً وكان غاصباً.
ولو باع عبداً وألزم العقد، ثم جرى بعد لزوم العقد إقرارٌ من البائع، لو قدر نفوذه، لبطل البيع، ولا تهمة على المقِر في ظاهر الأمر، فقد قطع الأصحاب برد هذا الإقرار في حق المشتري، وتقرِير البيع؛ والسبب فيه أن إقراره جرى وليس للمقِر ملك في ظاهر الحال، وإقرار الإنسان في ملك غيره مردود، وليس كإقرار الراهن؛ فإنه صادف محلَّ ملكه.
وقد ذكر بعض الأصحاب طردَ الأقوال في إقرار البائع فيما يتضمن بطلانَ البيع، ورمز إليه شيخي في بعض أجوبته، ثم رجع. وهذا فيما أراه هفوة لا يعتد بها.
وقد يعترض للناظر أن الراهن إذا أقر بكونه غاصباً، فليس إقراره في محل ملكه على زعمه. وفيه الأقوال.
وقد يقول هذا القائل: إقرار البائع له تعلق ببيعه الذي تعاطاه، وعهدته متعلقة به، وليس كقرارٍ مرسلٍ من أجنبي في ملك الغير. ولا اغترار بهذا، ولا وجه إلا القطعُ برد إقرار البائع بعد لزوم العقد، وتخصيص الاختلاف بالرهن.
نعم. في معناه الإجارة: فلو أجر عبده، ثم اعترف بأنه كان جانياً، والتفريع على منع إجارة الجاني قبل الفداء، فالأقوال تخرج خروجها في المرهون؛ لأن الإقرار صدر عن مالك الرقبة، فانتظم الترتيب كما ذكرناه.
3600- ومما يتعلق بتمهيد أصل الأقوال في إقرار الراهن أنه لو أقر بتعلق أرش يقصر مقدارُه عن قيمة العبد ومبلغِ الدين، فالتهمة في ذلك المقدار تنتفي، والأقوال الثلاثة تخرج. ولو قبلنا. الإقرارَ، لأبطلنا الرهن في الزائد، والتهمةُ متمكنة فيه.
ولأصحابنا في ذلك الزائد طريقان: منهم من قطع برد الإقرار فيه لتمكن التهمة.
ومنهم من أجرى الأقوالَ الثلاثة في الجميع طرداً للباب.
وهذا ضعيف. وسيخرجُ عليه في أثناء الكلام تفريع، وعنده يبينُ حاصل القول في أصل الفصل الزائد.
وقد انتهى الغرض في تأصيل الأقوال. وحان التفريع عليها.
3601- فإن قلنا: لا نقبل إقرار الراهن، فلابد من فرض دعوى من المقَر له، وبذلك ينتظم الكلام، والتفريع، فإذا أصر المقَرّ له على الدعوى، ورَدَدْنا على القول الذي نفرع عليه إقرارَ الراهن، راجعنا المرتهنَ، فإن صدق الراهن، فيباع العبد في أرش الجناية أو يفدى؛ فإنا رددنا إقرارَ الراهن استبقاءً لحق المرتهن، فلا يبقى مع تصديقه إلا تنفيذ حكم الجناية. ثم إذا بيع العبد في الأرش، وكان المرتهن شرط في البيع رهناً، فيثبت له في هذه الصورة فسخُ البيع إذا لم يتحقق الوفاء بمشروطه. هذا إذا وافق المرتهن.
فأمّا إذا أنكر وقد رددنا قول الراهن، فلابد من تحليف المرتهن إذا طلب المدعي ذلك، ثم لا يخلو إما أن يحلف أو ينكُل، فإن حلف، استقر حقه في الرهن، وبقي الكلام بعد ذلك في أن المقَر له هل يغرَم له الراهن المقِر، بسبب أنه بالرهن والإقباض حال بين المجني عليه وبين حقه من رقبة الجاني. ثم باعترافه أقر بصنيعه.
في المسألة قولان سيأتي أصلهما في المغصوب.
والذي ننجزه الآن بناؤهما على ما لو قال صاحب اليد في الدار غصبت هذه الدار من زيد، لا بل من عمرو، فالدار مسلَّمةٌ إلى المقَرّ له أولاً. والإقرار الثاني في حكم الرجوع عن الإقرار الأول، فتسلّم الدار إلى الأول. وهل يغرم المقِر للثاني قيمةَ الدار بسبب إيقاعه الحيلولةَ بينه وبين الدار بالإقرار الأول؟ في المسألة قولان.
3602- ثم نعود إلى ما ذكرناه في مسألتنا، فإن قلنا: لا يغرَم الراهن للمقَر له شيئاًً، فلا كلام. وإن قلنا: إنه يغرَم، ففي القدر الذي يغرَم له طريقان: من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: أنه يغرَم أقلَّ الأمرين من الأرش والقيمة.
والثاني: أنه يغرَم الأرش بالغاً ما بلغ، وإن زاد على القيمة. وهذا بعينه اختلاف القول في أن السيد إذا أراد أن يفدي عبده الجاني، فبكم يفتديه؟ وسيأتي تفصيل ذلك في آخر الديات إن شاء الله تعالى.
هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قطع القولَ بأن الراهن لا يغرَم للمقر له إلا أقل الأمرين، كما لا يغرم سيدُ المستولدة في فدائها إلا الأقلَّ، والجامع أَنَّ فداء المستولدة ضروري، لا تعلق له بالاختيار، فكان بمثابة مَا لو جنى العبدُ وتعلق الأرش برقبته، فقتله مولاه، وكان الأرش زائداً على القيمة؛ فلا يغرَم المولى إلا القيمةَ؛ فإن إتلافه لا ينبغي أن يزيد غرمه على غرم إتلاف الأجنبي.
وإذا وضح هذا، فالغرم على الراهن بعد تقدم الرهن، مع الحكم برد إقراره غرمٌ ضروري، فاتجه القطع باعتبار الأقل.
هذا كله إذا حلَّفنا المرتهن، فحلف.
ثم لا يخفى أنه يحلف على عدم العلم بجناية العبد. وكل يمين يتعلق بنفي فعلِ الغير، فهي على نفي العلم.
3603- فأما إذا نكل المرتهن، فاليمين على من ترد؛ على قولين:
أحدهما: أنها تُردّ على المجني عليه المقَر له؛ فإن الحق له، ولولا حقه، لقرّ الرهنُ، وانقطع الخصام، فليقع الرد عليه. والقول الثاني- أن اليمين ترد على الراهن المقِر؛ فإنه المالك، وكأنه ينفي حقَّ المرتهن من الرهن، فارتبطت الخصومة به من هذا الوجه.
التفريع على القولين:
3604- فإن رددنا اليمين على المجني عليه، نظر: فإن حلف، ثبت دعواه وانتُزع العبد من يد المرتهن، وبيع في حقه، وليس للمرتهن أن يفسخ البيع الذي شُرط الرهنُ فيه؛ لأن الراهن يقول: أنت أبطلت حقك بنكولك. فإن قال المرتهن: وأنت أقررت أيها الراهن بانتفاء الرهن. فالراهن يقول: لكنك لم تقبل إقراري، ولم يقبله الشرع، ولم يبطلُ الرهن إلا بسبب نكولك، ولم يكن لقولي أثر. وهذا واضح.
وإن نكل المجني عليه المقَرّ له، لم يكن له أن يغرِّم الراهنَ شيئاًً، ويبقى العبد رهناً.
والسبب فيما ذكرناه أنه بنكوله أبطل حقَّ نفسه. ووضوح ذلك يغني عن بسطه.
هذا إن رأينا ردَّ اليمين بعد نكول المرتهن على المجني عليه.
فأما إذا قلنا: اليمين ترد على الراهن المقِرّ، فعلى هذا إن حلف، سُلّم العبد للبيع. في حق المجني عليه، وليس للمرتهن في هذه الصورة فسخ أيضاًً؛ فإنه بنكوله أبطل حق نفسه، فكانت الإحالة على نكوله. هذا إذا حلف الراهن.
وإن نكل الراهن عن يمين الرد، فهل للمجني عليه أن يحلف بعد نكول الراهن؟
قولان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن مصير الحق إليه، ويستحيل أن يَبطل حقُّه بنكول الراهن، كما لا يبطل حقه بسبب رجوعه عن الإقرار. والقول الثاني- لا ترد اليمين على المجني عليه؛ فإن اليمين في الخصومات ليس لها إلا مرد واحد، ومنتهاها مردُّها. فإذا ثبتت يمين الرد في جانب، لم تتحول عنها. فإن قلنا: لا يرد اليمين إلى المجني عليهِ، نجعل نكولَ الراهن بمثابة حلف المرتهن، ونقرر الرهنَ. ثم يعود القولان في أن الراهن المقِرَّ هل يغرَم للمقَر له؛ من جهة أنه حقق الحيلولةَ؟ وقد مضى هذا.
وإن قلنا: يرد اليمين على المجني عليه، فإن حلف، ثبت حقه وبيع العبد في الأرش، وليس للمرتهن خيار الفسخ؛ فإنه أبطل حقه بنكوله عن اليمين. وقد تمهد هذا.
وإن نكل المجني عليه عن اليمين، لم يكن له تغريم الراهن قولاً واحداً؛ فإنه كان مقتدراً على رفع الحيلولة، فلم يرفعها وأكدها، فإذا كانت الحيلولة محالاً عليه، لم يثبت له تغريم الراهن المقر.
وكل ما ذكرناه تفريع على أن إقرار الراهن غير مقبول، والقول قول المرتهن. ثم انشعب الكلام من تحليف المرتهن إلى صور.
3605- فأما إذا فرعنا على أن إقرار الراهن مقبول، فهل يقبل قوله من غير يمين، أم يحلَّف؟ في المسألة وجهان:
أحدهما: أنه لا يحلّف؛ من جهة أنه مقر على ملكه وسبب نفوذ إقراره مصادفته ملكَه مع انتفاء التهمة، وهذا المعنى يوجب أن لا يحلّف.
ومن أصحابنا من قال: لابد من تحليفه لتعلق حق المرتهن بمحل إقراره، فالإقرار مقبول على قاعدته، واليمين معروضة لمكان حق المرتهن.
فإن قلنا: يقبل قوله دون اليمين، سلّم إلى البيع في حق المجني عليه. وإن قلنا: إنه يحلّف، لم يخل: إما أن يحلِف، أو ينكُل، فإن حلف، ثبت الإقرار، وبيع العبد في الجناية، وتخير المرتهن إن كان الرهن مشروطاً في بيع. وإن نكل عن اليمين، فالمرتهن يحلف؛ من قِبل أن الخصومة بينهما تدور، وإنما حلفناه لحق المرتهن، فإذا نكل، فالرد على صاحب الحق. ثم إن نكل المرتهن، كان نكوله بمثابة حلف الراهن، جرياً على القياس الممهد في حكم يمين الرد، ولا خيار له؛ فإنه بنكوله أبطل حق نفسه في هذا المكان؛ فلم يملك الفسخ. هذا إذا نكل عن يمين الرد.
فأما إذا حلف المرتهن لما نكل الراهن-والتفريع على قبول قول الراهن مع يمينه- فإذا انتهى الأمر إلى ما ذكرناه، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن العبد يَقِرُّ في يد المرتهن مرهوناً، وهذا فائدة حلفه. وظاهر القياس هذا. ولا يتجه غيرُه.
والقول الثاني- أن العبد يُنتزع من يده، ويباع في الجناية، ولا أثر لنكول الراهن وحلف المرتهن إلا أنه يُغرِّمه قيمةَ العبد المرهون ليوضع رهناً، وينسب في الامتناع عن اليمين إلى تفويت حق المرتهن، ولا فائدة على هذا القول لتصوير اليمين والرد، إلا بتثبيت قيمة العبد ووضعها رهناً مكان العبد.
3606- ومما يجب التنبيه له في هذا المنتهى أنا نتخيل الأقارير ثلاث مراتب: المرتبة العليا- إقرار من مُطلق فيما يعرف حقاً له، فهو مقبول؛ فإنه صادر من مُقِر مُطلق فيما يقتضي الظاهر كونَه حقه، وليس يتضمن إقرارُه إبطالاً لحق غيره. هذه مرتبة وعليها خروج الأقارير الصحيحة.
والمرتبة الأخرى- إقرارٌ في محلٍّ هو في ظاهر الظن حق الغير، ولا ولاية للمقر.
فهذا الإقرار مردود؛ لأنه على الغير، لا في حقه، فإن اشتمل الإقرار على ما ينفي التهمة، فالإقرار قد يقبل في محل انتفاء التهمة، وهذا يظهر فيه إذا كان حق الغير يتلف بعقوبةٍ على المقِر، كالعبد يُقر بما يوجب عليه قصاصاً أو حداً. ولو كان لما وصفناه قرينة، ففي نفوذ الإقرار فيها القولان المقدمان، وهو كإقرار العبد بسرقة مالٍ.
فهذا بيان هذه المرتبة، مع ما يستثنى منها.
ومن مراتب الإقرار أن يصادف ملكاً فيه حقٌ لازم ظاهراً، والمقر مطلق في نفسه، ففي قبول أصل الإقرار خلاف. فإذا قبلناه، عدنا فترددنا في أنه يقبل من غير يمين أم مع اليمين؟ وسبب هذا التردد قيامُ حق المرتهن.
3607- ثم إن فرضنا حَلِفاً من المقر، نفذ الأمر، ولم يبق للمرتهن إلا الخيارُ في البيع. وإن فرضنا نكولَه عن اليمين، رددنا اليمين وترددنا؛ من جهة أن التفريع على قول قبول الإقرار. ويبعد في مسالك الأقارير أن يرد لمكان نكولٍ عن يمين، مع رد يمين، وبعُدَ علينا أن نعطِّل أثر اليمين بالكلية، فقلنا في قولٍ يستخرج العبد من يد المرتهن؛ فقول الراهن إذن ليس إقراراً، بل كأنه قولٌ مقبول ممن يظهر صدقُه، كقول المودعَ في الرد، وقول كل مدّعىً عليه، ومساق هذا يوجب تثبيت الرهن في يده إذا حَلف على خلاف قول الراهن.
وإن قلنا: العبد يستخرج من يد المرتهن، وإن حلف، فقولُ الراهن إقرارٌ في حقه. ولكنه لو حلف، لأبان بحلفه أن أصل الرهن لم يكن، فإذا لم يحلف وحلف المرتهن غرّمنا الراهن في حق المرتهن، كالمعتِق لما انجر إليه من التهمة لما نكل، فألزمناه القيمة لهذا التخيّل. وهذا ضعيف، ولكن نقله الأئمة المحققون.
فإن قلنا: يبقى الرهن في يد المرتهن، فلا كلام، وإن قلنا: يغرم الراهن له القيمة، فهل يثبت له الخيار؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنه يثبت؛ لأنه لم يسلم له الرهن في العبد الذي عينه. والوجه الثاني- أنه لاخيار له، كما لو سلّم العبد المشروط ثم أتلفه؛ فإنه يلتزم قيمته ولا خيار للمرتهن.
من قال بالأول انفصل عن الإتلاف بأَنْ قال: لما أقبضه، فقد وفاه حقَّه، وصار وافياً بشرطه، فانقطع الخيار لذلك. وقول الجاني فيما نحن فيه له انعكاس على أول الرهن؛ من قِبل أنه يُشعر بأن الرهن لم ينعقد.
فليتأمل الناظر تردد الفقهاء عند تركّب الموجَبات والمقتَضيات.
ثم إن قلنا: تقر العين المرهونة في يد المرتهن، فهل يغرم الراهن للمجني عليه؛ فعلى قولين مقدمين؛ من جهة أنه بنكوله حقَّقَ الحيلولةَ بين ذي الحق وبين محل حقه.
ولهذا نظائر ستأتي مشروحة في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى.
وكل ما ذكرناه تفريع على أن رهن العبد الجاني الذي في رقبته أرشٌ باطل.
3608- فأما إذا صححنا رهن الجاني، والتفريع على أن إقرار الراهن مردودٌ فيما يتضمن بطلانَ حق المرتهن. فلو قال: قد رهنت وأقبضت، ثم أقررت إقراراً لا ينافي رهني وإقباضي، فاقبلوا قولي.
قلنا: اضطرب الأئمة في ذلك؛ والقول فيه محتمل جداً. وقد تردد الأئمةُ: فقال بعضهم: إقراره بتقدم الجناية مقبول على هذا القول؛ فإنه لا منافاة بين تصحيح الرهن والقبض وبين الجناية، وهو مُطلق أقر بأمرٍ ممكن في ماله. وليس كما إذا فرعنا على أن رهن الجاني مردود؛ فإنه إذا رهن، وأقبض، ثم أقر، فإقراره يتضمن مناقضة ما قدمه من عقده وإقباضه. فلم يقبل منه في قولٍ. كما سبق.
وذهب بعض الأصحاب إلى أنا إذا رأينا رد إقراره على قولنا بفساد رهن الجاني- فيُرد إقرارُه على القول بصحة رهن الجاني؛ فإن قبول إقراره يتضمن نقضَ يد المرتهن.
والرهن إذا انبرم بالقبض، فمقتضاه لزوم حق المرتهن، فالراهن المُقبض ملتزم إلزام حق المرتهن. فإذا أتى بما يناقض قولَه ومضمونَ فعله، رُدَّ على قولَ الرد، كما يرد إقرارُه على قول فساد رهن الجاني؛ من جهة أنه بلفظه في العقد وإقباضه التزم صحته له. فإذا أقر بما ينافي الصحّةَ، رُدّ إقرارُه في القول الذي عليه التفريع.
فرع:
3609- إذا رأينا قبول إقرار الراهن على قول فساد رهن الجاني، وانتهى الأمرُ إلى بيع العبد المرهون في أرش الجناية، فإذا بعناه، فلو فضل من ثمنه شيء، فقد اختلف أصحابنا في ذلك الفاضل، فمنهم من قال: هو خارج عن هذا الرهن، لا عُلْقة فيه للمرتهن.
ومنهم من قال: ذلك الفاضل مرهون؛ فإن إقرار الراهن إنما يقبل في مقدار الأرش.
وهذا يلتفت على ما أجريناه في أثناء الكلام، من أن الراهن لو أقر بأرش يقصر عن القيمة، ورأينا قبول إقراره، فهل نحكم بانفكاك الرَّهن في الجميع أم نقضي بانفكاكه في مقدار الأرش؟ فيه التردد الذي سبق. فالقول في الفاضل ملتفتٌ عليه.
ولكن على الناظر فضلُ تدبر. فإن حكمنا بأن الزائد على مقدار الأرش لا ينفك الرهن فيه، فلا وجه لبيعه حتى ينتهي الكلام إلى كونه رهناً أم لا. وإن قلنا: الرهن مردود في الجميع، فالمصير إلى أن الفاضل رهن بعيد. فما الوجه في تنزيل هذا الخلافِ في الفاضل؟ قال شيخي أبو محمد: نحن وإن قلنا: الجاني لا يصح رهنه، فإذا أقر وقبلنا إقراره، وفضل من الثمن شيء، فلسنا نقولُ: إنه بان لنا أن الرهن بطل بإقراره. ولكن كأَنَّا قدَّمنا حقَّ المقَر له بالأرش على حق المرتهن. ولم نجعل الإقرارَ مبطلاً. فإذا فضل شيء من حق المقَر له، فيبقى حق المرتهن فيه.
وهذا بعيد عندي عن النظم، والوجه القطع بأنّا نتبين بالإقرار فسادَ الرهن. فإن كان الأرش أقلَّ، نردُّ نظرنا إلى أن بيع ما يزيد على الأرش مرود أو غير مردود.
ولا مصير إلى تصحيح البيع ورد الخلاف إلى أن الفاضل رهن أم لا.
فصل:
قال: "ولو جنى بعد الرهن، ثم برىء من الجناية بعفوٍ، أو صلحٍ... إلى آخره".
3610- العبد المرهون إذا جنى في يد المرتهن جنايةً مالية، تعلق الأرش برقبته، ولم يتضمن ذلك بطلانَ الرهن؛ فإنه لو فرض عفو عن الأرش أو فداءٌ من المولى، فالرهن يبقى مستمراً. ولكن إن لم يجر مما أشرنا إليه شيءٌ، فيباع في الأرش إن كان مستغرِقاً لقيمته. وإذا بيع، تبين ارتفاع الرهن قبيل البيع، ولو كان الرهنُ مشروطاً في بيعٍ، ثم أفضى الأمر إلى الجناية والبيعِ فيها، فلا خيار للمرتهن في فسخ البيع؛ فإن الراهن قد وفّى بما شُرط عليه، ولا نُلزمه أن يعصم المرهون عن الجناية، كما لا نُلزمه عصمتَه من طوارق الحَدَثان.
فإن قيل: لم قدمتم حقَّ المجني عليه على حق المرتهن، وهلاّ قلتم: لا يتعلق الأرش برقبة المرتهن لكونها مشغولةً بوثيقة الرهن؟
قلنا: تكلف أصحابنا في هذا كلاماً، فنذكره أولاً. قالوا: حق المرتهن له محلاّن العين والذمة، فإن فاتت العين، استقل الحق بالذمة. وحق المجني عليه ناجزاً ينحصر في العين، فقُدم، كما قدم إزالةُ النجاسة على رفع الحدث إن كان الماء لا يفي إلا بأحدهما، فإن لطهر الحدث بدلاً. وقيل: حق المجني عليه يثبت بأصل الشرع، فكان أقوى من حق المرتهن الثابت بالعقد.
وهذا تكلُّفٌ عندي. وقد تتعارض الأقوال، ولا يعدَم الفقيه كلاماً في ترجيح وثيقة الرهن. ولو لم يثبت في ذلك إلا القطعُ بمنع بيع المرهون، مع التردد في بيع الجاني، لكان ذلك متنفساً. والوجه ألا نلتزم هذا الفنَّ أصلاً؛ فنقول: حقُّ المرتهن في رقبة المرهون لا يزيد على حق المالك. ثم الأرش يتعلق بمحل الملك، فليتعلق بمحل الرهن. فإن روجعنا في تعليل أصل التعليق، لم نخض فيه الآن.
فصل:
قال: "ولو دبّره، ثم رهنه، كان الرهن مفسوخاً... إلى آخره".
3611- مقصود الفصل الكلام في رهن المدبر. ونحن نقدم عليه القولَ في رهن المعلّق عتقُه بالصفة، فنقول: رهن العبد المعلق عتقه بالدين الحالّ جائز، ثم إن بيع قبل وجود الصفة، فذاك، وإن وجدت الصفة قبل البيع، فهذا يبتني على أن العبرة في التعليقات بحالة التعليق، أو حالة وجود الصفة. وقد ذكرنا طرفاً في ذلك كافياً في غرض هذا الكتاب. وسيأتي تفصيل هذا الأصل في الوصايا والعتق، إن شاء الله تعالى.
ولو رهن المعلّقَ عتقُه بدينٍ مؤجل، ففيه مسائل: أحدها: إن تيقن أن حلولَ الأجل يسبق وجودَ الصفة، فيجوز الرهن كما يجوز بالحالّ.
والمسألة الثانية- أن يتيقن أن الصفة توجد قبل حلول الأجل، ففي جواز الرهن والحالة هذه وجهان: أظهرهما- المنع.
والثاني: أنه يجوز. والوجهان يقربان من قولين سيأتي ذكرهما في رهن الطعام الذي يسرعُ الفساد إليه، بدين مؤجَّل، يسبق فسادَ الرهن حلولُ أجله. وسيأتي ذلك في مسائل الكتاب، إن شاء الله تعالى.
ووجه الشبه لائح، فتقدير نفوذ العتق قبل الأجل كتقدير فساد المرهون. وهذا يحتاج إلى تأمل.
3612- وإنما يَسْتدُّ ما ذكرناه من البناء تفريعاً على أن العتق ينفذ عند وجود الصفة، فيقع النّظر في أن مقصود الوثيقة يزول بنفوذ العتق قبل الحلول.
فأمّا إذا قلنا: العتق المعلَّق قبل الرهن لا ينفد في حالة الرهن، فليس يتأتى والتفريع على هذا الوجه أخْذُ هذا من رهن ما يتسارع الفساد إليه؛ فإنا إذا قدرنا ثبوتَ الرهن، ورتبنا عليه منعَ نفوذ العتق قبل الأجل، فقد خرج بنا الكلام عما تقدّم.
