فصل: باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الرَّمَلِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب هَدْمِ الْكَعْبَةِ

قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب هدم الكعبة‏)‏ أي في آخر الزمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقالت عائشة‏)‏ في رواية غير أبي ذر ‏"‏ قالت ‏"‏ بحذف الواو، وهذا طرف من حديث وصله المصنف في أوائل البيوع من طريق نافع بن حبير عنها بلفظ ‏"‏ يغزو جيش الكعبة، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم ‏"‏ وسيأتي الكلام عليه هناك، ومناسبته لهذه الترجمة من جهة أن فيه إشارة إلى أن غزو الكعبة سيقع، فمرة يهلكهم الله قبل الوصول إليها وأخرى يمكنهم، والظاهر أن غزو الذين يخربونه متأخر عن الأولين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَخْنَسِ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبيد الله بن الأخنس‏)‏ بمعجمة ونون ثم مهملة وزن الأحمر، وعبيد الله بالتصغير كوفي يكنى أبا مالك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كأني به‏)‏ كذا في جميع الروايات عن ابن عباس في هذا الحديث، والذي يظهر أن قي الحديث شيئا حذف، ويحتمل أن يكون هو ما وقع في حديث علي عند أبي عبيد في ‏"‏ غريب الحديث ‏"‏ من طريق أبي العالية عن علي قال‏:‏ ‏"‏ استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني برجل من الحبشة أصلع - أو قال أصمع - حمش الساقين قاعد عليها وهي تهدم ‏"‏ ورواه الفاكهي من هذا الوجه ولفظه ‏"‏ أصعل ‏"‏ بدل أصلع وقال ‏"‏ قائما عليها يهدمها بمسحاته ‏"‏ ورواه يحيى الحماني في مسنده من وجه آخر عن علي مرفوعا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كأني به أسود أفحج‏)‏ بوزن أفعل بفاء ثم حاء ثم جيم، والفحج تباعد ما بين الساقين، قال الطيبي وفي إعرابه أوجه‏:‏ قيل هو حال من خبر كان وهو باعتبار المعنى الذي أشبه الفعل، وقيل هما حالان من خبر كان وذو الحال إما المستقر المرفوع أو المجرور والثاني أشبه أو هما بدلان من الضمير المجرور، وعلى كل حال يلزم إضمار قبل الذكر، وهو مبهم يفسره ما بعده كقولك رأيته رجلا، وقيل هما منصوبان على التمييز‏.‏

وقوله ‏"‏حجرا حجرا ‏"‏ حال كقولك بوبته بابا بابا، وقوله في حديث علي ‏"‏ أصلع أو أصعل أو أصمع ‏"‏ الأصلع من ذهب شعر مقدم رأسه، والأصعل الصغير الرأس، والأصمع الصغير الأذنين‏.‏

وقوله ‏"‏حمش الساقين ‏"‏ بحاء مهملة وميم ساكنة ثم معجمة أي دقيق الساقين، وهو موافق لقوله في رواية أبي هريرة ‏"‏ ذو السويقتين ‏"‏ كما سيأتي في الحديث الذي بعده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقلعها حجرا حجرا‏)‏ زاد الإسماعيلي والفاكهي في آخره ‏"‏ يعني الكعبة‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن شهاب‏)‏ كذا رواه الليث عن يونس، وتابعه عبد الله بن وهب عن يونس عند أبي نعيم في المستخرج، وخالفهما ابن المبارك فرواه عن يونس عن الزهري فقال عن سحيم مولى بني زهرة عن أبي هريرة رواه الفاكهي من طريق نعيم بن حماد عن ابن المبارك، فإن كان محفوظا فيكون للزهري فيه شيخان عن أبي هريرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ذو السويقتين‏)‏ تثنية سويقة وهي تصغير ساق أي له ساقان دقيقان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من الحبشة‏)‏ أي رجل من الحبشة، ووقع هذا الحديث عند أحمد من طريق سعيد بن سمعان عن أبي هريرة بأتم من هذا السياق ولفظه ‏"‏ يبايع للرجل بين الركن والمقام، ولن يستحل هذا البيت إلا أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب، ثم تجيء الحبشة فيخربونه خرابا لا يعمر بعده أبدا، وهم الذين يستخرجون كنزه ‏"‏ ولأبي قرة في ‏"‏ السنن ‏"‏ من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة ‏"‏ ونحوه لأبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وزاد أحمد والطبراني من طريق مجاهد عنه ‏"‏ فيسلبها حليتها ويجردها من كسوتها، كأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته أو بمعوله‏"‏‏.‏

وللفاكهي من طريق مجاهد نحوه وزاد ‏"‏ قال مجاهد‏:‏ فلما هدم ابن الزبير الكعبة جئت أنظر إليه هل أرى الصفة التي قال عبد الله بن عمرو فلم أرها ‏"‏ قيل‏:‏ هذا الحديث يخالف قوله تعالى ‏(‏أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا‏)‏ ولأن الله حبس عن مكة الفيل ولم يمكن أصحابه من تخريب الكعبة ولم تكن إذ ذاك قبلة، فكيف يسلط عليها الحبشة بعد أن صارت قبلة للمسلمين‏؟‏ وأجيب بأن ذلك محمول على أنه يقع في آخر الزمان قرب قيام الساعة حيث لا يبقى في الأرض أحد يقول الله الله كما ثبت في صحيح مسلم ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله ‏"‏ ولهذا وقع في رواية سعيد بن سمعان ‏"‏ لا يعمر بعده أبدا ‏"‏ وقد وقع قبل ذلك فيه من القتال وغزو أهل الشام له في زمن يزيد بن معاوية ثم من بعده في وقائع كثيرة من أعظمها وقعة القرامطة بعد الثلاثمائة فقتلوا من المسلمين في المطاف من لا يحصى كثرة وقلعوا الحجر الأسود فحولوه إلى بلادهم ثم أعادوه بعد مدة طويلة، ثم غزي مرارا بعد ذلك، كل ذلك لا يعارض قوله تعالى ‏(‏أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا‏)‏ لأن ذلك إنما وقع بأيدي المسلمين فهو مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ولن يستحل هذا البيت إلا أهله‏"‏، فوقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من علامات نبوته، وليس في الآية ما يدل على استمرار الأمن المذكور فيها‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب مَا ذُكِرَ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما ذكر في الحجر الأسود‏)‏ أورد فيه حديث عمر في تقبيل الحجر وقوله ‏"‏ لا تضر ولا تنفع ‏"‏ وكأنه لم يثبت عنده فيه على شرطه شيء غير ذلك، وقد وردت فيه أحاديث‏:‏ منها حديث عند الله بن عمرو بن العاص مرفوعا ‏"‏ إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب ‏"‏ أخرجه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان وفي إسناده رجاء أبو يحيى وهو ضعيف قال الترمذي‏:‏ حديث غريب، ويروى عن عبد الله بن عمرو موقوفا‏.‏

وقال ابن أبي حاتم عن أبيه وقفه أشبه والذي رفعه ليس بقوي‏.‏

ومنها حديث ابن عباس مرفوعا ‏"‏ نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم ‏"‏ أخرجه الترمذي وصححه، وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط، وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه، لكن له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة فيقوى بها، وقد رواه النسائي من طريق حماد بن سلمة عن عطاء مختصرا ولفظه ‏"‏ الحجر الأسود من الجنة ‏"‏ وحماد ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط، وفي صحيح ابن خزيمة أيضا عن ابن عباس مرفوعا ‏"‏ أن لهذا الحجر لسانا وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بحق ‏"‏ وصححه أيضا ابن حبان والحاكم، وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم أيضا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن إبراهيم‏)‏ هو ابن يزيد النخعي، وقد رواه سفيان وهو الثوري بإسناد آخر عن إبراهيم وهو ابن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة عن عمر أخرجه مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إني أعلم أنك حجر‏)‏ في رواية أسلم الآتية بعد باب عن عمر أنه قال ‏"‏ أما والله إني لأعلم أنك‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تضر ولا تنفع‏)‏ أي إلا بإذن الله، وقد روى الحاكم من حديث أبي سعيد أن عمر لما قال هذا قال له علي بن أبي طالب إنه يضر وينفع، وذكر أن الله لما أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر، قال‏:‏ وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد ‏"‏ وفي إسناده أبو هارون العبدي وهو ضعيف جدا، وقد روى النسائي من وجه آخر ما يشعر بأن عمر رفع قوله ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه من طريق طاوس عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ رأيت عمر قبل الحجر ثلاثا ثم قال‏:‏ إنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك ‏"‏ ثم قال ‏"‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ذلك ‏"‏ قال الطبري‏:‏ إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان‏.‏

وقال المهلب‏:‏ حديث عمر هذا يرد على من قال إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، ومعاذ الله أن يكون لله جارحة، وإنما شرع تقبيله اختيارا ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع، وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لآدم‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ معنى أنه يمين الله في الأرض أن من صافحه في الأرض كان له عند الله عهد، وجرت العادة بأن العهد يعقده الملك بالمصافحة لمن يريد موالاته والاختصاص به فخاطبهم بما يعهدونه‏.‏

وقال المحب الطبري‏:‏ معناه أن كل ملك إذا قدم عليه الوافد قبل يمينه فلما كان الحاج أول ما يقدم يسن له تقبيله نزل منزلة يمين الملك ولله المثل الأعلى‏.‏

وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه، وفيه دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود خاصة ترجع إلى ذاته، وفيه بيان السنن بالقول والفعل، وأن الإمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاده أن يبادر إلى بيان الأمر ويوضح ذلك، وسيأتي بقية الكلام على التقبيل والاستلام بعد تسعة أبواب‏.‏

قال شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏‏:‏ فيه كراهة تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله، وأما قول الشافعي ومهما قبل من البيت فحسن فلم يرد به الاستحباب لأن المباح من جملة الحسن عند الأصوليين‏.‏

‏(‏تكميل‏)‏ ‏:‏ اعترض بعض الملحدين على الحديث الماضي فقال‏:‏ كيف سودته خطايا المشركين ولم تبيضه طاعات أهل التوحيد‏؟‏ وأجيب بما قال ابن قتيبة‏:‏ لو شاء الله لكان ذلك، وإنما أجرى الله العادة بأن السواد يصبغ، ولا ينصبغ على العكس من البياض‏.‏

وقال المحب الطبري‏:‏ في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة، فإن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد‏.‏

قال‏:‏ وروي عن ابن عباس إنما غيره بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة، فإن ثبت فهذا هو الجواب‏.‏

قلت‏:‏ أخرجه الحميدي في فضائل مكة بإسناد ضعيف والله أعلم‏.‏

*3*باب إِغْلَاقِ الْبَيْتِ وَيُصَلِّي فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إغلاق البيت، ويصلي في أي نواحي البيت شاء‏)‏ أورد فيه حديث ابن عمر عن بلال في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة بين العمودين، وتعقب بأنه يغاير الترجمة من جهة أنها تدل على التخيير، والفعل المذكور يدل على التعيين‏.‏

