فصل: باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب إِثْمِ مَنْ آوَى مُحْدِثًا

رَوَاهُ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إثم من آوى محدثا‏)‏ بضم أوله وسكون الحاء المهملة وبعد الدال مثلثة، أي أحدث المعصية‏.‏

قوله ‏(‏رواه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ تقدم موصولا في الباب الذي قبله، و ‏"‏ عبد الواحد ‏"‏ في حديث أنس هو ابن زياد، و ‏"‏ عاصم ‏"‏ هو ابن سليمان المعروف بالأحول، وقوله ‏"‏قال عاصم فأخبرني ‏"‏ هو موصول بالسند المذكور‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ قُلْتُ لِأَنَسٍ أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ قَالَ نَعَمْ مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قَالَ عَاصِمٌ فَأَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ أَوْ آوَى مُحْدِثًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏موسى بن أنس‏)‏ ذكر الدار قطني أن الصواب عن عاصم عن النضر بن أنس لا عن موسى، قال‏:‏ والوهم فيه من البخاري أو شيخه، قال عياض‏:‏ وقد أخرجه مسلم على الصواب‏.‏

قلت‏:‏ إن أراد أنه قال عن النضر فليس كذلك، فإنه إنما قال لما أخرجه عن حامد بن عمير عن عبد الواحد عن عاصم عن ابن أنس، فإن كان عياض أراد أن الإبهام صواب فلا يخفى ما فيه، والذي سماه النضر هو مسدد عن عبد الواحد كذا أخرجه في مسنده، وأبو نعيم في المستخرج من طريقه، وقد رواه عمرو بن أبي قيس عن عاصم فبين أن بعضه عنده عن أنس نفسه، وبعضه عن النضر بن أنس عن أبيه، أخرجه أبو عوانة في مستخرجه، وأبو الشيخ في ‏"‏ كتاب الترهيب ‏"‏ جميعا من طريقه عن عاصم عن أنس، قال عاصم ولم أسمع من أنس ‏"‏ أو آوى محدثا ‏"‏ فقلت للنضر ما سمعت هذا، يعني القدر الزائد من أنس، قال لكني سمعته منه أكثر من مائة مرة، وقد تقدم شرح حديثي علي وأنس في أواخر الحج في أول فضائل المدينة في باب حرم المدينة، وذكرت هناك رواية من روى هذه الزيادة عن عاصم عن أنس بدون الواسطة، وأنه مدرج وبالله التوفيق، قال ابن بطال‏:‏ دل الحديث على أن من أحدث محدثا أو آوى محدثا في غير المدينة، أنه غير متوعد بمثل ما توعد به من فعل ذلك بالمدينة، وإن كان قد علم أن من آوى أهل المعاصي أنه يشاركهم في الإثم فإن من رضى فعل قوم وعملهم التحق بهم، ولكن خصت المدينة بالذكر لشرفها لكونها مهبط الوحي وموطن الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنها انتشر الدين في أقطار الأرض فكان لها بذلك مزيد فضل على غيرها‏.‏

وقال غيره، السر في تخصيص المدينة بالذكر أنها كانت إذ ذاك موطن النبي صلى الله عليه وسلم ثم صارت موضع الخلفاء الراشدين‏.‏

*3*باب مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ وَلَا تَقْفُ لَا تَقُلْ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما يذكر من ذم الرأي‏)‏ أي الفتوى بما يؤدي إليه النظر وهو يصدق على ما يوافق النص وعلى ما يخالفه والمذموم منه ما يوجد النص بخلافه، وأشار بقوله ‏"‏ من ‏"‏ إلى أن بعض الفتوى بالرأي لا تذم وهو إذا لم يوجد النص من كتاب أو سنة أو إجماع، وقوله ‏"‏وتكلف القياس ‏"‏ أي إذا لم يوجد الأمور الثلاثة واحتاج إلى القياس فلا يتكلفه بل يستعمله على أوضاعه ولا يتعسف في إثبات العلة الجامعة التي هي من أركان القياس، بل إذا لم تكن العلة الجامعة واضحة فليتمسك بالبراءة الأصلية، ويدخل في تكلف القياس ما إذا استعمله على أوضاعه مع وجود النص، وما إذا وجد النص فخالفه وتأول لمخالفته شيئا بعيدا ويشتد الذم فيه لمن ينتصر لمن يقلده مع احتمال أن لا يكون الأول اطلع على النص‏.‏

قوله ‏(‏ولا تقف‏:‏ لا تقل ما ليس لك به علم‏)‏ احتج لما ذكره من ذم التكلف بالآية، وتفسير القفو بالقول من كلام ابن عباس فيما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ‏(‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏)‏ لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع، والمعروف أنه الاتباع، وقد تقدم في حديث موسى والخضر فانطلق يقفو أثره‏:‏ أي يتبعه، وفي حديث الصيد يقتفي أثره‏:‏ أي يتبع‏.‏

وقال أبو عبيدة معناه لا تتبع ما لا تعلم وما لا يعنيك‏.‏

وقال الراغب الاقتفاء‏:‏ اتباع القفا، كما أن الارتداف‏:‏ اتباع الردف، ويكنى بذلك عن الاغتياب وتتبع المعايب، ومعنى ‏(‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏)‏ لا تحكم بالقيافة والظن، والقيافة مقلوب عن الاقتفاء نحو جذب وجبذ، وسبقه إلى نحو هذا الأخير الفراء‏.‏

وقال الطبري بعد أن نقل عن السلف أن المراد شهادة الزور أو القول بغير علم أو الرمي بالباطل هذه المعاني متقاربة، وذكر قول أبي عبيدة، ثم قال أصل القفو‏:‏ العيب، ومنه حديث الأشعث بن قيس رفعه لا نقفوا منا ولا ننتفي من أبينا، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏"‏ ولا أقفو الحواضن إن قفينا‏"‏‏.‏

ثم نقل عن بعض الكوفيين أن أصله القيافة وهي اتباع الأثر، وتعقب بأنه لو كان كذلك لكانت القراءة بضم القاف وسكون الفاء، لكن زعم أنه على القلب، قال والأولى بالصواب الأول انتهى‏.‏

والقراءة التي أشار إليها نقلت في الشواذ عن معاذ القاري، واستدل الشافعي للرد على من يقدم القياس على الخبر بقوله تعالى ‏(‏فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول‏)‏ قال معناه والله أعلم، اتبعوا في ذلك ما قال الله ورسوله، وأورد البيهقي هنا حديث ابن مسعود ‏"‏ ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ فَحَدَّثْتُ بِهِ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو حَجَّ بَعْدُ فَقَالَتْ يَا ابْنَ أُخْتِي انْطَلِقْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَاسْتَثْبِتْ لِي مِنْهُ الَّذِي حَدَّثْتَنِي عَنْهُ فَجِئْتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَحَدَّثَنِي بِهِ كَنَحْوِ مَا حَدَّثَنِي فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَأَخْبَرْتُهَا فَعَجِبَتْ فَقَالَتْ وَاللَّهِ لَقَدْ حَفِظَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا سعيد بن تليد‏)‏ بمثناة ثم لام وزن عظيم، وهو سعيد بن عيسى بن تليد نسب إلى جده يكنى أبا عيسى بن عنى، بمهملة، ثم نون مصغر، وهو من المصريين الثقات الفقهاء وكان يكتب للحكام‏.‏

قوله ‏(‏عبد الرحمن بن شريح‏)‏ هو أبو شريح الإسكندراني بمعجمة أوله ومهملة آخره، وهو ممن وافقت كنيته اسم أبيه‏.‏

قوله ‏(‏وغيره‏)‏ هو ابن لهيعة أبهمه البخاري لضعفه، وجعل الاعتماد على رواية عبد الرحمن، لكن ذكر الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر في الجزء الذي جمعه في الكلام على حديث معاذ بن جبل في القياس أن عبد الله بن وهب حدث بهذا الحديث عن أبي شريح وابن لهيعة جميعا، لكنه قدم لفظ ابن لهيعة وهو مثل اللفظ الذي هنا ثم عطف عليه رواية أبي شريح فقال بذلك‏.‏

