فصل: باب يَنْزِعُ نَعْلَهُ الْيُسْرَى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب النِّعَالِ السِّبْتِيَّةِ وَغَيْرِهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب النعال‏)‏ جمع نعل وهي مؤنثة، قال ابن الأثير‏:‏ هي التي تسمى الآن تاسومة‏.‏

وقال ابن العربي‏.‏

النعل لباس الأنبياء، وإنما اتخذ الناس غيرها لما في أرضهم من الطين، وقد يطلق النعل على كل ما يقي القدم‏.‏

قال صاحب المحكم‏.‏

النعل والنعلة ما وقيت به القدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏السبتية‏)‏ بكسر المهملة وسكون الموحدة بعدها مثناة منسوبة إلى السبت، قال أبو عبيد هي المدبوغة، ونقل عن الأصمعي وعن أبي عمرو الشيباني، زاد الشيباني بالقرظ، قال‏:‏ وزعم بعض الناس أنها التي حلق عنها الشعر‏.‏

قلت‏:‏ أشار بذلك إلى مالك نقله ابن وهب عنه ووافقه، وكأنه مأخوذ من لفظ السبت لأن معناه القطع فالحلق بمعناه، وأيد ذلك جواب ابن عمر المذكور في الباب، وقد وافق الأصمعي الخليل وقالوا‏:‏ قيل لها سبتية لأنها تسبتت بالدباغ أي لانت، قال أبو عبيد‏.‏

كانوا في الجاهلية لا يلبس النعال المدبوغة إلا أهل السعة، واستشهد لذلك بشعر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدٍ أَبِي مَسْلَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَنَساً أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ قَالَ نَعَمْ

الشرح‏:‏

حديث أنس في الصلاة في النعلين وقد تقدم شرحه في الصلاة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعاً لَمْ أَرَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا قَالَ مَا هِيَ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ رَأَيْتُكَ لَا تَمَسُّ مِنْ الْأَرْكَانِ إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلَالَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَمَّا الْأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّ إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْبُغُ بِهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا وَأَمَّا الْإِهْلَالُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر من رواية سعيد المقبري عن عبيد بن جريج وهما تابعيان مدنيان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رأيتك تصنع أربعا‏)‏ فذكرها، فأما الاقتصار على مس الركنين اليمانيين فتقدم شرحه في كتاب الحج، وكذلك الإهلال يوم التروية، وأما الصبغ بالصفرة فتقدم في باب التزعفر، ووقع في رواية ابن إسحاق عن عبيد بن جريج ‏"‏ تصفر بالورس ‏"‏ وأما لبس النعال السبتية فهو المقصود بالذكر هنا، وقول ابن عمر ‏"‏ يلبس النعال التي ليس فيها شعر ‏"‏ يؤيد تفسير مالك المذكور‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ السبتية التي دبغت بالقرظ وهي التي سبت ما عليها من شعر أي حلق، قال وقد يتمسك بهذا من يدعي أن الشعر ينجس بالموت، وأنه لا يؤثر فيه الدباغ، ولا دلالة فيه لذلك، واستدل بحديث ابن عمر في لباس النبي صلى الله عليه وسلم النعال السبتية ومحبته لذلك على جواز لبسها على كل حال‏.‏

وقال أحمد‏:‏ يكره لبسها في المقابر لحديث بشير بن الخصاصية قال‏:‏ ‏"‏ بينما أنا أمشي في المقابر علي نعلان إذا رجل ينادي من خلفي‏:‏ يا صاحب السبتيتين إذا كنت في هذا الموضع فاخلع نعليك ‏"‏ أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم واحتج به على ما ذكر، وتعقبه الطحاوي بأنه يجوز أن يكون الأمر بخلعهما لأذى فيهما، وقد ثبت في الحديث أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا عنه مدبرين، وهو دال على جواز لبس النعال في المقابر، قال وثبت حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه، قال‏:‏ فإذا جاز دخول المسجد بالنعل فالمقبرة أولى‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون النهي لإكرام الميت كما ورد النهي عن الجلوس على القبر، وليس ذكر السبتيتين للتخصيص بل اتفق ذلك والنهي إنما هو للمشي على القبور بالنعال‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْباً مَصْبُوغاً بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر فيما لا يلبس المحرم، وفيه ذكر النعلين، قد تقدم شرحه في كتاب الحج‏.‏

وفي هذه الأحاديث استحباب لبس النعل، وقد أخرج مسلم من حديث جابر رفعه ‏"‏ استكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكبا ما انتعل‏"‏‏.‏

أي أنه شبيه بالراكب في خفة المشقة وقلة التعب وسلامة الرجل من أذى الطريق، قاله النووي وقال القرطبي‏:‏ هذا كلام بليغ ولفظ فصيح بحيث لا ينسج على منواله ولا يؤتى بمثاله، وهو إرشاد إلى المصلحة وتنبيه على ما يخفف المشقة، فإن الحافي المديم للمشي يلقى من الآلام والمشقة بالعثار وغيره ما يقطعه عن المشي ويمنعه من الوصول إلى مقصوده كالراكب فلذلك شبه به‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِزَارٌ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَعْلَانِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس فيما لا يلبس المحرم، وفيه ذكر النعلين، قد تقدم شرحه في كتاب الحج‏.‏

وفي هذه الأحاديث استحباب لبس النعل، وقد أخرج مسلم من حديث جابر رفعه ‏"‏ استكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكبا ما انتعل‏"‏‏.‏

أي أنه شبيه بالراكب في خفة المشقة وقلة التعب وسلامة الرجل من أذى الطريق، قاله النووي وقال القرطبي‏:‏ هذا كلام بليغ ولفظ فصيح بحيث لا ينسج على منواله ولا يؤتى بمثاله، وهو إرشاد إلى المصلحة وتنبيه على ما يخفف المشقة، فإن الحافي المديم للمشي يلقى من الآلام والمشقة بالعثار وغيره ما يقطعه عن المشي ويمنعه من الوصول إلى مقصوده كالراكب فلذلك شبه به‏.‏

*3*باب يَبْدَأُ بِالنَّعْلِ الْيُمْنَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب يبدأ بالنعل اليمنى‏)‏ ذكر فيه حديث عائشة ‏"‏ كان يحب التيمن في طهوره وتنعله ‏"‏ وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة، وهو ظاهر فيما ترجم له، والله أعلم‏.‏

*3*باب يَنْزِعُ نَعْلَهُ الْيُسْرَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ينزع نعله اليسرى‏)‏ وقع ذكر هذه الترجمة قبل التي قبلها عند الجميع إلا أبا ذر، ولكل منهما وجه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ لِيَكُنْ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا انتعل‏)‏ أي لبس النعل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏باليمين‏)‏ في رواية الكشميهني باليمنى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإذا انتزع‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ وإذا خلع‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تنزع‏)‏ زعم ابن وضاح فيما حكاه ابن التين أن هذا القدر مدرج وأن المرفوع انتهى عند قوله‏:‏ ‏"‏ بالشمال ‏"‏ وضبط قوله أولهما وآخرهما بالنصب على أنه خبر كان أو على الحال والخبر تنعل وتنزع، وضبطا بمثناتين فوقانيتين وتحتانيتين مذكرين باعتبار النعل والخلع، قال ابن العربي‏:‏ البداءة باليمين مشروعة في جميع الأعمال الصالحة لفضل اليمين حسا في القوة وشرعا في الندب إلى تقديمها‏.‏

وقال النووي‏:‏ يستحب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم أو الزينة، والبداءة باليسار في ضد ذلك كالدخول إلى الخلاء ونزع النعل والخف والخروج من المسجد والاستنجاء وغيره من جميع المستقذرات، وقد مر كثير من هذا في كتاب الطهارة في شرح حديث عائشة‏:‏ كان يعجبه التيمن‏.‏