فالوجه أن نقول: إن كنا ننفذ العتق، نأخذهُ من تسرع الفساد. وإن كنا نرى أن العتق لا ينفذ لو قدر الرهن، فالقول في صحة الرهن يخرّج على أصل آخر، وهو أن الراهن صار مدافعاً لعتقٍ صار كالمستحق بالتعليق. فهل يصح الرهن؟ وهذا الآن يخرّج على الخلاف الذي سنذكره في رهن المدبَّر مع القطع بجواز بيعه، وثَمَّ يتبيّن حقيقة ما نقول إن شاء الله تعالى.
ومن مسائل التعليق أنه إذا رهن عبداً معلقَ العتق بصفةٍ يجوز وجودها قبل المَحِل، ويجوز استئخارها عن المَحِل، ففي جواز الرهن وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا استيقنا تقدّم الصفة على الأجل. وهذه الصورة أولى بالجواز.
ووجه الفرق بيّن.
فهذا تمام ما أردنا ذكرَه في رهن المعلّق عتقُه.
3613- فأما رهن المدبر، فنذكر فيه اختلاف طرق الأصحاب، ثم نرجع إلى النص: فمن أصحابنا من بنى رهن المدبر على القولين في أن التدبير وصية أو عتقٌ بصفة؟ قال: إن جعلناه عتقاً بصفةٍ، فهذه الصفة يجوز أن توجد قبل المحل، ويجوز أن توجد بعده. فجواز الرهن يخرّج على قولي رهن العبد المعلق عتقه بصفةٍ يجوز أن توجد قبل المحل، ويجوز أن تستأخر.
ومن أصحابنا من قال: يجوز رهن المدبر قولاً وَاحداً. وهذا هو القياس؛ لأن التدبير إن كان وصية، فالرهن جائز، وإن كان عتقاً بصفة، فهو محسوب من الثلث.
وحق المرتهن من رأس المال، فهو مقدَّم على ما يحسب من الثلث، غاية ما يُقدّر أن يموت من عليه الدين، ولا يخلِّف إلا هذا العبدَ، ولو كان كذلك وكان الدين مستغرِقاً لقيمته، لصرفناه إلى الدين وأبطلنا العتق. وليس كذلك رهنُ المعلَّق عتقه بصفة توجد في حياة المعلِّق؛ فإن ذلك العتق لو نفذ في حياة المعلِّق، لكان مقدماً على الديون، فلا تأكّدَ للعتق في التعليق، وصار في حكم الاستحقاق، والرهن تصرفٌ ضعيف منحط عن البيع، اقتضى ذلك تجويزَ البيع، ومنع الرهن. والعتق الذي يقدر حصوله في المدبر ضعيف؛ من قبل انحصاره في الثلث، فيقدم الدين عليه.
وقال بعض أصحابنا: رهن المدبر باطل قولاً واحداً. وهذا هو الذي قطع به الشافعي؛ إذ قال: "رهنه مفسوخ " والمراد بالمفسوخ الباطل. وهذا يعتاده الشافعي كثيراً.
وهذا القائل يزعم أن التدبير ليس وصية محضة، فلا يلزم تصحيحَ الرهن على قول الوصية. وهذه الطريقة وإن كانت توافق النص، فليس ينقدح لي في توجيهها شيء.
وكأن الشافعي يعتقد أن التدبير على حال عقدُ عتاقةٍ شرعي، ولا يطابق هذا مذهبَه في جواز البيع، وجواز الرجوع عن التدبير على الأصح، والمدبر على الحقيقة عندنا عبدٌ قن، فإذا مات السيد، جعلنا عتقه محسوباً من محل الوصايا. وللشافعي في كتاب الصّداق كلام في أن المرأة إذا دبرت العبد المصْدقَ، ثم طلقها زوجهاً، فهل يرجع إلى نصف المدبر. فلعلنا نجد ثَمَّ بسطةً في الكلام.
وقد انتهى غرضنا الآن والله أعلم.
فصل:
قال: "ولو رهنه عصيراً حلواً، كان جائزاً، فإن حال إلى أن يصير خلاً أو مزّاً... إلى آخر الفصل".
تقرأ " مُزّاً " وهو بين شدة الخمر وحموضة الخل، وليس بمسكر على حالٍ.
وتقرأ " مُرِّياً". وهذا بعيد؛ فإن الخمر لا يصير مُرِّياً.
3614- فنخوض في غرض الفصل، ونقول: رهن العصير جائز بالدين الحال.
فلو رهن العصير وأقبضه، فاستحال العصير خمراً في يد المرتهن، فلا نحكم بأن الخمرَ توصف بكونها رهناً أصلاً، واختلف الأصحاب في العبارة عنها. قال قائلون: بطل الرهن لمّا استحال العصير خمراً؛ فإن الخمر ليست مالاً، وما لا يكون مالاً لا يكون رهناً.
ثم إذا استحالت الخمر خلاً، فالخل مرهون، وهذا القائل يقول: عاد الرهن من غير إعادة، كما زال من غير إزالة، وليس كما لو فسخا الرهن؛ فإنه لا يعود ما لم يعيداه؛ من جهة أن الرهن زال عن قصد ورضا، فلا يعود إلا بمثل ما زال به.
ومن أصحابنا من قال: إذا استحال العصير خمراً، فالرهن موقوف لا يحكم ببطلانه، فإن عاد خلاً، بان أنه لم يبطل. وهذه الطريقة عريّةٌ عن التحصيل؛ من جهة أن لا توقف في أن الخمر ليست مالاً، والتبيّن إنما يحسن لو كنا نتبين أن الشدة لم تطرأ.
والطريقة الأولى قاصرة أيضاًً عن شفاء الغليل والكشف التام.
والوجه عندنا أن يقال: من اتخذ عصيراً، وقصد تركه إلى أن يصير خلاً، فإذا صار العصير خمراً، فالخمرة ليست مملوكة، ولكن لمالك العصير فيها حقُّ ملكٍ، وإن لم يكن حقيقةَ ملكٍ، فهو على حق الملك فيها، فإذا انقلبت خلاً، كان على حقيقة الملك الآن؛ من جهة أنه استفاد هذا المالَ عن اختصاصه بالخمر. كذلك المرتهن له حق اختصاص بالخمر، وليس ذلك الحق رهناً، فإذا انقلبت الخمر خلاً، عاد حقه في الرهن لترتبه على ما ذكرنا نظيره في الملك.
3615- ولو رهن شاة وسلمها، فماتت، فلا شك أن الرهن لا يبقى في الميتة، وإنما النظر في جلدها إذا دُبغت، فهل نحكم بأن الرهن يعود في ذلك الجلد من غير استئناف عقدٍ؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يعود الرهن كالخمر إذا عادت خلاً؛ فإنها تعود رهناً، كما تقدم.
والوجه الثاني- لا يعود الجلد إذا دبغ رهناً؛ فإنه ليس ينقلب بنفسه مدبوغاً، بل لابد من إتيان فعل فيه. وإنما يستقيم العَوْدُ من غير اختيارٍ رهناً إذا كان الانقلاب على هذه الصفة.
ومن غصب خمراً أو جلداً غير مدبوغ، ثم استحالت الخمر خلاً، ودبغ الغاصبُ الجلدَ، فهل يجب عليه ردُّ الخل والجلدِ المدبوغ؟ هذا من القواعد العظيمة في الغصب، وهو شعبة من أصلٍ يحوي تقاسيم. والوجه تأخير جملته إلى كتاب الغصب. والعودُ إلى ما يتعلق بهذا الكتاب.
3616- فلو باع عصيراً وسلمه عصيراً، فقد تم العقد، وتحمل ما يفضي إليه من انتقال العهدة. فلو استحال في يد المشتري خمراً، فليس يتعلق بذلك من تبدل قضايا العقد شيء في غرضنا، وليس كالمرهون يستحيل خمراً؛ فإن مقصود الرهن منتظرٌ، وهو بيعُ الرهن في الدين عند مسيس الحاجة إليه، فوقع الاعتناءُ باستحالة العصير في يد المرتهن.
وشبه الأئمة بيع العصير واستحالتَه خمراً في يد البائع باستحالة العصير خمراً في يد المرتهن؛ فإن البيع لزم بانتفاء الخيار عنه، ولا يتوقف لزومُه على الإقباض. ولكن انتقال الضمان ونفوذ التصرف منتظر بعدُ، فقال الأئمة إذا استحال العصير خمراً في يد البائع، ثم استحالت الخمر خلاً، فالعقد قائم، والقول في انقطاعه وعَوْدِه، أو في وقوف الأمر فيه على نحو ما قررناه في المرهون بعد القبض، وقال القاضي: النص ما ذكرناه في الرهن والبيع وهو الأصل.
وكان لا يمتنع في القياس أن نقول: العصير المبيع إذا استحال خمراً، والخمر ليست بمالٍ، فالعقد قد عدم موردَه ومحلَّه، فإذا انقلبت الخمر خلاً، فالقياس أن نجعل هذا على قياس عَوْد الحِنْث فيه إذا علق الرجل طلاقاً أو عتاقاً، ثم بت النكاح، وأزال الملك عن الرقبة، فلو فرض عودٌ بعقدٍ، ففي حكم التعليق السابق في الملك والنكاح اللاحقين قولان مشهوران.
ووجه التشبيه أن العقد في استحالة العصير خمراً على حالةٍ، لو فرض ابتداءُ العقد، لم يثبت لانعدام المحل، لا لعجزٍ أو غيره من الموانع. والأمر على هذا الوجه في عود الحِنْث، فإن النكاح انبتَّ، وكذلك الملك، ولم يبق محلٌّ يفرض فيه نفوذ طلاق أو عتاق. ثم كان في العوْد ما ذكرناه.
فإن كانت الخمرة تستحيل بنفسها، واعتقد المعتقد ذلك فرقاً، فهذا لا يعارض الفقه الذي ذكره القاضي من تحقق انعدام المحل، ولكنه لم يذكر هذا إلا منبهاً على طريق المعنى. والمذهب ذاك الذي نقلناه.
وكل هذا في استحالة العصير بعد القبض.
3617- فأما إذا استحال العصير خمراً قبل القبض، فإن جرى الإقباض على الشدة، فالقبض فاسد.
ولو استحالت خلاًّ، فلا عود للرهن؛ فإن الركن الأعظم جرى على الفساد. وهو كما لو رهن الخمرة المحترمة، ثم استحالت، فالعقدُ على الفساد، ولا ينقلب إلى الصحة بسبب انقلاب الخمر. ولو استحال العصير خمراً قبل القبض، وانقلب خلاً قبل القبض، فهل يفسد الرهن فساداً لا يعود بالانقلاب إلى الحموضة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يفسد لانعدام المحل في حال جواز الرهن وضعفه؛ إذ هو غير منتهٍ إلى اللزوم بعدُ.
والثاني: يعود العقد، كما ذكرناه بعد القبض.
وهذان الوجهان يقربان من الأصل الذي مهدناه في موت الراهن قبل القبض وجنونه.
3618- وألحق الشيخ أبو علي بهذا الأصلِ ما لو رهن الرجل عبداً، فجنى قبل القبض، وتعلق الأرش برقبته. وقلنا: رهن الجاني فاسد. وقد ثبت أن طريان الجناية بعد القبض لا يفسد الرهن، ولكن يُثبت حقَّ رفعه بالبيع في الجناية. فإذا فُرض ذلك بعد تأكد الرهن بالقبض، ففي ارتفاع الرهن وانفساخه وجهان.
وهذا الذي ذكره الشيخ أبعد من انقلاب العصير خمراً؛ فإن العبد وإن جنى، فهو قائم والملك فيه دائم.
وقد يلزم على هذا المساق تخريج وجهين فيه إذا أبق العبد المرهون قبل القبض، وانتهى إلى حالة يمتنع ابتداء الرهن فيه. ويجوز أن يُتخيّلَ فرق من جهة أن الجناية بعد القبض تؤثر في الرهن، والإباقُ لا يؤثر بعد القبض.
وإذا كان أخذ هذه المسائل من طريان الجنون والموت، فليس الإباق بعيداً إذا فُرض طريانه قبل القبض عن التردد، وتقدير الخلاف.
وإذا بانَ ما ذكرناه في استحالة العصير خمراً قبل القبض، فإن قلنا: ينفسخ الرهن، ولا يعود، فإذا جرى الإقباضُ على الشدة، فالقبض فاسد، والرهن منفسخ، ولا توقع في العَوْد على الوجه الذي عليه نفرعّ، فاستحالة الخمر خلاً بعد ذلك لا أثر له. فإن أعادا عقداً بعد الحموضة، لم يخف حكمه.
وإن قلنا: لا ينفسخ الرهن انفساخاً لا يعود، فإذا جرى القبض على الشدة، فالقبض فاسد، فإذا استحالت الخمر خلاً، فعقد الرهن باقٍ، والذي جرى ليس بقبضٍ، فلابد من قبضٍ بعد الحموضة. وإذا ورد العقد على يدٍ، ففي تضمن العقد الإقباض كلامٌ مضى. فأما إذا أردنا إثبات قبضٍ مجدد على يدٍ مستدامةٍ، فلابد من إقباض من طريق الصورة. فلو قال: اقبضه لنفسك، ففيه خلافٌ، قدّمته في كتاب البيع. وهذا ذاك بعينه. ولو قال أمسكه لنفسك، لم يكن إقباضاً.
وإذا جوزنا له أن يقبض لنفسه بنفسه، فلابد من صورة نجريها يقع مثلها قبضاً ابتداء، هكذا ذكره الأئمة وصرّحوا.
وذكر صاحب التقريب أن الإذن في الإمساك، واليدُ دائمة يخرّج على أن العقد هل يتضمن إقباضاً؟ ثم رجّح، فقال: هذا أولى؛ فإنه يعرض لنفس القبض. فإذا كنا نجعل ضمن العقد إقباضاً، فلأن نجعل الإذن في الإمساك قبضاً أولى.
وهذا قياس لست أنكره. ولكن صرح الأئمة بخلافه.
هذا تمام البيان في هذا الفصل. ثم وصل الشافعي بهذا الفصل تخليل الخمر والمعالجةَ في استعجال الحموضة. وذكر الأصحاب هذا الفصل هاهنا فنتأسَّى بهم.
فصل:
3619- الخمر تنقسم إلى خمرة غير محترمة، وإلى خمرة محترمة، فأما التي لا تحترم، فهي التي اتخذها المالك لتكون خمراً، فهذه الخمرة غيرُ محترمة؛ وتتعين الإراقة على أهلها، وإذا التمسوا أن يكتفى بإيقاع الحيلولة بينهم وبينها حتى تتخلل بأنفسها لم نُجبهم إلى هذا، وعجلنا إراقتها، وهذا مشعر باستحقاق الإراقةِ فيها؛ فإنا إن عولنا على محاذرة مخامرتهم لها، وعدم الأمن بهم فيها، فالحيلولة تحسم هذه المادة وتقطعها ولا اكتفاء بها، فوضح أنها مستحقة الإراقة.
فلو لم يتفق إراقتها حتى استحالت خلاًّ من غير علاج، ولا تسبب، فالخل مالٌ، ولا خلافَ أنه لا يراق على صاحبه.
فنقول: الخمر وإن كانت مستحقة الإراقة، فقد انعدمت الشدّة، وكأن تيك العين قد زالت، والخل رزق جديد. هذا متفق عليه.
3620- ولو خلل مخلل هذه الخمرة التي وصفناها بكونها مستحقة الإراقة، نُظر: فإن طرح فيها عيناً من ملح، أو خلٍ، أو غير ذلك، فانقلبت خلاً، فهو نجس محرّم. وعلل بعض أصحابنا ذلك بأن العين الواقعةَ في الخمر تنجست بملاقاتها، فإذا انقلبت الخمر خلاً، نجسته تيك العين المتنجسة بملاقاة الخمر.
وهذا قول غيرُ صادر عن فكرٍ قويم؛ فإنه لا معنى لتنجيس العين إلا اتصال أجزاء الخمر بها، وجوهر تلك العين على الطهارة، فإذا انقلبت الخمر خلاً، فمن ضرورة ذلك أن تنقلب تلك الأجزاء التي لاقت العينَ الواردةَ على الخمر؛ فلا حاصل إذن لذلك، والتعويل في تحريم الخل على تحريم التخليل كما ذكرناه في (الأساليب).
هذا قولنا في التخليل بطرح شيء في الخمر، والحكم متفق عليه، والتعويل على تحريم التخليل.
3620/ م- ولو لم يطرح في الخمرة المستحقة الإراقة شيئاًً، ولكن نقلت إلى ظل أو شمس، وكان ذلك سبباً في المعالجة، ومعاجلة تحصيل الحموضة، فإذا زالت الشدة، ففي المسألة وجهان بناهما بعض الأصحاب على التردد الذي ذكرناه في التعليل في المسألة الأولى. قالوا: إن عللنا بالنجاسة، فهذا المعنى مفقود هاهنا؛ لأنه لم يطرأ على الخمرة ما ينجسُ بها، وإن عوّلنا على التحريم، فالتخليل عبارة عن التسبّب إلى إكساب الخمر الحموضة. وهذا المعنى يحصل بالتشميس، والنقل. ولا حاجة إلى هذا البناء؛ فإن فصل النجاسة باطل قطعاً. وإن اعتمده أبو يعقوب وطائفة من أئمة الخلاف. ولكن توجيه الوجهين في التشميس والنقل يهون من غير بناءٍ، فأحد القائلين يتمسك بقصد التخليل وقد حرمه النبي عليه السلام في الخمرة المستحقة الإراقة، ولما قال أبو طلحة في خمور الأيتام: أخللها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا». ولم يتعرض للتفصيل في التخليل، فهذا وجه.
والوجه الثاني أن الخل يحلّ اعتباراً بالإمساك.
ثم لو فرض إمساك الخمر المستحقة الإراقة على قصد التخليل، فتخللت، ففي المسألة وجهان أيضاًً بالترتيب على الوجهين في النقل والتشميس، وهذه الصورة أولى بالحلّ؛ من جهة أنه لم يوجد فيها فعل، والقصد المجرد يبعد أن يحرم.
ولو اتفق لُبث من غير قصد إليه، فاستحالت الخمر في تلك المدة، فالخل حلال بلا خلاف؛ لما قدمناه في صدر الفصل.
فهذا بيان الخمرة التي ليست محترمة.
3621- فأمّا الخمرة المحترمة وهي خمرة الخل. وتصوير ذلك أن اتخاذ الخل جائز بلا خلاف، والعصير لا ينقلب من الحلاوة إلى الحموضة من غير توسط الشدة، فإذا انقلبت خمراً، فلا سبيل إلى إتلافها؛ إذ لو أُتلفت، لما تصوّر اتخاذُ الخل.
وهذى بعضُ الناس فقال: نُضرب عنها، فإن عثرنا عليها خمراً، أرقناها، ولم يصر إلى هذا أحد من أئمة المذهب، وإنما هو من ركوب أصحاب الخلات. ثم كان يستد هذا في حق من يأمر بالمعروف، فمن يتخذ الخل في نفسه يعلم انقلاب العصير خمراً، ويفطن لدركِ رائحتها، وهو مقَرٌّ عليها، فلا اعتداد بأمثال هذا.
وذكر الشيخ أبو علي في الفصل كلاماً أؤخره عن ترتيب المذهب، ثم آتي عليه.
والقدر الذي فيه اكتفاء أن هذه الخمرةَ غيرُ مراقة على صاحبها، وإذا استحالت خلاً بالإمساك، فالخل طاهر محترم. وكذلك تكون الخلول.
ولو استعجل صاحب الخمر وخلل، نُظِر: فإن كان التخليلُ بإلقاء شيء من ملح أو غيره، فظاهر المذهب منعُ هذا، وإذا فعل، فالخل على موجَب المنع محرّم، ويشهد له حديث أبي طلحة، فإنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خمور الأيتام، وما كانت اتخذت إلا واتخاذها جائز، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تخليلها.
ومن أصحابنا من قال: يحل التخليل في الخمر المحترمة؛ فإنها ليست مستحقة الإراقة، وهذا القائل يجيب عن حديث أبي طلحة، ويقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم براقتها، والخمرة المحترمة لا تراق بالإجماع، فلعلَّ تلك الخمرةَ كانت اتخذت بعد التحريم، فإن العصير ينقلب في يوم في حر الحجاز خمراً، ولعل هذا كان والأمر على التشديد، كما يدّعيهِ أصحاب أبي حنيفة. وللنظر في هذا مجال على الجملة.
ولا مبالاة إن جوزنا التخليل بما ذكره أبو يعقوب من فصل النجاسة. هذا إذا كان التخليل بإلقاء شيء في الخمرة المحترمة.
فأما إذا كان التخليل بالنقل من شمس إلى ظل، أو من ظل إلى شمس، فالمذهب جواز ذلك، وإلحاقُه بالإمساك.
وذهب طائفة من أئمة المذهب إلى تحريم ذلك، وإلحاقِه بالتخليل المحرم.
وهذا رديء مخالف لما درج عليه الأولون فعلاً، ولم يُبْدَ عليهم نكير.
وكان شيخي أبو محمد يقول: إن طرح في العصير ملحٌ، وكان سبباً لتعجيل التخليل، ففيه تردد بين الأصحاب، وهو في معنى النقل. وهذا عندي بعيد؛ فإن المعالجة لم تصادف خمراً.
وسمعته مرة يقول: تلك الأعيان لا حاجة إليها فتنْجُس بالخمر، ثم لا يزول حكم النجاسة عنها، بخلاف نجاسة الظروف. وهذا تردد على طريقة أبي يعقوب، وهي في أصلها باطلة، والتفريع عليها باطل؛ فإنا لو التزمنا تمحيص العصير، لنقَّيناه من العناقيد، والثجير، والتزمنا تصفيته جهدنا عن الأقذاء، وهذا أمر طويل لا يستريب محصل في حَيْده عن سمت الشريعة.
نعم لو وقع شيء في الخمرة من غير قصد، فقد رأيت فيه تردداً لبعض الأصحاب إذا منعنا التخليل.
3622- وقد نجز التفصيل في التخليل، وحان أن نذكر ما وعدناه من كلامٍ للأصحاب خارجٍ عن ضبط المذهب، وذلك في صورتين: إحداهما- أن العناقيد إذا استحالت أجوافها إلى الشدة، والحبات متصلة بالعساليج، فقد ذكر القاضي وطائفة من الأئمة وجهين في جواز بيعها، وطردوا هذا الخلافَ في بيع البيضة التي حال مُحُّها وماحُها دماً وهو إلى الانقلاب إلى تخليق الفرخ. ومن ذكر هذين الوجهين
لم يخصهما بحال من يقصد اتخاذَ الخل، حتى يحمل على الحرمة. نصّ عليه القاضي، ولم يفرض المسألةَ إلا فيمن يتخذ الخمر، ثم روجع في نجاسة أجوافها، فتوقف، وهذا عظيم؛ فإن متضمنها الخمر الشديدة. ولا يليق بقاعدتنا أن ننفي حكمَ النجاسة عما في بواطنها، ثم نقول: لو اعتصرت، صارت نجسةً، والانفصال لا يتضمن تثبيت النجاسة.
وهذا يوافق مذهب أبي حنيفة، إذ قال: الدماء في العروق في خلل اللحم ليست نجسة؛ فإذا سفح وزايل، اكتسب النجاسة، وزعم أنه تمسك في هذا بظاهر قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}[الأنعام: 145] وهذا مخصوص بالدم، فلا وجه لهذا إذنْ، ولا خروج للخلاف في البيع إلا على أمرٍ وهو أن البيضة ظاهرها طاهر، والنجاسة مستترة بالقيض استتار خِلقة، والبيضة في نفسها صائرة إلى رتبة الفرخ، فكان ابتياع البيضة وحشوها الدم كابتياع العصفورة وحشوها النجاسة، فاعتمد البيعُ مقصودَ البيضة، وطهارة الظاهر. والعنقودُ طاهرٌ وحشوه نجاسة مستترةٌ، وهي إلى الحموضة.