قلت‏:‏ وكذلك أخرجه ابن عبد البر في باب العلم من رواية سحنون عن ابن وهب عن ابن لهيعة فساقه، ثم قال ابن وهب‏:‏ وأخبرني عبد الرحمن بن شريح عن أبي الأسود عن عروة عن عبد الله بن عمرو بذلك، قال ابن طاهر‏:‏ ما كنا ندري هل أراد بقوله بذلك اللفظ والمعنى أو المعنى فقط، حتى وجدنا مسلما أخرجه عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن شريح وحده، فساقه بلفظ مغاير للفظ الذي أخرجه البخاري، قال فعرف أن اللفظ الذي حذفه البخاري هو لفظ عبد الرحمن ابن شريح الذي أبرزه هنا، والذي أورده هو لفظ الغير الذي أبهمه انتهى‏.‏

وسأذكر تفاوتهما وليس بينهما في المعنى كبير أمر، وكنت أظن أن مسلما حذف ذكر ابن لهيعة عمدا لضعفه واقتصر على عبد الرحمن بن شريح، حتى وجدت الإسماعيلي أخرجه من طريق حرملة بغير ذكر ابن لهيعة، فعرفت أن ابن وهب هو الذي كان يجمعهما تارة ويفرد ابن شريح تارة وعند ابن وهب فيه شيخان آخران بسند آخر أخرجه ابن عبد البر في بيان العلم من طريق سحنون حدثنا ابن وهب حدثنا مالك وسعيد بن عبد الرحمن كلاهما عن هشام بن عروة باللفظ المشهور، وقد ذكرت في باب العلم أن هذا الحديث مشهور عن هشام بن عروة عن أبيه، رواه عن هشام أكثر من سبعين نفسا وأقول هنا إن أبا القاسم عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله بن منده ذكر في ‏"‏ كتاب التذكرة ‏"‏ أن الذين رووه عن الحافظ هشام أكثر من ذلك؛ وسرد أسماءهم فزادوا على أربعمائة نفس وسبعين نفسا، منهم من الكبار شعبة ومالك وسفيان الثوري والأوزاعي وابن جريج ومسعر وأبو حنيفة وسعيد بن أبي عروبة والحمادان ومعمر، بل أكبر ومنهم مثل يحيى بن سعيد الأنصاري وموسى بن عقبة والأعمش ومحمد بن عجلان وأيوب وبكير بن عبد الله ابن الأشج وصفوان بن سليم وأبو معشر ويحيى بن أبي كثير وعمارة بن غزية وهؤلاء العشرة كلهم من صغار التابعين، وهم من أقرانه، ووافق هشاما على روايته عن عروة أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن النوفلي المعروف بيتيم عروة، وهو الذي رواه عنه ابن لهيعة وأبو شريح ورواه عن عروة أيضا ولداه يحيى وعثمان وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهو من أقرانه، والزهري ووافق عروة على روايته عن عبد الله بن عمرو بن العاص عمر بن الحكم بن ثوبان، أخرجه مسلم من طريقه ولم يسق لفظه لكن قال بمثل حديث هشام بن عروة، وكأنه ساقه من رواية جرير بن عبد الحميد عن هشام، وسأذكر ما في رواية بعض من ذكر من فائدة زائدة‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي الأسود‏)‏ في رواية مسلم بسنده إلى ابن شريح أن أبا الأسود حدثه‏.‏

قوله ‏(‏عن عروة‏)‏ زاد حرملة في روايته ‏"‏ ابن الزبير‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حج علينا‏)‏ أي مر علينا حاجا ‏(‏عبد الله بن عمرو فسمعته يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ قالت لي عائشة يا ابن أختي بلغني أن عبد الله بن عمرو مارا بنا إلى الحج فألقه فسائله فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا، قال فلقيته فسألته عن أشياء يذكرها عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان فيما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه‏)‏ في رواية أبي ذر عن المستملى والكشميهني ‏"‏ أعطاهموه ‏"‏ بالهاء ضمير الغيبة بدل الكاف، ووقع في رواية حرملة ‏"‏ لا ينتزع العلم من الناس انتزاعا ‏"‏ وفي رواية هشام الماضية في ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ من طريق مالك عنه ‏"‏ إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ‏"‏ وفي رواية سفيان بن عيينة عن هشام ‏"‏ من قلوب العباد ‏"‏ أخرجه الحميدي في مسنده عنه‏.‏

وفي رواية جرير عن هشام عند مسلم مثله لكن قال ‏"‏ من الناس ‏"‏ وهو الوارد في أكثر الروايات‏.‏

وفي رواية محمد بن عجلان عن هشام عند الطبراني ‏"‏ إن الله لا ينزع العلم انتزاعا، ينتزعه منهم بعد أن أعطاهم ‏"‏ ولم يذكر على من يعود الضمير‏.‏

وفي رواية معمر عن هشام عند الطبراني ‏"‏ إن الله لا ينزع العلم من صدور الناس بعد أن يعطيهم إياه ‏"‏ وأظن عبد الله ابن عمرو إنما حدث بهذا جوابا عن سؤال من سأله عن الحديث الذي رواه أبو أمامة قال‏:‏ لما كان في حجة الوداع قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل آدم فقال ‏"‏ يا أيها الناس خذوا من العلم قبل أن يقبض، وقبل أن يرفع من الأرض ‏"‏ الحديث وفي آخره ‏"‏ ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته ‏"‏ ثلاث مرات أخرجه أحمد والطبراني والدارمي، فبين عبد الله بن عمرو أن الذي ورد في قبض العلم ورفع العلم إنما هو على الكيفية التي ذكرها، وكذلك أخرج قاسم بن أصبغ ومن طريقه ابن عبد البر أن عمر سمع أبا هريرة يحدث بحديث ‏"‏ يقبض العلم ‏"‏ فقال ‏"‏ إن قبض العلم ليس شيئا ينزع من صدور الرجال، لكنه فناء العلماء ‏"‏ وهو عند أحمد والبزار من هذا الوجه‏.‏

قوله ‏(‏ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم‏)‏ كذا فيه والتقدير ينتزعه بقبص العلماء مع علمهم، ففيه بعض قلب؛ ووقع في رواية حرملة ‏"‏ ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم ‏"‏ وفي رواية هشام ‏"‏ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ‏"‏ وفي رواية معمر ‏"‏ ولكن ذهابهم قبض العلم ‏"‏ ومعانيها متقاربة‏.‏

قوله ‏(‏فيبقى ناس جهال‏)‏ هو بفتح أول يبقى وفي رواية حرملة ‏"‏ ويبقى في الناس رءوسا جهالا ‏"‏ وهو بضم أول يبقى وتقدم في ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ ضبط رءوسا هل هو بصيغة جمع رأس وهي رواية الأكثر أو رئيس وفي رواية هشام ‏"‏ حتى إذا لم يبق عالم ‏"‏ هذه رواية أبي ذر من طريق مالك ولغيره ‏"‏ لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا ‏"‏ وفي رواية جرير عند مسلم ‏"‏ حتى إذا لم يترك عالما ‏"‏ وكذا في رواية صفوان بن سليم عند الطبراني وهي تؤيد الرواية الثانية‏.‏

وفي رواية محمد بن عجلان ‏"‏ حتى إذا لم يبق عالم ‏"‏ وكذا في رواية شعبة عن هشام‏.‏

وفي رواية محمد ابن هشام بن عروة عن أبيه عند الطبراني ‏"‏ فيصير للناس رءوس جهال ‏"‏ وفي رواية معمر عن الزهري عن عروة عنده‏:‏ بعد أن يعطيهم إياه، لكن يذهب العلماء كلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم حتى يبقى من لا يعلم‏.‏

قوله ‏(‏يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون‏)‏ بفتح أوله ‏(‏ويضلون‏)‏ بضمه‏.‏

وفي رواية حرملة ‏"‏ يفتونهم بغير علم فيضلون ويضلون ‏"‏ وفي رواية محمد بن عجلان ‏"‏ يستفتونهم فيفتونهم ‏"‏ والباقي مثله‏.‏

وفي رواية هشام بن عروة ‏"‏ فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ‏"‏ وهي رواية الأكثر، وخالف الجميع قيس بن الربيع وهو صدوق ضعف من قبل حفظه، فرواه عن هشام بلفظ‏:‏ لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلا، حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم فأفتوا بالرأي فضلوا وأضلوا، أخرجه البزار وقال تفرد به قيس، قال‏:‏ والمحفوظ بهذا اللفظ ما رواه غيره عن هشام فأرسله‏.‏

قلت‏:‏ والمرسل المذكور أخرجه الحميدي في النوادر والبيهقي في المدخل من طريقه، عن ابن عيينة قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه فذكره، كرواية قيس سواء‏.‏

قوله ‏(‏فحدثت به عائشة‏)‏ زاد حرملة في روايته، فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته‏.‏

وقالت أحدثك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا‏.‏

قوله ‏(‏ثم إن عبد الله بن عمرو حج بعد فقالت يا ابن أختي انطلق إلى عبد الله فاستثبت لي منه الذي حدثتني عنه‏)‏ في رواية حرملة أنه حج من السنة المقبلة ولفظه قال عروة‏:‏ حتى إذا كان قابل قالت له‏:‏ إن ابن عمرو قد قدم فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم‏.‏

قوله ‏(‏فجئته فسألته‏:‏ في رواية حرملة‏)‏ ، ‏"‏ فلقيته‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فحدثني به‏)‏ في رواية حرملة ‏"‏ فذكره لي ‏"‏ قوله ‏(‏كنحو ما حدثني‏)‏ في رواية حرملة ‏"‏ بنحو ما حدثني به في مرته الأولى ‏"‏ ووقع في رواية سفيان ابن عيينة الموصولة ‏"‏ قال عروة ثم لبثت سنة ثم لقيت عبد الله بن عمرو في الطواف فسألته فأخبرني به فأفاد أن لقاءه إياه في المرة الثانية كان بمكة ‏"‏ وكأن عروة كان حج في تلك السنة من المدينة وحج عبد الله من مصر فبلغ عائشة ويكون قولها قد قدم أي من مصر طالبا لمكة لا أنه قدم المدينة، إذ لو دخلها للقيه عروة بها، ويحتمل أن تكون عائشة حجت تلك السنة وحج معها عروة فقدم عبد الله بعد، فلقيه عروة بأمر عائشة‏.‏

قوله ‏(‏فعجبت فقالت والله لقد حفظ عبد الله بن عمرو‏)‏ في رواية حرملة ‏"‏ فلما أخبرتها بذلك قالت ما أحسبه إلا صدق أراه لم يزد فيه شيئا ولم ينقص‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ورواية الأصل تحتمل أن عائشة كان عندها علم من الحديث، وظنت أنه زاد فيه أو نقص فلما حدث به ثانيا كما حدث به أولا، تذكرت أنه على وفق ما كانت سمعت، ولكن رواية حرملة التي ذكر فيها أنها أنكرت ذلك وأعظمته ظاهرة في أنه لم يكن عندها من الحديث علم، ويؤيد ذلك أنها لم تستدل على أنه حفظه إلا كونه حدث به بعد سنة كما حدث به أولا لم يزد ولم ينقص‏.‏

قال عياض‏:‏ لم تتهم عائشة عبد الله ولكن لعلها نسبت إليه أنه مما قرأه من الكتب القديمة لأنه كان قد طالع كثيرا منها، ومن ثم قالت ‏"‏ أحدثك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا ‏"‏ انتهى، وعلى هذا فرواية معمر له عن الزهري عن عروة عن عبد الله بن عمرو هي المعتمدة وهي في مصنف عبد الرزاق، وعند أحمد والنسائي والطبراني من طريقه ولكن الترمذي لما أخرجه من رواية عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة قال‏:‏ روى الزهري هذا الحديث عن عروة عن عبد الله بن عمرو، وعن عروة عن عائشة، وهذه الرواية التي أشار إليها رواية يونس ابن يزيد عن الزهري عن عروة عن عائشة، أخرجه أبو عوانة في صحيحه والبزار من طريق شبيب بن سعيد عن يونس، وشبيب في حفظه شيء وقد شذ بذلك، ولما أخرجه عبد الرزاق من رواية الزهري أردفه برواية معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عبد الله بن عمرو قال ‏"‏ أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا يرفع الله العلم بقبضه ولكن يقبض العلماء ‏"‏ الحديث؛ وقال ابن عبد البر في بيان العلم رواه عبد الرزاق أيضا عن معمر عن هشام بن عروة بمعنى حديث مالك‏.‏

قلت‏:‏ ورواية يحيى أخرجها الطيالسي عن هشام الدستوائي عنه، ووجدت عن الزهري فيه سندا آخر أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق العلاء بن سليمان الرقي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فذكر مثل رواية هشام سواء، لكن زاد بعد قوله ‏"‏ وأضلوا عن سواء السبيل ‏"‏ والعلاء ابن سليمان ضعفه ابن عدي وأورده من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ رواية حرملة التي مضت وسنده ضعيف، ومن حديث أبي سعيد الخدري بلفظ ‏"‏ يقبض الله العلماء، ويقبض العلم معهم، فتنشأ أحداث ينزو بعضهم على بعض نزو العير على العير، ويكون الشيخ فيهم مستضعفا ‏"‏ وسنده ضعيف وأخرج الدارمي من حديث أبي الدرداء‏.‏

قوله ‏"‏رفع العلم ذهاب العلماء ‏"‏ وعن حذيفة ‏"‏ قبض العلم قبض العلماء ‏"‏ وعند أحمد عن ابن مسعود قال ‏"‏ هل تدرون ما ذهاب العلم‏؟‏ ذهاب العلماء ‏"‏ وأفاد حديث أبي أمامة الذي أشرت إليه أولا وقت تحديث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، وفي حديث أبي أمامة من الفائدة الزائدة ‏"‏ أن بقاء الكتب بعد رفع العلم بموت العلماء لا يغني من ليس بعالم شيئا ‏"‏ فإن في بقيته ‏"‏ فسأله أعرابي فقال‏:‏ يا نبي الله كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف، وقد تعلمنا ما فيها وعلمناها أبناءنا ونساءنا وخدمنا، فرفع إليه رأسه وهو مغضب فقال‏:‏ وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف، لم يتعلقوا منها بحرف فيما جاءهم به أنبياؤهم ‏"‏ ولهذه الزيادة شواهد من حديث عوف بن مالك وابن عمرو وصفوان بن عسال وغيرهم، وهي عند الترمذي والطبراني والدارمي والبزار بألفاظ مختلفة، وفي جميعها هذا المعنى، وقد فسر عمر قبض العلم بما وقع تفسيره به في حديث عبد الله بن عمرو، وذلك فيما أخرجه أحمد من طريق يزيد بن الأصم عن أبي هريرة فذكر الحديث، وفيه ‏"‏ ويرفع العلم ‏"‏ فسمعه عمر فقال‏:‏ ‏"‏ أما أنه ليس ينزع من صدور العلماء ولكن بذهاب العلماء ‏"‏ وهذا يحتمل أن يكون عند عمر مرفوعا، فيكون شاهدا قويا لحديث عبد الله بن عمرو، واستدل بهذا الحديث على جواز خلو الزمان عن مجتهد، وهو قول الجمهور خلافا لأكثر الحنابلة، وبعض من غيرهم لأنه صريح في رفع العلم بقبض العلماء، وفي ترئيس أهل الجهل ومن لازمه الحكم بالجهل، وإذا انتفى العلم ومن يحكم به استلزم انتفاء الاجتهاد والمجتهد، وعورض هذا بحديث ‏"‏ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ حتى تقوم الساعة - أو - حتى يأتي أمر الله ‏"‏ ومضى في العلم كالأول بغير شك‏.‏

وفي رواية مسلم ‏"‏ ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله ‏"‏ ولم يشك وهو المعتمد، وأجيب أولا بأنه ظاهر في عدم الخلو لا في نفي الجواز، وثانيا بأن الدليل للأول أظهر للتصريح بقبض العلم تارة وبرفعه أخرى بخلاف الثاني، وعلى تقدير التعارض فيبقى أن الأصل عدم المانع‏.‏

