فصل: ذِكْرُ أَقْوَالِ التَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي صِفَةِ الْعُلُوِّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول (نسخة منقحة)



.ذِكْرُ أَقْوَالِ التَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي صِفَةِ الْعُلُوِّ:

عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي التَّوْرَاةِ: (أَنَا اللَّهُ فَوْقَ عِبَادِي، وعرشي َفَوْقَ جَمِيعِ خِلْقِي، وَأَنَا عَلَى عَرْشِي أُدَبِّرُ أُمُورَ عِبَادِي. وَلَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) قَالَ الذَّهَبِيُّ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.
وَعَنِهُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خلق سبع سموات وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ثُمَّ جَعَلَ بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالْأَرْضِ، وَجَعَلَ كِثَفَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ رَفَعَ الْعَرْشَ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ. وَذَكَرَ الْأَثَرَ. رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الْعَظَمَةِ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ نَظِيفٌ، وَأَبُو صَالِحٍ لَيَّنُوهُ وَمَا هُوَ بِمُتَّهَمٍ بَلْ سَيِّئُ الْإِتْقَانِ.
وَعَنِ مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ إِذَا حَدَّثَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَدَّثَتْنِي الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ حَبِيبَةُ اللَّهِ الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فوق سبع سموات، قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَيُرْوَى عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ مَنْ أَهْلُكَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُكَ الَّذِينَ تُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِكَ؟ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَأْوُونَ إِلَى مَسَاجِدِي كَمَا تَأْوِي النُّسُورُ إِلَى أَوْكَارِهَا.
وَعَنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: يَنْزِلُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ شَطْرَ اللَّيْلِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْفَجْرُ صَعِدَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ.
وَعَنِ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ارْتَفَعَ إِلَيْكَ ثُغَاءُ التَّسْبِيحِ، وَصَعِدَ إِلَيْكَ وَقَارُ التَّقْدِيسِ، سُبْحَانَكَ ذَا الْجَبَرُوتِ، بِيَدِكَ الْمُلْكُ وَالْمَلَكُوتُ وَالْمَفَاتِيحُ وَالْمَقَادِيرُ. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَعَنِ أَبِي قِلَابَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: (أَهْبَطَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ قَالَ: يَا آدَمُ إِنِّي مُهْبِطٌ مَعَكَ بَيْتًا يُطَافُ حوله كما يطاق حَوْلَ عَرْشِي وَيُصَلَّى عِنْدَهُ كَمَا يُصَلَّى عِنْدَ عَرْشِي) وَذَكَرَ الْأَثَرَ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: هُوَ ثَابِتٌ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ.
وَعَنِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: (لَمَّا تَعَجَّلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ رَأَى فِي ظِلِّ الْعَرْشِ رَجُلًا يَغْبِطُهُ، فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَهُ بِاسْمِهِ فَقَالَ: لَا وَلَكِنِّي أُحَدِّثُكَ بِشَيْءٍ مِنْ فِعْلِهِ، كَانَ لَا يَحْسُدُ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَا يَعُقُّ وَالِدَيْهِ وَلَا يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ) قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ قَوِيٌّ.
وَعَنِ مُجَاهِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا أَخَذَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مِنَ الْعَرْشِ إِلَّا كَمَا تَأْخُذُ الْحَلْقَةُ مِنْ أَرْضِ الْفَلَاةِ.
وَعَنِهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ: يُجْلِسُهُ أَوْ يُقْعِدُهُ عَلَى الْعَرْشِ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: لِهَذَا الْقَوْلِ طُرُقٌ خَمْسَةٌ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَعَمِلَ فِيهِ الْمَرْوَزِيُّ مُصَنَّفًا، وَعَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ: (أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ الْكَلَامَ قَالَ: مَنْ أَنْتَ الَّذِي يُكَلِّمُنِي قَالَ: أَنَا رَبُّكَ الْأَعْلَى) قَالَ: الذَّهَبِيُّ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَعَنِهُ قَالَ: (إِنِّي أَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كُنَّ طَبَقًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ رَجُلٌ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَخَرَقَتْهُنَّ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ.
وَعَنِ أَبِي عِيسَى يَحْيَى بْنِ رَافِعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَلَكًا لَمَّا اسْتَوَى الرَّبُّ عَلَى كُرْسِيِّهِ سَجَدَ فَلَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَيَقُولُ لَمْ أَعْبُدْكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ.
