فصل: باب: العيب في المنكوحة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: نكاح المُحرِم:

8219- مذهب الشافعي أن الإحرام ينافي عقد النكاح في المزوِّج والمتزوج والمزوَّجة، ولو كان الولي محرماً لم يزوِّج، وكذا لو كان وكيلاً، أو كان الوالي الأعظم، أو كان دونه. والإحرام يمنع الزواج، ولا فرق بين أن يكون القابل ولياً أو وكيلاً أو زوجاً، وإن كان القابل عن الزوج في حكم السفير.
وظهر اختلاف الأصحاب في أن الإحرام في الشهود هل يؤثر؟ فالأظهر أنه لا يؤثر.
وذهب الإصطخري في طائفة من الأصحاب إلى أن النكاح لا ينعقد بحضور محرمين، وهذا لا ينقدح له وجه من طريق المعنى، ولكن في بعض الروايات: "لا ينكح المحرم ولا يُنكِح" ولا يشهد. وهذا رأيته في كتب الفقهاء، وما عندي أنه يبلغ مبلغ الصحة.
8220- ثم المذهب الصحيح أن الاحرام لا يمنع من الرجعة، فلو كان طلق ثم أحرم في عدة الرجعة، فله الارتجاع مع الإحرام؛ فإن الرجعة في حكم استدامة النكاح، والإحرام لا ينافي دوام النكاح.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر في أن الإحرام يمنع الرجعة كما يمنع ابتداء النكاح، حكاه القاضي وغيره، وهو مذهب أحمد بن حنبل، ويمكن بناء هذا الاختلاف على القولين في أن الرجعة هل تفتقر إلى الإشهاد؟ وسيأتي ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى.
ثم إذا ظهر منافاة الإحرام للنكاح من الجهات الثلاث: المزوِّج والمتزوج والمزوَّجة- فإلى متى يدوم الامتناع؟ في المسألة قولان:
أحدهما: إنه يدوم إلى تمام التحلُّلَيْن وسبيله سبيل حل الوطء.
وفي المسألة قول آخر: إنه يزول بالتحلل الأول. وهذا يقرب عند هذا القائل من التطيّب، والقول في التحللين وأسبابهما مستقصى في كتاب المناسك.
8221- ومما يتعلق بأحكام الإحرام ما تفصَّل من قبل في أن الإحرام هل يُخرج الوليّ من الولاية، أو يتنزل منزلة الغَيْبة، وقد مضى في ذلك قول بالغٌ في أحكام الولاية.

.باب: العيب في المنكوحة:

8222- النكاح يفسخ بالعيوب القادحة في مقصود العقد، وهي محصورة عند حملة المذهب. قالوا: ثلاثة من العيوب يشترك فيها الزوجان: الجنون، والجذام، والبرص، ويثبت اثنان في حق المرأة وهما: الرَّتَق، والقَرَن. ويثبت اثنان في حق الزوج وهما: الجَبّ، والعُنة. وإذا ثبت بأحد الزوجين عيب من هذه العيوب، ثبت للثاني حق الفسخ. ولا حاجة إلى الكشف في معظم العيوب.
أما الجذام فَعِلَّة عظيمة تقطع الأعضاء، ويتصور في كل عضو، ويغلب ثبوته إذا ثبت في الوجه، والعياذ بالله تعالى، والعضو يحمرّ منه ثم يسودّ ثم ينتثر اللحم ويتقطع ويتقاذف إلى ما وراء، والبرص بياضٌ بيّن، وليس البهق منه. وكان شيخي يقول: أوائل الجذام والبرص قبل الاستحكام لا تثبت الخيار، وإنما يثبت الخيار إذا استحكمت. وكان يقول: لا يثبت استحكام الجذام إلاّ إذا أخذ العضو في التقطع، وهذا فيه بعض النظر، فيجوز أن يقال: إذا اسودّ العضو، وحكم أهل البصائر باستحكام العلة، كفى ذلك في إثبات الفسخ، وإن لم يتقطع بعد من العضو شيء.
فأما ما عدا هذه العيوب من العمى والقرع والتقرح؛ فالذي ذهب إليه الأئمة: أنه لا أثر لشيء منها، والذي يجب التأمل فيه أن حق الفسخ لو اختص بما يمنع الوطء على الحقيقة كالجَبّ والعنة والرتَقِ والقَرَن، لكان ذلك وجهاً في الحصر والاقتصار، وتخصيص الفسخ بهذه الموانع، وليس الأمر كذلك؛ فإن حق الفسخ تعلّق بالجذام والبرص والجنون، ولم يستند الحصر إلى توقيف من جهة الشارع، فأورث ذلك اضطراباً في نفوس فقهاء المذهب، حتى حكى بعض الأصحاب خلافاً في البخراء إذا تفاحش بخرها. والعِذْيَوْط، وكذلك الصنَّاء وهي التي بها صنان مفرط لا يقبل العلاج، وكنا نعد هذا الخلاف بعيداً، ثم لم ننقله إلا مخصوصاً بما ذكرناه.