قالوا الاجتهاد فرض كفاية، فيستلزم انتفاؤه الاتفاق على الباطل، وأجيب بأن بقاء فرض الكفاية مشروط ببقاء العلماء، فأما إذا قام الدليل على انقراض العلماء فلا لأن بفقدهم تنتفي القدرة والتمكن من الاجتهاد، وإذا انتفى أن يكون مقدورا لم يقع التكليف به، هكذا اقتصر عليه جماعة‏:‏ وقد تقدم في باب‏:‏ تغير الزمان حتى تعبد الأوثان، في أواخر ‏"‏ كتاب الفتن ‏"‏ ما يشير إلى أن محل وجود ذلك عند فقد المسلمين بهبوب الريح التي تهب بعد نزول عيسى عليه السلام، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا قبضته ويبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، وهو بمعناه عند مسلم كما بينته هناك فلا يرد اتفاق المسلمين على ترك فرض الكفاية والعمل بالجهل لعدم وجودهم، وهو المعبر عنه بقوله ‏"‏ حتى يأتي أمر الله ‏"‏ وأما الرواية بلفظ ‏"‏ حتى تقوم الساعة ‏"‏ فهي محمولة على إشرافها بوجود آخر أشراطها، وقد تقدم هذا بأدلته في الباب المذكور، ويؤيده ما أخرجه أحمد وصححه الحاكم عن حذيفة رفعه ‏"‏ يدرس الإسلام كما يدرس وشى الثوب ‏"‏ إلى غير ذلك من الأحاديث، وجوز الطبري أن يضمر في كل من الحديثين المحل الذي يكون فيه تلك الطائفة، فالموصوفون بشرار الناس الذين يبقون بعد أن تقبض الريح من تقبضه، يكونون مثلا ببعض البلاد كالمشرق الذي هو أصل الفتن، والموصوفون بأنهم على الحق يكونون مثلا ببعض البلاد كبيت المقدس لقوله في حديث معاذ ‏"‏ إنهم بالشام ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ ببيت المقدس ‏"‏ وما قاله وإن كان محتملا يرده قوله في حديث أنس في صحيح مسلم ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله ‏"‏ إلى غير ذلك من الأحاديث التي تقدم ذكرها في معنى ذلك والله أعلم‏.‏

ويمكن أن تنزل هذه الأحاديث على الترتيب في الواقع فيكون أولا‏:‏ رفع العلم بقبض العلماء المجتهدين الاجتهاد المطلق ثم المقيد، ثانيا‏:‏ فإذا لم يبق مجتهد استووا في التقليد لكن ربما كان بعض المقلدين أقرب إلى بلوغ درجة الاجتهاد المقيد من بعض، ولا سيما إن فرعنا على جواز تجزئ الاجتهاد ولكن لغلبة الجهل يقدم أهل الجهل أمثالهم، وإليه الإشارة بقوله ‏"‏ اتخذ الناس رءوسا جهالا ‏"‏ وهذا لا ينفي ترئيس بعض من لم يتصف بالجهل التام، كما لا يمتنع ترئيس من ينسب إلى الجهل في الجملة في زمن أهل الاجتهاد، وقد أخرج ابن عبد البر في ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ من طريق عبد الله بن وهب سمعت خلاد بن سلمان الحضرمي يقول حدثنا دراج أبو السمح يقول ‏"‏ يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى يسير عليها في الأمصار يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها، فلا يجد إلا من يفتيه بالظن ‏"‏ فيحمل على أن المراد الأغلب الأكثر في الحالين، وقد وجد هذا مشاهدا ثم يجوز أن يقبض أهل تلك الصفة ولا يبقى إلا المقلد الصرف، وحينئذ يتصور خلو الزمان عن مجتهد حتى في بعض الأبواب بل في بعض المسائل، ولكن يبقى من له نسبة إلى العلم في الجملة، ثم يزداد حينئذ غلبة الجهل وترئيس أهله، ثم يجوز أن يقبض أولئك حتى لا يبقى منهم أحد، وذلك جدير بأن يكون عند خروج الدجال أو بعد موت عيسى عليه السلام، وحينئذ يتصور خلو الزمان عمن ينسب إلى العلم أصلا، ثم تهب الريح فتقبض كل مؤمن، وهناك يتحقق خلو الأرض عن مسلم فضلا عن عالم فضلا عن مجتهد ويبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، والعلم عند الله تعالى‏.‏

وقد تقدم في أوائل ‏"‏ كتاب الفتن ‏"‏ كثير من المباحث والنقول المتعلقة بقبض العلم والله المستعان‏.‏

وفي الحديث الزجر عن ترئيس الجاهل لما يترتب عليه من المفسدة‏.‏

وقد يتمسك به من لا يجيز تولية الجاهل بالحكم، ولو كان عاقلا عفيفا، لكن إذا دار الأمر بين العالم الفاسق والجاهل العفيف، فالجاهل العفيف أولى لأن ورعه يمنعه عن الحكم بغير علم فيحمله على البحث والسؤال‏.‏

وفي الحديث أيضا حض أهل العلم وطلبته على أخذ بعضهم عن بعض، وفيه شهادة بعضهم لبعض بالحفظ والفضل، وفيه حض العالم طالبه على الأخذ عن غيره ليستفيد ما ليس عنده، وفيه التثبت فيما يحدث به المحدث إذا قامت قرينة الذهول ومراعاة الفاضل من جهة قول عائشة ‏"‏ اذهب إليه ففاتحه ‏"‏ حتى تسأله عن الحديث ولم تقل له سله عنه ابتداء خشية من استيحاشه‏.‏

وقال ابن بطال التوفيق بين الآية والحديث في ذم العمل بالرأي وبين ما فعله السلف من استنباط الأحكام، أن نص الآية ذم القول بغير علم، فخص به من تكلم برأي محمود عن استناد إلى أصل، ومعنى الحديث ذم من أفتى مع الجهل، ولذلك وصفهم بالضلال والإضلال، وإلا فقد مدح من استنبط من الأصل لقوله لعلمه الذين يستنبطونه منهم، فالرأي إذا كان مستندا إلى أصل من الكتاب أو السنة أو الإجماع فهو المحمود، وإذا كان لا يستند إلى شيء منها فهو المذموم، قال وحديث سهل بن حنيف وعمر بن الخطاب وإن كان يدل على ذم الرأي لكنه مخصوص بما إذا كان معارضا للنص، فكأنه قال اتهموا الرأي إذا خالف السنة، كما وقع لنا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحلل فأحببنا الاستمرار على الإجرام، وأردنا القتال لنكمل نسكنا ونقهر عدونا، وخفي عنا حينئذ ما ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم مما حمدت عقباه، وعمر هو الذي كتب إلى شريح ‏"‏ انظر ما تبين لك من كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا، فإن لم يتبين لك من كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم يتبين لك من السنة فاجتهد فيه رأيك ‏"‏ هذه رواية سيار عن الشعبي وفي رواية الشيباني عن الشعبي عن شريح أن عمر كتب إليه نحوه‏.‏

وقال في آخره ‏"‏ اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله، فإن لم يكن فبما قضى به الصالحون، فإن لم يكن فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرا لك ‏"‏ فهذا عمر أمر بالاجتهاد؛ فدل على أن الرأي الذي ذمه ما خالف الكتاب أو السنة‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن مسعود نحو حديث عمر من رواية الشيباني‏.‏

وقال في آخره ‏"‏ فإن جاءه ما ليس في ذلك فليجتهد رأيه فإن الحلال بين والحرام بين، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ هَلْ شَهِدْتَ صِفِّينَ قَالَ نَعَمْ فَسَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَقُولُ ح و حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ لَرَدَدْتُهُ وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرَ هَذَا الْأَمْرِ قَالَ وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ شَهِدْتُ صِفِّينَ وَبِئْسَتْ صِفُّونَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عبدان‏)‏ هو عبد الله بن عثمان، وعبدان لقب و ‏"‏ أبو حمزة ‏"‏ بالمهملة ثم الزاي هو السكري وساق المتن على لفظ أبي عوانة لأنه ساق لفظ عبدان في ‏"‏ كتاب الجزية ‏"‏ ووقعت رواية أبي عوانة مقدمة على رواية أبي حمزة، وساق المتن ثم عطف عليه رواية أبي حمزة، وفي آخره فسمعت سهل بن حنيف يقول ذلك‏.‏