وأجيب بأنه حمل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموضع بعينه على سبيل الاتفاق لا على سبيل القصد لزيادة فضل في ذلك المكان على غيره، ويحتمل أن يكون مراده أن ذلك الفعل ليس حتما وإن كانت الصلاة في تلك البقعة التي اختارها النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من غيرها، ويؤيده ما سيأتي في الباب الذي يليه من تصريح ابن عمر بنص الترجمة مع كونه كان يقصد المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي فيه لفضله، وكأن المصنف أشار بهذه الترجمة إلى الحكمة في إغلاق الباب حينئذ، وهو أولى من دعوى ابن بطال الحكمة فيه لئلا يظن الناس أن ذلك سنة، وهو مع ضعفه منتقض بأنه لو أراد إخفاء ذلك ما اطلع عليه بلال ومن كان معه، وإثبات الحكم بذلك يكفي فيه فعل الواحد وقد تقدم بسط هذا في ‏"‏ باب الغلق للكعبة ‏"‏ من كتاب الصلاة، وظاهر الترجمة أنه يشترط للصلاة في جميع الجوانب إغلاق الباب ليصير مستقبلا في حال الصلاة غير الفضاء، والمحكي عن الحنفية الجواز مطلقا، وعن الشافعية وجه مثله لكن يشترط أن يكون للباب عتبة بأي قدر كانت، ووجه يشترط أن يكون قدر قامة المصلي، ووجه يشترط أن يكون قدر مؤخر الرجل وهو المصحح عندهم، وفي الصلاة فوق ظهر الكعبة نظير هذا الخلاف والله أعلم‏.‏

وأما قول بعض الشارحين إن قوله ‏"‏ ويصلي في أي نواحي البيت شاء ‏"‏ يعكر على الشافعية فيما إذا كان البيت مفتوحا ففيه نظر لأنه جعله حيث يغلق الباب، وبعد الغلق لا توقف عندهم في الصحة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ فَلَقِيتُ بِلَالًا فَسَأَلْتُهُ هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت‏)‏ كان ذلك في عام الفتح كما وقع مبينا من رواية يونس بن يزيد عن نافع عند المصنف في كتاب الجهاد بزيادة فوائد ولفظه ‏"‏ أقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته ‏"‏ وفي رواية فليح عن نافع الآتية في المغازي ‏"‏ وهو مردف أسامة - يعني ابن زيد - على القصواء، ثم اتفقا ومعه بلال وعثمان بن طلحة حتى أناخ في المسجد ‏"‏ وفي رواية فليح ‏"‏ عند البيت‏.‏

وقال لعثمان ائتنا بالمفتاح، فجاءه بالمفتاح ففتح له الباب فدخل ‏"‏ ولمسلم وعبد الرزاق من رواية أيوب عن نافع ‏"‏ ثم دعا عثمان بن طلحة بالمفتاح فذهب إلى أمه فأبت أن تعطيه، فقال‏:‏ والله لتعطينه أو لأخرجن هذا السيف من صلبي، فلما رأت ذلك أعطته، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح الباب ‏"‏ فظهر من رواية فليح أن فاعل فتح هو عثمان المذكور، لكن روى الفاكهي - من طريق ضعيفة - عن ابن عمر قال ‏"‏ كان بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده ‏"‏ وعثمان المذكور هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزيز بن عبد الدار بن قصي بن كلاب، ويقال له الحجبي بفتح المهملة والجيم، ولآل بيته الحجبة لحجبهم الكعبة، ويعرفون الآن بالشيبيين نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان هذا لا ولده، وله أيضا صحبة ورواية، واسم أم عثمان المذكورة سلافة بضم المهملة والتخفيف والفاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان‏)‏ زاد مسلم من طريق أخرى ‏"‏ ولم يدخلها معهم أحد ‏"‏ ووقع عند النسائي من طريق ابن عون عن نافع ‏"‏ ومعه الفضل بن عباس وأسامة وبلال وعثمان ‏"‏ زاد الفضل، ولأحمد من حديث ابن عباس ‏"‏ حدثني أخي الفضل - وكان معه حين دخلها - أنه لم يصل في الكعبة ‏"‏ وسيأتي البحث فيه بعد بابين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأغلقوا عليهم‏)‏ زاد في رواية حسان بن عطية عن نافع عند أبي عوانة ‏"‏ من داخل ‏"‏ وزاد يونس ‏"‏ فمكث نهارا طويلا ‏"‏ وفي رواية فليح ‏"‏ زمانا ‏"‏ بدل نهارا‏.‏

وفي رواية جويرية عن نافع التي مضت في أوائل الصلاة ‏"‏ فأطال ‏"‏ ولمسلم من رواية ابن عون عن نافع ‏"‏ فمكث فيها مليا ‏"‏ وله من رواية عبيد الله عن نافع ‏"‏ فأجافوا عليهم الباب طويلا ‏"‏ ومن رواية أيوب عن نافع ‏"‏ فمكث فيها ساعة ‏"‏ وللنسائي من طريق ابن أبي مليكة ‏"‏ فوجدت شيئا فذهبت ثم جئت سريعا فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم خارجا منها ‏"‏ ووقع في الموطأ بلفظ ‏"‏ فأغلقاها عليه ‏"‏ والضمير لعثمان وبلال، ولمسلم من طريق ابن عون عن نافع ‏"‏ فأجاف عليهم عثمان الباب‏"‏، والجمع بينهما أن عثمان هو المباشر لذلك لأنه من وظيفته، ولعل بلالا ساعده في ذلك‏.‏

ورواية الجمع يدخل فيها الآمر بذلك والراضي به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما فتحوا كنت أول من ولج‏)‏ في رواية فليح ‏"‏ ثم خرج فابتدر الناس الدخول فسبقتهم ‏"‏ وفي رواية أيوب ‏"‏ وكنت رجلا شابا قويا فبادرت الناس فبدرتهم ‏"‏ وفي رواية جويرية ‏"‏ كنت أول الناس ولج على أثره ‏"‏ وفي رواية ابن عون ‏"‏ فرقيت الدرجة فدخلت البيت ‏"‏ وفي رواية مجاهد الماضية في أوائل الصلاة عن ابن عمر ‏"‏ وأجد بلالا قائما بين البابين ‏"‏ وأفاد الأزرقي في ‏"‏ كتاب مكة ‏"‏ أن خالد بن الوليد كان على الباب يذب عنه الناس، وكأنه جاء بعدما دخل النبي صلى الله عليه وسلم وأغلق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلقيت بلالا فسألته‏)‏ زاد في رواية مالك عن نافع الماضية في أوائل الصلاة ‏"‏ ما صنع ‏"‏‏؟‏ وفي رواية جويرية ويونس وجمهور أصحاب نافع ‏"‏ فسألت بلالا أين صلى ‏"‏‏؟‏ اختصروا أول السؤال، وثبت في رواية سالم هذه حيث قال ‏"‏ هل صلى فيه‏؟‏ قال نعم ‏"‏ وكذا في رواية مجاهد وابن أبي مليكة عن ابن عمر ‏"‏ فقلت‏:‏ أصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة‏؟‏ قال نعم ‏"‏ فظهر أنه استثبت أولا هل صلى أو لا، ثم سأل عن موضع صلاته من البيت‏.‏

ووقع في رواية يونس عن ابن شهاب عند مسلم ‏"‏ فأخبرني بلال أو عثمان بن طلحة ‏"‏ على الشك، والمحفوظ أنه سأل بلالا كما في رواية الجمهور‏:‏ ووقع عند أبي عوانة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن ابن عمر أنه سأل بلالا وأسامة بن زيد حين خرجا ‏"‏ أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه‏؟‏ فقالا على جهته ‏"‏ وكذا أخرجه البزار نحوه، ولأحمد والطبراني من طريق أبي الشعثاء عن ابن عمر قال ‏"‏ أخبرني أسامة أنه صلى فيه هاهنا ‏"‏ ولمسلم والطبراني من وجه آخر ‏"‏ فقلت أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ‏"‏ فإن كان محفوظا حمل على أنه ابتدأ بلالا بالسؤال كما تقدم تفصيله، ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة فسأل عثمان أيضا وأسامة، ويؤيد ذلك قوله في رواية ابن عون عند مسلم ‏"‏ ونسيت أن أسألهم كم صلى ‏"‏ بصيغة الجمع، وهذا أولى من جزم عياض بوهم الرواية التي أشرنا إليها من عند مسلم، وكأنه لم يقف على بقية الروايات، ولا يعارض قصته مع قصة أسامة ما أخرجه مسلم أيضا من حديث ابن عباس أن أسامة بن زيد أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل فيه، ولكنه كبر في نواحيه‏.‏

فإنه يمكن الجمع بينهما بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد في ذلك على غيره، وحيث نفاها أراد ما في علمه لكونه لم يره صلى الله عليه وسلم حين صلى‏.‏

وسيأتي مزيد بسط فيه بعد بابين في الكلام على حديث ابن عباس إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بين العمودين اليمانيين‏)‏ في رواية جويرية ‏"‏ بين العمودين المقدمين ‏"‏ وفي رواية مالك عن نافع ‏"‏ جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره ‏"‏ وفي رواية عنه ‏"‏ عمودين عن يمينه ‏"‏ وقد تقدم الكلام على ذلك مبسوطا في ‏"‏ باب الصلاة بين السواري ‏"‏ بما يغني عن إعادته، لكن نذكر هنا ما لم يتقدم ذكره؛ فوقع في رواية فليح الآتية في المغازي ‏"‏ بين ذينك العمودين المقدمين، وكان البيت على ستة أعمدة سطرين، صلى بين العمودين من السطر المقدم وجعل باب البيت خلف ظهره ‏"‏ وقال في آخر روايته ‏"‏ وعند المكان الذي صلى فيه مرمرة حمراء ‏"‏ وكل هذا إخبار عما كان عليه البيت قبل أن يهدم ويبني في زمن ابن الزبير، فأما الآن فقد بين موسى بن عقبة في روايته عن نافع كما في الباب الذي يليه أن بين موقفه صلى الله عليه وسلم وبين الجدار الذي استقبله قريبا من ثلاثة أذرع، وجزم برفع هذه الزيادة مالك عن نافع فيما أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن مهدي والدارقطني في ‏"‏ الغرائب ‏"‏ من طريقه وطريق عبد الله بن وهب وغيرهما عنه ولفظه ‏"‏ وصلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع ‏"‏ وكذا أخرجها أبو عوانة من طريق هشام بن سعد عن نافع، وهذا فيه الجزم بثلاثة أذرع، لكن رواه النسائي من طريق ابن القاسم عن مالك بلفظ ‏"‏ نحو من ثلاثة أذرع ‏"‏ وهي موافقة لرواية موسى بن عقبة‏.‏

وفي ‏"‏ كتاب مكة ‏"‏ للأزرقي والفاكهي من وجه آخر أن معاوية سأل ابن عمر ‏"‏ أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة ‏"‏ فعلى هذا ينبغي لمن أراد الاتباع في ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع فإنه تقع قدماه في مكان قدميه صلى الله عليه وسلم إن كانت ثلاثة أذرع سواء، وتقع ركبتاه أو يداه ووجهه إن كان أقل من ثلاثة والله أعلم‏.‏

وأما مقدار صلاته حينئذ فقد تقدم البحث فيه في أوائل الصلاة، وأشرت إلى الجمع بين رواية مجاهد عن ابن عمر أنه صلى ركعتين وبين رواية من روى عن نافع أن ابن عمر قال نسيت أن أسأله كم صلى، وإلى الرد على‏.‏