وقال الحليمي وجه الابتداء بالشمال عند الخلع أن اللبس كرامة لأنه وقاية للبدن، فلما كانت اليمنى أكرم من اليسرى بدئ بها في اللبس وأخرت في الخلع لتكون الكرامة لها أدوم وحظها منها أكثر، قال ابن عبد البر‏:‏ من بدأ بالانتعال في اليسرى أساء لمخالفة السنة، ولكن لا يحرم عليه لبس نعله‏.‏

وقال غيره‏:‏ ينبغي له أن ينزع النعل من اليسرى ثم يبدأ باليمنى، ويمكن أن يكون مراد ابن عبد البر ما إذا لبسهما معا فبدأ باليسرى فإنه لا يشرع له أن ينزعهما ثم يلبسهما على الترتيب المأمور به إذ قد فات محله‏.‏

ونقل عياض وغيره الإجماع على أن الأمر فيه للاستحباب، والله أعلم‏.‏

*3*باب لَا يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لا يمشي في نعل واحدة‏)‏ ذكر فيه حديث أبي هريرة من رواية الأعرج عنه، قال الخطابي‏:‏ الحكمة في النهي أن النعل شرعت لوقاية الرجل عما يكون في الأرض من شوك أو نحوه، فإذا انفردت إحدى الرجلين احتاج الماشي أن يتوقى لإحدى رجليه ما لا يتوقى للأخرى فيخرج بذلك عن سجية مشيه، ولا يأمن مع ذلك من العثار‏.‏

وقيل‏:‏ لأنه لم يعدل بين جوارحه، وربما نسب فاعل ذلك إلى اختلال الرأي أو ضعفه‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ قيل العلة فيها أنها مشية الشيطان، وقيل‏:‏ لأنها خارجة عن الاعتدال‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ الكراهة فيه للشهرة فتمتد الأبصار لمن ترى ذلك منه‏.‏

وقد ورد النهي عن الشهرة في اللباس‏.‏

فكل شيء صير صاحبه شهرة فحقه أن يجتنب‏.‏

وأما ما أخرج مسلم من طريق أبي رزين عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في نعل واحدة حتى يصلحها ‏"‏ وله من حديث جابر ‏"‏ حتى يصلح نعله ‏"‏ وله ولأحمد من طريق همام عن أبي هريرة ‏"‏ إذا انقطع شسع أحدكم أو شراكه فلا يمش في إحداهما بنعل والأخرى حافية، ليحفهما جميعا أو لينعلهما جميعا ‏"‏ فهذا لا مفهوم له حتى يدل على الإذن في غير هذه الصورة، وإنما هو تصوير خرج مخرج الغالب، ويمكن أن يكون من مفهوم الموافقة وهو التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه إذا منع مع الاحتياج فمع عدم الاحتياج أولى‏.‏

وفي هذا التقرير استدراك على من أجاز ذلك حين الضرورة، وليس كذلك، وإنما المراد أن هذه الصورة قد يظن أنها أخف لكونها للضرورة المذكورة لكن لعلة موجودة فيها أيضا، وهو دال على ضعف ما أخرجه الترمذي عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ ربما انقطع شسع نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى في النعل الواحدة حتى يصلحها ‏"‏ وقد رجح البخاري وغير واحد وقفه على عائشة‏.‏

وأخرج الترمذي بسند صحيح ‏"‏ عن عائشة أنها كانت تقول لأخيفن أبا هريرة فيمشي في نعل واحدة ‏"‏ وكذا أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا، وكأنها لم يبلغها النهي وقولها‏:‏ ‏"‏ لأخيفن ‏"‏ معناه لأفعلن فعلا يخالفه‏.‏

وقد اختلف في ضبطه فروي ‏"‏ لأخالفن ‏"‏ وهو أوضح في المراد، وروي ‏"‏ لأحنثن ‏"‏ من الحنث بالمهملة والنون والمثلثة واستبعد، لكن يمكن أن يكون بلغها أن أبا هريرة حلف على كراهية ذلك فأرادت المبالغة في مخالفته، وروي ‏"‏ لأخيفن ‏"‏ بكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم فاء وهو تصحيف، وقد وجهت بأن مرادها أنه إذا بلغه أنها خالفته أمسك عن ذلك خوفا منها وهذا في غاية البعد، وقد كان أبو هريرة يعلم أن من الناس من ينكر عليه هذا الحكم، ففي رواية مسلم المذكورة من طريق أبي رزين ‏"‏ خرج إلينا أبو هريرة فضرب بيده على جبهته فقال‏:‏ أما إنكم تحدثون أني أكذب لتهتدوا وأضل، أشهد لسمعت ‏"‏ فذكر الحديث، وقد وافق أبا هريرة جابر على رفع الحديث، فأخرج مسلم من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول ‏"‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا يمش في نعل واحدة ‏"‏ الحديث، ومن طريق مالك عن أبي الزبير عن جابر ‏"‏ نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل الرجل بشماله أو يمشي في نعل واحدة ‏"‏ ومن طريق أبي خيثمة عن أبي الزبير عن جابر رفعه ‏"‏ إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في نعل واحدة حتى يصلح شسعه، ولا يمش في خف واحد ‏"‏ قال ابن عبد البر‏:‏ لم يأخذ أهل العلم برأي عائشة في ذلك، وقد ورد عن علي وابن عمر أيضا أنهما فعلا ذلك، وهو إما أن يكون بلغهما النهي فحملاه على التنزيه أو كان زمن فعلهما يسيرا بحيث يؤمن معه المحذور أو لم يبلغهما النهي، أشار إلى ذلك ابن عبد البر‏.‏

والشسع بكسر المعجمة وسكون المهملة بعدها عين مهملة‏:‏ السير الذي يجعل فيه إصبع الرجل من النعل، والشراك بكسر المعجمة وتخفيف الراء وآخره كاف أحد سيور النعل التي تكون في وجهها، وكلاهما يختل المشي بفقده‏.‏

وقال عياض‏:‏ روي عن بعض السلف في المشي في نعل واحدة أو خف واحد أثر لم يصح، أو له تأويل في المشي اليسير بقدر ما يصلح الأخرى، والتقييد بقوله‏:‏ ‏"‏ لا يمش ‏"‏ قد يتمسك به من أجاز الوقوف بنعل واحدة إذا عرض للنعل ما يحتاج إلى إصلاحها، وقد اختلف في ذلك فنقل عياض عن مالك أنه قال‏:‏ يخلع الأخرى ويقف إذا كان في أرض حارة أو نحوها مما يضر فيه المشي حتى يصلحها أو يمشي حافيا إن لم يكن ذلك‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ هذا هو الصحيح في الفتوى، وفي الأثر وعليه العلماء، ولم يتعرض لصورة الجلوس‏.‏

والذي يظهر جوازها بناء على أن العلة في النهي ما تقدم ذكره، إلا ما ذكر من إرادة العدل بين الجوارح فإنه يتناول هذه الصورة أيضا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعاً أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعاً

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏لينعلهما جميعا‏)‏ قال ابن عبد البر أراد القدمين وإن لم يجر لهما ذكر وهذا مشهور في لغة العرب، وورد في القرآن أن يؤتى بضمير لم يتقدم له ذكر لدلالة السياق عليه‏.‏

وينعلهما ضبطه النووي بضم أوله من أنعل، وتعقبه شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ بأن أهل اللغة قالوا نعل بفتح العين وحكي كسرها وانتعل أي لبس النعل، لكن قد قال أهل اللغة أيضا أنعل رجله ألبسها نعلا ونعل دابته جعل لها نعلا‏.‏

