فصل: مَرْتَبَةُ الْإِيمَانِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول (نسخة منقحة)



.مَرْتَبَةُ الْإِسْلَامِ:

(الْإِسْلَامِ) بِالْخَفْضِ بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلِ مَرَاتِبَ، وَيُقَالُ لَهُ: بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَمَا بَعْدَهُ مَعْطُوفَانِ عَلَيْهِ. هَذِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى فِي حَدِيثِ عُمَرَ وَمَا وَافَقَ لَفْظَهُ.
وَالْإِسْلَامُ لُغَةً: الِانْقِيَادُ وَالْإِذْعَانُ، وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ فَلِإِطْلَاقِهِ حَالَتَانِ:
(الْحَالَةُ الْأُولَى) أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْإِفْرَادِ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ، فَهُوَ حِينَئِذٍ يُرَادُ بِهِ الدِّينُ كُلُّهُ أُصُولُهُ وفروعه من اعتقاداته وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آلِ عِمْرَانَ: 19]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [الْمَائِدَةِ: 3]، وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 85]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [الْبَقَرَةِ: 208]، أَيْ: فِي كَافَّةِ شَرَائِعِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ حَيْدَةَ: مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: «أَنْ تَقُولَ: أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَتَخَلَّيْتُ» الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: «أَنْ يَسْلَمَ قَلْبُكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ» قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْإِيمَانُ» قَالَ: وَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: «تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ» فَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ مِنَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَفْضَلُهُ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، وَمُحِيَتْ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا» الْحَدِيثَ. فَإِنَّ الِانْقِيَادَ ظَاهِرًا بِدُونِ إِيمَانٍ لَا يَكُونُ حُسْنَ إِسْلَامٍ بَلْ هُوَ النِّفَاقُ، فَكَيْفَ تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٌ أَوْ تُمْحَى عَنْهُ سَيِّئَاتٌ؟! وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ.
(الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ) أَنْ يُطْلَقَ مُقْتَرِنًا بِالِاعْتِقَادِ، فَهُوَ حِينَئِذٍ يُرَادُ بِهِ الْأَعْمَالُ وَالْأَقْوَالُ الظَّاهِرَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الْحُجُرَاتِ: 14]، الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ لَهُ سَعِيدٌ رَضِيَ الله عنه: مالك عَنْ فُلَانٍ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْ مُسْلِمٌ» يَعْنِي أَنَّكَ لَمْ تَطَّلِعْ عَلَى إِيمَانِهِ وَإِنَّمَا اطَّلَعْتَ عَلَى إِسْلَامِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: «لَا تَقُلْ: مُؤْمِنٌ وَقُلْ: مُسْلِمٌ» وَكَحَدِيثٍ عُمَرَ هَذَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ.

.مَرْتَبَةُ الْإِيمَانِ:

