فصل: باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا

وَقَوْلِهِ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ وَقَوْلِهِ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ الرَّحِيمُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا وقوله إن إبراهيم كان أمة قانتا لله وقوله إن إبراهيم لأواه حليم‏)‏ وكأنه أشار بهذه الآيات إلى ثناء الله تعالى على إبراهيم عليه السلام، وإبراهيم بالسريانية معناه أب راحم، والخليل فعيل بمعنى فاعل وهو من الخلة بالضم وهي الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلاله، وهذا صحيح بالنسبة إلى ما في قلب إبراهيم من حب الله تعالى‏.‏

وأما إطلاقه في حق الله تعالى فعلى سبيل المقابلة، وقيل‏:‏ الخلة أصلها الاستصفاء وسمي بذلك لأنه يوالي ويعادي في الله تعالى، وخلة الله له نصره وجعله إماما، وقيل‏:‏ مشتق من الخلة بفتح المعجمة وهي الحاجة، سمي بذلك لانقطاعه إلى ربه وقصره حاجته عليه، وسيأتي تفسير الآية في تفسير النحل إن شاء الله تعالى‏.‏

وإبراهيم هو ابن آزر واسمه تارح بمثناة وراء مفتوحة وآخره حاء مهملة ابن ناحور بنون ومهملة مضمومة ابن شاروخ بمعجمة وراء مضمومة وآخره معجمة ابن راغوء بغين معجمة ابن فالخ بفاء ولام مفتوحة بعدها معجمة ابن عبير ويقال عابر وهو بمهملة وموحدة ابن شالخ بمعجمتين ابن أرفخشذ بن سام بن نوح‏.‏

لا يختلف جمهور أهل النسب ولا أهل الكتاب في ذلك، إلا في النطق ببعض هذه الأسماء‏.‏

نعم ساق ابن حبان في أول تاريخه خلاف ذلك وهو شاذ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو ميسرة الرحيم بلسان الحبشة‏)‏ يعني الأواه، وهذا الأثر وصله وكيع في تفسيره من طريق أبي إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال‏:‏ الأواه الرحيم بلسان الحبشة‏.‏

وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن مسعود بإسناد حسن قال‏:‏ الأواه الرحيم، ولم يقل بلسان الحبشة‏.‏

ومن طريق عبد الله بن شداد أحد كبار التابعين قال‏:‏ ‏"‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله الأواه‏؟‏ قال‏:‏ الخاشع المتضرع في الدعاء ‏"‏ ومن طريق ابن عباس قال‏:‏ الأواه الموقن‏.‏

ومن طريق مجاهد قال‏:‏ الأواه الحفيظ، الرجل يذنب الذنب سرا ثم يتوب منه سرا‏.‏

ومن وجه آخر عن مجاهد قال‏:‏ الأواه المنيب الفقيه الموفق‏.‏

ومن طريق الشعبي قال‏:‏ الأواه المسبح‏.‏

ومن طريق كعب الأحبار في قوله أواه قال‏:‏ كان إذا ذكر النار قال أواه من عذاب الله‏.‏

ومن طريق أبي ذر قال‏:‏ ‏"‏ كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه أوه أوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لأواه ‏"‏ رجاله ثقات إلا أن فيه رجلا مبهما، وذكر أبو عبيدة أنه فعال من التأوه ومعناه متضرع شفقا ولزوما لطاعة ربه‏.‏

‏:‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ثُمَّ قَرَأَ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ وَإِنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِي يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ أَصْحَابِي أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي إِلَى قَوْلِهِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس في صفة الحشر، والمقصود منه قوله‏:‏ ‏"‏ وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ‏"‏ وروى البيهقي في ‏"‏ الأسماء ‏"‏ من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا‏:‏ ‏"‏ أول من يكسي إبراهيم حلة من الجنة، ويؤتي بكرسي فيطرح عن يمين العرش، ويؤتى بي فأكسى حلة لا يقوم لها البشر ‏"‏ ويقال إن الحكمة في خصوصية إبراهيم بذلك لكونه ألقي في النار عريانا، وقيل‏:‏ لأنه أول من لبس السراويل‏.‏

ولا يلزم من خصوصيته عليه السلام بذلك تفضيله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأن المفضول قد يمتاز بشيء يخص به ولا يلزم منه الفضيلة المطلقة‏.‏

ويمكن أن يقال لا يدخل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك على القول بأن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه‏.‏

وسيأتي مزيد لهذا في أواخر الرقاق‏.‏

وقد ثبت لإبراهيم عليه السلام أوليات أخرى كثيرة‏:‏ منها أول من ضاف الضيف، وقص الشارب واختتن ورأى الشيب وغير ذلك، وقد أتيت على ذلك بأدلة في كتابي ‏"‏ إقامة الدلائل على معرفة الأوائل ‏"‏ وسيأتي شرح حديث الباب مستوفى في أواخر الرقاق إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي أَخِي عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي فَيَقُولُ أَبُوهُ فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة ‏"‏ وسيأتي شرحه في تفسير الشعراء إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ فَوَجَدَ فِيهِ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَصُورَةَ مَرْيَمَ فَقَالَ أَمَا لَهُمْ فَقَدْ سَمِعُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ هَذَا إِبْرَاهِيمُ مُصَوَّرٌ فَمَا لَهُ يَسْتَقْسِمُ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس في رؤية الصور في البيت أخرجه من وجهين، وقد مضى أيضا في الحج، ويأتي شرحه فيما يتعلق بالأزلام في تفسير سورة المائدة إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ قَالَ أَتْقَاهُمْ فَقَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا قَالَ أَبُو أُسَامَةَ وَمُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ قيل يا رسول الله من أكرم الناس ‏"‏ وسيأتي شرحه في قصة يعقوب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو أسامة ومعتمر عن عبيد الله عن سعيد عن أبي هريرة‏)‏ يعني أنهما خالفا يحيى القطان في الإسناد فلم يقولا فيه ‏"‏ عن سعيد عن أبيه ‏"‏ ورواية أبي أسامة وصلها المصنف في قصة يوسف، ورواية معتمر وصلها المؤلف في قصة يعقوب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا عَوْفٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ حَدَّثَنَا سَمُرَةُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ طَوِيلٍ لَا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا وَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

حديث سمرة في المنام الطويل الذي تقدم مع بعض شرحه في آخر الجنائز، ذكر منه هنا طرفا وهو قوله‏:‏ ‏"‏ فأتينا على رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا وإنه إبراهيم عليه السلام ‏"‏ وسيأتي شرحه مستوفى إن شاء الله تعالى في كتاب التعبير‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَذَكَرُوا لَهُ الدَّجَّالَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ أَوْ ك ف ر قَالَ لَمْ أَسْمَعْهُ وَلَكِنَّهُ قَالَ أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ وَأَمَّا مُوسَى فَجَعْدٌ آدَمُ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ انْحَدَرَ فِي الْوَادِي

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس وقد سبق في الحج ويأتي شرحه في ذكر الدجال وغيره، والغرض منه قوله‏:‏ ‏"‏ أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم ‏"‏ وأشار بذلك إلى نفسه فإنه كان أشبه الناس بإبراهيم عليه السلام‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُّومِ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ وَقَالَ بِالْقَدُومِ مُخَفَّفَةً تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ تَابَعَهُ عَجْلَانُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم ‏"‏ رويناه بالتشديد عن الأصيلي والقابسي، ووقع في رواية غيرهما بالتخفيف، قال النووي‏:‏ لم يختلف الرواة عند مسلم في التخفيف، وأنكر يعقوب بن شيبة التشديد أصلا، واختلف في المراد به فقيل‏:‏ هو اسم مكان، وقيل اسم آلة النجار، فعلى الثاني هو بالتخفيف لا غير، وعلى الأول ففيه اللغتان، هذا قول الأكثر وعكسه الداودي، وقد أنكر ابن السكيت التشديد في الآلة، ثم اختلف فقيل هي قرية بالشام، وقيل ثنية بالسراة، والراجح أن المراد في الحديث الآلة، فقد روى أبو يعلى من طريق علي بن رباح قال‏:‏ ‏"‏ أمر إبراهيم بالختان، فاختتن بقدوم فاشتد عليه، فأوحى الله إليه أن عجلت قبل أن نأمرك بآلته، فقال‏:‏ يا رب كرهت أن أؤخر أمرك‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب حدثنا أبو الزناد وقال بالقدوم مخففة‏)‏ يعني أنه روى الحديث المذكور بالإسناد المذكور أولا وصرح بتخفيف الدال، وهذا يؤيد رواية الأصيلي والقابسي‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في بعض النسخ تقديم رواية أبي اليمان بعد رواية قتيبة، والذي هنا هو المعتمد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد وتابعه عجلان عن أبيه عن أبي هريرة ورواه محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة‏)‏ أما متابعة عبد الرحمن بن إسحاق فوصلها مسدد في مسنده عن بشر بن المفضل عنه ولفظه ‏"‏ اختتن إبراهيم بعدما مرت به ثمانون واختتن بالقدوم ‏"‏ وأما متابعة عجلان فوصلها أحمد عن يحيى القطان عن ابن عجلان مثل رواية قتيبة، وأما رواية محمد بن عمرو فوصلها أبو يعلى في مسنده من هذا الوجه ولفظه ‏"‏ اختتن إبراهيم على رأس ثمانين سنة واختتن بالقدوم ‏"‏ فاتفقت هذه الروايات على أنه كان ابن ثمانين سنة عند اختتانه‏.‏

ووقع في الموطأ موقوفا عن أبي هريرة‏.‏

وعند ابن حبان مرفوعا ‏"‏ أن إبراهيم اختتن وهو ابن مائة وعشرين سنة ‏"‏ والظاهر أنه سقط من المتن شيء فإن هذا القدر هو مقدار عمره، ووقع في آخر ‏"‏ كتاب العقيقة لأبي الشيخ ‏"‏ من طريق الأوزاعي عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب موصولا مرفوعا مثله وزاد ‏"‏ وعاش بعد ذلك ثمانين سنة ‏"‏ فعلى هذا يكون عاش مائتي سنة والله أعلم‏.‏

وجمع بعضهم بأن الأول حسب من مبدأ نبوته والثاني من مبدأ مولده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ الرُّعَيْنِيُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثًا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ إِنِّي سَقِيمٌ وَقَوْلُهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَقَالَ بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنْ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ مَنْ هَذِهِ قَالَ أُخْتِي فَأَتَى سَارَةَ قَالَ يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ فَقَالَ ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ فَدَعَتْ اللَّهَ فَأُطْلِقَ ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ فَقَالَ ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِي بِإِنْسَانٍ إِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ مَهْيَا قَالَتْ رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ أَوْ الْفَاجِرِ فِي نَحْرِهِ وَأَخْدَمَ هَاجَرَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سعيد بن تليد‏)‏ بفتح المثناة وكسر اللام وبعد التحتانية الساكنة مهملة الرعيني بمهملتين ونون مصغر مصري مشهور، وأيوب هو السختياني، ومحمد هو ابن سيرين‏.‏