فإن قيل: قد فرضتموها في حال من يقصد الخمرَ؟ قلنا: نعم ولكن العادة جاريةٌ بأن من يبغي الخمر يعتصر، ولا يصب في الدنان إلا العصير، فإن الثجير وعفوصتَه تفسد شدة الخمر، فإذا وجدنا العناقيد، لم نعول على قصد المتخذ إذا كان ما وجدناه مائلاً عن عادة من يقتني الخمور. وهذا القائل يقول: لا نجوز إتلافَ العناقيد على أربابها؛ إذ يستحيل الجمعُ بين جواز بيعها وبين جواز إفسادها. وليس كالمرتد يباع؛ فإنّ قتله غير مستحق، ولكنه مدعوّ قهراً إلى الإسلام، بالتعنيف. والقتلُ المستحق قد يمنع صحة البيع في العبد الذي استوجب القتلَ في المحاربة. وقد ذكر الأصحاب منعَ البيع في المرتد، كما قدمته.
فهذا تلخيص القول في ذلك.
فإن قيل: أليس اختلف الأصحاب في جواز الصلاة مع البيضة المذرة، فهلا فهمتم من هذا الاختلاف الترددَ في نجاسة حشو البيضة؟ قلنا: جواز الصلاة مأخوذ من الاستتار الخِلقي المشبه باستتار النجاسة بالحيوان. وقد طرد بعض الأصحاب الخلافَ في جواز الصلاة مع حمل قارورة مصممة حشوها نجاسة.
هذا بيان إحدى الصورتين.
3623- الصورة الأخرى في الخمرة المحترمة، كما سبق وصفها- قطع الأصحاب بأنها ليست مالاً، ولا تضمن إذا أُتلفت، وليس على متلفها إلا التوبيخ والتأديب، على ما يراه صاحب الأمر. وذكر الشيخ أبو علي تردداً في بيعها، وتردداً في طهارتها وهي خمرة مشتدّة محرّمة، وهذا خرم المذهب، ومصادمة القاعدة. وما ذكرناه من استحالة العصير خمراً، وارتفاع الرهن، وعوده إذا صارت الخمر خلاً، والفصل بين ما قبل القبض وبعده، يخالف جواز بيع الخمر، فلا وجه لهذا. وإنما التردد في مسألة العنقود. وفيها من الإشكال ما تقدّم.
والوجه القطع بمنع بيعها أيضاً، لنجاسة أجوافها، وليست هي حيوان، فإن الحيوان لاختصاصه بالحياة ممتاز عن النجاسات المجاورة له، والبيضة والعنقود وإن انتظمت ظواهرها وبواطنها خِلقة، فإذا بيعت بجملتها، فلا تمييز لبعضها عن البعض بالحياة والجمادية، فالبيع فيها ممتنع؛ وأيضاً فإن المقصود منها أجوافها وحشوها نجس، والمقصود من الحيوان نفسه.
فهذا تمام ما يحضرنا في بيان ذلك.
فصل:
ولو قال: "رهنتكه عصيراً، فصار في يدك خمراً... إلى آخره".
3624- إذا اختلف الراهن. والمرتهن في عيبٍ ثابت، فقال الراهن: حدث العيب في يدك ولا خيار لك. وقال المرتهن: حدث العيب في يدك أيها الراهن، وقد اطلعتُ عليه الآن، فأرده وأفسخ البيع الذي شرطتُ هذا الرهنَ فيه، فالقول قول الراهن؛ قياساً على اختلاف البائع والمشتري في قدم العيب وحدَثِه؛ فإذا كنا نجعل القول قول البائع استدامةً للعقد، فلنجعل هاهنا القولَ قولَ الراهن استدامة للرهن والبيعِ الذي الرهنُ شرطٌ فيه. وهذا واضح.
ولو كان رهن عصيراً، فرأيناه خمراً في يد المرتهن، وقد اختلف الراهن والمرتهن، فقال الراهن: أقبضتك العصير، فانقلب خمراً في يدك. وأنا قد وفيت بالشرط، ووفيتك المشروط. وقال المرتهن: أقبضتني الخمر وكانت الاستحالة إلى الشدة في يدك، فالقول قول من؟ هذا يبتني على ما مهدناه من أن الإقباض على الشدة فاسد.
وقد اختلف الأصحاب في أن العصير إذا استحال خمراً في يد الراهن؛ هل ينفسخ الرهن؟ وقد مضى ذلك الآن. فالراهن يدّعي استقرار الرهن، والمرتهن يأبى ذلك.
ففي المسألة قولان:
أحدهما: القول قول الراهن؛ لأنه ادّعى إقباضه عصيراً، والأصل بقاؤه على صفة الحلاوة. والقول الثاني- أن القول قول المرتهن؛ فإن الراهن يدّعي عليه أنه قبض قبضاً صحيحاً، وهو منكر للقبض، والأصل عدمه، ولا حكم للقبض الذي اعترف به، فإنه فاسد ليس قبضاً شرعياً، فكأن لا قبض. وقيل: القولان يقربان من اختلاف الأصحاب في حد المدعي والمدعَى عليه، كما سيأتي في الدعاوى.
ومن أصحابنا من قال: المدعي مَنْ يدعي أمراً خفياً، والمدّعى عليه من يذكر أمراً جلياً. ومنهم من قال: المدعي من لو سكت تُرِك والسكوت، والمدعى عليه من لا يترك وسكوته. ووجه التخريج أن المرتهن لو سكت تُرك، فهو المدعي إذاً، والقول قول الراهن؛ فإنه لو سكت لم يترك.
وإن قلنا: المدعي من يدعي أمراً خفياً، فالمدعي هو الراهن إذاً على هذا؛ فإنه يدعي القبض المبرم، والأصل عدمه. والمرتهن يدعي عدم القبض وهو الأصل.
ولو قال المرتهن: كنتُ شرطتُ الرهنَ، وقد رهنتني خمراً إذْ رهنتني. وقال الراهن: بل رهنتك عصيراً. وهذه المسألة مفروضة فيه إذا شرطا رهناً معيناً، وفرض الوفاء به، ثم قال المرتهن: العين التي شرطنا رهنها كانت خمراً. وقال الراهن: بل كانت عصيراً، فهذا يبتني على أن شرط الرهن الفاسد هل يُفسد البيعَ؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما.
فإن قلنا: إنه لا يوجب فساد البيع، فالتنازع في الوفاء بالشرط، وعدم الوفاء به يخرّج على القولين، والاختلافِ في حالة القبض. وهذا بيّن.
وإن قلنا: شرط الرهن الفاسد يفسد البيع، فالذي قالاه نزاع في فساد البيع وصحته، وقد ذكرنا اختلاف أصحابنا فيه إذا اختلف المتعاقدان في شرط مفسد، فادّعاه أحدهما ونفاه الثاني. وقد استقصينا القول فيه في باب اختلاف المتبايعين.
فرع:
3625- سئل عنه القاضي فقيل: إن اشترى لبناً في قمقمة، فصبه البائع في قمقمةٍ للمشتري، فَعَلتْه فأرةٌ، فاختلفا، فقال المشتري: بعتني اللبن طاهراً فوقعت فيه فأرة. وقال البائع، لا بل كانت الفأرة في قمقمك.
فكان من جوابه أن قال: هذا يخرّج على القولين في إقباض الخمر والعصير؛ فإن المشتري يقول: أقبضتنيه نجساً، والبائع يقول: بل أقبضتك طاهراً، وحصلت النجاسة في يدك من قمقمك.
ولو قال البائع: كانت هذه الفأرة في قمقمك. وقال المشتري: بل كان اللبن حالة العقد نجساً لكون الفأرة فيه. فهذا نزاع في أن العقد عقد على الفساد أم لا؟ وهو مناظر اختلاف المتبايعين في فساد العقد، كما ذكرناه.
هذا جوابه. وتفصيله:
فإن قيل: إذا قال المشتري في الصورة الأولى: تنجس اللبن في يدك، فهو ادّعاء انفساخ البيع. قلنا: نعم هو كذلك، والعصير إذا استحال خمراً، فهل نحكم بانفساخ الرهن.
فإن قيل: إذا كانت النجاسة في ظرف المشتري، فاللبن ينجس بملاقاة النجاسة، فليس ما ادعاه البائع إقباضاً على الصحة. قلنا: ليس كذلك؛ فإن اللبن إذا حصل في فضاء الظرف، ثبت له حكم القبض جزءاً جزءاً، قبل أن يلقى النجاسة. هذا بيان قوله.
فلينظر الناظر في ذلك.
فصل:
قال: "ولا بأس أن يرهن الجارية ولها ولد صغير؛ لأن هذا ليس بتفرقة... إلى آخره".
3626- التفرقة في البيع بين الأم وولدها الصغير حرام؛ قال النبي عليه السلام: «لا تُولَّه والدة بولدها». ثم إن بيعت الجارية دون الولد، أو بيع الولد دون الجارية، وارتكب المتعاقدان محظور التفرقة، ففي صحة البيع قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب السير، إن شاء الله تعالى، وفيه نذكر حد الصغر المؤثر، والتفريقَ المؤثر بين الوالد والولد، ثم بين جميع المحارم.
وقدرُ غرضنا الآن أن صحة البيع الواقع على حكم التفرقة فيها قولان:
أحدهما: وهو الجديد أن البيع باطل.
والثاني: وهو القديم أن البيع صحيح.
قال الشافعي: لو رهن الأمَّ دون ولدها أو على العكس، فالرهن صحيح؛ لأن ذلك ليس بتفرقة بينهما.
واختلف أصحابنا في معنى هذا اللفظ، فمنهم من قال: معناه أن الرهن لا يوجب التفرقة؛ فإن منافع الأم للراهن، فيجمع بين الأم وولدها، ويكلفها احتضانه وإرضاعه. ومنهم من قال: معنى قوله: إن ذلك ليس بتفرقة أن البيع منتظرٌ، فإذا مست الحاجة إليهِ، لم يفرق بين الأم والولد، فإذا ثبت صحة الرهن فإذا مست الحاجة إلى البيع بأن حَلّ الدينُ، فهل يجوز إفراد الأم بالبيع- والتفريع على أن التفريق مفسد للعقد؟ على هذا القول وجهان:
أحدهما: أن البيع يبطل إذا تضمن التفريقَ؛ طرداً للقياس.
والثاني: لا يبطل؛ لأن هذا بيع قهري، ولا يمتنع التفريق قهراً لأمر شرعي، وهذا كما لو كان للجارية ولد صغير حُر، فبَيع الأم جائز، والحرية فرقت بين الأم والولد. كذلك اختصاص الرهن بالجارية يوجب تخصيصه بالبيع.
التفريع:
3627- إن قلنا: تباع الجارية والولد عند مَحِل الدين، وهو الذي نص عليه الشافعي، فلا حظ للمرتهن في الولد، وقد جرى البيع في الأم والولد، فإذا أردنا توزيع الثمن على الجارية والولد، فما وجه التوزيع؟
هذه المسألة تقتضي تقديم أخرى عليها، وهي بين أيدينا، ولكنا لا نجد بُدّاً من ذكرها الان في غرضٍ لنا.
فنقول: من رهن أرضا بيضاء، وكان فيها نوى، فقبض المرتهن الرهنَ، ثم أنبتت النوى أشجاراً، فلا سبيل إلى قلعها، ولكن إذا حل الحق وبعنا الأرض والغراس، فكيف يقبض الثمنَ المأخوذَ على الأرض والغراس؟ اختلف أئمتنا في ذلك، فقال بعضهم: تقُوّم الأرض بيضاء فإذا قيمتها مائة، ثم نقوّمها مع الغراس، فإذا قيمتها مع الغراس مائة وعشرون، فقد زاد تقدير الضم على تقدير الانفراد في الأرض البيضاء بعشرين درهماً، والعشرون من المائة والعشرين سدسها، فنحفظ هذه النسبة، فإذا هي نسبة الأسداس، فإذا بعنا الأرضَ والغراس وزّعنا الثمنَ على النسبة التي معنا، فصرفنا خمسةَ أسداسه إلى المرتهن، وصرفنا سُدسه إلى الغرماء الباقين.
هذا وجه.
والوجه الثاني- أنا نقوّم الأرضَ بيضاء، فإذا قيمتها مائة، ونقوم الغراس في الأرض مفردة، فإذا قيمتها خمسون، فنضبط النسبة بأثلاث، فنوزع الثمن عليها، فنصرف ثلثي الثمن إلى المرتهن، وثلثه إلى الغرماء. فهذا بيان الاختلاف في مسألة الأرض والغراس.
3628- عدنا الآن إلى الجارية وولدها وقد بيعا. وقد يحسن فرض هذه المسألة إذا كانت الأم مفردة وليست ذات ولد، أو بيعت دون ولدها، وكان ثمنها أكثرَ لانفرادها، وإذا بيعت مشتغلة بحضانة الولد، فقيمتها أقل، وعند ذلك يظهر التردد والاختلاف، وقد اختلف أصحابنا في كيفية التوزيع، فقال بعضهم: التوزيع على الأم والولد كالتوزيع على الأرض والغراس، وفيه وجهان نعيدهما:
أحدهما: أنا نقوم الأم وحدها فإذا قيمتها مائة. ونقوّمها مع الولد، فإذا قيمتها عند الضم مائة وعشرون. فقد زاد سدس، فليقع التوزيع على الأسداس. هذا وجه.
والوجه الثاني- أنا نقوم الأم وحدها، فإذا قيمتها مائة، ونقوم الولد وحده مضموماً إلى الأم، فإذا قيمته وحده مع الأم خمسون، فيظهر لنا نسبة الأثلاث. فليقع التوزيع كذلك. وهذا بعينه ما ذكرناه في الأرض والغراس في الوجهين.
هذه طريقة. وهي اختيار الشيخ أبي علي، والقاضي.
وذكر صاحب التقريب هذه الطريقة، وذكر معها طريقة أخرى واختارها، فقال: ينبغي أن تقوم الأم مع الولد وهي حاضنة، ويقوم الولد مع الأم، ولا يفرد واحد منهما بالتقويم على تقدير الانفراد، بخلاف مسألة الغراس، والفرق أن الجارية رهنت وهي ذات ولد، فاستحق المرتهن بيعها على نعت الضم، وليس الأرض كذلك؛ فإنها رهنت إذْ رهنت ولا غرس، ثم حدث الغراس من بعدُ، كما سنصوره على الاستقصاء، إن شاء الله تعالى. ونحن قدرنا الأرض بيضاء في الوجهين جميعاً، ورددنا الاختلاف إلى كيفية اعتبار قيمة الغراس، وهاهنا لا تعتبر قيمة الجارية وحدها لما نبهنا عليه. فليتأمله النّاظر؛ فإنه حسن.
قال صاحب التقريب: نظير مسألة الغراس من الجارية ما لو رهنت، ولم تك ذاتَ ولد، ثم علقت بمولود رقيق، وولدت فيطابق هذا على صورة الغراس؛ من حيث انعقد الرهن وتم والأم على نعت التفردِ، كالأرض البيضاء، فلا جرم يجري في التوزيع عند بيعها الخلافُ الذي ذكرناه في الأرض والغراس.
3629- ومن تمام البيان في هذا الفصل: أن ما ذكرناه من المطابقة في التوزيع إنما يحسن وقعه وأثره إذا حُجر على الراهن، أو مات والديون محيطةٌ مستغرقة، واختلفت الأغراض في التوزيع، فالكلام على ما ذكرناه.
فأما إذا لم يفلس الراهن، ولم يضق مالُه، وبعنا الجارية والولد، فعلى الراهن توفيرُ الدين كَمَلاً، ولا يكاد يظهر فائدة المسألة. هكذا قال الشيخ أبو علي.
وهذا فيه فضل نظرٍ يُبيّنُه كلامٌ: وهو أن المرهون إذا بيع في دين المرتهن، فلو أراد الراهن أن يصرف طائفة من مالِه إلى دين المرتهن سوى الثمن المحصّل من بيع الرهن فهل يسوغ ذلك أوْ لا؟ والوجه القطع بجوازه، كما لو أدى الدين، وفك به الرهن، فتَعَلُّقُ حقِّه بثمن البيع، كَتَعَلُّق حقِّه بالمرهون قبل أن بيع.
ولو أراد أن يتصرف في ثمن الرهن قبل أن يؤدي حق المرتهن. لم يكن له ذلك.
وإذا أراد أن يتصرف فيما يقابل الولد المضمومَ، فله ذلك، وثَمَّ القدر الذي يقابل به الولد فيه الاختلاف المقدم.
ولاح بهذا أن أثر الخلاف قائم في حق المطلَق قيامَه في حق المحجور. والغرض أن نبيّن أن متعلَّق الرهن والوثيقة من الثمن المحصل من الجارية والولد كم؟ فإذا بانت الكمية، ظهر أمرُها عند الحجر في الفضّ على الغرماء، وعلى المرتهن.
ويظهر أثرها حيث لا حجر في تصرف الراهن فيما يزيد على مقدار الرهن.
فصل:
قال: "ولو ارتهن نخلاً مثمراً، قال ثمر خارج من الرهن... إلى آخره".
3630- إذا رهن نخيلاً عليها الثمار، واقتصر على تسمية النخيل، ولم يسم الثمار نافياً ولا مُثبتاً، نُظر: فإن كانت الثمار مؤبّرة، فلا شك أنّها لا تدخل في مطلق تسمية النخل؛ فإنها لا تدخل في تسميتها في عقد البيع على قُوّته، فلأن لا تدخل في حكم الرهن تحت الأشجار أولى، وإن كانت النخيل مُطْلِعَةً، ولكن لم تكن مؤبرة، فقد ذكرنا في كتاب البيع أنها تدخل تحت تسمية النخيل في البيع المطلق، وهل تدخل في حكم الرهن تحت تسمية النخيل؟ ظاهر المذهب أنها لا تدخل.
والرهنُ في ذلك يخالف البيعَ، والفارق أن البيع يزيل الملك في الأصل، فلا يبعد أن يقوى على الاستتباع. والرهن لا يقطع ملك المالك عن الأصل؛ ولا يرفع سلطانه، وكأنه موعد في دوام الملك أوجب الشرع الوفاء به، فاختص وجوب الوفاء بمورده المسمى، ولذلك لا يتعدى الرهنُ إلى الزوائد التي ستحدث في مستقبل الزمان، والملك في البيع يُثبت للمشتري حق الملك فيما يتجدد.
وخرّج طوائف من الأئمة قولاً آخر في الرهن، وهو أن الثمار تتبع تسمية النخيل إذا لم تكن بارزة، قياساً على البيع، وذلك لأنا لم نتبِع الثمارَ النخيلَ في البيع لقوة البيع، ولكنا رأينا الثمار الكامنة جزءاً متصلاً كامناً، واعتقدنا اللفظ شاملاً. وهذا يستوي فيه القوي والضعيف.
وهذا القول منقاسٌ، وهو مأخوذ من أصلٍ مع القول الأول، وهو أن من باع حاملاً، ثبت الحمل مستحقاً للمشتري، والتردد في أنه هل يقابله قسط من الثمن أم لا.
ولو رهن جارية حاملاً، ففي تعلق حق الوثيقة بالحمل الموجود حالة الرهن قولان. والرأي ترتيب الثمار غيرِ المؤبرة على الحمل، فإن قضينا بأن الرهن لا يتعلق بالحمل، فلأن لا يتعلق بالثمار أولى، وإن قلنا: يتعلق الرهن بالحمل، ففي تعلقه بالثمار قولان. والفرق أن الحمل لا يقبل التصرف على الانفراد، فكان حريّا بالتبعية والثمار تقبل التصرف على الانفراد.
3631- ومسائل الحمل ستأتي إن شاء الله تعالى.
ولكنا نعجل منها شيئاًً، فنقول: إن قلنا: رهن الجارية الحامل لا يتناول الحملَ، فلو قال: رهنتها مع حملها، ففي هذا تردد للأصحاب، والظاهر أن رهن الجارية لا يتعلق بالحمل؛ فإنه إذا لم يمتنع، فتقدير الانفراد فيه بالذكرِ لا وجه له؛ إذ لو ساغ ذلك، لجاز إفراده بالرهن دون الأم.
وهذا الرمز الآن كافٍ. وسنعود إليه عند ذكرنا مسائل الحمل، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال الشافعي بعد تقرير المذهب في أن الرهن أمانة: "وإذا رهنه ما يفسدُ من يومه... إلى آخره".
3632- أما القول في أن الرهن أمانة، فسيأتي في باب معقود، إن شاء الله تعالى.
ونحن نذكر الآن تفصيلَ المذهب في رهن ما يتسارع إليه الفساد، فنقول: إذا رهن الفواكه الرطبة وغيرَها مما يتسارع إليه الفساد، نظر: فإن رهنها بدين حالٍّ، صح، ثم إن أدى الدين من موضع آخر، فذاك. وإن اتفق بيعُها في الدين، وصرف ثمنها إليه، فهو المراد. وإن لم يتفق الصرف إلى الدين، وأشرف المرهون على الهلاك، فلا خلاف أنه يباع، ويوضع الثمن رهناً مكانه؛ إذ لا طريق إلى استيفاء الحق إلا هذا الطريق، والرهن يتضمن توثيقاً، فإذا أشرف محلّ الوثيقة على الهلاك، ولو هلكت، لضاعت الوثيقة، فالوجه في تبقية الوثيقة البيعُ ووضع الثمن رهناً مكان المبيع.
3633- وإن رهن ما يتسارع إليه الفساد بدين مؤجل، نظر: فإن عرفنا أن حلول الأجل يتقدم على فساد المرهون، صح الرهن، وكان كما لو رهن بدين حالّ، وانتظم الترتيب على ما ذكرناه. وإن عرفنا أن الفساد يسبق حلولَ الأجل، فتنقسم المسألة أقساماً:
منها أن يرهن ويشترط البيع عند الإشراف على الفساد، فإن كان كذلك، صح الرهنُ، ولزم الوفاء بالشرط إذا مست الحاجة إليه، فإذا أشرف على الفساد، بيع ووضع الثمن رهناً.
ومن الأقسام أن يرهن ويُقرن الرهن بشرط أن لا يباع عند ظهور الفساد، فإن كان كذلك، فالرهن فاسد؛ فإنّ شرط تبقيته يتضمن فساده، وهو مناقض للتوثق، فجرى الشرط مخالفاً لوضع الرهن.
ومن أقسام المسألة أن يطلق الرهن من غير تعرض لشرط البيع أو نقيضه، فإذا كان كذلك، ففي المسألة قولان منصوصان:
أحدهما: أن الرهن صحيح، ومطلقه محمول على البيع عند الحاجة ووضع الثمن رهناً. والقول الثاني- أن الرهن فاسد، ومطلقه محمول على تبقية الرهن، وإن كان يفسد، فهو كما لو قيَّد بأن لا يباع.
فإن قيل: أليس لو رهن ما يتسارع إليه الفساد بدين حال، كان صحيحاً قولاً واحداً. وإذا مست الحاجة إلى بيعه ووضع ثمنه رهناً، بيع، ولم يختلف في ذلك، والرهن مطلق في الموضعين، فما الفاصل؟ قلنا: إذا كان الدين مؤجّلاً، فحكم الرهن التبقية في حال سقوط المطالبة بالدين.
هذا حكم الإطلاق في الرهن بالدين المؤجل. فكان تردد القول لذلك. وإذا كان الدين حالاً فالطلِبة حاقّة، لا تأخير فيها يُشعر بتبقية الرهن إلى ثبوت الطلبة.
ولو كان المرهون بالإضافة إلى الأجل بحيث لا يقطع بفساده قبل الحلول، وكان لا يقطع ببقائه أيضاًً، وتردد الاحتمال، ففي جواز الرهن المطلق من غير تقييد بالبيع عند الإشفاء على الهلاك قولان، مرتبان على القولين فيه إذا كان يهلك المرهون قبل الأجل لا محالة. وهذه الصورة أولى بالصحة من الأولى. ووجه الفرق بيّن.
وقد كنا بنينا رهن المعلّق عتقُه بصفة توجد قبل حلول الأجلِ على رهن ما يتسارع إليه الفساد قبل حلول الأجل، وخرّجنا صحة الرهن على قولين. قال صاحب التقريب: إذا فرعنا على قول صحة الرهن، فقربت الصفة، وكاد العتق أن يقع، بعناه بَيْعَنا الطعامَ المشرفَ على الفساد. وإذا كان الأصل كالأصل، فالتفصيل كالتفصيل.
وإذا رهن ما لا يتسارع إليه الفساد، فطرأ بعد لزوم الرهن سبمب يقرّبه من الهلاك قبل حلول الأجل، فطريان ذلك لا يوجب انفساخ الرهن وفاقاً.
وإن منعنا رهنَ ما هذه صفته ابتداء على أحد القولين، وتسرُّعُ الفساد طارئاً ومقارناً-على منع الرهن ابتداء- يضاهي إباق العبد، فإذا اقترن، منَعَ، وإذا طرأ، لم يتضمن انفساخ العقد.
فرع:
3634- إذا صح الرهن، ولزم في عين ثابتة لا يخشى فسادها، فقال الراهن: نقلتُ حقك في الوثيقة من هذه الرقبة إلى هذا العبد، فقال المرتهن: رضيت. ذكر أصحابنا في ذلك وجهين:
أحدهما- أن هذا يلغو، والوثيقة لا تنتقل، ورضا المرتهن لا يتضمن فسخَ الرهن.
والوجه الثاني- أنها تنتقل وتقرُّ في العبد الثاني، وما جرى بينهما يتضمن فسخاً للرهن الأول، وإعادةً له في المحل الثاني.
وأخذ العلماء هذا الخلافَ من رهن ما يفسد قبل الأجل. ووجه الأخذ منه أَنَّ الرهن فيما يفسد تضمن نقل الوثيقة إلى عوضِ المرهون بتقدير البيع. فقالوا: إذا كنا نجوز ذلك، فما يمنع من نقل الحق اختياراً من محل إلى محل وهذا غير سديد؛ فإن بيع ما يفسد مستحق شرعاً وإقامة الأثمان والقيم مقام الأصول قاعدة ممهدة في الشرع، فأما نقل حق مستقر من محل إلى محل، فليس له أصل من غير حاجة، ولا ضرورة، وليس النقل والرضا مشعراً بالفسخ والإعادة على التحقيق، وليس كما لو قال لمالكِ عبدٍ: أعتق عبدَك عني؛ فإن هذا من ضرورته تقديم نقل الملك، فكان ضمناً لاستدعاء العتق. وأما نقل الوثيقة، فمبنيٌّ على اعتقاد إبقاء الرهن الأولى، مع نقل موجبه، وعلى هذا يخرّج انتقال الوثيقة من المثمن إلى الثمن، فالوجه إفساد الرهن من عين إلى عين.
فرع:
3635- إذا رهن ما لا يفسد، ثم طرأ عليه ما يقرّبه من الفساد قبل القبض، وقلنا: لا يصح رهن ما هذا وصفه، ففي انفساخ الرهن وجهان مبنيانِ على الوجهين في نظائر هذا، كطريان الجنون والموت، وطريان جناية المرهون. والتفريع على منع رهنه.
ولو قُتل العبد المرهون قبل القبض، ففي تعلق حق الوثيقة بقيمته الواجبة على المتلف الوجهان المذكوران؛ فإن القيمة تقع ديناً، والديون لا ترهن، ولكن إن جرى ذلك بعد تأكُّد الرهن بالقبض احتُمل على ارتقاب أن تستوفى القيمة وتعيّن.
ثم من يقول من أئمتنا إذا استحال العصير خمراً، زال الرهن ثم يعود إذا تجددت الحموضة، ما أراه يطلق القول بأن الرهن يزول بانقلاب المالية في عين الرهن ديناً؛ فإن حقيقة المالية باقية. والقول في هذا محال. هذا إذا كان بعد القبض.
فأما إذا جرى الإتلاف قبل القبض، ففي انفساخ الرهن ما ذكرناه.
ولو صادف الرهن عيناً ثابتة، فعرض لها بعد القبض عارض يدنيها من الفساد، فقد تمهد أن الرهن لا ينفسخ، وقطع الأئمة بأنه يستحق بيعه ووضع ثمنه رهناً. وكان شيخنا يقول: إذا كان إتلاف المرهون يتضمن نقلَ حق المرتهن إلى القيمة، فيتبين أن حقه المستحَق غيرُ منحصر في العين، فعلى هذا يكون الإشفاء على الهلاك بمثابة إتلاف المرهون من ضامن.
فصل:
قال: "ولو رهنه أرضاً بلا نخل، فأخرجت نخلاً... إلى آخره".
3636- إذا كان الراهن دفن أعداداً من النوى، ورهن الأرض البيضاء قبل أن تنبت النوى فنبتت، فليس للمرتهن القلعُ؛ فإن الرهن ورد على الأرض وفيها النوى.
ولكن إن كان عالماً بذلك، فليس له فسخ البيع الذي الرهنُ شرطٌ فيه. وإن كان جاهلاً، ثم تبين، فله فسخ البيع الذي الرهن شرط فيه، من قِبل أَنَّه حسب أن الساحة البيضاء تَسْلَم لحق وثيقته، فإذا بأن أنها مشغولة، فذلك نقصٌ، فيترتب عليهِ ثبوت الفسخ في البيع. وسيأتي أصل ذلك بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
3637- ولو غشَّى السيلُ الأرضَ المرهونة، وكان في جميعها نوى؛ فنبتت، فلو قال المرتهن: أقلعُه؛ فإنه لم يكن، وإنما حدث بعد لزوم الرهن، لم يكن له القلع قبل حلول الدين؛ إذ لا ضرر عليه في الحال، ولا حاجة إلى بيع الساحة. وإذا حل الحق، نُظر: فإن كان في قيمة العرصة لو بيعت مع النخيل وفاءٌ بالدين، بيعت العرصة، ولم يقلع النخيل، وإن لم يكن فيها وفاء، ولو قلعت دون النخيل، وفت بالدين، ولم يؤدّ الراهن الدينَ من جهة أخرى، فيقلع الغراس لحق المرتهن، وإن كان القلع مضرّاً بالراهن؛ من قبل نقصان الغراس بالقلع، فالسبب فيه أن الراهن التزم الوفاء بحق الوثيقة في الأرض البيضاء، فلزمه أن يفي بما التزمه.
هذا إذا لم يكن على الراهن دين يوجب اطراد الحجر عليه، فأما إذا ركبته الديون، واطرد عليه الحجر، والمسألة حيث انتهت، فلا سبيل إلى قلع الأشجار رعايةً لحق الغرماء.
فإن قيل: حق المرتهن سابق وفي تبقية الغراس تنقيصُ حقه السابق. قلنا: نعم ولكن حق الغرماء صادفَ الأشجار، وتعلق بها، وليس للمرتهن إلا وثيقة، فلا ينبغي أن يُحبط حقوق الغرماء والمالك بالكلية.
والذي يقتضيه الإنصاف بيعُ الأرض مع الغراس، ثم في كيفية التوزيع على الأرض والغراس خلافٌ بين الأصحاب، ذكرناه في مسألة بيع الجارية وولدها.
3638- قال الأئمة: إذا رهن الرجل أرضاً بيضاء، وأقبضها، ثم أراد أن يغرسها ابتداء، فهل يمنع من ذلك والدين مؤجل؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يمنع، كما لا يقلع ما نبت من حميل السيل.
والثاني: يمنع؛ فإن هذا إثبات تنقيصٍ في الحال على سبيل الاختيار. ثم إن لم نمنعه، فالكلام في القلع عند حلول الدين كما تفصَّل.
وإن كنّا نمنعه من الغراس، فلو غرس، ونبت فهل يقلع عليه قبل حلول الأجل؟ فيه اختلاف، توجيهه قريب من توجيه الوجهين في أصل المنع. فإن قلنا: إنه مقلوع، فلا شك أنه يقلع عند المحِل إذا لم يكن على الراهن حجر. وهل يقلع إذا كانت عليه ديون واطرد الحجر؟ فعلى وجهين. ولا يخفى الفرق بين هذا وبين ما لو نبتت النخلات من نوى في حميل السيل؛ فإن ذلك جرى ولا منع يقترن به، بخلاف ما فرعناه في ابتداء الغرس قصداً من الراهن.
فصل:
قال: "ولو رهنه أرضاً، ثم اختلفا، فقال: أحدثت فيها نخلاً... إلى آخره".
3639- إذا صادفنا أرضاً مرهونة، وفيها نخيل، فقالى المرتهن للراهن: رهنتني الأرضَ والنخيل القائمةَ فيها يوم رهنتني. وقال الراهن: بل رهنتك الأرض بيضاء، وأحدثتَ هذه النخيل بعد الرهن، ولم تكن موجودة حالة الرهن. فإن كانت المشاهدة تكذب المرتهن؛ بأن تقدّم تاريخ الرهن وامتد سنين، والنخيل بعد فَسِيلٌ لا يخفى أنها نبات سنة، فالمرتهن مكذَّب، ولا حاجة إلى اليمين.
وإن كانت المشاهدة تكذِّب الراهن بأن كان النخيل باسقة، وتاريخ الرهن قريب، فالمشاهدة كذبت الراهنَ في دعواه عدمَ النخيل عند الرهن. ولكن لا تنفصل معه الخصومة بهذا؛ إذْ لم يثبت إلا وجود النخيل حالة الرهن، ولا يمتنع أن تكون موجودة، ولا تكون مرهونة، فتتوجه الدعوى عليه بالرهن، فإن أصر على قوله الأوَّل، لم يقبل منه، والمشاهدة تكذبه، ويجعل منكراً، وتعرض عليه اليمين، فإن تمادى في محاله الأولى، جُعل ناكلاً، وفصلت الخصومة بطريقها. وإن اعترف بالوجود آخراً، وأراد أن ينكر الرهن، قُبل منه الإنكار، وكَذْبتُه الأولى لا تسدّ عليه إنكارَ الدعوى، ثم تُدَارُ الخصومة على نظمها.
وإن كانت النخيل بحيث يحتمل أنها كانت يوم الرهن، ويحتمل أنها حدثت بعده بأيام، فالقول قول الراهن في نفي الرهن.
ولو اقتصر على نفي وجود النخيل وكان انتفاؤها ممكناً، فالأظهر أنه يُكتفَى منه بإنكار الوجود؛ فإنّ في إنكار الوجود إنكارَ الرهن المدّعىَ. والمسألة مفروضة فيه إذا قال المرتهن: كانت موجودة، فرهنتَها مع الأرض. ولهذا نظائر فيها ترددٌ للأصحاب. ستأتي في كتاب الدعاوى.
ولو قال المرتهن: رهنتني هذه الأشجار، ولم يتعرض لوقت رهنها، ولم يذكر اقترانَها ولا تأخرها، فلا ينفع، والدعوى على هذه الصيغة تعرض الراهن لتقدم وجود النخيل وتأخرها؛ فإنه لا يمتنع رهنها، وإن تأخرت. والمرتهن إنما يدعي الرهن المطلق، وهذا بيِّن إذا لم يكن الرهن مشروطاً في بيع.
فأما إذا كان الرهن مشروطاًً في بيع وصيغة الدعوى كما تقدمت، قال المرتهن: رهنتها مع الأرض يوم رهنتني الأرض. وقال الراهن: لم تكن النخيل موجودة يوم رهن الأرض، وكانت المشاهدة لا تكذبه، وقد ربطا قوليهما ببيعٍ، فقال المرتهن: شرطتَ رهن الأرض والنخيل. فإذا قال الراهن: لم تكن النخيل، فقد ذهب المحققون إلى أن هذا الاختلاف ليس مما يوجب التحالف في البيع؛ فإن حاصله راجع إلى التنازع في وجود النخيل وعدمها. والتحالف إنما يترتب على تنازع في صفة عقدٍ، يتصور التصادق عليها.
وهذا حسن دقيق.
والظاهر عندي أنهما يتحالفان؛ فإنَّ المرتهن ادعى شرط رهن ممكن، وأنكر الراهن الشرط، وعلله بعلة، فالتنازع في صفة العقد قائم، فليجر التحالف.
وإن اتفقا على وجود النخيل، وقال المرتهن: شرطنا في البيع رهنَ الأرض والنخيل، وقال الراهن: لم نشترط إلا رهنَ الأرض، ولم يتعرضا لنفي وجود النخيل، بل توافقا عليه، فهذا اختلافٌ في صفة العقد لا محالة، فيتحالفان ويتفاسخان العقد.
ولو قال المرتهن: لِمَ نتحالف، وأنا معترف بأنك وفَّيت بالرهن المشروط في النخيل، فاختلافنا في الرهن؟ قيل له: هذا أمر تبنيه أنت فرعاً على أصل، والراهن منكرٌ لأصل الشرط، فلابد من التحالف.
فصل:
قال: "ولو شرط للمرتهن إذا حل الحق، أن يبيعه، لم يجز أن يبيع بنفسه، إلا بأن يحضره ربّ الرهن... إلى آخره".
3640- إذا حلّ الحق، فقال الراهن للمرتهن: بع لي واستوفِ ثمنَه لي، ثم استوفه لنفسك. فإذا باع، نفذ البيع بالإذن، ثم إذا استوفى الثمنَ، وقع الثمن للراهن، ويكون أمانة بعدُ في يد المرتهن، فإن أراد استيفاءَه لنفسه، فلابد من وزنٍ جديد إن كان موزوناً أو كيل جديد إن كان مكيلاً فإن وزنه ثانياً، فهل يصح الاستيفاء على هذا الترتيب؛ فعلى وجهين، تقدم ذكرهما في كتاب البيع، فإن صححنا الاستيفاء، دخل في ضمانه، وبرئت ذمة الراهن من الدين. وإن لم نصحح الاستيفاء، فما قبضه على الفساد مضمون عليه، وإن لم يكن مقبوضاً على الصحة عن جهة حقه، فالدين باق في ذمة الراهن.
ومن تمام التفريع في ذلك أنا إذا صححنا الاستيفاء، فالذي ذكره الأصحاب أنه لابد من إنشاء فعلٍ فيه، وليس كما لو رهن الوديعة عند المودَع، فإنا في قولٍ ظاهر نكتفي بدوام يده، كما تفصّل ذلك، وهاهنا لابد من فعلٍ في الاستيفاء. وتعليله واضح؛ فإن الاستيفاء إنما يصح بناء على إذن الراهن، ولفظُه في الإذن "ثم استوف منه حقك" وهذا تصريح بإحداث أمر.
3641- ولو قال: "بعه لي واستوف الثمن لي، ثم أمسكه لنفسك"، فالظاهر أنه لابد من فعلٍ في القبض، كما تقدم.
ومن أصحابنا من أقام الإمساك على قول صحة القبض مقام الاستيفاء إذا كان الاستيفاء مأذوناً فيه.
وإذا قلنا: الاستيفاء لا يصح، ثم جعلنا قبضه على الفساد مُدخلاً للثمن في ضمانه، فلو لم يوجد منه فعل، والمأذون فيه الاستيفاء، ولكن نوى أن يمسكه لنفسه، فهذا لا يدخله في ضمانه؛ فإن اليد يد أمانة، والأمانات لا تزول بمجرد النيات. ولو نوى المودَع تغييب الوديعة، ولم يُحدث أمراً، لم يضمن بمجرد النية.
ولو قال الراهن: بعه لي واستوفِ ثمنه لنفسك، صح البيع، ولم يصح الاستيفاء؛ فإن الغير يستحيل أن يستوفي حقه قبل ثبوت القبض الصحيح لمن يقع الاستيفاء من جهته، وقد مهدنا هذا في البيع.
وإن قال الراهن للمرتهن: "بعه لنفسك"، فباع، فظاهر النص وما ذكره العراقيون، واختاره القاضي أن البيع يفسد؛ لأنه لا يتصور أن يبيع الإنسان مال الغير لنفسه.
وذكر صاحبُ التقريب قولاً آخر ارتضاه لنفسه: أن البيع صحيح بناء على قوله: بعه، والفساد في قوله: لنفسك، فليستقل البيع بالإذن فيه.
وهذا وإن كان منقاساً، فالمذهب ما قدمته.
3642- ولو قال الراهن للمرتهن: "بعه". ولم يقل: بعه لي، ولا لنفسك. هذا موضع الاختلاف الظاهر بين الأصحاب-ولا عود إلى ما ذكره صاحب التقريب- فمن أصحابنا من قال: يجوز له أن يبيع كالأجنبي يقول له مالك العبد: بعه. ومن أصحابنا من قال: لا ينفذ بيع المرتهن. وهؤلاء عللوا امتناع البيع بعلتين: إحداهما- أن البيع مستحَقّ للمرتهن بعد حلول الحق، والمسألة مفروضة في هذا، والدليل على أن البيع مستحق للمرتهن أنه لو أذن المرتهن للراهن في البيع مُطلقاً، والحق حالّ، فالبيع يقع للمرتهن، حتى لو أراد الراهن صرفَ الثمن إلى جهة أخرى، لم يجد إليه سبيلاً. فإذا كان البيع مستحقاً للمرتهن، فالإذن المطلق إذا اقترن باستحقاق البيع في حق المرتهن، نازلٌ منزلة الإذن المقيد بالبيع في حق المرتهن، فإذا قال: "بعه"، فكأنه قال: بعه لنفسك. هذا إحدى العلتين.
والعلة الأخرى أن المرتهن متهم في ترك النظر؛ فإنه يبغي الوصولَ إلى حق نفسه، فقد يستعجل ذلك، فلا يبالي بترك النظر للرّاهنِ، وليس كالوكيل المطلق؛ فإنه لا حقّ له في البيع، فيبيع لغرض الموكِّل طالباً مصلحته.
ولو قال من عليه الدين لمستحق الدين: "بع هذا الثوب"، ولم يكن مرهوناً، "وخذ حقك من ثمنه". أمّا البيع، فصحيح؛ فإن بيع ذلك الثوب ليس مستحقاً له، فهو فيه كسائر الغرماء. وبيعه لا يقع إلا بحكم الوكالة.
ثم فَرَّع الأصحاب على العلتين المذكورتين في توجيه أحد الوجهين، فقالوا: إن كان الدين مؤجّلاً، فقال الراهن للمرتهن: "بعه"، فهذا يخرّج على المعنيين؛ فإن منعنا البيع عند حلول الحق لكون البيع مستحقاً على التحقيق الذي مضى، فهذا المعنى مفقود قبل حلول الأجل؛ فإن البيع غيرُ مستَحق للمرتهن، والدليل عليه أن المرتهن لو قال للراهن قبل حلول الأجل: "بعه"، نفذ البيع، وبطل حق المرتهن، كما مضى تفصيله. هذا إن عللنا بالاستحقاق.
وإن عللنا بكون المرتهن متَّهماً؛ من جهة استعجال الحق، فهذا المعنى قبل الحلول مفقود أيضاًً؛ فإنه إنما يبيعه بإذنٍ مُطلقٍ، والبيع بماذنٍ مطلق قبل حلول الأجل يفك الرهنَ.
وإن قال قبل حلول الأجل: "بعه واستوفِ حقك"، على التفاصيل المقدّمة، فتتحقق التهمة، ويخرج وجهان؛ فإن عللنا بالاستحقاق، فلا استحقاق. وإن عللناه بالتهمة، فهي قائمة.
وإن قدَّر الراهن ثمناً للمرتهن، فقال: "بعه بكذا"، فإذا باع بذلك المقدار، فقد زالت التهمة.
فإن عللنا فساد البيع بالتهمة، صح. وإن عللنا بالاستحقاق، لم يصح.
فإن قيل: ما وجه التعلّق بالتهمة، وثمن المثل معلوم، فينبغي أن نقول على اعتبار التهمة: إن باع بثمن المثل، صح. وإن باع بأقل منه، لم ينفذ؟
قلنا: وراء ثمن المثل تهمة؛ فإن الشيء قد يطلب بأكثر من ثمن مثله، فيبيعه المتهم بثمن المثل. وسر هذا يأتي في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى.
هذا بيان الوجهين وتفريعهما.
ثم لفظ الشافعي دليل على أن البيع بالإذن المُطلق باطل من المرتهن عند حلول الأجل؛ فإنه قال في صدر الفصل: "لو شرط المرتهن إن حل الحقُّ أن يبيعه، لم يجز أن يبيع بنفسه"، فظاهر النص منعُ البيع عند إطلاق الإذن.
ومن قال بالوجه الثاني، وهو القياس، أوّل النص، وقال: قوله: "لم يجز أن يبيعه لنفسه " معناه لم يجز أن يبيعه من نفسه؛ فإنَّ تولِّي طرفي العقد لا يسوغ من الوكيل.
3643- ومما يتفرع على ما ذكرناه أن الراهن لو أذن للمرتهن في البيع مطلقاً عند حلول الحق، فباعه، والراهن حاضر، فمن راعى التهمة، نفذ العقدَ، ومن راعى الاستحقاق، لم يفصل بين البيع في الحضرة وبين البيع في المغيب؛ لجريان الاستحقاق في الموضعين. ولفظ الشافعي في صدر الفصل يدل على صحة البيع بحضرة الراهن؛ فأنه قال: "لم يجز أن يبيع بنفسه إلا بأن يحضره ربُّ الرهن".
ومن منع البيع مع حضوره، وسلك مسلك الاستحقاق، أوّل النص، وقال: فيه إضمار كلامٍ، والتقدير: لم يجز أن يبيعه المرتهن إلا أن يحضره الراهن فيبيعه.
وهذا على التحقيق استثناء من غير الجنس كما يعرفه ذو الحظ من الأصول.
وبنى بعض أصحابنا الوجهين في الصحة والفساد حيث تتطرق التهمة على وجهين، سيأتي ذكرهما في الوكالة، إن شاء الله تعالى.
وذلك إذا وكل الرجل وكيلاً ببيع ماله، فباعه الوكيل من أبيه أو ابنه، ففي صحة بيعه وجهان، وسببهما تمكن التهمة من الوكيل في بيعه من أبيه أو ابنه.
هذا كله في إذن الراهن في البيع، وترديد القول في إطلاقه وتقييده.
3644- ومن بقية الكلام في الفصل أَنَّ الراهن عند حلول الحق لو أراد أن يستقلّ ببيع المرهون، وصرف ثمنه إلى المرتهن، لم يكن له ذلك أبداً، فإن طابقه المرتهن، فذاك، وإلا لا خلاص له إلا بأن يرفع الأمر إلى القاضي، ثم القاضي يقول للمرتهن: ائذن في بيعه، وخذ حقك، كما مضى، أو أبرئه عن حقك.
ولو سلطنا الراهن على الاستقلال بالبيع، لبطل أثر التوثق، وحبسُ المرتهن، ومنعُه من التصرف. ولو أراد المرتهن أن يبيع الرهن بنفسه، فإن أمكنه مراجعةَ الراهن، واستيفاءَ الحق منه، فليس له أن يستقل بالبيع. وإن غاب الراهن، أو جحد، ولا بينة، وتعذر استيفاء الحق منه، فقد قطع الأصحابُ بتنزيل المرهون، والحالة هذه منزلَة شيء يظفر به مستحِق الدين من مال من عليه الدين. وفيه تفصيلٌ واختلافُ قول سيأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى. فإن قيل: فلا أثر للرهن إذاً، إذا كان لا يسلطه على البيع قولاً واحداً.
قلنا: أثره يبين في زحمة الديون وضيق المال؛ فإن ذلك إذا وقع قُدِّم المرتهن بالرهن، وإن لم يكن الرهن، وكان قد ظفر بشيء من ماله، وهو تحت يده، استرددناه منه، ورددناه في جملة الأمتعة، وتركناهم يتضاربون على أقدار الديون.
وقد نجز الفصل بما فيه.
فصل:
قال: "ولو كان الشرط للعَدْلِ، جاز بيعُه ما لم يفسخا، أو أحدهما وكالته... إلى آخره".
3645- إذا حل الحق، فقال الراهن أحضر الرهنَ، وأنا أؤدي دينك من مالي، لم يلزم المرتهن أن يُحضره. ولو رفع الأمر إلى مجلس القاضي، والتمس منه أن يُلزم المرتهن إحضارَ الرّهن، حتى يقعَ قضاءُ الدين واستردادُ الرهن بمرأىً من القاضي، لم يُلزم القاضي المرتهن ذلك، وقال: حقه في الوثيقة قائم حتى يؤدَّى دينُه، ثم إن أدّاه فليس على المرتهن إحضارُ الرهن؛ فإن الرهن أمانة وليس على المؤتمن ردُّ الأمانة.