وقال صاحب ‏"‏ المحكم ‏"‏ أنعل الدابة والبعير ونعلهما بالتشديد وكذا ضبطه عياض في حديث عمر المتقدم ‏"‏ أن غسان تنعل الخيل ‏"‏ بالضم أي تجعل لها نعالا‏.‏

والحاصل أن الضمير إن كان للقدمين جاز الضم والفتح، وإن كان للنعلين تعين الفتح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو ليحفهما جميعا‏)‏ كذا للأكثر، ووقع في رواية أبي مصعب في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ أو ليخلعهما، وكذا في رواية لمسلم، والذي في جميع روايات ‏"‏ الموطأ ‏"‏ كالذي في البخاري‏.‏

وقال النووي، وكلا الروايتين صحيح، وعلى ما وقع في رواية أبي مصعب فالضمير في قوله‏:‏ ‏"‏ أو ليخلعهما ‏"‏ يعود على النعلين لأن ذكر النعل قد تقدم والله أعلم‏.‏

‏(‏تكملة‏)‏ ‏:‏ قد يدخل في هذا كل لباس شفع كالخفين وإخراج اليد الواحدة من الكم دون الأخرى وللتردي على أحد المنكبين دون الآخر قاله الخطابي‏.‏

قلت‏:‏ وقد أخرج ابن ماجه حديث الباب من رواية محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ‏"‏ لفظ ‏"‏ لا يمش أحدكم في نعل واحدة ولا خف واحد ‏"‏ وهو عند مسلم أيضا من حديث جابر، وعند أحمد من حديث أبي سعيد، وعند الطبراني من حديث ابن عباس، وإلحاق إخراج اليد الواحدة من الكم وترك الأخرى بلبس النعل الواحدة والخف الواحد بعيد، إلا إن أخذ من الأمر بالعدل بين الجوارح وترك الشهرة، وكذا وضع طرف الرداء على أحد المنكبين، والله أعلم‏.‏

*3*باب قِبَالَانِ فِي نَعْلٍ وَمَنْ رَأَى قِبَالاً وَاحِداً وَاسِعاً

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قبالان في نعل‏)‏ أي في كل فردة ‏(‏ومن رأى قبالا واحدا واسعا‏)‏ أي جائز‏.‏

القبال بكسر القاف وتخفيف الموحدة وآخره لام هو الزمام وهو السير الذي يعقد فيه الشسع الذي يكون بين إصبعي الرجل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهَا قِبَالَانِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏همام‏)‏ وقع في رواية ابن السكن على الفربري هشام بدل همام؛ والذي عند الجماعة أولى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن نعلي النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ وقع في رواية عند الكشميهني بالإفراد وكذا في قوله‏:‏ ‏"‏ لهما‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قبالان‏)‏ زاد ابن سعد عن عفان عن همام ‏"‏ من سبت ليس عليهما شعر ‏"‏ وقد أخرجه أحمد عن عفان بدون هذه الزيادة، وقوله‏:‏ ‏"‏ سبت ‏"‏ بكسر المهملة وسكون الموحدة بعدها مثناة وقد فسره في الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ قَالَ خَرَجَ إِلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ بِنَعْلَيْنِ لَهُمَا قِبَالَانِ فَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ هَذِهِ نَعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد‏)‏ هو ابن مقاتل، وعبد الله هو ابن المبارك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عيسى بن طهمان قال‏:‏ أخرج إلينا أنس بن مالك بنعلين لهما قبالان، فقال ثابت البناني‏:‏ هذه نعل النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ هذا مرسل قاله الإسماعيلي‏.‏

قلت صورته الإرسال لأن ثابتا لم يصرح بأن أنسا أخبره بذلك، فإن كان ثابت قاله بحضرة أنس وأقره أنس على ذلك فيكون أخذ عيسى بن طهمان له عن أنس عرضا، لكن قد تقدم هذا الحديث في الخمس من طريق ابن أحمد الزبيري عن عيسى بن طهمان بما ينفي هذا الاحتمال، ولفظه ‏"‏ أخرج إلينا أنس نعلين جرداوتين لهما قبالان، فحدثني ثابت البناني بعد عن أنس أنهما نعلا النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فظهر بهذا أن رواية عيسى عن أنس إخراجه النعلين فقط وأن إضافتهما للنبي صلى الله عليه وسلم من رواية عيسى عن ثابت عن أنس، وقد أشار الإسماعيلي إلى أن إخراج طريق أبي أحمد أولى، وكأنه لم يستحضر أنها تقدمت هناك، والبخاري على عادته إذا صحت الطريق موصولة لا يمتنع من إيراد ما ظاهره الإرسال اعتمادا على الموصول، وقد أخرج الترمذي في ‏"‏ الشمائل ‏"‏ وابن ماجه بسند قوي من حديث ابن عباس ‏"‏ كانت لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبالان مثنى شراكهما ‏"‏ قال الكرماني‏:‏ دلالة الحديث على الترجمة من جهة أن النعل صادقة على مجموع ما يلبس في الرجلين، وأما الركن الثاني من الترجمة فمن جهة أن مقابلة الشيء بالشيء يفيد التوزيع، فلكل واحد من نعل كل رجل قبال واحد‏.‏

قلت‏:‏ بل أشار البخاري إلى ما ورد عن بعض السلف، فقد أخرج البزار والطبراني في ‏"‏ الصغير ‏"‏ من حديث أبي هريرة مثل حديث أنس هذا وزاد ‏"‏ وكذا لأبي بكر ولعمر، وأول من عقد عقدة واحدة عثمان بن عفان ‏"‏ لفظ الطبراني وسياق البزار مختصر، ورجال سنده ثقات، وله شاهد أخرجه النسائي من رواية محمد بن سيرين عن عمرو بن أوس مثله دون ذكر عثمان‏.‏

*3*باب الْقُبَّةِ الْحَمْرَاءِ مِنْ أَدَمٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب القبة الحمراء من أدم‏)‏ بفتح الهمزة والمهملة هو الجلد المدبوغ، وكأنه صبغ بحمره قبل أن يجعل قبة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ وَرَأَيْتُ بِلَالاً أَخَذَ وَضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَبْتَدِرُونَ الْوَضُوءَ فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئاً تَمَسَّحَ بِهِ وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئاً أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ

الشرح‏:‏

ذكر فيه طرفا من حديث أبي جحيفة، وقد تقدم في أوائل الصلاة بتمامه مشروحا، وساقه فيه بهذا الإسناد بعينه، والغرض منه هنا قوله‏:‏ ‏"‏ وهو في قبة حمراء من أدم ‏"‏ فهو مطابق لما ترجم له، وتقدم شرح الحلة الحمراء قريبا في ‏"‏ باب الثوب الأحمر ‏"‏ ولعله أراد الإشارة إلى تضعيف حديث رافع المقدم ذكره هناك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأَنْصَارِ وَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ

الشرح‏:‏

ذكر حديث أنس قال‏:‏ ‏"‏ أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ‏"‏ وهو أيضا طرف من حديث أورده بتمامه في كتاب الخمس عن أبي اليمان بهذا الإسناد بعينه‏.‏

قال الكرماني‏:‏ هذا لا يدل على أن القبة حمراء، لكن يكفي أنه يدل على بعض الترجمة، وكثيرا ما يفعل البخاري ذلك‏.‏

