فصل: باب كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِذَا شَغَلَهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الْخِتَانِ بَعْدَ الْكِبَرِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الختان بعد الكبر‏)‏ بكسر الكاف وفتح الموحدة‏.‏

قال الكرماني‏:‏ وجه مناسبة هذه الترجمة بكتاب الاستئذان أن الختان يستدعي الاجتماع في المنازل غالبا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْفِطْرَةُ خَمْسٌ الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏الفطرة خمس‏)‏ تقدم شرحه في أواخر كتاب اللباس، وكذلك حكم الختان‏.‏

واستدل ابن بطال على عدم وجوبه بأن سلمان لما أسلم لم يؤمر بالاختتان، وتعقب باحتمال أن يكون ترك لعذر أو لأن قصته كانت قبل إيجاب الختان أو لأنه كان مختتنا‏.‏

ثم لا يلزم من عدم النقل عدم الوقوع، وقد ثبت الأمر لغيره بذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ مُخَفَّفَةً قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَقَالَ بِالْقَدُّومِ وَهُوَ مَوْضِعٌ مُشَدَّدٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏اختتن إبراهيم عليه السلام بعد ثمانين سنة‏)‏ تقدم بيان ذلك والاختلاف في سنة حين اختتن وبيان قدر عمره في شرح الحديث المذكور في ترجمة إبراهيم عليه السلام، وذكرت هناك أنه وقع في الموطأ من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة موقوفا على أبي هريرة أن إبراهيم أول من اختتن وهو ابن عشرين ومائة، واختتن بالقدوم، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، ورويناه في ‏"‏ فوائد ابن السماك ‏"‏ من طريق أبي أويس عن أبي الزناد بهذا السند مرفوعا، وأبو أويس فيه لين، وأكثر الروايات على ما وقع في حديث الباب أنه عليه السلام اختتن وهو ابن ثمانين سنة، وقد حاول الكمال بن طلحة في جزء له في الختان الجمع بين الروايتين فقال‏:‏ نقل في الحديث الصحيح أنه اختتن لثمانين‏.‏

وفي رواية أخرى صحيحة أنه اختتن لمائة وعشرين، والجمع بينهما أن إبراهيم عاش مائتي سنة منها ثمانين سنة غير مختون ومنها مائة وعشرين وهو مختون، فمعنى الحديث الأول اختتن لثمانين مضت من عمره، والثاني لمائة وعشرين بقيت من عمره‏.‏

وتعقبه الكمال بن العديم في جزء سماه ‏"‏ الملحة في الرد على ابن طلحة ‏"‏ بأن في كلامه وهما من أوجه‏:‏ أحدها تصحيحه لرواية مائة وعشرين وليست بصحيحة، ثم أوردها من رواية الوليد عن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعة وتعقبه بتدليس الوليد، ثم أورده من ‏"‏ فوائد ابن المقري ‏"‏ من رواية جعفر بن عون عن يحيى بن سعيد به موقوفا، ومن رواية علي بن مسهر وعكرمة بن إبراهيم كلاهما عن يحيى بن سعيد كذلك‏.‏

ثانيها قوله في كل منهما لثمانين لمائة وعشرين، ولم يرد في طريق من الطرق باللام وإنما ورد بلفظ اختتن وهو ابن ثمانين وفي الأخرى وهو ابن مائة وعشرين، وورد الأول أيضا بلفظ ‏"‏ على رأس ثمانين ‏"‏ ونحو ذلك‏.‏

ثالثها أنه صرح في أكثر الروايات أنه عاش بعد ذلك ثمانين سنة، فلا يوافق الجمع المذكور أن المائة وعشرين هي التي بقيت من عمره‏.‏

ورابعها أن العرب لا تزال تقول خلون إلى النصف فإذا تجاوزت النصف قالوا بقين، والذي جمع به ابن طلحة يقع بالعكس، ويلزم أن يقول فيما إذا مضى من الشهر عشرة أيام لعشرين بقين وهذا لا يعرف في استعمالهم‏.‏

ثم ذكر الاختلاف في سن إبراهيم وجزم بأنه لا يثبت منها شيء‏.‏

منها قول هشام بن الكلبي عن أبيه قال‏:‏ دعا إبراهيم الناس إلى الحج ثم رجع إلى الشام فمات به وهو ابن مائتي سنة‏.‏