نعم، لا يُمنع صاحبُ الأمانة من أَخذها. ولو أراد الراهنُ بيعَ المرهون وأداءَ الدين من غير ثمنه، لم يكن له ذلك. كما تقدّم.
ولو قال للقاضي: أريد أن أؤدي حقَّه من ثمن الرهن، فليس للمرتهن أن يُلزم الراهن تحصيلَ الدين من جهةٍ أخرى، ولا فرق بين أن يكون قادراً على أداء الدين من جهةٍ أخرى وبين أن يكون عاجزاً، كما قدمناه من منع البيع فيه، إذا كان يزعم أنه يؤدي الدين من غير ثمن الرهن.
3646- ومما يليق بتمام البيان في ذلك: أن البيع لو كان لا يتأتى إلا بإحضار الرهن، فلا يكلّف المرتهنُ إحضارَه؛ إذ قد يكون عليه في ذلك كُلْفة أو مؤنة، وعلى الراهن إذا أراد قضاء الدين من ثمن الرهن أن يتكلف إحضارَه، ويبذل مُؤنة إن مست الحاجةُ إلى بذلها، ثم قد لا يثق المرتهن بيده، فلا يسلمه إليه، ولا تنفصل الخصومة إلا بالقاضي، فإنه يبعث من يعتمده، حتى يكون هو المُحضِر. وإن مست الحاجةُ إلى مؤنةٍ، بذلها الراهن.
3647- ثم نظم الشافعي فصولاً في تعديل الرهن على يد عدلٍ، ومزج بها جملاً من أحكام الوكالات، وقضايا الأمانات. ولو أُخرت إلى مواضعها، لتعطلت فصولُ الكتاب؛ فلا وجه إلا ذكرها بما يتعلق بها على الاستقصاء.
فإذا وقع التراضي على تعديل الرهن على يد عدلٍ، جاز ذلك، وكانت يدُ العدل نائبةً عن يد المرتهن، ولا شركة في اليد للراهن؛ فإن حق القبض للمرتهن.
ولكن لو أراد المرتهن أن يستردَّ الرهن من العدلِ؛ صائراً إلى أن الحق في القبض لي، لم يكن له ذلك؛ من جهة أن الراهن قد لا يثق بالمرتهن؛ وإنما يقع التعديل لهذه الحالة؛ فالراهن وإن لم يكن له حق في القبض، فله حق رعاية ملكه، وقد رأى التعديل وجهاًً في الرعاية.
ثم إن أذن الراهنُ للعدل في بيع الرهن عند محِل الحق، وصرفِه إلى المرتهن، لم ينفذ بيعُه دون إذن المرتهن؛ فإن بيع الراهن لا ينفذ إلا على التفصيل المقدّم. فكيف ينفذ بيع وكيله؟
ولو وكل الراهنُ العدلَ بالبيع ورضي بالبيع المرتهنُ، فينفذ بيعُه إذا داما على الرضا.
ولو عزله الراهن، ارتفعت الوكالة بالبيع، فإن أراد الراهن أن يبيع العدلُ، جدد توكيلاً.
وإن لم يعزله الراهن، ولكن قال المرتهن: "لا تبعه"، بعد أن رضي، لم يبع؛ فإن إذنه معتبر في البيع، وإذا اعتبر إذنه ابتداءً، اعتبر استمراره عليه. وإذا رجع، بطل إذنه.
ثم هل يقال: تبطل الوكالة أم لا؟ قال المحققون: الوكالة قائمة؛ فإن العدل في البيع وكيلُ الراهن، وليس وكيلُ الراهن وكيلَ المرتهن.
نعم. إذا رجع المرتهن عن الإذن، انخرم شرطٌ في نفوذ تصرف الوكيل، فإذا أعاد الإذنَ، فالوكالة الآن على شرطها، والتصرف نافذ.
وذهب بعض الضعفة إلى أن رجوع المرتهن عن الإذن، يوجب رفع الوكالة، فعلى هذا إذا عاد فأذن، فلابد من توكيلٍ جديدٍ من الراهنِ. وهذا ضعيف غيرُ معتد به.
3648- ومما يتعلق بهذا الفصل أن الراهن والمرتهن لو أذنا للعدل في بيع الرهن عند محلِ الحق، واستمرّا على الإذن، فهل يستبد العدل بالبيع، دون مراجعة الراهن والمرتهن؟ أم كيف السبيل فيه؟ ذكر العراقيون وجهين في تعيُّن مراجعة الراهن: أصحهما- أن المراجعة لا تجب. ووجهه بيّن.
والثاني: أنها واجبةٌ؛ فقد يبدو له أن يستبقي الرهنَ، ويؤدي الدين من سائر ماله.
وهذا يعتضد بأمرٍ يتعلق بالتصرف، وهو أن الاستنابات قِبَل الحاجات تجري في العادات، ثم إذا حقت الحاجة، فالعادة مطردةٌ بالمراجعة، فحُمل المطلقُ على هذا.
وهذا ضعيف، والأصل الاستمرار على الإذن. فإن أراد الراهن رفعه، عزله.
ولا خلاف أن المرتهن لا يراجع؛ فإن غرضه توفيةُ الحق، وليس له في الرهن حق ملكٍ، أما الراهن، فقد يستبقي الملكَ، ويؤدي من موضعٍ آخر. وهذا ليس خالياً عن الاحتمال، إن صح ذلك الوجه البعيد.
فصل:
قال: "ولو باع بما يتغابن الناسُ بمثله، فلم يفارقه حتى جاء من يزيده، قَبِلَ الزيادة... إلى آخره".
3649- هذا من فصول الوكالة، فنفرضه في العَدْل وهو مُطّردٌ في كل وكيل.
فإذا وكّل الراهنُ العدل ببيع الرهن، ورضي المرتهن، والتوكيل مطلق، فالعدل مأخوذ في إطلاق التوكيل برعاية ثلاث خِلال: أحدها: ألا يبيع بغبن. وسيأتي تفصيل الغبن. والخصلةُ الأخرى- ألا يبيع إلا بنقد. والثالثة- ألا يبيع نسيئة.
فإن باع بثمن المثل، وكان مع المشتري في مجلس العقد، فأشرف عليهما من يزيد في الثمن. فنقول: أولاً إذا كانت السلعة تطلب بأكثر من ثمن مثلها، فليس للوكيل أن يبيعها ب ثمن المثل؛ وهذه غبينة بين أرباب المعاملات.
3650- فإذا تمهد هذا، قلنا: إذا جاء من يزيده، فظاهر النص يشير إلى أنه يبيع تلك السلعة ممن يزيد في الثمن. فإذا قَبِلَ الزائدَ، ترتَّب عليه تحصيلُ الزيادة، وانفساخُ البيع الأول. وهذا قد استقصيناه في أول كتاب البيع. ولابد من تجديد العهد به. فنقول:
من باع سلعة، ثم باعها في زمان الخيار، أو مكان الخيار، ففي هذا البيع أوجه: أحدها: أنه ينفذ. ثم من ضرورة نفوذه انفساخ العقد الأول.
والثاني: أنه لا ينفذ، ولا ينفسخ به العقد الأول. والثالث: لا ينفذ، وينفسخ به العقد الأول. وقد ذكرنا الأوجه وفرعناها.
فإن وقع التفريع على نفوذ البيع الثاني، وانفساخ الأول، فالوجه أن يبيع؛ فإنه إن قبل من زاد، حصل الغرض، وإن أبى، فالبيع الأول قائم كما كان.
3651- وحق هذه المسألة أن تُرتَّب على الوجه الذي نصفه. فيقال: إن قلنا: البيع في زمان الخيار فاسد، ولابد من جلب الزيادة الظاهرة من هذا الذي زاد، فالذي يقتضيه مساق الكلام أن فسخ العقد الأول مستحق. وإذا كان كذلك، فلا خِيَرة في إبقاء ذلك، ولا سبيل إلى أن نقول: يلزم الوكيلَ الفسخُ، فيتيعن من مجموع ما ذكرناه أن ذلك العقد ينفسخ، وهذا معنى استحقاق الفسخ، ثم سبب الفسخ تحصيل الزيادة.
فلو حكمنا بالفسخ لمّا ظهرت الزيادة، وأردنا البيع ممن زاد، فإن وافق، وابتاع بما كان يذكر، فذاك. وإن امتنع، ولم يُتم ما وعد، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: انقطع العقد الأول، فليبتدىء الوكيلُ بيعاً إن فوض إليه. وهذا أوجه. وقياسه بيّن.
ومن أصحابنا من قال: إذا أبى هذا الذي زاد، تبين أن الفسخ الذي حكمنا به غيرُ نافذ، فكأنه كان فسخاً موقوفاً على هذا الوجه، وكان سببه الطمع في تحصيل الزيادة، فإذا أيسنا من تحصيلها من هذه الجهة، فالعقد قائم كما كان. وضُرب لذلك مثل، وهو أن الابن إذا بذل الطاعة لأبيه في الحج، فلم يرشحه الأب لذلك، ثم رجع الابن قبل حج الحجيج في تلك السنة، فنتبين أن ما حسبناه استطاعةً، لم يكن استطاعة، ولا يستقر الحج في ذمته.
هذا إذا حكمنا بأن الفسخ مستحَق، وبيّنا وجه الاستحقاق فيه، ثم أنهينا التفريع منتهاه في هذا الطريق.
قال الشيخ أبو محمد: إذا كان فوض البيعَ عوداً على بدء إلى هذا الوكيل، فلما بدت الزيادة، أراد أن يحصِّلها بأن يبيع من الزائد، وفرعنا على صحة البيع، ونفوذ الفسخ به، فعلى هذه الطريقة لا نحكم بأنفساخ العقد، إذا كان الوكيل سلك المسلك المستصوب. فإن امتنع منه حينئذٍ، حكمنا بالانفساخ، وعاد التفريع إلى ما ذكرناه.
3652- فامَّا إذا قلنا: لا يصح هذا الطريق، ولابد من تقدير ارتفاع العقد الأوَّل، فلا سبيل إلى الحكم بوجوب إنشاء الفسخ كما مضى، فرجع الكلام إلى أن البيع في مكان الخيار إن صححناه، وضمّنَّاه الفسخَ، فهو وجهٌ إن أنشأه الوكيل. وإن امتنع منه، أو قلنا: لا يصح البيع، تعين الحكم بالانفساخ، ثم هو نافذٌ، أو موقوف على ما ذكرناه.
وممّا لابد من ذكره أن الوكيل بالبيع لو باع، ثم فسخ العقد، فهل له أن يبيع مرة أخرى؟ فيه تفصيل يأتي في كتاب الوكالة.
والقدر الذي نذكره هاهنا أن الأصحاب اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: ليس له أن يبيع إلا بتوكيل جديد؛ فإنه لم يوكل إلا ببيع واحد. ومنهم من قال: له البيع من غير توكيل جديد؛ فإنه وُكِّل ببيع يتم ويؤدي إلى الغرض، فإذا لم يتم، وفُسخ، فهو مأمور ببيعٍ يتم على موجَب التوكيل الأول.
وسنكشف هذا في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "وإذا بيع فثمنه من الراهن حتى يقبضه المرتهن... إلى آخره".
قوله: "من الراهن"، أي من ضمان الراهن.
3653- مقصود هذا الفصل ذكر طرفٍ من العُهدة على الوكيل، وبيانُ قرار الضّمان، وذكرُ سببه، فنقول: للعهدة ثلاثةُ أركان في قاعدة المذهب: أحدها: في توجيه الطلب. فنقول: من اشترى بالنيابة شيئاًً لموكِّله، فهل للبائع توجيه المطالبة بالثمن على الوكيل؟ نُظر: فإن عقد العقد بلفظ السفارة، ولم يضف الشراء إلى نفسه فقال: "اشتريت لفلان"، ولم يقل: "اشتريت " مطلقاًً، فلا مطالبة على السفير.
والنكاح لما كان لا يعقد إلا بالسفارة، لم تتوجه الطلِبة على السفير القابل للزوج.
فإن أضاف الوكيل الشراءَ إلى نفسه، فقال: اشتريتُ، فإن لم يعلم البائع كونَه وكيلاً، فلا شك أنه يطالبه. وإن علم أنه وكيل واعترف به، فله مطالبة الموكِّل، لم يختلف فيه أصحابنا. وإنما اختلفوا في مطالبة سيد العبد المأذون؛ لِما ذكرناه في مسائله. وهل يطالب الوكيل؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لا مطالبةَ؛ فإنه سفير في الحقيقة، ولم يصرح بالسفارة، فأشبه ما لو صرح بها. والوجه الثاني- أنه يطالبه بالثمن، وإن علم كونَه وكيلاً؛ فإن قوله: اشتريتُ التزام، فإذا كنا نُلزم من يقول: ضمنتُ الدينَ، فلا بُعْدَ لو ألزمنا من يقول: اشتريت أو قبلتُ.
هذا ركنٌ من أركان العُهدة.
ثم إذا غرم الوكيل، فلا شك أنه يرجع على الموكِّل، ولا تفصيل في ذلك.
بخلاف ما لو قال من عليه الدين لرجل: "اضمن عني الدينَ". فإذا ضمنه، وغرِمه، ففي رجوعه على المضمون عنه خلافٌ إذا لم يقيد المضمونُ عنه الإذنَ في الضمان بشرط الرجوع، وهاهنا لا حاجة إلى ذلك، بل نفس عهدة العقد تقتضي الرجوع بعد الغرم إن اتفق ذلك.
3654- الركن الثاني من العهدة- تصوير خروج المبيع مستحقاً بعد قبض الثمن. فإذا باع الوكيل وسلَّم المبيعَ وتسلم الثمن، ثم خرج المبيعُ مستحقاً، فإن كان عينُ الثمن باقياً، استردَّها المشتري، وردَّ المبيع على مستحقه.
ولو تلف ذلك الثمنُ، لم يخل إما أن يتلف في يد الوكيل، وإمّا أن يتلف في يد الموكِّل.
فإن تلف في يد الوكيل من غير تفريطه، فللمشتري الرجوع عليه، ووجهه بيّن، فإنَّ دراهمه تلفت في يده، ولم يكن مؤتمناً من جهته، ثم يثبت له الرجوع إلى الموكِّل، فإنه هو الذي ورَّطه فيما انتهى إليه الأمر، لمّا أمره بالبيع وأقامه وكيل نفسه، فيضمن هذا حق الرجوع عليه، وهذا متفق عليه في عُلقة العهدة، ولا محمل له إلا تعريضه إياه لما جرى، فهو من التغرير الذي يجرّ ضماناً لا محالة. وهو بمثابة ما لو أودع الغاصب العينَ المغصوبة عند إنسانٍ، والحال مشكل على المودَع، فالطّلِبة تتوجّه عليه، لثبوت اليد في الظّاهر. ثم إنه يرجع على الغاصب المودع؛ من جهة أنه غره لمَّا أَوْدع عنده، وإن كان التلف حصل في يد المودَع، فالقرار على الغاصب المودِع.
هذا الذي اتفق الأصحاب عليه في الوكيل، الذي نصبه الموكل في البيع والقبض، ثم ثبت الاستحقاق، وقد تلف الثمنُ المقبوض في يد الوكيل، من غير تفريطه.
وقد ذكرنا أن للمشتري مطالبةَ الوكيل بقبضه ماله، ثم له الرجوع على موكِّله لتغريره إياه، وينتظم منه أن قرار الضمان على الموكِّل؛ فإن أراد المشتري بذلك أن يطالب الموكِّل بالثمن، وما ثبتت يده عليهِ، فلست أرى له ذلك؛ من جهة أن يده ما وصلت إلى عين مالِ المشتري، وإن كان قرار الضمان عليه؛ من جهة الوكيل إذا غرِم، فلم يوجد منه في حق المشتري إلا أنه أمر وكيله بالمعاملة، ومن أمر غيره بغصب مالٍ، لم يصر بأمره غاصباً، فأقصى ما يتخيل في ذلك أنه غرّ وكيلَه، فغرّ وكيلُه المشتري، وهذا لا يوجب انتظام سبب المطالبة بين المشتري وبين الموكِّل، وهذا ما أراه.
وكذلك يجب أن يقال: إذا عُقد النكاح على حكم الغُرور، وألزمنا المغرور قيمةَ الولد لسيد الأمة، ثم أثبتنا للمغرور الرجوع على الغار، فقد جعلنا الغارَّ محلاً لقرار الضمان. وليس يتجه أن يقال: لسيد الأمة تغريمُ الغارّ ابتداءً، وإن كان الضمان يتوصّل إليه بطريق رجوع المغرور عليه.
وليس هذا كالغاصب إذا أودع؛ فإن للمغصوب منه مطالبة من شاء منهما؛ والسبب فيه أن يد كل واحد منهما اتصل بملك المغصوب منه، فكان مطالَباً لذلك، هذا ما أقدره.
ولستُ أنفي احتمالاً يراه ناظر في تثبيت مطالبة الموكِّل في مسألتنا، والغار في بابِ الغرور، من جهة أن استناد حرية الولد إلى التغرير، لا إلى الإيلاد والإعلاق. وكذلك القول في الوكيل والموكِّل.
فهذا بيان ما أردناه، والميل إلى الأول.
وقد صرح العراقيون بأن المبيع إذا خرج مستحقاً، وقد تلف الثمن في يد الوكيل، من غير تقصيرٍ منه، فلا يرجع المشتري على الوكيل أصلاً، وإنما يرجع على الموكِّل.
وهذا تصريح منهم بأن المشتري يطالِب المغرِّر. وألفاظ المراوزة تدل على أنه لا تتوجه المطالبة على الموكّل، وإنما يطالب الوكيل، ثم إذا غرِم الوكيل، رجع على الموكّل. ونفيُهم مطالبةَ الوكيل بعيدٌ عن قياس المراوزة.
والذي تحصل من ذلك أن الضمان متعلق بالموكِّل استقراراً. والذي يظهر القطع به أن الوكيل مطالَبٌ. وفيه وجه ضعيف حكيتُه عن العراقيين، وفي توجيه المطالبة على الموكِّل ابتداء ترددٌ. والذي ظهر من كلام المراوزة أنه لا يطالب ابتداءً والذي صرح به العراقيون: أنه يطالبه المشتري ابتداءً.
3655- وكل هذا إذا تلف الثمن في يد الوكيل، ولم ينته إلى يد الموكل. فأمّا إذا انتهى إلى يد الموكِّل، فتلف في يده، فلا شك أن المشتري يوجّه المطالبةَ على الموكِّل؛ فإن يده ثبتت على ماله، وإنما التردد المتقدم فيه إذا تلف الثمن في يد الوكيل، فإذا ثبت أن الموكِّل مطالَب من جهة المشتري ابتداءً، فهل له مطالبة الوكيل؟ نُظر فيه: فإن لم يمرّ الثمنُ بيد الوكيل، فلست أرى لمطالبة الوكيل وجهاًً إذا لم تثبت له يدٌ، والعقد لم يصح، حتى يتضمن عهدةً متعلقة بمن تولى العقد؛ إذ المبيع خرج مستحقاً. وإن مرَّ الثمن بيده، وانتهى إلى يد الموكِّل، ففي مطالبة الوكيل في هذه الصورة جوابان ظاهران في طريقة المراوزة؛ من جهة أن الوكيل متوسط، وقد بلغ المال منتهاه، وتلف في يد الموكِّل، والوكيل مؤتمنٌ، من جهة موكِّله، والمشتري وإن لم يوكِّله، فإنه يسلم الثمنَ إليه، ليسلّمه إلى موكِّله، فكأنه من هذا الوجه مؤتمن-من جهة المشتري- مأذون له في إيصال الثمن إلى موكله.
وقيل تتعلق الطَّلِبة به؛ لأن أخذ المال كان على حكم العُهدة.
وكل ما ذكرناه فيه إذا باع العدل بتوكيل الراهن، وأذن المرتهن، ثم جرى ما وصفناه.
3656- فأمّا إذا تولى الحاكم بنفسه بيعَ الرهن عند اتصال الخصومة بمجلسه، وقبض الثمن ليوصله إلى جهته، فتلف في يده، ثم خرج المبيع مستحقاً، فقد أجمع أصحابنا على أن الحاكم لا يتعلق به طَلِبةٌ، ولا ضمان، ولا يقال: يطالَب به، ثم يرجع؛ فإن الحكام لو تعلقت بهم العهدة في العقود التي يُنشِئونها لظاهر الاستصلاح، لعظم الأمرُ وكثرت المشقة، فاتفق الأصحاب على إخراج الولاة في أمثال هذه العقود عن العهد، والطّلِبةِ، والتغريمِ، ابتداء وقراراً.
وإذا كان كذلك، فلابد من إثبات الرجوع؛ فإن حق المشتري لا يضيع، والرجوع ابتداءً على الراهن لا خلاف فيه.
فإن قيل: ليس الراهن موكّلاً في عقدٍ يُتخيّل مرجوعاً عليه، وإنما الحاكم فعل ما فعل؛ فكان يجب أن يقال: لم يصدر من الراهن عقدٌ ولا توكيل في عقد، والحاكم لا يضمن، فلا يجد المشتري مرجعاً.
قلنا: هذا لا قائل به. وسبب تضمين الراهن أنه رهن ملكَ غيره، وكل من رهن شيئاًً، فقد عرَّضه للبيع على استحقاقٍ. وهذا أبلغ من وكالة تقبل العزل على الاختيار. فالحاكم بنى بيعه على حكم رهنِه، فقد صار بالرهن إذاً مغرِّراً، كما تقدم.
وهذا يعضد توجيهَ المطالبة على الموكِّل ابتداء في المسألة الأولى؛ فإنا لما رفعنا الحاكم من البَيْن، ووجهنا المطالبة على الراهن، فهو في هذه المسألة بمنزلة الموكِّل في المسألة الأولى ونص الشافعي فيمن مات وخلف تركة مستغرقة بالدين، فباع الحاكم تركته، وتلف الثمن في يده قبل أن يصرفه إلى الديون المحيطة بالتركة، ثم خرج المبيع مستحقاً، قال الشافعي: لا عهدة على الحاكم ولا طَلِبةَ، والعهدة على الميت، وتركتِه.
فإن قيل: إن كان الراهن في المسألة التي ذكرتموها الآن مغرراً، برهنه، من حيث كان مقتضى الرهن التعريضَ للبيع. فما سبب تعليق الضمان بذمة الميت في المسألة الأخيرةِ؟
قلنا: احتواؤه على المغصوب حتى يتعلق به الدين إذا مات تسبُّبٌ منه إلى تسليط الحاكم على البيع، والسبب المضمِّن قد يقرُب، وقد يبعد.
3657- فهذا إذا تولى الحاكم البيعَ، وأمّا إذا نصب أميناً، فباع الأمين الرهنَ، أو عيناً من التركة بإذن الحاكم، وتلف الثمن في يد الأمين، ثم تبين الاستحقاق؛ فلأصحابنا وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه لا تتعلق الطَّلِبة بالأمين؛ من جهة أنه منصوب من مجلس الحاكم، فكان كالحاكم. وهذا ظاهر نص الشافعي.
ومن أصحابنا من علق الطَّلِبةَ بالعَدْلِ، وإن كان منصوباً من جهة الحاكم. وهذا بعيد عن النص والقياس-وإن كان مشهوراً- فليس ينقدح الفرقُ بين الحاكم وبين منصوبه؛ فإن الحكام لا يتعاطون جملة العقود بأنفسهم، وما يفوضونه إلى الأمناء أكثر مما يتعاطَوْنه. ولو تعرض الأمناء من جهتهم لغرر العُهدة، لامتنعوا عن مباشرة الأمور، ويضيق بهذا السبب الأمرُ على القضاة. فإذا حططنا الطَّلِبةَ عن الحاكم؛ صيانةً لمنصبه، وجب طردُ ذلك في أمينه.
وقد قال أئمتنا: إذا ادّعى رجل محكوم عليه أن القاضي ظلمني، وتحيَّف عليَّ في حكمه، فلا تقبل دعواه على الحاكم نفسِه، فإنا لو فتحنا هذا البابَ، لانطلقت ألسنُ الخصوم على الولاة.
وفي هذا ترتيبٌ وتفصيل، سنذكره في أدب القضاة، إن شاء الله تعالى.