ورأيت القاضي استجرأ على فتح الباب، وخرم التخصيص؛ فإنه قال: كل عيب يؤثر في حق عامة الناس في المنع عن الاستمتاع والوقاع عيافة ونَفَراً؛ فإنه يثبت الخيار، وقد يتوقف حصول هذا المعنى على اجتماع عيوب، وإن كان لا يؤثر آحادها، فإذا اجتمعت فيثبت الخيار عند اجتماعها.
وهذا الذي ذكره قياس لما مهدناه في البرص والجذام، ولكن لم يصر إليه أحد من الأصحاب على هذا الوجه غير القاضي، وكنا نحكي ما ذكرناه في البخر وغيره عن زاهر السرخسي، والساعة اتسع الخرق على الراقع فيما ذكره القاضي، والعلم عند الله تعالى.
وعلى الإنسان أدنى نظر في الجنون؛ فإن الأصحاب أطلقوا كونه مثبتاً للخيار، ولم يراجعوا فيه أهل البصائر، حتى إذا قالوا: إنه مرجوّ الزوال، فلا يثبت الخيار، وإذا قضَوْا بأنه مستحكم يبعد توقع الزوال فيه، فيثبت الخيار إذ ذاك، وهذا لو قيل به، لكان قريباً؛ نظراً إلى مبادىء الجذام والبرص، والعلم عند الله تعالى.
والعنة من بين العيوب مخصوصة بمباحثة وضرب مدة، وفي ذلك باب معقود سيأتي، إن شاء الله عز وجل.
8223- ومما يتصل بذلك أن الزوج إذا خرج خنثى، فهل يثبت الخيار لها؟ أو إذا خرجت خنثى، فهل يثبت الخيار له؟ فمن أصحابنا من قال: إن تبين أن الزوج رجل قطعاً، فلا خيار ولا حكم لثُقبٍ زائد عليه، ثم يقع النظر في أنه هل يقدر على الجماع أم لا؟ فإن قدر، فذاك، وإن عجز فعنّين.
فأما إذا وقع الحكم بالذكورة عن علامة-على ما أوضحنا الكلام في العلامات في كتاب الطهارة وميراث الخناثى- فللأصحاب اضطراب، وحاصل ما ذكروه أوجه:
أحدها: إنه لا خيار إذا ظهرت علامة معتبرة في إثبات الذكورة.
والثاني: يثبت الخيار؛ فإن الأمر مظنون، وقد يتبين بخلاف ما نظن. ومن أصحابنا من قال: إن كان التعويل على إقرار الخنثى بالذكورة وإقراره عن نفسه، فيثبت الفسخ، وإن ثبتت علامة عليها تعويل، فلا فسخ، هذه طريقة. وإن استيقنّا ذكورة الزوج، ففي ثبوت الخيار خلاف، حملاً على الشهوة والعيافة، وهذا يقرب من مأخذ القاضي.
وقد ذكر صاحب التقريب والعراقيون جميع الطرق التي أشرنا إليها.
8224- ومما يتصل بهذا المنتهى أن الرجل إذا اطلع على عيب بها، وكان به عيب أيضاًً، فهذا مما سبقت الإشارة إليه، فإن اختلف جنس العيب، ثبت الخيار لكل واحد منهما، وإن اتفق الجنس، ففي ثبوت الخيار وجهان:
أحدهما: أنه يثبت؛ فإن الإنسان لا يعاف من نفسه ما يعاف من غيره.
والذي أراه أن الجب في الزوج إذا عارضه الرتق من المرأة، فيظهر ذكر الخلاف فيه؛ فإن الرتق لا يخبث النفس ولا يشين، وإنما فيه الامتناع عن الوقاع، ولا يظهر أثر الامتناع عليه وهو مجبوب، وكذلك لا يظهر إحالة الامتناع على الجب وهي رتقاء، فلا أقل من إلحاق ذلك بالقول في الرضا تحت الأبرص.
وقد انتجز القول فيما يؤثر من العيوب، وما لا يؤثر.
وقد طمع الأصحاب على تردداتهم فيما ذكرناه أن يطَّرد لهم في اعتبار العيوب ما يؤثر في المقصود، وهذا لا يستدّ إلا للقاضي ومن سلك مسلكه.
8225- ثم نذكر بعد ذلك أن الخيار يثبت لها إذا اطلعت على عيب-مما ذكرناه- بالزوج، ويثبت له الخيار إذا بدا عيبٌ قديم مستند إلى حالة العقد، وإن كان الزوج قادراً على الطلاق. وخالف أبو حنيفة في إثبات الخيار له، وأثبت الخيار في الجب والعنة فحسب، وقد يثبت الخيار للأولياء، كما سنعقد فيه فصلاً في آخر الباب، إن شاء الله تعالى.