قلت‏:‏ ويمكن أن يقال‏:‏ لعله حمل المطلق على المقيد وذلك لقرب العهد، فإن القصة التي ذكرها أنس كانت في غزوة حنين، والتي ذكرها أبو جحيفة كانت في حجة الوداع، وبينهما نحو سنتين، فالظاهر أنها هي تلك القبة لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يتأنق في مثل ذلك حتى يستبدل، وإذا وصفها أبو جحيفة بأنها حمراء في الوقت الثاني فلأن تكون حمرتها موجودة في الوقت الأول أولى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الليث حدثني يونس عن ابن شهاب‏)‏ هو الزهري المذكور في السند الذي قبله، وقد اقتطع هذه الجملة من الحديث فساقها على لفظ الليث، وأول حديث شعيب عنده في فرض الخمس ‏"‏ إن ناسا من الأنصار قالوا‏:‏ حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء - فذكر القصة قال - فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ‏"‏ الحديث بطوله، وقد تقدم شرحه في غزوة حنين‏.‏

وقد وصل الإسماعيلي رواية الليث من طريق الرمادي‏:‏ ‏"‏ حدثنا أبو صالح حدثنا الليث حدثني يونس ‏"‏ ومن طريق حرملة عن ابن وهب ‏"‏ أخبرني يونس ‏"‏ وساقه بلفظ ‏"‏ فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ‏"‏ هكذا اقتطعه‏.‏

وقد أخرجه مسلم عن حرملة، وأوله عنده ‏"‏ إن ناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله ‏"‏ فذكر الحديث بطوله‏.‏

*3*باب الْجُلُوسِ عَلَى الْحَصِيرِ وَنَحْوِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الجلوس على الحصير ونحوه‏)‏ أما الحصير فمعروف يتخذ من السعف وما أشبهه، وأما قوله ‏"‏ ونحوه ‏"‏ فيريد من الأشياء التي تبسط وليس لها قدر رفيع‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيراً بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ حَتَّى كَثُرُوا فَأَقْبَلَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ

الشرح‏:‏

حديث عائشة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجر حصيرا بالليل ويصلي عليه ‏"‏ ومعتمر في إسناده هو ابن سليمان التيمي، وعبيد الله هو ابن عمر العمري، وسعيد هو المقبري وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق أولهم أبو سلمة وهم مدنيون، وفيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شريح بن هانئ أنه‏:‏ ‏"‏ سأل عائشة‏:‏ أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير والله يقول‏:‏ ‏(‏وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا‏)‏ ‏؟‏ فقالت‏:‏ لم يكن يصلي على الحصير ‏"‏ ويمكن الجمع بحمل النفي على المداومة، لكن يخدش فيه ما ذكره شريح من الآية، وقد تقدم شرح حديث عائشة في كتاب الصلاة، وترجم المصنف في أوائل الصلاة ‏"‏ باب الصلاة على الحصير ‏"‏ وأورد فيه حديث أنس ‏"‏ فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس ‏"‏ الحديث، وسبق ما يتعلق به، قوله في حديث عائشة يحتجر بحاء مهملة ثم جيم ثم راء مهملة للأكثر أي يتخذ حجرة لنفسه؛ يقال‏:‏ حجرت الأرض واحتجرتها إذا جعلت عليها علامة تمنعها عن غيرك‏.‏

ووقع في رواية الكشميهني بزاي في آخره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يثوبون‏)‏ بمثلثة ثم موحدة أي يرجعون، وقوله فيه‏:‏ ‏"‏ فإن الله لا يمل حتى تملوا ‏"‏ تقدم شرحه أيضا في كتاب الإيمان، وأن الملال كناية عن القبول أو الترك، أو أطلق على سبيل المشاكلة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام ‏"‏ أي ما استمر في حياة العامل، وليس المراد حقيقة الدوام التي هي شمول جميع الأزمنة‏.‏

ووقع في رواية الكشميهني ‏"‏ ما داوم ‏"‏ أي ما داوم عليه العامل‏.‏

*3*باب الْمُزَرَّرِ بِالذَّهَبِ

وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَخْرَمَةَ قَالَ لَهُ يَا بُنَيِّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَتْ عَلَيْهِ أَقْبِيَةٌ فَهُوَ يَقْسِمُهَا فَاذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ فَذَهَبْنَا فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِهِ فَقَالَ لِي يَا بُنَيِّ ادْعُ لِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْظَمْتُ ذَلِكَ فَقُلْتُ أَدْعُو لَكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا بُنَيِّ إِنَّهُ لَيْسَ بِجَبَّارٍ فَدَعَوْتُهُ فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرٌ بِالذَّهَبِ فَقَالَ يَا مَخْرَمَةُ هَذَا خَبَأْنَاهُ لَكَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب المزرر بالذهب‏)‏ أي من الثياب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الليث‏)‏ وصله أحمد عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن الليث بلفظه، وللإسماعيلي من رواية كامل بن طلحة ‏"‏ حدثنا الليث ‏"‏ وقد تقدم موصولا قريبا، وفي الهبة عن قتيبة عن الليث لكن بغير هذا اللفظ‏.‏

قوله ‏(‏أن أباه مخرمة قال‏:‏ يا بني‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ قال له ‏"‏ وقد تقدم شرح الحديث قريبا في ‏"‏ باب القباء وفروج من حرير ‏"‏ وقوله ‏"‏ فخرج وعليه قباء من ديباج مزرر بالذهب ‏"‏ هذا يحتمل أن يكون وقع قبل التحريم، فلما وقع تحريم الحرير والذهب على الرجال لم يبق هذا حجة لمن يبيح شيئا من ذلك، ويحتمل أن يكون بعد التحريم فيكون أعطاه لينتفع به بأن يكسوه النساء أو ليبيعه كما وقع لغيره، وبكون معنى قوله ‏"‏ فخرج وعليه قباء ‏"‏ أي على يده فيكون من إطلاق الكل على البعض، وقد تقدم أنه أراد تطييب قلب مخرمة وأنه كان في خلقه شيء‏.‏

وفي قوله لولده في هذه الرواية لما قال له ‏"‏ أدعو لك النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ في معرض الإنكار لقوله ‏"‏ ادعه لي، فأجابه بقوله‏:‏ يا بني إنه ليس بجبار ‏"‏ ما يدل على صحة إيمان مخرمة، وإن كان قد وصف بأنه سيئ الخلق، وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وحسن تلطفه بأصحابه‏.‏

*3*باب خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب خواتيم الذهب‏)‏ جمع خاتم، ويجمع أيضا على خواتم بلا ياء، وعلى خياتيم بياء بدل الواو، وبلا ياء أيضا، وفي الخاتم ثمان لغات‏:‏ فتح التاء وكسرها وهما واضحتان، وبتقديمها على الألف مع كسر الخاء ختام، وبفتحها وسكون التحتانية وضم المثناة بعدها واو خيتوم، وبحذف الياء والواو مع سكون المثناة ختم، وبألف بعد الخاء وأخرى بعد التاء خاتام، وبزيادة تحتانية بعد المثناة المكسورة خاتيام، وبحذف الأولى وتقديم التحتانية خيتام، وقد جمعتها في بيت وهو‏:‏ خاتام خاتم ختم خاتم وختام خاتيام وخيتوم وخيتام وقبله‏:‏ خذ نظم عد لغات الخاتم انتظمت ثمانيا ما حواها قبل نظام ثم زدت ثالثا‏:‏ وهمز مفتوح تاء تاسع وإذا ساغ القياس أتم العشر خاتام أما الأول فذكر أبو البقاء في إعراب الشواذ في الكلام على من قرأ العالمين بالهمز قال‏:‏ ومثله الخأتم بالهمز، وأما الثاني فهو على الاحتمال، واقتصر كثيرون منهم النووي على أربعة، والحق أن الختم والختام مختص بما يختم به فتكمل الثمان فيه، وأما ما يتزين به فليس فيه إلا ستة، وأنشدوا في الخاتيام وهو أغربها‏:‏ أخذت من سعداك خاتياما لموعد تكتسب الآثاما