3658- فحصل من مجموع ما ذكرناه مراتب: إحداها- الوكيل الذي ينصبه الحاكم. وقد مضى القول في مطالبته ورجوعه، ومطالبة موكِّله.
والمرتبة الثانية- في تصرف الحكام بأنفسهم.
والثالثة- في تصرف الأمناء المنصوبين من جهة الحكام.
وقد نجز هذا الركن من أركان العهدة.
وليعلم الناظر أن ذلك ليس من عهدة العقد؛ إذ لا عقدَ مع الاستحقاق، ولكن القول في هذا دائر على التغرير والتسبب إليه، مع ثبوت الأيدي للمتوسّطين.
3659- والركن الثالث: من العهدة يتعلق بالرد بالعيب. وليس هذا موضعه.
وسنأتي به مبسوطاً في كتاب الوكالة، إن شاء الله عزّ وجل.
ثم قال الشافعي: إذا بيع الرهن، وخرج مستحقاً، لم تتعلق عهدة الثمن بالمرتهن أصلاً؛ إذ لم تثبت يده عليه، فإن الرهن، وإن بيع في حقه، فلم يأت من جهته تغرير، ولم تثبت يده على مال المشتري، وعينُ الرهن قد قبضها مستحقها. وقال أبو حنيفة: يتعلق العهد بالمرتهن. وقد رمز الشافعي إلى الرد عليه فقال: "وليس الذي بيع له الرهن من العهدة بسبيل".
فصل:
قال: "ولو باع العدلُ، وقبض الثمن، فقال: ضاع مني، فهو مصدق... إلى آخره".
6360- العدْل إذا وكله الراهنُ بالبيع، ورضي المرتهن، فباع وقبض الثمن، ثم قال: ضاع الثمن في يدي من. غير تقصير، فهو أمين مصدَّق، وإن اتّهم حُلِّف. وهذا لا شك فيه.
فلو ادعى العدل أنه دفع الثمن إلى المرتهن، فإن صدقه المرتهن، فذاك، وإن كذبه نُظر: فإن كذبه الراهن أيضاًً، توجه الضّمان على العدل. أمّا المرتهن، فلا شك أنه لا يقبل قول العدل عليه والقول قوله إني لم أقبض حقي، وقول العدل غير مقبول على الراهن في هذا المقام؛ من جهة أنه وإن كان أميناً في حقه، فقد ادعى تسليم المال إلى من لم يأتمنه، وقصر إذا لم يُشهد مع إمكان الجحود.
ولو قال الراهن: صدقتَ فيما ادعيتَ، وأنا أعلم أنك سلمت إلى المرتهن ما قبضت، فهل يضمن العدل والحالة هذه؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: لا يضمن لتصديق الراهن إياه.
والثاني: يضمن لتقصيره في ترك الإشهاد. ولهذا نظائر ستأتي، إن شاء الله تعالى.
ولو صدقه الراهن في التسليم، واعترف بأنه كان أشهد، ولكن مات شهوده؛ فلا ضمان.
ولو ادعى العدل أني كنتُ أشهدتُ ولكن مات شهودي، أو غابوا، وأنكر الراهن إشهاده، واعترف بتسليمه إلى المرتهن، فإن قلنا: اعترافه بتسليم الثمن إلى المرتهن كافٍ لتبرئة العدل، فلا إشكال. وإن قلنا: يضمن العدل وإن صدقه الراهنُ لتقصيره، فهل يضمن إذا ادعى الإشهاد وأنكره الراهن؟ فعلى وجهين: ذكرهما صاحب التقريب. ومُدرَك توجيههما لائح.
ولا خلاف أن الراهن لو شرط على العدل أن يُشهد على تسليمه، واعترف العدل بأنه لم يشهد، واعترف الراهن بأنه سلم إلى المرتهن، فالضمان يجبُ في هذه الصورة وجهاً واحداً؛ من جهة أنه خالف شرطَ موكله. وإن لم يكن شرط، فالمسألة على التردد في أن الاحتياط هل يُلزم العدلَ الإشهادَ.
هذا مأخذ الكلام.
فصل:
قال: "ولو قال أحدهما: بع بدنانير... إلى آخره".
3661- إذا حل الحق، فقال الراهن للعدل: بع الرهن بالدنانير، وقال الآخر: بعْ بالدراهم، فلا يبيع بواحد منهما، فإن بيع العدل ينفذ إذا صدر عن توكيل الراهن، أو رضا المرتهن، فإذا تخالفا، لم يمتثل قول واحد منهما، بل يرفع القضية إلى مجلس الحكم، ثم الحاكم يبيع، أو يأذن لمن يبيع بنقد البلد، إن رأى المصلحة فيه.
وهذا بيّن لا خفاء به.
فصل:
قال: "وإن تغيرت حال العدل... إلى آخره "
3662- إذا توافق الراهن والمرتهن على تعديل الرهن على يد عدلٍ، فإن أرادا رفعَ الرهن من يده وردَّه إلى آخر، جاز ذلك، فالحق لا يعدوهما. وإن أراد الراهن أن يتحكم بإزالة يد العدل، ويرد الرهن إلى يدِ آخر، لم يكن له ذلك؛ فإن حق القبض للمرتهن، فلا يجوز التصرف في اليد دون إذن المرتهن.
ولو أراد المرتهن أن يرفع الرهن من يد ذلك العدلِ دون إذن الراهن، لم يكن له ذلك، لا شك فيه.
والعدل في نفسه لا يرد الرهن على الراهن دون المرتهن، ولا يرد على المرتهن دون الراهن، فإن فعل، صار ضامناً، فإن دفعه إلى المرتهن دون إذن الراهن، ففات في يده، ضمن القيمة للراهن. وإن دفعه إلى الراهن دون المرتهن، ضمن للمرتهن إذا فات الرهنُ في يد الراهن. ثم ينظر: فإن كان الحق حالاًّ، فيضمن للمرتهن أقلَّ الأمرين من دَيْنه أو قيمةِ الرهن. وإن كان مؤجلاً، فعليه كمالُ القيمة، ليكون رهناً عند المرتهن.
وهذا يلتفت على أصل، وهو أن من يستحق ديناً مؤجلاً قد لا يجبره من عليه الدين على قبول حقه قبل محِلِّه، وقد مضى تفصيل ذلك في مواضع.
3663- فالغرض إذا ينكشف بذكر صورتين: إحداهما- أن يساعد الراهنُ العدلَ، فيخرَّج الأمر على ترتيب تعجيل الدين المؤجل، وتوفير المعجّل. ومساعدة الراهن بأن يأذن للعدل في أداء الدين، أو يؤدي الدينَ بنفسه. ويكفينا الآن التصوير في إذنه للعدل بأن يؤدي الدين. فينتظم الفرق بين الحالّ والمؤجل.
فإن كان الدين حالاً، لم يلزمه إلا أقلُّ الأمرين، كما ذكرناه، تفريعاً على أن من أدى دينه المعجل، لم يكن له أن يمتنع عن قبوله. وإن فرض في الدين المؤجل، ففي الإجبار على القبول التفصيل المذكور. فإن قلنا: لا يجبر من له دين مؤجل على قبوله، تعيّن على العدل أن يضع قيمةَ الرهن رهناً إلى حلول الدين. وإن قلنا: يجبر على قبول الدين، فالكلامُ في الدين المؤجل كالكلام في الدين الحالّ. وهذا كله إذا أذن الراهن له في أداء الدين.
فأما إذا لم يصادِف الراهنَ حتى يستأذن منه، أو لم يأذن له الراهنُ في أداء الدين، فلا يجب على المرتهن أن يقبل الدين منه، مؤجلاً كان أو حالاً. بل يقول: لستَ مأذوناً من جهة من عليه الدين، ولا أقبل تبرعك بأداء الدين. وإذا كان كذلك نُظر: فإن كان الراهن حاضراً، قاله له العدل: رددتُ عليك الرهن، وأنت المالك، فخلِّصني بالإذن في أداء الدين، أو بأداء الدين.
وإنما تحسن هذه المسألة إذا كان الدين أقلَّ من قيمة الرهن، وقَبْل أن تتفق مفاوضة الراهن بما ذكرناه يغرَم للمرتهن قيمة الرهن، وإن كانت ألفاً، والدين دينار.
ثم إذا تمكن من الراهن، ففاوضه، فقال الراهن: لست آذن لك في أداء الدين، ولست أؤديه، وكان المرتهن لا يطالب أيضاً، فهذا يؤدي إلى تعطيل مال عظيم على العدل من غير فائدة، ولكن القيمة مرهونة، والراهن مأمورٌ بتخليصها إذا كان الدين حالاًّ، كما يؤمر المستعير بتخليص العبد لمعيره، كما سنذكر؛ فإن تغريم القيمة لغير المالك، والعين مردودة على المالك يستحيل أن تبقى على التأبد بغير نهاية، فيتعطل مال بأن يتواطأ الراهن والمرتهن.
ولو كان عين الرهن قائمة، فهي مستردة من الراهن. وإن تلفت، فضمان القيمة لتوضع رهناً متوجه على الراهن.
ولو غرم العدل للمرتهن قيمةَ الرهن، وقد سلمه إلى الراهن، فله الرجوع بما غرم على المالك الراهن.
فإن فاتت العين، فإنه يقول: إنما غرمت بسبب أخذك الرهن بغير حق، فأرجع عليك. ولو كان الرَّهن قائماً في يد الراهن، لوجب رده على حكم قبض المرتهن.
وهذا بيّن.
وما ذكرناه فيه إذا أعرض المرتهن عن مخاصمة الراهن. وتشبث بالعدل.
والتفصيل ما ذكرناه.
فصل:
3664- ثم ذكر الشافعي تغير حال العدل عن العدالة، وبنى عليه أنه إذا فسق، فللراهن ألا يرضى بيده، وإن رضي الراهن، فللمرتهن ألا يرضى؛ فإن الحق ثابت لهما. أما الراهن، فله طلب الاسترداد والاستبدال به؛ محافظة على ملكه، وللمرتهن مثل ذلك محافظةً على وثيقته، وإذا جنى العدل عمداً على الرهن، فهو منه فسوق، ولو جنى خطأً، لم يفسق، ولزمه أرش جنايته، والرهن مُقَرٌّ تحت يده، ولو كان من عدّل الرهن عنده فاسقاً في الابتداء وكانا عالمين بفسقه، فأراد أحدهما أن يرفع يده عن الرهن، لم يكن له ذلك.
فإن ازداد فسوقاً إلى فسوقه المتقدم، كان ذلك بمثابة فسوق العدل. وقد سبق التفصيل فيه.
ثم ذكر الشافعي بعد ذلك أن العدل لو أراد أن يودع الرهن الكائن تحت يده عند إنسان، فكيف حكمه؟ وهذا لا اختصاص له بالرهن، وسأذكره مستقصى في كتاب الوديعة، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "ولو جنى المرهون على سيده... إلى آخره".
3665- إذا رهن الرجل عبداً وسلمه إلى المرتهن، فجنى على السيد الراهن، فلا يخلو: إما أن يجني على طرفه وإما أن يجني على نفسه. فإن جنى على الطرف، لم يخل: إما أن يكون موجباً للقصاص أو للمال، فإن كان موجباً للقصاص، فللسيد الراهن أن يقتصّ منه؛ لأن عماد القصاص الزجرُ وشفاءُ الغيظ. والحاجةُ ماسة إلى زجر العبيد عن الجناية على السادة، وشفاءُ الغليل مما يحتاج السيد إليه، فله القصاص. وإن كان يؤدي إلى إبطال حق المرتهن من الوثيقة. ومهما جرى من المرهون ما يوجب القصاص، لم يندفع القصاص بسبب حقِّ الغير في المالية. وإن كانت الجناية موجبة للمال في جنسها، أو كان موجباً للقصاص، فعفا السيدُ على مال، فلا يثبت المال أصلاً؛ لأن السيد لايستوجب في ذمة عبده مالاً على الابتداء قط.
وإذا لم يثبت له حق مال في رقبة عبده، ولم يثبت القصاص، أو ثبت وسقط، فيبقى العبد مرهوناً إلى الفكاك.
هذا ما أجمع عليه الأصحابُ، ولم يحكِ أحدٌ فيه خلافاً إلا صاحبُ التقريب، فإنّه ذكر وجهاً بعيداً فقال: ذهب ابن سُريج إلى أَنَّ للسَّيد أن يبيع من العبد الجاني بقدر أرش الجناية؛ حتى ينفك الرهن في ذلك المقدار، فيثبت له هذا الحق، وإن كان لا يثبت له دين على عبده.
وهذا ضعيف جداً، حكيناه ولا نعود إليه.
هذا إذا كان تعلُّق الجناية بالطرف.
3666- فأما إذا قتل العبد المرهونُ السيدَ الراهن، فإن أراد ورثتهُ الاقتصاصَ، كان لهم ذلك. وإن لم تكن الجناية جنايةَ قصاص، أو ثبت القصاص فأسقطوه بالعفو، فلا يثبت لهم عُلقة مالية؛ فإنا إن قلنا: الدية تجب للمقتول، ثم تنتقل منه إلى وارثه، فعلى هذا لو أثبتنا الدية للسيّد، لأثبتناها للمالك. وقد ذكرنا أن ذلك محال.
وإن فرَّعنا على أن الدية تثبت ابتداءً للورثة، فهم يملكون رقبة العبدِ الجاني، في الوقت الذي يملكون فيه الدَّيْن لو أمكن ملكهم فيه. وكما لا يطرأ ثبوت الدين للسيد على ملكه، وكذلك لا يقترنان؛ فإنهما على حكم التناقض يتجاريان، فكيف فرض الأمر لم يثبت للورثة حق مالي؛ فيبقى العبد مرهوناً، كما كان، على المذهب المقطوع به.
3667- ولو جنى العبد المرهون على ابن السيد الراهن، نُظر: فإن كانت الجناية على الطرف، فللابن القصاصُ، فإن استوفاه، فذاك. وإن عفا على مالٍ، أو كانت الجناية مالية، فالعبد يباع في الأرش، ويفك الرهن.
وإن لم يتفق من الابن تحصيلُ ذلك، والمطالبه به حتى مات، وورثه أبوه الراهن، لم يُخَلِّف وارثاً غيرَه، فهذا موضع تردد الأصحاب.
منهم من قال: يثبت للأب حق فك الرهن على ما تقتضيه الجناية؛ فإن المال لم يثبت له ابتداءً حتى يحكم باستحالته.
ومن أصحابنا من قال: لا يثبت حق فك الرهن.
وبنى الأئمة هذا الاختلافَ على أصل، وهو أن من استحق دين على عبداً، ثم ملكه، فالدين الثابت قبل الملك هل يسقط بطريان الملك؟ فيه خلافٌ مشهور. فإن حكمنا بأن الدين يسقط بالملك الطارىء، قال الأصحاب: فعلى هذا لا يثبت للأب إذا ورث ابنَه حقُّ فك الرهن، وسقط بما جرى الاستحقاقُ. وإن قلنا: الدينُ لا يسقط بالملك الطارىء، فقد قال الأصحاب للأب حقُّ فكِّ الرهن في مسألتنا.
هذا ما اشتملت عليه الطرق، واتفق الأصحاب عليه، كأنهم تواصَوْا فيه، وهو في نهاية الإشكال؛ من جهة أن الملكَ في العبد مستدامٌ، والإرث إن أثبت له ملكاً أثبته جديداً على مملوكه، فكيف يكون الاستحقاق الطارىء على الملك بمثابة الملك الطارىء على الاستحقاق؟
ولكن الأصحاب قالوا: إذا ثبت دينٌ، ففي سقوطه بالملك الطارىء خلاف. فإذا ثبت الدين لغير المالك، ثم انتقل إلى المالك، فيخرّج هذا على الخلاف؛ فإن أصلَ الدين ثبت.
فهذا هو المنتهى في ذلك، نقلاً وتنبيهاً.
وكان القول فيه يتعلق بأن العبد له ذمة، ولا احتكام للسيد عليه فيها. وإنما منعْنا معاملةَ السيد عبدَه القن، من جهة أنا لا نرى للعبد استمكان الخروج عما نقدّره لازماً، والرق لا نهاية له. فإذا فرض للدين ثبوت في جهة، فكأنهم على وجهٍ لا يستبعدون انتقاله إلى السيد بعد ارتباطه بالذمة، كما لا يستبعدون بقاء الدين إذا طرأ الملك.
وكل ما ذكرناه فيه إذا جنى المرهون على طرف ابن الراهن ثم مات بسبب آخر.
3668- فأما إذا قتل المرهونُ ابنَ الراهن، فإن كان القتل موجباً للقصاص، فقد مضى القول في القصاص، ووضح أنه لا دفع له إذا أراده مستحقُّه، وإن كان القتل خطأً، رتب الأئمة القولَ في ذلك على اختلافٍ سيأتي في الديات، في أن الدية تجب للقتيل أولاً، ثم تنتقل إلى ورثته، أم تجب ابتداءً للورثة. قالوا: إن قلنا: تجب للورثة ابتداءً، فلو أثبتناها، لأثبتناها للسَّيد الوارث ابتداءً. وهذا لا سبيل إليه، فلا يثبت له حق فك الرهن.
وإن قلنا: الدية تثبت للمقتول، ثم تنتقل إلى ورثته، فهذا في الترتيب كأرش الطرف، إذا ثبت للابن، ثم مات بسبب آخر. وقد فصَّلنا هذا.
3669- ولو جنى العبد المرهون على عبد الراهن تُصوِّرت مسائل عند ذلك:
إحداها- ألا يكون ذلك العبدُ المجنيُّ عليه مرهوناً، فحكمه حكم ما لو جنى على نفس الراهن. أمَّا القصاص، فإلى المولى، وأما المال، فلا يثبت كما مضى.
ومن المسائل أن يجني العبد المرهون على عبد آخر للراهن مرهون عند إنسان آخر، أما القصاص، فكما مضى. وإن كانت الجناية مالية، أو آل الأمر إلى المال، فقد تحقق اعتراض على حق المرتهن الذي قُتل العبد المرهون عنده، فإن كانت قيمةُ العبد القاتل مثلَ قيمة المقتول، أو أقلّ منها، بعناه، ووضعنا ثمنه رهناً بدل العبد المقتول. وإن كانت قيمة الجاني أكثر، فنبيع منه قدرَ قيمة المقتول، ونضعه رهناً، وإن كان التشقيص يتضمن تعييباً، ففي بيع بعضه إبطالُ حق المالك، وفيه أيضاًً إبطال حق المرتهن الذي جنى العبد المرهون عنده. فإذا رضي المالك، ومرتهنُ الجاني ببيع كلِّه، بعناه، وصرفنا مقدار قيمة المقتول إلى مرتهن المقتول، وجعلناه رهناً عنده، وتركنا الباقي عند مرتهن الجاني.
وإن قال مرتهن الجاني: لست أرضى ببيع الفاضل منه عن قدر القيمة، وقال المالك: لست أرضى بتنقيص ملكي بسبب التشقيص. وقد يفرض هذا على العكس بأن يرضى المالك بالتشقيص، ولا يرضى المرتهن، فالذي يدل عليه كلام الأصحابِ أنّا نرعى المصلحةَ ولا نبالي بمن يحيد عنها؛ فإن المالية هي المقصودة، فإذا اجتمع اعتبار المالية، وحقُّ الاختصاص بالغير، فالمالية أولى بالرعاية، وإذا لم يكن بد من إجابة أحدهما واستحال الجمع، فلا فرق في تقديم جانب على جانب، إلا رعاية المصلحة.
3670- ومن تمام البيان في ذلك أن قيمة الجاني لو كانت مثلَ قيمة المقتول، وكنا نفك الرهن بسبب مرتهن المقتول، فلو قال الراهن لمرتهن المقتول: لا غرض لك في بيع هذا العبد، فاكتف برقبته، حتى أفك رهن مرتهن الجاني، وأنقلَ حقك إلى رقبته، فإن رضي بذلك مرتهنُ المقتول، جاز وفسخ الرهن في حق مرتهن الجاني، ولا مجال له في المناقشة في هذا؛ فإن حقه إذا كان يرتفع، فتعلقه باستدعاء البيع فضول.
أما مرتهن المقتول إذا قال: لست أبغي هذا العبدَ، فبعه، وضع ثمنَه رهناً، فهل يجاب إلى ذلك؟ ذكر شيخي وصاحب التقريب وجهين في هذا:
أحدهما: أنه لا يباع؛ فإن حقه عاد إلى المالية، والعبد الجاني قد تعلق الأرش برقبته، فهو أقرب من قيمته. والوجه الثاني- أنه يجاب فيباع؛ فإنه يقول: كان حقي في رقبة العبد الذي قتل، فإذا قتل، فحقي في قيمته، فلا أرضى إلا بها.
ولا خلاف أنه لو أتى بعبدٍ آخر، وأراد أن يُجبر المرتهنَ على قبوله رهناً، بدل العبد المقتول، لم يُجبَر المرتهنُ على قبوله؛ فإنه ليس قيمة، ولا متعلّق قيمة والعبد الجاني قد تعلق القيمةُ برقبته.
ولم نطوّل الفصلَ بذكر القتل الواقع عمداً، مع تصوير العفو مطلقاًً، أو على مال.
وتخريجه على اختلاف الأقوال، ولكنا نذكر قولاً وجيزاً، فنقول: إذا ثبت حق القصاص للراهن على العبد المرهون، وكان قتل عبداً آخر مرهوناً عند آخر، فإن أراد الاقتصاصَ، فلا منع، وإن أراد العفو على مالٍ، ثبت المال، وتعلق به حق مرتهن المقتول. وإن عفا على غير مال، فهو في العفو على غير مالٍ كالمفلس يعفو عن قصاصٍ، ثبت له على غير مالٍ، والديون محيطةٌ والحجر مطرد، وذلك لأن الراهن محجورٌ عليه حجرَ خصوصٍ في المرهون، كما أن المفلس محجور عليه. وتفصيل هذا يأتي في كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى.
وكل ما ذكرناه فيه إذا قتل عبد مرهون عبداً آخر لذلك الراهن، وكان مرهوناً عند رجل آخر.
3671- فأما إذا رهن رجل عبدين عند آخر، فقتل أحد العبدين الآخر، فإن كانا مرهونين بدين واحد، فقد فات العبدُ الذي مات، والعبدُ الباقي مرتهنٌ بجميع الدين، ولا حاجةَ إلى تكلف نقل، وكنا هكذا نقول لو مات أحدهما حتف أنفه.
فأمّا إذا رهن كلَّ واحد من العبدين بدينٍ مغاير للدين الآخر. فإذا قتل أحدُ العبدين الثاني، وقال المرتهن للراهن: قرِّر الدينَ المتعلقَ برقبة القاتل، وانقل إلى رقبته الدينَ الذي كان متعلقاً برقبة العبد الذي قُتل، فلسنا نجيبه إلى ذلك. اتفق الأصحاب عليه، فليقطع الناظر إمكان ذلك عن فكره؛ والسبب فيه أنه ما لم يفك عن الرهن المتعلِّق به، لا يتصور ربطُ دين آخر به.
هذا سبيل اعتراض الجنايات على المرهون. فإذا أردنا تقريرَ الرهن الأول، ونقلَ الدين الثاني، لم يكن ذلك على مقتضى تأثير الجناية في الرهن.
فإذا ثبت هذا، نظرنا بعده، وقلنا: إن كان الدين المتعلق بالقاتل أكثر من الدين الذي كان متعلقاً بالمقتول، فلا فائدة في نقض رهن القاتل، ونقل رهن المقتول إليه، وليقع الفرض فيه إذا استوى الدينان في التأجيل والتعجيل، كذلك إذا استوى مقدار الدينين مع ما ذكرناه. فلا غرض، فإذا استدعى المرتهن النقل، لم نسعفه واعتقدناه ملتمساً شيئاًً غير مفيد.
نعم لو قال: بيعوا هذا الجاني، وضعوا قيمته رهناً؛ فإني لا آمنه، وقد يبدر منه ما بدر، والقيمة أبعد عن قبول الآفات من العبد، فهل يجاب لهذا الغرض إلى ما يريد؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: نجيبه إلى مهواه؛ فإنه ذكر غرضاً صحيحاً، وقد حدث ما يوجب تغييراً على الجملة.