من زعم أن رواية مجاهد غلط بما فيه مقنع بحمد الله تعالى‏.‏

وفي هذا الحديث من الفوائد‏:‏ رواية الصاحب عن الصاحب، وسؤال المفضول مع وجود الأفضل والاكتفاء به، والحجة بخبر الواحد، ولا يقال هو أيضا خبر واجد فكيف يحتج للشيء بنفسه‏؟‏ لأنا نقول‏:‏ هو فرد ينضم إلى نظائر مثله يوجب العلم بذلك، وفيه اختصاص السابق بالبقعة الفاضلة، وفيه السؤال عن العلم والحرص فيه، وفضيلة ابن عمر لشدة حرصه على تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم ليعمل بها، وفيه أن الفاضل من الصحابة قد كان يغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المشاهد الفاضلة ويحضره من هو دونه فيطلع على ما لم يطلع عليه، لأن أبا بكر وعمر وغيرهما ممن هو أفضل من بلال ومن ذكر معه لم يشاركوهم في ذلك، واستدل به المصنف فيما مضى على أن الصلاة إلى المقام غير واجبة، وعلى جواز الصلاة بين السواري في غير الجماعة، وعلى مشروعية الأبواب والغلق للمساجد، وفيه أن السترة إنما تشرع حيث يخشى المرور فإنه صلى الله عليه وسلم صلى بين العمودين ولم يصل إلى أحدهما، والذي يظهر أنه ترك ذلك للاكتفاء بالقرب من الجدار كما تقدم أنه كان بين مصلاه والجدار نحو ثلاثة أذرع، وبذلك ترجم له النسائي على أن حد الدنو من السترة أن لا يكون بينهما أكثر من ثلاثة أذرع، ويستفاد منه أن قول العلماء تحية المسجد الحرام الطواف مخصوص بغير داخل الكعبة لكونه صلى الله عليه وسلم جاء فأناخ عند البيت فدخله فصلى فيه ركعتين فكانت تلك الصلاة إما لكون الكعبة كالمسجد المستقل أو هو تحية المسجد العام والله أعلم‏.‏

وفيه استحباب دخول الكعبة، وقد روى ابن خزيمة والبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا ‏"‏ من دخل البيت دخل في حسنة وخرج مغفورا له ‏"‏ قال البيهقي تفرد به عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف، ومحل استحبابه ما لم يؤذ أحدا بدخوله‏.‏

وروى ابن أبي شيبة من قول ابن عباس‏:‏ أن دخول البيت ليس من الحج في شيء، وحكى القرطبي عن بعض العلماء أن دخول البيت من مناسك الحج، ورده بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دخله عام الفتح ولم يكن حينئذ محرما، وأما ما رواه أبو داود والترمذي وصححه هو وابن خزيمة والحاكم عن عائشة ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم خرج من عندها وهو قرير العين ثم رجع وهو كئيب فقال‏:‏ دخلت الكعبة فأخاف أن أكون شققت على أمتي ‏"‏ فقد يتمسك به لصاحب هذا القول المحكي لكون عائشة لم تكن معه في الفتح ولا في عمرته، بل سيأتي بعد بابين أنه لم يدخل في الكعبة في عمرته، فتعين أن القصة كـانت في حجته وهو المطلوب، وبذلك جزم البيهقي، وإنما لم يدخل في عمرته لما كان في البيت من الأصنام والصور كما سيأتي، وكان إذ ذاك لا يتمكن من إزالتها، بخلاف عام الفتح‏.‏

ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك لعائشة بالمدينة بعد رجوعه فليس في السياق ما يمنع ذلك، وسيأتي النقل عن جماعة من أهل العلم أنه لم يدخل الكعبة في حجته‏.‏

وفيه استحباب الصلاة في الكعبة وهو ظاهر في النفل، ويلتحق به الفرض إذ لا فرق بينهما في مسألة الاستقبال للمقيم وهو قول الجمهور، وعن ابن عباس لا تصـح الصلاة داخلها مطلقا، وعلله بأنه يلزم من ذلك استدبار بعضها وقد ورد الأمر باستقبالها فيحمل على استقبال جميعها‏.‏

وقال به بعض المالكية والظاهرية والطبري‏.‏

وقال المازري‏:‏ المشهور في المذهب منع صلاة الفرض داخلها ووجوب الإعادة، وعن ابن عبد الحكم الإجزاء، وصححه ابن عبد البر وابن العربي‏.‏

وعن ابن حبيب يعيد أبدا، وعن أصبغ إن كان متعمدا، وأطلق الترمذي عن مالك جواز النوافل، وقيده بعض أصحابه بغير الرواتب وما تسرع فيه الجماعة، وفي ‏"‏ شرح العمدة ‏"‏ لابن دقيق العيد‏:‏ كره مالك الفرض أو منعه فكأنه أشار إلى اختلاف النقل عنه في ذلك، ويلتحق بهذه المسألة الصلاة في الحجر‏.‏

ويأتي فيها الخلاف السابق في أول الباب في الصلاة إلى جهة الباب، نعم إذا استدبر الكعبة واستقبل الحجر لم يصح على القول بأن تلك الجهة منه ليست من الكعبة، ومن المشكل ما نقله النووي في ‏"‏ زوائد الروضة ‏"‏ عن الأصحاب أن صلاة الفرض داخل الكعبة - إن لم يرج جماعة - أفضل منها خارجها، ووجه الإشكال أن الصلاة خارجها متفق على صحتها بين العلماء بخلاف داخلها، فكيف يكون المختلف في صحته أفضل من المتفق‏.‏

*3*باب الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الصلاة في الكعبة‏)‏ أورد فيه حديث ابن عمر في ذلك من طريق عبد الله بن المبارك عن موسى بن عقبة عن نافع‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ الْوَجْهِ حِينَ يَدْخُلُ وَيَجْعَلُ الْبَابَ قِبَلَ الظَّهْرِ يَمْشِي حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِ أَذْرُعٍ فَيُصَلِّي يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِلَالٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَأْسٌ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قبل‏)‏ بكسر القاف وفتح الموحدة أي مقابل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يتوخى‏)‏ بتشديد الخاء المعجمة أي يقصد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وليس على أحد بأس إلخ‏)‏ الظاهر أنه من كلام ابن عمر مع احتمال أن يكون من كلام غيره، وقد تقدم الحديث المرفوع في كتاب الصلاة في ‏"‏ باب الصلاة بين السواري‏"‏‏.‏

*3*باب مَنْ لَمْ يَدْخُلْ الْكَعْبَةَ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَحُجُّ كَثِيرًا وَلَا يَدْخُلُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من لم يدخل الكعبة‏)‏ كأنه أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من زعم أن دخولها من مناسك الحج، وقد تقدم البحث فيه قبل بباب، واقتصر المصنف على الاحتجاج بفعل ابن عمر لأنه أشهر من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم دخول الكعبة فلو كان دخولها عنده من المناسك لما أخل به مع كثرة اتباعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان ابن عمر إلخ‏)‏ وصله سفيان الثوري في جامعه من رواية عبد الله بن الوليد العدلي عنه عن حنظلة عن طاوس قال ‏"‏ كان ابن عمر يحج كثيرا ولا يدخل البيت ‏"‏ وأخرجه الفاكهي في ‏"‏ كتاب مكة ‏"‏ من هذا الوجه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ قَالَ لَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏خالد بن عبد الله‏)‏ هو الطحان البصري، وهذا الإسناد نصفه بصري ونصفه كوفي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اعتمر‏)‏ أي في سنة سبع عام القضية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة‏)‏ ‏؟‏ الهمزة للاستفهام، أي في تلك العمرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال لا‏)‏ قال النووي‏:‏ قال العلماء سبب ترك دخوله ما كان في البيت من الأصنام والصور، ولم يكن المشركون يتركونه ليغيرها، فلما كان في الفتح أمر بإزالة الصور ثم دخلها، يعني كما في حديث ابن عباس الذي بعده انتهى‏.‏

ويحتمل أن يكون دخول البيت لم يقع في الشرط، فلو أراد دخوله لمنعوه كما منعوه من الإقامة بمكة زيادة على الثلاث فلم يقصد دخوله لئلا يمنعوه‏.‏

وفي ‏"‏ السيرة ‏"‏ عن علي أنه دخلها قبل الهجرة فأزال شيئا من الأصنام، وفي ‏"‏ الطبقات ‏"‏ عن عثمان بن طلحة نحو ذلك، فإن ثبت ذلك لم يشكل على الوجه الأول لأن ذلك الدخول كان لإزالة شيء من المنكرات لا لقصد العبادة، والإزالة في الهدنة كانت غير ممكنة بخلاف يوم الفتح‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ استدل المحب الطبري به على أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة في حجته وفي فتح مكة، ولا دلالة فيه على ذلك لأنه لا يلزم من نفي كونه دخلها في عمرته أنه دخلها في جميع أسفاره‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب مَنْ كَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْكَعْبَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من كبر في نواحي الكعبة‏)‏ أورد فيه حديث ابن عباس ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم كبر في البيت ولم يصل فيه ‏"‏ وصححه المصنف واحتج به مع كونه يرى تقديم حديث بلال في إثباته الصلاة فيه عليه، ولا معارضة في ذلك بالنسبة إلى الترجمة لأن ابن عباس أثبت التكبير ولم يتعرض له بلال، وبلال أثبت الصلاة ونفاها ابن عباس فاحتج المصنف بزيادة ابن عباس، وقد يقدم إثبات بلال على نفي غيره لأمرين‏:‏ أحدهما أنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ وإنما أسند نفيه تارة لأسامة وتارة لأخيه الفضل مع أنه لم يثبت أن الفضل كان معهم إلا في رواية شاذة، وقد روى أحمد من طريق ابن عباس عن أخيه الفضل نفي الصلاة فيها فيحتمل أن يكون تلقاه عن أسامة فإنه كان معه كما تقدم، وقد مضى في كتاب الصلاة أن ابن عباس روي عنه نفي الصلاة فيها عند مسلم، وقد وقع إثبات صلاته فيها عن أسامة من رواية ابن عمر عن أسامة عند أحمد وغيره فتعارضت الرواية في ذلك عنه، فتترجح رواية بلال من جهة أنه مثبت وغيره ناف ومن جهة أنه لم يختلف عليه في الإثبات واختلف على من نفى‏.‏

وقال النووي وغيره‏:‏ يجمع بين إثبات بلال ونفي أسامة بأنهم لما دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدعاء فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فاشتغل أسامة بالدعاء في ناحية والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله، ولأن بإغلاق الباب تكون الظلمة مع احتمال أن يحجبه عنه بعض الأعمدة فنفاها عملا بظنه‏.‏

وقال المحب الطبري‏:‏ يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته انتهى‏.‏

ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة قال ‏"‏ دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة فرأى صورا فدعا بدلو من ماء فأتيته به فضرب به الصور ‏"‏ فهذا الإسناد جيد، قال القرطبي‏:‏ فلعله استصحب النفي لسرعة عوده انتهى‏.‏