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبْعٍ نَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ أَوْ قَالَ حَلْقَةِ الذَّهَبِ وَعَنْ الْحَرِيرِ وَالْإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ وَالْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ وَالْقَسِّيِّ وَآنِيَةِ الْفِضَّةِ وَأَمَرَنَا بِسَبْعٍ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَرَدِّ السَّلَامِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ

الشرح‏:‏

حديث البراء قال ‏"‏ نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبع‏:‏ نهانا عن خاتم الذهب ‏"‏ أو قال ‏"‏ حلقة الذهب ‏"‏ كذا في هذه الطريق من رواية آدم عن شعبة عن أشعث بن سليم وهو ابن الشعثاء ‏"‏ سمعت معاوية بن سويد بن مقرن قال سمعت البراء ‏"‏ فذكره بتقديم النواهي على الأوامر، وتقدم في أوائل الجنائز عن أبي الوليد عن شعبة بقديم الأوامر على النواهي، لكن سقط من النواهي ذكر المياثر وقال فيه ‏"‏ خاتم الذهب ‏"‏ ولم يشك‏.‏

وأورده في المظالم عن سعيد بن الربيع عن شعبة لكن لم يسق فيه المنهيات جملة، وأورده في الطب عن حفص بن عمر عن شعبة لكن سقط من النواهي آنية الفضة، وذكر من الأوامر ثلاثة فقط‏:‏ اتباع الجنائز وعيادة المريض وإفشاء السلام، واختصر الباقي‏.‏

وقال فيه أيضا ‏"‏ خاتم الذهب ‏"‏ وأورده في أواخر الأدب عن سليمان بن حرب عن شعبة كذلك، لكن لم يذكر القسي ولا آنية الفضة‏.‏

وقال بدل الإستبرق السندس‏.‏

وأخرجه في الأيمان والنذور من طريق غندر عن شعبة مقتصرا على إبرار القسم حسب، فهذا ما عنده من تغاير السياق في رواية شعبة فقط، وأما من رواية غيره عن أشعث عنده أيضا فإنه أخرجه في الأشربة فقط من رواية أبي عوانة عن الأشعث فقدم الأوامر على النواهي وساقه تاما وقال فيه ‏"‏ ونهانا عن خواتيم الذهب ‏"‏ وهكذا أخرجه من طريق أبي الأحوص عن أشعث مثله سواء وهو المطابق للترجمة هنا، وأخرجه في أوائل الاستئذان من طريق جرير عن أشعث كذلك لكن قال ‏"‏ ونهى عن تختم الذهب ‏"‏ وقد تقدم قريبا في اللباس من رواية سفيان الثوري في آخر ‏"‏ باب القسي ‏"‏ مختصرا جدا ‏"‏ نهانا عن المياثر الحمر وعن القسي ‏"‏ وفي ‏"‏ باب الميثرة الحمراء ‏"‏ من روايته ‏"‏ أمرنا بسبع ‏"‏ فذكر منها العيادة واتباع الجنائز وتشميت العاطس ‏"‏ ونهانا عن سبع ‏"‏ فلم يذكر منها خاتم الذهب ولا آنية الفضة، فهذه جميع طرق هذا الحديث عنده، فأما المنهيات فقد شرحت في أماكنها ومعظمها في هذا الكتاب كتاب اللباس، وتقدم الكلام على آنية الفضة في كتاب الأشربة، وأما الأوامر فنذكر كل واحدة منها في بابها، ويأتي بسطها في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ وَقَالَ عَمْرٌو أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعَ النَّضْرَ سَمِعَ بَشِيراً مِثْلَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن بشير بن نهيك‏)‏ بفتح الموحدة وكسر المعجمة، ونهيك بالنون وزنه سواء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن خاتم الذهب‏)‏ في الكلام حذف تقديره‏.‏

نهى عن لبس خاتم الذهب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عمرو‏)‏ هو ابن مرزوق ‏"‏ أنبأنا شعبة ‏"‏ ساق هذا الإسناد لما فيه من بيان سماع قتادة من النضر وهو ابن أنس بن مالك المذكور في السند الذي قبله، وسماع النضر من بشير بن نهيك وقد وصله أبو عوانة في صحيحه عن أبي قلابة الرقاشي وقاسم بن أصبغ عن محمد بن غالب بن حرب كلاهما عن عمرو بن مرزوق به، ووقع التصريح بسماع قتادة من النضر بهذا الحديث أيضا في رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة وأخرجه الإسماعيلي كذلك، قال ابن دقيق العيد‏:‏ إخبار الصحابي عن الأمر والنهي على ثلاث مراتب‏:‏ الأولى أن يأتي بالصيغة كقوله‏:‏ افعلوا أو لا تفعلوا، الثانية قوله أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ونهانا عن كذا وهو كالمرتبة الأولى في العمل به أمرا ونهيا، وإنما نزل عنها لاحتمال أن يكون ظن ما ليس بأمر أمرا، إلا أن هذا الاحتمال مرجوح للعلم بعدالته ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة‏.‏

المرتبة الثالثة أمرنا ونهينا على البناء للمجهول وهي كالثانية، وإنما نزلت عنها لاحتمال أن يكون الآمر غير النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا تقرر هذا فالنهي عن خاتم الذهب أو التختم به مختص بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء‏.‏

قلت‏:‏ وقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث عائشة ‏"‏ أن النجاشي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حلية فيها خاتم من ذهب، فأخذوه وإنه لمعرض عنه، ثم دعا أمامة بنت ابنته فقال‏:‏ تحلي به ‏"‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ وظاهر النهي التحريم، وهو قول الأئمة واستقر الأمر عليه، قال عياض‏:‏ وما نقل عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم من تختمه بالذهب فشذوذ، والأشبه أنه لم تبلغه السنة فيه فالناس بعده مجمعون على خلافه، وكذا ما روي فيه عن خباب وقد قال له ابن مسعود ‏"‏ أما آن لهذا الخاتم أن يلقى‏؟‏ فقال‏:‏ إنك لن تراه علي بعد اليوم ‏"‏ فكأنه ما كان بلغه النهي فلما بلغه رجع‏.‏

قال‏:‏ وقد ذهب بعضهم إلى أن لبسه للرجال مكروه كراهة تنزيه لا تحريم كما قال ذلك في الحرير، قال ابن دقيق العيد‏:‏ هذا يقتضي إثبات الخلاف في التحريم، وهو يناقض القول بالإجماع على التحريم، ولا بد من اعتبار وصف كونه خاتما‏.‏

قلت‏:‏ التوفيق بين الكلامين ممكن بأن يكون القائل بكراهة التنزيه انقرض واستقر الإجماع بعده على التحريم، وقد جاء عن جماعة من الصحابة لبس خاتم الذهب، من ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن أبي إسماعيل أنه رأى ذلك على سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وصهيب وذكر ستة أو سبعة‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن حذيفة وعن جابر بن سمرة وعن عبيد الله بن يزيد الخطمي نحوه، ومن طريق حمزة بن أبي أسيد ‏"‏ نزعنا من يدي أسيد خاتما من ذهب ‏"‏ وأغرب ما ورد من ذلك ما جاء عن البراء الذي روى النهي، فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي السفر قال ‏"‏ رأيت على البراء خاتما من ذهب ‏"‏ وعن شعبة عن أبي إسحاق نحوه أخرجه البغوي في ‏"‏ الجعديات ‏"‏ وأخرج أحمد من طريق محمد بن مالك قال‏:‏ ‏"‏ رأيت على البراء خاتما من ذهب فقال‏:‏ قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما فألبسنيه فقال‏:‏ البس ما كساك الله ورسوله ‏"‏ قال الحازمي‏:‏ إسناده ليس بذاك، ولو صح فهو منسوخ‏.‏

قلت‏:‏ لو ثبت النسخ عند البراء ما لبسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي حديث النهي المتفق على صحته عنه، فالجمع بين روايته وفعله إما بأن يكون حمله على التنزيه أو فهم الخصوصية له من قوله البس ما كساك الله ورسوله، وهذا أولى من قول الحازمي‏:‏ لعل البراء لم يبلغه النهي‏.‏

ويؤيده الاحتمال الثاني أنه وقع في رواية أحمد ‏"‏ كان الناس يقولون للبراء لم تتختم بالذهب وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فيذكر لهم الحديث ثم يقول‏:‏ كيف تأمرونني أن أضع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البس ما كساك الله ورسوله ‏"‏ ومن أدلة النهي أيضا ما رواه يونس عن الزهري عن أبي إدريس عن رجل له صحبة قال ‏"‏ جلس رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده خاتم من ذهب فقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بقضيب فقال‏:‏ ألق هذا ‏"‏ وعموم الأحاديث المقدم ذكرها في ‏"‏ باب لبس الحرير ‏"‏ حيث قال في الذهب والحرير ‏"‏ هذان حرامان على رجال أمتي حل لإناثها ‏"‏ وحديث عبد الله بن عمرو رفعه ‏"‏ من مات من أمتي وهو يلبس الذهب حرم الله عليه ذهب الجنة ‏"‏ الحديث أخرجه أحمد والطبراني، وفي حديث ابن عمر ثالث أحاديث الباب ما يستدل به على نسخ جواز لبس الخاتم إذا كان من ذهب، واستدل به على تحريم الذهب على الرجال قليله وكثيره للنهي عن التختم وهو قليل، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التحريم يتناول ما هو في قدر الخاتم وما فوقه كالدملج والمعضد وغيرهما، فأما ما هو دونه فلا دلالة من الحديث عليه، وتناول النهي جميع الأحوال فلا يجوز لبس خاتم الذهب لمن فاجأه الحرب لأنه لا تعلق له بالحرب، بخلاف ما تقدم في الحرير من الرخصة في لبسه بسبب الحرب، وبخلاف ما على السيف أو الترس أو المنطقة من حلية الذهب فإنه لو فجأه الحرب جاز له الضرب بذلك السيف فإذا انقضت الحرب فلينتقض لأنه كله من متعلقات الحرب بخلاف الخاتم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ فَاتَّخَذَهُ النَّاسُ فَرَمَى بِهِ وَاتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ أَوْ فِضَّةٍ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر سيأتي شرحه في الباب الذي يليه، وقوله فيه ‏"‏ فاتخذه الناس ‏"‏ أي اتخذوا مثله كما بينه بعد، وقوله‏:‏ ‏"‏ من ورق أو فضة ‏"‏ شك من الراوي وجزم في الذي يليه بقوله ‏"‏ من فضة ‏"‏ وفي الذي يليه بأنه ‏"‏ من ورق ‏"‏ والورق بفتح الواو وكسر الراء ويجوز إسكانها، وحكى الصغاني وحكى كسر أوله مع السكون فتلك أربع لغات، وفيها لغة خامسة الرقة والراء بدل الواو كالوعد والعدة، وقيل الورق يختص بالمصكوك والرقة أعم‏.‏

*3*باب خَاتَمِ الْفِضَّةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب خاتم الفضة‏)‏ أي جواز لبسه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَاتَّخَذَ النَّاسُ مِثْلَهُ فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ اتَّخَذُوهَا رَمَى بِهِ وَقَالَ لَا أَلْبَسُهُ أَبَداً ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ فِضَّةٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الْفِضَّةِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَلَبِسَ الْخَاتَمَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ حَتَّى وَقَعَ مِنْ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ أَرِيسَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبيد الله‏)‏ هو ابن عمر العمري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اتخذ خاتما من ذهب‏)‏ معني اتخذه أمر بصياغته فصيغ فلبسه، أو وجده مصوغا فاتخذه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ مما يلي باطن كفه ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ بطن كفه ‏"‏ زاد في رواية جويرية عن نافع كما سيأتي قريبا ‏"‏ إذا لبسه ‏"‏ وقوله ‏"‏ ونقش فيه محمد رسول الله ‏"‏ كذا فيه بالرفع على الحكاية، ونقش أي أمر بنقشه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فاتخذ الناس مثله‏)‏ يحتمل أن يكون المراد بالمثلية كونه من فضة وكونه على صورة النقش المذكورة، ويحتمل أن يكون لمطلق الاتخاذ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ فرمى به وقال لا ألبسه أبدأ ‏"‏ وقع في رواية جويرية عن نافع ‏"‏ فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه فقال‏:‏ إني كنت اصطنعته، وإني لا ألبسه ‏"‏ وفي رواية المغيرة بن زياد ‏"‏ فرمى به، فلا ندري ما فعل ‏"‏ وهذا يحتمل أن يكون كرهه من أجل المشاركة، أو لما رأى زهوهم بلبسه، ويحتمل أن يكون لكونه من ذهب وصادف وقت تحريم لبس الذهب على الرجال، ويؤيد هذا رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر المختصرة في هذا الباب بلفظ ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس خاتما من ذهب، فنبذه فقال‏:‏ لا ألبسه أبدا ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ واتخذ خاتما من فضة ‏"‏ في رواية المغيرة بن زياد ثم أمر بخاتم من فضة فأمر أن ينقش فيه ‏"‏ محمد رسول الله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فاتخذ الناس خواتيم الفضة‏)‏ لم يذكر في حديث ابن عمر في اتخاذ الناس خواتيم الفضة منعا ولا كراهية، وسيأتي ذلك في حديث أنس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن عمر فلبس الخاتم - بعد النبي صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، حتى وقع من عثمان في بئر أريس‏)‏ بفتح الهمزة وكسر الراء وبالسين المهملة وزن عظيم، وهي حديقة بالقرب من مسجد قباء، وسيأتي في ‏"‏ باب نقش الخاتم ‏"‏ قريبا من رواية عبد الله بن نمير عن عبيد الله العمري بلفظ ‏"‏ ثم كان بعد في يد أبي بكر ‏"‏ وذكر عمر وعثمان بمثل هذا الترتيب، ويأتي بعد في ‏"‏ باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر ‏"‏ من حديث أنس نحوه وقال فيه ‏"‏ فلما كان عثمان جلس على بئر أريس ‏"‏ وزاد ابن سعد الأنصاري بسند المصنف ‏"‏ ثم كان في يد عثمان ست سنين ‏"‏ ثم اتفقا‏.‏

ووقع في حديث ابن عمر عند أبي داود والنسائي من طريق المغيرة بن زياد عن نافع من الزيادة في آخره عن ابن عمر ‏"‏ فاتخذ عثمان خاتما ونقش فيه محمد رسول الله فكان يختم به أو يتختم به ‏"‏ وله شاهد من مرسل علي بن الحسين عند ابن سعد في الطبقات‏.‏

وفي رواية أيوب بن موسى عن نافع عند مسلم نحو حديث عبيد الله بن عمر عن نافع إلى قوله ‏"‏ فجعل فصه مما يلي كفه ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ وهو الذي سقط من معيقيب في بئر أريس ‏"‏ وهذا يدل على أن نسبة سقوطه إلى عثمان نسبة مجازية أو بالعكس، وأن عثمان طلبه من معيقيب فختم به شيئا واستمر في يده وهو مفكر في شيء يعبث به فسقط في البئر أو رده إليه فسقط منه، والأول هو الموافق لحديث أنس، وقد أخرج النسائي من طريق المغيرة بن زياد عن نافع هذا الحديث قال في آخره ‏"‏ وفي يد عثمان ست سنين من عمله، فلما كثرت عليه دفعه إلى رجل من الأنصار فكان يختم به، فخرج الأنصاري إلى قليب لعثمان فسقط، فالتمس فلم يوجد‏"‏‏.‏