قوله ‏(‏قال سهل بن حنيف يا أيها الناس‏)‏ قد تقدم بيان سبب خطبته بذلك في تفسير سورة الفتح، وبيان المراد بقول سهل يوم أبي جندل، وقوله ‏"‏يفظعنا ‏"‏ بالظاء المعجمة المكسورة بعد الفاء الساكنة، أي يوقعنا في أمر فظيع، وهو الشديد في القبح ونحوه‏.‏

وقوله ‏"‏إلا أسهلن ‏"‏ بسكون اللام بعد الهاء والنون المفتوحتين، والمعنى أنزلتنا في السهل من الأرض أي أفضين بنا، وهو كناية عن التحول من الشدة إلى الفرج، وقوله ‏"‏بنا ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ بها ‏"‏ ومراد سهل أنهم كانوا إذا وقعوا في شدة يحتاجون فيها إلى القتال في المغازي والثبوت والفتوح العمرية، عمدوا إلى سيوفهم فوضعوها على عواتقهم، وهو كناية عن الجد في الحرب، فإذا فعلوا ذلك انتصروا، وهو المراد بالنزول في السهل، ثم استثنى الحرب التي وقعت بصفين لما وقع فيها من إبطاء النصر وشدة المعارضة من حجج الفريقين، إذ حجة علي ومن معه ما شرع لهم من قتال أهل البغي حتى يرجعوا إلى الحق، وحجة معاوية ومن معه ما وقع من قتل عثمان مظلوما، ووجود قتلته بأعيانهم في العسكر العراقي فعظمت الشبهة حتى اشتد القتال وكثر القتل في الجانبين، إلى أن وقع التحكيم فكان ما كان‏.‏

قوله ‏(‏وقال أبو وائل شهدت صفين وبئست صفين‏)‏ كذا لأبي ذر ولغيره ‏"‏ وبئست صفون ‏"‏ وفي رواية النسفي مثله ولكن قال ‏"‏ وبئست الصفون ‏"‏ بزيادة ألف ولام والمشهور في صفين كسر الصاد المهملة وبعضهم فتحها وجزم بالكسر جماعة من الأئمة والفاء مكسورة مثقلة اتفاقا، والأشهر فيها بالياء قبل النون كماردين وفلسطين وقنسرين وغيرها، ومنهم من أبدل الياء واوا في الأحوال، وعلى هاتين اللغتين فإعرابها إعراب غسلين وعربون، ومنهم من أعربها إعراب جمع المذكر السالم فتتصرف بحسب العوامل، مثل ‏(‏لفي عليين، وما أدراك ما عليون‏)‏ ومنهم من فتح النون مع الواو لزوما نقل كل ذلك ابن مالك ولم يذكر فتح النون مع الياء لزوما وقوله ‏"‏ اتهموا رأيكم على دينكم ‏"‏ أي لا تعملوا في أمر الدين بالرأي المجرد الذي لا يستند إلى أصل من الدين، وهو كنحو قول علي فيما أخرجه أبو داود بسند حسن ‏"‏ لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه ‏"‏ والسبب في قول سهل ذلك ما تقدم بيانه في استتابة المرتدين، أن أهل الشام لما استشعروا أن أهل العراق شارفوا ‏"‏ أن يغلبوهم، وكان أكثر أهل العراق من القراء الذين يبالغون في التدين، ومن ثم صار منهم الخوارج الذين مضى ذكرهم، فأنكروا على علي ومن أطاعه الإجابة إلى التحكيم، فاستند علي إلى قصة الحديبية وأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب قريشا إلى المصالحة مع ظهور غلبته لهم، وتوقف بعض الصحابة أولا حتى ظهر لهم أن الصواب ما أمرهم به، كما مضى بيانه مفصلا في الشروط، وأول الكرماني كلام سهل بن حنيف بحسب ما احتمله اللفظ فقال‏:‏ كأنهم اتهموا سهلا بالتقصير في القتال حينئذ، فقال لهم‏:‏ بل اتهموا أنتم رأيكم فإني لا أقصر كما لم أكن مقصرا يوم الحديبية وقت الحاجة، فكما توقفت يوم الحديبية من أجل أني لا أخالف حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أتوقف اليوم لأجل مصلحة المسلمين‏.‏

وقد جاء عن عمر نحو قول سهل ولفظه ‏"‏ اتقوا الرأي في دينكم ‏"‏ أخرجه البيهقي في المدخل هكذا مختصرا، وأخرجه هو والطبري والطبراني مطولا بلفظ ‏"‏ اتهموا الرأي على الدين؛ فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي اجتهادا، فوالله ما آلو عن الحق ‏"‏ وذلك يوم أبي جندل حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ تراني أرضى وتأبى ‏"‏ والحاصل أن المصير إلى الرأي إنما يكون عند فقد النص، وإلى هذا يومئ قول الشافعي فيما أخرجه البيهقي بسند صحيح إلى أحمد بن حنبل سمعت الشافعي يقول القياس عند الضرورة، ومع ذلك فليس العامل برأيه على ثقة من أنه وقع على المراد من الحكم في نفس الأمر، وإنما عليه بذل الوسع في الاجتهاد ليؤجر ولو أخطأ وبالله التوفيق‏.‏

وأخرج البيهقي في المدخل، وابن عبد البر في بيان العلم عن جماعة من التابعين كالحسن وابن سيرين وشريح والشعبي والنخعي بأسانيد جياد، ذم القول بالرأي المجرد ويجمع ذلك كله حديث أبي هريرة ‏"‏ لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ‏"‏ أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات وقد صححه النووي في آخر الأربعين، وأما ما أخرجه البيهقي من طريق الشعبي عن عمرو بن حريث عن عمر قال ‏"‏ إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا ‏"‏ فظاهر في أنه أراد ذم من قال بالرأي مع وجود النص من الحديث لإغفاله التنقيب عليه فهلا يلام، وأولى منه باللوم من عرف النص وعمل، بما عارضه من الرأي، وتكلف لرده بالتأويل وإلى ذلك الإشارة بقوله في الترجمة وتكلف القياس والله أعلم‏.‏

وقال ابن عبد البر في بيان العلم بعد أن ساق آثارا كثيرة في ذم الرأي ما ملخصه‏:‏ اختلف العلماء في الرأي المقصود إليه بالذم في هذه الآثار مرفوعها وموقوفها ومقطوعها، فقالت طائفة‏:‏ هو القول في الاعتقاد بمخالفة السنن لأنهم استعملوا آراءهم وأقيستهم في رد الأحاديث، حتى طعنوا في المشهور منها الذي بلغ التواتر كأحاديث الشفاعة، وأنكروا أن يخرج أحد من النار بعد أن يدخلها، وأنكروا الحوض والميزان وعذاب القبر، إلى غير ذلك من كلامهم في الصفات والعلم والنظر‏.‏

وقال أكثر أهل العلم‏:‏ الرأي المذموم الذي لا يجوز النظر فيه ولا الاشتغال به، هو ما كان في نحو ذلك من ضروب البدع، ثم أسند عن أحمد بن حنبل قال‏:‏ لا تكاد ترى أحدا نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل، قال‏:‏ وقال جمهور أهل العلم الرأي المذموم في الآثار المذكورة، هو القول في الأحكام بالاستحسان، والتشاغل بالأغلوطات ورد الفروع بعضها إلى بعض دون ردها إلى أصول السنن وأضاف كثير منهم إلى ذلك من يتشاغل بالإكثار منها قبل وقوعها لما يلزم من الاستغراق في ذلك من تعطيل السنن، وقوى ابن عبد البر هذا القول الثاني واحتج له، ثم قال‏:‏ ليس أحد من علماء الأمة يثبت عنده حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ثم يرده إلا بادعاء نسخ أو معارضة أثر غيره أو إجماع أو عمل يجب على أصله الانقياد إليه أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك بغير ذلك لسقطت عدالته فضلا عن أن يتخذ إماما، وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك، ثم ختم الباب بما بلغه عن سهل بن عبد الله التستري الزاهد المشهور قال‏:‏ ما أحدث أحد في العلم شيئا إلا سئل عنه يوم القيامة فإن وافق السنة سلم وإلا فلا‏.‏

