فصل: باب مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*12 باب مِنْ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنْ الْفِتَنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من الدين الفرار من الفتن‏)‏ عدل المصنف عن الترجمة بالإيمان - مع كونه ترجم لأبواب الإيمان - مراعاة للفظ الحديث، ولما كان الإيمان والإسلام مترادفين في عرف الشرع وقال الله تعالى‏:‏ ‏(‏إن الدين عند الله الإسلام‏)‏ صح إطلاق الدين في موضع الإيمان‏.‏

الحديث‏:‏

-19- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ ‏"‏ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ‏.‏‏"‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الله بن مسلمة‏)‏ هو القعنبي أحد رواة الموطأ، نسب إلى جده قعنب، وهو بصري أقام بالمدينة مدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبيه‏)‏ هو عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي صعصعة، فسقط الحارث من الرواية، واسم أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف الأنصاري ثم المازني، هلك في الجاهلية، وشهد ابنه الحارث أحدا، واستشهد باليمامة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي سعيد‏)‏ اسمه سعد على الصحيح - وقيل سنان - ابن مالك بن سنان، استشهد أبوه بأحد، وكان هو من المكثرين‏.‏

وهذا الإسناد كله مدنيون، وهو من أفراد البخاري عن مسلم‏.‏

نعم أخرج مسلم في الجهاد - وهو عند المصنف أيضا من وجه آخر - عن أبي سعيد حديث الأعرابي الذي سأل‏:‏ أي الناس خير‏؟‏

قال‏:‏ مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله‏.‏

قال‏:‏ ثم من‏؟‏

قال‏:‏ مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره‏.‏

وليس فيه ذكر الفتن‏.‏

وهي زيادة من حافظ فيقيد بها المطـلق‏.‏

ولها شاهد من حديث أبي هريرة عند الحاكم، ومن حديث أم مالك البهزية عند الترمذي، ويؤيده ما ورد من النهي عن سكنى البوادي والسياحة والعزلة، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الفتن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يوشك‏)‏ بكسر الشين المعجمة أي‏:‏ يقرب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خير‏)‏ بالنصب على الخبر، وغنم الاسم، وللأصيلي برفع خير ونصب غنما على الخبرية، ويجوز رفعهما على الابتداء والخبر ويقدر في يكون ضمير الشأن قاله ابن مالك، لكن لم تجيء به الرواية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يتبع‏)‏ تشديد التاء ويجوز إسكانها‏.‏

‏"‏ وشعف ‏"‏ بفتح المعجمة والعين المهملة جمع شعفة كأكم وأكمة، وهي رؤوس الجبال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومواقع القطر‏)‏ بالنصب عطفا على شعف، أي بطون الأودية، وخصهما بالذكر لأنهما مظان المرعى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يفر بدينه‏)‏ أي‏:‏ بسبب دينه‏.‏

و ‏"‏ من ‏"‏ ابتدائية، قال الشيخ النووي‏:‏ في الاستدلال بهذا الحديث للترجمة نظر، لأنه لا يلزم من لفظ الحديث عد الفرار دينا، وإنما هو صيانة للدين‏.‏

قال‏:‏ فلعله لما رآه صيانة للدين أطلق عليه اسم الدين‏.‏

وقال غيره‏:‏ إن أريد بمن كونها جنسية أو تبعيضية فالنظر متجه، وإن أريد كونها ابتدائية أي الفرار من الفتنة منشؤه الدين فلا يتجه النظر‏.‏‏(‏1/ 70‏)‏

وهذا الحديث قد ساقه المصنف أيضا في كتاب الفتن، وهو أليق المواضع به، والكلام عليه يستوفى هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*13 باب قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ ‏"‏ أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ‏"‏

وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏)

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم -‏)‏ هو مضاف بلا تردد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنا أعلمكم‏)‏ كذا في رواية أبي ذر، وهو لفظ الحديث الذي أورده في جميع طرقه‏.‏

وفي رواية الأصيلي ‏"‏ أعرفكم ‏"‏ وكأنه مذكور بالمعنى حملا على ترادفهما هنا، وهو ظاهر هنا وعليه عمل المصنف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأن المعرفة‏)‏ بفتح أن والتقدير‏:‏ باب بيان أن المعرفة‏.‏

وورد بكسرها وتوجيهه ظاهر‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ هو خلاف الرواية والدراية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لقوله تعالى‏)‏ مراده الاستدلال بهذه الآية على أن الإيمان بالقول وحده لا يتم إلا بانضمام الاعتقاد إليه والاعتقاد فعل القلب‏.‏

و قوله‏:‏ ‏(‏بما كسبت قلوبكم‏)‏ أي‏:‏ بما استقر فيها، والآية وإن وردت في الأيمان بالفتح فالاستدلال بها في الإيمان بالكسر واضح للاشتراك في المعنى، إذ مدار الحقيقة فيهما على عمل القلب‏.‏

وكأن المصنف لمح بتفسير زيد بن أسلم، فإنه في قوله تعالى ‏(‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏)‏ قال‏:‏ هو كقول الرجل إن فعلت كذا فأنا كافر، قال‏:‏ لا يؤاخذه الله بذلك حتى يعقد به قلبه، فظهرت المناسبة بين الآية والحديث، وظهر وجه دخولهما في مباحث الإيمان، فإن فيه دليلا على بطلان قول الكرامية‏:‏ إن الإيمان قول فقط، ودليلا على زيادة الإيمان ونقصانه لأن قوله -صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏"‏ أنا أعلمكم بالله ‏"‏ ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم -منه في أعلى الدرجات‏.‏