وقد أورده المصنف من وجهين عن أيوب وساقه على لفظ حماد بن زيد عن أيوب، ولم يقع التصريح برفعه في روايته، وقد رواه في النكاح عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد فصرح برفعه لكن لم يسق لفظه، ولم يقع رفعه هنا في رواية النسفي ولا كريمة، وهو المعتمد في رواية حماد بن زيد، وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر غير مرفوع، والحديث في الأصل مرفوع كما في رواية جرير بن حازم وكما في رواية هشام بن حسان عن ابن سيرين عند النسائي والبزار وابن حبان وكذا تقدم في البيوع من رواية الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا، ولكن ابن سيرين كان غالبا لا يصرح برفع كثير من حديثه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا ثلاث كذبات‏)‏ قال أبو البقاء‏:‏ الجيد أن يقال بفتح الذال في الجمع لأنه جمع كذبة بسكون الذال وهو اسم لا صفة لأنك تقول كذب كذبة كما تقول ركع ركعة ولو كان صفة لكن في الجمع، وقد أورد على هذا الحصر ما رواه مسلم من حديث أبي زرعة عن أبي هريرة في حديث الشفاعة الطويل فقال في قصة إبراهيم‏:‏ وذكر كذباته، ثم ساقه من طريق أخرى من هذا الوجه وقال في آخره، وزاد في قصة إبراهيم وذكر قوله في الكوكب‏:‏ ‏(‏هذا ربي‏)‏ وقوله لآلهتهم‏:‏ ‏(‏بل فعله كبيرهم هذا‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إني سقيم‏)‏ انتهى‏.‏

قال القرطبي‏:‏ ذكر الكوكب يقتضي أنها أربع، وقد جاء في رواية ابن سيرين بصيغة الحصر فيحتاج في ذكر الكوكب إلى تأويل‏.‏

قلت‏:‏ الذي يظهر أنها وهم من بعض الرواة فإنه ذكر قوله في الكوكب بدل قوله في سارة، والذي اتفقت عليه الطرق ذكر سارة دون الكوكب، وكأنه لم يعد مع أنه أدخل من ذكر سارة لما نقل أنه قاله في حال الطفولية فلم يعدها لأن حال الطفولية ليست بحال تكليف وهذه طريقة ابن إسحاق، وقيل‏:‏ إنما قال ذلك بعد البلوغ لكنه قاله على طريق الاستفهام الذي يقصد به التوبيخ، وقيل قاله على طريق الاحتجاج على قومه تنبيه على أن الذي يتغير لا يصلح للربوبية وهذا قول الأكثر أنه قال توبيخا لقومه أو تهكما بهم وهو المعتمد، ولهذا لم يعد ذلك في الكذبات وأما إطلاقه الكذب على الأمور الثلاثة فلكونه قال قولا يعتقده السامع كذبا لكنه إذا حقق لم يكن كذبا لأنه من باب المعاريض المحتملة للأمرين فليس بكذب محض، فقوله‏:‏ ‏(‏إني سقيم‏)‏ يحتمل أن يكون أراد أني سقيم أي سأسقم واسم الفاعل يستعمل بمعنى المستقبل كثيرا، ويحتمل أنه أراد أني سقيم بما قدر علي من الموت أو سقيم الحجة على الخروج معكم، وحكى النووي عن بعضهم أنه كان تأخذه الحمى في ذلك الوقت، وهو بعيد لأنه لو كان كذلك لم يكن كذبا لا تصريحا ولا تعريضا، وقوله‏:‏ ‏(‏بل فعله كبيرهم‏)‏ قال القرطبي هذا قاله تمهيدا للاستدلال على أن الأصنام ليست بآلهة وقطعا لقومه في قولهم إنها تضر وتنفع، وهذا الاستدلال يتجوز فيه الشرط المتصل، ولهذا أردف قوله‏:‏ ‏(‏بل فعله كبيرهم‏)‏ بقوله‏:‏ ‏(‏فاسألوهم إن كانوا ينطقون‏)‏ قال ابن قتيبة معناه إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم هذا، فالحاصل أنه مشترط بقوله‏:‏ ‏(‏إن كانوا ينطقون‏)‏ أو أنه أسند إليه ذلك لكونه السبب‏.‏

وعن الكسائي أنه كان يقف عند قوله بل فعله أي فعله من فعله كائنا من كان ثم يبتدئ كبيرهم هذا وهذا خبر مستقل ثم يقول فاسألوهم إلى آخره، ولا يخفى تكلفه‏.‏

وقوله ‏"‏هذه أختي ‏"‏ يعتذر عته بأن مراده أنها أخته في الإسلام كما سيأتي واضحا، قال ابن عقيل‏:‏ دلالة العقل تصرف ظاهر إطلاق الكذب على إبراهيم، وذلك أن العقل قطع بأن الرسول ينبغي أن يكون موثوقا به ليعلم صدق ما جاء به عن الله، ولا ثقة مع تجويز الكلاب عليه، فكيف مع وجود الكذب منه، إنما أطلق عليه ذلك لكونه بصورة الكذب عند السامع، وعلى تقديره فلم يصدر ذلك من إبراهيم عليه السلام - يعني إطلاق الكذب على ذلك - إلا في حال شدة الخوف لعلو مقامه، وإلا فالكذب المحض في مثل تلك المقامات يجوز، وقد يجب لتحمل أخف الضررين دفعا لأعظمهما، وأما تسميته إياها كذبات فلا يريد أنها تذم، فإن الكذب وإن كان قبيحا مخلا لكنه قد يحسن في مواضع وهذا منها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثنتين منهن في ذات الله‏)‏ خصهما بذلك لأن قصة سارة وإن كانت أيضا في ذات الله لكن تضمنت حظا لنفسه ونفعا له بخلاف الثنتين الأخيرتين فإنهما في ذات الله محضا، وقد وقع في رواية هشام بن حسان المذكورة ‏"‏ إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات كل ذلك في ذات الله ‏"‏ وفي حديث ابن عباس عن أحمد ‏"‏ والله إن جادل بهن إلا عن دين الله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بينا هو ذات يوم وسارة‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ وواحدة في شأن سارة ‏"‏ فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس واسم الجبار المذكور عمرو بن امرئ القيس بن سبأ وإنه كان على مصر، ذكره السهيلي وهو قول ابن هشام في ‏"‏ التيجان ‏"‏ وقيل‏:‏ اسمه صادوق وحكاه ابن قتيبة وكان على الأردن، وقيل‏:‏ سنان بن علوان بن عبيد بن عريج بن عملاق بن لاود بن سام بن نوح حكاه الطبري ويقال إنه أخو الضحاك الذي ملك الأقاليم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقيل له إن هذا رجل‏)‏ في رواية المستملي ‏"‏ إن هاهنا رجلا ‏"‏ وفي كتاب التيجان أن قائل ذلك رجل كان إبراهيم يشتري منه القمح فنم عليه عند الملك، وذكر أن من جملة ما قاله للملك إني رأيتها تطحن، وهذا هو السبب في إعطاء الملك لها هاجر في آخر الأمر وقال إن هذه لا تصلح أن تخدم نفسها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من أحسن الناس‏)‏ في صحيح مسلم في حديث الإسراء الطويل من رواية ثابت عن أنس في ذكر يوسف أعطي شطر الحسن، زاد أبو يعلى من هذا الوجه أعطي يوسف وأمه شطر الحسن يعني سارة‏.‏

وفي رواية الأعرج الماضية في أواخر البيوع ‏"‏ هاجر إبراهيم بسارة فدخل بها قرية فيها ملك أو جبار، فقيل‏:‏ دخل إبراهيم بامرأة هي من أحسن النساء ‏"‏ واختلف في والد سارة مع القول بأن اسمه هاران فقيل‏:‏ هو ملك حران وإن إبراهيم تزوجها لما هاجر من بلاد قومه إلى حران وقيل‏:‏ هي ابنة أخيه وكان ذلك جائزا في تلك الشريعة حكاه ابن قتيبة والنقاش واستبعد، وقيل‏:‏ بل هي بنت عمه، وتوافق الاسمان، وقد قيل في اسم أبيها توبل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأرسل إليه فسأله عنها فقال من هذه قال أختي فأتى سارة فقال يا سارة ليس على وجه الأرض إلخ‏)‏ هذا ظاهر في أنه سأله عنها أولا ثم أعلمها بذلك لئلا تكذبه عنده‏.‏

وفي رواية هشام بن حسان أنه قال لها‏:‏ ‏"‏ إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي، وأنك أختي في الإسلام، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال‏:‏ لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك، فأرسل إليها ‏"‏ الحديث فيمكن أن يجمع بينهما بأن إبراهيم أحس بأن الملك سيطلبها منه فأوصاها بما أوصاها، فلما وقع ما حسبه أعاد عليها الوصية‏.‏

واختلف في السبب الذي حمل إبراهيم على هذه الوصية مع أن ذلك الظالم يريد اغتصابها على نفسها أختا كانت أو زوجة، فقيل‏:‏ كان من دين ذلك الملك أن لا يتعرض إلا لذوات الأزواج، كذا قيل، ويحتاج إلى تتمة وهو أن إبراهيم أراد دفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما، وذلك أن اغتصاب الملك إياها واقع لا محالة، لكن إن علم أن لها زوجا في الحياة حملته الغيرة على قتله وإعدامه أو حبسه وإضراره، بخلاف ما إذا علم أن لها أخا فإن الغيرة حينئذ تكون من قبل الأخ خاصة لا من قبل الملك فلا يبالي به‏.‏

وقيل‏:‏ أراد إن علم أنك امرأتي ألزمني بالطلاق، والتقرير الذي قررته جاء صريحا عن وهب بن منبه فيما أخرجه عبد بن حميد في تفسيره من طريقه‏.‏

وقيل‏:‏ من دين الملك أن الأخ أحق بأن تكون أخته زوجته من غيره فلذلك قال هي أختي اعتمادا على ما يعتقده الجبار فلا ينازعه فيها، وتعقب بأنه لو كان كذلك لقال هي أختي وأنا زوجها فلم اقتصر على قوله هي أختي‏؟‏ وأيضا فالجواب إنما يفيد لو كان الجبار يريد أن يتزوجها لا أن يغتصبها نفسها‏.‏

