فصل: باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيُفْهِمَ السَّائِلَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حكمهما ليفهم السائل‏)‏ في رواية الكشميهني والإسماعيلي والجرجاني قد بين الله بحذف ‏"‏ الواو ‏"‏ وبحذف ‏"‏ النبي ‏"‏ والأول أولى، وحذف الواو يوافق ترجمة المصنف الماضية، قال مما علمه الله ليس برأي ولا تمثيل، أي أن الذي ورد عنه من التمثيل إنما هو تشبيه أصل بأصل، والمشبه أخفى عند السائل من المشبه به، وفائدة التشبيه التقريب لفهم السائل وأورده النسائي بلفظ ‏"‏ من شبه أصلا معلوما بأصل مبهم، قد بين الله حكمهما ليفهم السائل ‏"‏ وهذا أوضح في المراد ذكر فيه حديث أبي هريرة في قصة الذي قال ‏"‏ إن امرأتي ولدت غلاما أسود ‏"‏ وقد تقدمت الإشارة إليه قريبا، وتقدم شرحه مستوفى في ‏"‏ كتاب اللعان ‏"‏ وحديث ابن عباس في قصة المرأة التي ذكرت أن أمها نذرت أن تحج فماتت، أفأحج عنها، وقد تقدمت الإشارة إليه قريبا أيضا، وتقدم شرحه مستوفى في الحج، قال ابن بطال التشبيه والتمثيل هو القياس عند العرب، وقد احتج المزني بهذين الحديثين على من أنكر القياس، قال‏:‏ وأول من أنكر القياس إبراهيم النظام وتبعه بعض المعتزلة، وممن ينسب إلى الفقه داود بن علي، وما اتفق عليه الجماعة هو الحجة، فقد قاس الصحابة فمن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار وبالله التوفيق، وتعقب بعضهم الأولية التي ادعاها بان بطال بأن إنكار القياس ثبت عن ابن مسعود من الصحابة ومن التابعين عن عامر الشعبي من فقهاء الكوفة، وعن محمد بن سيرين من فقهاء البصرة وقال الكرماني عقد هذا الباب وما فيه يدل على صحة القياس وأنه ليس مذموما‏.‏

لكن لو قال من شبه أمرا معلوما لوافق اصطلاح أهل القياس، قال‏:‏ وأما الباب الماضي المشعر بذم القياس وكراهته، فطريق الجمع بينهما أن القياس على نوعين‏:‏ صحيح وهو المشتمل على جميع الشرائط؛ وفاسد وهو بخلاف ذلك، فالمذموم هو الفاسد، وأما الصحيح فلا مذمة فيه بل هو مأمور به انتهى، وقد ذكر الشافعي شرط من له أن يقيس فقال‏:‏ يشترط أن يكون عالما بالأحكام من كتاب الله تعالى وبناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه، ويستدل على ما احتمل التأويل بالسنة وبالإجماع، فإن لم يكن فبالقياس على ما في الكتاب، فإن لم يكن فبالقياس على ما في السنة، فإن لم يكن فبالقياس على ما اتفق عليه السلف وإجماع الناس، ولم يعرف له مخالف قال‏:‏ ولا يجوز القول في شيء من العلم إلا من هذه الأوجه، ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالما بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختلاف العلماء ولسان العرب ويكون صحيح العقل ليفرق بين المشتبهات ولا يعجل، ويستمع ممن خالفه ليتنبه بذلك على غفلة إن كانت، وأن يبلغ غاية جهده وينصف من نفسه حتى يعرف من أين قال ما قال، والاختلاف على وجهين فما كان منصوصا لم يحل فيه الاختلاف عليه، وما كان يحتمل التأويل أو يدرك قياسا فذهب المتأول أو القائس إلى معنى يحتمل وخالفه غيره، لم أقل أنه يضيق عليه ضيق المخالف للنص، وإذا قاس من له القياس فاختلفوا وسع كلا أن يقول بمبلغ اجتهاده، ولم يسعه اتباع غيره فيما أداه إليه اجتهاده‏.‏

وقال ابن عبد البر - في بيان العلم بعد أن ساق هذا الفصل - قد أتى الشافعي رحمه الله في هذا الباب بما فيه كفاية وشفاء والله الموفق؛ وقال ابن العربي وغيره‏:‏ القرآن هو الأصل، فإن كانت دلالته خفية نظر في السنة فإن بينته وإلا فالجلي من السنة، وإن كانت الدلالة منها خفية نظر فيما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا رجح فإن لم يوجد عمل بما يشبه نص الكتاب السنة ثم السنة ثم الاتفاق ثم الراجح كما سقته عنه في شرح حديث أنس ‏"‏ لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه ‏"‏ في أوائل ‏"‏ كتاب الفتن ‏"‏ وأنشد ابن عبد البر لأبي محمد اليزيدي النحوي المقرئ برواية أبي عمرو بن العلاء من أبيات طويلة في إثبات القياس‏:‏ لا تكن كالحمار يحمل أسفارا كما قد قرأت في القرآن إن هذا القياس في كل أمر عند أهل العقول كالميزان لا يجوز القياس في الدين إلا لفقيه لدينه صوان ليس يغني عن جاهل قول راو عن فلان وقوله عن فلان إن أتاه مسترشدا أفتاه بحديثين فيهما معنيان إن من يحمل الحديث ولا يعـ ـرف فيه المراد كالصيدلاني حكم الله في الجزاء ذوي عد ل لذي الصيد بالذي يريان لم يوقت ولم يسم ولكن قال فيه فليحكم العدلان ولنا في النبي صلى عليـ ـه الله والصالحون كل أوان أسوة في مقاله لمعاذ اقض بالرأي إن أتى الخصمان وكتاب الفاروق يرحمه الله إلى الأشعري في تبيان قس إذا أشكلت عليك أمور ثم قل بالصواب والعرفان وتعقب بعضهم الأولية التي ادعاها ابن بطال بأن إنكار القياس ثبت عن ابن مسعود من الصحابة، ومن التابعين عن عامر الشعبي من فقهاء الكوفة، وعن محمد بن سيرين من فقهاء البصرة وذلك مشهور عنهم، نقله ابن عبد البر ومن قبله الدارمي وغيره عنهم وعن غيرهم، والمذهب المعتدل ما قاله الشافعي ‏"‏ أن القياس مشروع عند الضرورة ‏"‏ لا أنه أصل برأسه‏.‏

*3*باب مَا جَاءَ فِي اجْتِهَادِ الْقُضَاةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى

لِقَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ وَمَدَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ الْحِكْمَةِ حِينَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا لَا يَتَكَلَّفُ مِنْ قِبَلِهِ وَمُشَاوَرَةِ الْخُلَفَاءِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما جاء في اجتهاد القضاء‏)‏ كذا لأبي ذر والنسفي وابن بطال وطائفة، القضاء بفتح أوله والمد وإضافة الاجتهاد إليه بمعنى الاجتهاد فيه والمعنى‏:‏ الاجتهاد في الحكم بما أنزل الله تعالى، أو فيه حذف تقديره اجتهاد متولي القضاء، ووقع في رواية غيرهم ‏"‏ القضاة ‏"‏ بصيغة الجمع، وهو واضح لكن سيأتي بعد قليل الترجمة لاجتهاد الحاكم فيلزم التكرار، والاجتهاد‏:‏ بذل الجهد في الطلب واصطلاحا‏:‏ بذل الوسع للتوصل إلى معرفة الحكم الشرعي‏.‏

قوله ‏(‏بما أنزل الله، ولقوله‏:‏ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون‏)‏ كذا للأكثر، وللنسفي ‏(‏بما أنزل الله‏)‏ الآية، وترجم في أوائل الأحكام للحديث الأول من الباب ‏"‏ أجر من قضى بالحكمة ‏"‏ لقول الله تعالى ‏(‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون‏)‏ وفيه إشارة إلى أن الوصف بالصفتين ليس واحدا خلافا لمن قال إحداهما في النصارى، والأخرى في المسلمين، والأولى لليهود والأظهر العموم، واقتصر المصنف على تلاوة الآيتين لإمكان تناولهما المسلمين بخلاف الأولى‏.‏

فإنها في حق من استحل الحكم بخلاف ما أنزل الله تعالى، وأما الأخرتان فهما لأعم من ذلك‏.‏

قوله ‏(‏ومدح النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الحكمة حين يقضي بها ويعلمها، ولا يتكلف من قبله‏)‏ يجوز في مدح فتح الدال على أنه فعل ماض، ويجوز تسكينها على أنه اسم والحاء مجرورة وهو مضاف للفاعل واختلف في ضبط قبله، فللأكثر بفتح الموحدة بعد القاف المكسورة أي من جهته، وللكشميهني بتحتانية ساكنة بدل الموحدة أي من كلامه، وعند النسفي من قبل نفسه‏.‏

قوله ‏(‏ومشاورة الخلفاء وسؤالهم أهل العلم‏)‏ ذكر فيه حديثين الأول للشق الأول والثاني للثاني‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا

الشرح‏:‏

حديث ابن مسعود ‏"‏ لا حسد إلا في اثنتين ‏"‏ وقد تقدم سندا ومتنا في أول ‏"‏ كتاب الأحكام ‏"‏ وترجم له أجر من قضى بالحكمة، وتقدم الكلام عليه ثمة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ إِمْلَاصِ الْمَرْأَةِ هِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بَطْنُهَا فَتُلْقِي جَنِينًا فَقَالَ أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْئًا فَقُلْتُ أَنَا فَقَالَ مَا هُوَ قُلْتُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ فَقَالَ لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَجِيئَنِي بِالْمَخْرَجِ فِيمَا قُلْتَ فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَجِئْتُ بِهِ فَشَهِدَ مَعِي أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ

الشرح‏:‏

حديث المغيرة قال ‏"‏ سأل عمر عن إملاص المرأة ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر الديات أخرجه عاليا عن عبيد الله بن موسى عن هشام بن عروة، ومن وجهين آخرين عن هشام، وقوله هنا ‏"‏ حدثنا محمد ‏"‏ هو ابن سلام كما جزم به ابن السكن، وقد أخرج البخاري في النكاح حديثا عن محمد بن سلام منسوبا لأبيه عند الجميع عن أبي معاوية، فهذه قرينة تؤيد قول ابن السكن واحتمال كونه محمد بن المثنى بعيد، وإن كان أخرج في الطهارة عن محمد بن خازم بمعجمتين حديثا وهو أبو معاوية، لكن المهمل إنما يحمل على من يكون لمن أهمله به اختصاص، واختصاص البخاري بمحمد بن سلام مشهور، وقوله في آخره ‏"‏ تابعه ابن أبي الزناد ‏"‏ يعني عبد الرحمن ‏(‏عن أبيه‏)‏ وهو عبد الله بن ذكوان وهو بكنيته أشهر وسقط هذا للنسفي‏.‏

قوله ‏(‏عن عروة عن المغيرة‏)‏ كذا للأكثر وهو الصواب، ووقع في رواية الكشميهني عن الأعرج عن أبي هريرة وهو غلط، فقد رويناه موصولا عن البخاري نفسه، وهو في الجزء الثالث عشر من فوائد الأصبهانيين عن المحاملي، قال ‏"‏ حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، حدثني بن أبي الزناد عن أبيه عن عروة عن المغيرة ‏"‏ وكذلك أخرجه الطبراني من وجه آخر عن عبد الرحمن ابن أبي الزناد، ولم ينبه الحميدي في الجمع، ولا المزي في الأطراف، ولا أحد من الشراح على هذا الموضع، قال ابن بطال‏:‏ لا يجوز للقاضي الحكم إلا بعد طلب حكم الحادثة من الكتاب أو السنة، فإن عدمه رجع إلى الإجماع فإن لم يجده نظر هل يصح الحمل على بعض الأحكام المقررة لعلة تجمع بينهما، فإن وجد ذلك لزمه القياس عليها، إلا إن عارضتها علة أخرى فيلزمه الترجيح، فإن لم يجد علة استدل بشواهد الأصول وغلبة الاشتباه، فإن لم يتوجه له شيء من ذلك رجع إلى حكم العقل، قال‏:‏ هذا قول ابن الطيب، يعني أبا بكر الباقلاني، ثم أشار إلى إنكار كلامه الأخير بقوله تعالى ‏(‏ما فرطنا في الكتاب من شيء‏)‏ وقد علم الجميع بأن النصوص لم تحط بجميع الحوادث فعرفنا أن الله قد أبان حكمها بغير طريق النص وهو القياس، ويؤيد ذلك قوله تعالى ‏(‏لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏)‏ لأن الاستنباط هو الاستخراج وهو بالقياس، لأن النص ظاهر، ثم ذكر في الرد على منكري القياس وألزمهم التناقض، لأن من أصلهم إذا لم يوجد النص الرجوع إلى الإجماع‏.‏

قال‏:‏ فيلزمهم أن يأتوا بالإجماع على ترك القول بالقياس ولا سبيل لهم إلى ذلك، فوضح أن القياس إنما ينكر إذا استعمل مع وجود النص أو الإجماع لا عند فقد النص والإجماع‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏

*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لتتبعن‏)‏ بمثناتين مفتوحتين ثم موحدة مكسورة وعين مهملة مضمومة ونون ثقيلة، وأصله تتبعون ‏(‏سنن‏)‏ بالمهملة والنون بعدها نون أخرى ‏(‏من كان قبلكم‏)‏ بفتح اللام، ولفظ الترجمة مطابق للفظ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَارِسَ وَالرُّومِ فَقَالَ وَمَنْ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن المقبري‏)‏ هو سعيد وسماه الإسماعيلي في روايته عن إبراهيم بن شريك عن أحمد ابن يونس شيخ البخاري فيه‏.‏

قوله ‏(‏لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها‏)‏ كذا هنا بموحدة مكسورة وألف مهموزة وخاء معجمة ثم معجمة، والأخذ بفتح الألف وسكون الخاء على الأشهر هو السيرة، يقال أخذ فلان بأخذ فلان أي سار بسيرته، وما أخذ أخذه، أي ما فعل فعله ولا قصد قصده، وقيل الألف مثلثة وقرأه بعضهم ‏"‏ إخذ ‏"‏ بفتح الخاء جمع إخذة بكسر أوله مثل كسرة كسر، ووقع في رواية الأصيلي على ما حكاه ابن بطال ‏"‏ بما أخذ القرون ‏"‏ بموحدة وما الموصولة، وأخذ بلفظ الفعل الماضي، وهي رواية الإسماعيلي‏.‏

وفي رواية النسفي ‏"‏ مأخذ ‏"‏ بميم مفتوحة وهمزة ساكنة، و ‏"‏ القرون ‏"‏ جمع قرن بفتح القاف وسكون الراء الأمة من الناس، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق عبد الله بن نافع عن ابن أبي ذئب ‏"‏ الأمم والقرون‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏شبرا بشبر وذراعا بذراع‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ شبرا شبرا وذراعا ذراعا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقيل يا رسول الله‏)‏ في رواية الإسماعيلي من طريق عبد الصمد بن النعمان عن ابن أبي ذئب ‏"‏ فقال رجل ‏"‏ ولم أقف عليه مسمى‏.‏

قوله ‏(‏كفارس والروم‏)‏ يعني الأمتين المشهورتين في ذلك الوقت، وهم الفرس في ملكهم كسرى، والروم في ملكهم قيصر وفي رواية الإسماعيلي المذكورة ‏"‏ كما فعلت فارس والروم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ومن الناس إلا أولئك‏)‏ أي فارس والروم، لكونهم كانوا إذ ذاك أكبر ملوك الأرض وأكثرهم رعية وأوسعهم بلادا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الصَّنْعَانِيُّ مِنْ الْيَمَنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا محمد بن عبد العزيز‏)‏ هو الرملي ‏"‏ وأبو عمر الصنعاني ‏"‏ بمهملة ثم نون هو حفص ابن ميسرة، وقوله ‏"‏من اليمن ‏"‏ أي هو رجل من اليمن أي هو من صنعاء اليمن لا من صنعاء الشام، وقيل المراد أصله من اليمن وهو من صنعاء الشام ونزل عسقلان‏.‏

قوله ‏(‏لتتبعن سنن‏)‏ بفتح السين للأكثر‏.‏

وقال ابن التين قرأناه بضمها‏.‏

وقال المهلب بالفتح أولى لأنه الذي يستعمل فيه الذراع والشبر وهو الطريق‏.‏

قلت‏:‏ وليس اللفظ الأخير ببعيد من ذلك‏.‏

قوله ‏(‏شبرا شبرا، وذراعا ذراعا‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ شبرا بشبر وذراعا بذراع ‏"‏ عكس الذي قبله، قال عياض الشبر والذراع والطريق ودخول الجحر تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمه‏.‏

قوله ‏(‏جحر‏)‏ بضم الجيم وسكون المهملة، و ‏"‏ الضب ‏"‏ الحيوان المعروف تقدم الكلام عليه في ذكر بني إسرائيل‏.‏

قوله ‏(‏قلنا‏)‏ لم أقف على تعيين القائل‏.‏

قوله ‏(‏قال فمن‏)‏ هو استفهام إنكار والتقدير‏:‏ فمن هم غير أولئك، وقد أخرج الطبراني من حديث المستورد بن شداد رفعه ‏"‏ لا تترك هذه الأمة شيئا من سنن الأولين حتى تأتيه ‏"‏ ووقع في حديث عبد الله بن عمرو عند الشافعي بسند صحيح ‏"‏ لتركبن سنة من كان قبلكم حلوها ومرها ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ أعلم صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائما عند خاصة من الناس‏.‏

قلت‏:‏ وقد وقع معظم ما أنذر به صلى الله عليه وسلم وسيقع بقية ذلك‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ حديث أبي هريرة مغاير لحديث أبي سعيد لأن الأول فسر بفارس والروم، والثاني باليهود والنصارى، لكن الروم نصارى وقد كان في الفرس يهود، أو ذكر ذلك على سبيل المثال لأنه قال في السؤال كفارس انتهى‏.‏

وذكر عليه جوابه صلى الله عليه وسلم بقوله ‏"‏ ومن الناس إلا أولئك ‏"‏ لأن ظاهره الحصر فيهم، وقد أجاب عنه الكرماني بأن المراد حصر الناس المعهود من المتبوعين‏.‏

قلت‏:‏ ووجهه أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث كان ملك البلاد منحصرا في الفرس والروم وجميع من عداهم من الأمم من تحت أيديهم أو كلا شيء بالنسبة إليهم، فصح الحصر بهذا الاعتبار، ويحتمل أن يكون الجواب اختلف بحسب المقام، فحيث قال فارس والروم كان هناك قرينة تتعلق بالحكم بين الناس وسياسة الرعية، وحيث قيل اليهود والنصارى كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات أصولها وفروعها، ومن ثم كان في الجواب عن الأول ‏"‏ ومن الناس إلا أولئك ‏"‏ وأما الجواب في الثاني بالإبهام فيؤيد الحمل المذكور وأنه كان هناك قرينة تتعلق بما ذكرت، واستدل ابن عبد البر في باب ذم القول بالرأي إذا كان على غير أصل بما أخرجه من جامع ابن وهب ‏"‏ أخبرني يحيى بن أيوب عن هشام بن عروة أنه سمع أباه يقول ‏"‏ لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى حدث فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فأحدثوا فيهم القول بالرأي وأضلوا بني إسرائيل ‏"‏ قال‏:‏ وكان أبي يقول ‏"‏ السنن السنن فإن السنن قوام الدين ‏"‏ وعن ابن وهب أخبرني بكر بن مضر عمن سمع ابن شهاب الزهري وهو يذكر ما وقع الناس فيه من الرأي وتركهم السنن، فقال ‏"‏ إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي كان بأيديهم حين استقلوا الرأي وأخذوا فيه ‏"‏ وأخرج ابن أبي خيثمة من طريق مكحول عن أنس ‏"‏ قيل‏:‏ يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏؟‏ قال إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، إذا ظهر الإدهان في خياركم والفحش في شراركم، والملك في صغاركم، والفقه في رذالكم ‏"‏ وفي مصنف قاسم بن أصبغ بسند صحيح عن عمر ‏"‏ فساد الدين إذا جاء العلم من قبل الصغير استعصى عليه الكبير، وصلاح الناس إذا جاء العلم من قبل الكبير تابعه عليه الصغير ‏"‏ وذكر أبو عبيد أن المراد بالصغر في هذا صغر القدر لا السن والله أعلم‏.‏

*3*باب إِثْمِ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ أَوْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ الْآيَةَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إثم من دعا إلى ضلالة، أو سن سنة سيئة‏)‏ لقوله تعالى ‏(‏ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم‏)‏ ورد فيما ترجم به حديثان بلفظ‏:‏ وليسا على شرطه، واكتفى بما يؤدي معناهما وهما ما ذكرهما من الآية والحديث، فأما حديث ‏"‏ من دعا إلى ضلالة ‏"‏ فأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ‏"‏ وأما حديث ‏"‏ من سن سنة سيئة ‏"‏ فأخرجه مسلم من رواية عبد الرحمن ابن هلال عن جرير بن عبد الله البجلي في حديث طويل قال فيه ‏"‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا ‏"‏ وأخرجه من طريق المنذر بن جرير عن أبيه مثله لكن قال ‏"‏ شيء ‏"‏ في الموضعين بالرفع، وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن جرير بلفظ ‏"‏ من سن سنة خير، ومن سن سنة شر ‏"‏ وأما الآية فقال مجاهد في قوله تعالى ‏(‏ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة، ومن أوزار الذين يضلونهم‏)‏ قال‏:‏ حملهم ذنوب أنفسهم وذنوب من أطاعهم، ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم شيئا‏.‏

وأخرج عن الربيع بن أنس أنه فسر الآية المذكورة بحديث أبي هريرة المذكور، ذكره مرسلا بغير سند، وأما حديث الباب عن عبد الله بن مسعود فقد مضى شرحه في أول ‏"‏ كتاب القصاص ‏"‏ وتقدم البحث في المراد بالمفارق للجماعة المذكور فيه، قال المهلب‏:‏ هذا الباب والذي قبله في معنى التحذير من الضلال، واجتناب البدع ومحدثات الأمور في الدين، والنهي عن مخالفة سبيل المؤمنين انتهى‏.‏

ووجه التحذير أن الذي يحدث البدعة قد يتهاون بها لخفة أمرها في أول الأمر، ولا يشعر بما يترتب عليها من المفسدة، وهو أن يلحقه إثم من عمل بها من بعده، ولو لم يكن هو عمل بها بل لكونه كان الأصل في إحداثها‏.‏

*3*باب مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَضَّ عَلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ

وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَمَا كَانَ بِهَا مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمُصَلَّى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض‏)‏ بمهملة وضاد معجمة ثقيلة، أي حرض بالمهملة وتشديد الراء، وقوله ‏"‏على اتفاق أهل العلم ‏"‏ قال الكرماني في بعض الروايات ‏"‏ وما حض عليه من اتفاق ‏"‏ وهو من باب تنازع العاملين وهما ذكر وحض‏.‏

قوله ‏(‏وما اجتمع عليه الحرمان مكة والمدينة، وما كان بهما من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وما أجمع ‏"‏ بهمزة قطع بغير تاء، وعنده ‏"‏ وما كان بها ‏"‏ بالإفراد والأول أولى‏.‏

قال الكرماني‏:‏ الإجماع هو اتفاق أهل الحل والعقد، أي المجتهدين من أمة محمد على أمر من الأمور الدينية، واتفاق مجتهدي الحرمين دون غيرهم ليس بإجماع عند الجمهور‏.‏

وقال مالك‏:‏ إجماع أهل المدينة حجة، قال وعبارة البخاري مشعرة بأن اتفاق أهل الحرمين كليهما إجماع‏.‏

قلت‏:‏ لعله أراد الترجيح به لا دعوى الإجماع، وإذا قال بحجية إجماع أهل المدينة وحدها مالك ومن تبعه فهم قائلون به إذا وافقهم أهل مكة بطريق الأولى، وقد نقل ابن التين عن سحنون اعتبار إجماع أهل مكة مع أهل المدينة، قال حتى لو اتفقوا كلهم وخالفهم ابن عباس في شيء لم يعد إجماعا، وهو مبني على أن ندرة المخالف تؤثر في ثبوت الإجماع‏.‏

قوله ‏(‏ومصلى النبي صلى الله عليه وسلم والمنبر والقبر‏)‏ هذه الثلاثة مجرورة عطفا على قوله مشاهد، ثم ذكر فيه أربعة وعشرين حديثا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمِيِّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ فَجَاءَ الْأَعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس‏.‏

قوله ‏(‏السلمي‏)‏ بفتح المهملة واللام‏.‏

قوله ‏(‏أن أعرابيا‏)‏ تقدم القول في اسمه وفي أي شيء استقال منه، وضبط ينصع في أواخر الحج في فضل المدينة، وكذا قوله ‏"‏ كالكير ‏"‏ مع سائر شرحه ولله الحمد‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ عن المهلب قبه تفضيل المدينة على غيرها بما خصها الله به من أنها تنفي الخبث، ورتب على ذلك القول بحجية إجماع أهل المدينة، وتعقب بقول ابن عبد البر أن الحديث دال على فضل المدينة، ولكن ليس الوصف المذكور عاما لها في جميع الأزمنة، بل هو خاص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن يخرج منها رغبة عن الإقامة معه إلا من لا خير فيه‏.‏

وقال عياض نحوه، وأيده بحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الفضة ‏"‏ قال‏:‏ والنار إنما تخرج الخبث والرديء، وقد خرج من المدينة بعد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من خيار الصحابة، وقطنوا غيرها وماتوا خارجا عنها، كابن مسعود وأبي موسى وعلي أو أبي ذر وعمار وحذيفة وعبادة بن الصامت وأبي عبيدة ومعاذ وأبي الدرداء وغيرهم، فدل على أن ذلك خاص بزمنه صلى الله عليه وسلم بالقيد المذكور، ثم يقع تمام إخراج الرديء منها في زمن محاصرة الدجال، كما تقدم بيان ذلك واضحا في آخر ‏"‏ كتاب الفتن ‏"‏ وفيه‏:‏ فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، فذلك يوم الخلاص‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَلَمَّا كَانَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِمِنًى لَوْ شَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ قَالَ إِنَّ فُلَانًا يَقُولُ لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلَانًا فَقَالَ عُمَرُ لَأَقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ فَأُحَذِّرَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ قُلْتُ لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ فَأَخَافُ أَنْ لَا يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ مُطِيرٍ فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ وَيُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا فَقَالَ وَاللَّهِ لَأَقُومَنَّ بِهِ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ فِيمَا أُنْزِلَ آيَةُ الرَّجْمِ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف الحديث في خطبة عمر الذي تقدم بطوله مشروحا في باب رجم الحبلى من ‏"‏ الحدود ‏"‏ وذكر هنا منه طرفا، والغرض منه هنا ما يتعلق بوصف المدينة بدار الهجرة ودار السنة ومأوى المهاجرين والأنصار وقوله فيه ‏"‏ فلما كان آخر حجة حجها عمر فقال عبد الرحمن ‏"‏ جواب لما محذوف، وقد تقدم بيانه وهو ‏"‏ فلما رجع عبد الرحمن من عند عمر لقيني فقال ‏"‏ وقوله فيه ‏"‏ قال ابن عباس ‏"‏ هو موصول بالسند المذكور، وقوله ‏"‏فقدمنا المدينة فقال إن الله بعث محمدا بالحق ‏"‏ حذف منه قطعة كبيرة بين قوله ‏"‏ فقدمنا المدينة ‏"‏ وبين قوله ‏"‏ قال ‏"‏ إلخ‏.‏

تقدم بيانها هناك، وفيها قصة مع سعيد بن زيد وخروج عمر يوم الجمعة وخطبته بطولها، وقد أدخل كثير ممن يقول بحجية إجماع أهل المدينة هذه المسألة في مسألة إجماع الصحابة، وذلك حيث يقول‏:‏ لأنهم شاهدوا التنزيل، وحضروا الوحي وما أشبه ذلك، وهما مسألتان مختلفتان والقول بأن إجماع الصحابة حجة أقوى من القول بأن إجماع أهل المدينة حجة، والراجح أن أهل المدينة ممن بعد الصحابة إذا اتفقوا على شيء كان القول به أقوى من القول بغيره، إلا أن يخالف نصا مرفوعا، كما أنه يرجح بروايتهم لشهرتهم بالتثبت في النقل وترك التدليس، والذي يختص بهذا الباب القول بحجية قول أهل المدينة إذا اتفقوا، وأما ثبوت فضل المدينة وأهلها، وغالب ما ذكر في الباب فليس يقوى في الاستدلال على هذا المطلوب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ مِنْ كَتَّانٍ فَتَمَخَّطَ فَقَالَ بَخْ بَخْ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتَمَخَّطُ فِي الْكَتَّانِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَيَّ فَيَجِيءُ الْجَائِي فَيَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي وَيُرَى أَنِّي مَجْنُونٌ وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ مَا بِي إِلَّا الْجُوعُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن محمد‏)‏ هو ابن سيرين، ووقع منسوبا في رواية الترمذي عن قتيبة عن حماد بن زيد‏.‏

قوله ‏(‏ثوبان ممشقان‏)‏ بفتح الشين المعجمة الثقيلة بعدها قاف، أي مصبوغان بالمشق بكسر الميم وسكون المعجمة، وهو الطين الأحمر، وقوله ‏"‏بخ بخ ‏"‏ بموحدة ثم معجمة مكرر كلمة تعجب ومدح وفيها لغات، وقد تقدم شرحه في باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم من ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ والغرض منه‏.‏

قوله ‏"‏وإني لأخر ما بين المنبر والحجرة ‏"‏ هو مكان القبر الشريف‏.‏

وقال ابن بطال عن المهلب وجه دخوله في الترجمة الإشارة إلى أنه لما صبر على الشدة التي أشار إليها من أجل ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم في طلب العلم، جوزي بما انفرد به من كثرة محفوظه ومنقوله من الأحكام وغيرها، وذلك ببركة صبره على المدينة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ قَالَ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ وَلَوْلَا مَنْزِلَتِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ مِنْ الصِّغَرِ فَأَتَى الْعَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَذَانًا وَلَا إِقَامَةً ثُمَّ أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلَ النِّسَاءُ يُشِرْنَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَتَاهُنَّ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس في شهوده العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم تقدم شرحه مستوفى في صلاة العيد وسياقه هناك أتم، والغرض منه هنا ذكر المصلى، حيث قال‏:‏ فأتى العلم الذي عند دار كثير ابن الصلت، والدار المذكورة بنيت بعد العهد النبوي وإنما عرف بها لشهرتها‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ عن المهلب شاهد الترجمة قول ابن عباس ولولا مكاني من الصغر ما شهدته لأن معناه أن صغير أهل المدينة وكبيرهم، ونساءهم وخدمهم ضبطوا العلم معاينة منهم في مواطن العمل من شارعها المبين عن الله تعالى وليس لغيرهم هذه المنزلة، وتعقب بأن قول ابن عباس ‏"‏ من الصغر ما شهدته ‏"‏ إشارة منه إلى أن الصغر مظنة عدم الوصول إلى المقام الذي شاهد فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمع كلامه وسائر ما قصه في هذه القصة، لكن لما كان ابن عمه وخالته أم المؤمنين وصل بذلك إلى المنزلة المذكورة، ولولا ذلك لم يصل‏.‏

ويؤخذ منها نفي التعميم الذي ادعاه المهلب، وعلى تقدير تسليمه فهو خاص بمن شاهد ذلك وهم الصحابة فلا يشاركهم فيهم من بعدهم بمجرد كونه من أهل المدينة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي قُبَاءً مَاشِيًا وَرَاكِبًا

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في ‏"‏ إتيان قباء ‏"‏ وقد تقدم شرحه في أواخر الصلاة، وفيه زيادة عن ابن عمر، قال ابن بطال عن المهلب‏:‏ المراد من هذا الحديث معاينة النبي صلى الله عليه وسلم ماشيا وراكبا في قصده مسجد قباء، وهو مشهد من مشاهده صلى الله عليه وسلم وليس ذلك بغير المدينة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي وَلَا تَدْفِنِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَيْتِ فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُزَكَّى

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن هشام‏)‏ هو ابن عروة بن الزبير، ووقع منسوبا في رواية جويرية بن محمد عن أبي أسامة عند أبي نعيم‏.‏

قوله ‏(‏عن عائشة قالت لعبد الله بن الزبير‏)‏ أي أنها قالت‏:‏ قوله ‏(‏مع صواحبي‏)‏ جمع صاحبة تريد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، زاد الإسماعيلي من طريق عبدة ابن سليمان عن هشام بالبقيع‏.‏

قوله ‏(‏ولا تدفني مع النبي صلى الله عليه وسلم في البيت‏)‏ يعارضه في الظاهر قولها في قصة دفن عمر‏.‏

قوله ‏(‏فإني أكره أن أزكى‏)‏ بفتح الكاف الثقيلة على البناء للمجهول، أي أن يثني علي أحد بما ليس في، بل بمجرد كوني مدفونة عنده دون سائر نسائه فيظن أني خصصت بذلك من دونهن، لمعنى في ليس فيهن وهذا منها في غاية التواضع‏.‏

الحديث‏:‏

وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ ائْذَنِي لِي أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ فَقَالَتْ إِي وَاللَّهِ قَالَ وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَتْ لَا وَاللَّهِ لَا أُوثِرُهُمْ بِأَحَدٍ أَبَدًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وعن هشام عن أبيه‏)‏ هو موصول بالسند الذي قبله، وقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي أسامة موصولا ‏"‏ أن عمر أرسل إلى عائشة ‏"‏ هذا صورته الإرسال، لأن عروة لم يدرك زمن إرسال عمر إلى عائشة، لكنه محمول على أنه حمله عن عائشة فيكون موصولا‏.‏

قوله ‏(‏مع صاحبي‏)‏ بالتثنية‏.‏

قوله ‏(‏فقالت‏:‏ أي والله، قال‏:‏ وكان الرجل إذا أرسل إليها من الصحابة‏)‏ هو متعلق بقوله الرجل، ولفظ الرسالة محذوف وتقديره يسألها أن يدفن معهم، وجواب الشرط ‏"‏ قالت ‏"‏ إلخ‏.‏

قوله ‏(‏قالت لا والله لا أوثرهم بأحد أبدا‏)‏ بالمثلثة من الإيثار، قال ابن التين‏:‏ كذا وقع، والصواب ‏"‏ لا أوثر أحدا بهم أبدا ‏"‏ قال شيخنا ابن الملقن‏:‏ ولم يظهر لي وجه صوابه انتهى، وكأنه يقول إنه مقلوب وهو كذلك، وبذلك صرح صاحب المطالع ثم الكرماني قال‏:‏ ويحتمل أن يكون المراد لا أثيرهم بأحد، أي لا أنبشهم لدفن أحد، والباء بمعنى اللام واستشكله ابن التين بقولها في قصة عمر ‏"‏ لأوثرنه على نفسي ‏"‏ وأجاب باحتمال أن يكون الذي أثرته به المكان الذي دفن فيه من وراء قبر أبيها بقرب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لا ينفي وجود مكان آخر في الحجرة‏.‏

قلت‏:‏ وذكر ابن سعد من طرق أن الحسن بن علي أوصى أخاه أن يدفنه عندهم إن لم يقع بذلك فتنة، فصده عن ذلك بنو أمية فدفن بالبقيع‏.‏

وأخرج الترمذي من حديث عبد الله ابن سلام قال مكتوب في التوراة ‏"‏ صفة محمد وعيسى بن مريم عليهما السلام يدفن معه ‏"‏ قال أبو داود أحد رواته‏:‏ وقد بقي في البيت موضع قبر‏.‏

وفي رواية الطبراني ‏"‏ يدفن عيسى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فيكون قبرا رابعا قال ابن بطال عن المهلب إنما كرهت عائشة أن تدفن معهم خشية أن يظن أحد أنها أفضل الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فقد سأل الرشيد مالكا عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فقال‏:‏ كمنزلتهما منه بعد مماته، فزكاهما بالقرب معه في البقعة المباركة والتربة التي خلق منها، فاستدل على أنهما أفضل الصحابة باختصاصهما بذلك، وقد احتج أبو بكر الأبهري المالكي بأن المدينة أفضل من مكة بأن النبي صلى الله عليه وسلم مخلوق من تربة المدينة وهو أفضل البشر، فكانت تربته أفضل الترب انتهى‏.‏

وكون تربته أفضل الترب لا نزاع فيه، وإنما النزاع هل يلزم من ذلك أن تكون المدينة أفضل من مكة‏؟‏ لأن المجاور للشيء لو ثبت له جميع مزاياه لكن لما جاور ذلك المجاور نحو ذلك، فيلزم أن يكون ما جاور المدينة أفضل من مكة، وليس كذلك اتفاقا، كذا أجاب به بعض المتقدمين وفيه نظر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ فَيَأْتِي الْعَوَالِيَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ وَزَادَ اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ وَبُعْدُ الْعَوَالِيَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أيوب بن سليمان‏)‏ أي ابن بلال المدني والسند كله مدنيون، ولم يسمع أيوب من أبيه بل حدث عنه بواسطة وهو مقل، ووثقه أبو داود وغيره، وزعم ابن عبد البر أنه ضعيف فوهم، وإنما الضعيف آخر وافق اسمه واسم أبيه‏.‏

قوله ‏(‏فيأتي العوالي‏)‏ تقدم بيانه في ‏"‏ كتاب المواقيت ‏"‏ مع شرحه‏.‏

قوله ‏(‏زاد الليث عن يونس‏)‏ يعني عن ابن شهاب عن أنس ‏"‏ ويونس ‏"‏ هو ابن يزيد الأيلي، وهذه الطريق وصلها البيهقي من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث، ‏"‏ حدثني الليث عن يونس أخبرني ابن شهاب عن أنس ‏"‏ فذكر الحديث بتمامه وزاد في آخره ‏"‏ وبعد العوالي من المدينة على أربعة أميال‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وبعد العوالي أربعة أميال أو ثلاثة‏)‏ كأنه شك منه فإنه عنده ‏"‏ عن أبي صالح ‏"‏ وهو على عادته يورد له في الشواهد والتتمات، ولا يحتج به في الأصول قال ابن بطال‏:‏ عن المهلب معنى الحديث أن بين العوالي ومسجد المدينة للماشي شيئا معلما من معالم ما بين الصلاتين يستغنى الماشي فيها يوم الغيم عن معرفة الشمس، وذلك معدوم في سائر الأرض قال فإذا كانت مقادير الزمان معينة بالمدينة بمكان بلد للعيان ينقله العلماء إلى أهل الآفاق ليتمثلوه في أقاصي البلدان فكيف يساويهم أهل بلد غيرها، وهذا الذي قاله يغني إيراده عنه عن تكلف البحث معه فيه وبالله التوفيق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ الْجُعَيْدِ سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمْ الْيَوْمَ وَقَدْ زِيدَ فِيهِ سَمِعَ الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْجُعَيْدَ

الشرح‏:‏

حديث السائب بن يزيد في ذكر الصاع وقد تقدم شرحه في ‏"‏ كتاب كفارة الأيمان ‏"‏ وقوله في هذه الرواية ‏"‏ مدا وثلثا بمدكم اليوم ‏"‏ وقع لبعضهم ‏"‏ مد وثلث ‏"‏ وهو على طريق من يكتب المنصوب بغير ألف‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ أو يكون في كان ضمير الشأن فيرتفع على الخبر، ومناسبة هذا الحديث للترجمة أن قدر الصاع مما اجتمع عليه أهل الحرمين بعد العهد النبوي واستمر، فلما زاد بنو أمية في الصاع لم يتركوا اعتبار الصاع النبوي فيما ورد فيه التقدير بالصاع من زكاة الفطر وغيرها بل استمروا على اعتباره في ذلك وإن استعملوا الصاع الزائد في شيء غير ما وقع فيه التقدير بالصاع، كما نبه عليه مالك ورجع إليه أبو يوسف في القصة المشهورة، وقوله ‏"‏وقد زيد فيه ‏"‏ زاد رواية الإسماعيلي ‏"‏ في زمن عمر بن عبد العزيز‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏سمع القاسم بن مالك الجعيد‏)‏ يشير إلى ما تقدم في كفارة الأيمان عثمان بن أبي شيبة عن القاسم حدثنا الجعيد، ووقع في رواية ‏"‏ زياد بن أيوب عن القاسم بن مالك قال‏:‏ أنبأنا الجعيد ‏"‏ أخرجه الإسماعيلي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ

الشرح‏:‏

حديث أنس ‏"‏ في الدعاء لأهل المدينة بالبركة في صاعهم ومدهم ‏"‏ تقدم شرحه في البيوع وفي كفارة الأيمان، وقوله في آخره ‏"‏ يعني أهل المدينة ‏"‏ قال ابن بطال عن المهلب دعاؤه صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة في صاعهم ومدهم، خصهم من البركة ما اضطر أهل الآفاق إلى قصدهم في ذلك المعيار المدعو له بالبركة، ليجعلوه طريقة متبعة في معاشهم، وأداء ما فرض الله عليهم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر ‏"‏ في قصة اليهوديين اللذين زنيا ‏"‏ تقدم شرحه في المحاربين، وسياقه هناك أتم‏.‏

وقوله ‏"‏حيث توضع الجنائز ‏"‏ كذا للأكثر بلفظ الفعل المضارع، ووقع في رواية المستملى ‏"‏ موضع الجنائز‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا تَابَعَهُ سَهْلٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُحُدٍ

الشرح‏:‏

حديث أنس في أحد ‏"‏ هذا جبل يحبنا ونحبه ‏"‏ وفيه ‏"‏ أن إبراهيم حرم مكة ‏"‏ وقد تقدم من هذا الوجه من طريق مالك في غزوة أحد هكذا مختصرا وقد تقدم بأتم من هذا السياق في الجهاد من وجه آخر عن عمرو، وتقدم ما يتعلق بشرح ما ذكر هنا في آخر الحج‏.‏

قوله ‏(‏تابعه سهل عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحد‏)‏ يشير إلى ما ذكره في ‏"‏ كتاب الزكاة ‏"‏ من حديث سهل بن سعد قال ‏"‏ أحد جبل يحبنا ونحبه ‏"‏ أورده معلقا لسليمان بن بلال بسنده إلى سهل عقب حديث ابن حميد الساعدي، ومضى شرح المتن في آخر غزوة أحد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ جِدَارِ الْمَسْجِدِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ وَبَيْنَ الْمِنْبَرِ مَمَرُّ الشَّاةِ

الشرح‏:‏

حديث سهل بن سعد ‏"‏ أنه كان بين جدار المسجد مما يلي القبلة وبين المنبر ممر الشاة ‏"‏ أي قدر ما تمر فيه الشاة، وقد تقدم شرحه في أوائل الصلاة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ ما بين بيتي ومنبري روضة ‏"‏ تقدم شرحه مستوفى في فضل المدينة، وقوله عن حفص بن عاصم في رواية روح بن عبادة ‏"‏ عن مالك عن حبيب أن حفص بن عاصم حدثه ‏"‏ أخرجه النسائي، وفي حديث مالك والدار قطني من طريقه وقد أخرج البخاري هذا الحديث من رواية مالك بنزوله درجة، و ‏"‏ عمرو بن علي ‏"‏ شيخه فيه هو الفلاس‏.‏

و ‏"‏ ابن مهدي ‏"‏ هو عبد الرحمن أحد الأئمة الحفاظ، وليس هذا الحديث في الموطأ عند أحد من الرواة إلا معن بن عيسى فيما قيل فقط؛ ورواه عن مالك خارج الموطأ، فمنهم من قال فيه ‏"‏ عن أبي هريرة ‏"‏ فقط، وهذه رواية عبد الرحمن بن مهدي وحده، التي اقتصر عليها البخاري، صرح الدار قطني بأنه رواها عن مالك هكذا وحده، ومنهم من قال‏:‏ عن أبي هريرة وأبي سعيد، وهذه رواية معن بن عيسى ومطرف والوليد بن مسلم، ومنهم من قال‏:‏ عن أبي هريرة أو أبي سعيد، بالشك وهذه رواية القعنبي والتنيسي والشافعي والزعفراني، واختلف فيه على روح بن عبادة ومعن ابن عيسى فقيل بالشك وقيل بالجمع، انتهى ملخصا من كلام الإسماعيلي والدار قطني‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَابَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْخَيْلِ فَأُرْسِلَتْ الَّتِي ضُمِّرَتْ مِنْهَا وَأَمَدُهَا إِلَى الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَالَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ أَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ فِيمَنْ سَابَقَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر ‏"‏ في المسابقة بين الخيل ‏"‏ تقدم شرحه في ‏"‏ كتاب الجهاد‏"‏، و ‏"‏ الحفياء ‏"‏ بفتح المهملة وسكون الفاء بعدها تحتانية، مكان معروف بالمدينة يمد ويقصر وربما قدمت الياء على الفاء ‏"‏ وبنو زريق ‏"‏ من الأنصار بتقديم الزاي على الراء مصغر، وقوله هنا ‏"‏ فأرسلت ‏"‏ بضم الهمزة بلفظ البناء للمجهول‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ فأرسل ‏"‏ بفتح الهمزة، والفاعل النبي صلى الله عليه وسلم أي بأمره؛ قال ابن بطال عن المهلب في حديث سهل‏:‏ في مقدار ما بين الجدار والمنبر سنة متبعة في موضع المنبر ليدخل إليه من ذلك الموضع، ومسافة ما بين الحفياء والثنية لمسابقة الخيل سنة متبعة، يكون ذلك القدر ميدانا للخيل المضمرة عند السباق‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ أورد أبو ذر هذا الحديث من هذا الوجه مختصرا من المتن من قوله ‏"‏ وأمدها ‏"‏ إلخ وساقه غيره، ووقع في رواية كريمة وغيرها عقبه ‏"‏ حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر ‏"‏ ثم قال ‏"‏ حدثني إسحاق أخبرنا عيسى وابن إدريس ‏"‏ فذكر حديث عمر في الأشربة، وقد أشكل أمره على بعض الشارحين فظن أنه ساق هذا السند للمتن الذي بعده، وهي رواية ابن عمر عن عمر في الأشربة وهو غلط فاحش، فإن حديث عمر من أفراد الشعبي ‏"‏ عن ابن عمر عن عمر ‏"‏ وأما رواية الليث عن نافع فتتعلق بالمسابقة، فهي متابعة لرواية جويرية ابن أسماء عن نافع، وقد أورده المصنف في الجهاد من طريق الليث أيضا وسبق لفظه هناك، وأخرجه مسلم أيضا عن قتيبة، وقد أغفل المزي في الأطراف ذكر البخاري في تخريج هذه الطريق عن قتيبة، واقتصر على ذكر رواية أحمد بن يونس عن الليث، وذكر أن مسلما والنسائي أخرجاها عن قتيبة، وسبب هذا الغلط الإجحاف في الاختصار، فلو كان قال بعد قوله ‏"‏ عن ابن عمر ‏"‏ مثلا فذكره أو بهذا أو به لارتفع الإشكال‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ح و حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عِيسَى وَابْنُ إِدْرِيسَ وَابْنُ أَبِي غَنِيَّةَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسحاق‏)‏ هو ابن إبراهيم المعروف بابن راهويه كما جزم به أبو نعيم والكلاباذي وغيرهما ‏"‏ وابن إدريس ‏"‏ اسمه عبد الله ‏"‏ وابن أبي غنية ‏"‏ بمعجمة ونون بوزن عطية، وهو يحيى ابن عبد الملك بن أبي غنية الخزاعي و ‏"‏ أبو حيان ‏"‏ هو يحيى بن سعيد بن حبان والسند كله كوفيون إلا إسحاق وابن عمر‏.‏

قوله ‏(‏سمعت عمر على منبر النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ كذا اقتصر من الحديث على هذا القدر لكونه الذي يحتاج إليه هنا وهو ذكر المنبر وتقدم في الأشربة من طريق يحيى القطان عن أبي حيان، فزاد فيه أنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء، الحديث ومضى هناك مشروحا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ خَطَبَنَا عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أخبرني السائب بن يزيد‏)‏ هو الصحابي المعروف، وتقدم له‏.‏

قوله ‏(‏أنه سمع عثمان بن عفان خطيبا على منبر النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ هكذا اقتصر من الحديث على هذا القدر، وبيض له أبو نعيم في مستخرجه فذكر ما عند البخاري فقط، ولم يوصله من طريقه ولا من غيرها، وقوله ‏"‏خطيبا ‏"‏ هو حال من عثمان، وفي بعض الروايات ‏"‏ خطبنا ‏"‏ بنون لفظ الفعل الماضي، وبقية الحديث أوهم صنيع الإسماعيلي أنه فيما يتعلق بالأذان الذي زاده عثمان، فإنه أخرجه هنا وليس فيه شيء يتعلق بخطبة عثمان على المنبر، والحق أنه حديث آخر، وقد أخرجه أبو عبيد في ‏"‏ كتاب الأموال ‏"‏ من وجه آخر عن الزهري، فزاد فيه يقول ‏"‏ هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده ‏"‏ الحديث، وهو في أواخر الربع الرابع منه، ونقل فيه عن إبراهيم بن سعد أنه أراد شهر رمضان، قال أبو عبيد وجاء من وجه آخر أنه شهر الله المحرم‏.‏

قلت‏:‏ وقع قريب من ذلك في حديث أنس من وجه ضعيف، وقع لنا بعلو في جزء الفلكي بلفظ ‏"‏ كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبوا على المصاحف، وأخرجوا الزكاة، ودعا الولاة أهل السجون ‏"‏ الحديث موقوف‏.‏

قال ابن بطال عن المهلب في هذين الحديثين سنة متبعة بأن الخليفة يخطب على المنبر في الأمور المهمة، لا يخافتها لتصل الموعظة إلى أسماع الناس إذا أشرف عليهم انتهى‏.‏

وفيه إشارة إلى أن المنبر النبوي بقي إلى ذلك العهد ولم يتغير بزيادة ولا نقص، وقد جاء في غيره أنه بقي بعد ذلك زمانا آخر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ قَدْ كَانَ يُوضَعُ لِي وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمِرْكَنُ فَنَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عبد الأعلى‏)‏ هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة البصري‏.‏

قوله ‏(‏هذا المركن‏)‏ بكسر الميم وسكون الراء وفتح الكاف بعدها نون، قال الخليل شبه تور من آدم‏.‏

وقال غيره شبه حوض من نحاس، وأبعد من فسره بالإجانة بكسر الهمزة وتشديد الجيم ثم نون؛ لأنه فسر الغريب بمثله، والإجانة هي التي يقال لها القصرية وهي بكسر القاف، وقولها ‏"‏ فنشرع فيه جميعا ‏"‏ أي نتناول منه بغير إناء، وأصله الورود للشرب ثم استعمل في كل حالة يتناول فيها الماء، وقد تقدم بيان ذلك مع شرح الحديث في ‏"‏ كتاب الطهارة ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ فيه سنة متبعة لبيان مقدار ما يكفي الزوج والمرأة إذا اغتسلا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ حَالَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَقُرَيْشٍ فِي دَارِي الَّتِي بِالْمَدِينَةِ وَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ

الشرح‏:‏

حديث أنس من رواية عاصم الأحول عنه في المخالفة بين قريش والأنصار، وفي القنوت شهرا يدعو على أحياء من بني سليم، وقد اختصره من حديثين كل منهما أتم مما ذكره هنا، وقد مضى شرح الأول في ‏"‏ كتاب الأدب ‏"‏ وبيان الفرق بين الإخاء والحلف، ومضى شرح الثاني في ‏"‏ كتاب الوتر ‏"‏ وفيه بيان الوقت والسبب الذي قنت فيه، ومضى في المغازي في غزوة بئر معونة بيان أسماء الأحياء المذكورين من بني سليم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدٌ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَقَالَ لِي انْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ فَأَسْقِيَكَ فِي قَدَحٍ شَرِبَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَسَقَانِي سَوِيقًا وَأَطْعَمَنِي تَمْرًا وَصَلَّيْتُ فِي مَسْجِدِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏بريد‏)‏ بموحدة وراء مهملة ابن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري‏.‏

قوله ‏(‏قدمت المدينة فلقيني عبد الله بن سلام‏)‏ وقع عند عبد الرزاق بيان سبب قدوم أبي بردة إلى المدينة وبيان زمان قدومه، فأخرج من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبي بردة قال‏:‏ أرسلني أبي إلى عبد الله بن سلام لأتعلم منه فسألني من أنت فأخبرته فرحب بي‏.‏

قوله ‏(‏انطلق إلى المنزل‏)‏ زاد في رواية الإسماعيلي ‏"‏ معي ‏"‏ والألف واللام بدل من الإضافة، أي تعال معي إلى منزلي، وقد مضى في مناقب عبد الله بن سلام من وجه آخر عن أبي بردة ‏"‏ أتيت المدينة فلقيت عبد الله ابن سلام، فقال‏:‏ ألا تجيء فأطعمك وتدخل في بيتي‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فانطلقت معه فأسقاني سويقا وأطعمني تمرا‏)‏ قد مضى في مناقب عبد الله بن سلام من طريق سعيد ابن أبي بردة عن أبيه بلفظ ‏"‏ ألا تجيء فأطعمك سويقا وتمرا ‏"‏ فكأنه استعمل الإطعام بالمعنى الأعم وليس هذا من قبيل علفتها تبنا وماء، لأنه إما من الاكتفاء وإما من التضمين، ولا يحتاج لذلك هنا لأن الطعام يستعمل في الأكل والشرب، وقد بين في الرواية الأخرى أنه أسقاه السويق‏.‏

قوله ‏(‏وصليت في مسجده‏)‏ زاد في مناقب عبد الله بن سلام ذكر الربا وأن من اقترض قرضا فتقاضاه إذا حل فأهدى له المديون هدية كانت من جملة الربا، وتقدم البحث فيه هناك ووقعت هذه الزيادة في رواية أبي أسامة أيضا، كما أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي كريب شيخ البخاري فيه لكن باختصار عن الذي تقدم، ووهم من زعم أنه من رواية أبي أحمد محمد بن يوسف السكندري عن سفيان بن عيينة، وقد جزم المزي في الأطراف بما قلته فكأن البخاري حذفها وثبت في رواية سعيد التي أشرت إليها نحو ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ حَدَّثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي وَهُوَ بِالْعَقِيقِ أَنْ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ وَقَالَ هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ

الشرح‏:‏

حديث عمر ‏"‏ صل في هذا الوادي المبارك ‏"‏ وقد تقدم شرحه في أواخر ‏"‏ كتاب الحج‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وقال هارون بن إسماعيل حدثنا على عمرة في حجة‏)‏ يريد أن هارون خالف سعيد بن الربيع في قوله في آخره ‏"‏ وقل عمرة وحجة ‏"‏ بواو العطف فقال عمر في حجة، وقد تقدم هناك من رواية الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير شيخ علي بن المبارك فيه بلفظ ‏"‏ عمرة في حجة ‏"‏ ورواية هارون هذه وقعت لنا موصولة في مسند عبد ابن حميد، وفي أخبار المدينة النبوية لعمر بن شبة كلاهما عن هارون بن إسماعيل الخزاز بمعجمات، ويجوز في قوله عمرة وحجة الرفع والنصب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَقَّتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرْنًا لِأَهْلِ نَجْدٍ وَالْجُحْفَةَ لِأَهْلِ الشَّأْمِ وَذَا الْحُلَيْفَةِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ وَذُكِرَ الْعِرَاقُ فَقَالَ لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ يَوْمَئِذٍ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في المواقيت تقدم مشروحا، وبيان من بلغ ابن عمر ميقات يلملم‏.‏

و ‏"‏ محمد بن يوسف ‏"‏ شيخه فيه هو الفريابي‏.‏

وشيخه ‏"‏ سفيان ‏"‏ هو الثوري وقوله في آخره ‏"‏ وذكر العراق، فقال لم يكن عراق يومئذ ‏"‏ ‏"‏ ذكر ‏"‏ بضم أوله مبني للمجهول ولم يسم، والمجيب هو ابن عمر، ووقع عند الإسماعيلي ‏"‏ فقيل له العراق قال لم يكن يومئذ عراق ‏"‏ وقوله ‏"‏ لم يكن عراق يومئذ ‏"‏ أي بأيدي المسلمين فإن بلاد العراق كلها في ذلك الوقت كانت بأيدي كسرى وعماله من الفرس والعرب فكأنه قال لم يكن أهل العراق مسلمين حينئذ حتى يوقت لهم ويعكر على هذا الجواب ذكر أهل الشام فلعل مراد ابن عمر نفي العراقين وهما المصران المشهوران الكوفة والبصرة وكل منهما إنما صار مصرا جامعا بعد فتح المسلمين بلاد الفرس

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أُرِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أرى وهو في معرسه بذي الحليفة‏)‏ تقدم شرحه في ‏"‏ كتاب الحج ‏"‏ وبقيته توافق حديث عمر المذكور قبله بحديث، قال ابن بطال‏:‏ عن المهلب غرض البخاري بهذا الباب وأحاديثه تفضيل المدينة بما خصها الله به من معالم الدين، وأنها دار الوحي مهبط الملائكة بالهدى والرحمة، وشرف الله بقعتها بسكنى رسوله، وجعل فيها قبره ومنبره وبينهما روضة من رياض الجنة، ثم تكلم على أحاديث الباب بما تقدم نقله عنه، والبحث فيه بما يغني عن إعادته، وحذفت ما بعد الحديث العاشر من كلامه لقلة جدواه، وقد ظهر عنوانه فيما ذكرته عنه في الأحاديث العشرة الأولى وبالله التوفيق، وفضل المدينة ثابت لا يحتاج إلى إقامة دليل خاص وقد تقدم من الأحاديث في فضلها في آخر الحج ما فيه شفاء، وإنما المراد هنا تقدم أهلها في العلم على غيرهم، فإن كان المراد بذلك تقديمهم في بعض الأعصار، وهو العصر الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بها فيه والعصر الذي بعده من قبل أن يتفرق الصحابة في الأمصار، فلا شك في تقديم العصرين المذكورين على غيرهم وهو الذي يستفاد من أحاديث الباب وغيرها، وإن كان المراد استمرار ذلك لجميع من سكنها في كل عصر فهو محل النزاع، ولا سبيل إلى تعميم القول بذلك، لأن الأعصار المتأخرة من بعد زمن الأئمة المجتهدين لم يكن فيها بالمدينة من فاق واحدا من غيرها في العلم والفضل فضلا عن جميعهم، بل سكنها من أهل البدعة الشنعاء من لا يشك في سوء نيته وخبث طويته كما تقدم والله أعلم‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى‏:‏ ليس لك من الأمر شيء‏)‏ ذكر فيه حديث ابن عمر في سبب نزولها، وقد تقدم بيانه في تفسير آل عمران، وتقدم شيء من شرحه وتسميته المدعو عليهم في غزوة أحد، قال ابن بطال‏:‏ دخول هذه الترجمة في ‏"‏ كتاب الاعتصام ‏"‏ من جهة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على المذكورين لكونهم لم يذعنوا للإيمان ليعتصموا به من اللعنة، وأن معنى قوله ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ هو معنى قوله ‏{‏ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء‏}‏ انتهى‏.‏

ويحتمل أن يكون مراده الإشارة إلى الخلافية المشهورة في أصول الفقه، وهي هل كان له صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في الأحكام أو لا‏؟‏ وقد تقدم بسط ذلك قبل ثمانية أبواب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ فِي الْأَخِيرَةِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك و ‏"‏ سالم ‏"‏ هو ابن عبد الله بن عمر، ووقع في رواية حبان بن موسى عن ابن المبارك في تفسير آل عمران ‏"‏ حدثني سالم عن ابن عمر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في صلاة الفجر، ورفع رأسه‏)‏ الجملة حالية، أي قال ذلك حال رفع رأسه من الركوع‏.‏

قوله ‏(‏قال اللهم ربنا ولك الحمد‏)‏ قال الكرماني جعل ذلك القول كالفعل اللازم، أي يفعل القول المذكور أو هناك شيء محذوف‏.‏

قلت‏:‏ لم يذكر تقديره ويحتمل أن يكون بمعنى قائلا، أو لفظ قال المذكور زائدا، ويؤيده أنه وقع في رواية حبان بن موسى بلفظ ‏"‏ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من صلاة الفجر يقول اللهم ‏"‏ ويؤخذ منه أن محل القنوت عند رفع الرأس من الركوع لا قبل الركوع، وقوله ‏"‏قال اللهم ربنا ولك الحمد ‏"‏ معين لكون الرفع من الركوع لأنه ذكر الاعتدال، وقوله ‏"‏في الأخيرة ‏"‏ أي الركعة الأخيرة وهي الثانية من صلاة الصبح، كما صرح بذلك في رواية حبان بن موسى وظن الكرماني أن قوله في الآخرة متعلق بالحمد، وأنه بقية الذكر الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتدال، فقال فإن قلت ما وجه التخصيص بالآخرة مع أن له الحمد في الدنيا، ثم أجاب بأن نعيم الآخرة أشرف، فالحمد عليه هو الحمد حقيقة، أو المراد بالآخرة العاقبة أي مآل كل الحمود إليه انتهى‏.‏

وليس لفظ ‏"‏ في الآخرة ‏"‏ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام ابن عمر، ثم ينظر في جمعه الحمد على حمود، قوله ‏(‏فلانا وفلانا‏)‏ قال الكرماني‏:‏ يعني رعلا وذكوان ووهم في ذلك، وإنما سمى ناسا بأعيانهم لا القبائل كما بينته في تفسير آل عمران‏.‏

*3*باب قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا

وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب وكان الإنسان أكثر شيء جدلا، وقوله تعالى‏:‏ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن‏)‏ ذكر فيه حديثين‏:‏ حديث علي في قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ألا تصلون ‏"‏ وجوابه بقوله ‏"‏ إنما أنفسنا بيد الله ‏"‏ وتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم الآية، وهو متعلق بالركن الأول من الترجمة‏.‏

وحديث أبي هريرة في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في بيت مدراسهم، وهو متعلق بالركن الثاني منها كما سأذكره‏.‏

قال الكرماني الجدال‏:‏ هو الخصام ومنه قبيح وحسن وأحسن، فما كان للفرائض فهو أحسن، وما كان للمستحبات فهو حسن، وما كان لغير ذلك فهو قبيح، قال‏:‏ أو هو تابع للطريق، فباعتباره يتنوع أنواعا وهذا هو الظاهر انتهى‏.‏

ويلزم على الأول أن يكون في المباح قبيحا، وفاته تنويع القبيح إلى أقبح وهو ما كان في الحرام، وقد تقدم شرح حديث علي في الدعوات، ويؤخذ منه أن عليا ترك فعل الأولى، وإن كان ما احتج به متجها، ومن ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية ولم يلزمه مع ذلك بالقيام إلى الصلاة، ولو كان امتثل وقام لكان أولى، ويؤخذ منه الإشارة إلى مراتب الجدال فإذا كان فيما لا بد له منه تعين نصر الحق بالحق، فإن جاوز الذي ينكر عليه المأمور نسب إلى التقصير، وإن كان في مباح اكتفى فيه بمجرد الأمر والإشارة إلى ترك الأولى، وفيه أن الإنسان طبع على الدفاع عن نفسه بالقول والفعل، وأنه ينبغي له أن يجاهد نفسه أن يقبل النصيحة ولو كانت في غير واجب‏.‏

وأن لا يدفع إلا بطريق معتدلة من غير إفراط ولا تفريط، ونقل ابن بطال عن المهلب ما ملخصه‏:‏ أن عليا لم يكن له أن يدفع ما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من الصلاة بقوله ذلك، بل كان عليه الاعتصام بقوله، فلا حجة لأحد في ترك المأمور انتهى، ومن أين له أن عليا لم يمتثل ما دعاه إليه فليس في القصة تصريح بذلك، وإنما أجاب على بما ذكر اعتذارا عن تركه القيام بغلبة النوم، ولا يمتنع أنه صلى عقب هذه المراجعة إذ ليس في الخبر ما ينفيه‏.‏

وقال الكرماني حرضهم النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار الكسب والقدرة الكاسبة، وأجاب علي باعتبار القضاء والقدر، قال‏:‏ وضرب النبي صلى الله عليه وسلم فخذه تعجبا من سرعة جواب علي، ويحتمل أن يكون تسليما لما قال‏:‏ وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة، في هذا الحديث من الفوائد مشروعية التذكير للغافل خصوصا القريب والصاحب، لأن الغفلة من طبع البشر فينبغي للمرء أن يتفقد نفسه ومن يحبه بتذكير الخير والعون عليه، وفيه أن الاعتراض بأثر الحكمة لا يناسبه الجواب‏.‏

بأثر القدرة، وأن للعالم إذا تكلم بمقتضى الحكمة في أمر غير واجب، أن يكتفي من الذي كلمه في احتجاجه بالقدرة، يؤخذ الأول من ضربه صلى الله عليه وسلم على فخذه، والثاني من عدم إنكاره بالقول صريحا‏.‏

قال‏:‏ وإنما لم يشافهه بقوله ‏{‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلا‏}‏ لعلمه أن عليا لا يجهل أن الجواب بالقدرة ليس من الحكمة، بل يحتمل أن لهما عذرا يمنعهما من الصلاة فاستحيا على من ذكره، فأراد دفع الخجل عن نفسه وعن أهله فاحتج بالقدرة، ويؤيده رجوعه صلى الله عليه وسلم عنهم مسرعا، قال‏:‏ ويحتمل أن يكون علي أراد بما قال استدعاء جواب يزداد به فائدة، وفيه جواز محادثة الشخص نفسه فيما يتعلق بغيره، وجواز ضربه بعض أعضائه عند التعجب وكذا الأسف، ويستفاد من القصة أن من شأن العبودية أن لا يطلب لها مع مقتضى الشرع معذرة إلا الاعتراف بالتقصير والأخذ في الاستغفار، وفيه فضيلة ظاهرة لعلي من جهة عظم تواضعه لكونه روى هذا الحديث مع ما يشعر به عند من لا يعرف مقداره أنه يوجب غاية العتاب، فلم يلتفت لذلك بل حدث به لما فيه من الفوائد الدينية انتهى ملخصا‏.‏

وقوله في السند الثاني ‏"‏ حدثني محمد ‏"‏ وقع عند النسفي غير منسوب، ووقع عند أبي ذر وغيره منسوبا ‏"‏ محمد بن سلام ‏"‏ و ‏"‏ عتاب ‏"‏ بالمهملة وتشديد المثناة وآخره موحدة، وأبوه ‏"‏ بشير ‏"‏ بموحدة ومعجمة وزن عظيم، و ‏"‏ إسحاق ‏"‏ عند النسفي وأبي ذر غير منسوب، ونسب عند الباقين ‏"‏ ابن راشد ‏"‏ وساق المتن على لفظه، ومضى في التهجد على لفظ شعيب بن أبي حمزة، ويأتي في التوحيد من طريق شعيب وابن أبي عتيق مجموعا وساقه على لفظ ابن أبي عتيق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ أَلَا تُصَلُّونَ فَقَالَ عَلِيٌّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعَهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يُقَالُ مَا أَتَاكَ لَيْلًا فَهُوَ طَارِقٌ وَيُقَالُ الطَّارِقُ النَّجْمُ وَ الثَّاقِبُ الْمُضِيءُ يُقَالُ أَثْقِبْ نَارَكَ لِلْمُوقِدِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏طرقه وفاطمة‏)‏ زاد شعيب ‏"‏ ليلة ‏"‏ قوله ‏(‏ألا تصلون‏)‏ في رواية شعيب ‏"‏ ألا تصليان ‏"‏ بالتثنية، والأول محمول على ضم من يتبعهما إليهما أو للتعظيم أو لأن أقل الجمع اثنان، وقوله ‏"‏حين قال له ذلك ‏"‏ فيه التفات، ومضى في رواية شعيب بلفظ ‏"‏ حين قلت له ‏"‏ وكذا قوله ‏"‏ سمعه ‏"‏ في رواية شعيب ‏"‏ سمعته ‏"‏ وقوله ‏"‏ وهو مدبر ‏"‏ بضم أوله وكسر الموحدة أي مول بتشدد اللام كما في رواية شعيب، ووقع هنا عند الكشميهني ‏"‏ وهو منصرف‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال أبو عبد الله‏)‏ هو المصنف ‏(‏يقال ما أتاك ليلا فهو طارق‏)‏ كذا لأبي ذر وسقط للنسفي وثبت للباقين لكن بدون ‏"‏ يقال ‏"‏ وقد تقدم الكلام عليه في سورة الطارق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا فَقَالُوا قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ أُرِيدُ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا فَقَالُوا قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ أُرِيدُ ثُمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ فَقَالَ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الْأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن سعيد‏)‏ هو ابن أبي سعيد المقبري‏.‏

قوله ‏(‏بيت المدراس‏)‏ تقدم الكلام عليه في ‏"‏ كتاب الإكراه ‏"‏ قريبا، وقوله في آخره ‏"‏ ذلك أريد ‏"‏ بضم أوله بصيغة المضارعة من الإرادة‏:‏ أي أريد أن تقروا بأني بلغت، لأن التبليغ هو الذي أمر به، ووقع في رواية أبي زيد المروزي فيما ذكره القابسي بفتح أوله وبزاي معجمة، وأطبقوا على أنه تصحيف لكن وجهه بعضهم بأن معناه أكرر مقالتي مبالغة في التبليغ، قال المهلب‏:‏ بعد أن قرر أنه يتعلق بالركن الثاني من الترجمة وجه ذلك أنه بلغ اليهود ودعاهم إلى الإسلام والاعتصام به، فقالوا بلغت ولم يذعنوا لطاعته فبالغ في تبليغهم وكرره، وهذه مجادلة بالتي هي أحسن، وهو في ذلك موافق لقول مجاهد أنها نزلت فيمن لم يؤمن منهم وله عهد، أخرجه الطبري، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال‏:‏ المراد ‏"‏ ممن ظلم منهم ‏"‏ من استمر على أمره، وعن قتادة هي منسوخة بآية السيف انتهى، والذي أخرجه الطبري بسند صحيح عن مجاهد ‏"‏ إن قالوا شرا فقولوا خيرا إلا الذين ظلموا منهم فانتصروا منهم ‏"‏ وبسند فيه ضعف ‏"‏ قال إلا من ظلم من قاتل ولم يعط الجزية ‏"‏ وأخرج بسند حسن عن سعيد بن جبير قال‏:‏ هم أهل الحرب من لا عهد له جادله بالسيف، ومن طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المراد‏:‏ من آمن من أهل الكتاب نهى عن مجادلتهم فيما يحدثون به من الكتاب، لعله يكون حقا لا تعلمه أنت ولا ينبغي أن تجادل إلا المقيم منهم على دينه، وبسند صحيح عن قتادة هي منسوخة بآية براءة، أن يقاتلوا حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله أو يؤدوا الجزية، ورجح الطبري قول من قال‏:‏ المراد من امتنع من أداء الجزية، قال‏:‏ ومن أداها وإن كان ظالما لنفسه باستمراره على كفره، لكن المراد في هذا الآية‏:‏ من ظلم أهل الإسلام فحاربهم وامتنع من الإسلام ‏"‏ أو بذل الجزية ورد على من ادعى النسخ، لكونه لا يثبت إلا بدليل والله أعلم، وحاصل ما رجحه أنه أمر بمجادلة أهل الكتاب بالبيان والحجة بطريق الإنصاف ممن عاند منهم، فمفهوم الآية‏:‏ جواز مجادلته بغير التي هي أحسن وهي المجادلة بالسيف والله أعلم‏.‏