فصل: باب قَتْلِ أَبِي رَافِعٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب قَتْلِ أَبِي رَافِعٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ

وَيُقَالُ سَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ كَانَ بِخَيْبَرَ وَيُقَالُ فِي حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ هُوَ بَعْدَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق - ويقال سلام بن أبي الحقيق - كان بخيبر‏)‏ ، والحقيق بمهملة وقاف مصغر، والذي سماه عبد الله هو عبد الله بن أنيس، وذلك فيما أخرجه الحاكم في ‏"‏ الإكليل ‏"‏ من حديثه مطولا وأوله ‏"‏ أن الرهط الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي الحقيق ليقتلوه وهم عبد الله بن عتيك وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة وحليف لهم ورجل من الأنصار، وأنهم قدموا خيبر ليلا ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ هو سلام أي بتشديد اللام قال‏:‏ ‏"‏ لما قتلت الأوس كعب بن الأشرف استأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو بخيبر، فأذن لهم‏.‏

قال‏:‏ فحدثني الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال‏:‏ كان مما صنع الله لرسوله أن الأوس والخزرج كانا يتصاولان تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا إلا قالت الخزرج‏:‏ والله لا تذهبون بهذه فضلا علينا‏.‏

وكذلك الأوس‏.‏

فلما أصابت الأوس كعب بن الأشرف تذاكرت الخزرج من رجل له من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان لكعب‏؟‏ فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويقال في حصن له بأرض الحجاز‏)‏ وهو قول وقع في سياق الحديث الموصول في الباب، ويحتمل أن يكون حصنه كان قريبا من خيبر في طرف أرض الحجاز‏.‏

ووقع عند موسى بن عقبة ‏"‏ فطرقوا أبا رافع بن أبي الحقيق بخيبر فقتلوه في بيته ‏"‏ ولأبي رافع المذكور أخوان مشهوران من أهل خيبر‏:‏ أحدهما‏:‏ كنانة وكان زوج صفية بنت حيي قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وأخوه الربيع بن أبي الحقيق، وقتلهما النبي صلى الله عليه وسلم جميعا بعد فتح خيبر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الزهري‏:‏ هو بعد كعب بن الأشرف‏)‏ وصله يعقوب بن سفيان في تاريخه عن حجاج بن أبي منيع عن جده عن الزهري، وقد ذكرت من عند ابن إسحاق عن الزهري أنه أخذ ذلك عن عبد الله بن كعب بن مالك بزيادة فيه، قال ابن سعد كانت في رمضان سنة ست، وقيل‏:‏ في ذي الحجة سنة خمس، وقيل فيها‏:‏ سنة أربع، وقيل‏:‏ في رجب سنة ثلاث‏.‏

ثم أورد البخاري قصته من رواية ثلاثة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا إِلَى أَبِي رَافِعٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ بَيْتَهُ لَيْلًا وَهُوَ نَائِمٌ فَقَتَلَهُ

الشرح‏:‏

الأولى‏:‏ رواية زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عن البراء ‏"‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا إلى أبي رافع، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلا وهو نائم فقتله ‏"‏ هكذا أورده مختصرا، وقوله‏:‏ ‏"‏ بيته ‏"‏ للأكثر بسكون التحتانية وبالنصب على المفعولية، وللسرخسي والمستملي بتشديد التحتانية بلفظ الفعل الماضي من التبييت، وقد أخرجه المصنف في الجهاد من هذا الوجه مطولا نحو رواية إبراهيم بن يوسف الآتية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ رِجَالًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعِينُ عَلَيْهِ وَكَانَ فِي حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ وَقَدْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَرَاحَ النَّاسُ بِسَرْحِهِمْ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِأَصْحَابِهِ اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ وَمُتَلَطِّفٌ لِلْبَوَّابِ لَعَلِّي أَنْ أَدْخُلَ فَأَقْبَلَ حَتَّى دَنَا مِنْ الْبَابِ ثُمَّ تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ كَأَنَّهُ يَقْضِي حَاجَةً وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ فَادْخُلْ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُغْلِقَ الْبَابَ فَدَخَلْتُ فَكَمَنْتُ فَلَمَّا دَخَلَ النَّاسُ أَغْلَقَ الْبَابَ ثُمَّ عَلَّقَ الْأَغَالِيقَ عَلَى وَتَدٍ قَالَ فَقُمْتُ إِلَى الْأَقَالِيدِ فَأَخَذْتُهَا فَفَتَحْتُ الْبَابَ وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُسْمَرُ عِنْدَهُ وَكَانَ فِي عَلَالِيَّ لَهُ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ صَعِدْتُ إِلَيْهِ فَجَعَلْتُ كُلَّمَا فَتَحْتُ بَابًا أَغْلَقْتُ عَلَيَّ مِنْ دَاخِلٍ قُلْتُ إِنْ الْقَوْمُ نَذِرُوا بِي لَمْ يَخْلُصُوا إِلَيَّ حَتَّى أَقْتُلَهُ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَسْطَ عِيَالِهِ لَا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ مِنْ الْبَيْتِ فَقُلْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ قَالَ مَنْ هَذَا فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ وَأَنَا دَهِشٌ فَمَا أَغْنَيْتُ شَيْئًا وَصَاحَ فَخَرَجْتُ مِنْ الْبَيْتِ فَأَمْكُثُ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ مَا هَذَا الصَّوْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ فَقَالَ لِأُمِّكَ الْوَيْلُ إِنَّ رَجُلًا فِي الْبَيْتِ ضَرَبَنِي قَبْلُ بِالسَّيْفِ قَالَ فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أَثْخَنَتْهُ وَلَمْ أَقْتُلْهُ ثُمَّ وَضَعْتُ ظِبَةَ السَّيْفِ فِي بَطْنِهِ حَتَّى أَخَذَ فِي ظَهْرِهِ فَعَرَفْتُ أَنِّي قَتَلْتُهُ فَجَعَلْتُ أَفْتَحُ الْأَبْوَابَ بَابًا بَابًا حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَهُ فَوَضَعْتُ رِجْلِي وَأَنَا أُرَى أَنِّي قَدْ انْتَهَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ فَوَقَعْتُ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ فَانْكَسَرَتْ سَاقِي فَعَصَبْتُهَا بِعِمَامَةٍ ثُمَّ انْطَلَقْتُ حَتَّى جَلَسْتُ عَلَى الْبَابِ فَقُلْتُ لَا أَخْرُجُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَعْلَمَ أَقَتَلْتُهُ فَلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ قَامَ النَّاعِي عَلَى السُّورِ فَقَالَ أَنْعَى أَبَا رَافِعٍ تَاجِرَ أَهْلِ الْحِجَازِ فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقُلْتُ النَّجَاءَ فَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ أَبَا رَافِعٍ فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ ابْسُطْ رِجْلَكَ فَبَسَطْتُ رِجْلِي فَمَسَحَهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا يوسف بن موسى‏)‏ هو القطان، وعبيد الله بن موسى هو العبسي شيخ البخاري، وقد حدث عنه هنا بواسطة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار‏)‏ في رواية يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق الآتية بعد هذه ‏"‏ بعث إلى أبي رافع عبد الله بن عتيك وعبد الله بن عتبة في أناس معهم ‏"‏ وعبد الله بن عتيك بالنصب مفعول بعث وهو المبعوث إلى أبي رافع وليس هو اسم أبي رافع، وعبد الله بن عتبة لم يذكر إلا في هذا الطريق، وزعم ابن الأثير في ‏"‏ جامع الأصول ‏"‏ أنه ابن عتبة بكسر العين وفتح النون، وهو غلط منه فإنه خولاني لا أنصاري، ومتأخر الإسلام وهذه القصة متقدمة والرواية بضم العين وسكون المثناة لا بالنون والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رجالا من الأنصار‏)‏ قد سمي منهم في هذا الباب عبد الله بن عتيك وعبد الله بن عتبة، وعند ابن إسحاق عبد الله بن عتيك ومسعود بن سنان وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة وخزاعي بن أسود، فإن كان عبد الله بن عتبة محفوظا فقد كانوا ستة، فأما الأول فهو ابن عتيك بفتح المهملة وكسر المثناة ابن قيس بن الأسود من بني سلمة بكسر اللام، وأما عبد الله بن عتبة فقد شرحت ما فيه، وأما مسعود فهو ابن سنان الأسلمي حليف بني سلمة، شهد أحدا واستشهد باليمامة، وأما عبد الله بن أنيس فهو الجهني حليف الأنصار، وقد فرق المنذري بين عبد الله بن أنيس الجهني وعبد الله بن أنيس الأنصاري، وجزم بأن الأنصاري هو الذي كان في قتل ابن أبي الحقيق وتبع في ذلك ابن المديني، وجزم غير واحد بأنهما واحد وهو جهني حالف الأنصار، وأما أبو قتادة فمشهور، وأما خزاعي بن أسود فقد قلبه بعضهم فقال أسود بن خزاعي، وفي حديث عبد الله بن أنيس في ‏"‏ الإكليل ‏"‏ أسود بن حرام، وكذا ذكره موسى بن عقبة في المغازي، فإن كان غير من ذكر وإلا فهو تصحيف ثم وجدته في ‏"‏ دلائل البيهقي ‏"‏ من طريق موسى بن عقبة على الشك هل هو أسود بن خزاعي أو أسود بن حرام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه‏)‏ ذكر ابن عائذ من طريق الأسود عن عروة أنه كان ممن أعان غطفان وغيرهم من مشركي العرب بالمال الكثير على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد دخل الناس‏)‏ ذكر في رواية يوسف سببا لتأخير غلق الباب فقال ‏"‏ ففقدوا حمارا لهم فخرجوا بقبس - أي شعلة من نار - يطلبونه، قال فخشيت أن أعرف فغطيت رأسي‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وراح الناس بسرحهم‏)‏ أي رجعوا بمواشيهم التي ترعى، وسرح بفتح المهملة وسكون الراء بعدها مهملة هي السائمة من إبل وبقر وغنم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تقنع بثوبه‏)‏ أي تغطى به ليخفى شخصه لئلا يعرف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فهتف به‏)‏ أي ناداه‏.‏