*3*باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي

أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلَا بِقِيَاسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرُّوحِ فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل مما لم ينزل عليه الوحي فيقول لا أدري، أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي‏)‏ أي كان له إذا سئل عن الشيء الذي لم يوح إليه فيه حالان‏:‏ إما أن يقول لا أدري وإما أن يسكت حتى يأتيه بيان ذلك بالوحي، والمراد بالوحي أعم من المتعبد بتلاوته ومن غيره، ولم يذكر لقوله ‏"‏ لا أدري ‏"‏ دليلا فإن كلا من الحديثين المعلق والموصول من أمثلة الشق الثاني، وأجاب بعض المتأخرين بأنه استغنى بعدم جوابه به‏.‏

وقال الكرماني في قوله في الترجمة لا أدري حزازة إذ ليس في الحديث ما يدل عليه، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم ذلك كذا قال، وهو تساهل شديد منه في الإقدام على نفي الثبوت كما سأبينه، والذي يظهر أنه أشار في الترجمة إلى ما ورد في ذلك ولكنه لم يثبت عنده منه شيء على شرطه، وإن كان يصلح للحجة كعادته في أمثال ذلك، وأقرب ما ورد عنده في ذلك حديث ابن مسعود الماضي في تفسير سورة ص ‏"‏ من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم ‏"‏ الحديث لكنه موقوف، والمراد منه إنما هو ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاب ‏"‏ بلا أعلم ‏"‏ أو ‏"‏ لا أدري ‏"‏ وقد وردت فيه عدة أحاديث منها حديث ابن عمر ‏"‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أي البقاع خير، قال‏:‏ لا أدري، فأتاه جبريل فسأله فقال‏:‏ لا أدري، فقال‏:‏ سل ربك فانتفض جبريل انتفاضة ‏"‏ الحديث أخرجه ابن حبان، وللحاكم نحوه من حديث جبير ابن مطعم، وفي الباب عن أنس عند ابن مردويه، وأما حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا ‏"‏ وهو عند الدار قطني والحاكم فقد تقدم في شرح حديث عبادة من ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ الكلام عليه وطريق الجمع بينه وبين حديث عبادة، ووقع الإلمام بشيء من ذلك في ‏"‏ كتاب الحدود ‏"‏ أيضا‏.‏

وقال ابن الحاجب‏:‏ في أوائل مختصره لثبوت لا أدري وقد أوردت من ذلك ما تيسر في الأمالي في تخريج أحاديث المختصر‏.‏

قوله ‏(‏ولم يقل برأي ولا قياس‏)‏ قال الكرماني‏:‏ هما مترادفان، وقيل الرأي التفكر، والقياس الإلحاق، وقيل الرأي أعم ليدخل فيه الاستحسان ونحوه انتهى‏.‏

والذي يظهر أن الأخير مراد البخاري وهو ما دل عليه اللفظ الذي أورده في الباب الذي قبله من حديث عبد الله بن عمرو‏.‏

وقال الأوزاعي ‏"‏ العلم ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم يجئ عنهم فليس بعلم ‏"‏ وأخرج أبو عبيد ويعقوب بن شيبة عن ابن مسعود قال ‏"‏ لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا ‏"‏ وقال أبو عبيدة معناه أن كل ما جاء عن الصحابة وكبار التابعين لهم بإحسان هو العلم الموروث، وما أحدثه من جاء بعدهم هو المذموم، وكان السلف يفرقون بين العلم والرأي فيقولون للسنة علم ولما عداها رأي، وعن أحمد يؤخذ العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن الصحابة، فإن لم يكن فهو في التابعين مخير، وعنه ما جاء عن الخلفاء الراشدين فهو من السنة وما جاء عن غيرهم من الصحابة ممن قال إنه سنة لم أدفعه، وعن ابن المبارك ليكن المعتمد عليه الأثر وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الخبر، والحاصل أن الرأي إن كان مستندا للنقل من الكتاب أو السنة فهو محمود وإن تجرد عن علم فهو مذموم، وعليه يدل حديث عبد الله بن عمرو المذكور، فإنه ذكر بعد فقد العلم أن الجهال يفتون برأيهم‏.‏

قوله ‏(‏لقوله‏)‏ في رواية المستملى لقول الله تعالى ‏(‏بما أراك الله‏)‏ وقد نقل ابن بطال عن المهلب ما معناه إنما سكت النبي صلى الله عليه وسلم في أشياء معضلة ليست لها أصول في الشريعة، فلا بد فيها من اطلاع الوحي وإلا فقد شرع صلى الله عليه وسلم لأمته القياس، وأعلمهم كيفية الاستنباط فيما لا نص فيه، حيث قال‏:‏ للتي سألته‏:‏ هل تحج عن أمها فالله أحق بالقضاء، وهذا هو القياس في لغة العرب، وأما عند العلماء فهو تشبيه ما لا حكم فيه بما فيه حكم في المعنى، وقد شبه الحمر بالخيل فأجاب من سأله عن الحمر بالآية الجامعة ‏(‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره‏)‏ إلى آخرها‏.‏

كذا قال‏:‏ ونقل ابن التين عن الداودي ما حاصله أن الذي احتج به البخاري لما ادعاه من النفي حجة في الإثبات، لأن المراد بقوله ‏"‏ بما أراك الله ‏"‏ ليس محصورا في المنصوص، بل فيه إذن في القول بالرأي، ثم ذكر قصة الذي قال إن امرأتي ولدت غلاما أسود هل لك من إبل‏؟‏ إلى أن قال؛ فلعله نزعه عرق‏.‏

وقال‏:‏ لما رأى شبها بزمعة، احتجبي منه يا سودة‏.‏

ثم ذكر آثارا تدل على الإذن في القياس، وتعقبها ابن التين بأن البخاري لم يرد النفي المطلق، وإنما أراد أنه صلى الله عليه وسلم ترك الكلام في أشياء وأجاب بالرأي في أشياء، وقد بوب لكل ذلك بما ورد فيه، وأشار إلى قوله بعد بابين‏:‏ باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين، وذكر فيه حديث ‏"‏ لعله نزعه عرق ‏"‏ وحديث ‏"‏ فدين الله أحق أن يقضى ‏"‏ وبهذا يندفع ما فهمه المهلب والداودي، ثم نقل ابن بطال الخلاف هل يجوز للنبي أن يجتهد فيما لم ينزل عليه‏.‏

ثالثها‏:‏ فيما يجري مجرى الوحي من منام وشبهه‏.‏

ونقل أن لا نص لمالك فيه‏.‏

قال‏:‏ والأشبه جوازه، وقد ذكر الشافعي المسألة في الأم وذكر أن حجة من قال‏:‏ أنه لم يسن شيئا إلا بأمر، وهو على وجهين إما بوحي يتلى على الناس، وإما برسالة عن الله أن أفعل كذا، قول الله تعالى ‏(‏وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة‏)‏ الآية، فالكتاب ما يتلى والحكمة السنة، وهو ما جاء به عن الله بغير تلاوة، ويؤيد ذلك‏.‏

قوله ‏"‏في قصة العسيف ‏"‏ لأقضين بينكما بكتاب الله أي بوحيه ومثله حديث يعلى بن أمية في قصة الذي سأل عن العمرة وهو لابس الجبة، فسكت حتى جاءه الوحي فلما سرى عنه أجابه وأخرج الشافعي من طريق طاوس أن عنده كتابا في العقول نزل به الوحي وأخرج البيهقي بسند صحيح عن حسان بن عطية أحد التابعين من ثقات الشاميين ‏"‏ كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن ‏"‏ ويجمع ذلك كله ‏(‏وما ينطق عن الهوى‏)‏ الآية‏.‏