وذكر أبو حذيفة البخاري أحد الضعفاء في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ بسند له ضعيف أن إبراهيم عاش مائة وخمسا وسبعين سنة‏.‏

وأخرج ابن أبي الدنيا من مرسل عبيد بن عمير في وفاة إبراهيم وقصته مع ملك الموت ودخوله عليه في صورة شيخ فأضافه، فجعل يضع اللقمة في فيه فتتناثر ولا تثبت في فيه، فقال له‏:‏ كم أتى عليك‏؟‏ قال‏:‏ مائة وإحدى وستون سنة‏.‏

فقال إبراهيم في نفسه وهو يومئذ ابن ستين ومائة‏:‏ ما بقي أن أصير هكذا إلا سنة واحدة فكره الحياة، فقبض ملك الموت حينئذ روحه برضاه‏.‏

فهذه ثلاثة أقوال مختلفة يتعسر الجمع بينها، لكن أرجحها الرواية الثالثة‏.‏

وخطر لي بعد أنه يجوز الجمع بأن يكون المراد بقوله ‏"‏ وهو ابن ثمانين ‏"‏ أنه من وقت فارق قومه وهاجر من العراق إلى الشام، وأن الرواية الأخرى ‏"‏ وهو ابن مائة وعشرين ‏"‏ أي من مولده، أو أن بعض الرواة رأى مائة وعشرين فظنها إلا عشرين أو بالعكس، والله أعلم‏.‏

قال المهلب‏:‏ ليس اختتان إبراهيم عليه السلام بعد ثمانين مما يوجب علينا مثل فعله، إذ عامة من يموت من الناس لا يبلغ الثمانين، وإنما اختتن وقت أوحى الله إليه بذلك وأمره به، قال‏:‏ والنظر يقتضي أنه لا ينبغي الاختتان إلا قرب وقت الحاجة إليه لاستعمال العضو في الجماع، كما وقع لابن عباس حيث قال ‏"‏ كانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك ‏"‏ ثم قال‏:‏ والاختتان في الصغر لتسهيل الأمر على الصغير لضعف عضوه وقلة فهمه‏.‏

قلت‏:‏ يستدل بقصة إبراهيم عليه السلام لمشروعية الختان حتى لو أخر لمانع حتى بلغ السن المذكور لم يسقط طلبه، وإلى ذلك أشار البخاري بالترجمة، وليس المراد أن الختان يشرع تأخيره إلى الكبر حتى يحتاج إلى الاعتذار عنه‏.‏

وأما التعليل الذي ذكره من طريق النظر ففيه نظر، فإن حكمة الختان لم تنحصر في تكميل ما يتعلق بالجماع بل ولما يخشى من انحباس بقية البول في الغرلة ولا سيما للمستجمر فلا يؤمن أن يسيل فينجس الثوب أو البدن، فكانت المبادرة لقطعها عند بلوغ السن الذي يؤمر به الصبي بالصلاة أليق الأوقات، وقد بينت الاختلاف في الوقت الذي يشرع فيه فيما مضى‏.‏

قوله ‏(‏واختتن بالقدوم مخففة‏)‏ ثم أشار إليه من طريق أخرى مشددة وزاد ‏"‏ وهو موضع ‏"‏ وقد قدمت بيانه في شرح الحديث المذكور في ترجمة إبراهيم عليه السلام من أحاديث الأنبياء، وأشرت إليه أيضا في أثناء اللباس‏.‏

وقال المهلب‏:‏ القدوم بالتخفيف الآلة كقول الشاعر على خطوب مثل نحت القدوم وبالتشديد الموضع، قال‏:‏ وقد يتفق لإبراهيم عليه السلام الأمران يعني أنه اختتن بالآلة وفي الموضع‏.‏

قلت‏:‏ وقد قدمت الراجح من ذلك هناك، وفي المتفق للجوزقي بسند صحيح عن عبد الرزاق قال‏:‏ القدوم القرية‏.‏

وأخرج أبو العباس السراج في تاريخه عن عبيد الله بن سعيد عن يحيى بن سعيد عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ اختتن إبراهيم بالقدوم ‏"‏ فقلت ليحيى‏:‏ ما القدوم‏؟‏ قال الفأس‏.‏