وذكر المنذري في ‏"‏ حاشية السنن ‏"‏ عن بعض أهل الكتاب أنه كان من رأي الجبار المذكور أن من كانت متزوجة لا يقربها حتى يقتل زوجها فلذلك قال إبراهيم هي أختي، لأنه إن كان عادلا خطبها منه ثم يرجو مدافعته عنها، وإن كان ظالما خلص من القتل، وليس هذا ببعيد مما قررته أولا، وهذا أخذ من كلام ابن الجوزي في ‏"‏ مشكل الصحيحين ‏"‏ فإنه نقله عن بعض علماء أهل الكتاب أنه سأله عن ذلك فأجاب به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك‏)‏ يشكل عليه كون لوط كان معه كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏فآمن له لوط‏)‏ ، ويمكن أن يجاب بأن مراده بالأرض الأرض التي وقع له فيها ما وقع ولم يكن معه لوط إذ ذاك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ‏)‏ كذا في أكثر الروايات، وفي بعضها ‏"‏ ذهب يناولها يده ‏"‏ وفي رواية مسلم ‏"‏ فقام إبراهيم إلى الصلاة، فلما دخل عليه أي على الملك لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة ‏"‏ وفي رواية أبي الزناد عن الأعرج من الزيادة ‏"‏ فقام إليها فقامت توضأ وتصلي ‏"‏ وقوله في هذه الرواية‏:‏ ‏"‏ فغط ‏"‏ هو بضم المعجمة في أوله، وقوله‏:‏ حتى ركض برجله يعني أنه اختنق حتى صار كأنه مصروع، قيل‏:‏ الغط صوت النائم من شدة النفخ، وحكى ابن التين أنه ضبط في بعض الأصول ‏"‏ فغط ‏"‏ بفتح الغين والصواب ضمها، ويمكن الجمع بأنه عوقب تارة بقبض يده وتارة بانصراعه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ فدعت ‏"‏ من الدعاء في رواية الأعرج المذكورة ولفظه ‏"‏ فقالت اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر ‏"‏ ويجاب عن قولها ‏"‏ إن كنت ‏"‏ مع كونها قاطعة بأنه سبحانه وتعالى يعلم ذلك بأنها ذكرته على سبيل الفرض هضما لنفسها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال ادعي الله لي ولا أضرك‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ فقال لها ادعى الله أن يطلق يدي ففعلت ‏"‏ في رواية أبي الزناد المذكورة ‏"‏ قال أبو سلمة قال أبو هريرة‏:‏ قالت اللهم إن يمت يقولوا هي التي قتلته قال فأرسل‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم تناولها الثانية‏)‏ في رواية الأعرج ‏"‏ ثم قام إليها فقامت توضأ وتصلي‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخذ مثلها أو أشد‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ فقبضت أشد من القبضة الأولى‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فدعا بعض حجبته‏)‏ بفتح المهملة والجيم والموحدة جمع حاجب، في رواية مسلم ‏"‏ ودعا الذي جاء بها ‏"‏ ولم أقف على اسمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنك لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان‏)‏ في رواية الأعرج ‏"‏ ما أرسلتم إلي إلا شيطانا، أرجعوها إلى إبراهيم ‏"‏ وهذا يناسب ما وقع له من الصرع، والمراد بالشيطان المتمرد من الجن، وكانوا قبل الإسلام يعظمون أمر الجن جدا ويرون كل ما وقع من الخوارق من فعلهم وتصرفهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخدمها هاجر‏)‏ أي وهبها لها لتخدمها لأنه أعظمها أن تخدم نفسها‏.‏

وفي رواية مسلم ‏"‏ فأخرجها من أرضي وأعطها آجر ‏"‏ ذكرها بهمزة بدل الهاء، وهي كذلك في رواية الأعرج والجيم مفتوحة على كل حال وهي اسم سرياني، ويقال إن أباها كان من ملوك القبط وإنها من حفن بفتح المهملة وسكون الفاء قرية بمصر، قال اليعقوبي‏:‏ كانت مدينة انتهى، وهي الآن كفر من عمل أنصنا بالبر الشرقي من الصعيد في مقابلة الأشمونين، وفيها آثار عظيمة باقية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأتته‏)‏ في رواية ‏"‏ فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مهيم‏)‏ في رواية المستملي ‏"‏ مهيا ‏"‏ وفي رواية ابن السكن ‏"‏ مهين ‏"‏ بنون وهي بدل الميم، وكأن المستملي لما سمعها بنون ظنها نون تنوين، ويقال إن الخليل أول من قال هذه الكلمة ومعناها ما الخبر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رد الله كيد الكافر - أو الفاجر - في نحره‏)‏ هذا مثل تقوله العرب لمن أراد أمرا باطلا فلم يصل إليه، ووقع في رواية الأعرج‏.‏

أشعرت أن الله كبت الكافر وأخدم وليدة ‏"‏ أي جارية للخدمة، وكبت بفتح الكاف والموحدة ثم مثناة أي رده خاسئا، ويقال أصله ‏"‏ كبد ‏"‏ أي بلغ الهم كبده ثم أبدلت الدال مثناة، ويحتمل أن يكون ‏"‏ وأخدم ‏"‏ معطوفا على ‏"‏ كبت ‏"‏ ويحتمل أن يكون فاعل أخدم هو الكافر فيكون استئنافا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أبو هريرة‏:‏ تلك أمكم يا بني ماء السماء‏)‏ كأنه خاطب بذلك العرب لكثرة ملازمتهم للفلوات التي بها مواقع القطر لأجل رعي دوابهم، ففيه تمسك لمن زعم أن العرب كلهم من ولد إسماعيل، وقيل‏:‏ أراد بماء السماء زمزم لأن الله أنبعها لهاجر فعاش ولدها بها فصاروا كأنهم أولادها قال ابن حبان في صحيحه‏:‏ كل من كان من ولد إسماعيل يقال له ماء السماء، لأن إسماعيل ولد هاجر وقد ربي بماء زمزم وهي من ماء السماء‏.‏

وقيل سموا بذلك لخلوص نسبهم وصفائه فأشبه ماء السماء وعلى هذا فلا متمسك فيه، وقيل‏:‏ المراد بماء السماء عامر ولد عمرو بن عامر بن بقيا بن حارثة بن الغطريف وهو جد الأوس والخزرج، قالوا‏:‏ إنما سمي بذلك لأنه كان إذا قحط الناس أقام لهم ماله مقام المطر، وهذا أيضا على القول بأن العرب كلها من ولد إسماعيل، وسيأتي زيادة في هذه المسألة في أوائل المناقب إن شاء الله تعالى‏.‏

وفي الحديث مشروعية أخوة الإسلام وإباحة المعاريض، والرخصة في الانقياد للظالم والغاصب، وقبول صلة الملك الظالم، وقبول هدية المشرك، وإجابة الدعاء بإخلاص النية، وكفاية الرب لمن أخلص في الدعاء بعمله الصالح، وسيأتي نظيره في قصة أصحاب الغار‏.‏

وفيه ابتلاء الصالحين لرفع درجاتهم، ويقال إن الله كشف لإبراهيم حتى رأى حال الملك مع سارة معاينة وإنه لم يصل منها إلى شيء، ذكر ذلك في ‏"‏ التيجان ‏"‏ ولفظه ‏"‏ فأمر بإدخال إبراهيم وسارة عليه ثم نحى إبراهيم إلى خارج القصر وقام إلى سارة، فجعل الله القصر لإبراهيم كالقارورة الصافية فصار يراهما ويسمع كلامهما ‏"‏ وفيه أن من نابه أمر مهم من الكرب ينبغي له أن يفزع إلى الصلاة‏.‏

وفيه أن الوضوء كان مشروعا للأمم قبلنا وليس مختصا بهذه الأمة ولا بالأنبياء، لثبوت ذلك عن سارة، والجمهور على أنها ليست بنبية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَوْ ابْنُ سَلَامٍ عَنْهُ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَقَالَ كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبيد الله بن موسى أو ابن سلام عنه‏)‏ كأن البخاري شك في سماعه له من عبيد الله بن موسى - وهو من أكبر مشايخه - وتحقق أنه سمعه من محمد بن سلام عنه فأورده هكذا، وقد وقع له نظير هذا في أماكن عديدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الحميد بن جبير‏)‏ هو ابن شيبة بن عثمان الحجبي، والإسناد كله حجازيون من ابن جريج فصاعدا‏.‏

وفي رواية الإسماعيلي من طريق يحيى القطان وأبي عاصم عن ابن جريج ‏"‏ أخبرني عبد الحميد‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أم شريك‏)‏ في رواية أبي عاصم ‏"‏ إحدى نساء بني عامر بن لؤي ‏"‏ ولفظ المتن أنها استأمرت النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الوزغات فأمر بقتلهن ولم يذكر الزيادة، والوزغات بالفتح جمع وزغة وهي بالفتح أيضا، وذكر بعض الحكماء أن الوزغ أصم، وأنه لا يدخل في مكان فيه زعفران، وأنه يلقح بفيه، وأنه يبيض، ويقال لكبارها سام أبرص وهو بتشديد الميم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أمر بقتل الوزغ وقال كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام‏)‏ ووقع في حديث عائشة عند ابن ماجه وأحمد ‏"‏ أن إبراهيم لما ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت عنه، إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ قَالَ لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ بِشِرْكٍ أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ

الشرح‏:‏

حديث ابن مسعود ‏"‏ لما نزل‏:‏ الذي آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ‏"‏ الحديث، مضى شرحه في كتاب الإيمان، قال الإسماعيلي‏:‏ كذا أورد هذا الحديث في ترجمة إبراهيم، ولا أعلم فيه شيئا من قصة إبراهيم، كذا قال، وخفي عليه أنه حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام لأنه سبحانه لما فرغ من حكاية قول إبراهيم في الكوكب والقمر والشمس ذكر محاجة قومه له، ثم حكى أنه قال لهم‏:‏ ‏(‏وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن‏)‏ فهذا كله عن إبراهيم، وقوله‏:‏ ‏(‏إن كنتم تعلمون‏)‏ خطاب لقومه، ثم قال ‏(‏الذين آمنوا‏)‏ إلخ يعني أن الذين هم أحق بالأمن هم الذين آمنوا‏.‏

وقال بعد ذلك‏:‏ ‏(‏وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه‏)‏ فظهر تعلق ذلك بترجمة إبراهيم، وروى الحاكم في ‏"‏ المستدرك ‏"‏ من حديث علي رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ‏(‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏)‏ قال‏:‏ نزلت هذه الآية في إبراهيم وأصحابه، واقتصر الكرماني على قوله‏:‏ مناسبة هذا الحديث لقصة إبراهيم اتصال هذه الآية بقوله‏:‏ ‏(‏وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه‏)‏ ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بِلَحْمٍ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي وَيُنْفِذُهُمْ الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ مِنْهُمْ فَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ الْأَرْضِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَيَقُولُ فَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى تَابَعَهُ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة في الشفاعة، ذكر طرفا منه، والغرض منه قول أهل الموقف لإبراهيم‏:‏ أنت نبي الله وخليله من الأرض‏.‏

ووقع عند إسحاق بن راهويه ومن طريقه الحاكم في ‏"‏ المستدرك ‏"‏ من وجه آخر عن أبي زرعة عن أبي هريرة في هذا الحديث ‏"‏ فيقولون يا إبراهيم أنت خليل الرحمن قد سمع بخلتك أهل السماوات والأرض ‏"‏ وقد تقدم القول في معنى الخلة، ويأتي شرح حديث الشفاعة في الرقاق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ وصله المؤلف في التوحيد وفي غيره وسيأتي‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في رواية الحموي والكشميهني قبل حديث أبي هريرة هذا ما صورته ‏"‏ يزفون النسلان في المشي ‏"‏ وفي رواية المستملي والباقين ‏"‏ باب ‏"‏ بغير ترجمة، وسقط ذلك من رواية النسفي، ووهم من وقع عنده ‏"‏ باب يزفون النسلان ‏"‏ فإنه كلام لا معنى له، والذي يظهر ترجيح ما وقع عند المستملي، وقوله‏:‏ ‏"‏ باب ‏"‏ بغير ترجمة يقع عندهم كالفصل من الباب، وتعلقه بما قبله واضح فإن الكل من ترجمة إبراهيم، وأما تفسير هذه الكلمة من القرآن فإنها من جملة قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه حين كسر أصنامهم قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏فأقبلوا إليه يزفون‏)‏ قال مجاهد‏:‏ الوزيف النسلان أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق السدي قال‏:‏ ‏"‏ رجع إبراهيم عليه السلام إلى آلهتهم فإذا هي في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى جنب بعض، فإذا هم قد جعلوا طعاما بين يدي الأصنام وقالوا‏:‏ إذا رجعنا وحدنا الآلهة بركت في طعامنا فأكلنا، فلما نظر إليهم إبراهيم قال‏:‏ ‏(‏ألا تأكلون‏؟‏ ما لكم لا تنطقون‏)‏ فأخذ حديدة فبقر كل صنم في حافتيه ثم علق الفأس في الصنم الأكبر ثم خرج، فلما رجعوا جمعوا لإبراهيم الحطب حتى أن المرأة لتمرض فتقول لئن عافاني الله لأجمعن لإبراهيم حطبا‏.‏