والثاني: أنا لا نجيبه كما لو ارتهن عبداً، فبدر منه هناةٌ قرَّبته من الهلاك، فقال: بيعوه أثق بثمنه، لم نجبه إلا أن يمرض مرضاً يخافُ موته، فيلحق التفصيل بالمطعوم الذي يُسرع الفساد إليه. وقد مضى.
فإن قلنا: لا نجيب المرتهن في مسألة الجناية، فلا كلام.
وإن قلنا: نجيبه، فنضع ثمنه إذا بعناه رهناً بالدين الذي كان متعلقاً برقبة المقتول. هكذا يقع الأمر، وإن كان الغرض لا يختلف في المقدار والحلول والتأجيل، حتى لو كان الدين المتعلق بالقاتل أكثر، لم نجعل ثمنه رهناً إلا بالدين الأقل؛ فإنّ بيع العبد بسبب الجناية، مع تبقية القيمة في ذلك الرهن بعينه محال.
ولو اختلف الجنس وكان أحدهما دنانيرَ والآخر دراهم، ولكنَّ المقدارين متساويان في المالية، وكانت الدراهم بحيث لو قومت بالدنانير، لبلغت قيمتُها مبلغَ الدنانير، التي هي أحد الدينين، فليس اختلاف الجنس من اختلاف الغرض. ولو كان الدينان متفاوتين بالحلول والتأجيل، فهذا من الأغراض، ولا فرق بين أن يكون دينُ المقتول مؤجلاً أو حالاً؛ إذ في الحال غرض ليس في المؤجل، وفي المؤجل غرض ليس في الحال؛ فإن القاتل لو كان رهناً بالحال، نقلنا إلى المؤجل ليتوثق، ويستوفى الحالُّ في الحال. وإن كان القاتل رهناً بالمؤجَّل، ننقله إلى الحالّ، فيبيعه فيه. وهذا غرض ظاهر.
ومبنى المسألة على اتباع الغرض. فإن لم يكن في النقل غرض، فلا نقلَ إلا في استدعاء جواز البيع؛ فإن فيه اختلافاً ذكرته.
وإنما ينتظم ذكر الأغراض إذا فرعنا على أنه لا يجاب إلى بيع القاتل إذا لم يلُح غرضٌ غيرُ البيع.
ثم ذكرَ الشافعي إقرارَ العبد المرهون بما يوجب القصاص، وبما يوجب المال، وقد تقدم القول فيهما، وذكرنا التفصيل فيه إذا أقر بما يوجب القصاص، وقبلنا إقرارَه في العقوبة، فعفا المقَرُّ له على مالٍ.
3672- ثم قال: "فإن كان السيد أمر العبد بالجناية... إلى آخره".
إذا رهن عبداً وأقبضه، ثم أمره بالجناية، فإن كان مميَّزاً، ولم يصدر من السيد إكراهٌ، فلا أثر لأمره، فيما يتعلق بأحكام الجناية، وحكم الجناية الصادرةِ عن أمره كحكم الجناية التي يستبدّ بها. وإن كان غير مميز ولكن كان ألِفاً لاتِّباع أمر سيده إلفَ السبُع لمن يقوم عليه، وكان يسترسل في الجناية عند الأمر طبعاً، استرسالَ السبع عند الإشلاء والإغراء، فإذا أشار السيد إلى مثل هذا العبدِ، فانطلق، وقتل إنساناً، أما السيد فحكمه حكم المكرِه على القتل، وأمّا العبد، فلا شك أنه لا يتعرض لاستحقاق عقوبة ولا تمييز له، فالعقوبة على المكلّف، وفي تعلق الأرش برقبة مثل هذا العبد وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه يتعلق برقبته بصدور عين الفعل منه.
والثاني: لا يتعلق برقبته، فإنه كالآلة المردَّدة، وكالسبع يغريه القائم عليه، ثم لا يتعلق برقبة الفهد المغرَى شيء، كما لا يتعلق بالسيف والأسلحة.
ولو أكره السيد عبدَه المختارَ على الجناية، ففي المكرَه قولان، وتفاصيل طويلة ستأتي في كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى.
وقدر غرضنا منها أنا إن جعلنا المكرَه كالآلة، ولم نعلِّق به غرضاً، ولا عقوبة، فلا يمتنع أن نخرّج المسألةَ فيه على وجهين، في أن الأرش هل يتعلق برقبته أم لا؟ كما ذكرناه في العبد الأعجمي، ولا يبعد أن يرتب، ويجعل المكرَه أولى بأن يتعلق برقبته من قِبَل أن التكليف ليس منقطعاً عنه، وإن كان مُكرهاً على القتل، فتأثيمه من أحكام ثبوت اختياره، وليس كالعبد الأعجمي.
وحقائق هذه الفصول تأتي في الجنايات، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "ولو أذن له، فرهنه، فجنى، فبيع في الجناية، فأشبهُ الأمرين أنه كير ضامنٍ، وليس كالمستعير الذي منفعته مشغولة... إلى آخره".
3673- إذا استعار رجل عبداً من مالكه ليرهنه بدين عليه، فقد أطلق الأصحاب أنه إذا رهن العبد المستعار بإذن مولاه، فالرهن جائز. ثم قالوا في حقيقة هذا الرهنِ قولان؛ أحدهما- أنه يُنحى به نحو الضمان.
والثاني: أنه يُنحى به نحو العاريّة، فنبيّن القولين، ثم نوجههما، ثم نفرعّ عليهما.
أما بيانهما: فمن قال: سبيله سبيلُ الضمان، فتقديره أنه إذا أذن للمستعير أن يُلزم رقبةَ العبد المستعار مالاً، وسيد العبد وإن كان بريئاً عن دين المستعير، فلو ضمنه، لصار ملتزماً ماله. فهذا في حكم ضمانٍ في عين العبد، ومالكُ العبد متبرع به، تبرّعَ الضامنين بإنشاء الضّمان.
ومن قال: يجري مجرى العارية، فمعناه أن المستعير ينتفع بمنافع المستعار، فكأنه جعل التوثق برقبته انتفاعاً به، فهذا معنى جريانه مجرى العواري.
3674- توجيه القولين: من نزله منزلة الضمان، فوجهه أن المالك بريء عن دين المستعير، وإذا ثبت الرهنُ وانبرم بالقبض، فموجبه اللزوم، ولا وجهَ للزوم الدين في حق البريء عنه إلا الضّمان، غيرَ أن المالك يتصرف في ذمته، ويتصرف في أعيان ملكه، ثم ملك أن يُلزم ذمته البريئة دينَ الغير بطريق الضّمانِ، فيملك أن يُلزم رقبةَ ماله دينَ الغير متبرعاً، وهو في الوجهين متصرِّفٌ في محل تمكنه ومِلكه، غيرَ أنه إن ضمن، فلا تعلق للمضمون بماله، وإذا علق الدينَ بماله، فلا تعلّق له بذمته.
ومن قال: يُنحى به نحو العارية، فوجهه أن الضمان محلُّه الذمة، فلا يتعلق الملتزَم بعينٍ قط، وهذا الحق يتعلق بالعين، وراهنه مستعيرٌ، فالرهن عاريةٌ في جهة مخصوصة.
ونصُّ الشافعي مردَّدٌ بين القولين، فأنه قال: "فأشبه الأمرين"، فكان هذا ترديداً. ثم قال: "وليس هذا كالمستعير"، ففي نصه تردد، وصغوُه إلى قول الضمان.
أمّا التفريع، فقد اختلفت الطرق، وتباينت المسالك. والسبب فيه ميلُ هذا الأصل عن قياس القواعد، وبعده عن الأفهام، فلا يكاد يحيط بأطراف المسألة إلا فقيه موفق.
3675- فأول ما نصدّر الكلامَ به بعد ذلك أن العراقيين حَكَوْا عن ابن سريج أنه قال: إن جعلنا الرهن مشبهاً بالضّمان، فهو صحيح ثابت. وإن قلنا: يُنحَى به نحو العواري، فالرهن غير صحيح؛ فإن من حُكم الرهن أن يلزم بالقبض، والعارية لا تلزم. فلا وجه لجمع حكميهما النقيضين. ولكن كأن المعير وعد المستعير أن يرخص له في بيع المستعار، وصرفِ ثمنه إلى دينه، وليس بينهما إلا موعد ورجاء. فإن وفى فحسن، وإن أخلف، فله ذلك.
وهذا قريب في القياس بعيد في الحكاية. وسيكون لنا في أثناء الفصل إلى هذا عودةٌ مقرونة بتنبيه. فليقع التفريع على صحة الرهن. فالتفاريع نخرّجها على القولين، فنذكر من قضايا الفصل أحكاماً، ونفرعّ كل حكم على القولين، وإذا نجزت، تعدَّينا إلى حكمٍ آخر، حتى نأتي على أطراف المسألة.
3676- فالذي أرى تقديمه القولُ في لزوم هذا الرهن. فإن فرَّعنا على قول العارية، فالذي ذكره القاضي أن للمعير أن يرجع عن إذنه قبل جريان الرهن، وله أن يفسخ الرهن بعد جريانه، وقبل اتصاله بالقبض، فإذا اتصل بالقبض، لم يملك المعيرُ فسخَ الرهن، والرجوعَ في العارية؛ فإنه لو ملك ذلك، لم يكن لهذا الرهن معنى، ولم تحصل به الثقة.
ومن دقيق ما ينبغي أن يتأمله الناظر في هذه التفاريع الفرقُ بين المستعير وبين
المرتهن، فالعارية متمحضة على قول العارية، في حق المستعير، فأما المرتهن، فليس مستعيراً وإذا لم يكن مستعيراً، وجب أن تثبت له خاصية الرهن، وهي وثيقة، ولا وثيقة من غير ثقة، ولا ثقة مع إمكان الرجوع، ورب عارية تُفضي إلى اللزوم؛ فإن من استعار بقعةً ليدفن فيها ميتاً، فدفن، لم يجز نبشه، إلى غير ذلك من نظائرَ ستأتي إن شاء الله تعالى.
وقطع صاحب التقريب والشيخ أبو محمد، والأثبات من أصحاب القفال أن الرهن لا ينتهي إلى اللزوم على قول العارية؛ والمعير متى شاء رجع، واستردّ، وإن اتصل الرهن بالقبض.
وذكر صاحب التقريب وجهين في صورةٍ: وهي أنه لو كان الدين مؤجلاً، قال: يجوز له أن يرجع بعد حلول الأجل. وهل له أن يرجع قبل حلول الأجل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، كما لو كان حالاً، إذ لم تلزم العارية.
والثاني: يجوز؛ لأنه أقَّت إذنه، ورُبط به شيء فصار كما لو أعار للغراس إلى مدة.
هذا بيان اختلاف الطرق على قول العارية.
3677- فأما إذا فرّعنا على قول الضمان، فإذا اتصل الرهنُ بالقبض، لزم على هذا القول؛ ولم يملك المعير الانفراد بالرجوع. وهذا على هذا القول متفق عليه بين الأصحاب.
ولو أراد المعير الرجوعَ بعد الرهن، وقبل القبض، مَلَك. فإن قيل: لم كان كذلك؟ وهلا ثبت الضمان لازماً في حق المعير بنفس عقد الرهن؟ قلنا: لا شك أن المستعير يتخير قبل الإقباض في فسخ الرهن، فإذا لم يلزم الرهن في حقه، وعليه الدين، فكيف يلزم في حق المعير. والتحقيق فيه أن الرهن إذا تم، حل محلَّ الضمان، ولا يتم إلا إذا اتصل بقبضٍ.
والذي يُظهر سرَّ هذا الفصل في هذا المقام أن الذين صاروا إلى أن الرهن لا ينتهي إلى اللزوم على قول العارية ما نراهم يُثبتون من الرهن إلا اسماً ولقباً. وعندي أن مذهبهم موافقٌ لما حكاه العراقيون عن ابن سريج؛ فإن الرهن إذا كان لا يلزم، ولا يملك الراهنُ المستعيرُ بيعَ الرهن في دينه كما سنذكره، فلا أثر للحكم بصحة الرهن، ويؤول القول فيه إلى وعد مجرد.
3678- ومما نفرعه أنا إذا قلنا: هذا عارية، وحل الحق أو وَقع الرهن بدَيْنٍ حالٍّ أوّلاً، فلو أراد المستعير بيعَه وصرْفَ الثمن إلى دينه، من غير مراجعةِ مالك العين، لم يجد إليه سبيلاً، فلا يبيعه إلا بإذن مجدد، صرح بهذا معظم الأصحاب. ورمز به آخرون.
وإن فرعنا على قول الضمان، فلا يملك المستعير الانفراد بالبيع أيضاًً ما وجد اقتداراً على أداء الدين من ماله، فإن أفلس، ولم يجد ما يؤدي به دينَه، فيباع المرهون في دينه وإن سَخِط المعير.
فانتظم من هذا أنا إذا فرّعنا على قول العارية، فلا سبيل إلى البيع في اليسار والإعسار إلا بذن مجدد، ونفسُ الإذن في الرهن لا يكون إذناً في البيع. وإن فرَّعنا على قول الضمان، لم يجز البيع إلا عند العجز عن الأداء. فإذا تحقق، لم نرعَ رضا المالك المعير. وما ذكره من التفريع على قول العارية يؤكد تخريجَ ابن سريج، ويوهي الحكمَ بصحة الرهن، فليتنبه الناظر لما يمرّ به.
وقياسُ طريق القاضي إذا حكم بلزوم الرهن على قول العارية أن يجوز بيعُ الرهن عند الإعسار من غير مراجعة، كما يجوز ذلك على قول الضمان. هذا قياسه.
ولكن لم يتعرض له صريحاً.
3679- وممّا نفرعه القولُ في أن المعير هل يجبر المستعير على فك الرهن؟ أما من قال: لا يلزم الرهن على قول العارية، فلا فائدة لهذا، والمعيرُ مستبد بالرجوع متى شاء.
وإن ألزمنا الرهن على قول الضمان، اتجه إجبار المعير المستعيرَ على فك الرهن.
قال القاضي: إن كان الدين حالاًّ، ملك المعير إجبار المستعير على فك الرهن، سواء قلنا: إنه عارية، أو ضمان وليؤدِّ الدين من ماله. ولا شك أن هذا في حالة يساره. وإن كان الدين مؤجلاً، قال: خرج الإجبار على الفك على القولين: فإن قلنا: الرهن عارية، ملك إجبارَ المستعير على الفك، فأثر العاريةِ عند القاضي يظهر في الدين المؤجل، وكأنه جعل الإجبار على الفك من آثار العواري.
وإن قلنا: الرهن ضمان، فلا يملك إجبارَ المستعير على الفك، كما لو ضمن ديناً مؤجلاً؛ فإنه لم يملك إجبارَ الأصيل المضمون عنه على تبرئة ذمته بأداء ما عليه من الدين.
ولو كان الدين حالاًّ، فقد نقول: يملك الضامن بإذن المضمون له إجبارَ المضمون عنه على أداء ما عليه حتى يبرأ الضامن.
فإن قيل: أليس ذلك مختلَفاً فيه؟ قلنا: نعم اختلف الأصحاب في أن من ضمن ديناً بإذن من عليه الدين، فهل يملك إجبارَه على أداء ما عليه؟ فإن يل: هلاَّ خرجتم الرهن في قول الضمان على هذا الخلاف، حتى تحكموا بأن إجبارَ المستعير على فك الرهن والدين يخرج على وجهين؟ قلنا: بين المسألتين فرق؛ وذلك أن الضامن قبل أن يغرَم ليس عليه بأس إلا تعلق الدين بذمته، وليس كذلك ما نحن فيه؛ فإن العبد المستعار مشتغل بوثيقة الرهن، فكان هذا شبيهاً بأداء الضامن ما ضمنه، ولو أداه يرجع به على المضمون عنه إذا كان الضمان مأذوناً فيه، وهذا مضمومٌ إلى العلم بأن الرهن ليس ضماناًً محضاً، وهو مشوب نقصاً بالعارية وكأن حقيقة الخلاف راجع إلى أن المغلّبَ حكم الضمان أو حكم العارية ومن طلب من المشوبات مقتضى التمحّض، لم يكن على بصيرة.
3680- ومما نفرعه أن العبد المستعار المرهون لو مات في يد المرتهن، فحكم الضمان مفرّع على القولين: فإن أجرينا الرهن مجرى العارية، وجب ضمان القيمة على المستعير؛ فإن العارية مضمونة.
وإذا قلنا: سبيله سبيل الضمان، فلا ضمان. فإن قيل: هلا جعلتم تلف العبد على حكم المستعير، بمثابة تلف مالٍ في يد إنسانٍ قد أخذه ليصرفه إلى دينه؟ قلنا: ذلك اقتراض في الحقيقة، وما نحن فيه تعليق برقبة العبد، والأداء منه مرقوب، فإذا فرض التلف، فلا ضمان، قال القاضي: إذا ضَمَّنا المستعيرَ على قول العارية، فلا ضمان على المرتهن؛ فإنه ليس مستعيراً، وإنما المستعير هو الراهن، والمرتهن يمسكه رهناً، لا عارية. وهذا حسن منقاس.
وإذا فرع مفرع على قول ابن سريج، ففي تعليق الضمان بالمرتهن نفسِه تردّدٌ، والظاهر أن لا ضمان عليه.
3681- ومما نفرعه جنايةُ العبد المستعار، فإن حكمنا بأن الرهن ضمان، فلا يجب على المستعير ضمان أرش الجناية؛ فإن يد المستعير على هذا القول ليست يد ضمان، فما الظن على اليد المتفرعة على يده.
وإن قلنا: الرهن عارية، فيد المستعير يدُ ضمان، فهل يضمن أرشَ جناية العبد المستعار؟ فعلى وجهين مبنيّين على أن العارية تُضمن ضمان الغصوب أم لا؟ فإن قلنا: تضمن ضمان الغصوب، فيضمَن أرشَ جناية العبد؛ قياساً على العبد المغصوب يجني في يد الغاصب. وإن قلنا: لا تضمن العاريةُ ضمان الغصوب، فلا يضمن المستعيرُ أرش الجناية، والأقيسُ الوجه الأول. وهذا موضع نص الشافعي في المسألة، فأنه قال: "لو أذن له، فرهنه، فجنى، فأشبه الأمرين أنه غيرُ ضامنٍ، وليس كالمستعير"، فالنص دليل على أن التفريع على قول الضمان. وفيه دليل على أن المستعير يضمن أرشَ جناية المستعار؛ فأنه قال: "وليس كالمستعير".
3682- ومما يتفرع على القولين أن العبد إذا بيع في دين المستعير إما بإذنٍ مجرّد، أو بتصوير الاضطرار من المستعير فبماذا الرجوع؟ وكيف السبيل؟ لا شك أن المستعير إذا صرف ثمنَ العبد إلى دينه، حيث يصح ذلك، فالسيد يرجع على المستعير، فإنْ بِيع بمقدار قيمته، فلا كلام.
وإن كانت قيمتُه ألفاً واتفق بيعه بألفٍ ومائةٍ، فمالك العبد بكم يرجع على المستعير إذا صرف الثمن كاملاً في دينه؟ هذا ينبني على القولين: فإن قلنا: الرهن ضمان، فالرجوع على المستعير بالثمن بالغاً ما بلغ، ووجهه بيّن. وإن فرعنا على قول العارية، فالرجوع على المستعير بكم؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يرجع عليه بالثمن أيضاًً، وهو قياس بيّن.
والثاني: أن المعير يرجع على المستعير بالقيمة، ولا يجد مرجعاً بالمائة الزائدة عليها؛ فإن العارية سبيلُ ضمانها القيمةُ، فلا يرجع المعير إلا بها، ولا يرجع بالزائد عليها.
وهذا ضعيفٌ في القياسِ، ولا أصل لاستبداد المستعير بالزائد على القيمة، وهو من ثمن ملك المعير، ولم يجرِ ما يتضمن اختصاصَ المستعير به. وهذا الوجه على ضعفه لم يَحْكِ القاضي على قول العارية غيرَه.
وممّا يتفرع على القولين أن العبد المستعار لو كانت قيمتُه العدل مائة، فبيع بمائة إلا دينار أو أكثر، ولم ينته النقصانُ إلى مبلغٍ يعد غبناً، بل كان مقداراً يتغابن الناسُ في مثله. فإذا جرى ذلك، وصرفه المستعير إلى دينه. فإن قلنا: الرهن ضمان، لم يرجع المعير على المستعير إلا بمقدار الثمن. وإن قلنا: الرهن عارية، رجع المعير بالقيمة الكاملة، وهي المائة، ولم يحط القدرَ الذي يتغابن في مثله.
3683- ومما نفرعه أنا إذا قلنا: الرهن عارية، فلا حاجة إلى إعلام القدر الذي سيقع الرهنُ به، ويكفي أن يستعير عبدَه مطلقاًً، ويستأذنَه أن يرهنه ولا يشترط أن يُبيِّن جنسَ ما يقع الرهن به، وقدرَه، ولا كونَه حالاً أو مؤجلاً.
وإن قلنا: الرهن ضمان، فلابد من إعلام الجنس، والقدر، والتعرض لبيان الحلول والتأجيل، فإن الإعلام شرطٌ في صحة الضمان.
وإذا قلنا: إعلام هذه الأشياء ليس بشرط على قول العارية، فلو نصَّ المعير على شيء منها، لم يكن للمستعير أن يخالفَه، ويزيدَ، وإن كان يجوز إطلاق الإذن من غير إعلامٍ، وذلك لأنه إذا أمَرَ، وقدَّر، فيجب إيقاع أمره؛ فإنه المستند والمعتمد في الباب.
ومن ذلك أنا على قول العارية، لا نشترط أن يعيّن المعير من يرهن منه المستعار، بل يجوز إجراء الإذن فيه على الإطلاق، فلو عيّن المعيرُ شخصاً، فلا يجوز للمستعير أن يرهنه من غيره؛ لما ذكرناه من وجوب اتباع الأمر. ولو قال المستعير: أرهنه من فلان، فكان التعيين من جهته، ولم يصدر من المعير اقتراحٌ فيه، ولكنه نزَّل الإذنَ على حسب التماس المستعير، فالذي يقتضيه الرأي أن من عيَّنه المستعير يتعيّن، وإن لم يعين المعيرُ بتعيينه ابتداءً؛ فإن كلام المعير مبنيّ على كلام المستعير منزّل عليه.
ولو فرعنا على قول الضمان، فعيَّن المعيرُ شخصاً، ولم يرضَ أن يرتهن غيرَه، فلا مَعْدل عنه. وإن أطلق، ولم يتعرض لتعيين المرتهن والتفريع على قول الضّمان، ووجوب الإعلام، فهل يصح الإذن على هذا الوجه مطلقاً من غير تعيين من يرتهن؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: أنه لا يصح الإذنُ مع الإطلاق في ذكر المرتهن، حتى يُعيَّن.
والثاني: لا حاجة إلى ذلك، والمستعير يرهنه ممن شاء.
وهذا الخلاف ينبني على تردد الأصحاب في أنا هل نشترط في صحة الضمان أن
يكون المضمون له معلوماً أمْ لا؟ ثم قال الأصحاب: لا يجوز للمستعير أن يخالف المعير فيما رسم له؛ فإن أصل أمره على اتباع الإذن، حتى لو أذن في الرهن بدراهم، لم يجز الرهن بالدنانير. وكذلك القول في عكس هذا. ولو أذن في الرهن بالحال، لم يرهن بالمؤجل. وكذلك لو أذنَ في الرهن المؤجل، لم يرهن بالحال. والأغراض تختلف بالحلول والتأجيل، ولا يكاد يخفى تقريره؛ فيجب اتباع مراسم المعير المالك.
3684- ولو قال للمستعير: أذنت لك في أن ترهنه بمائةٍ، فلو رهنه بخمسين، جاز ذلك، ولا يعد النقصان في المقدار مخالفةً، بل إذا نقص، فقد زاد بالنقصان خيراً وحطَّ وبالاً وضُرّاً؛ فهو بمثابة ما لو قال مالك المتاع لوكيله: بعْ هذا العبدَ بألف، فلو باعه الوكيل بألفين، صح، ولا مرد لتلك الزيادة، والرجوع في أمثال هذا إلى العرف، ومعلوم أن هذا لا يعد مخالفة، بل يعد موافقةً. وسنذكر تحقيقَ هذا في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى.