*3*باب

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فَنَبَذَهُ فَقَالَ لَا أَلْبَسُهُ أَبَداً فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس خاتما من ذهب فنبذه‏)‏ كذا رواه مالك عن عبد الله بن دينار، ورواه سفيان الثوري عن عبد الله بن دينار أتم منه وساقه نحو رواية نافع التي قبلها، وسيأتي في الاعتصام، وكذا أخرجه أحمد والنسائي من رواية إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ يَوْماً وَاحِداً ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اصْطَنَعُوا الْخَوَاتِيمَ مِنْ وَرِقٍ وَلَبِسُوهَا فَطَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَهُ فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ وَزِيَادٌ وَشُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ ابْنُ مُسَافِرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَرَى خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏يونس‏)‏ هو ابن يزيد الإيلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق يوما واحدا، وأن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق فلبسوها فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه، فطرح الناس خواتيمهم‏)‏ هكذا روى الحديث الزهري عن أنس، واتفق الشيخان على تخريجه من طريقه ونسب فيه إلى الغلط، لأن المعروف أن الخاتم الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم بسب اتخاذ الناس مثله إنما هو خاتم الذهب كما صرح به في حديث ابن عمر، قال النووي تبعا لعياض‏:‏ قال جميع أهل الحديث هذا وهم من ابن شهاب لأن المطروح ما كان إلا خاتم الذهب، ومنهم من تأوله كما سيأتي‏.‏

قلت‏:‏ وحاصل الأجوبة ثلاثة‏:‏ أحدها قاله الإسماعيلي فإنه قال بعد أن ساقه‏:‏ إن كان هذا الخبر محفوظا فينبغي أن يكون تأويله أنه اتخذ خاتما من ورق على لون من الألوان وكره أن يتخذ غيره مثله، فلما اتخذوه رمى به حتى رموا به ثم اتخذ بعد ذلك ما اتخذه ونقش عليه ما نقش ليختم به، ثانيها أشار إليه الإسماعيلي أيضا أنه اتخذه زينة فلما تبعه الناس فيه رمى به، فلما أحتاج إلى الختم اتخذه ليختم به، وبهذا جزم المحب الطبري بعد أن حكى قول المهلب، وذكر أنه متكلف، قال‏:‏ والظاهر من حالهم أنهم اتخذوها للزينة فطرح خاتمه ليطرحوا، ثم لبسه بعد ذلك للحاجة إلى الختم به واستمر ذلك، وسيأتي جواب البيهقي عن ذلك في ‏"‏ باب اتخاذ الخاتم‏"‏‏.‏

ثالثها قال ابن بطال‏:‏ خالف ابن شهاب رواية قتادة وثابت وعبد العزيز بن صهيب في كون الخاتم الفضة استقر في يد النبي صلى الله عليه وسلم يختم به الحلفاء بعده، فوجب الحكم للجماعة، وإن وهم الزهري فيه، لكن قال المهلب قد يمكن أن يتأول لابن شهاب ما ينفي عنه الوهم وإن كان الوهم أظهر، وذلك أنه يحتمل أن يكون لما عزم على إطراح خاتم الذهب اصطنع خاتم الفضة بدليل أنه كان لا يستغني عن الختم على الكتب إلى الملوك وغيرهم من أمراء السرايا والعمال، فلما لبس خاتم الفضة أراد الناس أن يصطنعوا مثله فطرح عند ذلك خاتم الذهب فطرح الناس خواتيم الذهب، قلت‏:‏ ولا يخفى وهي هذا الجواب، والذي قاله الإسماعيلي أقرب مع أنه يخدش فيه أنه يستلزم اتخاذ الورق مرتين‏.‏

وقد نقل عياض نحوا من قول ابن بطال قائلا‏:‏ قال بعضهم يمكن الجمع بأنه لما عزم على تحريم خاتم الذهب اتخذ خاتم فضة فلما لبسه أراه الناس في ذلك اليوم ليعلموا إباحته ثم طرح خاتم الذهب وأعلمهم تحريمه فطرح الناس خواتيمهم من الذهب، فيكون قوله ‏"‏ فطرح خاتمه وطرحوا خواتيمهم ‏"‏ أي التي من الذهب‏.‏

وحاصله أنه جعل الموصوف في قوله ‏"‏ فطرح خاتمه فطرحوا خواتيمهم ‏"‏ خاتم الذهب وإن لم يجر له ذكر‏.‏

قال عياض‏:‏ وهذا يسوغ أن لو جاءت الرواية مجملة‏.‏

ثم أشار إلى أن رواية ابن شهاب لا تحتمل هذا التأويل، فأما النووي فارتضى هذا التأويل وقال‏.‏

هذا هو التأويل الصحيح، وليس في الحديث ما يمنعه‏.‏

قال‏:‏ وأما قوله ‏"‏ فصنع الناس الخواتيم من الورق فلبسوها ‏"‏ ثم قال ‏"‏ فطرح خاتمه فطرحوا خواتيمهم ‏"‏ فيحتمل أنهم لما علموا أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يصطنع لنفسه خاتم فضة اصطنعوا لأنفسهم خواتيم الفضة وبقيت معهم خواتيم الذهب كما بقي معه خاتمه إلى أن استبدل خاتم الفضة وطرح خاتم الذهب فاستبدلوا وطرحوا ا هـ‏.‏

وأيده الكرماني بأنه ليس في الحديث أن الخاتم المطروح كان من ورق بل هو مطلق، فيحمل على خاتم الذهب أو على ما نقش عليه نقش خاتمه، قال‏:‏ ومهما أمكن الجمع لا يجوز توهيم الراوي‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل وجها رابعا ليس فيه تغيير ولا زيادة اتخاذ وهو أنه اتخذ خاتم الذهب للزينة فلما تتابع الناس فيه وافق وقوع تحريمه فطرحه ولذلك قال ‏"‏ لا ألبسه أبدا ‏"‏ وطرح الناس خواتيمهم تبعا له، وصرح بالنهي عن لبس خاتم الذهب كما تقدم في الباب قبله، ثم احتاج إلى الخاتم لأجل الختم به فاتخذه من فضة ونقش فيه اسمه الكريم فتبعه الناس أيضا في ذلك فرمى به حتى رمى الناس تلك الخواتيم المنقوشة على اسمه لئلا تفوت مصلحة نقش اسمه بوقوع الاشتراك، فلما عدمت خواتيمهم برميها رجع إلى خاتمه الخاص به فصار يختم به، ويشير إلى ذلك قوله في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس كما سيأتي قريبا في باب الخاتم في الخنصر ‏"‏ إنا اتخذنا خاتما ونقشنا فيه نقشا فلا ينقش عليه أحد ‏"‏ فلعل بعض من لم يبلغه النهي أو بعض من بلغه ممن لم يرسخ في قلبه الإيمان من منافق ونحوه اتخذوه ونقشوا فوقع ما وقع ويكون طرحه له غضبا ممن تشبه به في ذلك النقش، وقد أشار إلى ذلك الكرماني مختصرا جدا والله أعلم‏.‏

وقول الزهري في روايته إنه رآه في يده يوما لا ينافي ذلك، ولا يعارضه قوله في الباب الذي بعده في رواية حميد ‏"‏ سئل أنس هل اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما‏؟‏ قال‏:‏ أخر ليلة صلاة العشاء - فكأني أنظر إلى وبيص خاتمه ‏"‏ فإنه يحمل على أنه رآه كذلك في تلك الليلة واستمر في يده بقية يومها ثم طرحه في آخر ذلك اليوم والله أعلم‏.‏