فلما جمعوا له وأكثروا من الحطب وأرادوا إحراقه قالت السماء والأرض والجبال والملائكة‏:‏ ربنا خليلك إبراهيم يحرق‏؟‏ قال‏:‏ أنا أعلم به، وإن دعاكم فأغيثوه‏.‏

فقال إبراهيم‏:‏ اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس أحد في الأرض يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل ‏"‏ انتهى‏.‏

وأظن البخاري إن كانت الترجمة محفوظة أشار إلى هذا القدر فإنه يناسب قولهم في حديث الشفاعة ‏"‏ أنت خليل الله من الأرض‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْلَا أَنَّهَا عَجِلَتْ لَكَانَ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَمَّا كَثِيرُ بْنُ كَثِيرٍ فَحَدَّثَنِي قَالَ إِنِّي وَعُثْمَانَ بْنَ أَبِي سُلَيْمانَ جُلُوسٌ مَعَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ مَا هَكَذَا حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَكِنَّهُ قَالَ أَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ عَلَيْهِمْ السَّلَام وَهِيَ تُرْضِعُهُ مَعَهَا شَنَّةٌ لَمْ يَرْفَعْهُ ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله بن سعيد بن جبير‏)‏ وقع في رواية ابن السكن والإسماعيلي من طريق حجاج بن الشاعر عن وهب بن جرير زيادة ‏"‏ أبي بن كعب‏"‏، ورواه النسائي عن أحمد بن سعيد شيخ البخاري بإسقاط عبد الله بن سعيد بن جبير وزيادة أبي بن كعب، قال النسائي‏:‏ قال أحمد بن سعيد قال وهب وحدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه ولم يذكر أبي بن كعب، فوضح أن وهب بن جرير كان إذا رواه عن أبيه لم يذكر عبد الله بن سعيد وذكر أبي بن كعب، وإذا رواه عن حماد بن زيد ذكر عبد الله بن سعيد ولم يذكر أبي بن كعب‏.‏

وفي رواية النسائي أيضا ‏"‏ قال وهب بن جرير أتيت سلام بن كعب ‏"‏ وفي رواية النسائي أيضا‏:‏ ‏"‏ قال وهب بن جرير أتيت سلام بن أبي مطيع فحدثته بهذا عن حماد بن زيد فأنكره إنكارا شديدا ثم قال لي‏:‏ فأبوك ما يقول‏؟‏ قلت‏:‏ يقول عن أيوب عن سعيد بن حبير، فقال‏:‏ قد غلط، إنما هو أيوب عن عكرمة بن خالد ‏"‏ انتهى‏.‏

وليس ببعيد أن يكون لأيوب فيه عدة طرق، فإن إسماعيل بن علية من كبار الحفاظ وقد قال فيه‏:‏ ‏"‏ عن أيوب نبئت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ‏"‏ ولم يذكر أبيا، وهو مما يؤيد رواية البخاري، أخرجه الإسماعيلي من وجهين عن إسماعيل أحدهما هكذا والآخر قال فيه‏:‏ ‏"‏ عن أيوب عن عبد الله ابن سعيد بن جبير ‏"‏ وقد رواه معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير بلا واسطة كما أخرجه البخاري كما ترى، وقد عاب الإسماعيلي على البخاري إخراجه رواية أيوب لاضطرابها، والذي يظهر أن اعتماد البخاري في سياق الحديث إنما هو على رواية معمر عن كثير بن كثير عن سعيد بن جبير، وإن كان أخرجه مقرونا بأيوب فرواية أيوب إما عن سعيد بن جبير بلا واسطة أو بواسطة ولده عبد الله‏.‏

ولا يستلزم ذلك قدحا لثقة الجميع، فظهر أنه اختلاف لا يضر لأنه يدور على ثقات حفاظ‏:‏ إن كان بإثبات عبد الله بن سعيد بن جبير وأبي بن كعب فلا كلام، وإن كان بإسقاطهما فأيوب قد سمع من سعيد بن جبير، وأما ابن عباس فإن كان لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فهو من مرسل الصحابة ولم يعتمد البخاري على هذا الإسناد الخالص كما ترى‏.‏

وقد سبق إلى الاعتذار عن البخاري ورد كلام الإسماعيلي بنحو هذا الحافظ أبو علي الجياني في ‏"‏ تقييد المهمل‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وقال الأنصاري حدثنا ابن جريج قال أما كثير بن كثير فحدثني قال إني وعثمان بن أبي سليمان جلوس مع سعيد بن جبير فقال‏:‏ ما هكذا حدثني ابن عباس، ولكنه قال‏:‏ أقبل إبراهيم بإسماعيل وأمه عليهم السلام وهي ترضعه معها شنة، لم يرفعه‏)‏ انتهى، هكذا ساقه مختصرا معلقا، وقد وصله أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ عن فاروق الخطابي عن عبد العزيز بن معاوية عن الأنصاري وهو محمد بن عبد الله، لكنه أورده مختصرا أيضا، وكذلك أخرجه عمر بن شبة في ‏"‏ كتاب مكة ‏"‏ عن محمد بن عبد الله الأنصاري وزاد في روايته ‏"‏ إني وعثمان وعمر بن أبي سليمان وعثمان بن حبشي جلوس مع سعيد بن جبير ‏"‏ فكأنه كان عند الأنصاري كذلك‏.‏

وقد رواه الأزرقي من طريق مسلم بن خالد الزنجي والفاكهي من طريق محمد بن جعشم كلاهما عن ابن جريج فبين فيه سبب قول سعيد بن جبير ‏"‏ ما هكذا حدثني ابن عباس ‏"‏ ولفظه ‏"‏ عن ابن جريج عن كثير بن كثير قال‏:‏ كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في أناس مع سعيد بن جبير بأعلى المسجد ليلا فقال سعيد بن جبير‏:‏ سلوني قبل أن لا تروني، فسأله القوم فأكثروا، فكان مما سئل عنه أن قال رجل‏:‏ أحق ما سمعنا في المقام مقام إبراهيم أن إبراهيم حين جاء من الشام حلف لامرأته أن لا ينزل بمكة حتى يرجع فقربت إليه امرأة إسماعيل المقام فوضع رجله عليه لا ينزل، فقال سعيد بن جبير‏:‏ ليس هكذا حدثنا ابن عباس ولكن ‏"‏ فساق الحديث بطوله‏.‏

وأخرجه الفاكهي عن ابن أبي عمر عن عبد الرزاق بلفظ ‏"‏ فقال‏:‏ يا معشر الشباب سلوني، فإني قد أوشكت أن أذهب من بين أظهركم‏.‏

فأكثر الناس مسألته، فقال له رجل‏:‏ أصلحك الله أرأيت هذا المقام هو كما كنا نتحدث‏؟‏ قال‏:‏ وما كنت تتحدث‏؟‏ قال‏:‏ كنا نقول إن إبراهيم حين جاء عرضت عليه امرأة إسماعيل النزول فأبى أن ينزل فجاءته بذا الحجر فوضعته له، فقال‏:‏ ليس ذلك ‏"‏ وهكذا أخرجه الإسماعيلي من طرق عن معمر‏.‏

الحديث‏:‏

و حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ وَكَثِيرِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لَتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَتْ إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ حَتَّى بَلَغَ يَشْكُرُونَ وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ فَوَجَدَتْ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَهَبَطَتْ مِنْ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتْ الْوَادِيَ ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ صَهٍ تُرِيدُ نَفْسَهَا ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنْ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنْ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا قَالَ فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَهْلَهُ وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنْ الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا فَقَالُوا إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا قَالَ وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ فَقَالُوا أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ فَقَالَتْ نَعَمْ وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ قَالُوا نَعَمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْإِنْسَ فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ وَشَبَّ الْغُلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ نَحْنُ بِشَرٍّ نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ فَشَكَتْ إِلَيْهِ قَالَ فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ قَالَتْ نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ قَالَ فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ قَالَتْ نَعَمْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ قَالَ ذَاكِ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا قَالَ كَيْفَ أَنْتُمْ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ مَا طَعَامُكُمْ قَالَتْ اللَّحْمُ قَالَ فَمَا شَرَابُكُمْ قَالَتْ الْمَاءُ قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ قَالَ فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ قَالَ فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ قَالَتْ نَعَمْ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ قَالَ فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ قَالَتْ نَعَمْ هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ قَالَ ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ ثُمَّ قَالَ يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ قَالَ فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ قَالَ وَتُعِينُنِي قَالَ وَأُعِينُكَ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا قَالَ فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولَانِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قَالَ فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أول ما اتخذ النساء المنطق‏)‏ بكسر الميم وسكون النون وفتح الطاء هو ما يشد به الوسط، ووقع في رواية ابن جريج النطق بضم النون والطاء وهو جمع منطق، وكان السبب في ذلك أن سارة كانت وهبت هاجر لإبراهيم فحملت منه بإسماعيل، فلما ولدته غارت منها فحلفت لتقطعن منها ثلاثة أعضاء فاتخذت هاجر منطقا فشدت به وسطها وهربت وجرت ذيلها لتخفي أثرها على سارة، ويقال إن إبراهيم شفع فيها وقال لسارة‏:‏ حللي يمينك بأن تثقبي أذنيها وتخفضيها وكانت أول من فعل ذلك‏.‏

ووقع في رواية ابن علية عند الإسماعيلي ‏"‏ أول ما أحدت العرب جر الذيول عن أم إسماعيل ‏"‏ وذكر الحديث‏.‏

ويقال إن سارة اشتدت بها الغيرة فخرج إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى مكة لذلك‏.‏

وروى ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وغيره ‏"‏ إن الله لما بوأ لإبراهيم مكان البيت خرج بإسماعيل وهو طفل صغير وأمه، قال وحملوا فيما حدثت على البراق‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى وضعهما‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فوضعهما‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عند دوحة‏)‏ بفتح المهملة وسكون الواو ثم مهملة‏:‏ الشجرة الكبيرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فوق الزمزم‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فوق زمزم ‏"‏ وهو المعروف، وسيأتي شرح أمرها في أوائل السيرة النبوية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في أعلى المسجد‏)‏ أي مكان المسجد، لأنه لم يكن حينئذ بني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وسقاء فيه ماء‏)‏ السقاء بكسر أوله قربة صغيرة‏.‏

وفي رواية إبراهيم بن نافع عن كثير التي بعد هذه الرواية ‏"‏ ومعها شنة ‏"‏ بفتح المعجمة وتشديد النون وهي القربة العتيقة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم قفى إبراهيم‏)‏ أي ولي راجعا إلى الشام‏.‏

وفي رواية ابن إسحاق ‏"‏ فانصرف إبراهيم إلى أهله بالشام وترك إسماعيل وأمه عند البيت‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتبعته أم إسماعيل‏)‏ في رواية ابن جريج ‏"‏ فأدركته بكداء ‏"‏ وفي رواية عمر بن شبة من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنها ‏"‏ نادته ثلاثا فأجابها في الثالثة، فقالت له‏:‏ من أمرك بهذا‏؟‏ قال‏:‏ الله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذن لا يضيعنا‏)‏ في رواية عطاء بن السائب ‏"‏ فقالت لن يضيعنا ‏"‏ وفي رواية ابن جريج ‏"‏ فقالت حسبي ‏"‏ وفي رواية إبراهيم بن نافع عن كثير المذكورة بعد هذا الحديث في الباب ‏"‏ فقالت رضيت بالله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى إذا كان عند الثنية‏)‏ بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد التحتانية، وقوله‏:‏ ‏"‏ من طريق كداء ‏"‏ بفتح الكاف ممدود هو الموضع الذي دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة منه وهو معروف وقد مضى الكلام عليه في الحج، ووقع في رواية الأصيلي ‏"‏ البنية ‏"‏ بالموحدة بدل المثلثة وهو تصحيف، وضبط ابن الجوزي كدى بالضم والقصر وقال‏:‏ هي التي بأسفل مكة عند قعيقعان، قال‏:‏ لأنه وقع في الحديث أنهم نزلوا بأسفل مكة‏.‏

قلت‏:‏ وذلك ليس بمانع أن يرجع من أعلى مكة، فالصواب ما وقع في الأصول بفتح الكاف والمد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ربنا إني أسكنت من ذريتي‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ رب إني أسكنت ‏"‏ والأول هو الموافق للتلاوة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت‏)‏ زاد الفاكهي من حديث أبي جهم ‏"‏ فانقطع لبنها ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ وكان إسماعيل حينئذ ابن سنتين‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلبط‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ يتلمظ ‏"‏ وهي رواية معمر أيضا، ومعنى يتلبط وهو بموحدة ومهملة يتمرغ ويضرب بنفسه الأرض، ويقرب منها رواية عطاء بن السائب ‏"‏ فلما ظمئ إسماعيل جعل يضرب الأرض بعقبيه ‏"‏ وفي رواية إبراهيم بن نافع ‏"‏ كأنه ينشغ للموت ‏"‏ وهو بفتح الياء وسكون النون وفتح المعجمة بعدها غين معجمة أي يشهق ويعلو صوته وينخفض كالذي ينازع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم استقبلت الوادي‏)‏ في رواية عطاء بن السائب ‏"‏ والوادي يومئذ عميق ‏"‏ وفي حديث أبي جهم ‏"‏ تستغيث ربها وتدعوه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم سعت سعي الإنسان المجهود‏)‏ أي الذي أصابه الجهد وهو الأمر المشق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سبع مرات‏)‏ في حديث أبي جهم ‏"‏ وكان ذلك أول ما سعي بين الصفا والمروة ‏"‏ وفي رواية إبراهيم بن نافع ‏"‏ أنها كانت في كل مرة تتفقد إسماعيل وتنظر ما حدث له بعدها ‏"‏ وقال في روايته‏:‏ ‏"‏ فلم تقرها نفسها ‏"‏ وهو بضم أوله وكسر القاف، ونفسها بالرفع الفاعل أي لم تتركها نفسها مستقرة فتشاهده في حال الموت فرجعت، وهذا في المرة الأخيرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقالت صه‏)‏ بفتح المهملة وسكون الهاء وبكسرها منونة، كأنها خاطبت نفسها فقالت لها اسكتي‏.‏

وفي رواية إبراهيم بن نافع وابن جريج ‏"‏ فقالت أغثني إن كان عندك خير‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن كان عندك غواث‏)‏ بفتح أوله للأكثر وتخفيف الواو وآخره مثلثة، قيل‏:‏ وليس في الأصوات فعال بفتح أوله غيره، وحكى ابن الأثير ضم أوله والمراد به على هذا المستغيث، وحكى ابن قرقول كسره أيضا والضم رواية أبي ذر وجزاء الشرط محذوف تقديره فأغثني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا هي بالملك‏)‏ في رواية إبراهيم بن نافع وابن جريج فإذا جبريل، وفي حديث علي عند الطبري بإسناد حسن ‏"‏ فناداها جبريل فقال‏:‏ من أنت‏؟‏ قالت‏:‏ أنا هاجر أم ولد إبراهيم، قال‏:‏ فإلى من وكلكما‏؟‏ قالت‏:‏ إلى الله‏.‏

قال‏:‏ وكلكما إلى كاف‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فبحث بعقبه، أو قال بجناحه‏)‏ شك من الراوي‏.‏

وفي رواية إبراهيم بن نافع ‏"‏ فقال بعقبه هكذا، وغمز عقبه على الأرض ‏"‏ وهي تعين أن ذلك كان بعقبه‏.‏

وفي رواية ابن جريج ‏"‏ فركض جبريل برجله ‏"‏ وفي حديث علي ‏"‏ ففحص الأرض بإصبعه فنبعت زمزم ‏"‏ وقال ابن إسحاق في روايته ‏"‏ فزعم العلماء أنهم لم يزالوا يسمعون أنها همزة جبريل‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى ظهر الماء‏)‏ في رواية ابن جريج ‏"‏ ففاض الماء ‏"‏ وفي رواية ابن نافع ‏"‏ فانبثق الماء ‏"‏ وهي بنون وموحدة ومثلثة وقال أي تفجر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجعلت تحوضه‏)‏ بحاء مهملة وضاد معجمة وتشديد أي تجعله مثل الحوض‏.‏

وفي رواية ابن نافع ‏"‏ فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفر ‏"‏ وفي رواية الكشميهني من رواية ابن نافع ‏"‏ تحفن ‏"‏ بنون بدل الراء والأول أصوب، ففي رواية عطاء بن السائب ‏"‏ فجعلت تفحص الأرض بيديها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتقول بيدها هكذا‏)‏ هو حكاية فعلها، وهذا من إطلاق القول على الفعل، وفي حديث علي ‏"‏ فجعلت تحبس الماء فقال دعيه فإنها رواء‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لو تركت زمزم، أو قال لو لم تغرف من زمزم‏)‏ شك من الراوي‏.‏

وفي رواية ابن نافع ‏"‏ لو تركته ‏"‏ وهذا القدر صرح ابن عباس برفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه إشعار بأن جميع الحديث مرفوع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عينا معينا‏)‏ أي ظاهرا جاريا على وجه الأرض‏.‏

وفي رواية ابن نافع ‏"‏ كان الماء ظاهرا ‏"‏ فعلى هذا فقوله معينا صفة الماء فلذلك ذكره، ومعين بفتح أوله إن كان من عانه فهو بوزن مفعل وأصله معيون فحذفت الواو، وإن كان من المعين وهو المبالغة في الطلب فهو بوزن فعيل، قال ابن الجوزي‏:‏ كان ظهور زمزم نعمة من الله محضة بغير عمل عامل، فلما خالطها تحويط هاجر داخلها كسب البشر فقصرت على ذلك فأغنى ذلك عن توجيه تذكير معين، مع أن الموصوف وهو المعين مؤنث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تخافوا الضيعة‏)‏ بفتح المعجمة وسكون التحتانية أي الهلاك، وفي حديث أبي جهم ‏"‏ لا تخافي أن ينفد الماء ‏"‏ وفي رواية علي بن الوازع عن أيوب عند الفاكهي ‏"‏ لا تخافي على أهل هذا الوادي ظمأ فإنها عين يشرب بها ضيفان الله ‏"‏ زاد في حديث أبي جهم ‏"‏ فقالت بشرك الله بخير‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن هذا بيت الله‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فإن هاهنا بيت الله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يبني هذا الغلام‏)‏ كذا فيه بحذف المفعول‏.‏

وفي رواية الإسماعيلي ‏"‏ يبنيه ‏"‏ زاد ابن إسحاق في روايته ‏"‏ وأشار لها إلى البيت وهو يومئذ مدرة حمراء فقال‏:‏ هذا بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية‏)‏ بالموحدة ثم المثناة، وروى ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ ‏"‏ لما كان زمن الطوفان رفع البيت، وكان الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه حتى بوأه الله لإبراهيم وأعلمه مكانه ‏"‏ وروى البيهقي في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ من طريق أخرى عن عبد الله بن عمرو مرفوعا ‏"‏ بعث الله جبريل إلى آدم فأمره ببناء البيت فبناه آدم، ثم أمره بالطواف به وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت وضع للناس ‏"‏ وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء ‏"‏ أن آدم أول من بنى البيت، وقيل‏:‏ بنته الملائكة قبله ‏"‏ وعن وهب بن منبه ‏"‏ أول من بناه شيث بن آدم ‏"‏ والأول أثبت، وسيأتي مزيد لذلك آخر شرح هذا الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكانت‏)‏ أي هاجر ‏(‏كذلك‏)‏ أي على الحال الموصوفة، وفيه إشعار بأنها كانت تغتذي بماء زمزم فيكفيها عن الطعام والشراب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى مرت بهم رفقة‏)‏ بضم الراء وسكون الفاء ثم قاف وهم الجماعة المختلطون سواء كانوا في سفر أم لا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من جرهم‏)‏ هو ابن قحطان بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وقيل ابن يقطن، قال ابن إسحاق ‏"‏ وكان جرهم وأخوه قطورا أول من تكلم بالعربية عند تبلبل الألسن، وكان رئيس جرهم مضاض بن عمرو ورئيس قطورا السميدع ويطلق على الجميع جرهم ‏"‏ وفي رواية عطاء بن السائب ‏"‏ وكانت جرهم يومئذ بواد قريب من مكة، وقيل‏:‏ إن أصلهم من العمالقة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة‏)‏ وقع في جميع الروايات بفتح الكاف والمد، واستشكله بعضهم بأن كداء بالفتح والمد في أعلى مكة، وأما الذي في أسفل مكة فبالضم والقصر، يعني فيكون الصواب هنا بالضم والقصر، وفيه نظر لأنه لا مانع أن يدخلوها من الجهة العليا وينزلوا من الجهة السفلى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرأوا طائرا عائفا‏)‏ بالمهملة والفاء هو الذي يحوم على الماء ويتردد ولا يمضي عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأرسلوا جريا‏)‏ بفتح الجيم وكسر الراء وتشديد التحتانية أي رسولا، وقد يطلق على الوكيل وعلى الأجير، قيل‏:‏ سمي بذلك لأنه يجري مجرى مرسله أو موكله، أو لأنه يجري مسرعا في حوائجه، وقوله‏:‏ ‏"‏ جريا أو جريين ‏"‏ شك من الراوي ‏(‏هل أرسلوا واحدا أو اثنين‏.‏

وفي رواية إبراهيم بن نافع ‏"‏ فأرسلوا رسولا ‏"‏ ويحتمل الزيادة على الواحد ويكون الأفراد باعتبار الجنس لقوله ‏"‏ فإذا هم بالماء ‏"‏ بصيغة الجمع، ويحتمل أن يكون الإفراد باعتبار المقصود بالإرسال والجمع باعتبار من يتبعه من خادم ونحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فألفى ذلك‏)‏ بالفاء أي وجد ‏(‏أم إسماعيل‏)‏ بالنصب على المفعولية ‏(‏وهي تحب الأنس‏)‏ بضم الهمزة ضد الوحشة، ويجوز الكسر أي تحب جنسها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وشب الغلام‏)‏ أي إسماعيل‏.‏

وفي حديث أبي جهم ‏"‏ ونشأ إسماعيل بين ولدانهم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتعلم العربية منهم‏)‏ فيه إشعار بأن لسان أمه وأبيه لم يكن عربيا، وفيه تضعيف لقول من روى أنه أول من تكلم بالعربية، وقد وقع ذلك من حديث ابن عباس عند الحاكم في ‏"‏ المستدرك ‏"‏ بلفظ ‏"‏ أول من نطق بالعربية إسماعيل ‏"‏ وروى الزبير بن بكار في النسب من حديث علي بإسناد حسن قال‏:‏ ‏"‏ أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل ‏"‏ وبهذا القيد يجمع بين الخبرين فتكون أوليته في ذلك بحسب الزيادة في البيان لا الأولية المطلقة فيكون بعد تعلمه أصل العربية من جرهم ألهمه الله العربية الفصيحة المبينة فنطق بها، ويشهد لهذا ما حكاه ابن هشام عن الشرقي بن قطامي ‏"‏ إن عربية إسماعيل كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا حمير وجرهم ‏"‏ ويحتمل أن تكون الأولية في الحديث مقيدة بإسماعيل بالنسبة إلى بقية إخوته من ولد إبراهيم فإسماعيل أول من نطق بالعربية من ولد إبراهيم‏.‏

وقال ابن دريد في ‏"‏ كتاب الوشاح ‏"‏ أول من نطق بالعربية يعرب بن قحطان ثم إسماعيل‏.‏

قلت‏:‏ وهذا لا يوافق من قال إن العرب كلها من ولد إسماعيل وسيأتي الكلام فيه في أوائل السيرة النبوية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأنفسهم‏)‏ بفتح الفاء بلفظ أفعل التفضيل من النفاسة أي كثرت رغبتهم فيه، ووقع عند الإسماعيلي ‏"‏ وأنسهم ‏"‏ بغير فاء من الأنس‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ أنفسهم أي رغبتهم في مصاهرته لنفاسته عندهم‏.‏

وقال ابن الأثير‏:‏ أنفسهم، عطفا على قوله‏:‏ تعلم العربية أي رغبهم فيه إذ صار نفيسا عندهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏زوجوه امرأة منهم‏)‏ حكى الأزرقي عن ابن إسحاق أن اسمها عمارة بنت سعد بن أسامة، وفي حديث جهم أنها بنت صدى ولم يسمها، وحكى السهيلي أن اسمها جدي بنت سعد، وعند عمر بن شبة أن اسمها حبي بنت أسعد بن عملق، وعند الفاكهي عن ابن إسحاق أنه خطبها إلى أبيها فزوجها منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وماتت‏)‏ هاجر أي في خلال ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل‏)‏ في رواية عطاء بن السائب ‏"‏ فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يطالع تركته‏)‏ بكسر الراء أي يتفقد حال ما تركه هناك، وضبطها بعضهم بالسكون وقال‏:‏ التركة بالكسر بيض النعام ويقال لها التريكة، قيل لها ذلك لأنها حين تبيض تترك بيضها وتذهب ثم تعود تطلبه فتحضن ما وجدت سواء كان هو أم غيره، وفيها ضرب الشاعر المثل بقوله‏:‏ كتاركة بيضها بالعراء وحاضنة بيض أخرى صباحا قال ابن التين‏:‏ هذا يشعر بأن الذبيح إسحاق لأن المأمور بذبحه كان عندما بلغ السعي، وقد قال في هذا الحديث ‏"‏ إن إبراهيم ترك إسماعيل رضيعا وعاد إليه وهو متزوج ‏"‏ فلو كان هو المأمور بذبحه لذكر في الحديث أنه عاد إليه في خلال ذلك بين زمان الرضاع والتزويج، وتعقب بأنه ليس في الحديث نفي هذا المجيء، فيحتمل أن يكون جاء وأمر بالذبح ولم يذكر في الحديث‏.‏

قلت‏:‏ وقد جاء ذكر مجيئه بين الزمانين في خبر آخر، ففي حديث أبي جهم ‏"‏ كان إبراهيم يزور هاجر كل شهر على البراق يغدو غدوة فيأتي مكة ثم يرجع فيقيل في منزله بالشام ‏"‏ وروى الفاكهي من حديث علي بإسناد حسن نحوه وأن إبراهيم كان يزور إسماعيل وأمه على البراق، فعلى هذا فقوله‏:‏ ‏"‏ فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل ‏"‏ أي بعد مجيئه قبل ذلك مرارا والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقالت خرج يبتغي لنا‏)‏ أي يطلب لنا الرزق‏.‏

وفي رواية ابن جريج ‏"‏ وكان عيش إسماعيل الصيد يخرج فيتصيد ‏"‏ وفي حديث أبي جهم ‏"‏ وكان إسماعيل يرعى ماشيته ويخرج متنكبا قوسه فيرمي الصيد ‏"‏ وفي حديث ابن إسحاق ‏"‏ وكانت مسارحه التي يرعى فيها السدرة إلى السر من نواحي مكة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم سألها عن عيشهم‏)‏ زاد في رواية عطاء بن السائب ‏"‏ وقال هل عندك ضيافة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقالت‏:‏ نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه‏)‏ في حديث أبي جهم ‏"‏ فقال لها‏:‏ هل من منزل‏؟‏ قالت‏:‏ لا ها الله إذن، قال‏:‏ فكيف عيشكم‏؟‏ قال‏:‏ فذكرت جهدا فقالت‏:‏ أما الطعام فلا طعام، وأما الشاء فلا تحلب إلا المصر - أي الشخب - وأما الماء فعلى ما ترى من الغلظ ‏"‏ انتهى‏.‏

والشخب بفتح المعجمة وسكون الخاء المعجمة ثم موحدة السيلان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جاءنا شيخ كذا وكذا‏)‏ في رواية عطاء بن السائب كالمستخفة بشأنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عتبة بابك‏)‏ بفتح المهملة والمثناة والموحدة كناية عن المرأة، وسماها بذلك لما فيها من الصفات الموافقة لها وهو حفظ الباب وصون ما هو داخله وكونها محل الوطء‏.‏

ويستفاد منه أن تغيير عتبة الباب يصح أن يكون من كنايات الطلاق كأن يقول مثلا غيرت عتبة بابي أو عتبة بابي مغيرة وينوي بذلك الطلاق فيقع، أخبرت بذلك عن شيخنا الإمام البلقيني، وتمامه التفريع على شرع من قبلنا إذا حكاه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتزوج منهم امرأة أخرى‏)‏ ذكر الواقدي وتبعه المسعودي ثم السهيلي أن اسمها سامة بنت مهلهل بن سعد، وقيل‏:‏ اسمها عاتكة، ورأيت في نسخة قديمة من ‏"‏ كتاب مكة لعمر بن شبة ‏"‏ أنها بشامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف وهي مضبوطة بشامة بموحدة ثم معجمة خفيفة قال‏:‏ وقيل اسمها جدة بنت الحارث بن مضاض، وحكى ابن سعد عن ابن إسحاق أن اسمها رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمية، وعن ابن الكلبي أنها رعلة بنت يشجب بن يعرب بن لوذان بن جرهم، وذكر الدار قطني في ‏"‏ المختلف ‏"‏ أن اسمها السيدة بنت مضاض وحكاه السهيلي أيضا‏.‏

وفي حديث أبي جهم ‏"‏ ونظر إسماعيل إلى بنت مضاض بن عمرو فأعجبته فخطبها إلى أبيها فتزوجها ‏"‏ وحكى محمد بن سعد الجواني أن اسمها هالة بنت الحارث وقيل‏:‏ الحنفاء وقيل سلمى، فحصلنا من اسمها على ثمانية أقوال ومن أبيها على أربعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نحن بخير وسعة‏)‏ في حديث أبي جهم ‏"‏ نحن في خير عيش بحمد الله، ونحن في لبن كثير ولحم كثير وماء طيب‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما طعامكم‏؟‏ قالت اللحم، قال‏:‏ فما شرابكم‏؟‏ قالت الماء‏)‏ في حديث أبي جهم ذكر اللبن مع اللحم والماء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اللهم بارك لهم في اللحم والماء‏)‏ في رواية إبراهيم بن نافع ‏"‏ اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم، قال قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بركة بدعوة إبراهيم ‏"‏ وفيه حذف تقديره في طعام أهل مكة وشرابهم بركة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ لا يخلوان ‏"‏ بالتثنية‏.‏

قال ابن القوطية‏:‏ خلوت بالشيء واختليت إذا لم أخلط به غيره، ويقال أخلى الرجل اللبن إذا لم يشرب غيره‏.‏

وفي حديث أبي جهم ‏"‏ ليس أحد يخلو على اللحم والماء بغير مكة إلا اشتكى بطنه ‏"‏ وزاد في حديثه وكذا في حديث عطاء بن السائب نحوه ‏"‏ فقالت أنزل رحمك الله فاطعم وأشرب‏.‏

قال‏:‏ إني لا أستطيع النزول‏.‏

قالت‏:‏ فإني أراك أشعث أفلا أغسل رأسك وأدهنه‏؟‏ قال‏:‏ بلى إن شئت‏.‏

فجاءته بالمقام، وهو يومئذ أبيض مثل المهاة، وكان في بيت إسماعيل ملقى فوضع قدمه اليمنى وقدم إليها شق رأسه وهو على دابته فغسلت شق رأسه الأيمن، فلما فرغ حولت له المقام حتى وضع قدمه اليسرى وقدم إليها برأسه فغسلت شق رأسه الأيسر، فالأثر الذي في المقام من ذلك ظاهر فيه موضع العقب والأصبع ‏"‏ وعند الفاكهي من وجه آخر عن ابن جريج عن رجل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ‏"‏ إن سارة داخلتها غيرة، قال لها إبراهيم‏:‏ لا أنزل حتى أرجع إليك ‏"‏ ونحوه في رواية عطاء بن السائب عند عمر بن شبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هل أتاكم من أحد‏)‏ في رواية عطاء أن السائب ‏"‏ فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لامرأته‏:‏ هل جاءك أحد‏؟‏ قالت نعم شيخ أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يثبت عتبة بابه‏)‏ زاد في حديث أبي جهم ‏"‏ فإنها صلاح المنزل‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن أمسكك‏)‏ زاد في حديث أبي جهم ‏"‏ ولقد كنت علي كريمة وقد ازددت علي كرامة، فولدت لإسماعيل عشرة ذكور ‏"‏ زاد معمر في روايته ‏"‏ فسمعت رجلا يقول‏:‏ كان إبراهيم يأتي على البراق ‏"‏ يعنى في كل مرة‏.‏

وفي رواية عمر بن شبة ‏"‏ وأعجب إبراهيم بجدة بنت الحارث فدعا لها بالبركة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يبري‏)‏ بفتح أوله وسكون الموحدة، والنبل بفتح النون وسكون الموحدة السهم قبل أن يركب فيه نصله وريشه، وهو السهم العربي‏.‏

ووقع عند الحاكم من رواية إبراهيم بن نافع في هذا الحديث ‏"‏ يصلح بيتا له ‏"‏ وكأنه تصحيف، والذي في البخاري هو الموافق لغيرها من الروايات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دوحة‏)‏ هي التي نزل إسماعيل وأمه تحتها أول قدومهما كما تقدم‏.‏

ووقع في رواية إبراهيم بن نافع من وراء زمزم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد‏)‏ يعني من الاعتناق والمصافحة وتقبيل اليد ونحو ذلك‏.‏

وفي رواية معمر قال سمعت رجلا يقول‏:‏ بكيا حتى أجابهما الطير، وهذا إن ثبت يدل على أنه تباعد لقاؤهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن الله أمرني بأمر‏)‏ في رواية إبراهيم بن نافع ‏"‏ إن ربك أمرني أن أبني له بيتا ‏"‏ ووقع في حديث أبي جهم عند الفاكهي ‏"‏ أن عمر إبراهيم كان يومئذ مائة سنة وعمر إسماعيل ثلاثين سنة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتعينني‏؟‏ قال وأعينك‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فأعينك ‏"‏ بالفاء‏.‏

وفي رواية إبراهيم بن نافع ‏"‏ إن الله قد أمرني أن تعينني عليه قال إن أفعل ‏"‏ بنصب اللام قال ابن التين‏:‏ يحتمل أن يقال أمره الله أن يبني أولا وحده ثم أمره أن يعينه إسماعيل، قال فيكون الحديث الثاني متأخرا بعد الأول‏.‏

قلت‏:‏ ولا يخفى تكلفه، بل الجمع بينهما ممكن بأن يكون أمره أن يبني وأن إسماعيل يعينه، فقال إبراهيم لإسماعيل‏:‏ إن الله أمرني أن أبني البيت وتعينني‏.‏

وتخلل بين قوله أبني البيت وبين قوله وتعينني قول إسماعيل فاصنع ما أمرك ربك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأشار إلى أكمة‏)‏ بفتح الهمزة والكاف وقد تقدم بيان ذلك في أوائل الكلام على هذا الحديث، وللفاكهي من حديث عثمان ‏"‏ فبناه إبراهيم وإسماعيل وليس معهما يومئذ غيرهما ‏"‏ يعني في مشاركتهما في البناء، وإلا فقد تقدم أنه كان قد نزل الجرهميون مع إسماعيل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رفعا القواعد من البيت‏)‏ في رواية أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن سعيد عن ابن عباس ‏"‏ القواعد التي رفعها إبراهيم كانت قواعد البيت قبل ذلك ‏"‏ وفي رواية مجاهد عند ابن أبي حاتم ‏"‏ أن القواعد كانت في الأرض السابعة ‏"‏ ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ‏"‏ رفع القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك ‏"‏ ومن طريق عطاء قال‏:‏ ‏"‏ قال آدم يا رب إني لا أسمع أصوات الملائكة، قال ابن لي بيتا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بيتي الذي في السماء ‏"‏ وفي حديث عثمان وأبي جهم ‏"‏ فبلغ إبراهيم من الأساس أساس آدم وجعل طوله في السماء تسعة أذرع وعرضه في الأرض - يعني دوره - ثلاثين ذراعا ‏"‏ وكان ذلك بذراعهم، وزاد أبو جهم ‏"‏ وأدخل الحجر في البيت، وكان قبل ذلك زربا لغنم إسماعيل، وإنما بناه بحجارة بعضها على بعض ولم يجعل له سقفا وجعل له بابا وحفر له بئرا عند بابه خزانة للبيت يلقى فيها ما يهدى للبيت ‏"‏ وفي حديثه أيضا ‏"‏ أن الله أوحي إلى إبراهيم أن اتبع السكينة، فحلقت على موضع البيت كأنها سحابة، فحفرا يريدان أساس آدم الأول ‏"‏ وفي حديث علي عند الطبري والحاكم ‏"‏ رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس فكلمه فقال‏:‏ يا إبراهيم ابن على ظلي - أو عل قدري - ولا تزد ولا تنقص، وذلك حين يقول الله ‏(‏وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت‏)‏ الآية‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جاء بهذا الحجر‏)‏ يعني المقام‏.‏

وفي رواية إبراهيم بن نافع ‏"‏ حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام ‏"‏ زاد في حديث عثمان ‏"‏ ونزل عليه الركن والمقام فكان إبراهيم يقوم على المقام يبني عليه ويرفعه له إسماعيل، فلما بلغ الموضع الذي فيه الركن وضعه يومئذ موضعه وأخذ المقام فجعله لاصقا بالبيت، فلما فرغ إبراهيم من بناء الكعبة جاء جبريل فأراه المناسك كلها، ثم قام إبراهيم على المقام فقال‏:‏ يا أيها الناس أجيبوا ربكم، فوق إبراهيم وإسماعيل تلك المواقف، وحجه إسحاق وسارة من بيت المقدس، ثم رجع إبراهيم إلى الشام فمات بالشام ‏"‏ وروى الفاكهي بإسناد صحيح من طريق مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ قام إبراهيم على الحجر فقال‏:‏ يا أيها الناس كتب عليكم الحج، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن ومن كان سبق في علم الله أنه يحج إلى يوم القيامة‏:‏ لبيك اللهم لبيك ‏"‏ وفي حديث أبي جهم ‏"‏ ذهب إسماعيل إلى الوادي يطلب حجرا، فنزل جبريل بالحجر الأسود، وقد كان رفع إلى السماء حين غرقت الأرض، فلما جاء إسماعيل فرأى الحجر الأسود قال من أين هذا، من جاءك به‏؟‏ قال إبراهيم‏:‏ من لم يكلني إليك ولا إلى حجرك ‏"‏ ورواه ابن أبي حاتم من طريق السدي نحوه، وأنه كان بالهند وكان ياقوتة بيضاء مثل الثغامة‏.‏

وهي بالمثلثة والمعجمة طير أبيض كبير، وروى الفاكهي من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ والله ما بنياه بقصة ولا مدر، ولا كان لهما من السعة والأعوان ما يسقفانه ‏"‏ ومن حديث علي ‏"‏ كان إبراهيم يبني كل يوم سافا ‏"‏ ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند وعند ابن أبي حاتم ‏"‏ أنه كان بناه من خمسة أجبل‏:‏ من حراء وثبير ولبنان وجبل الطور وجبل الخمر ‏"‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ جبل الخمر - يعني بفتح الخاء المعجمة - هو جبل بيت المقدس‏.‏

وقال عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء ‏"‏ إن آدم بناه من خمسة أجبل‏:‏ حراء وطور زيتا وطور سيناء والجودي ولبنان، وكان ربضه من حراء ‏"‏ من طريق محمد بن طلحة التيمي قال‏:‏ ‏"‏ سمعت أنه أسس البيت من ستة أجبل‏:‏ من أبي قيس ومن الطور ومن قدس ومن ورقان ومن رضوى ومن أحد‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ أَهْلِهِ مَا كَانَ خَرَجَ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّ إِسْمَاعِيلَ وَمَعَهُمْ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنْ الشَّنَّةِ فَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ حَتَّى لَمَّا بَلَغُوا كَدَاءً نَادَتْهُ مِنْ وَرَائِهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا قَالَ إِلَى اللَّهِ قَالَتْ رَضِيتُ بِاللَّهِ قَالَ فَرَجَعَتْ فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنْ الشَّنَّةِ وَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا حَتَّى لَمَّا فَنِيَ الْمَاءُ قَالَتْ لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أَحَدًا قَالَ فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتْ الصَّفَا فَنَظَرَتْ وَنَظَرَتْ هَلْ تُحِسُّ أَحَدًا فَلَمْ تُحِسَّ أَحَدًا فَلَمَّا بَلَغَتْ الْوَادِيَ سَعَتْ وَأَتَتْ الْمَرْوَةَ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ أَشْوَاطًا ثُمَّ قَالَتْ لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ مَا فَعَلَ تَعْنِي الصَّبِيَّ فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هُوَ عَلَى حَالِهِ كَأَنَّهُ يَنْشَغُ لِلْمَوْتِ فَلَمْ تُقِرَّهَا نَفْسُهَا فَقَالَتْ لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أَحَدًا فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتْ الصَّفَا فَنَظَرَتْ وَنَظَرَتْ فَلَمْ تُحِسَّ أَحَدًا حَتَّى أَتَمَّتْ سَبْعًا ثُمَّ قَالَتْ لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ مَا فَعَلَ فَإِذَا هِيَ بِصَوْتٍ فَقَالَتْ أَغِثْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ فَإِذَا جِبْرِيلُ قَالَ فَقَالَ بِعَقِبِهِ هَكَذَا وَغَمَزَ عَقِبَهُ عَلَى الْأَرْضِ قَالَ فَانْبَثَقَ الْمَاءُ فَدَهَشَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَجَعَلَتْ تَحْفِزُ قَالَ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ تَرَكَتْهُ كَانَ الْمَاءُ ظَاهِرًا قَالَ فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنْ الْمَاءِ وَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا قَالَ فَمَرَّ نَاسٌ مِنْ جُرْهُمَ بِبَطْنِ الْوَادِي فَإِذَا هُمْ بِطَيْرٍ كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَاكَ وَقَالُوا مَا يَكُونُ الطَّيْرُ إِلَّا عَلَى مَاءٍ فَبَعَثُوا رَسُولَهُمْ فَنَظَرَ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ فَأَتَاهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ فَأَتَوْا إِلَيْهَا فَقَالُوا يَا أُمَّ إِسْمَاعِيلَ أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَكُونَ مَعَكِ أَوْ نَسْكُنَ مَعَكِ فَبَلَغَ ابْنُهَا فَنَكَحَ فِيهِمْ امْرَأَةً قَالَ ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لِأَهْلِهِ إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي قَالَ فَجَاءَ فَسَلَّمَ فَقَالَ أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ ذَهَبَ يَصِيدُ قَالَ قُولِي لَهُ إِذَا جَاءَ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ قَالَ أَنْتِ ذَاكِ فَاذْهَبِي إِلَى أَهْلِكِ قَالَ ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لِأَهْلِهِ إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي قَالَ فَجَاءَ فَقَالَ أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ ذَهَبَ يَصِيدُ فَقَالَتْ أَلَا تَنْزِلُ فَتَطْعَمَ وَتَشْرَبَ فَقَالَ وَمَا طَعَامُكُمْ وَمَا شَرَابُكُمْ قَالَتْ طَعَامُنَا اللَّحْمُ وَشَرَابُنَا الْمَاءُ قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ قَالَ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرَكَةٌ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ قَالَ ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لِأَهْلِهِ إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي فَجَاءَ فَوَافَقَ إِسْمَاعِيلَ مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ يُصْلِحُ نَبْلًا لَهُ فَقَالَ يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا قَالَ أَطِعْ رَبَّكَ قَالَ إِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ قَالَ إِذَنْ أَفْعَلَ أَوْ كَمَا قَالَ قَالَ فَقَامَا فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَيَقُولَانِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قَالَ حَتَّى ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ نَقْلِ الْحِجَارَةِ فَقَامَ عَلَى حَجَرِ الْمَقَامِ فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَيَقُولَانِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أبو عامر‏)‏ هو العقدي وإبراهيم بن نافع هو المخزومي المكي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لما كان بين إبراهيم وبين أهله‏)‏ يعني سارة ‏(‏ما كان‏)‏ يعني من غيرة سارة لما ولدت هاجر إسماعيل، وقد مضت بقية شرح الحديث ضمن الذي قبله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قَالَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبد الواحد‏)‏ هو ابن زياد، وإبراهيم التيمي هو ابن يزيد بن شريك وفي رواية لمسلم وابن خزيمة من طريق أخرى عن الأعمش عن إبراهيم التيمي ‏"‏ كنت أنا وأبي نجلس في الطريق فيعرض علي القرآن وأعرض عليه، فقرأ القرآن فسجد، فقلت تسجد في الطريق‏؟‏ قال‏:‏ نعم سمعت أبا ذر ‏"‏ فذكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أي مسجد وضع في الأرض أول‏)‏ بضم اللام قال أبو البقاء‏:‏ وهي ضمة بناء لقطعه عن الإضافة مثل قبل وبعد، والتقدير أول كل شيء، ويجوز الفتح مصروفا وغير مصروف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أي‏)‏ بالتنوين وتركه كما تقدم في حديث ابن مسعود ‏"‏ أي الأعمال أفضل ‏"‏ وهذا الحديث يفسر المراد بقوله تعالى ‏(‏إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة‏)‏ ويدل على أن المراد بالبيت بيت العبادة لا مطلق البيوت، وقد ورد ذلك صريحا عن علي أخرجه إسحاق بن راهويه وابن أبي حاتم وغيرهما بإسناد صحيح عنه قال ‏"‏ كانت البيوت قبله، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏المسجد الأقصى‏)‏ يعني مسجد بيت المقدس، وقيل له الأقصى لبعد المسافة بينه وبين الكعبة، وقيل لأنه لم يكن وراءه موضع عبادة، وقيل لبعده عن الأقذار والخبائث، والمقدس المطهر عن ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أربعون سنة‏)‏ قال ابن الجوزي‏:‏ فيه إشكال، لأن إبراهيم بنى الكعبة وسليمان بنى بيت المقدس وبينهما أكثر من ألف سنة انتهى، ومستنده في أن سليمان عليه السلام هو الذي بنى المسجد الأقصى ما رواه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بإسناد صحيح ‏"‏ أن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالا ثلاثا ‏"‏ الحديث، وفي الطبراني من حديث رافع بن عميرة ‏"‏ أن داود عليه السلام ابتدأ ببناء بيت المقدس، ثم أوحي الله إليه‏:‏ إني لأقضي بناءه على يد سليمان ‏"‏ وفي الحديث قصة، قال‏:‏ وجوابه أن الإشارة إلى أول البناء ووضع أساس المسجد وليس إبراهيم أول من بنى الكعبة ولا سليمان أول من بنى بيت المقدس، فقد روينا أن أول من بنى الكعبة آدم ثم انتشر ولده في الأرض، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس ثم بنى إبراهيم الكعبة بنص القرآن، وكذا قال القرطبي‏:‏ إن الحديث لا يدل على أن إبراهيم وسليمان لما بنيا المسجدين ابتدا وضعهما لهما، بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما‏.‏