(وَالْإِيمَانِ) هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَالْإِيمَانُ لُغَةً: التَّصْدِيقُ، قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يُوسُفَ: 17]، يَقُولُ: بِمُصَدِّقٍ، وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ فَلِإِطْلَاقِهِ حَالَتَانِ:
(الْحَالَةُ الْأُولَى) أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْإِفْرَادِ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِذِكْرِ الْإِسْلَامِ، فَحِينَئِذٍ يُرَادُ بِهِ الدِّينُ كُلُّهُ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الْبَقَرَةِ: 257]، وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 68]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الْحَدِيدِ: 16]، وَقَوْلِهِ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إِبْرَاهِيمَ: 11]، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الْمَائِدَةِ: 23]، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ»؛ وَلِهَذَا حَصَرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِيمَنِ الْتَزَمَ الدِّينَ كُلَّهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الْأَنْفَالِ: 2-4]، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [النُّورِ: 62]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السَّجْدَةِ: 15-17]، وَفَسَّرَهُمْ بِمَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْبَقَرَةِ: 1-5]، وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 133-136]، وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْأَعْرَافِ: 156، 157]، وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1-11]، وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النَّمْلِ: 1-3]، وَغَيْرَهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ فَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى (الْإِيمَانَ) بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الْبَقَرَةِ: 177].
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الْإِيمَانُ؟ فَتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الْبَقَرَةِ: 177]، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. ثُمَّ سَأَلَهُ أَيْضًا فَتَلَاهَا عَلَيْهِ ثُمَّ سَأَلَهُ فَقَالَ: «إِذَا عَمِلْتَ حَسَنَةً أَحَبَّهَا قَلْبُكَ، وَإِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً أَبْغَضَهَا قَلْبُكَ» رَوَاهُ الْمَسْعُودِيُّ بِنَحْوِهِ، وَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَقَالَ: «آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ» قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ»؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصِيَامُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُؤَدُّوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمْسَ»، وَقَدْ جَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِيَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا مِنَ الْإِيمَانِ، وَكَذَا قِيَامَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَكَذَا أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَكَذَا الْجِهَادَ وَالْحَجَّ وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَعْلَاهَا: قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» وَهَذِهِ الشُّعَبُ الْمَذْكُورَةُ قَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ، مِنْهَا مَا هُوَ مِنْ قَوْلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ قَوْلِ اللِّسَانِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ.
وَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ جَامِعَةً لِقَوْلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ وَقَوْلِ اللِّسَانِ وَعَمَلِهِ وَعَمَلِ الْجَوَارِحِ، سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى إِيمَانًا فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 143]، يَعْنِي: صَلَاتَكُمْ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا سَبَقُونَا بِهِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا آمَنَ أَحَدٌ قَطُّ إِيمَانًا أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِالْغَيْبِ، ثُمَّ قَرَأَ: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} إِلَى قَوْلِهِ: {الْمُفْلِحُونَ} [الْبَقَرَةِ: 1-5]. وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إِلَى طَرَفٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى مَا وَرَاءَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي قَصَدَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ بِقَوْلِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِيمَانَ اعْتِقَادٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَإِنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ. وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ أَدْرَكَهُمْ.
وَأَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى مَنْ أَخْرَجَ الْأَعْمَالَ عَنِ الْإِيمَانِ إِنْكَارًا شَدِيدًا، وَمِمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى قَائِلِهِ وَجَعَلَهُ قَوْلًا مُحْدَثًا، مِمَّنْ سُمِّيَ لَنَا: سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَقَتَادَةُ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ: هُوَ رَأْيٌ مُحْدَثٌ، أَدْرَكْنَا النَّاسَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ مَنْ مَضَى مِنَ السَّلَفِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَمَلِ وَالْإِيمَانِ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْأَمْصَارِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ فَرَائِضُ وَشَرَائِعُ، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَرَادَ الْبُخَارِيُّ إِثْبَاتَهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَعَلَيْهِ بَوَّبَ أَبْوَابَهُ كُلَّهَا، فَقَالَ: (بَابُ أُمُورِ الْإِيمَانِ) وَ(بَابُ الصَّلَاةِ مِنَ الْإِيمَانِ) وَ(بَابُ الزَّكَاةِ مِنَ الْإِيمَانِ) وَ(بَابُ الْجِهَادِ مِنَ الْإِيمَانِ) وَ(بَابُ حُبِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ) وَ(بَابُ الْحَيَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ) وَ(بَابُ صَوْمِ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنَ الْإِيمَانِ) وَ(بَابُ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ مِنَ الْإِيمَانِ) وَ(بَابُ أَدَاءِ الْخُمْسِ مِنَ الْإِيمَانِ) وَسَائِرَ أَبْوَابِهِ. وَكَذَلِكَ صَنَعَ النَّسَائِيُّ فِي الْمُجْتَبَى، وَبَوَّبَ التِّرْمِذِيُّ عَلَى حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ (بَابُ مَا جَاءَ فِي إِضَافَةِ الْفَرَائِضِ إِلَى الْإِيمَانِ) وَكَلَامُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَتَرَاجِمُهُمْ فِي كُتُبِهِمْ يَطُولُ ذِكْرُهُ وَهُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ، وَمِمَّا قَصَدُوهُ بِذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى أَهْلِ البدع ممن قالوا: هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ فَقَطْ؛ كَابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، إِذْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْيَهُودُ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَيْقَنُوهَا وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ الْإِيمَانَ عَنْهُمْ.
وَقَالَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعُهُ: هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ فَقَطْ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَافِرٌ بِالْكُلِّيَّةِ، إذ لا يجهل الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي نُونِيَّتِهِ الْكَافِيَةِ الشَّافِيَةِ:
قَالُوا: وَإِقْرَارُ الْعِبَادِ بِأَنَّهُ ** خَلَّاقُهُمْ هُوَ مُنْتَهَى الْإِيمَانِ