وإذا ثبت الخيار، كان على الفور، بمثابة خيار الرد بالعيب في البيع، ولا يتوقف نفوذ الفسخ على قضاء القاضي وشهود مجلس الحكم، قياساً على العيوب في البيع، وتختص العنة من بينها بالافتقار إلى مجلس الحكم، كما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
ولا يتصور انتهاء الأمر في عيوب النكاح إلى الرجوع بالأرش؛ فإنَّ العوض غير معتبر فيه، وإنما يفضي الأمر إلى الأرش في البيع، لأن العيب يقتضي غضَّ شيء من الثمن المسمى لانحصار الغرض في البيع على الماليّة، ووضوح ذلك يغني عن بسط القول فيه.
8226- ثم إنا نذكر بعد ذلك التفصيلَ فيما يفرض متصلاً من العيوب المقترنة بالنكاح، الموجودة عنده، ثم نذكر التفصيل فيما يطرأ من العيوب بعد انعقاد النكاح على الزوجين.
فإذا كان العيب مقترناً بالنكاح لدى العقد، فلا يخلو: إمَّا أن يكون العيب بها أو به، فإذا كان العيب بها، وفسخ الزوج، فيتعلق الكلام بالمهر ونفقة العدة، والسكنى، والمتعة.
فأمَّا المهر؛ فإن جرى الفسخ قبل المسيس؛ يسقط المهر بكماله، وإن كان الفسخ صادراً من جهة الزوج، وهو على تردده وخِيَرته، وذلك لأنه يفسخ العقد لعيب فيها- كان بناء العقد على السلامة منه. وهذا متفق عليه بين الأصحاب، وليس كما لو ارتد الرجل قبل المسيس، فإنَّا نقضي بتشطر الصداق، والفرق بين البابين لائح.
وإن كان الفسخ بعد المسيس، فالمنصوص عليه للشافعي: أنَّ المهر المسمى يسقط، ويثبت لها مهر مثلها؛ لمكان الوطء الذي جرى.
وخرَّج أصحابنا قولاً آخر ظاهراً-رأوه قياساً- وهو؛ إن المهر لا يسقط إذا جرى الفسخ بعد التقييد بالمسيس.
التوجيه: من قال بثبوت المسمى وتقرُّره احتج بأنه إذا لم يكن من إثباتِ مهر بُدٌّ، فالمسمى أولى به، ومن وجَّه النص استمسك بقياس الفسوخ؛ فإنه يقتضي رد الأعواض، فليرتدّ العوض المستحق بالعقد، ثم لا سبيل إلى إعراء الوطء عن المهر، وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن الفسخ عندنا قطع للعقد في الحال، وليس رافعاً له من أصله؛ استناداً إلى ما تقدم، وإذا كان كذلك، فالوطء يكون جارياً في وقت الاستحقاق، فمقابلته بالمهر الذي يجب على الواطىء بالشبهة بعيد.
وقد عبّر أصحابنا في توجيه القول المنصوص عليه بعبارتين نذكرهما لمسيس الحاجة إليهما في التفريع: قال قائلون: سبب سقوط المسمى، تعلق الفسخ بسبب كان موجوداً حالة العقد، فاستند إلى حالة العقد بالحكم، وإن لم يرتفع به العقد من الأصل، وجُعل كان الدخول وُجد في غير العقد.
وقال آخرون: الزوج بذل المسمى، وأُلزمه على أن يسلم له البضع زمن العمر من غير ضرر، فإذا لم يحصل ذلك، سقط المسمى، وسيظهر أثر هذا التردد من بعدُ.
هذا قولنا في فسخ الزوج.
8227- فأما إذا فسخت الزوجة بعيب فيه، فسبيل سقوط المهر على نحو ما ذكرناه. فإن كان الفسخ قبل المسيس، سقط المسمى، وإن كان بعد المسيس، فعلى المذكورَيْن المنصوص والمُخَرَّج.
ولا بد وأن يختلج في نفس الفقيه الآن نزاع، من جهة أنَّا إن أسقطنا المهر قبل المسيس-وهي الفاسخة- بسبب إنشائها الفسخ، فقياس هذا يقتضي أن يتشطر المهر إذا كان الفاسخ الزوج، اعتباراً بالردة، وإن زعمنا أن إنشاء الزوج لا يشطر؛ لأن الفسخ لعيب فيها، فظاهر هذا يقتضي أن تُعذر المرأة إذا فسخت لعيب فيه.
وليس الأمر كذلك، فلا فرق بين فسخه وفسخها. والسبب فيه أنّا نُسقط المهر استناداً لعيب إلى العقد. فإن كان هو الفاسخ، اتضح هذا المعنى، وإن كانت هي الفاسخة، وهَى العقد وضعُف وقعه، وشطر المهر في مقابلة العقد، وهو شبيه بالمتعة؛ ولهذا لا يجتمع شطر المهر والمتعة في الرأي الأظهر، كما سيأتي-إن شاء الله عز وجل- وليس هذا مأخوذاً من مأخذ الردة؛ فإنَّ الردة إذا طرأت، لم نتبين بها القطع في أصله، وإنما الذي طرأ قاطع جديد.