قلت‏:‏ وقد مشى ابن حبان في صحيحه على ظاهر هذا الحديث فقال‏:‏ في هذا الخبر رد على من زعم أن بين إسماعيل وداود ألف سنة، ولو كان كما قال لكان بينهما أربعون سنة وهذا عين المحال لطول الزمان - بالاتفاق - بين بناء إبراهيم عليه السلام البيت وبين موسى عليه السلام‏.‏

ثم إن في نص القرآن أن قصة داود في قتل جالوت كانت بعد موسى بمدة‏.‏

وقد تعقب الحافظ الضياء بنحو ما أجاب به ابن الجوزي‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ يشبه أن يكون المسجد الأقصى أول ما وضع بناءه بعض أولياء الله قبل داود وسليمان ثم داود وسليمان فزادا فيه ووسعاه فأضيف إليهما بناؤه، قال‏:‏ وقد ينسب هذا المسجد إلى أيلياء فيحتمل أن يكون هو بانيه أو غيره، ولست أحقق لم أضيف إليه‏.‏

قلت‏:‏ الاحتمال الذي ذكره أولا موجه، وقد رأيت لغيره أن أول من أسس المسجد الأقصى آدم عليه السلام وقيل الملائكة وقيل سام بن نوح عليه السلام وقيل يعقوب عليه السلام، فعلى الأولين يكون ما وقع ممن بعدهما تجديدا كما وقع في الكعبة، وعلى الأخيرين يكون الواقع من إبراهيم أو يعقوب أصلا وتأسيسا ومن داود تجديدا لذلك وابتداء بناء فلم يكمل على يده حتى أكمله سليمان عليه السلام، لكن الاحتمال الذي ذكره ابن الجوزي أوجه‏.‏

وقد وجدت ما يشهد له ويؤيد قول من قال‏:‏ إن آدم هو الذي أسس كلا من المسجدين، فذكر ابن هشام في ‏"‏ كتاب التيجان ‏"‏ أن آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه فبناه ونسك فيه، وبناء آدم للبيت مشهور، وقد تقدم قريبا حديث عبد الله بن عمرو أن البيت رفع زمن الطوفان حتى بوأه الله لإبراهيم‏.‏

وروى ابن أبي حاتم من طريق معمر عن قتادة قال‏:‏ وضع الله البيت مع آدم لما هبط، ففقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فقال الله له‏:‏ يا آدم إني قد أهبطت بيتا يطاف به كما يطاف حول عرشي فانطلق إليه، فخرج آدم إلى مكة؛ وكان قد هبط بالهند ومد له في خطوه فأتى البيت فطاف به ‏"‏ وقيل إنه لما صلى إلى الكعبة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس فاتخذ فيه مسجدا وصلى فيه ليكون قبلة لبعض ذريته‏.‏

وأما ظن الخطابي أن إيليا اسم رجل ففيه نظر، بل هو اسم البلد فأضيف إليه المسجد كما يقال مسجد المدينة ومسجد مكة‏.‏

وقال أبو عبيد البكري في ‏"‏ معجم البلدان ‏"‏‏:‏ إيليا مدينة بيت المقدس فيه ثلاث لغات‏:‏ مد آخره وقصره وحذف الياء الأولى، قال الفرزدق‏:‏ لوى ابن أبي الرقراق عينيه بعدما دنا من أعالي إيلياء وغورا وعلى ما قاله الخطابي يمكن الجمع بأن يقال‏:‏ إنها سميت باسم بانيها كغيرها‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فصله‏)‏ بهاء ساكنة وهي هاء السكت، وللكشميهني بحذفها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن الفضل فيه‏)‏ أي في فعل الصلاة إذا حضر وقتها، زاد من وجه آخر عن الأعمش في آخره ‏"‏ والأرض لك مسجد ‏"‏ أي للصلاة فيه، وفي ‏"‏ جامع سفيان بن عيينة ‏"‏ عن الأعمش ‏"‏ فإن الأرض كلها مسجد ‏"‏ أي صالحة للصلاة فيها‏.‏

ويخص هذا العموم بما ورد فيه النهي والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

حديث أنس موصولا وعبد الله بن زيد معلقا في حرم المدينة وذكر أحد، والغرض منهما ذكر إبراهيم وأنه حرم مكة، وقد تقدم الكلام عليهما في أواخر الحج، وتقدم حديث عبد الله بن زيد موصولا هناك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ

الشرح‏:‏

حديث عائشة في قصة بناء الكعبة، تقدم شرحه في أثناء الحج أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال إسماعيل‏:‏ عبد الله بن أبي بكر‏)‏ يعني أن إسماعيل بن أبي أويس روى الحديث المذكور عن مالك ما رواه عبد الله بن يوسف فقال بدل قول عبد الله بن يوسف أن أبي بكر أخبر ‏"‏ أن عبد الله بن أبي بكر أخبر ‏"‏ وأبو بكر جد عبد الله المذكور هو الصديق، وقد ساق المصنف حديث إسماعيل في التفسير ولفظه ‏"‏ عبد الله بن محمد بن أبي بكر ‏"‏ وهو الواقع، وكأنه عند التعليق نسبه لجده، وأغفل المزي ذكر هذا التعليق في أحاديث الأنبياء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ

الشرح‏:‏

حديث أبي حميد الساعدي في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي شرحه في الدعوات‏.‏

والغرض منه قوله فيه ‏"‏ كما صليت عل إبراهيم‏"‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا أَبُو فَرْوَةَ مُسْلِمُ بْنُ سَالِمٍ الْهَمْدَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ بَلَى فَأَهْدِهَا لِي فَقَالَ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ

الشرح‏:‏

حديث كعب بن عجرة في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي شرحه في الدعوات أيضا، وقد أورده في أواخر تفسير الأحزاب، وتأتي الإشارة إليه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

ووهم المزي في الأطراف فعزا رواية كعب بن عجرة هذه إلى الصلاة فقال‏:‏ روى البخاري في الصلاة عن قيس بن حفص وموسى بن إسماعيل كلاهما عن عبد الواحد بن زياد إلى آخر كلامه، واغتر بذلك شيخنا ابن الملقن فإنه لما وصل إلى شرح هذا الحديث هنا أحال بشرحه على الصلاة وقال‏:‏ تقدم في الصلاة، وكأنه تبع شيخه مغلطاي في ذلك فإنه كذلك صنع، ولم يتقدم هذا الحديث عند البخاري في كتاب الصلاة أصلا، والله الهادي إلى الصواب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيَقُولُ إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس في التعويذ بكلمات الله التامة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا جرير‏)‏ لعثمان بن أبي شيبة فيه شيخ آخر أخرجه الإسماعيلي عن عمران بن موسى وإبراهيم بن موسى قالا حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير، وأبو حفص الأبار فرقهما عن منصور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن منصور‏)‏ هو ابن المعتمر ‏(‏عن المنهال‏)‏ هو ابن عمرو، والإسناد إلى سعيد بن جبير كوفيون، وقد رواه النسائي من طريق جرير عن الأعمش عن المنهال فقال ‏"‏ عن عبد الله بن الحارث ‏"‏ بدل سعيد، ولم يذكر فيه عن ابن عباس، ورواه الإسماعيلي من طريق أبي حفص الأبار عن الأعمش ومنصور فحمل رواية الأعمش على رواية منصور، والصواب التفصيل، ولذلك لم يخرج رواية الأبار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن أباكما‏)‏ يريد إبراهيم عليه السلام وسماه أبا لكونه جدا على‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بكلمات الله‏)‏ قيل المراد بها كلامه على الإطلاق، وقيل أقضيته، وقيل ما وعد به كما قال تعالى ‏(‏وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل‏)‏ والمراد بها قوله تعالى ‏(‏ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض‏)‏ المراد بالتامة الكاملة وقيل النافعة وقيل الشافية وقيل المباركة وقيل القاضية التي تمضي وتستمر ولا يردها شيء ولا يدخلها نقص ولا عيب، قال الخطابي‏:‏ كان أحمد يستدل بهذا الحديث على أن كلام الله غير مخلوق، ويحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من كل شيطان‏)‏ يدخل تحته شياطين الإنس والجن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهامة‏)‏ بالتشديد واحدة الهوام ذوات السموم، وقيل كل ما له سم يقتل فأما ما لا يقتل سمه فيقال له السوام، وقيل المراد كل نسمة تهم بسوء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن كل عين لامة‏)‏ قال الخطابي‏:‏ المراد به كل داء وآفة تلم بالإنسان من جنون وحبل‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ أصله من ألممت إلماما، وإنما قال ‏"‏ لامة ‏"‏ لأنه أراد أنها ذات لمم‏.‏

وقال ابن الأنباري‏:‏ يعني أنها تأتي في وقت بعد وقت‏.‏

وقال لامة ليؤاخي لفظ هامة لكونه أخف على اللسان‏.‏