قال الكمال بن العديم في الكتاب المذكور‏.‏

الأكثر على أن القدوم الذي اختتن به إبراهيم هو الآلة، يقال بالتشديد والتخفيف والأفصح التخفيف، ووقع في روايتي البخاري بالوجهين، وجزم النضر بن شميل أنه اختتن بالآلة المذكورة، فقيل له‏:‏ يقولون قدوم قرية بالشام، فلم يعرفه وثبت على الأول‏.‏

وفي صحاح الجوهري‏:‏ القدوم الآلة والموضع بالتخفيف معا‏.‏

وأنكر ابن السكيت التشديد مطلقا‏.‏

ووقع في متفق البلدان للحازمي‏:‏ قدوم قرية كانت عند حلب وكانت مجلس إبراهيم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلُ مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَنَا يَوْمَئِذٍ مَخْتُونٌ قَالَ وَكَانُوا لَا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا خَتِينٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا محمد بن عبد الرحيم‏)‏ هو البغدادي المعروف بصاعقة، وشيخه عباد بن موسى هو الختلي بضم المعجمة وتشديد المثناة الفوقانية وفتحها بعدها لام من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد درجة بالنسبة لإسماعيل بن جعفر فإنه أخرج الكثير عن إسماعيل بن جعفر بواسطة واحدة كقتيبة وعلي بن حجر، ونزل فيه درجتين بالنسبة لإسرائيل فإنه أخرج عنه بواسطة واحدة كعبد الله بن موسى ومحمد بن سابق‏.‏

قوله ‏(‏أنا مختون‏)‏ أي وقع له الختان، يقال صبي مختون ومختتن وختين بمعنى‏.‏

قوله ‏(‏وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك‏)‏ أي حتى يبلغ الحلم، قال الإسماعيلي‏:‏ لا أدري من القائل ‏"‏ وكانوا يختنون ‏"‏ أهو أبو إسحاق أو إسرائيل أو من دونه، وقد قال أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ‏"‏ قبض النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر ‏"‏ وقال الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ‏"‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وأنا قد ناهزت الاحتلام ‏"‏ قال‏:‏ والأحاديث عن ابن عباس في هذا مضطربة‏.‏

قلت‏:‏ وفي كلامه نظر، أما أولا فلأن الأصل أن الذي يثبت في الحديث معطوفا على ما قبله فهو مضاف إلى من نقل عنه الكلام السابق حتى يثبت أنه من كلام غيره‏.‏

ولا يثبت الإدراج بالاحتمال‏.‏

وأما ثانيا فدعوى الاضطراب مردودة مع إمكان الجمع أو الترجيح، فإن المحفوظ الصحيح أنه ولد بالشعب وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين فيكون له عند الوفاة النبوية ثلاث عشرة سنة، وبذلك قطع أهل السير وصححه ابن عبد البر وأورد بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال ‏"‏ ولدت وبنو هاشم في الشعب ‏"‏ وهذا لا ينافي قوله ‏"‏ ناهزت الاحتلام ‏"‏ أي قاربته ولا قوله ‏"‏ وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك ‏"‏ لاحتمال أن يكون أدرك فختن قبل الوفاة النبوية وبعد حجة الوداع، وأما قوله ‏"‏ وأنا ابن عشر ‏"‏ فمحمول على إلغاء الكسر، وروى أحمد من طريق أخرى عن ابن عباس أنه كان حينئذ ابن خمس عشرة، ويمكن رده إلى رواية ثلاث عشرة بأن يكون ابن ثلاث عشرة وشيء وولد في أثناء السنة فجبر الكسرين بأن يكون ولد مثلا في شوال فله من السنة الأولى ثلاثة أشهر فأطلق عليها سنة وقبض النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع فله من السنة الأخيرة ثلاثة أخرى وأكمل بينهما ثلاث عشرة، فمن قال ثلاث عشرة ألغى الكسرين ومن قال خمس عشرة جبرهما والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏وقال ابن إدريس‏)‏ هو عبد الله وأبوه هو ابن يزيد الأودي، وشيخه أبو إسحاق هو السبيعي‏.‏

قوله ‏(‏قبض النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ختين‏)‏ أي مختون كقتيل ومقتول، وهذا الطريق وصله الإسماعيلي من طريق عبد الله بن إدريس‏.‏

*3*باب كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِذَا شَغَلَهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ

وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب كل لهو باطل إذا شغله‏)‏ أي شغل اللاهي به ‏(‏عن طاعة الله‏)‏ أي كمن النهي بشيء من الأشياء مطلقا سواء كان مأذونا في فعله أو منهيا عنه كمن اشتغل بصلاة نافلة أو بتلاوة أو ذكر أو تفكر في معاني القرآن مثلا حتى خرج وقت الصلاة المفروضة عمدا فإنه يدخل تحت هذا الضابط، وإذا كان هذا في الأشياء المرغب فيها المطلوب فعلها فكيف حال ما دونها، وأول هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن خزيمة والحاكم من حديث عقبة بن عامر رفعه ‏"‏ كل ما يلهو به المرء المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله ‏"‏ الحديث‏.‏

وكأنه لما لم يكن على شرط المصنف استعمله لفظ ترجمة، واستنبط من المعنى ما قيد به الحكم المذكور‏.‏

وإنما أطلق على الرمي أنه لهو لإمالة الرغبات إلى تعليمه لما فيه من صورة اللهو لكن المقصود من تعلمه الإعانة على الجهاد، وتأديب الفرس إشارة إلى المسابقة عليها، وملاعبة الأهل للتأنيس ونحوه، وإنما أطلق على ما عداها البطلان من طريق المقابلة لا أن جميعها من الباطل المحرم‏.‏

قوله ‏(‏ومن قال لصاحبه تعال أقامرك‏)‏ أي ما يكون حكمه‏.‏

قوله ‏(‏وقوله تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث الآية‏)‏ كذا في رواية أبي ذر والأكثر؛ وفي رواية الأصيلي وكريمة ‏(‏ليضل عن سبيل الله‏)‏ الآية‏.‏

وذكر ابن بطال أن البخاري استنبط تقييد اللهو في الترجمة من مفهوم قوله تعالى ‏(‏ليضل عن سبيل الله‏)‏ فإن مفهومه أنه إذا اشتراه لا ليضل لا يكون مذموما، وكذا مفهوم الترجمة أنه إذا لم يشغله اللهو عن طاعة الله لا يكون باطلا‏.‏

لكن عموم هذا المفهوم يخص بالمنطوق، فكل شيء نص على تحريمه مما يلهي يكون باطلا سواء شغل أو لم يشغل، وكأنه رمز إلى ضعف ما ورد في تفسير اللهو في هذه الآية بالغناء‏.‏

وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة رفعه ‏"‏ لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ وفيهن أنزل الله ‏(‏ومن الناس من يشتري لهو الحديث‏)‏ الآية، وسنده ضعيف‏.‏

وأخرج الطبراني عن ابن مسعود موقوفا أنه فسر اللهو في هذه الآية بالغناء، وفي سنده ضعف أيضا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة وفيه ‏"‏ ومن قال لصاحبه تعال أقامرك ‏"‏ الحديث‏.‏

وأشار بذلك إلى أن القمار من جملة اللهو، ومن دعا إليه دعا إلى المعصية، فلذلك أمر بالتصدق ليكفر عنه تلك المعصية، لأن من دعا إلى معصية وقع بدعائه إليها في معصية‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ وجه تعلق هذا الحديث بالترجمة والترجمة بالاستئذان أن الداعي إلى القمار لا ينبغي أن يؤذن له في دخول المنزل، ثم لكونه يتضمن اجتماع الناس، ومناسبة بقية حديث الباب للترجمة أن الحلف باللات لهو يشغل عن الحق بالخلق فهو باطل انتهى‏.‏

ويحتمل أن يكون لما قدم ترجمة ترك السلام على من اقترف ذنبا أشار إلى ترك الإذن لمن يشتغل باللهو عن الطاعة، وقد تقدم شرح حديث الباب في تفسير سورة والنجم، قال مسلم في صحيحه‏.‏

بعد أن أخرج هذا الحديث‏:‏ هذا الحرف ‏"‏ تعال أقامرك ‏"‏ لا يرويه أحد إلا الزهري، وللزهري نحو تسعين حرفا لا يشاركه فيها غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جياد‏.‏