ثم رأى الفقهاء الفرق بين الزوجين، وتنزيل ردة الزوج منزلة طلاقه، ونسبوا المرأة إلى قطع العقد، وأسقطوا حقها من حق العقد لما كانت هي القاطعة للعقد، والفرق نوعان:
أحدهما: يقع بين مسألتين.
والثاني: يقع بين موضوعين وجاحدين، فما يقع بين مسألتين يثبت وينتفي، وينعكس ويطرد، وما يقع بين جاحدين يتبين مأخذ كل جهة، ثم ذلك يوجب الانفصال بنفيين وإثباتين، فهذا ما أردناه.
8228- والمتعة لا مطمع في ثبوتها مع ما قررناه من انبتات النكاح، واستناد الأمر إلى أول العقد.
وأما النفقة والسكنى إذا نفذ الفسخ، فإن كانت حاملاً، ففي ثبوت النفقة قولان مبنيان على أن النفقة إذا ثبتت مضافة إلى المطلقة البائنة الحامل، فالنفقة لها أو للحمل؟ فعلى قولين، سيأتي ذكرهما مشروحاً في كتاب النفقات.
والذي يجب الإحاطة به: أنَّ المطلقة البائنة تفارق التي فُسخ نكاحها من وجهين:
أحدهما: أنَّ المطلقة تستحق السكنى في زمن العدَّة قولاً واحداً، وإذا كانت حاملاً تثبت النفقة قولاً واحداً، والاختلاف في أنَّ وجوبها يعزى إلى الحامل، أو إلى حملها. والتي تفسخ نكاحها لا تستحق السكنى إذا كانت حائلاً، وفي استحقاقها النفقة والسكنى إذا كانت حاملاً قولان، فإن حكمنا بأنَّ النفقة للحامل، لم تستحق؛ لانقطاع أثر النكاح عنها بالكلية، وإن قلنا: النفقة للحمل، فتثبت النفقة حينئذ، والسكنى في معنى النفقة.
وإنما ينفصل الطلاق عن الفسخ؛ من جهة أن الطلاق تصرف في النكاح، والفسخ موضوع لرفعه وقطعه. وسيأتي بيان ذلك في كتاب النفقات.
وجميع ما ذكرناه في العيوب المقترنة بالنكاح.
8229- فأما العيوب الطارئة بعد انعقاد النكاح على السلامة، فإنا ننظر فيها، فإن طرأت على الزوج، فيثبت الخيار لها، وهذا يعتضد بقياس جلي وعضَدٍ له، فأما القياس فحق الاستمتاع وما يطرأ عليه من تعذر يضاهي حق الانتفاع في الإجارة، ثم ما يطرأ من العيب على العين المستأجرة يُثبت حق الخيار، كما يثبته العيب الذي يطلع عليه، ولقد كان موجوداً حالة الإجارة. هذا بيان القياس.
والذي يعضده أنها لو لم تختر، لبقيت في ضرار العيب ما عاشت؛ إذ ليس بيدها مخلص سوى الفسخ، هذا إذا طرأ العيب عليه.
فأما إذا طرأ العيب عليها، ففي ثبوت الخيار للزوج على الجملة قولان:
أحدهما: يثبت الخيار وهو اختيار المزني- كما يثبت لها الخيار، وذلك أنها مستحقة المنافع، وهي حَرِيّة بأن تشبه بالمستأجرة في غرضنا. ولا يظن ظان فرقاً بينهما في العيب الطارىء لا نَعْكس مثله في المقارن.
والقول الثاني- إنه لا خيار للزوج إذا طرأ العيب؛ فإن الطلاق بيده، وقد سلم أصل العقد، ولزم على موجب السلامة، والمرأة في وضمع النكاح كالمقبوضة، ومنافعها لا تتبعض تبعّض منافع الإجارة. والمزني إن استدّ له اختيار القول الأول، فقد لا يجري لنا ما يجري له؛ فإنا نقول: اليسار الطارىء على نكاح الأمة لا يوجب قطعَه، بخلاف اليسار المقترن بنكاح الأمة، وذلك لأنّا نعتقد الأمة مسلّمة مقبوضة بالنكاح، ونجعل ما يطرأ بمثابة ما يقع بعد تمام الاستيفاء.
ثم ما أطلقناه من حدوث العيب، فهو-مما يجري عليها- جارٍ بلا تفصيل.
وأما ما يطرأ عليه؛ فلابد من استثناء العُنَّةِ منه؛ من جهة أن الزوج إذا وطىء ثم عنّ، فلا خيار للمرأة، وتفصيل ذلك يأتي-إن شاء الله تعالى- في باب العُنَّة، فإنها بطباعها ووضعها تنفصل عن العيوب بوجوه ستأتي مشروحة في بابها، إن شاء الله عز وجل.