وفي رواية يوسف ‏"‏ ثم نادى صاحب الباب ‏"‏ أي البواب ولم أقف على اسمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكمنت‏)‏ أي اختبأت‏.‏

وفي رواية يوسف ‏"‏ ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم علق الأغاليق على ود‏)‏ بفتح الواو وتشديد الدال هو الوتد‏.‏

وفي رواية يوسف ‏"‏ وضع مفتاح الحصن في كوة ‏"‏ والأغاليق بالمعجمة جمع غلق بفتح أوله ما يغلق به الباب والمراد بها المفاتيح، كأنه كان يغلق بها ويفتح بها، كذا في رواية أبي ذر‏.‏

وفي رواية غيره بالعين المهملة وهو المفتاح بلا إشكال، والكوة بالفتح وقد تضم وقيل بالفتح غير النافذة وبالضم النافذة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقمت إلى الأقاليد‏)‏ هي جمع إقليد وهو المفتاح‏.‏

وفي رواية يوسف ‏"‏ ففتحت باب الحصن‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يسمر عنده‏)‏ أي يتحدثون ليلا‏.‏

وفي رواية يوسف ‏"‏ فتعشوا عند أبي رافع وتحدثوا حتى ذهبت ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في علالي له‏)‏ بالمهملة جمع علية بتشديد التحتانية وهي الغرفة‏.‏

وفي رواية ابن إسحاق ‏"‏ وكان في علية له إليها عجلة ‏"‏ والعجلة بفتح المهملة والجيم السلم من الخشب، وقيده ابن قتيبة بخشب النخل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل‏)‏ في حديث عبد الله بن أنيس عند الحاكم فلم يدعوا بابا إلا أغلقوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نذروا بي‏)‏ بكسر الذال المعجمة أي علموا، أصله من الإنذار وهو الإعلام بالشيء الذي يحذر منه، وذكر ابن سعد أن عبد الله بن عتيك كان يرطن باليهودية، فاستفتح، فقالت له امرأة أبي رافع من أنت‏؟‏ قال‏:‏ جئت أبا رافع بهدية‏.‏

ففتحت له وفي رواية يوسف ‏"‏ فلما هدأت الأصوات ‏"‏ أي سكنت، وعنده ‏"‏ ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم فأغلقتها عليهم من ظاهر‏.‏

ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأهويت نحو الصوت‏)‏ أي قصدت نحو صاحب الصوت‏.‏

وفي رواية يوسف ‏"‏ فعمدت نحو الصوت‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأنا دهش‏)‏ بكسر الهاء بعدها معجمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فما أغنيت شيئا‏)‏ أي لم أقتله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقلت ما هذا الصوت يا أبا رافع‏)‏ في حديث عبد الله بن أنيس ‏"‏ فقالت امرأته يا أبا رافع هذا صوت عبد الله بن عتيك‏.‏

فقال ثكلتك أمك وأين عبد الله بن عتيك‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هدأت الأصوات‏)‏ بهمزة أي سكنت، وزعم ابن التين أنه وقع عنده ‏"‏ هدت ‏"‏ بغير همز وأن الصواب بالهمز‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأضربه‏)‏ ذكره بلفظ المضارع مبالغة لاستحضار صورة الحال وإن كان ذلك قد مضى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلم يغن‏)‏ أي لم ينفع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم دخلت إليه‏)‏ في رواية يوسف ‏"‏ ثم جئت كأني أغيثه فقلت مالك‏؟‏ وغيرت صوتي‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لأمك الويل‏)‏ في رواية يوسف ‏"‏ زاد وقال ألا أعجلتك ‏"‏ وزاد في رواية ‏"‏ قال فعمدت له أيضا فأضربه أخرى فلم تغن شيئا فصاح وقام أهله‏.‏

ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المستغيث فإذا هو مستلق على ظهره ‏"‏ وفي رواية ابن إسحاق ‏"‏ فصاحت امرأته ‏"‏ فنوهت بنا، فجعلنا نرفع السيف عليها ثم نذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء فنكف عنها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ضبيب السيف‏)‏ بضاد معجمة مفتوحة وموحدتين وزن رغيف، قال الخطابي‏:‏ هكذا يروي، وما أراه محفوظا وإنما هو ظبة السيف وهو حرف السيف ويجمع على ظبات، قال‏:‏ والضبيب لا معنى له هنا لأنه سيلان الدم من الفم، قال عياض‏:‏ هو في رواية أبي ذر بالصاد المهملة، وكذا ذكره الحربي وقال‏:‏ أظنه طرفه‏.‏

وفي رواية غير أبي ذر بالمعجمة وهو طرف السيف‏.‏

وفي رواية يوسف ‏"‏ فأضع السيف في بطنه ثم أتكئ عليه حتى سمعت صوت العظم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فوضعت رجلي وأنا أرى‏)‏ بضم الهمزة أي أظن، وذكر ابن إسحاق في روايته أنه كان سيء البصر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فانكسرت ساقي فعصبتها‏)‏ في رواية يوسف ‏"‏ ثم خرجت دهشا حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فسقطت منه فانخلعت رجلي فعصبتها ‏"‏ ويجمع بينهما بأنها انخلعت من المفصل وانكسرت الساق‏.‏

وقال الداودي‏:‏ هذا اختلاف وقد يتجوز في التعبير بأحدهما عن الآخر، لأن الخلع هو زوال المفصل من غير بينونة، أي بخلاف الكسر‏.‏

قلت‏:‏ والجمع بينهما بالحمل على وقوعهما معا أولى، ووقع في رواية ابن إسحاق ‏"‏ فوثبت يده ‏"‏ وهو وهم والصواب رجله، وإن كان محفوظا فوقع جميع ذلك، وزاد أنهم كمنوا في نهر، وأن قومه أوقدوا النيران وذهبوا في كل وجه يطلبون حتى أيسوا رجعوا إليه وهو يقضي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قام الناعي‏)‏ في رواية يوسف ‏"‏ صعد الناعية‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنعي أبا رافع‏)‏ كذا ثبت في الروايات بفتح العين، قالا ابن التين‏:‏ هي لغة والمعروف انعوا، والنعي خبر الموت والاسم الناعي‏.‏

وذكر الأصمعي أن العرب كانوا إذا مات فيهم الكبير ركب راكب فرسا وسار فقال‏:‏ نعي فلان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقلت النجاء‏)‏ بالنصب أي أسرعوا، في رواية يوسف ‏"‏ ثم أتيت أصحابي أحجل فقلت‏:‏ انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله‏:‏ ‏"‏ أحجل ‏"‏ هو بمهملة ثم جيم، الحجل هو أن يرفع رجلا ويقف على أخرى من العرج، وقد يكون بالرجلين معا إلا أنه حينئذ يسمى قفزا لا مشيا، ويقال حجل في مشيه إذا مشى مثل المقيد أي قارب خطوه، وفي حديث عبد الله بن أنيس ‏"‏ قال وتوجهنا من خيبر، فكنا نكمن النهار ونسير الليل، وإذا كمنا بالنهار أقعدنا منا واحدا يحرسنا، فإذا رأى شيئا يخافه أشار إلينا، فلما قربنا من المدينة كانت نوبتي، فأشرفت إليهم فخرجوا سراعا، ثم لحقتهم فدخلنا المدينة، فقالوا‏:‏ ماذا رأيت‏؟‏ قلت‏:‏ ما رأيت شيئا، ولكن خشيت أن تكونوا أعييتم فأحببت أن يحملكم الفزع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمسحها فكأنها لم أشتكها قط‏)‏ ووقع في رواية يوسف أنه ‏"‏ لما سمع الناعي قال‏:‏ فقمت أمشي ما بي قلبة ‏"‏ وهو بفتح القاف واللام والموحدة أي علة أنقلب بها‏.‏

وقال الفراء‏.‏

أصل القلاب بكسر القاف داء يصيب البعير فيموت من يومه، فقيل لكل من سلم من علة ما به قلبة، أي ليست به علة تهلكه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحٌ هُوَ ابْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي رَافِعٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ فِي نَاسٍ مَعَهُمْ فَانْطَلَقُوا حَتَّى دَنَوْا مِنْ الْحِصْنِ فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ امْكُثُوا أَنْتُمْ حَتَّى أَنْطَلِقَ أَنَا فَأَنْظُرَ قَالَ فَتَلَطَّفْتُ أَنْ أَدْخُلَ الْحِصْنَ فَفَقَدُوا حِمَارًا لَهُمْ قَالَ فَخَرَجُوا بِقَبَسٍ يَطْلُبُونَهُ قَالَ فَخَشِيتُ أَنْ أُعْرَفَ قَالَ فَغَطَّيْتُ رَأْسِي وَجَلَسْتُ كَأَنِّي أَقْضِي حَاجَةً ثُمَّ نَادَى صَاحِبُ الْبَابِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ فَلْيَدْخُلْ قَبْلَ أَنْ أُغْلِقَهُ فَدَخَلْتُ ثُمَّ اخْتَبَأْتُ فِي مَرْبِطِ حِمَارٍ عِنْدَ بَابِ الْحِصْنِ فَتَعَشَّوْا عِنْدَ أَبِي رَافِعٍ وَتَحَدَّثُوا حَتَّى ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ فَلَمَّا هَدَأَتْ الْأَصْوَاتُ وَلَا أَسْمَعُ حَرَكَةً خَرَجْتُ قَالَ وَرَأَيْتُ صَاحِبَ الْبَابِ حَيْثُ وَضَعَ مِفْتَاحَ الْحِصْنِ فِي كَوَّةٍ فَأَخَذْتُهُ فَفَتَحْتُ بِهِ بَابَ الْحِصْنِ قَالَ قُلْتُ إِنْ نَذِرَ بِي الْقَوْمُ انْطَلَقْتُ عَلَى مَهَلٍ ثُمَّ عَمَدْتُ إِلَى أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ فَغَلَّقْتُهَا عَلَيْهِمْ مِنْ ظَاهِرٍ ثُمَّ صَعِدْتُ إِلَى أَبِي رَافِعٍ فِي سُلَّمٍ فَإِذَا الْبَيْتُ مُظْلِمٌ قَدْ طَفِئَ سِرَاجُهُ فَلَمْ أَدْرِ أَيْنَ الرَّجُلُ فَقُلْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ قَالَ مَنْ هَذَا قَالَ فَعَمَدْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ فَأَضْرِبُهُ وَصَاحَ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا قَالَ ثُمَّ جِئْتُ كَأَنِّي أُغِيثُهُ فَقُلْتُ مَا لَكَ يَا أَبَا رَافِعٍ وَغَيَّرْتُ صَوْتِي فَقَالَ أَلَا أُعْجِبُكَ لِأُمِّكَ الْوَيْلُ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ فَضَرَبَنِي بِالسَّيْفِ قَالَ فَعَمَدْتُ لَهُ أَيْضًا فَأَضْرِبُهُ أُخْرَى فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا فَصَاحَ وَقَامَ أَهْلُهُ قَالَ ثُمَّ جِئْتُ وَغَيَّرْتُ صَوْتِي كَهَيْئَةِ الْمُغِيثِ فَإِذَا هُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَأَضَعُ السَّيْفَ فِي بَطْنِهِ ثُمَّ أَنْكَفِئُ عَلَيْهِ حَتَّى سَمِعْتُ صَوْتَ الْعَظْمِ ثُمَّ خَرَجْتُ دَهِشًا حَتَّى أَتَيْتُ السُّلَّمَ أُرِيدُ أَنْ أَنْزِلَ فَأَسْقُطُ مِنْهُ فَانْخَلَعَتْ رِجْلِي فَعَصَبْتُهَا ثُمَّ أَتَيْتُ أَصْحَابِي أَحْجُلُ فَقُلْتُ انْطَلِقُوا فَبَشِّرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَسْمَعَ النَّاعِيَةَ فَلَمَّا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ صَعِدَ النَّاعِيَةُ فَقَالَ أَنْعَى أَبَا رَافِعٍ قَالَ فَقُمْتُ أَمْشِي مَا بِي قَلَبَةٌ فَأَدْرَكْتُ أَصْحَابِي قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَشَّرْتُهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏"‏ فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته ‏"‏ يحمل على أنه لما سقط من الدرجة وقع له جميع ما تقدم، لكنه من شدة ما كان فيه من الاهتمام بالأمر ما أحس بالألم وأعين على المشي أولا، وعليه يدل قوله‏:‏ ‏"‏ ما بي قلبة ‏"‏ ثم لما تمادى عليه المشي أحس بالألم فحمله أصحابه كما وقع في رواية ابن إسحاق، ثم لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسح عليه فزال عنه جميع الألم ببركته صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي هذا الحديث من الفوائد جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصر، وقتل من أعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أو ماله أو لسانه، وجواز التجسيس على أهل الحرب وتطلب غرتهم‏.‏