وَالنَّاسُ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ وَاحِدٌ ** كَالْمُشْطِ عِنْدَ تَمَاثُلِ الْأَسْنَانِ

فَاسْأَلْ أَبَا جَهْلٍ وَشِيعَتَهُ وَمَنْ ** وَالَاهُمُو مِنْ عَابِدِي الْأَوْثَانِ

وَسَلِ الْيَهُودَ وَكُلَّ أَقْلَفَ مُشْرِكٍ ** عَبَدَ الْمَسِيحَ مُقَبِّلَ الصُّلْبَانِ

وَاسْأَلْ ثَمُودَ وَعَادَ بَلْ سَلْ قَبْلَهُمْ ** أَعْدَاءَ نُوحٍ أُمَّةَ الطُّوفَانِ

وَاسْأَلْ أَبَا الْجِنِّ اللَّعِينَ أَتَعْرِفُ الْـ ** ـخَلَّاقَ أَمْ أَصْبَحْتَ ذَا نُكْرَانِ

وَاسْأَلْ شِرَارَ الْخَلْقِ واَقْبَحَ أُمَّةٍ ** لُوطِيَّةٍ هُمْ نَاكِحُو الذُّكْرَانِ

وَاسْأَلْ كَذَاكَ إِمَامَ كُلِّ مُعَطِّلٍ ** فِرْعَوْنَ مَعْ قَارُونَ مَعْ هَامَانِ

هَلْ كَانَ فِيهِمْ مُنْكِرٌ لِلْخَالِقِ الْـ ** ـرَبِّ الْعَظِيمِ مُكَوِّنِ الْأَكْوَانِ