فيخرج عنه أن العنَّة إذا طرأت بعد الدخول، فلا خيار، وإن طرأت قبل الدخول وبعد النكاح؛ ففيها نظر على الضدّ، فيتجه أن نلحقها بما يقترن بالعقد، بخلاف البرص والجذام والجنون، فليتأمل الناظر هذا المحل. ويحتمل أن يكون طارئها بعد الدخول كطارىء البرص.
وإذا طرأ الجَبُّ بعد الدخول، فالمذهب أن طريانه كطريان البرص. ومن أصحابنا من ألحق طريانه بطريان العنة، وهذا غير سديد وإن حكاه القاضي.
8230- فإذا تبين ما يتعلق بالخيار في العيب الطارىء عليها، فإنَّا نتكلم بعد ذلك في سقوط المهر ونقول: إن جرى الفسخ قبل المسيس، فلا شك في سقوط المسمى، سواء كانت هي الفاسخة، أو كان الزوج هو الفاسخ على أحد القولين. وإن كان ذلك بعد المسيس، فإن قلنا: يجب المسمى والعيب مقترن بالعقد، فلا شك أنّا نوجب المسمى في العيب الطارىء، بل إيجاب المسمى هاهنا أولى، وإن فرّعنا على النص في العيب المقترن، وأوجبنا مهر المثل؛ ففي المسألة ثلاثة أوجه في العيب الطارىء: أحدها: أنّا نوجب مهر المثل طرداً للقياس، ومصيراً إلى أن الفسخ يقتضي ارتداد العوض المسمى في العقد.
والوجه الثاني- أنه يجب المسمى في العيب الطارىء؛ لأن الذي اعتمدناه في توجيه النص والفسخ مستندٌ إلى العيب المقترن أن العيب المقترن بالعقد يُلحق العقد بالذي لم يكن، فإذا لم يتحقق الاقتران، فلا شيء لإسقاط المسمى في العقد وأنه لابد من إثبات مهر.
والوجه الثالث: أن العيب إن طرأ بعد المسيس، وجب المسمى وامتنع سقوطه، فإنَّه تقرر على السلامة، فيبعد سقوطه بعد التقرر، وإن طرأ العيب قبل المسيس، فيجب حينئذ مهر المثل، ونجعل اقتران العيب بالوطء المقرر بمثابة اقترانه بالعقد.
وقد انتجز القول في الفسخ المقترن والطارىء وسقوط المهر قبل المسيس وبعده.
ونعقد نحن وراء ذلك فصلاً هو غائلة الباب، ويتوقف على دركه سر القول في المهر.
فصل:
8231- إذا غرِم الزوج المهر بعد المسيس-على ما سبق التفصيل فيه- فهل يثبت له الرجوع على الولي بما غرم؟ فعلى قولين:
أحدهما: لا يثبت له الرجوع عليه، والثاني: يرجع، والقولان في هذا الباب يستندان إلى قولين سيأتي ذكرهما في باب الغرور، إن شاء الله تعالى، وهو أن المتعاطي التزويج إذا غرّ الزوج بحرية الزوجة، وانعقد النكاح على الغرور-على أصح القولين- وغرِم المهر-لما وطىء- للسيد، فهل يرجع بالمهر على العاقد الغارّ؟ فعلى قولين، سيأتي ذكرهما، إن شاء الله عز وجل.
فإن قلنا: لا يرجع المغرور بما غرمه من المهر على من غرّه، فلا يرجع الزوج في هذه المسألة على الولي. وإن قلنا: يرجع المغرور على الغارّ، فهل يرجع الزوج بما غرمه على الوليّ الذي زوّج من بها عيب؟ فعلى قولين: أحدهما وهو القياس-أنه لا يرجع؛ فإنه قد شرع في النكاح على أن يتقوم عليه البضع، وقد استوفاه وتقوَّم عليه، فكان رجوعه على الولي وهو مطالب بعوض ما التزم عوضه، وقد استوفاه- بعيداً.
والقول الثاني- إنه يرجع على الولي المزوج، وهذا القول لا يوجه بمعنًى، وإنما التعويل فيه على ما رواه الشافعي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب قال: "أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسها، فلها صداقها، وكذلك لزوجها غرم على وليها".
8232- ثم قال الأئمة: القولان يجريان إذا كان الولي عالماً بالعيب، فلم يتعرض له، وعقد العقد مطلقاً، فلو كان جاهلاً بالعيب، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: القطع بأنه لا رجوع على الولي؛ لأنه لم يوجد من جهته تصريح بالتغرير ولا كتمان، ومن أصحابنا من أجرى في هذه الصورة القولين المذكورين، واعتل بأنه إذا بطل والغرم إلى الولي، فلا معنى للفصل بين العلم والجهل، فإنَّ الأسباب المقتضية لضمان المال والمرجع به لا يفرق فيها بين علم الغارم وجهله.
التفريع على هذين الوجهين: إن حكمنا بأن الولي إذا كان جاهلاً بعيب المرأة؛ لم يثبت الرجوع عليه قولاً واحداً، فلا كلام. وإن حكمنا بأن الرجوع على الولي يثبت مع كونه جاهلاً بعيب المزوّجة، فالقولان يجريان فيه إذا كان الولي مَحرماً، وهل يجريان إذا لم يكن محرماً للمزوجة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنهما لا يجريان في غير المحارم؛ فإنه إنما يتحقق للانتساب إلى التفريط ترك البحث في حق المحارم، فيصير ترك البحث في حق المحرم تقصيراً حالاًّ محل إنشاء العقد مع العلم بالعيب، فأما من ليس محرماً؛ فإنه يبعد اطلاعه، فلا ينتسب إلى التقصير بترك البحث عن حقيقة الحال.
والوجه الثاني- إن القولين يجريان في غير المحرم جريانه في المحرم؛ فإنَّ التعويل في إثبات الرجوع على الولي على الأثر الذي نقله الشافعي عن عمر في صدر الباب، وليس فيه فصل بين ولي وولي، كما ليس فيه فصل بين العالم والجاهل.
8233- ومما يتعلق بهذا المنتهى، أنا إذا قلنا: إنما يغرَم الولي إذا كان عالماً بالعيب وزوّج، ولو كان جاهلاً، لم يثبت عليه مرجع، فلو كتمت المزوَّجة عيبَ نفسها، فهي بكتمانها حَالَّةٌ محل الولي المزوِّج مع العلم بالعيب، ففي ثبوت الرجوع فيها القولان المذكوران في الولي العالم بالعيب. وسنذكر في باب الغرور أن المرأة إذا كانت هي الغارَّة، ففي الرجوع عليها من الكلام ما في الرجوع على المزوِّج الغارّ.
ثم إن رأينا الرجوع، والمرأة هي الكاتمة، وهي التي وطئها زوجها، فإذا أثبتنا الرجوع عليها، فلا معنى للغرم لها، وذكرنا الرجوع تقدير يُفضي معناه إلى أنه لا يغرم لها؛ فإنها حلت محل من ثبت الرجوع عليه، والجمع بين الغرم للشخص وبين الرجوع بما يغرم له متناقض.
8234- فإذا أحللناها محل من يرجع عليه، فهل نقول: يدع إليها شيئاًً من المهر يستحل به البضع؟ فعلى وجهين:
أحدهما: إنه يجب ذلك؛ فإنها لو لم تستحق شيئاًً من المهر، لكان إعراء الوطء عن العوض إحلالاً له محل السفاح.
والثاني: إنه لا يغرم لها شيئاًً؛ لانتسابها إلى التغرير بالكتمان، واقتضاء التغرير الرجوع لا يختص بجزءٍ من المهر دون جزء، وخلو الوطء عن المهر لا يعدم نظيراً في الشرع.
فإن قلنا: يترك إليها مقداراً، فهو أقل ما يتمول، وقد تكلمنا في ذلك في مواضع من الكتاب، وإن قلنا: لا يترك إليها شيئاً، فللأصحاب نوع من الكلام في التقدير والإسقاط في مثل تزويج الرجل أمته من عبده، فلا شك أن السيد لا يثبت له مهر أمته على عبده ثبوتاً يطالب به في الحال، أو في المآل، ولكن هل نقول: هل يثبت المهر تقديراً أو سقط كما ثبت؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي وغيره، وهذا يضاهي اختلاف الأصحاب في أن الأب إذا قتل ابنه، فهل نقول: يلزمه القصاص؟ ثم يسقط بتعذر استيفائه، أو نقول: لا يلزمه القصاص أصلاً؟ تردد فيه الأصحاب.
فإذا كان لهذا النوع من الخلاف جريان، فأحرى المواضع بها ما نحن فيه من تصدي المرأة للغرور، أو لما في معناه؛ فإن حق الرجوع إذا ثبت وتضمن تقدير المطالبة بما به الرجوع، فهل يقدر الوجوب فيما يثبت به الرجوع به أولاً؟ فعلى وجهين. وجريانهما في هذه الصورة أوجه من جريانهما في الأمة يزوّجها مولاها من عبده. ويكاد يكون الثبوت في المهر مع ثبوت الرجوع حالاًّ محل ما يجري فيه التقاصّ من الحقوق المقابلة.
فهذا حاصل القول في الرجوع على المولى وما يتصل به. ولولا أثر عمر بن الخطاب، لما انتظمت هذه المسائل؛ فإن المعنى لا يشير إلى تنزيل الولي المزوّج منزلة الغارّ المصرِّح بالتغرير.
8235- ثم أجمع الأصحاب على أن ما ذكرناه من إجراء القولين في الرجوع على الولي المزوّج فيه إذا كان العيب المثبت للخيار مقترناً بالعقد، فأما إذا عري العقد عن اقتران عيب به، وانعقد على سلامتها، ثم طرأ عيب، وجرينا على إثبات الخيار للزوج، فإنه لا يرجع بما يغرم في هذا المقام، قولاً واحداً؛ من جهة أن الولي إن كان ينتسب إلى مضاهاة الغارّ، فذاك إنما يتصور حالة إنشاء العقد، فأما ما يطرأ على العقد من العيوب، فلا يتقرر معنى الرجوع في حق الولي تقديراً ولا تحقيقاً.
ويتصل بهذا الفصل ضبط وتنبيه، سيأتي مشروحاً في باب الغرور، إن شاء الله تعالى.
فرع:
8236- المرأة إذا اطلعت على عيب من زوجها، وأثبتنا لها الخيار لمكان ذلك العيب؛ فلو رضيت بالمقام تحت زوجها، فهل يثبت لأوليائها حق الاعتراض على العقد بالفسخ؟
ذكر بعض أئمتنا ثلاثة أوجه: أحدها: لهم الفسخ من غير فصل بين عيب وعيب؛ فإن العار يلحقهم بكونها تحت معيب، من غير فرق.
والوجه الثاني- إنه لا يثبت لهم حق الاعتراض إذا رضيت؛ فإن العيوب المثبتة لحق الفسخ إنما تؤثر في حق الزوجة، وهي المختصة بالتضرر بها، وإنما ينال الأولياءَ العارُ من خساسة الأنساب، وما يقع فيها من غض وحطيطة.
والوجه الثالث: إنه يفصل بين الجب والعنة وبين غيرهما، فلا يثبت الخيار للأولياء في الجب والعنة؛ فإن ضررهما مختص بالمرأة، فأما الجنون والجذام والبرص، فيثبت للأولياء حق الاعتراض بسببها إذا ثبت شيء منها.
وسلك العراقيون مسلكاً آخر، فقالوا: لهم الاعتراض بسبب الجنون، ولا اعتراض لهم بسب الجب والعنة، وهل لهم الاعتراض بسبب الجذام والبرص؟ فعلى وجهين. وهذا التفصيل الذي ذكروه أحسن ما وقع.
ثم كل ما ذكرناه في العيب المقترن بالعقد، فأما ما يطرأ بعد العقد، فإذا رضيت المرأة به، واختارت المقام تحت الزوج معه، فلا اعتراض للأولياء، اتفق الأصحاب عليه، وزعموا: إنما يثبت للأولياء حق الاعتراض بما يستند إلى حالة العقد ويقترن به، فأما ما يطرأ عليه؛ فلا حق لهم فيه.
8237- ومن تمام التفريع فيما ذكرناه أنا حيث نثبت للولي الاعتراض وإن رضيت المرأة، فلو دعت المرأة ابتداء إلى التزويج من شخص عيّنته، وكان به أحد العيوب، فإن قلنا: للولي حق الاعتراض وإن رضيت، فلا يجيبها إذا طلبت ودعت إلى التزويج منه، وحيث قلنا: لا يثبت حق الاعتراض في بعض العيوب التي فَصَّلناها، فإذا دعت المرأة وليَّها إلى التزويج ممن به مثل ذلك العيب؛ فعلى الولي إجابتها، فإن لم يجبها كان عاضلاً.
ثم ذكر الشافعي لفظة في السواد، فتعرض الأصحاب لها، وذلك أنه قال: "الجذام والبرص-فيما زعم أهل العلم بالطب- يُعدي، فلا تكاد نفس أحد تطيب بأن يجامع من هو به، وأما الولد، فقل ما يَسلَم، وإن سلم، أدرك ذلك نسلَه، فنسأل الله العافية". هذا ما نقله المزني من لفظ الشافعي. فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا هامة ولا صفر» فنفى العدوى وقد أثبتها الشافعي، فكان ذلك مخالفاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم؟
قلنا: إنما نفى الرسول صلى الله عليه وسلم العدوى من شخص إلى شخص، ومن جليس إلى جليس، والذي ذكره الشافعي تعرض للعدوى إلى النسل والولد، وفي الحديث ما يدل على أن فعل ذلك غير ممتنع على طرد العادة، والدليل عليه ما روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاماً أسودَ، فكان ما قاله تعريضاً بها وبإتيانها الولد لا عن رِشْدة، فقال صلى الله عليه وسلم: «هل لك من إبل؟» قال: نعم، قال: «فما ألوانها؟» قال: حُمر، فقال: «هل فيها من أَوْرق؟» قال: نعم. قال: «ذاك من أين؟» قال السائل: لعل عرقاً نزعه. فقال صلى الله عليه وسلم: «فلعل عرقاً نزعه»، فبيّن أن العرق نزّاع، وأن العدوى في الخِلقة وصفات البدن من الأصل على الفرع ليس بمستنكر.
فصل:
قال: "ولو تزوجها على أنها مسلمة، فإذا هي كتابية، كان له فسخ النكاح... إلى آخره".