والأخذ بالشدة في محاربة المشركين، وجواز إبهام القول للمصلحة، وتعرض القليل من المسلمين للكثير من المشركين؛ والحكم بالدليل والعلامة لاستدلال ابن عتيك على أبي رافع بصوته، واعتماده على صوت الناعي بموته، والله أعلم‏.‏

*3*باب غَزْوَةِ أُحُدٍ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَقَوْلِهِ وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ تَسْتَأْصِلُونَهُمْ قَتْلًا بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَقَوْلِهِ وَلَا تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا الْآيَةَ

الشرح‏:‏

‏:‏ ‏(‏باب غزوة أحد‏)‏ سقط لفظ ‏"‏ باب ‏"‏ من رواية أبي ذر‏.‏

و ‏"‏ أحد ‏"‏ بضم الهمزة والمهملة جبل معروف بينه وبين المدينة أقل من فرسخ‏.‏

وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ جبل يحبنا ونحبه ‏"‏ كما سيأتي في آخر باب من هذه الغزوة مع مزيد فوائد فيما يتعلق به‏.‏

ونقل السهيلي عن الزبير بن بكار في فضل المدينة أن قبر هارون عليه السلام بأحد، وأنه قدم مع موسى في جماعة من بني إسرائيل حجاجا فمات هناك‏.‏

قلت‏:‏ وسند الزبير بن بكار في ذلك ضعيف جدا من جهة شيخه محمد بن الحسن بن زبالة، ومنقطع أيضا وليس بمرفوع‏.‏

وكانت عنده الوقعة المشهورة في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور، وشذ من قال سنة أربع‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ لإحدى عشرة ليلة خلت منه وقيل‏:‏ لسبع ليال وقيل‏:‏ لثمان وقيل‏:‏ لتسع وقيل‏:‏ في نصفه‏.‏

وقال مالك‏:‏ كانت بعد بدر بسنة، وفيه تجوز لأن بدرا كانت في رمضان باتفاق فهي بعدها بسنة وشهر لم يكمل، ولهذا قال مرة أخرى‏:‏ كانت بعد الهجرة بأحد وثلاثين شهرا‏.‏

وكان السبب فيها ما ذكر ابن إسحاق عن شيوخه وموسى بن عقبة عن ابن شهاب وأبو الأسود عن عروة قالوا‏:‏ وهذا ملخص ما ذكره موسى بن عقبة في سياق القصة كلها قال‏:‏ لما رجعت قريش استجلبوا من استطاعوا من العرب وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أحد‏.‏

وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر وتمنوا لقاء العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال‏.‏

رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح، والله خير وأبقى، ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته أو قال به فلول فكرهته وهما مصيبتان، ورأيت أني في درع حصينة وأني مردف كبشا‏.‏

قالوا‏:‏ وما أولتها‏؟‏ قال‏:‏ أولت البقر بقرا يكون فينا، وأولت الكبش كبش الكتيبة، وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا، فإن دخل القوم الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت، فقال أولئك القوم‏:‏ يا نبي الله كنا نتمنى هذا اليوم، وأبى كثير من الناس إلا الخروج فلما صلى الجمعة وانصرف دعا باللأمة فلبسها، ثم أذن في الناس بالخروج، فندم ذوو الرأي منهم فقالوا‏:‏ يا رسول الله أمكث كما أمرتنا، فقال‏:‏ ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب أن يرجع حتى يقاتل، نزل فخرج بهم وهم ألف رجل وكان المشركون ثلاثة آلاف حتى نزل بأحد، ورجع عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلاثمائة فبقي في سبعمائة، فلما رجع عبد الله سقط في أيدي طائفتين من المؤمنين وهما بنو حارثة وبنو سلمة، وصف المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة وتعبوا للقتال، وعلى خيل المشركين - وهي مائة فرس - خالد بن الوليد، وليس مع المسلمين فرس وصاحب لواء المشركين طلحة بن عثمان، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جبير على الرماة وهم خمسون رجلا وعهد إليهم أن لا يتركوا منازلهم، وكان صاحب لواء المسلمين مصعب بن عمير، فبارز طلحة بن عثمان فقتله، وحمل المسلمون على المشركين حتى أجهضوهم عن أثقالهم، وحملت خيل المشركين فنضحتهم الرماة بالنبل ثلاث مرات، فدخل المسلمون عسكر المشركين فانتبهوهم، فرأى ذلك الرماة فتركوا مكانهم، ودخل العسكر، فأبصر ذلك خالد بن الوليد ومن معه فحملوا على المسلمين في الخيل فمزقوهم، وصرخ صارخ‏:‏ قتل محمد أخراكم، فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزم طائفة منهم إلى جهة المدينة وتفرق سائرهم ووقع فيهم القتل؛ وثبت نبي الله حين انكشفوا عنه وهو يدعوهم في أخراهم، حتى رجع إليه بعضهم وهو عند المهراس في الشعب، وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس أصحابه، فاستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته، فمر مصعدا في الشعب ومعه طلحة والزبير، وقيل‏:‏ معه طائفة من الأنصار منهم سهل بن بيضاء والحارث بن الصمة، وشغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون وهم يظنون أنهم أصابوا النبي صلى الله عليه وسلم وأشراف أصحابه، فقال أبو سفيان يفتخر بآلهته‏:‏ اعل هبل، فناداه عمر‏:‏ الله أعلى وأجل‏.‏