فليبشروا ما فيهمو مِنْ كَافِرٍ ** هُمْ عِنْدَ جَهْمٍ كَامِلُو الْإِيمَانِ

وَقَالَتِ الْمُرْجِئَةُ وَالْكَرَّامِيَّةُ: الْإِيمَانُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ دُونَ عَقْدِ الْقَلْبِ، فَيَكُونُ الْمُنَافِقُونَ عَلَى هَذَا مُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَهُمْ قَدْ نَطَقُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَقَطْ وَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ-عَزَّ وَجَلَّ- فِي دَعْوَاهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: التَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ. وَهَذَا الْقَوْلُ مُخْرِجٌ لِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ.
وَذَهَبَ الْخَوَارِجُ وَالْعَلَّافُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ إِلَى أَنَّهُ الطَّاعَةُ بِأَسْرِهَا فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا، وَهَذَا الْقَوْلُ مُصَادِمٌ لِتَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوُفُودِ الْعَرَبِ السَّائِلِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَكُلَّ مَا يَقُولُ لَهُ السَّائِلُ فِي فَرِيضَةٍ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا».
وَذَهَبَ الْجُبَّائِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَصْرِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ الطَّاعَاتُ الْمَفْرُوضَةُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ دُونَ النَّوَافِلِ، وَهَذَا أَيْضًا يُدْخِلُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْإِيمَانِ وَقَدْ نَفَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ الْبَاقُونَ مِنْهُمْ: الْعَمَلُ وَالنُّطْقُ وَالِاعْتِقَادُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَجْعَلُوا كُلَّ الْأَعْمَالِ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ، بَلْ جَعَلُوا كَثِيرًا مِنْهَا شَرْطًا فِي الْكَمَالِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيهَا: مَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ، وَالْمُعْتَزِلَةُ جَعَلُوهَا كُلَّهَا شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(والحالة الثَّانِيَةُ) أَنَّ يُطْلَقَ الْإِيمَانُ مَقْرُونًا بِالْإِسْلَامِ، وَحِينَئِذٍ يُفَسَّرُ بِالِاعْتِقَادَاتِ الْبَاطِنَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ هَذَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَكَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النساء: 57]، في غيرما مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَكَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاءِ الْجِنَازَةِ: «اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفِّهِ عَلَى الْإِيمَانِ»، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالْجَوَارِحِ وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْهَا فِي الْحَيَاةِ، فَأَمَّا عِنْدُ الْمَوْتِ فَلَا يَبْقَى غَيْرُ قَوْلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ. وَكَحَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ».
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا أُفْرِدَ كُلٌّ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ بِالذِّكْرِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ يَشْمَلُ الدِّينَ كُلَّهُ، وَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْجَلِيلِ. وَالْمَجْمُوعُ مَعَ الْإِحْسَانِ هُوَ الدِّينُ كَمَا سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَفْسِيرُ الْإِيمَانِ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامِ بِالْإِيمَانِ، وَبِذَلِكَ جمع بينه وبينها أَهْلُ الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ النُّصُوصِ وَبَيْنَ حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَتَفْرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَإِدْخَالِهِ الْأَعْمَالَ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ دُونَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ يَتَّضِحُ بِتَقْرِيرِ أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا يَكُونُ شَامِلًا لِمُسَمَّيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ عِنْدَ إِفْرَادِهِ وَإِطْلَاقِهِ، فَإِذَا قُرِنَ ذَلِكَ الِاسْمُ بِغَيْرِهِ صَارَ دَالًّا على بعض تلك الْمُسَمَّيَاتِ، وَالِاسْمُ الْمَقْرُونُ بِهِ دَالًّا عَلَى بَاقِيهَا، وَهَذَا كَاسْمِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فَإِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ، فَإِذَا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ دَلَّ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْآخَرُ عَلَى بَاقِيهَا، فَهَكَذَا اسْمُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ إِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ وَدَلَّ بِانْفِرَادِهِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْآخَرُ بِانْفِرَادِهِ، فَإِذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا دَلَّ أَحَدُهُمَا عَلَى بَعْضِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ وَدَلَّ الْآخَرُ عَلَى الْبَاقِي.