ولو قال المعير: ارهنه بألفٍ، فرهنه بألفين، فالزيادة مخالفة، ثم قال معظم الأصحاب: إذا خالف وزاد، لم يصح الرهن في مقدار الموافقة أيضاً؛ لأنه بنى صيغة العقد على مخالفة المالك، فلم يصح.
وخرّج صاحب التقريب قولاً آخر: أن الرهن يصح في المقدار الذي عينه المعير، ورضي به، والزيادة مردودة. وزعم صاحب التقريب أن هذا يُخرّج على اختلاف القولى في تفريق الصفقة؛ فإنه جمع بين ألفٍ لا إذن فيه، وبين ألفٍ مأذونٍ فيه، فإذا بطل العقد في الألف الزائد، ففي المزيد الخلافُ الذي ذكرناه.
وهذا لم يصححه المحققون، ورأَوْا القطعَ ببطلان الرهن.
ولا خلاف أن من وكل إنساناً ببيع عبد، واقتضى مطلقُ التوكيل البيعَ بثمن المثل، فلو باعه بغبنٍ، فالبيع مردود. ولا يقال: نصحح البيعَ في مقدارٍ من العبد يكون الثمن قيمة عدلٍ له، ونحذف جزءاً من العبد عن مقتضى العقد. وتقديرُ الزيادة في المبيع كتقدير الزيادة في الثمن إذا وقعت الزيادة على موجب المخالفة.
3685- ثم قال القاضي: لو جرى الرهن، واتصل بالقبض، ثم إنَّ المالك المعير أعتق عبده، فنفوذ عتقه يخرّج على القولين، فإن قلنا: الرهن ضمان، فالعتق ينفذ، وإن قلنا: إنه عارية، فإعتاقه إياه بمثابة إعتاق الراهن المالك العبدَ المرهون، وفيه الأقوال المعروفة. وهذا خرّجه القاضي على طريقةٍ في الحكم بلزوم الرهن على قول العارية، ثم رأى الرهنَ على قول العارية رهناً محضاً في حق المرتهن لازماً، ورآه على قول الضمان غير متأكد في التعلق بالرقبة. ومعظم الأصحاب على مخالفته في ذلك؛ فإنهم ضعفوا الرهنَ وحكمَه على قول العارية، وألزموه وأكدوه على قول الضمان.
وما ذكره جارٍ على قياسه. ولكن في قطعه بنفوذ العتق على قولِ الضمان كلام.
والوجه عندنا تنزيلُ العبد على قول الضمان منزلة العبد الجاني الذي تعلق الأرش برقبته. وقد فصلنا القول في بيعه ورهنه.
3686- ومما يتم به بيان الفصلِ أن القاضي سئل في التفريع على قول الضمان، وقيل له: لو قال: مالك العبد: ضمنت ما لفلان عليك في رقبة عبدي هذا، فكيف حكم هذا؟ فقال: إذا فرعنا على قول الضمان، تعلّق الدين برقبة العبد، وكان بمثابة الرهن المستعار، فإن شئنا قلنا: رهن العبد المستعار ضمانٌ في رقبته، أو قلنا: الضمان في رقبته رهنٌ.
وهذا الذي ذكره حسن بالغ على الجملة، ولكن فيه تفصيل، فإذا قال مالك العبد لمستعيره: ارهنه بدينك، فقد أنابه مناب نفسه في الضمان في رقبة عبده، فاجتمع رضا المالك، وإنشاءُ الرهن، وقبولُ المرتهن. وإذا قال المالك: ضمنت ما لفلان عليك في رقبة هذا العبد، ولم يُوجَد قبولٌ من المضمون له ففي هذا تردُّدٌ.
وظاهرُ كلام القاضي أن ذلك يكفي، تفريعاً على أنه لا يشترط في الضمان رضا المضمون له.
ويجوز أن يقال: ذلك في الضمان المطلق الذي يرد على الذم، فأما ما يتعلق بالأعيان، فلابد من تقريبه من الرهون، وشرط صحتها القبولُ من المرتهن.
ويجوز أن يقال: إنما يفتقر إلى القبول إذا جرى على صيغة الرهن، فأمّا إذا وقع الضّمان مصرّحاً به، فلا حاجة إلى ذلك. وقد تختلف الشرائط باختلاف الألفاظ، وإن اتحد المقصود؛ فإن المذهب أن الإبراء لا يفتقر إلى القبول. ولو قال مستحق الدين لمن عليه الدين: وهبت منك الدين الذي لي عليك، فالأصح افتقارُ ذلك إلى القبول.
وقد نجز الكلام في رهن المستعار على أبلغ وجه في البيان.
فصل:
قال: "والخصمُ فيما جُني على العبد سيدُه... إلى آخره".
3687- إذا جنى جانٍ على العبد المرهون، فقد قال الشافعي: "الخصمُ فيما جُني على العبد سيده، فإن أحب المرتهن، حصر خصومتَه، فإذا قُضي له بشيء، أخذه رهناً " هذا لفظُ الشافعي. فنقول: إذا جُني على العبد المرهون جناية، نُظر فيها: فإن كان موجَبها مالٌ، فقد تضمنت الجنايةُ إتلاف مالية، وتضمنت فواتَ حق الوثيقة للمرتهن في ذلك الفائت، فافتتاحُ الخصومة للمالك؛ فإن الأصل هو الملك، وحق الرهن متفرع عليه، وإذا بدأ المالك الخصومة، لم يزاحمه المرتهن، فإذا ثبت حق الملك، ابتنى عليه حقُّ الرهن.
فإن قيل: لم لم تثبتوا للمرتهن حقَّ المخاصمة، وهو يخاصم المالك، وتدور بينهما الدعوى واليمين والرد؟ قلنا: هو كذلك، ولكن المالك في صورة الجناية أولى بالخصومة. وفي قيامه بها ثبوت حق المرتهن، فإذا كان حق المرتهن لا يتعطل، قدمنا المالك؛ حتى قال المحققون: لو امتنع المالك من الخصومة، انتهض المرتهن خصماً، وتوصل إلى ثبوت حقه، وليس هذا كما لو افترضه السائل من مخاصمة المرتهن المالكَ؛ فإن تلك الخصومة لو تركها المرتهن، والراهن على إنكاره، لم يقم فيها غيرُ المرتهن مقامه، بخلاف ما نحن فيه. نعم لو ترك المالك الخصومة، فلا جرم نقول للمرتهن أن يخاصم حتى لا يتعطل حقه.
قال الشافعي: "ولو عفا المرتهن كان عفوه باطلاً". وتفصيل القول في هذا أن المرتهن لو أبرأ الجاني عن أرش الجناية، فإبراؤه باطل؛ لأن الإبراء إنما يصح من مالكٍ مطلق التصرف، والمرتهن ليس مالكاً؛ فلم يصح إبراؤه.
3688- وتمام البيان في هذا الفصل ما نذكره، فنقول: أطلق المراوزة القولَ بأنّ أرش الجناية لا يتصف بكونه مرهوناً؛ فإنه دين، والديون لا تكون مرهونة، كما قدمنا ذلك في صدر الكتاب، وألحقوا مصير العين المرهونة بسبب الإتلاف ديناً في ذمة المتلِف بأنقلاب العصير خمراً، ثم رأَوْا تفصيلَ المذهب إذا قبض الدينَ، وتعيّن بالقبض، كتفصيله إذا انقلبت الخمر خلاً.
وذكر العراقيون عن بعض الأصحاب أن الدين وإن كان لا يجوز تقديره مرهوناً ابتداءً، فإذا استقر الرهن على عينٍ وجنى عليها جانٍ، فالدين اللازم بسبب الجناية على العين مرهون، وليس كالخمر؛ فإن الدين مملوكٌ، والخمر ليست مالاً، والدين مترتب على عين، حيث انتهى الكلام إليه، ومصيره إلى عين، إذا قُدِّر استيفاؤه.
هذا ما حَكوه في ذلك.
ثم قالوا: إذا قال المرتهن: عفوت عن حقي من الوثيقة، أو أسقطت حقي منها، والمسألة مفروضة فيه إذا أتلف الجاني المرهونَ، فقال المرتهن قبل استيفاء الحق من الجاني ما قال، فيسقط حقه، وإذا استوفى الدينَ، فلا حق له فيه. ولو قال المرتهن: أبرأتك عما عليك أيها الجاني، فإبراؤه لا يتضمن سقوطَ الدين، ولكن هل يتضمن سقوط حقه من الوثيقة إذا استوفى الأرش؟ ذكروا وجهين:
أحدهما: أن حقه لا يسقط؛ فإنه لم يتعرض للتنصيص على إسقاطه، وإنما أسقط الدين، وليس له إسقاطه، فلو سقط حق الوثيقة، لكان مرتباً على سقوط الأصل، وإذا لم يسقط الأصل، لم يسقط ما يترتبُ عليه هذا طريقهم.
وكان شيخي يقول: إذا قال المرتهن: أسقطت حقي من الرهن أو أبطلت وثيقتي، وكان الرهن قائماً، فهذا فسخ منه للرهن، وللمرتهن أن يفسخ الرهن؛ فإن الرهن في جانبه جائزٌ، ولم يتعرض لصورة الدين. ونصُّ الشافعي دليل على أن المرتهن إذا أبرأ الجاني، فإبراؤه لغوٌ، وعفوه باطل، وهذا يتضمن بقاء حقه.
أما الراهن لو أبرأ الجاني عن الأرش، فقد قطع الأصحاب بإبطال إبرائه؛ لحق المرتهن؛ فإنا وإن لم نطلق القول بكون الأرش مرهوناً قبل الاستيفاء، فلسنا ننكر تأكُّد حق المرتهن فيه، فالإبراء في الدين بمثابة الهبة في العين، ولو وهب الراهن العين المرهونة، لم يختلف المذهب في بُطلان هبته، وإنما تردُّدُ الأقوال في العتق والاستيلاد، كما تقدم.
ثم قال الأصحاب: لو كانت الجناية على العبد المرهون موجبةً للقَصاصِ، فللرّاهن حقُّ الاقتصاص، وقد تكرر هذا، فلو عفا الراهن على مالٍ، ثبت المال، وتعلق حق المرتهن به، وإن عفا على غير مالٍ، ترتب على موجب العمد، ونزل عفوه منزلة عفو المفلس المحجور عليه. وقد أشرنا إلى ذلك وأحلنا استقصاءه على كتاب الجراح.
فصل:
قال: "وأكره أن يرهن المشركَ المصحفَ... إلى آخره "
3689- أراد بالكراهية التحريمَ. والقولُ في بيع المصحف والعبد المسلم من الكافر قد تقدّم استقصاؤه في كتاب البيع، وبينا المذهب فيه على أكمل بيان. والرهن على الجملة مرتَّب على البيع، وهو أولى بالجواز، وإذا منعنا بيع السلاح من الحربي، ففي رهنه منه وجهان، وبيعُ السلاح من الذمي ورهنُه جائز؛ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون عند أبي الشحم اليهودي.
وقد نجز البابُ في (السواد) وانسل عن ضبطنا في الأصول مسائلُ، ونحن نوردها فروعاً، ومنها ما أورده المشايخ، ولا اختصاص له بالرهن، ونحن نتأسى بهم.
فرع:
3690- إذا أقر المرتهن بأن العبد المرهون قد جنى، وكذبه الراهن، فالقول قول الراهن في نفي الجناية، فإذا بيع العبد في الرهن، وسُلِّم الثمن إلى المرتهن عن حقه، فجاء المقَرُّ له بالجناية، وقال للمرتهن قد أقررتَ لي بأرش الجناية، والآن قبضتَ الثمن، فسلمه لي. قال صاحب التقريب: ليس للمقَرّ له ذلك؛ فإنا إن جوزنا بيع الجاني، فهذا الثمن مسلم إلى المرتهن بحق، ولو ثبتت الجناية، لم يثبت للمجني عليه على قول جواز البيع إلا بيعُ العبد، فأمَّا التعلُّق بثمنه، فليس يثبت له، وليس كما لو قُتل العبدُ الجاني واستوفيت قيمته؛ فإن حق المجني عليه في قيمته، كحقه في رقبته، فإن القيمة تخلفُ العين؛ حتى كأنها خلافة خِلقة، ولا حاجة فيها إلى اختيار مقابلة وإثبات معاوضة، فأما ثمن البيع، فلا حظ للمجني عليه فيه إجماعاً. فإن فرض البيع بإذنه على قولنا: لا ينفذ البيع دون إذنه، فهو بمثابة بيع الرهن بإذن المرتهن في حقه الحال.
هذا إن قدرنا جوازَ بيع الجاني.
وإن لم نجوز بيعَه، فالثمن الذي في يد المرتهن ملكُ مشتري العبد الجاني، ولا حظ للمجني عليه فيه، فينتظم منه أن المقَرَّ له بالجناية لا يرجع على المرتهن بسبب قبضه ثمن العبد الذي أقر المرتهن بجنايته. وهذا واضح.
فرع:
3691- ذكر صاحب التقريب في خلل الكلام مسألةً في الجنايات لا اختصاص لها بالرهن، فنسردُها على وجهها، ونقول: لو جنى رجل على بهيمة، وكانت ماخضاً، فأَجْهَضَتْ جنينَها، وكان الجنين حيَّاً لما انفصل متأثراً بالجناية، فمات على القرب. ذكر قولين فيما يلزم الجاني في هذه الصورة:
أحدهما: أنه يلزمه قيمةُ الجنين حيَّاً، ولا يلزمه أكثرُ من ذلك.
القول الثاني- أنه يلزمه أكثرُ الأمرين من نقص الأم بالولادة والإجهاض، أو قيمةُ الجنين، فأيهما كان أكثر، فهو الواجب.
ثم قال صاحب التقريب: والقولان فيه إذا لم يظهر بالأم شَيْنٌ سوى الولادة، وكان للجنين لو بقي حيَّاً قيمةٌ، فإذا مات، فالنظر إلى الأكثر في أحد القولين.
والواجب قيمة الولد في القول الثاني.
وقد ذكر العراقيون هذين القولين على هذا الوجه.
والذي يجب الاعتناء به في المسألة فهمُ صورتها، وفيها يبينُ مثارُ القولين، فالبهيمة وهي ماخض تساوي مائة، وإذا ولدت صارت تساوي تسعين، ولم يظهر فيها نقص إلا أن الولد زايلها، فكانت مع الولد تساوي مقداراً ودونه تساوي أقلَّ منه، لمزايلة الولد، لا لعيب أحدثه الولادة، ثم انفصل الولد حياً، وعليه أثر الجناية، ومات. فلو أوجبنا قيمة الولد، وأوجبنا ما انتقص من قيمة الماخض بسبب الولادة ومزايلة الولد، لكان ذلك تضعيفاً في الغرامة، والولد صار أصلاً بنفسه، فعسر الجمع بين الوجهين.
وتردّدَ القولُ، فقال الشافعي في قول: "أنظر إلى الولد؛ فإن تعطيله صعب، وأوجب قيمته " وقال في القول الثاني: "أُوجب الأكثرَ من نقص الأم بسبب مزايلة الولد وقيمة الولد، فأيهما كان أكثر أوجبته". هذا بيان القولين.
3692- قال العراقيون: إذا كانت البهيمة مرهونة، وجرى ما وصفناه؛ فإن أوجبنا قيمة الولد، لم يكن ذلك رهناً، وإن أوجبناالأكثر، فقيمة الولد لم تكن رهناً أيضاًً، وإن أوجبنا ما نقص من قيمة الأم بسبب مزايلة الولد، كان ذلك رهناً.
وهذا فيه نظر، والوجه تخريجه على أَنَّ الحمل الموجود يومَ الرهن هل يدخل تحت الرهن؟ فإن قُلنا: إنه داخل، فيجب أن يكون المأخوذ من الجاني رهناً كيف كان؛ فإنا على هذا القول كنا نبيع الولدَ لو بقي في الرهن.
وإن قلنا: الرهن لا يتعلق بالجنين الموجود حالةَ الرهن، فإن أوجبنا قيمة الولد، لم يكن رهناً، وإن أوجبنا نقصانَ الولادة، فالمسألة محتملة، ويظهر خلاف ما قالوه؛ فإن ذلك النقصان لم يكن إلا لمزايلة الولد، ولم تتغير صفتها، ويجوز أن يتخيل ما ذكروه بناء على أصلٍ، وهو أن الحمل لو بقي إلى البيع، لبعنا الأم حاملاً، ولصرفنا الثمن إلى الدين، إن لم يزد على مقداره، فمزايلة الولد تخرم هذا الوجه.
والأصح عندي أنه لا يكون رهناً؛ فإن المزايلة قد وقعت.
فرع:
3693- إذا دفع الراهن والمرتهن الرهن إلى عدلين وفوضا إليهما الحفظَ مطلقاًً، فلو أن أحدهما سلم الرهنَ إلى الثاني كَمَلاً، وفوض إليه الاستقلالَ بالحفظ، فهل يكون بذلك متعدياً؟ ذكر ابن سريج فيما حكاه العراقيون وجهين:
أحدهما: أنه يكون متعدياً؛ فإنه لم يثبت لواحدٍ منهما الاستقلال بالحفظ، فإذا أثبت أحدُهما ذلك لصاحبه، كان على خلاف موجب الاستحفاظ.
والوجه الثاني- أنه لا يكون المسلِمُ إلى صاحبه متعدياً، وكذلك لا يكون المستقلّ متعدياً؛ فإن استحفاظهما يشعر في الظاهر بقيام كل وَاحد منهما بحق الحفظ، لو لم يكن صاحبه حاضراً؛ فإن اعتقاد اجتماعهما أبداً على الحفظ-وهو أمر دائم- بعيدٌ.
والألفاظ المطلقة تؤخذ من موجَب العرف، وليس كما لو فرضَ الوصايةَ إلى رجلين، فإن التصرفات لا يستقل بها أحدُهما دون الثاني؛ فإن الاجتماع على تصرف يقع في الأوقات ليس متعذراً، فحَمْل الأمرِ على اشتراكهما، وصدور التصرفِ عن رأيهما ليس بعيداً، بخلاف دوام الحفظ.
ثم إذا أثبتنا عند إطلاق الاستحفاظ لكل واحد منهما رتبةَ الاستقلال، فلو تنازعا، فليس أحدُهما أولى من الثاني. فإن أمكن الاشتراك في إثبات اليد، فلا مَعْدَل عنه.
وإن عسر، وقد تنازعا، ورأى القاضي أن يقسم العين بينهما-وكانت قابلةً للقسمة- فله ذلك؛ فإنا إذا كنا نثبت لكل واحد منهما الاستقلالَ بالحفظ، فلا يمتنع بسبب النزاع أن ينفرد كل واحد منهما بحفظ البعض.
وإن قلنا: لا يثبت لكل واحد منهما رتبة الاستقلال-وهو المذهب عند المراوزة- فلا سبيل إلى قسمة العين بينهما؛ فإنا لو فعلنا ذلك، لكنا مخصصين كل واحد منهما بالانفراد في بعض العين، وهذا يخالف موجَبَ الاشتراك.
فرع:
3694- قال ابن سريج لو سلما الرهنَ إلى عدلٍ، ووكلاه ببيعه عند محِل الحق، وكانت العين من ذوات الأمثال، فأتلفه أجنبي، وغرم المثل. قال ابن سريج: يسلّم إلى العدل بحكم الاستحفاظ الأول، وإذا حل الحق، لم يبعه إلا بإذن جديد.
أما قوله: لا يبيعه إلا بإذن جديد، فصحيح. وأما قوله: يحفظه العدل من غير استحفاظٍ جديدٍ، فهذا لا وجهَ له أصلاً؛ فإن العين قد تبدلت، وتقييده بالمثل يشعر بأنه لا يقول ذلك في قيمة المتقومات.
وكل ذلك خبطٌ غيرُ معدودٍ من المذهب. ولعل ابنَ سريج تخيّل في الفرق بين الحفظ والبيع أمراً، وهو أن العدل إذا استحفظه الراهن والمرتهن، لم يكن لكل واحد منهما أن يعدل عنه، فكأن الحفظ صار في حكم المستحق المتعيّن في حق هذا العدل، فإذا فرض التلف والاستحقاق في الحفظ إذا تمَّ، لم يبعد أن يقوم البدل مقام التالف. والإذن في البيع ليس كذلك؛ فإن من صرفه من الراهن والمرتهن ينعزل، فليس البيع مستحقاً متعيناً في حق العدل. فهذا إن ثبت، فلا فرق فيه بين المتقوم والمثلي.
والظاهر عندي أنه لابد من استحفاظ جديدٍ؛ لأن العين قد تبدّلت.
فرع:
3695- إذا استعار رجل عبداً من شريكين، فرهنه، ثم أدى نصف الدين على قصد أنه يفك به نصيب زيدٍ من الشريكين، فهل ينفك نصيبه؟ أم لا ينفك شيء من الرهن ما بقي من الدين شيء؟
ذكر العراقيونَ قولين، ولهذا أمثلةٌ ستأتي في الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
فإن قلنا: لا ينفك، فلا كلام. وإن قلنا: ينفك حصته من الرهن، نُظِر: فإن كان المرتهن عالماً بحقيقة الحال، فلا خيارَ له. وإن كان جاهلاً، ولم يَدْرِ صدَرَ الرهن في شركة، فهل له الخيار؟ ذكروا وجهين:
أحدهما: له الخيار. وهو الذي قطع به الشيخ أبو محمد، ووجهه بيّن. والوجه الثاني- أنه لا خيار له؛ فإن الذي بدا ليس عيباً بالمرهون، والحال لا يطرد على نسق واحدٍ في الاتحاد، فلا خيار.
ولعل الأشبه في هذا أن المرتهن إن لم يعرف كونَ العين مستعاراً، تخيَّر، وإن علمه مستعاراً، فلا ضبط لمن يستعار منه.
ويجوز أن يقال: الغالبُ الاتحاد في السادة، ويبعد في الوقوع العبد المشترك إلا
في المواريث والتجاير بين الشركاء.
والوجه إثبات الخيار، كما قاله الإمام.
فرع:
3696- قال العراقيون: إذا رهن رجل جاريةً، فعلقت بمولود رقيقٍ من بعدُ، فجنى جانٍ عليها، فَأَجْهَضَت، ونقصت بسبب الإجهاض نقصاناً عائداً إلى صفتها، زائداً على مزايلة الولد، فإذا التزم الجاني بدلَ الجنين، لم يكن رهناً؛ فإن الولد طارىء، وليس للمرتهن بسبب نقصان الجارية شيء؛ فإن نقصانها يندرج تحت بدل الجنين، وبدل الجنين خارج عن الرهن، فنقصان الجارية في حق المرتهن بمثابة النقصان بآفة سماوية. وهذا حسن لطيف.
فرع:
3697- إذا قُتل العبد المرهون، فجاء إنسان، وقال: أنا قتلته. فإن صدقه الراهن والمرتهن غرّمناه القيمةَ، ووضعناها رهناً. وإن كذباه، لم يخفَ الحكم. فإن كذبه المرتهن وصدقه الراهن، غرِم القيمةَ، وفاز بها الراهن؛ فإن المرتهن أنكر حقه فيها.
وإن صدقه المرتهن، وكذبه الراهن، فتؤخذ القيمةُ وتجعل رهناً في يد المرتهن.
ثم إذا حلَّ الدينُ وقضى الراهنُ الدينَ من موضع، آخر، فترد تلك القيمة على المُقِرِّ بالجناية؛ فإن الراهن منكر لاستحقاقه.
وفي هذه المسألة وأمثالها خلافٌ، ولكنا جرينا على الأصح.
وقد نقول: نضع تلك القيمة عند الوالي، ويعتقدها مالاً ضائعاً.
فرع:
3698- قال صاحب التقريب: إذا خلّى الراهن بين المرتهن وبين الرهن المشروط في البيع، فامتنع من قبضه، فهل يجبره القاضي على قبضه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يُجبر؛ حتى ينقطع خياره في فسخ البيع. وقد تتلف تلك العينُ المعينة قبل القبض وقد تعيب.
والوجه الثاني- أنه لا يجبر على القبض، ولكن، إن امتنع من القبض، أبطل القاضي خيارَه في فسخ البيع. اهـ.