وهو مفرع على أن هذه القصة وقعت عام الفتح، فإن لم يكن فقد روى عمر بن شبة في ‏"‏ كتاب مكة ‏"‏ من طريق علي بن بذيمة - وهو تابعي وأبوه بفتح الموحدة ثم معجمة وزن عظيمة - قال ‏"‏ دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة ودخل معه بلال، وجلس أسامة على الباب، فلما خرج وجد أسامة قد احتبى فأخذ بحبوته فحلها ‏"‏ الحديث، فلعله احتبى فاستراح فنعس فلم يشاهد صلاته، فلما سئل عنها نفاها مستصحبا للنفي لقصر زمن احتبائه، وفي كل ذلك إنما نفي رؤيته لا ما في نفس الأمر، ومنهم من جمع بين الحديثين بغير ترجيح أحدهما على الآخر وذلك من أوجه‏:‏ أحدها حمل الصلاة المثبتة على اللغوية والمنفية على الشرعية، وهذه طريقة من يكره الصلاة داخل الكعبة فرضا ونفلا، وقد تقدم البحث فيه، ويرد هذا الحمل ما تقدم في بعض طرقه من تعيين قدر الصلاة، فظهر أن المراد بها الشرعية لا مجرد الدعاء‏.‏

ثانيها قال القرطبي‏:‏ يمكن حمل الإثبات على التطوع والنفي على الفرض، وهذه طريقة المشهور من مذهب مالك، وقد تقدم البحث فيها‏.‏

ثالثها قال المهلب شارح البخاري‏:‏ يحتمل أن يكون دخول البيت وقع مرتين، صلى في إحداهما ولم يصل في الأخرى‏.‏

وقال ابن حبان‏:‏ الأشبه عندي في الجمع أن يجعل الخبران في وقتين فيقال‏:‏ لما دخل الكعبة في الفتح صلى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال، ويجعل نفي ابن عباس الصلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها لأن ابن عباس نفاها وأسنده إلى أسامة، وابن عمر أثبتها وأسند إثباته إلى بلال وإلى أسامة أيضا، فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض، وهذا جمع حسن، لكن تعقبه النووي بأنه لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم دخل في يوم الفتح لا في حجة الوداع، ويشهد له ما روى الأزرقي في ‏"‏ كتاب مكة ‏"‏ عن سفيان عن غير واحد من أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح ثم حج فلم يدخلها، وإذا كان الأمر كذلك فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرتين ويكون المراد بالواحدة التي في خبر ابن عيينة وحدة السفر لا الدخول، وقد وقع عند الدارقطني من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع والله أعلم‏.‏

ويؤيد الجمع الأول ما أخرجه عمر بن شبة في ‏"‏ كتاب مكة ‏"‏ من طريق حماد عن أبي حمزة عن ابن عباس قال‏:‏ قلت له كيف أصلي في الكعبة‏؟‏ قال‏:‏ كما تصلي في الجنازة، تسبح وتكبر ولا تركع ولا تسجد، ثم عند أركان البيت سبح وكبر وتضرع واستغفر ولا تركع ولا تسجد، وسنده صحيح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي أَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ فَدَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفيه الآلهة‏)‏ أي الأصنام، وأطلق عليها الآلهة باعتبار ما كانوا يزعمون، وفي جواز إطلاق ذلك وقفة، والذي يظهر كراهته، وكانت تماثيل على صور شتى فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من دخول البيت وهي فيه لأنه لا يقر على باطل، ولأنه لا يحب فراق الملائكة وهي لا تدخل ما فيه صورة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الأزلام‏)‏ سيأتي شرحها مبينا حيث ذكرها المصنف في تفسير المائدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أم والله‏)‏ كذا للأكثر ولبعضهم ‏"‏ أما ‏"‏ بإثبات الألف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لقد علموا‏)‏ قيل وجه ذلك أنهم كانوا يعلمون اسم أول من أحدث الاستقسام بها، وهو عمرو بن لحي، وكانت نسبتهم إلى إبراهيم وولده الاستقسام بها افتراء عليهما لتقدمهما على عمرو‏.‏

*3*باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الرَّمَلِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب كيف كان بدء الرمل‏)‏ أي ابتداء مشروعيته، وهو بفتح الراء والميم هو الإسراع‏.‏

وقال ابن دريد‏:‏ هو شبيه بالهرولة، وأصله أن يحرك الماشي منكبيه في مشيه، وذكر حديث ابن عباس في قصة الرمل في عمرة القضية، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في المغازي، وعلى ما يتعلق بحكم الرمل بعد باب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن يرملوا‏)‏ بضم الميم وهو في موضع مفعول يأمرهم تقول أمرته كذا وأمرته بكذا‏.‏

و ‏(‏الأشواط‏)‏ بفتح الهمزة بعدها معجمة جمع شوط بفتح الشين وهو الجري مرة إلى الغاية، والمراد به هنا الطوفة حول الكعبة، و ‏(‏الإبقاء‏)‏ بكسر الهمزة وبالموحدة والقاف الرفق والشفقة، وهو بالرفع على أنه فاعل ‏"‏ لم يمنعه ‏"‏ ويجوز النصب‏.‏

وفي الحديث جواز تسمية الطوفة شوطا، ونقل عن مجاهد والشافعي كراهته، ويؤخذ منه جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابا لهم، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم‏.‏

وفيه جواز المعاريض بالفعل كما يجوز بالقول، وربما كانت بالفعل أولى‏.‏

*3*باب اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ وَيَرْمُلُ ثَلَاثًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب استلام الحجر الأسود حين يقدم مكة أول ما يطوف ويرمل ثلاثا‏)‏ أورد فيه حديث ابن عمر في ذلك، وهو مطابق للترجمة من غير مزيد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏يخب‏)‏ بفتح أوله وضم الخاء المعجمة بعدها موحدة أي يسرع في مشيه، والخبب بفتح المعجمة والموحدة بعدها موحدة أخرى‏:‏ العدو السريع، يقال خبت الدابة إذا أسرعت وراوحت بين قدميها، وهذا يشعر بترادف الرمل والخبب عند هذا القائل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أول‏)‏ منصوب على الظرف، و قوله‏:‏ ‏(‏من السبع‏)‏ بفتح أوله أي السبع طوفات، وظاهره أن الرمل يستوعب الطوفة، فهو مغاير لحديث ابن عباس الذي قبله لأنه صريح في عدم الاستيعاب، وسيأتي القول فيه في الباب الذي بعده في الكلام على حديث عمر إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب الرَّمَلِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الرمل في الحج والعمرة‏)‏ أي في بعض الطواف، والقصد إثبات بقاء مشروعيته، وهو الذي عليه الجمهور‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ليس هو بسنة، من شاء رمل ومن شاء لم يرمل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَمَشَى أَرْبَعَةً فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ تَابَعَهُ اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني محمد هو ابن سلام‏)‏ كذا لأبي ذر، وللباقين سوى ابن السكن غير منسوب، وأما أبو نعيم فقال بعد أن أخرج الحديث من طريق محمد بن عبد الله بن نمير عن شريح أخرجه البخاري عن محمد ويقال هو ابن نمير، ورجح أبو علي الجياني أنه محمد بن رافع لكونه روى في موضع آخر عنه عن شريح ويحتمل أن يكون ابن يحيى الذهلي وهو قول الحاكم، والصواب أنه ابن سلام كما نسبه أبو ذر وجزم بذلك أبو علي بن السكن في روايته، على أن شريحا شيخ محمد فيه قد أخرج عنه البخاري بغير واسطة في الجمعة وغيرها فيحتمل أن يكون محمد هو البخاري نفسه والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سعى‏)‏ أي أسرع المشي في الطوفات الثلاث الأول، و قوله‏:‏ ‏(‏في الحج والعمرة‏)‏ أي حجة الوداع وعمرة القضية لأن الحديبية لم يمكن فيها من الطواف، والجعرانة لم يكن ابن عمر معه فيها ولهذا أنكرها، والتي مع حجته اندرجت أفعالها في الحج، فلم يبق إلا عمرة القضية‏.‏

نعم عند الحاكم من حديث أبي سعيد ‏"‏ رمل رسول الله في حجته وعمره كلها وأبو بكر وعمر والخلفاء‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه الليث قال حدثني كثير إلخ‏)‏ وصلها النسائي من طريق شعيب بن الليث عن أبيه والبيهقي من طريق يحيي بن بكير عن الليث قال حدثني فذكره بلفظ ‏"‏ إن عبد الله بن عمر كان يخب في طوافه حين يقدم في حج أو عمرة ثلاثا ويمشي أربعا، قال‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِلرُّكْنِ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ قَالَ فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمْ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن‏)‏ أي للأسود، وظاهره أنه خاطبه بذلك، وإنما فعل ذلك ليسمع الحاضرين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم قال‏)‏ أي بعد استلامه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما لنا وللرمل‏)‏ في رواية بعضهم ‏"‏ والرمل ‏"‏ بغير لام، وهو بالنصب على الأفصح، وزاد أبو داود من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم ‏"‏ فيم الرمل والكشف عن المناكب ‏"‏ الحديث، والمراد به الاضطباع، وهي هيئة تعين على إسراع المشي بأن يدخل رداءه تحت إبطه الأيمن ويرد طرفه على منكبه الأيسر فيبدي منكبه الأيمن ويستر الأيسر، وهو مستحب عند الجمهور سوى مالك قاله ابن المنذر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنما كنا راءينا‏)‏ بوزن فاعلنا من الرؤية، أي أريناهم بذلك أنا أقوياء قاله عياض‏.‏

وقال ابن مالك‏:‏ من الرياء أي أظهرنا له القوة ونحن ضعفاء، ولهذا روي رايينا بياءين حملا له على الرياء وإن كان أصله الرئاء بهمزتين، ومحصله أن عمر كان هم بترك الرمل في الطواف لأنه عرف سببه وقد انقضى فهم أن يتركه لفقد سببه، ثم رجع عن ذلك لاحتمال أن تكون له حكمة ما اطلع عليها فرأى أن الاتباع أولى من طريق المعنى، وأيضا إن فاعل ذلك إذا فعله تذكر السبب الباعث على ذلك فيتذكر نعمة الله على إعزاز الإسلام وأهله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا نحب أن نتركه‏)‏ زاد يعقوب بن سفيان عن سعيد شيخ البخاري فيه في آخره ‏"‏ ثم رمل ‏"‏ أخرجه الإسماعيلي من طريقه، ويؤيده أنهم اقتصروا عند مراءاة المشركين على الإسراع إذا مروا من جهة الركنين الشاميين لأن المشركين كانوا بإزاء تلك الناحية، فإذا مروا بين الركنين اليمانيين مشوا على هيئتهم كما هو بين قي حديث ابن عباس، ولما رملوا في حجة الوداع أسرعوا في جميع كل طوفة فكانت سنة مستقلة، ولهذه النكتة سأل عبيد الله بن عمر نافعا كما في الحديث الذي بعده عن مشي عبد الله بن عمر بين الركنين اليمانيين فأعلمه أنه إنما كان يفعله ليكون أسهل عليه في استلام الركن، أي كان يرفق بنفسه ليتمكن من استلام الركن عند الازدحام‏.‏

وهذا الذي قاله نافع إن كان استند فيه إلى فهمه فلا يدفع احتمال أن يكون ابن عمر فعل ذلك اتباعا للصفة الأولى من الرمل لما عرف من مذهبه في الاتباع‏.‏

‏(‏تكميل‏)‏ ‏:‏ لا يشرع تدارك الرمل، فلو تركه في الثلاث لما يقضه في الأربع، لأن هيئتها السكينة فلا تغير، ويختص بالرجال فلا رمل على النساء، ويختص بطواف يعقبه سعي على المشهور، ولا فرق في استحبابه بين ماش وراكب، ولا دم بتركه عند الجمهور‏.‏