وَعَنِ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: (يَا رَبُّ أَنْتَ فِي السَّمَاءِ وَنَحْنُ فِي الْأَرْضِ فَكَيْفَ لَنَا أَنْ نَعْرِفَ رِضَاكَ وَغَضَبَكَ؟ قَالَ: إِذَا رَضِيتُ عَنْكُمْ اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ خِيَارَكُمْ وَإِذَا غَضِبْتُ اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ) قَالَ الذَّهَبِيُّ: هَذَا ثَابِتٌ عَنْ قَتَادَةَ.
وَعَنِ عِكْرِمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ فِي الْجَنَّةِ اشْتَهَى الزَّرْعَ، فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: ابْذُرُوا فَيَخْرُجُ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فَوْقِ عرشه: كل يابن آدَمَ فَإِنَّ ابْنَ آدَمَ لَا يَشْبَعُ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِذَاكَ. وَصَحَّ فِي السُّنَّةِ لِلَّالَكَائِيِّ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُطِيلُ الصَّلَاةَ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ يَقُولُ: إِلَيْكَ رَفَعْتُ رَأْسِي نَظَرَ الْعَبِيدِ إِلَى أَرْبَابِهَا يَا سَاكِنَ السَّمَاءِ. وَفِي الْحِلْيَةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: خُذُوا، فَيَقْرَأُ ثُمَّ يَقُولُ: اسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ الصَّادِقِ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ.
وَعَنِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قَالَ: بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَبَيْنَ الْعَرْشِ سَبْعُونَ أَلْفَ حِجَابٍ فَمَا زَالَ يُقَرِّبُ مُوسَى حَتَّى كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ فَلَمَّا رَأَى مَكَانَهُ وَسَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} هَذَا ثَابِتٌ عَنْ مُجَاهِدٍ إِمَامِ التَّفْسِيرِ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَعَنِ سُفْيَانَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ: (الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ. وَمِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ).
وَعَنِ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: حَمَلَةُ الْعَرْشِ أَقْدَامُهُمْ ثَابِتَةٌ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ وَرُءُوسُهُمْ قَدْ جَاوَزَتِ السَّمَاءَ السَّابِعَةَ وَقُرُونُهُمْ مِثْلُ طُولِهِمْ عَلَيْهَا الْعَرْشُ. وَذَكَرَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ الْمُعْتَزِلَةَ وَقَالَ: إِنَّمَا مَدَارُ الْقَوْمِ عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ كَالشَّمْسِ وُضُوحًا وَكَالْإِسْطِوَانَةِ ثُبُوتًا عَنْ سَيِّدِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَعَالِمِهِمْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِينٍ، رَفِيقُ ابْنِ كَثِيرٍ بِمَكَّةَ {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} وَعَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} قَالَ: هُوَ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا. وَفِي لَفْظٍ: هُوَ فوق العرش وعلمهم مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا. أَخْرَجَهُ الْعَسَّالُ وَابْنُ بَطَّةَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ.
وَعَنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قال: لو سألت أَيْنَ اللَّهُ لَقُلْتُ فِي السَّمَاءِ.
وَعَنِ حَبِيبِ ابن أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: شَهِدْتُ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ وَخَطَبَهُمْ بِوَاسِطَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا» ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَالْمُعْتَزِلَةُ تَقُولُ هَذَا وَتُحَرِّفُ نَصَّ التَّنْزِيلِ فِي ذَلِكَ، وَزَعَمُوا أَنَّ الرَّبَّ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي التَّمْهِيدِ: وَعُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمُ التَّأْوِيلُ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَمَا خَالَفَهُمْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ يُحْتَجُّ بِهِ.

.ذِكْرُ أَقْوَالِ طَبَقَةٍ أُخْرَى فِي صِفَةِ الْعُلُوِّ:

عَنْ نُوحٍ الْجَامِعِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلَ مَا ظَهَرَ جَهْمٌ، إِذْ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ تِرْمِذَ كَانَتْ تُجَالِسُ جَهْمًا فَدَخَلَتِ الْكُوفَةَ فَأَظُنُّنِي أَقَلُّ مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا عَشَرَةُ آلَافِ نَفْسٍ، فَقِيلَ لها: إن ههنا رجلا قد نَظَرَ فِي الْمَعْقُولِ يُقَالُ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، فَأْتِيهِ، فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: أَنْتَ الَّذِي تُعَلِّمُ النَّاسَ الْمَسَائِلَ وَقَدْ تَرَكْتَ دِينَكَ، أَيْنَ إِلَهُكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ؟ فَسَكَتَ عَنْهَا ثُمَّ مَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَا يُجِيبُهَا ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا، وَقَدْ وَضَعَ كِتَابًا إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّمَاءِ دُونَ الْأَرْضِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} قَالَ: هُوَ كَمَا تَكْتُبُ إِلَى الرَّجُلِ أَنِّي مَعَكَ، وَأَنْتَ غَائِبٌ عَنْهُ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أَصَابَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا نَفَى عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْكَوْنِ فِي الْأَرْضِ. وَأَصَابَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ وَتَبِعَ مُطْلَقَ السَّمْعِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ، قُلْتُ: وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ هُوَ كَمَا تَكْتُبُ إِلَى الرَّجُلِ إِلَخْ نَفْيَ الْحُلُولِ. وَإِلَّا فَرَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَوَاءٌ عِنْدَهُ الْغَيْبُ وَالشَّهَادَةُ وَالسِّرُّ وَالْعَلَانِيَةُ.