ثم ذكر الشافعي أن من وجوه الوحي ما يراه في المنام‏.‏

وما يلقيه روح القدس في روعه‏.‏

ثم قال‏:‏ ولا تعدو السنن كلها واحدا من هذه المعاني التي وصفت انتهى‏.‏

واحتج من ذهب إلى أنه كان يجتهد بقول الله تعالى ‏(‏فاعتبروا يا أولى الأبصار‏)‏ والأنبياء أفضل أولي الأبصار‏.‏

ولما ثبت من أجر المجتهد ومضاعفته‏.‏

والأنبياء أحق بما فيه جزيل الثواب ثم ذكر ابن بطال أمثلة مما عمل فيه صلى الله عليه وسلم بالرأي من أمر الحرب وتنفيذ الجيوش وإعطاء المؤلفة وأخذ الفداء من أسارى بدر، واستدل بقوله تعالى ‏(‏وشاورهم في الأمر‏)‏ قال ولا تكون المشورة إلا فيما لا نص فيه، واحتج الداودي بقول عمر أن الرأي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا، وإنما هو منا الظن والتكلف‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ قال المجوزون كأن التوقف فيما لم يجد له أصلا يقيس عليه، وإلا فهو مأمور به لعموم قوله تعالى ‏(‏فاعتبروا يا أولي الأبصار‏)‏ انتهى‏.‏

وهو ملخص مما تقدم‏.‏

واحتج ابن عبد البر لعدم القول بالرأي بما أخرجه من طريق ابن شهاب ‏"‏ أن عمر خطب فقال‏:‏ يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا، لأن الله عز وجل يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف ‏"‏ وبهذا يمكن التمسك به لمن يقول كان يجتهد، لكن لا يقع فيما يجتهد فيه خطأ أصلا، وهذا في حقه صلى الله عليه وسلم فأما من بعده فإن الوقائع كثرت والأقاويل انتشرت، فكان السلف يتحرزون من المحدثات‏.‏

ثم انقسموا ثلاث فرق‏:‏ الأولى تمسكت بالأمر، وعملوا بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ‏"‏ فلم يخرجوا في فتاويهم عن ذلك، وإذا سئلوا عن شيء لا نقل عندهم فيه أمسكوا عن الجواب وتوقفوا‏.‏

والثانية‏:‏ قاسوا ما لم يقع على ما وقع وتوسعوا في ذلك، حتى أنكرت عليهم الفرقة الأولى كما تقدم ويجيء‏.‏

والثالثة‏:‏ توسطت فقدمت الأثر ما دام موجودا فإذا فقد قاسوا‏.‏

قوله ‏(‏وقال ابن مسعود سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح فسكت حتى نزلت الآية‏)‏ هو طرف من الحديث الذي مضى قريبا في آخر باب ‏"‏ ما يكره من كثرة السؤال ‏"‏ موصولا إلى ابن مسعود‏.‏

لكنه ذكره فيه بلفظ ‏"‏ فقام ساعة ينظر ‏"‏ وأورده بلفظ ‏"‏ فسكت ‏"‏ في ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ وأورده في تفسير ‏(‏سبحان‏)‏ بلفظ ‏"‏ فأمسك ‏"‏ وفي رواية مسلم ‏"‏ فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئا ‏"‏ ثم ذكر حديث جابر في مرضه، وسؤاله كيف أصنع في مالي‏؟‏ قال‏:‏ فما أجابني بشيء حتى نزلت آية الميراث، وهو ظاهر فيما ترجم له وقد مضى شرحه مستوفي في تفسير سورة النساء‏.‏

*3*باب تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِرَأْيٍ وَلَا تَمْثِيلٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء مما علمه الله ليس برأي ولا تمثيل‏)‏ قال المهلب‏:‏ مراده أن العالم إذا كان يمكنه أن يحدث بالنصوص، لا يحدث بنظره ولا قياسه انتهى‏.‏

والمراد بالتمثيل القياس وهو إثبات مثل حكم معلوم في آخر لاشتراكهما في علة الحكم، والرأي أعم وذكر فيه

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ فَقَالَ اجْتَمِعْنَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَاجْتَمَعْنَ فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلَاثَةً إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ اثْنَيْنِ قَالَ فَأَعَادَتْهَا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد‏:‏ في سؤال المرأة قد ذهب الرجال بحديثك، وفيه ‏"‏ فأتاهن فعلمهن مما علمه الله ‏"‏ وفيه ثم قال ‏"‏ ما منكن امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة ‏"‏ وقد مضى شرحه مستوفى في أول ‏"‏ كتاب الجنائز ‏"‏ وفي العلم وقوله ‏"‏ جاءت امرأة ‏"‏ لم أقف على اسمها، ويحتمل أن تكون هي أسماء بنت زيد بن السكن وقوله هنا ‏"‏ فأتاهن فعلمهن مما علمه الله ‏"‏ تقدم هناك بلفظ ‏"‏ فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن فأمرهن فكان فيما قال لهن ‏"‏ فذكر نحو ما هنا ولم أر في شيء من طرقه بيان ما علمهن، لكن يمكن أن يؤخذ من حديث أبي سعيد الآخر الماضي في ‏"‏ كتاب الزكاة ‏"‏ وفيه ‏"‏ فمر على النساء فقال‏:‏ يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ فقامت امرأة فقالت لم ‏"‏ وفيه ‏"‏ أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل، وأليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ‏"‏ وقد مضى شرحه مستوفى هناك، وأن المرأة المذكورة هي أسماء قال الكرماني موضع الترجمة من الحديث قوله ‏"‏ كن لها حجابا من النار ‏"‏ فإنه أمر توقيفي لا يعلم إلا من قبل الله تعالى لا دخل للقياس والرأي فيه‏.‏

*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق‏)‏ هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه مسلم عن ثوبان، وبعده ‏"‏ لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ‏"‏ وله من حديث جابر مثله، لكن قال ‏"‏ يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ‏"‏ وله من حديث معاوية المذكور في الباب نحوه‏.‏

قوله ‏(‏وهم أهل العلم‏)‏ هو من كلام المصنف وأخرج الترمذي حديث الباب ثم قال سمعت محمد ابن إسماعيل هو البخاري يقول، سمعت علي بن المديني يقول هم أصحاب الحديث، وذكر في ‏"‏ كتاب خلق أفعال العباد ‏"‏ عقب حديث أبي سعيد في قوله تعالى ‏(‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏)‏ هم الطائفة المذكورة في حديث ‏"‏ لا تزال طائفة من أمتي ‏"‏ ثم ساقه وقال وجاء نحوه عن أبي هريرة ومعاوية وجابر وسلمة بن نفيل وقرة ابن إياس انتهى‏.‏

وأخرج الحاكم في علوم الحديث بسند صحيح عن أحمد إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم، ومن طريق يزيد بن هارون مثله ‏"‏ وزعم بعض الشراح أنه استفاد ذلك من حديث معاوية لأن فيه ‏"‏ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ‏"‏ وهو في غاية البعد‏.‏

وقال الكرماني يؤخذ من الاستقامة المذكورة في الحديث الثاني أن من جملة الاستقامة أن يكون التفقه، لأنه الأصل قال وبهذا ترتبط الأخبار المذكورة في حديث معاوية، لأن الاتفاق لا بد منه، أي المشار إليه بقوله ‏"‏ وإنما أنا قاسم ويعطى الله عز وجل‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عبيد الله بن موسى‏)‏ هو العبسي بالموحدة ثم المهملة الكوفي من كبار شيوخ البخاري، وهو من أتباع التابعين وشيخه في هذا الحديث ‏"‏ إسماعيل ‏"‏ هو ابن أبي خالد تابعي مشهور، وشيخ إسماعيل ‏"‏ قيس ‏"‏ هو ابن أبي حازم من كبار التابعين، وهو مخضرم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره ولهذا الإسناد حكم الثلاثيات وإن كان رباعيا، وقد تقدم بعد علامات النبوة ببابين من رواية يحيى القطان عن إسماعيل أنزل من هذا بدرجة، ورجال سند الباب كلهم كوفيون لأن المغيرة ولي إمرة الكوفة غير مرة وكانت وفاته بها وقد اتفق الرواة عن إسماعيل على أنه عن قيس عن المغيرة، وخالفهم أبو معاوية فقال عن سعيد بدل المغيرة فأورده أبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام‏.‏