واختلف عند المالكية‏.‏

وقال الطبري‏:‏ قد ثبت أن الشارع رمل ولا مشرك يومئذ بمكة يعني في حجة الوداع، فعلم أنه من مناسك الحج إلا أن تاركه ليس تاركا لعمل بل لهيئة مخصوصة فكان كرفع الصوت بالتلبية فمن لبى خافضا صوته لم يكن تاركا للتلبية بل لصفتها ولا شيء عليه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قال الإسماعيلي بعد أن خرج الحديث الثالث مقتصرا على المرفوع منه وزاد فيه ‏"‏ قال نافع ورأيت عبد الله - يعني ابن عمر - يزاحم على الحجر حتى يدمى ‏"‏ قال الإسماعيلي‏:‏ ليس هذا الحديث من هدا الباب في شيء يعني باب الرمل، وأجيب بأن القدر المتعلق بهذه الترجمة منه ثابت عند البخاري، ووجهه أن معني قوله ‏"‏ كان ابن عمر يمشي بين الركنين ‏"‏ أي دون غيرهما، وكان يرمل، ومن ثم سأل الراوي نافعا عن السبب في كونه كان يمشي في بعض دون بعض والله أعلم‏.‏

‏(‏تنبيه آخر‏)‏ ‏:‏ استشكل قول عمر ‏"‏ راءينا ‏"‏ مع أن الرياء بالعمل مذموم، والجواب أن صورته وإن كانت صورة الرياء لكنها ليست مذمومة، لأن المذموم أن يظهر العمل ليقال إنه عامل ولا يعمله بغيبة إذا لم يره أحد، وأما الذي وقع في هذه القصة فإنما هو من قبيل المخادعة في الحرب، لأنهم أوهموا المشركين أنهم أقوياء لئلا يطمعوا فيهم، وثبت أن الحرب خدعة‏.‏

*3*باب اسْتِلَامِ الرُّكْنِ بِالْمِحْجَنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب استلام الركن بالمحجن‏)‏ بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم بعدها نون، هو عصا محنية الرأس، والحجن الاعوجاج، وبذلك سمي الحجون، والاستلام افتعال من السلام بالفتح أي التحية قاله الأزهري، وقيل من السلام بالكسر أي الحجارة والمعنى أنه يومئ بعصاه إلى الركن يصيبه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ تَابَعَهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبيد الله‏)‏ كذا قال يونس وخالفه الليث وأسامة بن زيد وزمعة بن صالح فرووه عن الزهري قال ‏"‏ بلغني عن ابن عباس ‏"‏ ولهذه النكتة استظهر البخاري بطريق ابن أخي الزهري فقال ‏"‏ تابعه الدراوردي عن ابن أخي الزهري وهذه المتابعة أخرجها الإسماعيلي عن الحسين بن سفيان عن محمد بن عباد عن عبد العزيز الدراوردي فذكره ولم يقل ‏"‏ في حجة الوداع ‏"‏ ولا ‏"‏ على بعير ‏"‏ وسيأتي البحث في مسألة الطواف راكبا بعد خمسة عشر بابا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يستلم الركن بمحجن‏)‏ زاد مسلم من حديث أبي الطفيل ‏"‏ ويقبل المحجن ‏"‏ وله من حديث ابن عمر أنه ‏"‏ استلم الحجر بيده ثم قبله ‏"‏ ورفع ذلك، ولسعيد بن المنصور من طريق عطاء قال ‏"‏ رأيت أبا سعيد وأبا هريرة وابن عمر وجابرا إذا استلموا الحجر قبلوا أيديهم‏.‏

قيل‏:‏ وابن عباس‏؟‏ قال‏:‏ وابن عباس، أحسبه قال كثيرا ‏"‏ وبهذا قال الجمهور أن السنة أن يستلم الركن ويقبل يده فإن لم يستطع أن يستلمه بيده استلمه بشيء في يده وقبل ذلك الشيء فإن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك، وعن مالك في رواية لا يقبل يده، وكذا قال القاسم‏.‏

وفي رواية عند المالكية يضع يده على فمه من غير تقبيل‏.‏

*3*باب مَنْ لَمْ يَسْتَلِمْ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ وَمَنْ يَتَّقِي شَيْئًا مِنْ الْبَيْتِ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّهُ لَا يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ فَقَالَ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين‏)‏ أي دون الركنين الشاميين، واليماني بتخفيف الياء على المشهور لأن الألف عوض عن ياء النسب فلو شددت لكان جمعا بين العوض والمعوض، وجوز سيبويه التشديد وقال إن الألف زائدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال محمد بن بكر أخبرنا ابن جريج‏)‏ لم أره من طريق محمد بن بكر، وقد أخرجه الجوزقي من طريق عثمان بن الهيثم به، و ‏"‏ من ‏"‏ في قوله ‏"‏ ومن يتقي ‏"‏ استفهامية على سبيل الإنكار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان معاوية يستلم الأركان‏)‏ وصله أحمد والترمذي والحاكم من طريق عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي الطفيل قال ‏"‏ كنت مع ابن عباس ومعاوية فكان معاوية لا يمر بركن إلا استلمه، فقال ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الحجر واليماني، فقال معاوية‏:‏ ليس شيء من البيت مهجورا ‏"‏ وأخرج مسلم المرفوع فقط من وجه آخر عن ابن عباس، وروى أحمد أيضا من طريق شعبة عن قتادة عن أبي الطفيل قال ‏"‏ حج معاوية وابن عباس، فجعل ابن عباس يستلم الأركان كلها، فقال معاوية‏:‏ إنما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الركنين اليمانيين، فقال ابن عباس‏:‏ ليس من أركانه شيء مهجور ‏"‏ قال عبد الله بن أحمد في العلل سألت أبي عنه فقال‏:‏ قلبه شعبة، وقد كان شعبة يقول‏:‏ الناس يخالفونني في هذا، ولكنني سمعته من قتادة هكذا انتهى‏.‏

وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة على الصواب أخرجه أحمد أيضا، وكذا أخرجه من طريق مجاهد عن ابن عباس نحو، وروى الشافعي من طريق محمد بن كعب القرظي ‏"‏ إن ابن عباس كان يمسح الركن اليماني والحجر، وكان ابن الزبير يمسح الأركان كلها ويقول‏:‏ ليس شيء من البيت مهجورا، فيقول ابن عباس ‏(‏لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة‏)‏ ، ولفظ رواية مجاهد المذكورة عن ابن عباس أنه ‏"‏ طاف مع معاوية، فقال معاوية‏:‏ ليس شيء من البيت مهجورا، فقال له ابن عباس ‏(‏لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة‏)‏ فقال معاوية‏:‏ صدقت ‏"‏ وبهذا يتبين ضعف من حمله على التعدد، وأن اجتهاد كل منهما تغير إلى ما أنكره على الآخر، وإنما قلت ذلك لأن مخرج الحديثين واحد وهو قتادة عن أبي الطفيل؛ وقد جزم أحمد بأن شعبة قلبه فسقط التجويز العقلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنه‏)‏ الهاء للشأن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يستلم هذان الركنان‏)‏ كذا للأكثر على البناء للمجهول، وللحموي والمستملي ‏"‏ لا نستلم هذين الركنين ‏"‏ بفتح النون ونصب هذين الركنين على المفعولية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن‏)‏ وصله ابن أبي شيبة من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير أنه رأى أباه يستلم الأركان كلها وقال ‏"‏ إنه ليس شيء منه مهجورا ‏"‏ وأخرج الشافعي نحوه عنه من وجه آخر كما تقدم، وفي ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن هشام بن عروة بن الزبير أن أباه ‏"‏ كان إذا طاف بالبيت يستلم الأركان كلها‏"‏، وأخرجه سعيد بن منصور عن الدراوردي عن هشام بلفظ ‏"‏ إذا بدأ استلم الأركان كلها وإذا ختم‏"‏‏.‏

ثم أورد المصنف حديث ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين ‏"‏ وقد تقدم قول ابن عمر ‏"‏ إنما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم استلام الركنين الشاميين لأن البيت لم يتمم عل قواعد إبراهيم ‏"‏ وعلى هذا المعنى حمل ابن التين تبعا لابن القصار استلام ابن الزبير لهما لأنه لما عمر الكعبة أتم البيت على قواعد إبراهيم انتهى، وتعقب ذلك بعض الشراح بأن ابن الزبير طاف مع معاوية واستلم الكل، ولم يقف على هذا الأثر وإنما وقع ذلك لمعاوية مع ابن عباس، وأما ابن الزبير فقد أخرج الأزرقي في ‏"‏ كتاب مكة ‏"‏ فقال‏:‏ إن ابن الزبير لما فرغ من بناء البيت وأدخل فيه من الحجر ما أخرج منه ورد الركنين على قواعد إبراهيم خرج إلى التنعيم واعتمر وطاف بالبيت واستلم الأركان الأربعة، فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير إذا طاف الطائف استلم الأركان جميعها حتى قتل ابن الزبير‏.‏

وأخرج من طريق ابن إسحاق قال‏:‏ بلغني أن آدم لما حج استلم الأركان كلها، وأن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت طافا به سبعا يستلمان الأركان‏.‏

وقال الداودي‏:‏ ظن معاوية أنهما ركنا البيت الذي وضع عليه من أول، وليس كذلك، لما سبق من حديث عائشة، والجمهور على ما دل عليه حديث ابن عمر، وروى ابن المنذر وغيره استلام جميع الأركان أيضا عن جابر وأنس والحسن والحسين من الصحابة وعن سويد بن غفلة من التابعين‏.‏

وقد يشعر ما تقدم في أوائل الطهارة من حديث عبيد بن جريج أنه قال لابن عمر ‏"‏ رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها ‏"‏ فذكر منها ‏"‏ ورأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ‏"‏ الحديث بأن الذين رآهم عبيد بن جريج من الصحابة والتابعين كانوا لا يقتضرون في الاستلام على الركنين اليمانيين‏.‏

وقال بعض أهل العلم‏:‏ اختصاص الركنين مبين بالسنة ومستند التعميم القياس، وأجاب الشافعي عن قول من قال ليس شيء من البيت مهجورا بأنا لم ندع استلامهما هجرا للبيت، وكيف يهجره وهو يطوف به، ولكنا نتبع السنة فعلا أو تركا، ولو كان ترك استلامهما هجرا لهما لكان ترك استلام ما بين الأركان هجرا لها ولا قائل به، ويؤخذ منه حفظ المراتب وإعطاء كل ذي حق حقه وتنزيل كل أحد منزلته‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ في البيت أربعة أركان، الأول له فضيلتان‏:‏ كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم‏.‏

وللثاني الثانية فقط، وليس للآخرين شيء منهما، فلذلك يقبل الأول ويستلم الثاني فقط ولا يقبل الآخران ولا يستلمان، هذا على رأي الجمهور‏.‏

واستحب بعضهم تقبيل الركن اليماني أيضا‏.‏

‏(‏فائدة أخرى‏)‏ ‏:‏ استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من يستحق التنظيم من آدمي وغيره، فأما تقبيل يد الآدمي فيأتي في كتاب الأدب، وأما غيره فنقل عن الإمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيل قبره فلم ير به بأسا، واستبعد بعض اتباعه صحة ذلك، ونقل عن ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين وبالله التوفيق‏.‏

*3*باب تَقْبِيلِ الْحَجَرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب تقبيل الحجر‏)‏ بفتح المهملة والجيم أي الأسود، أورد فيه حديث عمر مختصرا، وقد تقدم الكلام عليه قبل أبواب‏.‏

ثم أورد فيه حديث ابن عمر ‏"‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله ‏"‏ ولابن المنذر من طريق أبي خالد عن عبيد الله عن نافع ‏"‏ رأيت ابن عمر استلم الحجر وقبل يده وقال‏:‏ ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ‏"‏ ويستفاد منه استحباب الجمع بين التسليم والتقبيل بخلاف الركن اليماني فيستلمه فقط والاستلام المسح باليد والتقبيل بالفم، وروى الشافعي من وجه آخر عن ابن عمر قال ‏"‏ استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الحجر فاستلمه، ثم وضع شفتيه عليه طويلا ‏"‏ الحديث واختص الحجر الأسود بذلك لاجتماع الفضيلتين له كما تقدم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَقَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ قُلْتُ أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ قَالَ اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِالْيَمَنِ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا حماد‏)‏ في رواية أبي الوقت ‏"‏ ابن زيد‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن الزبير بن عربي‏)‏ في رواية أبي داود الطيالسي عن حماد ‏"‏ حدثنا الزبير‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سأل رجل‏)‏ هو الزبير الراوي، كذلك وقع عند أبي داود الطيالسي عن حماد ‏"‏ حدثنا الزبير سألت ابن عمر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أرأيت إن زحمت‏)‏ أي أخبرني ما أصنع إذا زحمت، وزحمت بضم الزاي بغير إشباع، وفي بعض الروايات بزيادة واو‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اجعل أرأيت باليمن‏)‏ يشعر بأن الرجل يماني، وقد وقع في رواية أبي داود المذكورة ‏"‏ اجعل أرأيت عند ذلك الكوكب ‏"‏ وإنما قال له ذلك لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي فأنكر عليه ذلك وأمره إذا سمع الحديث أن يأخذ به ويتقي الرأي، والظاهر أن ابن عمر لم ير الزحام عذرا في ترك الاستلام، وقد روى سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد قال ‏"‏ رأيت ابن عمر يزاحم على الركن حتى يدمى ‏"‏ ومن طريق أخرى أنه قيل له في ذلك فقال هوت الأفئدة إليه فأريد أن يكون فؤادي معهم، وروى الفاكهي من طرق عن ابن عباس كراهة المزاحمة وقال‏:‏ لا يؤذي ولا يؤذى‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ المستحب في التقبيل أن لا يرفع به صوته، وروى الفاكهي عن سعيد بن جبير قال‏:‏ إذا قبلت الركن فلا ترفع بها صوتك كقبلة النساء‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قال أبو علي الجياني وقع عند الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني ‏"‏ الزبير بن عدي ‏"‏ بدال مهملة بعدها ياء مشددة، وهو وهم وصوابه ‏"‏ عربي ‏"‏ براء مهملة مفتوحة بعدها موحدة ثم ياء مشددة، كذلك رواه سائر الرواة عن الفربري انتهى‏.‏

وكأن البخاري استشعر هذا التصحيف فأشار إلى التحذير منه فحكى الفربري أنه وجد في كتاب أبي جعفر - يعني محمد بن أبي حاتم وراق البخاري - قال ‏"‏ قال أبو عبد الله يعني البخاري‏:‏ الزبير بن عربي هذا بصري، والزبير بن عدي كوفي ‏"‏ انتهى‏.‏

هكذا وقع عند أبي ذر عن شيوخه عن الفربري، وعند الترمذي من غير رواية الكرخي، وعقب هذا الحديث‏:‏ الزبير هذا هو ابن عربي، وأما الزبير بن عدي فهو كوفي، ويؤيده أن في رواية أبي داود المقدم ذكرها ‏"‏ الزبير بن العربي ‏"‏ بزيادة ألف ولام، وذلك مما يرفع الإشكال‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب مَنْ أَشَارَ إِلَى الرُّكْنِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من أشار إلى الركن‏)‏ أي الأسود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا أتى عليه‏)‏ أورد فيه حديث ابن عباس ‏"‏ طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير، كلما أتى على الركن أشار إليه ‏"‏ وقد تقدم قبل ببابين بزيادة شرح فيه، قال ابن التين‏:‏ تقدم أنه كان يستلمه بالمحجن، فيدل على قربه من البيت، لكن من طاف راكبا يستحب له أن يبعد إن خاف أن يؤذي أحدا، فيحمل فعله صلى الله عليه وسلم على الأمن من ذلك انتهى‏.‏

ويحتمل أن يكون في حال استلامه قريبا حيث أمن ذلك، وأن يكون في حال إشارته بعيدا حيث خاف ذلك‏.‏

*3*باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرُّكْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب التكبير عند الركن‏)‏ أورد فيه حديث ابن عباس المذكور وزاد ‏"‏ أشار إليه بشيء كان عنده وكبر ‏"‏ والمراد بالشيء المحجن الذي تقدم في الرواية الماضية قبل بابين، وفيه استحباب التكبير عند الركن الأسود في كل طوفة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه إبراهيم بن طهمان عن خالد‏)‏ يعني في التكبير، وأشار بذلك إلى أن رواية عبد الوهاب عن خالد المذكورة في الباب الذي قبله الخالية عن التكبير لا تقدح في زيادة خالد بن عبد الله لمتابعة إبراهيم، وقد وصل طريق إبراهيم في كتاب الطلاق، وسيأتي الكلام في طواف المريض راكبا في بابه إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته إلخ‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ غرضه بهذه الترجمة الرد على من زعم أن المعتمر إذا طاف حل قبل أن يسعى بين الصفا والمروة، فأراد أن يبين أن قول عروة ‏"‏ فلما مسحوا الركن حلوا ‏"‏ محمول على أن المراد لما استلموا الحجر الأسود وطافوا وسعوا حلوا، بدليل حديث ابن عمر الذي أردفه به في هذا الباب، وزعم ابن التين أن معنى قول عروة ‏"‏ مسحوا الركن ‏"‏ أي ركن المروة أي عند ختم السعي، وهو متعقب برواية ابن الأسود عن عبد الله مولى أسماء عن أسماء قالت ‏"‏ اعتمرت أنا وعائشة والزبير وفلان وفلان، فلما مسحنا البيت أحللنا ‏"‏ أخرجه المصنف، وسيأتي في أبواب العمرة‏.‏

وقال النووي‏:‏ لا بد من تأويل قوله ‏"‏ مسحوا الركن ‏"‏ لأن المراد به الحجر الأسود ومسحه يكون في أول الطواف ولا يحصل التحلل بمجرد مسحه بالإجماع، فتقديره‏:‏ فلما مسحوا الركن وأتموا طوافهم وسعيهم وحلقوا حلوا‏.‏

وحذفت هذه المقدرات للعلم بها لظهورها‏.‏

وقد أجمعوا على أنه لا يتحلل قبل تمام الطواف‏.‏

ثم مذهب الجمهور أنه لا بد من السعي بعده ثم الحلق‏.‏

وتعقب بأن المراد بمسح الركن الكناية عن تمام الطواف لا سيما واستلام الركن يكون في كل طوفة‏.‏

فالمعنى فلما فرغوا من الطواف حلوا، وأما السعي والحلق فمختلف فيهما كما قال، ويحتمل أن يكون المعنى فلما فرغوا من الطواف وما يتبعه حلوا‏.‏

قلت‏:‏ وأراد بمسح الركن هنا استلامه بعد فراغ الطواف والركعتين كما وقع في حديث جابر، فحينئذ لا يبقى إلا تقدير وسعوا لأن السعي شرط عند عروة بخلاف ما نقل عن ابن عباس، وأما تقدير حلقوا فينظر في رأي عروة فإن كان الحلق عنده نسكا فيقدر في كلامه وإلا فلا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ذَكَرْتُ لِعُرْوَةَ قَالَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلَهُ ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرني عمرو‏)‏ هو ابن الحارث كما سيأتي بعد أربعة عشر بابا من وجه آخر عن ابن وهب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن محمد بن عبد الرحمن‏)‏ هو أبو الأسود النوفلي المدني المعروف بيتيم عروة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ذكرت لعروة قال فأخبرتني عائشة‏)‏ حذف البخاري صورة السؤال وجوابه واقتصر على المرفوع منه، وقد ذكره مسلم من هذا الوجه ولفظه ‏"‏ أن رجلا من أهل العراق قال له‏:‏ سل لي عروة بن الزبير عن رجل يهل بالحج، فإذا طاف أيحل أم لا‏؟‏ فإن قال لك لا يحل فقل له‏:‏ إن رجلا يقول ذلك‏.‏

قال فسألته قال‏:‏ لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج، قال فتصدى لي الرجل فحدثته فقال‏:‏ فقل له فإن رجلا كان يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، وما شأن أسماء والزبير فعلا ذلك‏؟‏ قال فجئته أي عروة فذكرت له ذلك فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ فقلت‏:‏ لا أدري، أي لا أعرف اسمه‏.‏

قال‏:‏ فما باله لا يأتيني بنفسه يسألني‏؟‏ أظنه عراقيا‏.‏

يعني وهم يتعنتون في المسائل‏.‏

قال‏:‏ قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة أنه توضأ ‏"‏ فذكر الحديث، والرجل الذي سأل لم أقف على اسمه، وقوله ‏"‏فإن رجلا كان يخبر ‏"‏ عنى به ابن عباس فإنه كان يذهب إلى أن من لم يسق الهدي وأهل بالحج إذا طاف يحل من حجه، وأن من أراد أن يستمر على حجه لا يقرب البيت حتى يرجع من عرفة، وكان يأخذ ذلك من أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يجعلوها عمرة، وقد أخرج المصنف ذلك في ‏"‏ باب حجة الوداع ‏"‏ في أواخر المغازي من طريق ابن جريج ‏"‏ حدثني عطاء عن ابن عباس قال‏:‏ إذا طاف بالبيت فقد حل‏.‏

فقلت من أين‏؟‏ قال‏:‏ هذا ابن عباس قال‏:‏ من قوله سبحانه ‏(‏ثم محلها إلى البيت العتيق‏)‏ ومن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يحلوا في حجة الوداع، قلت‏:‏ إنما كان ذلك بعد ذلك المعرف، قال‏:‏ كان ابن عباس يراه قبل وبعد ‏"‏ وأخرجه مسلم من وجه آخر عن ابن جريج بلفظ ‏"‏ كان ابن عباس يقول‏:‏ لا يطوف بالبيت حاج ولا غيره إلا حل‏.‏

قلت لعطاء‏:‏ من أي تقول ذلك‏؟‏ فذكره ‏"‏ ولمسلم من طريق قتادة سمعت أبا حسان الأعرج قال ‏"‏ قال رجل لابن عباس‏:‏ ما هذه الفتيا أن من طاف بالبيت فقد حل‏؟‏ فقال‏:‏ سنة نبيكم وإن رغمتم ‏"‏ وله من طريق وبرة بن عبد الرحمن قال ‏"‏ كنت جالسا عند ابن عمر فجاءه رجل فقال‏:‏ أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ فإن ابن عباس يقول لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف، فقال ابن عمر‏:‏ قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن نأخذ أو بقول ابن عباس إن كنت صادقا ‏"‏ وإذا تقرر ذلك فمعنى قوله في حديث أبي الأسود ‏"‏ قد فعل رسول الله ذلك ‏"‏ أي أمر به، وعرف أن هذا مذهب لابن عباس خالفه فيه الجمهور ووافقه فيه ناس قليل منهم إسحاق بن راهويه، وعرف أن مأخذه فيه ما ذكر، وجواب الجمهور أن النبي أمر أصحابه أن يفسخوا حجهم فيجعلوه عمرة، ثم اختلفوا فذهب الأكثر إلى أن ذلك كان خاصا بهم، وذهب طائفة إلى أن ذلك جائز لمن بعدهم، واتفقوا كلهم أن من أهل بالحج مفردا لا يضره الطواف بالبيت، وبذلك احتج عروة في حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالطواف ولم يحل من حجه ولا صار عمرة وكذا أبو بكر وعمر، فمعنى قوله ‏"‏ ثم لم تكن عمرة ‏"‏ أي لم تكن الفعلة عمرة، هذا إن كان بالنصب على أنه خبر كان، ويحتمل أن تكون كان تامة والمعنى ثم لم تحصل عمرة وهي على هذا بالرفع، وقد وقع في رواية مسلم بدل عمرة ‏"‏ غيره ‏"‏ بغين معجمة وياء ساكنة وآخره هاء، قال عياض وهو تصحيف‏.‏

وقال النووي لها وجه أي لم يكن غير الحج، وكذا وجهه القرطبي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم حججت مع أبي الزبير‏)‏ كذا للأكثر، والزبير بالكسر بدل من أبي، ووقع في رواية الكشميهني مع ابن الزبير يعني أخاه عبد الله، قال عياض‏:‏ وهو تصحيف، وسيأتي في الطريق الآتية بعد أربعة عشر بابا مع أبي الزبير بن العوام وكأن سبب هذا التصحيف أنه وقع في تلك الطريق من الزيادة بعد ذكر أبي بكر وعمر ذكر عثمان ثم معاوية وعبد الله بن عمر قال ‏"‏ ثم حججت مع أبي الزبير ‏"‏ فذكره وقد عرف أن قتل الزبير كان قبل معاوية وابن عمر، لكن لا مانع أن يحجا قبل قتل الزبير فرآهما عروة، أو لم يقصد بقوله ‏"‏ ثم ‏"‏ الترتيب فإن فيها أيضا ‏"‏ ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ‏"‏ فأعاد ذكره مرة أخرى، وأغرب بعض الشارحين فرجح رواية الكشميهني موجها لها بما ذكرته، وقد أوضحت جوابه بحمد الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد أخبرتني أمي‏)‏ هي أسماء بنت أبي بكر، وأختها هي عائشة، واستشكل من حيث أن عائشة في تلك الحجة لم تطف لأجل حيضها، وأجيب بالحمل على أنه أراد حجة أخرى غير حجة الوداع، فقد كانت عائشة بعد النبي صلى الله عليه وسلم تحج كثيرا، وسيأتي الإلمام بشيء من هذا في أبواب العمرة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما مسحوا الركن حلوا‏)‏ أي صاروا حلالا، وقد تقدم في أول الباب ما فيه من الإشكال وجوابه، وفي هذا الحديث استحباب الابتداء بالطواف للقادم لأنه تحية المسجد الحرام، واستثنى بعض الشافعية ومن وافقه المرأة الجميلة أو الشريفة التي لا تبرز فيستحب لها تأخير الطواف إلى الليل إن دخلت نهارا، وكذا من خاف فوت مكتوبة أو جماعة مكتوبة أو مؤكدة أو فائتة فإن ذلك كله يقدم على الطواف، وذهب الجمهور إلى أن من ترك طواف القدوم لا شيء عليه، وعن مالك وأبي ثور من الشافعية عليه دم، وهل يتداركه من تعمد تأخيره لغير عذر، وجهان كتحية المسجد، وفيه الوضوء للطواف، وسيأتي حيث ترجم له المصنف بعد أربعة عشر بابا‏.‏

الحديث الثاني حديث ابن عمر أخرجه من وجهين كلاهما من رواية نافع عنه‏:‏ أحدهما من رواية موسى بن عقبة والآخر من رواية عبيد الله، والراوي عنهما واحد وهو أبو ضمرة أنس بن عياض، زاد في رواية موسى ‏"‏ ثم سجد سجدتين ‏"‏ والمراد بهما ركعتا الطواف ‏"‏ ثم سعى بين الصفا والمروة ‏"‏ وزاد في رواية عبيد الله أنه كان يسعى ببطن المسيل، وقد تقدم ما يتعلق بالرمل قبل خمسة أبواب، وأما السعي بين الصفا والمروة فسيأتي الكلام عليه حيث ترحم له المصنف بعد خمسة عشر بابا إن شاء الله تعالى، والمراد ببطن المسيل الوادي لأنه موضع السيل‏.‏

*3*باب طَوَافِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب طواف النساء مع الرجال‏)‏ أي هل يختلطن بهم أو يطفن معهم على حدة بغير اختلاط أو ينفردن‏.‏

الحديث‏:‏

و قَالَ لِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ قَالَ كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الرِّجَالِ قُلْتُ أَبَعْدَ الْحِجَابِ أَوْ قَبْلُ قَالَ إِي لَعَمْرِي لَقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الْحِجَابِ قُلْتُ كَيْفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ قَالَ لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَطُوفُ حَجْرَةً مِنْ الرِّجَالِ لَا تُخَالِطُهُمْ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ انْطَلِقِي نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ انْطَلِقِي عَنْكِ وَأَبَتْ يَخْرُجْنَ مُتَنَكِّرَاتٍ بِاللَّيْلِ فَيَطُفْنَ مَعَ الرِّجَالِ وَلَكِنَّهُنَّ كُنَّ إِذَا دَخَلْنَ الْبَيْتَ قُمْنَ حَتَّى يَدْخُلْنَ وَأُخْرِجَ الرِّجَالُ وَكُنْتُ آتِي عَائِشَةَ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهِيَ مُجَاوِرَةٌ فِي جَوْفِ ثَبِيرٍ قُلْتُ وَمَا حِجَابُهَا قَالَ هِيَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ لَهَا غِشَاءٌ وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذَلِكَ وَرَأَيْتُ عَلَيْهَا دِرْعًا مُوَرَّدًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال لي عمرو بن علي حدثنا أبو عاصم‏)‏ هذا أحد الأحاديث التي أخرجها عن شيخه عن أبي عاصم النبيل بواسطة، وقد ضاق على الإسماعيلي مخرجه فأخرجه أولا من طريق البخاري ثم أخرجه هكذا وكذا البيهقي، وأما أبو نعيم فأخرجه أولا من طريق البخاري ثم أخرجه من طريق أبي قرة موسى بن طارق عن ابن جريج قال مثله غير قصة عطاء مع عبيد بن عمير، قال أبو نعيم‏:‏ هذا حديث عزيز ضيق المخرج‏.‏

قلت‏:‏ قد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج بتمامه، وكذا وجدته من وجه آخر أخرجه الفاكهي في ‏"‏ كتاب مكة ‏"‏ عن ميمون بن الحكم الصنعاني عن محمد بن جعشم وهو بجيم ومعجمة مضمومتين بينهما عين مهملة قال‏:‏ أخبرني ابن جريج فذكره بتمامه أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذ منع ابن هشام‏)‏ هو إبراهيم - أو أخوه محمد - ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي وكان خالي هشام بن عبد الملك فولى محمدا إمرة مكة وولى أخاه إبراهيم بن هشام إمرة المدينة وفوض هشام لإبراهيم إمرة الحج بالناس في خلافته فلهذا قلت‏:‏ يحتمل أن يكون المراد، ثم عذبهما يوسف بن عمر الثقفي حتى ماتا في محنته في أول ولاية الوليد بن يزيد بن عبد الملك بأمره سنة خمس وعشرين ومائة قاله خليفة بن خياط في تاريخه، وظاهر هذا أن ابن هشام أول من منع ذلك، لكن روى الفاكهي من طريق زائدة عن إبراهيم النخعي قال‏:‏ نهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء، قال فرأى رجلا معهن فضربه بالدرة، وهذا إن صح لم يعارض الأول لأن ابن هشام منعهن أن يطفن حين يطوف الرجال مطلقا، فلهذا أنكر عليه عطاء واحتج بصنيع عائشة وصنيعها شبيه بهذا المنقول عن عمر، قال الفاكهي‏:‏ ويذكر عن ابن عيينة أن أول من فرق ببن الرجال والنساء في الطواف خالد بن عبد الله القسري انتهى، وهذا إن ثبت فلعله منع ذلك وقتا ثم تركه فإنه كان أمير مكة في زمن عبد الملك بن مروان وذلك قبل ابن هشام بمدة طويلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كيف يمنعهن‏)‏ معناه أخبرني ابن جريج بزمان المنع قائلا فيه كيف يمنعهن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال‏)‏ أي غير مختلطات بهن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعد الحجاب‏)‏ في رواية المستملي ‏"‏ أبعد ‏"‏ بإثبات همزة الاستفهام، وكذا هو للفاكهي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إي لعمري‏)‏ هو بكسر الهمزة بمعني نعم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لقد أدركته بعد الحجاب‏)‏ ذكر عطاء هذا لرفع توهم من يتوهم أنه حمل ذلك عن غيره، ودل على أنه رأى ذلك منهن، والمراد بالحجاب نزول آية الحجاب وهي قوله تعالى ‏(‏وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب‏)‏ وكان ذلك في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش كما سيأتي في مكانه، ولم يدرك ذلك عطاء قطعا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يخالطن‏)‏ في رواية المستملي ‏"‏ يخالطهن ‏"‏ في الموضعين، والرجال بالرفع على الفاعلية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حجرة‏)‏ بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها راء أي ناحية، قال القزاز‏:‏ هو مأخوذ من قولهم‏:‏ نزل فلان حجرة من الناس أي معتزلا‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ حجزة ‏"‏ بالزاي وهي رواية عبد الرزاق فإنه فسره في آخره فقال‏:‏ يعني محجوزا بينها وبين الرجال بثوب، وأنكر ابن قرقول حجرة بضم أوله وبالراء، وليس بمنكر فقد حكاه ابن عديس وابن سيده فقالا‏:‏ يقال قعد حجرة بالفتح والضم أي ناحية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقالت امرأة‏)‏ زاد الفاكهي ‏"‏ معها ‏"‏ ولم أقف على اسم هذه المرأة، ويحتمل أن تكون دقرة بكسر المهملة وسكون القاف امرأة روى عنها يحيي بن أبي كثير أنها كانت تطوف مع عائشة بالليل فذكر قصة أخرجها الفاكهي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏انطلقي عنك‏)‏ أي عن جهة نفسك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يخرجن‏)‏ زاد الفاكهي ‏"‏ وكن يخرجن إلخ‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏متنكرات‏)‏ في رواية عبد الرزاق ‏"‏ مستترات ‏"‏ واستنبط منه الداودي جواز النقاب للنساء في الإحرام وهو في غاية البعد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا دخلن البيت قمن‏)‏ في رواية الفاكهي ‏"‏ سترن‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حين يدخلن‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ حتى يدخلن ‏"‏ وكذا هو للفاكهي، والمعنى إذا أردن دخول البيت وقفن حتى يدخلن حال كون الرجال مخرجين منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكنت آتي عائشة أنا وعبيد بن عمير‏)‏ أي الليثي، والقائل ذلك عطاء، وسيأتي في أول الهجرة من طريق الأوزاعي عن عطاء قال ‏"‏ زرت عائشة مع عبيد بن عمير‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهي مجاورة في جوف ثبير‏)‏ أي مقيمة فيه، واستنبط منه ابن بطال الاعتكاف في غير المسجد لأن ثبيرا خارج عن مكة وهو في طريق منى انتهى، وهذا مبني على أن المراد بثبير الجبل المشهور الذي كانوا في الجاهلية يقولون له‏:‏ أشرق ثبير كيما نغير، وسيأتي ذلك بعد قليل، وهذا هو الظاهر، وهو جبل المزدلفة، لكن بمكة خمسة جبال أخرى يقال لكل منها ثبير ذكرها أبو عبيد البكري وياقوت وغيرهما، فيحتمل أن يكون المراد لأحدها، لكن يلزم من إقامة عائشة هناك أنها أرادت الاعتكاف، سلمنا لكن لعلها اتخذت في المكان الذي جاورت فيه مسجدا اعتكفت فيه وكأنها لم يتيسر لها مكان في المسجد الحرام تعتكف فيه فاتخذت ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وما حجابها‏)‏ زاد الفاكهي ‏"‏ حينئذ‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تركية‏)‏ قال عبد الرزاق‏:‏ هي قبة صغيرة من لبود تضرب في الأرض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏درعا موردا‏)‏ أي قميصا لونه لون الورد، ولعبد الرزاق ‏"‏ درعا معصفرا وأنا صبي ‏"‏ فبين بذلك سبب رؤيته إياها، ويحتمل أن يكون رأى ما عليها اتفاقا، وزاد الفاكهي في آخره ‏"‏ قال عطاء وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن تطوف راكبة في خدرها من وراء المصلين في جوف المسجد ‏"‏ وأفرد عبد الرزاق هذا، وكأن البخاري حذفه لكونه مرسلا فاغتنى عنه بطريق مالك الموصولة فأخرجها عقبة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ وَهُوَ يَقْرَأُ وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن محمد بن عبد الرحمن‏)‏ هو أبو الأسود يتيم عروة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أم سلمة‏)‏ هي والدة زينب الراوية عنها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أني أشتكي‏)‏ أي أنها ضعيفة، وقد بين المصنف من طريق هشام بن عروة عن أبيه سبب طواف أم سلمة وأنه طواف الوداع، وسيأتي بعد ستة أبواب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأنت راكبة‏)‏ في رواية هشام ‏"‏ على بعيرك‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي‏)‏ في رواية هشام ‏"‏ والناس يصلون ‏"‏ وبين فيه أنها صلاة الصبح، وقد تقدم البحث في ذلك في صفة الصلاة، وفيه جواز الطواف للراكب إذا كان لعذر، وإنما أمرها أن تطوف من وراء الناس ليكون أستر لها ولا تقطع صفوفهم أيضا ولا يتأذون بدابتها، فأما طواف الراكب من غير عذر فسيأتي البحث فيه بعد أبواب، ويلتحق بالراكب المحمول إذا كان له عذر، وهل يجزئ هذا الطواف عن الحامل والمحمول‏؟‏ فيه بحث‏.‏

واحتج به بعض المالكية لطهارة بول ما يؤكل لحمه، وقد تقدم توجيه ذلك والتعقب عليه في ‏"‏ باب إدخال البعير المسجد للعلة‏"‏‏.‏

*3*باب الْكَلَامِ فِي الطَّوَافِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الكلام في الطواف‏)‏ أي إباحته، وإنما لم يصرح بذلك لأن الخبر ورد في كلام يتعلق بأمر بمعروف لا بمطلق الكلام، ولعله أشار إلى الحديث المشهور عن ابن عباس موقوفا ومرفوعا ‏"‏ الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير ‏"‏ أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وقد استنبط منه ابن عبد السلام أن الطواف أفضل أعمال الحج لأن الصلاة أفضل من الحج فيكون ما اشتملت عليه أفضل، قال‏:‏ وأما حديث ‏"‏ الحج عرفة ‏"‏ فلا يتعين، التقدير معظم الحج عرفة بل يجوز إدراك الحج بالوقوف بعرفة‏.‏

قلت‏:‏ وفيه نظر، ولو سلم فما لا يتقوم الحج إلا به أفضل مما ينجبر، والوقوف والطواف سواء في ذلك فلا تفضيل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ أَنَّ طاووسا أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ أَوْ بِخَيْطٍ أَوْ بِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ فَقَطَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ قُدْهُ بِيَدِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏بإنسان ربط يده إلى إنسان‏)‏ زاد أحمد عن عبد الرزاق عن ابن جريج ‏"‏ إلى إنسان آخر ‏"‏ وفي رواية النسائي من طريق حجاج عن ابن جريج ‏"‏ بإنسان قد ربط يده بإنسان‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بسير‏)‏ بمهملة مفتوحة وياء ساكنة معروف، وهو ما يقد من الجلد وهو الشراك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو بشيء غير ذلك‏)‏ كأن الراوي لم يضبط ما كان مربوطا به، وقد روى أحمد والفاكهي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك رجلين وهما مقترنان فقال‏:‏ ما بال القران‏؟‏ قالا‏:‏ إنا نذرنا لنقترنن حتى نأتي الكعبة، فقال‏:‏ أطلقا أنفسكما، ليس هذا نذرا إنما النذر ما يبتغى به وجه الله ‏"‏ وإسناده إلى عمرو حسن، ولم أقف على تسمية هذين الرجلين صريحا إلا أن في الطبراني من طريق فاطمة بنت مسلم ‏"‏ حدثني خليفة بن بشر عن أبيه أنه أسلم، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ماله وولده، ثم لقيه هو وابنه طلق بن بشر مقترنين بحبل فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال‏:‏ حلفت لئن رد الله علي مالي وولدي لأحجن بيت الله مقرونا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحبل فقطعه وقال لهما‏:‏ حجا، إن هذا من عمل الشيطان‏"‏، فيمكن أن يكون بشر وابنه طلق صاحبي هذه القصة‏.‏

وأغرب الكرماني فقال‏.‏

قيل اسم الرجل المقود هو ثواب ضد العقاب انتهى، ولم أر ذلك لغيره ولا أدري من أين أخذه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قد‏)‏ بضم القاف وسكون الدال فعل أمر، في رواية أحمد والنسائي ‏"‏ قده ‏"‏ بإثبات هاء الضمير وهو للرجل المقود، قال النووي‏:‏ وقطعه عليه الصلاة والسلام السير محمول على أنه لم يمكن إزالة هذا المنكر إلا بقطعه، أو أنه دل على صاحبه فتصرف فيه‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان أهل الجاهلية يتقربون إلى الله بمثل هذا الفعل‏.‏

قلت‏:‏ وهو بين من سياق حديثي عمرو بن شعيب وخليفة بن بشر‏.‏

وقال ابن بطال في هذا الحديث‏:‏ إنه يجوز للطائف فعل ما خف من الأفعال وتغيير ما يراه الطائف من المنكر‏.‏

وفيه الكلام في الأمور الواجبة والمستحبة والمباحة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أولى ما شغل المرء به نفسه في الطواف ذكر الله وقراءة القرآن، ولا يحرم الكلام المباح إلا أن الذكر أسلم‏.‏

وحكى ابن التين خلافا في كراهة الكلام المباح‏.‏

وعن مالك تقييد الكراهة بالطواف الواجب‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واختلفوا في القراءة، فكان ابن المبارك يقول‏:‏ ليس شيء أفضل من قراءة القرآن، وفعله مجاهد، واستحبه الشافعي وأبو ثور، وقيده الكوفيون بالسر، وروي عن عروة والحسن كراهته، وعن عطاء ومالك أنه محدث، وعن مالك لا بأس به إذا أخفاه ولم يكثر منه، قال ابن المنذر‏:‏ من أباح القراءة في البوادي والطرق ومنعه في الطواف لا حجة له‏.‏

ونقل ابن التين عن الداودي أن في هذا الحديث من نذر ما لا طاعة لله تعالى فيه لا يلزمه، وتعقبه بأنه ليس في هذا الحديث شيء من ذلك وإنما ظاهر الحديث أنه كان ضرير البصر ولهذا قال له قده بيده انتهى‏.‏

ولا يلزم من أمره له بأن يقوده أنه كان ضريرا بل يحتمل أن يكون بمعنى آخر غير ذلك، وأما ما أنكره من النذر فمتعقب بما في النسائي من طريق خالد بن الحارث عن ابن جريح في هذا الحديث أنه قال أنه نذر، ولهذا أخرجه البخاري في أبواب النذر كما سيأتي الكلام عليه مشروحا هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب إِذَا رَأَى سَيْرًا أَوْ شَيْئًا يُكْرَهُ فِي الطَّوَافِ قَطَعَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا رأى سيرا أو شيئا يكره في الطواف قطعه‏)‏ أورد فيه حديث ابن عباس من وجه آخر عن ابن جريج بإسناده ولفظه ‏"‏ رأى رجلا يطوف بالكعبة بزمام أو غيره فقطعه ‏"‏ وهذا مختصر من الحديث الذي قبله، وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله، قال ابن بطال‏:‏ وإنما قطعه لأن القود بالأزمة إنما يفعل بالبهائم وهو مثلة

*3*باب لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وَلَا يَحُجُّ مُشْرِكٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لا يطوف بالبيت عريان‏)‏ أورد فيه حديث أبي هريرة في ذلك، وفيه حجة لاشتراط ستر العورة في الطواف كما يشترط في الصلاة، وقد تقدم طرف من ذلك في أوائل الصلاة، والمخالف في ذلك الحنفية قالوا‏:‏ ستر العورة في الطواف ليس بشرط فمن طاف عريانا أعاد ما دام بمكة، فإن خرج لزمه دم‏.‏

وذكر ابن إسحاق في سبب هذا الحديث أن قريشا ابتدعت قبل الفيل أو بعده أن لا يطوف بالبيت أحد ممن يقدم عليهم من غيرهم أول ما يطوف إلا في ثياب أحدهم، فإن لم يجد طاف عريانا، فإن خالف وطاف بثيابه ألقاها إذا فرغ ثم لم ينتفع بها فجاء الإسلام فهدم ذلك كله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ أَلَا لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن لا يحج‏)‏ بالنصب‏.‏

وفي رواية صالح بن كيسان عن الزهري عند المؤلف في التفسير ‏"‏ أن لا يحجن ‏"‏ وهو يعين ذلك للنهي، وقوله‏:‏ ‏"‏ ولا يطوف ‏"‏ يجوز فيه النصب، والتقدير وأن لا يطوف، والرفع على أن ‏"‏ أن ‏"‏ مخففة من الثقيلة، ويجوز أن يقرأ بفتح الطاء وتشديد الواو وسكون الفاء عطفا على الذي قبله، وسيأتي الكلام على بقية شرح هذا الحديث في تفسير براءة إن شاء الله تعالى‏.‏