وأما ما أخرجه النسائي من طريق المغيرة بن زياد عن نافع عن ابن عمر ‏"‏ اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب فلبسه ثلاثة أيام ‏"‏ فيجمع بينه وبين حديث أنس بأحد أمرين‏:‏ إن قلنا إن قول الزهري في حديث أنس ‏"‏ خاتم من ورق ‏"‏ سهو وإن الصواب خاتم من ذهب، فقوله يوما واحدا ظرف لرؤية أنس لا لمدة اللبس، وقول ابن عمر ثلاثة أيام، ظرف لمدة اللبس‏.‏

وإن قلنا أن لا وهم فيها وجمعنا بما تقدم فمدة لبس خاتم الذهب ثلاثة أيام كما في حديث ابن عمر هذا، ومدة لبس خاتم الورق الأول كانت يوما واحدا كما في حديث أنس ثم لما رمى الناس الخواتيم التي نقشوها على نقشه، ثم عاد فلبس خاتم الفضة واستمر إلى أن مات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه إبراهيم بن سعد وزياد وشعيب عن الزهري‏)‏ أما متابعة إبراهيم بن سعد وهو الزهري المدني فوصلها مسلم وأحمد وأبو داود من طريقه بمثل رواية يونس، لا مخالفة إلا في بعض لفظ وأما متابعة زياد - وهو ابن سعد بن عبد الرحمن الخراساني نزيل مكة ثم اليمن - فوصلها مسلم أيضا وأشار إليها أبو داود أيضا ولفظه عنه كذلك لكن قال ‏"‏ اضطربوا واصطنعوا‏"‏‏.‏

وأما متابعة شعيب فوصلها الإسماعيلي كذلك وأشار إليها أبو داود أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن مسافر عن الزهري‏:‏ أرى خاتما من ورق‏)‏ هذا التعليق لم أره في أصل من رواية أبي ذر وهو ثابت للباقين إلا النسفي، وقد أشار إليه أبو داود أيضا، ووصله الإسماعيلي من طريق سعيد بن عفير عن الليث عن ابن مسافر - وهو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر - عن ابن شهاب عن أنس كذلك وليس فيه لفظ ‏"‏ أرى ‏"‏ فكأنها من البخاري، قال الإسماعيلي‏:‏ رواه أيضا عن ابن شهاب كذلك موسى بن عقبة وابن أبي عتيق، ثم ساقه من طريق سليمان بن بلال عنهما قال مثل حديث إبراهيم بن سعد‏.‏

وفي حديثي الباب مبادرة الصحابة إلى الاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم فمهما أقر عليه استمروا عليه ومهما أنكره امتنعوا منه‏.‏

وفي حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم لا يورث وإلا لدفع خاتمه للورثة، كذا قال النووي، وفيه نظر لجواز أن يكون الخاتم اتخذ من مال المصالح فانتقل للإمام لينتفع به فيما صنع له‏.‏

وفيه حفظ الخاتم الذي يختم به تحت يد أمين إذا نزعه الكبير من إصبعه‏.‏

وفيه أن يسير المال إذا ضاع لا يهمل إذا كان من أثر أهل الخير، وفيه بحث سيأتي، وفيه أن العبث اليسير بالشيء حال التفكر لا عيب فيه‏.‏

*3*باب فَصِّ الْخَاتَمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب فص الخاتم‏)‏ قال الجوهري‏:‏ الفص بفتح الفاء والعامة تكسرها وأثبتها غيره لغة وزاد بعضهم الضم وعليه جرى ابن مالك في المثلث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ قَالَ سُئِلَ أَنَسٌ هَلْ اتَّخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَماً قَالَ أَخَّرَ لَيْلَةً صَلَاةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ قَالَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَنَامُوا وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا

الشرح‏:‏

حديث حميد ‏"‏ سئل أنس‏:‏ هل اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما‏؟‏ قال‏:‏ أخر ليلة صلاة العشاء ‏"‏ الحديث‏.‏

وقد تقدم شرحه في المواقيت من كتاب الصلاة‏.‏

وقوله ‏"‏وبيص ‏"‏ بموحدة وآخره مهملة هو البريق وزنا ومعنى، وسيأتي من رواية عبد العزيز بن صهيب بلفظ ‏"‏ بريقه ‏"‏ ومن رواية قتادة عن أنس بلفظ ‏"‏ بياضه ‏"‏ ووقع في رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس في آخره ‏"‏ ورفع أنس يده اليسرى ‏"‏ أخرجه مسلم والنسائي، وله في أخرى ‏"‏ وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ حُمَيْداً يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ خَاتَمُهُ مِنْ فِضَّةٍ وَكَانَ فَصُّهُ مِنْهُ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعَ أَنَساً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

‏(‏كان خاتمه من فضة‏)‏ في رواية أبي داود من طريق زهير بن معاوية عن حميد ‏(‏من فضة كله‏)‏ فهذا نص في أنه كله من فضة، وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي من طريق إياس بن الحارث بن معيقيب عن جده قال ‏"‏ كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من حديد ملويا عليه فضة، فربما كان في يدي، قال‏:‏ وكان معيقيب على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يعني كان أمينا عليه فيحمل على التعدد، وقد أخرج له ابن سعد شاهدا مرسلا عن مكحول ‏"‏ أن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من حديد ملويا عليه فضة، غير أن قصه باد ‏"‏ وآخر مرسلا عن إبراهيم النخعي مثله دون ما في آخره‏.‏

وثالثا من رواية سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص ‏"‏ أن خالد بن سعيد - يعني ابن العاص - أتى وفي يده خاتم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا‏؟‏ أطرحه، فطرحه فإذا خاتم من حديد ملوي عليه فضة‏.‏

قال‏:‏ فما نقشه‏؟‏ قال‏:‏ محمد رسول الله، قال‏:‏ فأخذه فلبسه ‏"‏ ومن وجه آخر عن سعيد بن عمرو المذكور أن ذلك جرى لعمرو بن سعيد أخي خالد بن سعيد، وسأذكر لفظه في ‏"‏ باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر ‏"‏‏؟‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان فصه منه‏)‏ لا يعارضه ما أخرجه مسلم وأصحاب السنن من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن أنس ‏"‏ كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من ورق وكان فصه حبشيا ‏"‏ لأنه إما أن يحمل على التعدد وحينئذ فمعنى قوله حبشي أي كان حجرا من بلاد الحبشة، أو على لون الحبشة، أو كان جزعا أو عقيقا لأن ذلك قد يؤتى به من بلاد الحبشة، ويحتمل أن يكون هو الذي فصه منه ونسب إلى الحبشة لصفة فيه إما الصياغة وإما النقش‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال يحيى بن أيوب الخ‏)‏ أراد بهذا التعليق بيان سماع حميد له من أنس، وقد تقدم في المواقيت معلقا أيضا، وذكرت من وصله ولله الحمد‏.‏

وقد اعترضه الإسماعيلي فقال‏:‏ ليس هذا الحديث من الباب الذي ترجمه في شيء، وأجيب بأنه أشار إلى أنه لا يسمى خاتما إلا إذا كان له فص، فإن كان بلا فص فهو حلقة‏.‏

قلت‏:‏ لكن في الطريق الثانية في الباب أن فص الخاتم كان منه، فلعله أراد الرد على من زعم أنه لا يقال له خاتم إلا إذا كان له فص من غيره، ويؤيده أن في رواية خالد بن قيس عن قتادة عن أنس عند مسلم ‏"‏ فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما حلقة من فضة ‏"‏ والذي يظهر لي أنه أشار إلى أن الإجمال في الرواية الأولى محمول على التبيين في الرواية الثانية‏.‏