ورجع المشركون إلى أثقالهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ إن ركبوا وجعلوا الأثقال تتبع آثار الخيل، فهم يريدون البيوت، وإن ركبوا الأثقال وتجنبوا الخيل فهم يريدون الرجوع، فتبعهم سعد بن أبي وقاص، ثم رجع فقال‏:‏ رأيت الخيل مجنوبة، فطابت أنفس المسلمين ورجعوا إلى قتلاهم فدفنوهم في ثيابهم ولم يغسلوهم ولم يصلوا عليهم، وبكى المسلمون على قتلاهم، فسر المنافقون وظهر غش اليهود وفارت المدينة بالنفاق، فقالت اليهود‏:‏ لو كان نبيا ما ظهروا عليه‏.‏

وقالت المنافقون‏:‏ لو أطاعونا ما أصابهم هذا‏.‏

قال العلماء‏:‏ وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة‏:‏ منها تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهي، لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول أن لا يبرحوا منه‏.‏

ومنها أن عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة كما تقدم في قصة هرقل مع أبي سفيان، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائما دخل في المؤمنين من ليس منهم ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيا عن المسلمين، فلما جرت هذه القصة وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريحا، وعرف المسلمون أن لهم عدوا في دورهم فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم‏.‏

ومنها أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضما للنفس وكسرا لشماختها، فلما ابتلي المؤمنون صبروا وجزع المنافقون‏.‏

ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها‏.‏

ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم‏.‏

ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين، ومحق بذلك الكافرين‏.‏

ثم ذكر المصنف آيات من آل عمران في هذا الباب وفيما بعده كلها تتعلق بوقعة أحد، وقد قال ابن إسحاق‏:‏ أنزل الله في شأن أحد ستين آية من آل عمران، وروى ابن أبي حاتم من طريق المسور بن مخرمة قال‏:‏ قلت لعبد الرحمن بن عوف أخبرني عن قصتكم يوم أحد، قال‏.‏

اقرأ العشرين ومائه من آل عمران تجدها‏:‏ ‏(‏وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال - إلى قوله - أمنة نعاسا‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقول الله تعالى‏:‏ وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم‏)‏ وقوله‏:‏ غدوت أي خرجت أول النهار، والعامل في إذ مضمر تقديره واذكر إذ غدوت، وقوله تبوئ المؤمنين أي تنزلهم، وأصله من المآب وهو المرجع، والمقاعد جمع مقعد والمراد به مكان القعود‏.‏

وروى الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال‏:‏ ‏"‏ غدا نبي الله من أهله يوم أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ‏"‏ ومن طريق مجاهد والسدي وغيرهما نحوه، ومن طريق الحسن أن ذلك كان يوم الأحزاب ووهاه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تهنوا ولا تخزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين‏)‏ الأصل توهنوا فحذفت الواو، والوهن الضعف يقال وهن بالفتح يهن بالكسر في المضارع، وهذا هو الأفصح، ويستعمل وهن لازما ومتعديا، قال تعالى‏:‏ ‏(‏وهن العظم مني‏)‏ وفي الحديث ‏"‏ وهنتهم حمى يثرب ‏"‏ والأعلون جمع أعلى، وقوله‏:‏ إن كنتم مؤمنين محذوف الجواب وتقديره فلا تهنوا ولا تحزنوا‏.‏

وأخرج الطبري من طريق مجاهد في قوله ولا تهنوا أي لا تضعفوا، ومن طريق الزهري قال‏:‏ ‏"‏ كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القتل والجراح حتى خلص إلى كل امرئ منهم نصيب، فاشتد حزنهم، فعزاهم الله أحسن تعزية ‏"‏ ومن طريق قتادة نحوه قال‏:‏ ‏"‏ فعزاهم وحثهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز ‏"‏ ومن طريق ابن جريح قال في قوله‏:‏ ‏(‏ولا تهنوا‏)‏ أي لا تضعفوا في أمر عدوكم ‏(‏ولا تحزنوا‏)‏ في أنفسكم فإنكم أنتم الأعلون قال‏:‏ والسبب فيها أنهم لما تفرقوا ثم رجعوا إلى الشعب قالوا‏:‏ ما فعل فلان ما فعل فلان‏؟‏ فنعى بعضهما بعضا، وتحدثوا بينهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل فكانوا في هم وحزن، فبينما هم كذلك إذ علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم، فثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبل والتقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال‏:‏ أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو الجبل عليهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم لا يعلون علينا، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم‏)‏ تستأصلونهم قتلا ‏(‏بإذنه‏)‏ الآية إلى قوله ‏(‏والله ذو فضل على المؤمنين‏)‏‏)‏ أخرج الطبري من طريق السدي وغيره أن المراد بالوعد قوله صلى الله عليه وسلم للرماة ‏"‏ أنكم ستظهرون عليهم فلا تبرحوا من مكانكم حتى آمركم ‏"‏ وقد ذكر المصنف قصة الرماة في هذا الباب، وسأذكر شرحها إن شاء الله تعالى‏.‏

ومن طريق قتادة ومجاهد في قوله‏:‏ ‏(‏إذ تحسونهم‏)‏ أي تقتلونهم، وقول المصنف في تفسير ‏(‏تحسونهم‏)‏ تستأصلونهم هو كلام أبي عبيدة‏.‏

وأخرج الطبري من طريق السدي قال قال النبي صلى الله عليه وسلم للرماة ‏"‏ إنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم ‏"‏ وكان أول من برز طلحة بن عثمان فقتل، ثم حمل المسلمون على المشركين فهزموهم، وحمل خالد بن الوليد وكان في خيل المشركين على الرماة فرموه بالنبل فانقمع، ثم ترك الرماة مكانهم ودخلوا العسكر في طلب الغنيمة، فصاح خالد في خيله فقتل من بقي من الرماة، منهم أميرهم عبد الله بن جبير‏.‏

ولما رأى المشركون خيلهم ظاهرة تراجعوا فشدوا على المسلمين فهزموهم وأثخنوا فيهم في القتل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏حتى إذا فشلتم‏)‏ أي جبنتم ‏(‏وتنازعتم في الأمر‏)‏ أي اختلفتم، وحتى حرف جر وهي متعلقة بمحذوف أي دام لكم ذلك إلى وقت فشلكم، ويجوز أن تكون ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية وجوابها محذوف، وقوله‏:‏ ‏(‏ثم صرفكم عنهم‏)‏ فيه إشارة إلى رجوع المسلمين عن المشركين بعد أن ظهروا عليهم لما وقع من الرماة من الرغبة في الغنيمة، وإلى ذلك الإشارة بقوله - ‏(‏منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة‏)‏ قال السدي عن عبد خير قال‏:‏ قال عبد الله بن مسعود ‏"‏ ما كنت أرى أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية يوم أحد‏:‏ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا‏)‏ الآية أخرج مسلم من طريق مسروق قال‏:‏ ‏"‏ سألنا عبد الله بن مسعود عن هؤلاء الآيات قال‏:‏ أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا‏:‏ إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها ‏"‏ الحديث‏.‏