وَعَنِ أَبِي مطيع بن الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيِّ، قَالَ: (سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ يَقُولُ لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، قَالَ: إِذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ: قَدْ كَفَرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وعرشه فوق سمواته فَقُلْتُ إِنَّهُ يَقُولُ: أَقُولُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَلَكِنْ قَالَ: لَا يَدْرِي الْعَرْشَ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ.
قَالَ: إِذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَقَدْ كَفَرَ) رَوَاهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَنْصَارِيُّ فِي الْفَارُوقِ.
وَرَوَى الْمَقْدِسِيُّ عَنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: من أنكر أن اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّمَاءِ فَقَدْ كَفَرَ.
وَعَنْ أَبِي جُرَيْجٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: (كُنَّا-وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ- نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَوْقَ عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بما وردت به السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ).
وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَلِلثَّعْلَبِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قَالَ: هُوَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ. وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ فَقَالَ: أُمِرُّهَا كَمَا جَاءَتْ.
وَعَنِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} قَالَ: هُوَ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ، رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي السُّنَّةِ. وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْهُ قَالَ: بَلَغَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}: هُوَ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ وَالظَّاهِرُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْبَاطِنُ أَقْرَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا قُرْبُهُ بِعِلْمِهِ وَهُوَ فَوْقُ عَرْشِهِ.
وَعَنِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} قَالَ: عِلْمُهُ وَقَالَ: فِي جَمِيعِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ.
وَعَنِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا يَخْلُو مِنْهُ شَيْءٌ. وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ وَأَخَذَتْهُ الرُّحَضَاءُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَلَا يُقَالُ كَيْفَ وَكَيْفَ عَنْهُ مَرْفُوعٌ، وَأَنْتَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ أَخْرِجُوهُ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالِاسْتِوَاءُ مِنْهُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ ضَالًّا وَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ.
وَقَالَ سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ: وَيْلَكُمْ مَا تُنْكِرُونَ هَذَا الْأَمْرَ وَاللَّهِ مَا فِي الْحَدِيثِ شَيْءٌ إِلَّا وَفِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}، {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}، {يَا مُوسَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} فَمَا زَالَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَصَحَّ عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا جَحَدَتْ بِهِ الْجَهْمِيَّةُ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ فَهِمْتُ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ فِيمَا تَتَابَعَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ فِي صِفَةِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ الَّذِي فَاتَتْ عَظَمَتُهُ الْوَصْفَ وَالتَّقْدِيرَ، وَكَلَّتِ الْأَلْسُنُ عَنْ تَفْسِيرِ صِفَتِهِ وَانْحَسَرَتِ الْعُقُولُ دُونَ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ، فَلَمْ تَجِدِ الْعُقُولُ مَسَاغًا فَرَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِالنَّظَرِ وَالتَّفْكِيرِ فِيمَا خَلَقَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ (كَيْفَ) لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَرَّةً ثُمَّ كَانَ، أَمَّا مَنْ لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ وَلَمْ يَزَلْ وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ إِلَّا هُوَ. وَسَاقَ فَصْلًا طَوِيلًا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَذَكَرَ جُمْلَةً مِنْ نُصُوصِ الصِّفَاتِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: إِنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ، يَعْنِي الْجَهْمِيَّةَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيُّ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ إِمَامُ أَهْلِ الْمَغَازِي: كَانَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ إِذْ لَيْسَ إِلَّا الْمَاءُ عَلَيْهِ الْعَرْشُ، وَعَلَى الْعَرْشِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الظَّاهِرُ فِي عُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ فَوْقَهُ، الْبَاطِنُ لِإِحَاطَتِهِ بِخَلْقِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ دُونَهُ، الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَبِيدُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا خَلَقَ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ ثُمَّ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مِنْ دخان، ثم دحى الْأَرْضَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَحَبَكَهُنَّ وَأَكْمَلَ خَلْقَهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ، فَفَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ.