فصل: باب مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيِّتٍ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم‏)‏‏)‏ أورد فيه حديث ابن عباس الآتي في تفسير سورة النساء بسنده ومتنه، وسيأتي الكلام عليه هناك، والمقصود منه هنا الإشارة إلى أن الكفالة التزام مال بغير عوض تطوعا، فيلزم كما لزم استحقاق الميراث بالحلف الذي عقد على وجه التطوع، وروى أبو داود في الناسخ من طريق يزيد النحوي عن عكرمة في هذه الآية‏:‏ كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما الآخر، فنسخ ذلك قوله تعالى ‏(‏وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏)‏ ثم أورد المصنف حديث أنس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع ‏"‏ وهو مختصر من حديث طويل تقدم في البيوع، وغرضه إثبات الحلف في الإسلام، ثم أورد حديث أنس أيضا في إثبات الحلف في الإسلام‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ قَدْ حَالَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عاصم‏)‏ هو ابن سليمان المعروف بالأحول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت لأنس بن مالك أبلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا حلف في الإسلام‏؟‏‏)‏ الحلف بكسر المهملة وسكون اللام بعدها فاء‏:‏ العهد‏.‏

والمعنى أنهم لا يتعاهدون في الإسلام على الأشياء التي كانوا يتعاهدون عليها في الجاهلية كما سأذكره، وكأن عاصما يشير بذلك إلى ما رواه سعد بن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جبير بن مطعم مرفوعا ‏"‏ لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ‏"‏ أخرجه مسلم، ولهذا الحديث طرق منها عن أم سلمة مثله أخرجه عمر ابن شبة في ‏"‏ كتاب مكة ‏"‏ عن أبيه وعن عمرو بن شعيب عن جده قال ‏"‏ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على درج الكعبة فقال‏:‏ أيها الناس ‏"‏ فذكر نحوه أخرجه عمر بن شبة، وأصله في السنن‏.‏

وعن قيس بن عاصم أنه ‏"‏ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف فقال‏:‏ لا حلف في الإسلام، ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية ‏"‏ أخرجه أحمد وعمر بن شبة واللفظ له‏.‏

ومنها عن ابن عباس رفعه ‏"‏ ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة وحدة ‏"‏ أخرجه عمر بن شبة واللفظ له وأحمد وصححه ابن حبان‏.‏

ومن مرسل عدي بن ثابت قال ‏"‏ أرادت الأوس أن تحالف سلمان ‏"‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل حديث قيس بن عاصم أخرجه عمر بن شبة‏.‏

ومن مرسل الشعبي رفعه ‏"‏ لا حلف في الإسلام، وحلف الجاهلية مشدود ‏"‏ وذكر عمر بن شبة أن أول حلف كان بمكة حلف الأحابيش أن امرأة من بني مخزوم شكت لرجل من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة تسلط بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عليهم، فأتى قومه فقال لهم‏:‏ ذلت قريش لبني بكر فانصروا إخوانكم، فركبوا إلى بني المصطلق من خزاعة، فسمعت بهم بنو الهون ابن خزيمة بن مدركة فاجتمعوا بذنب حبش - بفتح المهملة وسكون الموحدة بعدها معجمة - وهو جبل بأسفل مكة، فتحالفوا‏:‏ إنا ليد على غيرنا مارسي حبش مكانه، وكان هذا مبدأ الأحابيش‏.‏

وعند عمر ابن شبة من مرسل عروة بن الزبير مثله، ثم دخلت فيهم القارة‏.‏

قال عبد العزيز بن عمر‏:‏ إنما سموا الأحابيش لتحالفهم عند حبش، ثم أسند عن عائشة أنه على عشرة أميال من مكة‏.‏

ومن طريق حماد الراوية سموا لتحبشهم أي تجمعهم، قال عمر بن شبة‏:‏ ثم كان حلف قريش وثقيف ودوس، وذلك أن قريشا رغبت في وج وهو من الطائف لما فيه من الشجر والزرع، فخافتهم ثقيف فحالفتهم وأدخلت معهم بني دوس وكانوا إخوانهم وجيرانهم‏.‏

ثم كان حلف المطيبين وأزد‏.‏

وأسند من طريق أبي سلمة رفعه ‏"‏ ما شهدت من حلف إلا حلف المطيبين، وما أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم ‏"‏ ومن مرسل طلحة بن عوف نحوه وزاد ‏"‏ ولو دعيت به اليوم في الإسلام لأجبت ‏"‏ ومن حديث عبد الرحمن بن عوف رفعه ‏"‏ شهدت وأنا غلام حلفا مع عمومتي المطيبين، فما أحب أن لي حمر النعم وأني نكثته‏"‏‏.‏

قال وحلف الفضول - وهم فضل وفضالة ومفضل - تحالفوا‏.‏

فلما وقع حلف المطيبين بين هاشم والمطلب وأسد وزهرة قالوا حلف كحلف الفضول، وكان حلفهم أن لا يعين ظالم مظلوما بمكة، وذكروا في سبب ذلك أشياء مختلفة محصلها أن القادم من أهل البلاد كان يقدم مكة فربما ظلمه بعض أهلها فيشكوه إلى من بها من القبائل فلا يفيد، فاجتمع بعض من كان يكره الظلم ويستقبحه إلى أن عقدوا الحلف، وظهر الإسلام وهم على ذلك، وسيأتي بيان ما وقع في الإسلام من ذلك في أوائل مناقب الأنصار وفي أوائل الهجرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ قال الطبري ما استدل به أنس على إثبات الحلف لا ينافي حديث جبير بن مطعم في نفيه، فإن الإخاء المذكور كان في أول الهجرة وكانوا يتوارثون به، ثم نسخ من ذلك الميراث وبقي ما لم يبطله القرآن وهو التعاون على الحق والنصر والأخذ على يد الظالم كما قال ابن عباس‏:‏ إلا النصر والنصيحة والرفادة ويوصى له، وقد ذهب الميراث‏.‏

قلت‏:‏ وعرف بذلك وجه إيراد حديثي أنس مع حديث ابن عباس والله أعلم‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ قال ابن عيينة حالف بينهم أي آخى بينهم، يريد أن معنى الحلف في الجاهلية معنى الأخوة في الإسلام، لكنه في الإسلام جار على أحكام الدين وحدوده، وحلف الجاهلية جرى على ما كانوا يتواضعونه بينهم بآرائهم، فبطل منه ما خالف حكم الإسلام وبقي ما عدا ذلك على حاله‏.‏

واختلف الصحابة في الحد الفاصل بين الحلف الواقع في الجاهلية والإسلام، فقال ابن عباس‏:‏ ما كان قبل نزول الآية المذكورة جاهلي وما بعدها إسلامي‏.‏

وعن علي ما كان قبل نزول ‏(‏لإيلاف قريش‏)‏ جاهلي‏.‏

وعن عثمان‏:‏ كل حلف كان قبل الهجرة جاهلي، وما بعدها إسلامي‏.‏

وعن عمر‏:‏ كل حلف كان قبل الحديبية فهو مشدود وكل حلف بعدها منقوض، أخرج كل ذلك عمر بن شبة عن أبي غسان محمد بن يحيى بأسانيده إليهم، وأظن قول عمر أقواها، ويمكن الجمع بأن المذكورات في رواية غيره مما يدل على تأكد حلف الجاهلية، والذي في حديث عمر ما يدل على نسخ ذلك‏.‏

*3*باب مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيِّتٍ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع، وبه قال الحسن‏)‏ يحتمل قوله ‏"‏ فليس له أن يرجع ‏"‏ أي عن الكفالة بل هي لازمة له، وقد استقر الحق في ذمته‏.‏

ويحتمل أن يريد فليس له أن يرجع في التركة بالقدر الذي تكفل به، والأول أليق بمقصوده‏.‏

ثم أورد فيه حديث سلمة بن الأكوع المتقدم قبل بابين، وقد سبق القول فيه‏.‏

ووجه الأخذ منه أنه لو كان لأبي قتادة أن يرجع لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على المديان حتى يوفي أبو قتادة الدين لاحتمال أن يرجع فيكون قد صلى على مديان دينه باق عليه، فدل على أنه ليس له أن يرجع‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ اقتصر في هذه الطرق على ذكر اثنين من الأموات الثلاثة، وقد تقدم في تلك الطريق تاما، وقد ساقه الإسماعيلي هنا تاما وساق في قصته المحذوف أنه عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏ ثلاث كيات ‏"‏ وكأنه ذكر ذلك لكونه كان من أهل الصفة فلم يعجبه أن يدخر شيئا، واستدل به على جواز ضمان ما على الميت من دين ولم يترك وفاء وهو قول الجمهور خلافا لأبي حنيفة، وقد بالغ الطحاوي في نصرة قول الجمهور ثم أورد فيه حديث جابر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا فَلَمْ يَجِئْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ فَنَادَى مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا فَحَثَى لِي حَثْيَةً فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ خَمْسُ مِائَةٍ وَقَالَ خُذْ مِثْلَيْهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عمرو‏)‏ هو ابن دينار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سمع محمد بن علي‏)‏ أي ابن الحسين بن علي، وقد سمع عمرو بن دينار من جابر الكثير وربما أدخل بينه وبينه واسطة، ولسفيان في هذا الحديث إسناد آخر سيأتي بيانه في فرض الخمس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لو قد جاء مال البحرين‏)‏ هو مال الجزية كما سيأتي بيانه في المغازي، وكان عامل النبي صلى الله عليه وسلم على البحرين العلاء بن الحضرمي كما سيأتي في ‏"‏ باب إنجاز الوعد ‏"‏ من كتاب الشهادات في حديث جابر هذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قد أعطيتك هكذا وهكذا‏)‏ في الطريق التي في الشهادات ‏"‏ هكذا وهكذا وهكذا فبسط يديه ثلاث مرات ‏"‏ وبهذا تظهر مناسبة قوله في آخر حديث الباب ‏"‏ فعددتها فإذا هي خمسمائة فقال‏:‏ خذ مثليها ‏"‏ وعرف بقوله فيه ‏"‏ فحثى لي حثية ‏"‏ تفسير قوله ‏"‏ خذ هكذا ‏"‏ كأنه أشار بيديه جميعا، وسيأتي بسط شرحه في كتاب فرض الخمس إن شاء الله تعالى‏.‏

ووجه دخوله في الترجمة أن أبا بكر لما قام مقام النبي صلى الله عليه وسلم تكفل بما كان عليه من واجب أو تطوع، فلما التزم ذلك لزمه أن يوفي جميع ما عليه من دين أو عدة، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الوفاء بالوعد فنفذ أبو بكر ذلك‏.‏

وقد عد بعض الشافعية من خصائصه صلى الله عليه وسلم وجوب الوفاء بالوعد أخذا من هذا الحديث، ولا دلالة في سياقه على الخصوصية ولا على الوجوب‏.‏

وفيه قبول خبر الواحد العدل من الصحابة ولو جر ذلك نفعا لنفسه، لأن أبا بكر لم يلتمس من جابر شاهدا على صحة دعواه، ويحتمل أن يكون أبو بكر علم بذلك فقضى له بعلمه فيستدل به على جواز مثل ذلك للحاكم‏.‏

*3*باب جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَقْدِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب جوار أبي بكر‏)‏ الصديق تكسر الجيم وتضم، والمراد به الذمام والأمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده‏)‏ أورد فيه حديث عائشة في شأن الهجرة مطولا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ فَأَعْبُدَ رَبِّي قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ إِنَّ مِثْلَكَ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ فَإِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ وَأَنَا لَكَ جَارٌ فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلَادِكَ فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلَا يُخْرَجُ أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلْيُصَلِّ وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ

وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَأَعْلَنَ الصَّلَاةَ وَالْقِرَاءَةَ وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا فَأْتِهِ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ قَالَ نَعَمْ فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخبرني عروة‏)‏ فيه محذوف تقديره أخبرني فلان بكذا وأخبرني عروة بكذا، والغرض من هذا الحديث هنا رضا أبي بكر بجوار ابن الدغنة، وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم له على ذلك‏.‏

ووجه دخوله في الكفالة أنه لائق بكفالة الأبدان، لأن الذي أجاره كأنه تكفل بنفس المجار أن لا يضام قاله ابن المنير‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ ساق البخاري الحديث هنا على لفظ يونس عن الزهري، وساقه في الهجرة على لفظ عقيل، وسأبين ما بينهما من التفاوت هناك، وذكر فيه الاختلاف في اسم ابن الدغنة وضبطه وضبط برك الغماد إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو صالح حدثني عبد الله عن يونس‏)‏ هذا التعليق سقط من رواية أبي ذر، وساق الحديث عن عقيل وحده‏.‏

وأبو صالح هذا اتفق أبو نعيم والأصيلي والجياني وغيرهم أنه سليمان بن صالح المروزي ولقبه سلمويه وشيخه عبد الله هو ابن المبارك، وبذلك جزم الأصيلي‏.‏

وجزم الإسماعيلي بأنه أبو صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخه عبد الله على هذا هو ابن وهب‏.‏

وزعم الدمياطي أنه أبو صالح محبوب بن موسى الفراء الأنطاكي ولم يذكر لذلك مستندا، ولم يسبقه أحد إلى عد محبوب بن موسى في شيوخ البخاري، والمعتمد هو الأول فقد وقع في رواية ابن السكن عن الفربري عن البخاري قال ‏"‏ قال أبو صالح سلمويه حدثنا عبد الله بن المبارك‏"‏‏.‏

‏(‏خاتمة‏)‏ ‏:‏ اشتمل كتاب الحوالة وما معه من الكفالة على اثني عشر حديثا المعلق منها طريقان والبقية موصولة المكرر منه فيه وفيما مضى ستة أحاديث، والستة الأخرى خالصة، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث سلمة بن الأكوع في الصلاة على من عليه دين، وحديث ابن عباس في الميراث‏.‏

وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ثمانية آثار‏.‏

والله المستعان‏.‏