8238- نقل المزني عن الشافعي أن من نكح امرأة، وشرط كونها كتابية، فخرجت مسلمة؛ قال: لا خيار للزوج. ثم كان المزني سمع الشافعي يقول: لو اشترى عبداً وشرط كونه كتابياً، فخرج مسلماً، له الخيار، فأخذ ينكر ذلك في البيع، يصير إلى أن لا خيار، واستشهد بما نقله عن نص الشافعي في النكاح، فقال الأصحاب: أما إذا اشترط الإسلام في التي تزوجها، فخرجت كتابية، فهذا من باب الخُلف في الوصف. وسنذكر في باب الغرور-إن شاء الله تعالى- أن الخلف في الوصف هل يمنع انعقاد النكاح؟ وفيه قولان، فإن حكمنا بأن الخلف في الوصف يوجب فساد النكاح، فلا فرق بين أن يشترط الإسلام، فيظهر أن الزوجة كتابية، وبين أن يشترط كونها كتابية، فيظهر أنها مسلمة.
والقولان في الفساد والصحة يجريان في الخُلف من فضيلة إلى نقيصة ومن نقيصة إلى فضيلة.
وإن حكمنا بأن النكاح ينعقد، فالنص دال على أنه إذا شرط كونها مسلمة فخرجت كتابية؛ فله الخيار، ولو شرط كونها كتابية، فإذا هي مسلمة؛ فلا خيار له.
فاستدل المزني بنص الشافعي في النكاح وقال: إذا اشترى عبداً على أنه كتابي، فإذا هو مسلم؛ وجب أن لا يثبت له الخيار بخُلف هذا الشرط، وإنما يُثبت الخلفُ الخيارَ إذا اشترى عبداً وشرط أنه مسلم، فخرج كتابياً، وقد نقل عن الشافعي إثبات الخيار في شراء العبد في الطرفين- إذا تحقق الخلف في الشرط، من غير فرق بين أن يكون المشروط هو الإسلام أو الكفر.
8239- واختلف أصحابنا فيما ذكره المزني، وفيما استشهد به فقالوا أولاً: إذا شرط في النكاح كون المرأة كتابية، فخرجت مسلمة؛ فلا خلاف أنه لا خيار للزوج فإنها خرجت خيراً مما شرط، وكل غرض يستباح بالنكاح في الكتابية، فهو مستباح من المسلمة.
وإذا اشترى عبداً وشرط كونه مسلماً، فخرج كتابياً؛ فلا خلاف في ثبوت الخيار.
وإذا اشترى على شرط أن يكون كتابياً، فخرج مسلماً، فهذا موضع تردد الأصحاب، وحاصل ما ذكروه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الخيار يثبت؛ فإن المقصود في الرد راجع إلى المالية، وقد يكون الكفر في المملوك من الأغراض المالية بأن يُبضع المشتري العبدَ في جهة ديار الكفر، ويقدّر أنه يروج عليه. وقد يتعلق الفكر بنوع آخر وهو أن الكافر يطلبه المسلم وغير المسلم، والمسلم لا يطلبه إلا المسلم، ولو طلبه غيرُ المسلم لم يُسْعَف ولم يُبَع منه، ورواج الشيء بكثرة الراغبين، كما أن وقوفه بقلة الراغبين، هذا وجه.
ومن أصحابنا من قال: إن كان الموضع الذي جرى فيه الشراء قريباً من ديار الكفر، فكان يُتوقع أن يطرقوا ذلك الموضع، فيرغبوا في العبد الذي يوافق دينهم؛ فيثبت الخيار، وكذلك إن اتفق ذلك في بلد يكثر فيه أهل الذمة، فأما إذا جرى في موضع بعيد عن ديار الكفر، ولا يكثر الكفار وأهل الذمة فيه، فإذا كان شَرَط الكفر في العبد، فخرج مسلماً، فلا خيار- والحالة هذه. وهذا ما اختاره القاضي.
ومن أصحابنا من وافق المزني ورأى مذهبه قولاً مُخَرَّجاً معدوداً من النظر إلى الأغراض المالية؛ فإنَّ القيمة إن كانت تزيد، من جهة رغبة الكفار، فتيك رغبة باطلة مستندها الكفر وتحسينه، واعتقاد كونه حقاً، فيكاد أن يكون ذلك المزيد بمثابة ثمن الخمر.
هذا بيان الأوجه.
8240- وبقية الكلام أن هذا العبد لو أُتلف، فمذهب جماهير الأصحاب أنه يجب على المتلِف أن يغرم قيمته اعتباراً بما يقف به، وإن كان بأكثر مما يُشترى به المسلم.
وذهب المزني ومن يوافقه أن ذلك المزيد لا يُضمن لما أشرنا إليه، وهو بمثابة ازدياد قيمة الجارية بأن تصير عوّادة. فلا يخفى أن القَيْنة تُشترى في العادة بضعف ما تشترى به الجارية الناسكة، ومن اشتراها لم يتعرّض إليه، فإن الشراء يرد على عينها، ولكن لو أتلفت لم يضمن مُتلِفها إلا قيمة مثلها لو كانت لا تحسن الغناء.
وقد ذكرنا طرفاً من هذا في المعاملات، وستكون لنا عودة إليه في الجنايات، إن شاء الله تعالى.