والعلم بالله يتناول ما بصفاته وما بأحكامه وما يتعلق بذلك، فهذا هو الإيمان حقا‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ قال إمام الحرمين‏:‏ أجمع العلماء على وجوب معرفة الله تعالى، واختلفوا في أول واجب فقيل‏:‏ المعرفة، وقيل‏:‏ النظر‏.‏

وقال المقترح‏:‏ لا اختلاف في أن أول واجب خطابا ومقصودا المعرفة، وأول واجب اشتغالا وأداء القصد إلى النظر‏.‏

وفي نقل الإجماع نظر كبير ومنازعة طويلة، حتى نقل جماعة الإجماع في نقيضه، واستدلوا بإطباق أهل العصر الأول على قبول الإسلام ممن دخل فيه من غير تنقيب، والآثار في ذلك كثيرة جدا‏.‏

وأجاب الأولون عن ذلك‏:‏ بأن الكفار كانوا يذبون عن دينهم ويقاتلون عليه، فرجوعهم عنه دليل على ظهور الحق لهم‏.‏

ومقتضى هذا‏:‏ أن المعرفة المذكورة يكتفي فيها بأدنى نظر، بخلاف ما قرروه‏.‏

ومع ذلك فقول الله تعالى‏:‏ ‏(‏فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها‏.‏ ‏(‏‏(‏1/ 71‏)‏

وحديث ‏"‏ كل مولود يولد على الفطرة ‏"‏ ظاهر أن في دفع هذه المسألة من أصلها، وسيأتي مزيد بيان لهذا في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد نقل القدوة أبو محمد بن أبي جمرة عن أبي الوليد الباجي عن أبي جعفر السمناني - وهو من كبار الأشاعرة - أنه سمعه يقول‏:‏

إن هذه المسألة من مسائل المعتزلة بقيت في المذهب، والله المستعان‏.‏

وقال النووي‏:‏ في الآية دليل على المذهب الصحيح أن أفعال القلوب يؤاخذ بها إن استقرت، وأما قوله -صلى الله عليه وسلم -‏:‏

‏"‏ إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل ‏"‏ فمحمول على ما إذا لم تستقر‏.‏

قلت‏:‏ ويمكن أن يستدل لذلك من عموم قوله‏:‏ ‏"‏ أو تعمل ‏"‏ لأن الاعتقاد هو عمل القلب، ولهذه المسألة تكملة تذكر في كتاب الرقاق‏.‏

الحديث‏:‏

-20- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ ‏"‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ‏.‏

قَالُوا‏:‏ إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏.‏

فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا‏.‏‏"‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد بن سلام‏)‏ هو بتخفيف اللام على الصحيح‏.‏

وقال صاحب المطالع‏:‏ هو بتشديدها عند الأكثر، وتعقبه النووي بأن أكثر العلماء على أنه بالتخفيف، وقد روى ذلك عنه نفسه وهو أخبر بأبيه، فلعله أراد بالأكثر مشايخ بلده‏.‏

وقد صنف المنذري جزءا في ترجيح التشديد، ولكن المعتمد خلافه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا عبده‏)‏ هو ابن سليمان الكوفي، وفي رواية الأصيلي‏:‏ حدثنا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن هشام‏)‏ و ابن عروة بن الزبير بن العوام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا أمرهم أمرهم‏)‏ كذا في معظم الروايات، ووقع في بعضها أمرهم مرة واحدة، وعليه شرح القاضي أبو بكر بن العربي، وهو الذي وقع قي طرق هذا الحديث التي وقفت عليها من طريق عبده، وكذا من طريق ابن نمير وغيره عن هشام عند أحمد، وكذا ذكره الإسماعيلي من رواية أبي أسامة عن هشام ولفظه‏:‏ ‏"‏ كان إذا أمر الناس بالشيء‏"‏

قالوا‏:‏ والمعنى كان إذا أمرهم بما يسهل عليهم دون ما يشق خشية أن يعجزوا عن الدوام عليه، وعمل هو بنظير ما يأمرهم به من التخفيف، طلبوا منه التكليف بما يشق، لاعتقادهم احتياجهم إلى المبالغة في العمل لرفع الدرجات دونه، فيقولون‏:‏ ‏"‏ لسنا كهيئتك‏"‏

فيغضب من جهة أن حصول الدرجات لا يوجب التقصير قي العمل، بل يوجب الازدياد شكرا للمنعم الوهاب، كما قال في الحديث الآخر‏:‏

‏"‏ أفلا أكون عبدا شكورا‏"‏‏.‏

وإنما أمرهم بما يسهل عليهم ليداوموا عليه كما في الحديث الآخر‏:‏

‏"‏ أحب العمل إلى الله أدومه‏"‏، وعلى مقتضى ما وقع في هذه الرواية من تكرير ‏"‏ أمرهم ‏"‏ يكون المعنى‏:‏

كان إذا أمرهم بعمل من الأعمال أمرهم بما يطيقون الدوام عليه، فأمرهم الثانية جواب الشرط، وقالوا جواب ثان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كهيئتك‏)‏ أي ليس حالنا كحالك‏.‏

وعبر بالهيئة تأكيدا‏.‏

وفي هذا الحديث فوائد‏:‏

الأولى‏:‏ أن الأعمال الصالحة ترقي صاحبها إلى المراتب السنية من رفع الدرجات ومحو الخطيئات، لأنه -صلى الله عليه وسلم -لم ينكر عليهم استدلالهم ولا تعليلهم من هذه الجهة، بل من الجهة الأخرى‏.‏

الثانية‏:‏ أن العبد إذا بلغ الغاية في العبادة وثمراتها، كان ذلك أدعى له إلى المواظبة عليها، استبقاء للنعمة، واستزادة لها بالشكر عليها‏.‏

الثالثة‏:‏ الوقوف عند ما حد الشارع من عزيمة ورخصة، واعتقاد أن الأخذ بالأرفق الموافق للشرع أولى من الأشق المخالف له‏.‏

الرابعة‏:‏ أن الأولى في العبادة القصد والملازمة، لا المبالغة المفضية إلى الترك، كما جاء في الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏ المنبت - أي المجد في السير - لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى‏"‏‏.‏

الخامسة‏:‏ التنبيه على شدة رغبة الصحابة في العبادة وطلبهم الازدياد من الخير‏.‏

السادسة‏:‏ مشروعية الغضب عند مخالفة الأمر الشرعي، والإنكار على الحاذق المتأهل لفهم المعنى إذا قصر في الفهم، تحريضا له على التيقظ‏.‏

السابعة‏:‏ جواز تحدث المرء بما فيه من فضل بحسب الحاجة لذلك عند الأمن من المباهاة والتعاظم‏.‏

الثامنة‏:‏ بيان أن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -رتبة الكمال الإنساني لأنه منحصر في الحكمتين العلمية والعملية، وقد أشار إلى الأولى بقوله‏:‏ ‏"‏ أعلمكم‏"‏، وإلى الثانية بقوله‏:‏ ‏"‏ أتقاكم‏"‏، ووقع عند أبي نعيم ‏"‏ وأعلمكم بالله لأنا ‏"‏ بزيادة لام التأكيد‏.‏ ‏(‏1/72‏)‏

وفي رواية أبي أسامة عند الإسماعيلي‏:‏ ‏"‏ والله إن أبركم وأتقاكم أنا‏"‏، ويستفاد منه إقامة الضمير المنفصل مقام المتصل، وهو ممنوع عند أكثر النحاة إلا للضرورة وأولوا قول الشاعر‏:‏

‏"‏وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي‏"‏

بأن الاستثناء فيه مقدر، أي‏:‏ وما يدافع عن أحسابهم إلا أنا‏.‏

قال بعض الشراح‏:‏ والذي وقع في هذا الحديث، يشهد للجواز بلا ضرورة، وهذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، وهو من غرائب الصحيح، لا أعرفه إلا من هذا الوجه، فهو مشهور عن هشام، فرد مطلق من حديثه عن أبيه عن عائشة والله أعلم‏.‏

وقد أشرت إلى ما ورد في معناه من وجه آخر عن عائشة في باب من لم يواجه من كتاب الأدب، وذكرت فيه ما يؤخذ منه تعيين المأمور به‏.‏

ولله الحمد‏.‏

*3*14 باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ مِنْ الْإِيمَانِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من كره‏)‏ يجوز فيه التنوين والإضافة، وعلى الأول ‏"‏ من ‏"‏ مبتدأ و ‏"‏ من الإيمان ‏"‏ خبره‏.‏

الحديث‏:‏

-21- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ‏:‏

ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ‏:‏

مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ‏.‏‏"‏

الشرح‏:‏

تقدم الكلام على حديث الباب، ومطابقة الترجمة له ظاهرة مما تقدم‏.‏ وإسناده كله بصريون، وجرى المصنف على عادته في التبويب على ما يستفاد من المتن، مع أنه غاير الإسناد هنا إلى أنس‏.‏

و ‏"‏ من ‏"‏ في المواضع الثلاثة موصولة بخلاف التي بعد ثلاث فإنها شرطية‏.‏

*3*15 باب تَفَاضُلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال‏)‏ في‏:‏ ظرفية ويحتمل أن تكون سببية، أي‏:‏ التفاضل الحاصل بسبب الأعمال‏.‏

الحديث‏:‏

-22- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ‏:‏

‏"‏ يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏

أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدْ اسْوَدُّوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَا -أَوْ الْحَيَاةِ، شَكَّ مَالِكٌ- فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً ‏"‏‏؟‏

قَالَ وُهَيْبٌ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو ‏"‏ الْحَيَاةِ ‏"‏ وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ‏"‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس عبد الله بن عبد الله الأصبحي المدني ابن أخت مالك، وقد وافقه على رواية هذا الحديث عبد الله بن وهب ومعن بن عيسى عن مالك، وليس هو في الموطأ‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ هو غريب صحيح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يدخل‏)‏ للدار قطني من طريق إسماعيل وغيره ‏"‏ يدخل الله ‏"‏ وزاد من طريق معن ‏"‏ يدخل من يشاء برحمته ‏"‏ وكذا له وللإسماعيلي من طريق ابن وهب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مثقال حبة‏)‏ بفتح الحاء، هو إشارة إلى ما لا أقل منه، ‏(‏1/73‏)‏

قال الخطابي‏:‏ هو مثل ليكون عيارا في المعرفة لا في الوزن، لأن ما يشكل في المعقول يرد إلى المحسوس ليفهم‏.‏

وقال إمام الحرمين‏:‏ الوزن للصحف المشتملة على الأعمال، ويقع وزنها على قدر أجور الأعمال‏.‏

وقال غيره‏:‏ يجوز أن تجسد الأعراض فتوزن، وما ثبت من أمور الآخرة بالشرع لا دخل للعقل فيه، والمراد بحبة الخردل هنا‏:‏ ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد، لقوله في الرواية الأخرى‏:‏