وقال الصواب قول الجماعة عن المغيرة، وحديث سعد عند مسلم لكن من طريق ابن عثمان عن سعد‏.‏

قوله ‏(‏لا تزال‏)‏ بالمثناة أوله وفي رواية مسلم من طريق مروان الفزاري عن إسماعيل ‏"‏ لن يزال قوم ‏"‏ وهذه بالتحتانية والباقي مثله لكن زاد ‏"‏ ظاهرين على الناس‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون‏)‏ أي على من خالفهم أي غالبون، أو المراد بالظهور أنهم غير مستترين بل مشهورون والأول أولى، وقد وقع عند مسلم من حديث جابر بن سمرة ‏"‏ لن يبرح هذا الدين قائما تقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة ‏"‏ وله في حديث عقبة بن عامر ‏"‏ لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة ‏"‏ وقد ذكرت الجمع بينه وبين حديث ‏"‏ لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ‏"‏ في أواخر ‏"‏ كتاب الفتن ‏"‏ والقصة التي أخرجها مسلم أيضا من حديث عبد الله بن عمرو ‏"‏ لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم ‏"‏ ومعارضة عقبة بن عامر بهذا الحديث فقال عبد الله أجل، ثم يبعث الله ريحا كريح المسك، فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته ‏"‏ ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة ‏"‏ وقد أشرت إلى هذا قريبا إلى الكلام على حديث ‏"‏ قبض العلم ‏"‏ وأن هذا أولى ما يتمسك به في الجمع بين الحديثين المذكورين، وذكرت ما نقله ابن بطال عن الطبري في الجمع بينهما، أن شرار الناس الذين تقوم عليهم الساعة يكونون بموضع مخصوص، وأن موضعا آخر يكون به طائفة يقاتلون على الحق لا يضرهم من خالفهم، ثم أورد من حديث أبي أمامة نحو حديث الباب، وزاد فيه ‏"‏ قيل يا رسول الله وأين هم‏؟‏ قال ببيت المقدس ‏"‏ وأطال في تقرير ذلك وذكرت أن المراد بأمر الله‏:‏ هبوب تلك الريح وأن المراد بقيام الساعة‏:‏ ساعتهم وأن المراد بالذين يكونون ببيت المقدس‏:‏ الذين يحصرهم الدجال إذا خرج فينزل عيسى إليهم فيقتل الدجال، ويظهر الدين في زمن عيسى، ثم بعد موت عيسى تهب الريح المذكورة، فهذا هو المعتمد في الجمع، والعلم عند الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَخْطُبُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللَّهُ وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ أَوْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس ‏"‏ وابن وهب ‏"‏ هو عبد الله و ‏"‏ يونس ‏"‏ هو ابن يزيد و ‏"‏ حميد ‏"‏ هو ابن عبد الرحمن بن عوف‏.‏

قوله ‏(‏سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطب‏)‏ في رواية عمير بن هانئ ‏"‏ سمعت معاوية على المنبر يقول ‏"‏ وقد مضى في علامات النبوة، ويأتي في التوحيد وفي رواية يزيد بن الأصم ‏"‏ سمعت معاوية ‏"‏ وذكر حديثا ولم أسمعه ‏"‏ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم على منبره حديثا غيره ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

قوله ‏(‏من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين‏)‏ تقدم شرح هذا في ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ وقوله ‏"‏ وإنما أنا قاسم ويعطي الله ‏"‏ تقدم في العلم بلفظ ‏"‏ والله المعطي ‏"‏ وفي فرض الخمس من وجه آخر ‏"‏ والله المعطي وأنا القاسم ‏"‏ وتقدم شرحه هناك أيضا‏.‏

قوله ‏(‏ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله‏)‏ في رواية عمير بن هانئ ‏"‏ لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله ‏"‏ وتقدم بعد بابين من باب علامات النبوة من هذا الوجه بلفظ ‏"‏ لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك ‏"‏ وزاد قال عمير فقال مالك بن يخامر قال معاذ ‏"‏ وهم بالشام ‏"‏ وفي رواية يزيد بن الأصم ‏"‏ ولا تزال عصابة من المسلمين ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة ‏"‏ قال صاحب المشارق في قوله ‏"‏ لا يزال أهل الغرب ‏"‏ يعني الرواية التي في بعض طرق مسلم وهي بفتح الغين المعجمة وسكون الراء، ذكر يعقوب بن شيبة عن علي بن المديني قال‏:‏ المراد بالغرب، الدلو أي الغرب بفتح المهملتين لأنهم أصحابها لا يستقي بها أحد غيرهم لكن في حديث معاذ وهم أهل الشام فالظاهر أن المراد بالغرب البلد لأن الشام غربي الحجاز كذا قال‏:‏ ليس بواضح، ووقع في بعض طرق الحديث ‏"‏ المغرب ‏"‏ بفتح الميم وسكون المعجمة وهذا يرد تأويل الغرب بالعرب، لكن يحتمل أن يكون بعض رواته نقله بالمعنى الذي فهمه أن المراد الإقليم لا صفة بعض أهله، وقيل المراد بالغرب أهل القوة والاجتهاد في الجهاد، يقال في لسانه غرب بفتح ثم سكون أي حدة، ووقع في حديث أبي أمامة عند أحمد أنهم ببيت المقدس، وأضاف بيت إلى المقدس، وللطبراني من حديث النهدي نحوه، وفي حديث أبي هريرة في الأوسط للطبراني ‏"‏ يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم ظاهرين إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ويمكن الجمع بين الأخبار بأن المراد قوم يكونون ببيت المقدس، وهي شامية ويسقون بالدلو، وتكون لهم قوة في جهاد العدو وحدة وجد‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ اتفق الشراح على أن معنى قوله ‏"‏ على من خالفهم ‏"‏ أن المراد علوهم عليهم بالغلبة وأبعد من أبدع فرد على من جعل ذلك منقبة لأهل الغرب أنه مذمة لأن المراد بقوله ‏"‏ ظاهرين على الحق ‏"‏ أنهم غالبون له وأن الحق بين أيديهم كالميت، وأن المراد بالحديث ذم الغرب وأهله لا مدحهم، قال النووي فيه أن الإجماع حجة، ثم قال يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين‏.‏

ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولا فأولا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد فإذا انقرضوا جاء أمر الله، انتهى ملخصا مع زيادة فيه، ونظير ما نبه عليه ما حمل عليه بعض الأئمة حديث ‏"‏ إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ‏"‏ أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة وهو متجه، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدعي ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها؛ ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي وإن كان متصفا بالصفات الجميلة، إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان متصفا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد سواء تعدد أم لا

*3*باب فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب في قول الله تعالى أو يلبسكم شيعا‏)‏ ذكر فيه حديث جابر في نزول قوله تعالى ‏(‏قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا‏)‏ وقد تقدم شرحه مستوفى في تفسير سورة الأنعام، ووجه مناسبته لما قبله أن ظهور بعض الأمة على عدوهم دون بعض يقتضي أن بينهم اختلافا حتى انفردت طائفة منهم بالوصف، لأن غلبة الطائفة المذكورة إن كانت على الكفار ثبت المدعي، وإن كانت على طائفة من هذه الأمة أيضا فهو أظهر في ثبوت الاختلاف فذكر بعده أصل وقوع الاختلاف وأنه صلى الله عليه وسلم كان يريد أن لا يقع فأعلمه الله تعالى أنه قضى بوقوعه، وإن كل ما قدره لا سبيل إلى رفعه، قال ابن بطال أجاب الله تعالى دعاء نبيه في عدم استئصال أمته بالعذاب، ولم يجبه في أن لا يلبسهم شيعا، أي فرقا مختلفين وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض أي بالحرب والقتل بسبب ذلك، وإن كان ذلك من عذاب الله لكن أخف من الاستئصال وفيه للمؤمنين كفارة‏.‏