ثم ذكر المصنف تلو هذه الآيات أحاديث كالمفسرة للآيات المذكورة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ عَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ

الشرح‏:‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في رواية أبي الوقت والأصيلي هنا قبل حديث عقبة بن عامر حديث ابن عباس ‏"‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏:‏ هذا جبريل آخذ برأس فرسه ‏"‏ الحديث، وهو وهم من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن هذا الحديث تقدم بسنده ومتنه في ‏"‏ باب شهود الملائكة بدرا ‏"‏ ولهذا لم يذكره هنا أبو ذر ولا غيره من متقني رواة البخاري، ولا استخرجه الإسماعيلي ولا أبو نعيم ثانيهما‏.‏

أن المعروف في هذا المتن يوم بدر كما تقدم لا يوم أحد، والله المستعان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حَيْوَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ وَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْحَوْضُ وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هَذَا وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا قَالَ فَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

حديث عقبة بن عامر قال‏:‏ ‏"‏ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد ‏"‏ الحديث، وهو متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله‏)‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ بعد ثمان سنين ‏"‏ فيه تجوز تقدم بيانه في ‏"‏ باب الصلاة على الشهداء ‏"‏ من كتاب الجنائز‏.‏

وقوله‏:‏ ثم طلع المنبر فقال‏:‏ إني بين أيديكم فرط ‏"‏ وقد وقع في مرسل أيوب بن بشر من رواية الزهري عنه عند ابن أبي شيبة ‏"‏ خرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم فأكثر الصلاة عليهم ‏"‏ وهذا يحمل على أن المراد أول ما تكلم به أي عند خروجه قبل أن يصعد المنبر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كالمودع للأحياء والأموات‏)‏ تابع حيوة بن شريح على هذه الزيادة عن يزيد بن أبي حبيب يحيى بن أيوب عند مسلم ولفظه ‏"‏ ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات ‏"‏ وتوديع الأحياء ظاهر، لأن سياقه يشعر بأن ذلك كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وأما توديع الأموات فيحتمل أن يكون الصحابي أراد بذلك انقطاع زيارته الأموات بجسده، لأنه بعد موته وإن كان حيا فهي حياة أخروية لا تشبه الحياة الدنيا، والله أعلم‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد بتوديع الأموات ما أشار إليه في حديث عائشة من الاستغفار لأهل البقيع، وقد سبق شرح هذا الحديث في الجنائز وفي علامات النبوة، وتأتي بقيته في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَقِينَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ وَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا مِنْ الرُّمَاةِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ وَقَالَ لَا تَبْرَحُوا إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلَا تَبْرَحُوا وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلَا تُعِينُونَا فَلَمَّا لَقِينَا هَرَبُوا حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ فِي الْجَبَلِ رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ فَأَخَذُوا يَقُولُونَ الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا تَبْرَحُوا فَأَبَوْا فَلَمَّا أَبَوْا صُرِفَ وُجُوهُهُمْ فَأُصِيبَ سَبْعُونَ قَتِيلًا وَأَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ فَقَالَ لَا تُجِيبُوهُ فَقَالَ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ قَالَ لَا تُجِيبُوهُ فَقَالَ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ قُتِلُوا فَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لَأَجَابُوا فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ مَا يُخْزِيكَ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ اعْلُ هُبَلُ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجِيبُوهُ قَالُوا مَا نَقُولُ قَالَ قُولُوا اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجِيبُوهُ قَالُوا مَا نَقُولُ قَالَ قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ وَتَجِدُونَ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن البراء‏)‏ في رواية زهير في الجهاد عن أبي إسحاق ‏"‏ سمعت البراء بن عازب‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لقينا المشركين يومئذ‏)‏ في رواية لأبي نعيم ‏"‏ لما كان يوم أحد لقينا المشركين‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الرماة‏)‏ في رواية زهير ‏"‏ وكانوا خمسين رجلا ‏"‏ وهذا هو المعتمد، ووقع في الهدي أن الخمسين عدد الفرسان يومئذ، وهو غلط بين، وقد جزم موسى بن عقبة بأنه لم يكن معهم في أحد شيء من الخيل‏.‏

ووقع عند الواقدي‏:‏ كان معهم فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرس لأبي بردة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأمر عليهم عبد الله‏)‏ في رواية زهير ‏"‏ عبد الله بن جبير ‏"‏ وعند ابن إسحاق أنه قال لهم‏:‏ ‏"‏ انضحوا الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تبرحوا‏)‏ في رواية زهير ‏"‏ حتى أرسل لكم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن رأيتموهم ظهروا علينا‏)‏ في رواية زهير ‏"‏ وإن رأيتمونا تخطفنا الطير ‏"‏ وفي حديث ابن عباس عند أحمد والطبراني والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال لهم ‏"‏ احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رأيت النساء يشتددن‏)‏ كذا للأكثر بفتح أوله وسكون المعجمة وفتح المثناة بعدها دال مكسورة ثم أخرى ساكنة أي يسرعن المشي، يقال اشتد في مشيه إذا أسرع، وكذا للكشميهني في رواية زهير، وله هنا ‏"‏ يسندن ‏"‏ بضم أوله وسكون المهملة بعدها نون مكسورة ودال مهملة أي يصعدن، يقال أسند في الجبل يسند إذا صعد، وللباقين في رواية زهير ‏"‏ يشددن ‏"‏ بفتح أوله وسكون المعجمة وضم المهملة الأولى وسكون الثانية‏.‏

قال عياض‏:‏ ووقع للقابسي في الجهاد ‏"‏ يشتددن ‏"‏ وكذا لابن السكن فيه وفي الفضائل، وعند الإسماعيلي والنسفي ‏"‏ يشتدون ‏"‏ بمعجمة ودال واحدة وللكشميهني ‏"‏ يستندون ‏"‏ ولرفيقه ‏"‏ يشدون ‏"‏ وكله بمعنى‏.‏

وقد تقدم في أول الباب أن قريشا خرجوا معهم بالنساء لأجل الحفيظة والثبات، وسمى ابن إسحاق النساء المذكورات وهن‏:‏ هند بنت عتبة خرجت مع أبي سفيان، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام مع زوجها عكرمة بن أبي جهل، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة مع زوجها الحارث بن هشام، وبرزة بنت مسعود الثقفية مع زوجها صفوان بن أمية وهي والدة ابن صفوان، وريطة بنت شيبة السهمية مع زوجها عمرو بن العاص وهي والدة ابنه عبد الله، وسلافة بنت سعد مع زوجها طلحة بن أبي طلحة الحجبي، وخناس بنت مالك والدة مصعب بن عميرة، وعمرة بنت علقمة بن كنانة‏.‏