‏"‏ أخرجوا من قال لا إله إلا الله وعمل من الخير ما يزن ذرة‏"‏‏.‏

ومحل بسط هذا يقع في الكلام على حديث الشفاعة حيث ذكره المصنف في كتاب الرقاق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في نهر الحياء‏)‏ كذا في هذه الرواية بالمد، ولكريمة وغيرها بالقصر، وبه جزم الخطابي وعليه المعنى، لأن المراد كل ما به تحصل الحياة، والحيا بالقصر هو المطر، وبه تحصل حياة النبات، فهو أليق بمعنى الحياة من الحياء الممدود الذي هو بمعنى الخجل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الحبة‏)‏ بكسر أوله، قال أبو حنيفة الدينوري‏:‏ الحبة‏:‏ جمع بزور النبات واحدتها حبة بالفتح، وأما الحب فهو‏:‏ الحنطة والشعير، واحدتها حبة بالفتح أيضا، وإنما افترقا في الجمع‏.‏

وقال أبو المعالي في المنتهى‏:‏ الحبة بالكسر‏:‏ بزور الصحراء مما ليس بقوت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال وهيب‏)‏ أي‏:‏ ابن خالد ‏(‏حدثنا عمرو‏)‏ أي‏:‏ ابن يحيى المازني المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الحياة‏)‏ بالخفض على الحكاية، ومراده‏:‏ أن وهيبا وافق مالكا في روايته لهذا الحديث عن عمرو بن يحيى بسنده، وجزم بقوله‏:‏ ‏"‏ في نهر الحياة‏"‏ ولم يشك كما شك مالك‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ أخرج مسلم هذا الحديث من رواية مالك فأبهم الشاك، وقد يفسر هنا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال خردل من خير‏)‏ هو على الحكاية أيضا، أي‏:‏ وقال وهيب في روايته‏:‏ مثقال حبة من خردل من خير، فخالف مالكا أيضا في هذه الكلمة‏.‏

وقد ساق المؤلف حديث وهيب هذا في كتاب الرقاق عن موسى ابن إسماعيل عن وهيب، وسياقه أتم من سياق مالك، لكنه قال‏:‏ ‏"‏ من خردل من إيمان ‏"‏ كرواية مالك، فاعترض على المصنف بهذا، ولا اعتراض عليه، فإن أبا بكر بن أبي شيبة أخرج هذا الحديث في مسنده عن عفان بن مسلم عن وهيب فقال‏:‏ ‏"‏ من خردل من خير ‏"‏ كما علقه المصنف، فتبين أنه مراده لا لفظ موسى‏.‏

وقد أخرجه مسلم عن أبي بكر هذا، لكن لم يسق لفظه، ووجه مطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهر، وأراد بإيراده الرد على المرجئة لما فيه من بيان ضرر المعاصي مع الإيمان، وعلى المعتزلة في أن المعاصي موجبة للخلود‏.‏

الحديث‏:‏

-23- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏

‏"‏ بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ‏.‏

وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ‏.‏

قَالُوا‏:‏ فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏

قَالَ‏:‏ الدِّينَ‏.‏‏"‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد بن عبيد الله‏)‏ هو أبو ثابت المدني وأبوه بالتصغير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن صالح‏)‏ هو ابن كيسان تابعي جليل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي أمامة بن سهل‏)‏ هو ابن حنيف كما ثبت في رواية الأصيلي، وأبو أمامة مختلف في صحبته، ولم يصح له سماع، وإنما ذكر في الصحابة لشرف الرؤية، ومن حيث الرواية يكون في الإسناد ثلاثة من التابعين أو تابعيان وصحابيان، ‏(‏1/74‏)‏

ورجاله كلهم مدنيون كالذي قبله، والكلام على المتن يأتي في كتاب التعبير، ومطابقته للترجمة ظاهرة من جهة تأويل القمص بالدين، وقد ذكر أنهم متفاضلون في لبسها، فدل على أنهم متفاضلون في الإيمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بينا أنا نائم رأيت الناس‏)‏ أصل ‏"‏ بينا ‏"‏‏:‏ بين ثم أشبعت الفتحة‏.‏

وفيه استعمال بينا بدون إذا وبدون إذ، وهو فصيح عند الأصمعي ومن تبعه وإن كان الأكثر على خلافه، فإن في هذا الحديث حجة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ الثدي ‏"‏ بضم المثلثة وكسر الدال المهملة، وتشديد الياء التحتانية جمع ثدي بفتح أوله وإسكان ثانيه والتخفيف، وهو مذكر عند معظم أهل اللغة، وحكي أنه مؤنث، والمشهور أنه يطلق في الرجل والمرأة، وقيل‏:‏

يختص بالمرأة وهذا الحديث يرده، ولعل قائل هذا يدعي أنه أطلق في الحديث مجازا‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*16 باب الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب‏)‏ هو منون، ووجه كون الحياء من الإيمان تقدم مع بقية مباحثه في باب أمور الإيمان، وفائدة إعادته هنا‏:‏ أنه ذكر هناك بالتبعية وهنا بالقصد مع فائدة مغايرة الطريق‏.‏

الحديث‏:‏

-24- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ -وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ -

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏

‏"‏ دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ‏"‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الله بن يوسف‏)‏ هو التنيسي نزيل دمشق، ورجال الإسناد سواه من أهل المدينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا‏)‏ وللأصيلي حدثنا مالك، ولكريمة ابن أنس، والحديث في الموطأ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبيه‏)‏ هو عبد الله بن عمر بن الخطاب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مر على رجل‏)‏ لمسلم من طريق معمر ‏"‏ مر برجل ‏"‏ ومر بمعنى‏:‏ اجتاز يعدى بعلى وبالباء، ولم أعرف اسم هذين الرجلين الواعظ وأخيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ يعظ ‏"‏ أي‏:‏ ينصح أو يخوف أو يذكر، كذا شرحوه، والأولى أن يشرح بما جاء عند المصنف في الأدب من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة عن ابن شهاب ولفظه‏:‏ ‏"‏ يعاتب أخاه في الحياء ‏"‏ يقول‏:‏

إنك لتستحي، حتى كأنه يقول‏:‏ قد أضر بك‏.‏

انتهى‏.‏

ويحتمل أن يكون جمع له العتاب والوعظ فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، لكن المخرج متحد، فالظاهر أنه من تصرف الراوي بحسب ما اعتقد أن كل لفظ منهما يقوم مقام الآخر، و ‏"‏ في ‏"‏ سببية فكأن الرجل كان كثير الحياء فكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه، فعاتبه أخوه على ذلك، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏"‏ دعه ‏"‏ أي‏:‏ اتركه على هذا الخلق السني، ثم زاده في ذلك ترغيبا لحكمه بأنه من الإيمان، وإذا كان الحياء يمنع صاحبه من استيفاء حق نفسه جر له ذلك تحصيل أجر ذلك الحق، لا سيما إذا كان المتروك له مستحقا‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان، فسمي إيمانا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه‏.‏

وحاصله أن إطلاق كونه من الإيمان مجاز، والظاهر أن الناهي ما كان يعرف أن الحياء من مكملات الإيمان، فلهذا وقع التأكيد، وقد يكون التأكيد من جهة أن القضية في نفسها مما يهتم به وإن لم يكن هناك منكر‏.‏

قال الراغب‏:‏ الحياء‏:‏ انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي فلا يكون كالبهيمة‏.‏

وهو مركب من جبن وعفة فلذلك لا يكون المستحي فاسقا، وقلما يكون الشجاع مستحيا، وقد يكون لمطلق الانقباض كما في بعض الصبيان‏.‏

انتهى ملخصا‏.‏

وقال غيره‏:‏ هو انقباض النفس خشية ارتكاب ما يكره، أعم من أن يكون شرعيا أو عقليا أو عرفيا، ‏(‏1/75‏)‏

ومقابل الأول فاسق، والثاني مجنون، والثالث أبله‏.‏

قال‏:‏ وقوله -صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏"‏ الحياء شعبة من الإيمان‏"‏

أي‏:‏ أثر من آثار الإيمان‏.‏

وقال الحليمي‏:‏ حقيقة الحياء خوف الذم بنسبة الشر إليه‏.‏

وقال غيره‏:‏ إن كان في محرم فهو واجب، وإن كان في مكروه فهو مندوب، وإن كان في مباح فهو العرفي، وهو المراد بقوله‏:‏ ‏"‏ الحياء لا يأتي إلا بخير‏"‏‏.‏

ويجمع كل ذلك أن المباح إنما هو ما يقع على وفق الشرع إثباتا ونفيا، وحكي عن بعض السلف‏:‏ رأيت المعاصي مذلة، فتركتها مروءة، فصارت ديانة‏.‏

وقد يتولد الحياء من الله تعالى من التقلب في نعمه، فيستحي العاقل أن يستعين بها على معصيته، وقد قال بعض السلف‏:‏

خف الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قربه منك‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*17 باب ‏(‏فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ‏)

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب‏)‏ هو منون في الرواية، والتقدير‏:‏ هذا باب في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فإن تابوا‏)‏ ، وتجوز الإضافة أي‏:‏ باب تفسير قوله‏.‏

وإنما جعل الحديث تفسيرا للآية لأن المراد بالتوبة في الآية الرجوع عن الكفر إلى التوحيد، ففسره قوله -صلى الله عليه وسلم -‏:‏

‏"‏ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله‏"‏‏.‏

وبين الآية والحديث مناسبة أخرى، لأن التخلية في الآية والعصمة في الحديث بمعنى واحد، ومناسبة الحديث لأبواب الإيمان من جهة أخرى وهي الرد على المرجئة، حيث زعموا أن الإيمان لا يحتاج إلى الأعمال‏.‏

الحديث‏:‏

-25- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ الْحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ‏:‏

‏"‏ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ‏.‏

فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ‏.‏‏"‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الله بن محمد‏)‏ زاد ابن عساكر ‏"‏ المسندي ‏"‏ وهو بفتح النون كما مضى، قال‏:‏ حدثنا أبو روح هو بفتح الراء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الحرمي‏)‏ هو بفتح المهملتين، وللأصيلي حرمي، وهو اسم بلفظ النسب تثبت فيه الألف واللام وتحذف، مثل مكي بن إبراهيم الآتي بعد‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ أبو روح كنيته، واسمه ثابت والحرمي نسبته، كذا قال‏.‏

وهو خطأ من وجهين‏:‏

أحدهما في جعله اسمه نسبته، والثاني في جعله اسم جده اسمه، وذلك أنه حرمي بن عمارة بن أبي حفصة، واسم أبي حفصة نابت، وكأنه رأى في كلام بعضهم واسمه نابت فظن أن الضمير يعود على حرمي لأنه المتحدث عنه، وليس كذلك بل الضمير يعود على أبي حفصة لأنه الأقرب، وأكد ذلك عنده وروده في هذا السند ‏"‏ الحرمي ‏"‏ بالألف واللام وليس هو منسوبا إلى الحرم بحال، لأنه بصري الأصل والمولد والمنشأ والمسكن والوفاة‏.‏