قلت‏:‏ وإنما قيد التفرد بقوله ‏"‏ تعال أقامرك ‏"‏ لأن لبقية الحديث شاهدا من حديث سعد بن أبي وقاص يستفاد منه سبب حديث أبي هريرة أخرجه النسائي بسند قوي قال ‏"‏ كنا حديثي عهد الجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وانفث عن شمالك وتعوذ بالله ثم لا تعد ‏"‏ فيمكن أن يكون المراد بقوله في حديث أبي هريرة ‏"‏ فليقل لا إله إلا الله ‏"‏ إلى آخر الذكر المذكور إلى قوله ‏"‏ قدير ‏"‏ ويحتمل الاكتفاء بلا إله إلا الله لأنها كلمة التوحيد، والزيادة المذكورة في حديث سعد تأكيد‏.‏

*3*باب مَا جَاءَ فِي الْبِنَاءِ

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ إِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْبَهْمِ فِي الْبُنْيَانِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما جاء في البناء‏)‏ أي من منع وإباحة‏.‏

والبناء أعم من أن يكون بطين أو مدر أو بخشب أو من قصب أو من شعر‏.‏

قوله ‏(‏قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة إذا تطاول رعاة البهم في البنيان‏)‏ كذا للأكثر بضم الراء وبهاء تأنيث في آخره‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ رعاء ‏"‏ بكسر الراء وبالهمز مع المد، وقد تقدم هذا الحديث موصولا مطولا مع شرحه في كتاب الإيمان، وأشار بإيراد هذه القطعة إلى ذم التطاول في البنيان، وفي الاستدلال بذلك نظر، وقد ورد في ذم تطويل البناء صريحا ما أخرج ابن أبي الدنيا من رواية عمارة ابن عامر ‏"‏ إذا رفع الرجل بناء فوق سبعة أذرع نودي يا فاسق إلى أين‏؟‏ ‏"‏ وفي سنده ضعف مع كونه موقوفا‏.‏

وفي ذم البناء مطلقا حديث خباب رفعه قال ‏"‏ يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب ‏"‏ أو قال ‏"‏ البناء ‏"‏ أخرجه الترمذي وصححه وأخرج له شاهدا عن أنس بلفظ ‏"‏ إلا البناء فلا خير فيه ‏"‏ وللطبراني من حديث جابر رفعه ‏"‏ إذا أراد الله بعبد شرا خضر له في اللبن والطين حتى يبني ‏"‏ ومعنى ‏"‏ خضر ‏"‏ بمعجمتين حسن، وزنا ومعنى‏.‏

وله شاهد في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ من حديث أبي بشر الأنصاري بلفظ ‏"‏ إذا أراد الله بعبد سوءا أنفق ماله في البنيان ‏"‏ وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال ‏"‏ مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطا فقال‏:‏ الأمر أعجل من ذلك ‏"‏ وصححه الترمذي وابن حبان، وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن وما يقي البرد والحر، وقد أخرج أبو داود أيضا من حديث أنس رفعه ‏"‏ أما أن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا، إلا ما لا ‏"‏ أي إلا ما لا بد منه، ورواته موثقون إلا الراوي عن أنس وهو أبو طلحة الأسدي فليس بمعروف، وله شاهد عن واثلة عند الطبراني‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَيْتُ بِيَدِي بَيْتًا يُكِنُّنِي مِنْ الْمَطَرِ وَيُظِلُّنِي مِنْ الشَّمْسِ مَا أَعَانَنِي عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسحاق هو ابن سعيد‏)‏ كذا في الأصل وسعيد المذكور هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي، ونسب كذلك عند الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه، وعمرو بن سعيد هو المعروف بالأشدق وإسحاق بن سعيد يقال له السعيدي سكن مكة‏.‏

وقد روي هذا الحديث عن والده وهو المراد بقوله ‏"‏ عن سعيد‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏رأيتني‏)‏ بضم المثناة كأنه استحضر الحالة المذكورة فصار لشدة علمه بها كأنه يرى نفسه يفعل ما ذكر‏.‏

قوله ‏(‏مع النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله ‏(‏يكنني‏)‏ بضم أوله وكسر الكاف وتشديد النون من أكن إذا وقى، وجاء بفتح أوله من كن‏.‏