وقال غيره كان النساء اللاتي خرجن مع المشركين يوم أحد خمس عشرة امرأة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رفعن عن سوقهن‏)‏ جمع ساق أي ليعينهن ذلك على سرعة الهرب‏.‏

وفي حديث الزبير بن العوام عند ابن إسحاق قال‏:‏ ‏"‏ والله لقد رأيتني أنظر إلى خذم هند بنت عتبة وصواحباتها مشمرات هوارب ما دون إحداهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حتى كشف القوم عنه وخلوا ظهرنا للجبل، فأتينا من خلفنا، وصرخ صارخ‏.‏

ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب لوائهم حتى ما يدنو منه أحد من القوم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخذوا يقولون الغنيمة الغنيمة فقال عبد الله بن جبير‏:‏ عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا، فأبوا‏)‏ في رواية زهير ‏"‏ فقال أصحاب عبد الله بن جبير‏:‏ الغنيمة - أي يوم الغنيمة - ظهر أصحابكم، فما تنتظرون ‏"‏ وزاد ‏"‏ فقال عبد الله بن جبير‏:‏ أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالوا‏:‏ والله لنأتين الناس فلنصيبين من الغنيمة ‏"‏ وفي حديث ابن عباس ‏"‏ فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين انكفت الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التفت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا - وشبك بين أصابعه - فلما أخلت الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على الصحابة، فضرب بعضهم بعضا والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، قد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين تسعة أو سبعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل، وصاح الشيطان‏:‏ قتل محمد ‏"‏ وقد ذكرنا من حديث الزبير نحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما أبوا صرفت وجوههم‏)‏ في رواية زهير ‏"‏ فلما أتوهم ‏"‏ بالمثناة وقوله ‏"‏ صرفت وجوههم ‏"‏ أي تحيروا فلم يدروا أين يتوجهون‏.‏

وزاد زهير في روايته ‏"‏ فذلك ‏(‏إذ يدعوهم الرسول في أخراهم‏)‏ فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا ‏"‏ وجاء في رواية مرسلة أنهم من الأنصار، وسأذكرها في الكلام على الحديث السابع من الباب الذي يليه‏.‏

وروى النسائي من طريق أبي الزبير عن جابر قال‏:‏ ‏"‏ لما ولى الناس يوم أحد كان النبي صلى الله عليه وسلم في اثني عشر رجلا من الأنصار وفيهم طلحة ‏"‏ الحديث‏.‏

ووقع عند الطبري من طريق السدي قال‏:‏ ‏"‏ تفرق الصحابة‏:‏ فدخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله، فرماه ابن قمئة بحجر فكسر أنفه ورباعيته، وشجه في وجه فأثقله، فتراجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون رجلا فجعلوا يذبون عنه‏.‏

فحمله منهم طلحة وسهل بن حنيف، فرمى طلحة بسهم ويبست يده‏.‏

وقال بعض من فر إلى الجبل‏:‏ ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي يستأمن لنا من أبي سفيان، فقال أنس بن النضر‏:‏ يا قوم إن كان محمد قتل فرب محمد لم يقتل‏.‏

فقاتلوا على ما قاتل عليه ‏"‏ ثم ذكر قصة قتله كما سيأتي قريبا‏.‏

وقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبل فأراد رجل من أصحابه أن يرميه بسهم، فقال له‏:‏ أنا رسول الله فلما سمعوا ذلك فرحوا به واجتمعوا حوله وتراجع الناس‏.‏

وسيأتي في باب مفرد ما يتعلق بمن شج وجهه عليه الصلاة والسلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأصيب سبعون قتيلا‏)‏ في رواية زهير ‏"‏ فأصابوا منها ‏"‏ أي من طائفة المسلمين‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ فأصابوا منا ‏"‏ وهي أوجه‏.‏

وزاد زهير ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، وقد تقدم بسط القول في ذلك‏.‏

وروى سعيد بن منصور من مرسل أبي الضحى قال‏:‏ ‏"‏ قتل يومئذ - يعني يوم أحد - سبعون‏:‏ أربعة من المهاجرين حمزة ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان، وسائرهم من الأنصار‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وبهذا جزم الواقدي‏.‏

وفي كلام ابن سعد ما يخالف ذلك‏.‏

ويمكن الجمع كما تقدم‏.‏

وأخرج ابن حبان والحاكم في صحيحيهما عن أبي بن كعب قال‏:‏ ‏"‏ أصيب يوم أحد من الأنصار أربعة وستون ومن المهاجرين ستة، وكان الخامس سعد مولى حاطب بن أبي بلتعة‏.‏

والسادس يوسف بن عمرو الأسلمي حليف بني عبد شمس‏"‏، وذكر المحب الطبري عن الشافعي أن شهداء أحد اثنان وسبعون‏.‏

وعن مالك خمسة وسبعون من الأنصار خاصة أحد وسبعون، وسرد أبو الفتح اليعمري أسماءهم فبلغوا ستة وتسعين، ومن المهاجرين أحد عشر وسائرهم من الأنصار، منهم من ذكره ابن إسحاق والزيادة من عند موسى بن عقبة أو محمد بن سعد أو هشام بن الكلبي‏.‏

ثم ذكر عن ابن عبد البر وعن الدمياطي أربعة أو خمسة، قال فزادوا عن المائة‏.‏

قال اليعمري‏:‏ قد ورد في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏(‏أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها‏)‏ أنها نزلت تسلية للمؤمنين عمن أصيب منهم يوم أحد، فإنهم أصابوا من المشركين يوم بدر سبعين قتيلا وسبعين أسيرا في عدد من قتل‏.‏

قال اليعمري‏:‏ إن ثبتت فهذه الزيادة ناشئة عن الخلاف في التفصيل‏.‏

قلت‏:‏ وهو الذي يعول عليه، والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذي والنسائي من طريق الثوري عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن عبيدة بن عمرو عن علي ‏"‏ أن جبريل هبط فقال‏:‏ خيرهم في أسارى بدر من القتل أو الفداء على أن يقتل من قابل مثلهم، قالوا‏:‏ الفداء ويقتل منا ‏"‏ قال الترمذي حسن، ورواه ابن عون عن ابن سيرين عن عبيدة مرسلا‏.‏

قلت‏:‏ ورواه ابن عون عند الطبري، ووصلها من وجه آخر عنه، وله شاهد من حديث عمر عند أحمد وغيره، قال اليعمري‏:‏ ومن الناس من يقول السبعين من الأنصار خاصة، وبذلك جزم ابن سعد‏.‏