ولم يضبط نابتا كعادته وكأنه ظنه بالمثلثة كالجادة، والصحيح أن أوله نون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن واقد بن محمد‏)‏ زاد الأصيلي‏:‏ يعني ابن زيد بن عبد الله بن عمر فهو من رواية الأبناء عن الأباء، وهو كثير لكن رواية الشخص عن أبيه عن جده أقل، وواقد هنا روى عن أبيه عن جد أبيه، وهذا الحديث غريب الإسناد تفرد بروايته شعبة عن واقد قاله ابن حبان، وهو عن شعبة عزيز تفرد بروايته عنه حرمي هذا وعبد الملك بن الصباح، وهو عزيز عن حرمي تفرد به عنه المسندي وإبراهيم بن محمد بن عرعرة، ومن جهة إبراهيم أخرجه أبو عوانة وابن حبان والإسماعيلي وغيرهم‏.‏ ‏(‏1/76‏)‏

وهو غريب عن عبد الملك تفرد به عنه أبو غسان مالك بن عبد الواحد شيخ مسلم، فاتفق الشيخان على الحكم بصحته مع غرابته، وليس هو في مسند أحمد على سعته‏.‏

وقد استبعد قوم صحته، بأن الحديث لو كان عند ابن عمر لما ترك أباه ينازع أبا بكر في قتال مانعي الزكاة، ولو كانوا يعرفونه لما كان أبو بكر يقر عمر على الاستدلال بقوله -عليه الصلاة والسلام -‏:‏

‏"‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله‏"‏، وينتقل عن الاستدلال بهذا النص إلى القياس إذ قال‏:‏ لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، لأنها قرينتها في كتاب الله‏.‏

والجواب‏:‏ أنه لا يلزم من كون الحديث المذكور عند ابن عمر أن يكون استحضره في تلك الحالة، ولو كان مستحضرا له فقد يحتمل أن لا يكون حضر المناظرة المذكورة، ولا يمتنع أن يكون ذكره لهما بعد، ولم يستدل أبو بكر في قتال مانعي الزكاة بالقياس فقط، بل أخذه أيضا من قوله -عليه الصلاة والسلام -في الحديث الذي رواه‏:‏ ‏"‏ إلا بحق الإسلام‏"‏، قال أبو بكر‏:‏ والزكاة حق الإسلام‏.‏

ولم ينفرد ابن عمر بالحديث المذكور‏.‏

بل رواه أبو هريرة أيضا بزيادة الصلاة والزكاة فيه، كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في كتاب الزكاة‏.‏

وفي القصة دليل على أن السنة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة، ويطلع عليها آحادهم، ولهذا لا يلتفت إلى الآراء ولو قويت مع وجود سنة تخالفها، ولا يقال‏:‏ كيف خفي ذا على فلان‏؟‏ والله الموفق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أمرت‏)‏ أي‏:‏ أمرني الله، لأنه لا آمر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -إلا الله، وقياسه في الصحابي إذا قال‏:‏ أمرت، فالمعنى‏:‏

أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر، لأنهم من حيث أنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعي احتمل‏.‏

والحاصل أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن أقاتل‏)‏ أي‏:‏ بأن أقاتل، وحذف الجار من ‏"‏ أن ‏"‏ كثير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يشهدوا‏)‏ جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر، فمقتضاه‏:‏

أن من شهد وأقام وآتى، عصم دمه ولو جحد باقي الأحكام‏.‏

والجواب‏:‏ أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به، مع أن نص الحديث وهو قوله‏:‏ ‏"‏ إلا بحق الإسلام ‏"‏ يدخل فيه جميع ذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلم لم يكتف به ونص على الصلاة والزكاة‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن ذلك لعظمهما والاهتمام بأمرهما، لأنهما أما العبادات البدنية والمالية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويقيموا الصلاة‏)‏ أي‏:‏ يداوموا على الإتيان بها بشروطها، من قامت السوق إذا نفقت، وقامت الحرب إذا اشتد القتال‏.‏

أو المراد بالقيام‏:‏ الأداء - تعبيرا عن الكل بالجزء - إذ القيام بعض أركانها‏.‏

والمراد بالصلاة‏:‏ المفروض منها، لا جنسها، فلا تدخل سجدة التلاوة مثلا وإن صدق اسم الصلاة عليها‏.‏

وقال الشيخ محيي الدين النووي‏:‏ في هذا الحديث، أن من ترك الصلاة عمدا يقتل‏.‏

ثم ذكر اختلاف المذاهب في ذلك‏.‏

وسئل الكرماني هنا عن حكم تارك الزكاة، وأجاب‏:‏

بأن حكمهما واحد لاشتراكهما في الغاية، وكأنه أراد في المقاتلة، أما في القتل فلا‏.‏

والفرق أن الممتنع من إيتاء الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهرا، بخلاف الصلاة، فإن انتهى إلى نصب القتال ليمنع الزكاة قوتل، وبهذه الصورة قاتل الصديق مانعي الزكاة، ولم ينقل أنه قتل أحدا منهم صبرا‏.‏

وعلى هذا ففي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظر، للفرق بين صيغة أقاتل وأقتل‏.‏

والله أعلم‏.‏

وقد أطنب ابن دقيق العيد في شرح العمدة في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك، وقال‏:‏ لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل، لأن المقاتلة مفاعلة تستلزم وقوع القتال من الجانبين، ولا كذلك القتل‏.‏

وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال‏:‏ ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا فعلوا ذلك‏)‏ فيه التعبير بالفعل عما بعضه قول، إما على سبيل التغليب، وإما على إرادة المعنى الأعم، إذ القول فعل اللسان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عصموا‏)‏ أي‏:‏ منعوا، ‏(‏1/77‏)‏

وأصل العصمة من العصام وهو الخيط الذي يشد به فم القربة ليمنع سيلان الماء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحسابهم على الله‏)‏ أي‏:‏ في أمر سرائرهم، ولفظة ‏"‏ على ‏"‏ مشعرة بالإيجاب، وظاهرها غير مراد، فإما أن تكون بمعنى اللام أو على سبيل التشبيه، أي‏:‏ هو كالواجب على الله في تحقق الوقوع‏.‏

وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر، والاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافا لمن أوجب تعلم الأدلة، وقد تقدم ما فيه‏.‏

ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع، وقبول توبة الكافر من كفره، من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن‏.‏

فإن قيل‏:‏ مقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فكيف ترك قتال مؤدي الجزية والمعاهد‏؟‏

فالجواب من أوجه، أحدها‏:‏ دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخرا عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى ‏(‏اقتلوا المشركين‏.‏ ‏(‏

ثانيها‏:‏ أن يكون من العام الذي خص منه البعض، لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب، فإذا تخلف البعض لدليل لم يقدح في العموم‏.‏

ثالثها‏:‏ أن يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس في

قوله‏:‏ ‏"‏ أقاتل الناس ‏"‏ أي‏:‏ المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ ‏"‏ أمرت أن أقاتل المشركين‏"‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ إذا تم هذا في أهل الجزية، لم يتم في المعاهدين، ولا فيمن منع الجزية‏!‏

أجيب‏:‏ بأن الممتنع في ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدة كما في الهدنة، ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية بدليل الآية‏.‏

رابعها‏:‏ أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها‏:‏ التعبير عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين، فيحصل في بعض بالقتل، وفي بعض بالجزية، وفي بعض بالمعاهدة‏.‏

خامسها‏:‏ أن يكون المراد بالقتال هو، أو ما يقوم مقامه، من جزية أو غيرها‏.‏

سادسها‏:‏ أن يقال‏:‏ الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، فكأنه قال‏:‏ حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام، وهذا أحسن، ويأتي فيه ما في الثالث وهو آخر الأجوبة، والله أعلم‏.‏

*3*18 باب مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏)

وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏)‏ ‏:‏ عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏(‏لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ‏)

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من قال‏)‏ هو مضاف حتما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن الإيمان هو العمل‏)‏ مطابقة الآيات والحديث لما ترجم له بالاستدلال بالمجموع على المجموع، لأن كل واحد منها دال بمفرده على بعض الدعوى، فقوله‏:‏ ‏(‏بما كنتم تعملون‏)‏ عام في الأعمال، وقد نقل جماعة من المفسرين أن قوله هنا‏:‏ ‏(‏تعملون‏)‏ معناه تؤمنون، فيكون خاصا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏عما كانوا يعملون‏)‏ خاص بعمل اللسان على ما نقل المؤلف‏.‏

و قوله‏:‏ ‏(‏فليعمل العاملون‏)‏ عام أيضا‏.‏

وقوله في الحديث‏:‏ ‏"‏ إيمان بالله ‏"‏ في جواب‏:‏ ‏"‏ أي العمل أفضل ‏"‏‏؟‏ دال على أن الاعتقاد والنطق من جملة الأعمال‏.‏

فإن قيل‏:‏ الحديث يدل على أن الجهاد والحج ليسا من الإيمان، لما تقتضيه ‏"‏ ثم ‏"‏ من المغايرة والترتيب‏.‏

فالجواب‏:‏ أن المراد بالإيمان هنا التصديق، هذه حقيقته، والإيمان كما تقدم يطلق على الأعمال البدنية لأنها من مكملاته‏.‏ ‏(‏1/78‏)‏

قوله‏:‏ ‏(‏أورثتموها‏)‏ أي‏:‏ صيرت لكم إرثا‏.‏

وأطلق الإرث مجازا عن الإعطاء لتحقق الاستحقاق‏.‏

و ‏"‏ ما ‏"‏ في قوله‏:‏ ‏"‏ بما ‏"‏ إما مصدرية أي‏:‏ بعملكم، وإما موصولة

أي‏:‏ بالذي كنتم تعملون‏.‏

والباء للملابسة أو للمقابلة‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف الجمع بين هذه الآية وحديث‏:‏ ‏"‏ لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ‏"‏‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن المنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عن القبول، والمثبت في الآية دخولها بالعمل المتقبل، والقبول إنما يحصل برحمة الله، فلم يحصل الدخول إلا برحمة الله‏.‏

وقيل في الجواب غير ذلك كما سيأتي عند إيراد الحديث المذكور‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏‏:‏ اختلف الجواب عن هذا السؤال، وأجيب‏:‏

بأن لفظ ‏"‏ من ‏"‏ مراد في كل منهما، وقيل‏:‏ وقع باختلاف الأحوال والأشخاص فأجيب كل سائل بالحال اللائق به، وهذا اختيار الحليمي ونقله عن القفال‏.‏

قوله ‏(‏وقال عدة‏)‏ أي‏:‏ جماعة من أهل العلم، منهم أنس بن مالك روينا حديثه مرفوعا في الترمذي وغيره وفي إسناده ضعف‏.‏

ومنهم ابن عمر روينا حديثه في التفسير للطبري، والدعاء للطبراني‏.‏

ومنهم مجاهد رويناه عنه في تفسير عبد الرزاق وغيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لنسألنهم الخ‏)‏ قال النووي‏:‏ معناه عن أعمالهم كلها، أي‏:‏ التي يتعلق بها التكليف، وتخصيص ذلك بالتوحيد دعوى بلا دليل‏.‏

قلت‏:‏ لتخصيصهم وجه من جهة التعميم في قوله‏:‏ ‏(‏أجمعين‏)‏ بعد أن تقدم ذكر الكفار إلى قوله‏:‏ ‏(‏ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين‏)‏ فيدخل فيه المسلم والكافر، فإن الكافر مخاطب بالتوحيد بلا خلاف، بخلاف باقي الأعمال ففيها الخلاف، فمن قال إنهم مخاطبون يقول‏:‏

إنهم مسؤولون عن الأعمال كلها، ومن قال إنهم غير مخاطبين يقول‏:‏ إنما يسألون عن التوحيد فقط، فالسؤال عن التوحيد متفق عليه‏.‏

فهذا هو دليل التخصيص، فحمل الآية عليه أولى، بخلاف الحمل على جميع الأعمال لما فيه من الاختلاف‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال‏)‏ أي‏:‏ الله عز وجل ‏(‏لمثل هذا‏)‏ أي‏:‏ الفوز العظيم ‏(‏فليعمل العاملون‏)‏ أي‏:‏ في الدنيا‏.‏

والظاهر أن المصنف تأولها بما تأول به الآيتين المتقدمتين، أي‏:‏ فليؤمن المؤمنون، أو يحمل العمل على عمومه لأن من آمن لا بد أن يقبل، ومن قبل فمن حقه أن يعمل، ومن عمل لا بد أن ينال، فإذا وصل قال‏:‏ لمثل هذا فليعمل العاملون‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ يحتمل أن يكون قائل ذلك المؤمن الذي رأى قرينه، ويحتمل أن يكون كلامه انقضى عند قوله‏:‏ ‏(‏الفوز العظيم‏)‏ والذي بعده ابتداء من قول الله عز وجل أو بعض الملائكة، لا حكاية عن قول المؤمن‏.‏

والاحتمالات الثلاثة مذكورة في التفسير‏.‏

ولعل هذا هو السر في إبهام المصنف القائل، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

-26- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا‏:‏ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ‏"‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -سُئِلَ‏:‏ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ‏؟‏

فَقَالَ‏:‏ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏.‏

قِيلَ‏:‏ ثُمَّ مَاذَا‏؟‏

قَالَ‏:‏ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏

قِيلَ‏:‏ ثُمَّ مَاذَا‏؟‏

قَالَ‏:‏ حَجٌّ مَبْرُورٌ‏.‏‏"‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أحمد بن يونس‏)‏ هو أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي الكوفي، نسب إلى جده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سئل‏)‏ أبهم السائل، وهو أبو ذر الغفاري، وحديثه في العتق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قيل ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ الجهاد‏)‏ وقع في مسند الحارث أبي أسامة عن إبراهيم ابن سعد ‏"‏ ثم جهاد ‏"‏ فواخى بين الثلاثة في التنكير، بخلاف ما عند المصنف‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ الإيمان لا يتكرر كالحج، والجهاد قد يتكرر، فالتنوين للإفراد الشخصي، والتعريف للكمال‏.‏

إذ الجهاد لو أتى به مرة مع الاحتياج إلى التكرار لما كان أفضل‏.‏

وتعقب عليه بأن التنكير من جملة وجوهه التعظيم، وهو يعطي الكمال‏.‏

وبأن التعريف من جملة وجوهه العهد، وهو يعطي الإفراد الشخصي، فلا يسلم الفرق‏.‏

قلت‏:‏ وقد ظهر من رواية الحارث التي ذكرتها أن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة، لأن مخرجه واحد، فالإطالة في طلب الفرق في مثل هذا غير طائلة، والله الموفق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حج مبرور‏)‏ أي‏:‏ مقبول ومنه بر حجك، وقيل‏:‏ المبرور الذي لا يخالطه إثم، وقيل‏:‏ الذي لا رياء فيه‏.‏ ‏(‏1/79‏)‏‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ قال النووي‏:‏ ذكر في هذا الحديث الجهاد بعد الإيمان، وفي حديث أبي ذر لم يذكر الحج وذكر العتق، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم البر ثم الجهاد، وفي الحديث المتقدم ذكر السلامة من اليد واللسان‏.‏

قال العلماء‏:‏ اختلاف الأجوبة في ذلك باختلاف الأحوال، واحتياج المخاطبين، وذكر ما لم يعلمه السائل والسامعون وترك ما علموه، ويمكن أن يقال‏:‏ إن لفظة ‏"‏ من ‏"‏ مرادة كما يقال‏:‏ فلان أعقل الناس، والمراد من أعقلهم، ومنه حديث‏:‏ ‏"‏ خيركم خيركم لأهله ‏"‏ ومن المعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس، فإن قيل‏:‏ لم قدم الجهاد وليس بركن على الحج

وهو ركن‏؟‏

فالجواب‏:‏ إن نفع الحج قاصر غالبا، ونفع الجهاد متعد غالبا، أو كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين - ووقوعه فرض عين إذ ذاك متكرر - فكان أهم منه فقدم، والله أعلم‏.‏