قَالَ: وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ الْجَبَلِ: قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَالْإِسْلَامُ فِعْلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَهُ، إِذَا ذُكِرَ كُلُّ اسْمٍ عَلَى حِدَتِهِ مَضْمُومًا إِلَى الْآخَرِ فَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا مُفْرَدَيْنَ أُرِيدُ بِأَحَدِهِمَا مَعْنًى لَمْ يُرَدْ بِهِ الْآخَرُ، وَإِذَا ذُكِرَ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ شَمِلَ الْكُلَّ وَعَمَّهُمْ.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِهِ مَعَالِمُ السُّنَنِ، وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ بَعْدِهِ.
قُلْتُ: كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ رَجَبٍ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَطَّابِيُّ الْبَسْتِيُّ الْفَقِيهُ الْأَدِيبُ الشَّافِعِيُّ الْمُحَقِّقُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فِي كِتَابِهِ مَعَالِمُ السُّنَنِ: مَا أَكْثَرَ مَا يَغْلَطُ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَقَالَ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانُ الْعَمَلُ، وَاحْتَجَّ بِالْآيَةِ يَعْنِي: قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الْحُجُرَاتِ: 14]. وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذَّارِيَاتِ: 35، 36].
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ رَجُلَانِ مِنْ كُبَرَاءِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى قَوْلٍ مِنْ هَذَيْنِ، وَرَدَّ الْآخَرُ مِنْهُمَا عَلَى الْمُتَقَدِّمِ وَصَنَّفَ كِتَابًا يَبْلُغُ عَدَدُ أَوْرَاقِهِ الْمِئِينَ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَيَّدَ الْكَلَامُ فِي هَذَا وَلَا يُطْلَقُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِهَا، وَالْمُؤْمِنُ مُسْلِمٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا. وَإِذَا حَمَلْتَ الْأَمْرَ عَلَى هَذَا اسْتَقَامَ لَكَ تَأْوِيلُ الْآيَاتِ وَاعْتَدَلَ الْقَوْلُ فِيهَا، وَلَمْ يَخْتَلِفْ شَيْءٌ مِنْهَا.
وَأَصْلُ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ، وَأَصْلُ الْإِسْلَامِ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ، فَقَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ مُسْتَسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ غَيْرَ مُنْقَادٍ فِي الْبَاطِنِ، وَقَدْ يَكُونُ مُصَدِّقًا فِي الْبَاطِنِ غَيْرَ مُنْقَادٍ فِي الظَّاهِرِ.
قُلْتُ: مَا رَوَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانُ الْعَمَلُ، هَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ قَيِّمِ الْمَبْنَى وَلَا وَاضِحُ الْمَعْنَى، وَالزَّهْرِيُّ إِمَامٌ عَظِيمٌ مِنْ كِبَارِ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ لَا يَجْهَلُ مِثْلَ هَذَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ مَحْفُوظَةً عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ، فَإِنْ صَحَّ النَّقْلُ عَنْهُ فَفِي الْكَلَامِ تَصْحِيفٌ وَإِسْقَاطٌ لَعَلَّ الصَّوَابَ فِيهِ هَكَذَا: الْإِسْلَامُ: الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ، فَسَقَطَتِ الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ لِلْعَمَلِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَهَذَا مُتَعَيِّنٌ لِمُوَافَقَتِهِ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَاطِبَةً: أَنَّ الْإِيمَانَ اعْتِقَادٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلٌ. وَالزُّهْرِيُّ مِنْ أَكْبَرِ أَئِمَّتِهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ مَعَهُمْ فِيمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْهُمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَكُونُ عَنَى بِالْإِسْلَامِ الدِّينَ كُلَّهُ كَمَا عَنَى غَيْرَهُ بِالْإِيمَانِ الدِّينَ كُلَّهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا عَلَى هَذَا وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَعْنَى الْأَوَّلِ؛ لِإِهْمَالِ الِاعْتِقَادِ فِيهِ الْمَوْجُودِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الْحُجُرَاتِ: 14]، الْآيَةَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَهَذَا إِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْغَيْرِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فَهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهُمَا شَيْئًا وَاحِدًا إِلَّا عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَعَدَمِ الِاقْتِرَانِ لِشُمُولِ أَحَدِهِمَا مَعْنَى الْآخَرِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَمَّا عِنْدُ اقْتِرَانِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِمَا فرق به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَإِنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فَإِطْلَاقُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا وَالِاتِّحَادِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ هُوَ رَأْيُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُمُ الْمُحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِآيَتَيِ الذَّارِيَاتِ وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا مُؤْمِنِينَ وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَا يَنْعَكِسُ، فاتفق الاسمان ههنا لِخُصُوصِيَّةِ الْحَالِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً...»: فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ الْإِيمَانَ الشَّرْعِيَّ اسْمٌ لِمَعْنًى ذِي شُعَبٍ وَأَجْزَاءٍ، لَهُ أَعْلَى وَأَدْنَى، والاسم يتعلق ببعضها كَمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّهَا، وَالْحَقِيقَةُ تَقْتَضِي جَمِيعَ شُعَبِهِ وَتَسْتَوْفِي جُمْلَةَ أَجْزَائِهِ؛ كَالصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ لَهَا شُعَبٌ وَأَجْزَاءٌ والاسم يتعلق ببعضها، وَالْحَقِيقَةُ تقتضي جميع أجزائها وَتَسْتَوْفِيهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» وفيه إثبات التفاضل فِي الْإِيمَانِ وَتَبَايُنِ الْمُؤْمِنِينَ في درجاته. ا. هـ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْبَغَوِيُّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [الْبَقَرَةِ: 3]، الْآيَاتِ، قَالَ: فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْإِسْلَامَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْمًا لِمَا ظَهَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْإِيمَانَ اسْمًا لِمَا بَطَنَ مِنْ الِاعْتِقَادِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ، بَلْ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لِجُمْلَةٍ هِيَ كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَجُمَّاعُهَا الدِّينُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: «ذَاكَ جِبْرِيلُ، أَتَاكُمْ يعلمكم دينكم» ا. هـ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِسْلَامُ أَنَّ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَالْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» قَالَ: هَذَا بَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْبَاطِنُ وَبَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ الظَّاهِرُ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَإِنَّمَا أَضَافَ إِلَيْهِمَا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصَّوْمَ وَالْحَجَّ لِكَوْنِهَا أَظْهَرَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَأَعْظَمَهَا، وَبِقِيَامِهَا بِهِ يَتِمُّ اسْتِسْلَامُهُ، وَتَرْكُهُ لَهَا يُشْعِرُ بِانْحِلَالِ قَيْدِ انْقِيَادِهِ أَوِ اخْتِلَالِهِ. ثُمَّ إِنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ يَتَنَاوَلُ مَا فُسِّرَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَسَائِرُ الطَّاعَاتِ لِكَوْنِهَا ثَمَرَاتِ التَّصْدِيقِ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتٍ وَمُتَمِّمَاتٍ وَحَافِظَاتٍ؛ وَلِهَذَا فَسَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَإِعْطَاءِ الْخُمْسِ مِنَ الْمَغْنَمِ؛ وَلِهَذَا لَا يَقَعُ اسْمُ الْمُؤْمِنِ الْمُطْلَقُ عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً أَوْ تَرَكَ فَرِيضَةً لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا يَقَعُ عَلَى الكل منه، ولا يستعمل فِي النَّاقِصِ ظَاهِرًا إِلَّا بِقَيْدٍ؛ وَلِذَلِكَ جَازَ إِطْلَاقُ نَفْيِهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ»، وَاسْمُ الْإِسْلَامِ يَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَا هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْبَاطِنُ، وَيَتَنَاوَلُ أَصْلَ الطَّاعَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ اسْتِسْلَامٌ، قَالَ: فَخَرَجَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَحَقَّقْنَاهُ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ، وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا.
قَالَ: وَهَذَا تَحْقِيقٌ وَافٍ بِالتَّوْفِيقِ بَيْنَ مُتَفَرِّقَاتِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الَّتِي طَالَمَا غَلِطَ فِيهَا الْخَائِضُونَ، وَمَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَهْلِ الحديث وغيرهم. ا. هـ.
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَمُسَمَّى الْإِيمَانِ أَيْضًا، وَذَكَرْنَا مَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ، وَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهَا أَيْضًا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ الْبَاطِنَةُ فَيَدْخُلُ فِي أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ إِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالنُّصْحُ لَهُ وَلِعِبَادِهِ وَسَلَامَةُ الْقَلْبِ لَهُمْ مِنَ الْغِشِّ وَالْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى، وَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَجَلُ الْقُلُوبِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخُشُوعُهَا عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ وَكِتَابِهِ، وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ وَتَحْقِيقُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَوْفُ اللَّهِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَالرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا، وَاخْتِيَارُ تَلَفِ النُّفُوسِ بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْآلَامِ عَلَى الْكُفْرِ، وَاسْتِشْعَارُ قُرْبِ اللَّهِ مِنَ الْعَبْدِ وَدَوَامُ اسْتِحْضَارِهِ، وَإِيثَارُ مُحِبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُمَا، وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِيهِ وَالْعَطَاءُ لَهُ وَالْمَنْعُ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ لَهُ، وَسَمَاحَةُ النُّفُوسِ بِالطَّاعَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَالِاسْتِبْشَارُ بِعَمَلِ الْحَسَنَاتِ وَالْفَرَحُ بِهَا وَالْمَسَاءَةُ بِعَمَلِ السَّيِّئَاتِ وَالْحُزْنُ عَلَيْهَا، وَإِيثَارُ الْمُؤْمِنِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَكَثْرَةُ الْحَيَاءِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ لِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُوَاسَاةُ الْمُؤْمِنِينَ خُصُوصًا الْجِيرَانَ وَمُعَاضَدَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَمُنَاصَرَتُهُمْ وَالْحُزْنُ بِمَا يُحْزِنُهُمْ. ثُمَّ سَاقَ مِنَ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ جُمْلَةً وَافِيَةً، قَالَ: وَالرِّضَا بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى تَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالرِّضَا بِتَدْبِيرِهِ لِلْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ لَهُ، وَالرِّضَا بِالْإِسْلَامِ دِينًا يَتَضَمَّنُ اخْتِيَارَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَالرِّضَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ رَسُولًا يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقَبُولَ ذَلِكَ بِالتَّسْلِيمِ وَالِانْشِرَاحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، ا. هـ.
وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالُ أَئِمَّةِ الدِّينِ-سَلَفًا وَخَلَفًا- فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ ذِكْرُهَا.
ثُمَّ اعْلَمْ يَا أَخِي أَرْشَدَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ الْتِزَامَ الدِّينِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ النَّجَاةُ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ وَبِهِ يَفُوزُ الْعَبْدُ بِالْجَنَّةِ وَيُزَحْزَحُ عَنِ النَّارِ، إِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي كُلِّ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُهُ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا وَوُكِّلَتْ سَرِيرَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التَّوْبَةِ: 11]، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وَغَيْرَهَا مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ فِي قَتْلِهِ الْجُهَنِيَّ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ»؟! قَالَ: قَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا»، الْحَدِيثُ بِطُولِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ، وَفِي بَعْضِهَا: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي قَالَ: «وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؟!. وَلَمَّا أَنِ اسْتَأْذَنَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَتْلِ الرَّجُلِ الَّذِي انْتَقَدَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِسْمَةِ الذُّهَيْبَةِ قَالَ: «مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي»، وَقَالَ لَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِيهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: «لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي» قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ». وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَنَسٍ نَفْسِهِ وَلَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، بَلْ قَدْ رَفَعَهُ النَّسَائِيُّ كَمَا سَيَأْتِي: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلَاتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ، لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ»، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْجِهَادِ بِلَفْظِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنْ يَسْتَقْبِلُوا قِبْلَتَنَا وَأَنْ يَأْكُلُوا ذَبِيحَتَنَا وَأَنْ يُصَلُّوا صَلَاتَنَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ». وَفِي رِوَايَةٍ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ» بِمَعْنَاهُ.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي تَحْرِيمِ الدَّمِ وَلَفْظُهُ: قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَأَكَلُوا ذَبِيحَتَنَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ». وَفِيهِ قَوْلُ مَيْمُونِ بْنِ سِيَاهٍ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، مَا يُحَرِّمُ دَمَ الْمُسْلِمِ وَمَالَهُ؟ فَقَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلَاتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ، لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَرَفَعَهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكُمُ الْمُسْلِمُ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».
وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ وَمُسْنَدِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ فَسَارَّهُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَجَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»؟ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا شَهَادَةَ لَهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «أَلَيْسَ يُصَلِّي»؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا صَلَاةَ لَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ».
وَفِي الْبَابِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَادِيثُ مِنَ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ. وَأَمَرَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ المنافقين في غيرما مَوْضِعٍ مَعَ إِخْبَارِهِ بِصِفَاتِهِمْ وَتَعْرِيفِهِ بِسِيمَاهُمْ وَعَلَامَاتِهِمْ، وَلَمْ يَقْتُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ الظَّاهِرَةَ، وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَهُ لِلْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ عَلَيْهِمْ، غَيْرَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.