وقال أبو زيد الأنصاري‏:‏ كننته وأكننته بمعنى أي سترته وأسررته‏.‏

وقال الكسائي كننته صنته وأكننته أسررته‏.‏

قوله ‏(‏ما أعانني عليه أحد من خلق الله‏)‏ هو تأكيد لقوله ‏"‏ بنيت بيدي ‏"‏ وإشارة إلى خفة مؤنته‏.‏

ووقع في رواية يحيى بن عبد الحميد الحماني بكسر المهملة وتشديد الميم عن إسحاق بن سعيد السعيدي بهذا السند عند الإسماعيلي وأبي نعيم في المستخرجين ‏"‏ بيتا من شعر‏"‏، واعترض الإسماعيلي على البخاري بهذه الزيادة فقال أدخل هذا الحديث في البناء بالطين والمدر والخبر إنما هو في بيت الشعر، وأجيب بأن راوي الزيادة ضعيف عندهم، وعلى تقدير ثبوتها فليس في الترجمة تقييد بالطين والمدر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ وَلَا غَرَسْتُ نَخْلَةً مُنْذُ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سُفْيَانُ فَذَكَرْتُهُ لِبَعْضِ أَهْلِهِ قَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ بَنَى قَالَ سُفْيَانُ قُلْتُ فَلَعَلَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏قال عمرو‏)‏ هو ابن دينار‏.‏

قوله ‏(‏لبنة‏)‏ بفتح اللام وكسر الموحدة مثل كلمة، ويجوز كسر أوله وسكون الموحدة‏.‏

قوله ‏(‏ولا غرست نخلة‏)‏ قال الداودي‏:‏ ليس الغرس كالبناء، لأن من غرس ونيته طلب الكفاف أو لفضل ما ينال منه ففي ذلك الفضل لا الإثم‏.‏

قلت‏:‏ لم يتقدم للإثم في الخبر ذكر حتى يعترض به، وكلامه يوهم أن في البناء كله الإثم، وليس كذلك بل فيه التفصيل، وليس كل ما زاد منه على الحاجة يستلزم الإثم، ولا شك أن في الغرس من الأجر من أجل ما يؤكل منه ما ليس في البناء، وإن كان في بعض البناء ما يحصل به الأجر مثل الذي يحصل به النفع لغير الباني فإنه يحصل للباني به الثواب، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

قوله ‏(‏فذكرته لبعض أهله‏)‏ لم أقف على تسميته، والقائل هو سفيان‏.‏

قوله ‏(‏قال والله لقد بنى‏)‏ زاد الكشميهني في روايته ‏"‏ بيتا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال سفيان قلت فلعله قال قبل‏)‏ أي قال ما وضعت لبنة إلخ قيل أن يبنى الذي ذكرت، وهذا اعتذار حسن من سفيان راوي الحديث، ويحتمل أن يكون ابن عمر نفى أن يكون بنى بيده بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان في زمنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، والذي أثبته بعض أهله كان بنى بأمره فنسبه إلى فعله مجازا، ويحتمل أن يكون بناؤه بيتا من قصب أو شعر، ويحتمل أن يكون الذي نفاه ابن عمر ما زاد على حاجته، والذي أثبته بعض أهله بناء بيت لا بد له منه أو إصلاح ما وهي من بيته، قال ابن بطال‏:‏ يؤخذ من جواب سفيان أن العالم إذا جاء عنه قولان مختلفان أنه ينبغي لسامعهما أن يتأولهما على وجه ينفي عنهما التناقض تنزيها له عن الكذب انتهى‏.‏

ولعل سفيان فهم من قول بعض أهل ابن عمر الإنكار على ما رواه له عن عمرو بن دينار عن ابن عمر، فبادر سفيان إلى الانتصار لشيخه ولنفسه وسلك الأدب مع الذي خاطبه بالجمع الذي ذكره، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

‏(‏خاتمة‏)‏ ‏:‏ اشتمل كتاب الاستئذان من الأحاديث المرفوعة على خمسة وثمانين حديثا، المعلق منها وما في معناه اثنا عشر حديثا والبقية موصولة، المكرر منه فيه وفيما مضى خمسة وستون حديثا والخالص عشرون، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث لأبي هريرة ‏"‏ رسول الرجل إذنه ‏"‏ وحديث أنس في المصافحة، وحديث ابن عمر في الاحتباء، وحديثه في البناء، وحديث ابن عباس في ختانه‏.‏

وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم سبعة آثار‏.‏

والله أعلم‏.‏