قلت‏:‏ ‏"‏ وكأن الخطاب بقوله‏:‏ ‏(‏أو لما أصابتكم‏)‏ للأنصار خاصة، ويؤيده قول أنس ‏"‏ أصيب منا يوم أحد سبعون ‏"‏ وهو في الصحيح بمعناه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأشرف أبو سفيان‏)‏ أي ابن حرب، وكان رئيس المشركين يومئذ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال أفي القوم محمد‏)‏ زاد زهير ثلاث مرات في المواضع الثلاث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال‏:‏ لا تجيبوه‏)‏ وقع في حديث ابن عباس ‏"‏ أين ابن أبي كبشة، أين ابن أبي قحافة، أين ابن الخطاب‏؟‏ فقال عمر‏:‏ ألا أجيبه‏؟‏ قال‏:‏ بلى ‏"‏ وكأنه نهى عن إجابته في الأولى وأذن فيها في الثالثة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال إن هؤلاء قتلوا‏)‏ في رواية زهير ‏"‏ ثم رجع إلى أصحابه فقال‏:‏ أما هؤلاء فقد قتلوا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أبقى الله عليك ما يخزيك‏)‏ زاد زهير ‏"‏ إن الذي عددت لأحياء كلهم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اعل هبل‏)‏ في رواية زهير ‏"‏ ثم أخذ يرتجز‏:‏ اعل هبل ‏"‏ قال ابن إسحاق‏:‏ معنى قوله اعل هبل أي ظهر دينك‏.‏

وقال السهيلي‏.‏

معناه زاد علوا‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ فإن قلت ما معنى اعل ولا علو في هبل‏؟‏ فالجواب هو بمعنى العلى، أو المراد أعلى من كل شيء ا هـ، وزاد زهير ‏"‏ قال أبو سفيان‏:‏ يوم بيوم بدر، والحرب سجال ‏"‏ بكسر المهملة وتخفيف الجيم، وفي حديث ابن عباس ‏"‏ الأيام دول والحرب سجال ‏"‏ وفي رواية ابن إسحاق أنه قال‏:‏ أنعمت فعال إن الحرب سجال ا هـ‏.‏

وفعال بفتح الفاء وتخفيف المهملة قالوا معناه أنعمت الأزلام، وكان استقسم بها حين خرج إلى أحد‏.‏

ووقع في خبر السدي عمد الطبراني‏:‏ اعل هبل، حنظلة بحنظلة، ويوم أحد بيوم بدر‏.‏

وقد استمر أبو سفيان على اعتقاد ذلك حتى قال لهرقل لما سأله كيف كان حربكم معه - أي النبي صلى الله عليه وسلم - كما تقدم بسطه في بدء الوحي، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان على ذلك، بل نطق النبي صلى الله عليه وسلم بهذه اللفظة كما في حديث أوس بن أبي أوس عند ابن ماجه وأصله عند أبي داود ‏"‏ الحرب سجال ‏"‏ ويؤيد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وتلك الأيام نداولها بين الناس‏)‏ بعد قوله ‏(‏إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله‏)‏ فإنها نزلت في قصة أحد بالاتفاق‏.‏

والقرح الجرح‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من مرسل عكرمة قال‏:‏ ‏"‏ لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم الجبل جاء أبو سفيان فقال‏:‏ الحرب سجال - فذكر القصة قال - فأنزل الله تعالى‏:‏ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس، وزاد في حديث ابن عباس ‏"‏ قال عمر‏:‏ لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار‏.‏

قال‏:‏ إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذا وخسرنا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتجدون‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وستجدون‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مثلة‏)‏ بضم الميم وسكون المثلثة، ويجوز فتح أوله‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ بفتح الميم وضم المثلثة، قال ابن فارس‏:‏ مثل بالقتل إذا جدعه، قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني صالح بن كيسان قال‏:‏ ‏"‏ خرجت هند والنسوة منها يمثلن بالقتلى، يجدعن الآذان والأنف، حتى اتخذت هند من ذلك حزما وقلائد، وأعطت حزمها وقلائدها - أي اللائي كن عليها - لوحشي جزاء له على قتل حمزة، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم آمر بها، ولم تسؤني‏)‏ أي لم أكرهها وإن كان وقوعها بغير أمري‏.‏

وفي حديث ابن عباس‏:‏ ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا، أدركته حمية الجاهلية فقال‏:‏ أما إنه كان لم يكرهه‏.‏

وفي رواية ابن إسحاق ‏"‏ والله ما رضيت وما سخطت، وما نهيت وما أمرت ‏"‏ وفي هذا الحديث من الفوائد منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصيتهما به بحيث كان أعداؤه لا يعرفون بذلك غيرهما، إذ لم يسأل أبو سفيان عن غيرهما‏.‏

وأنه ينبغي للمرء أن يتذكر نعمة الله ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها‏.‏

وفيه شؤم ارتكاب النهي، وأنه يعم ضرره من لم يقع منه، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة‏)‏ وأن من آثر دنياه أضر بأمر آخرته ولم تحصل له دنياه‏.‏

واستفيد من هذه الكائنة أخذ الصحابة الحذر من العود إلى مثلها، والمبالغة في الطاعة، والتحرز من العدو الذين كانوا يظهرون أنهم منهم وليسوا منهم، وإلى ذلك أشار سبحانه وتعالى في سورة آل عمران أيضا ‏(‏وتلك الأيام نداولها بين الناس - إلى أن قال - وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين‏)‏ ‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب‏)‏ ‏.‏

الحديث‏:‏

أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ قَالَ اصْطَبَحَ الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ نَاسٌ ثُمَّ قُتِلُوا شُهَدَاءَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عمرو‏)‏ هو ابن دينار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اصطبح الخمر يوم أحد ناس ثم قتلوا شهداء‏)‏ سمي جابر منهم فيما رواه وهب بن كيسان عنه أباه عبد الله بن عمرو، أخرجه الحاكم في ‏"‏ الإكليل‏"‏، ودل ذلك على أن تحريم الخمر كان بعد أحد، وصرح صدقة بن الفضل عن ابن عيينة كما سيأتي في تفسير المائدة بذلك فقال في آخر الحديث ‏"‏ وذلك قبل تحريمها ‏"‏ وقد تقدم التنبيه على شيء من فوائده في أول الجهاد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا فَقَالَ قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ وَأُرَاهُ قَالَ وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ أَوْ قَالَ أُعْطِينَا مِنْ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سعد بن إبراهيم‏)‏ أي ابن عبد الرحمن بن عوف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أتي عبد الرحمن بن عوف بطعام‏)‏ في رواية نوفل بن إياس أن الطعام كان خبزا ولحما، أخرجه الترمذي في ‏"‏ الشمائل‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو صائم‏)‏ ذكر ابن عبد البر أن ذلك كان في مرض موته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قتل مصعب بن عمير‏)‏ تقدم نسبه وذكره في أول الهجرة، وأنه كان من السابقين إلى الإسلام وإلى الهجرة، وكان يقرئ الناس بالمدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قتله يوم أحد، وذكر ذلك ابن إسحاق وغيره‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وكان الذي قتل مصعب بن عمير عمرو بن قمئة الليثي، فظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى قريش فقال لهم‏:‏ قتلت محمدا‏.‏

وفي الجهاد لابن المنذر من مرسل عبيد بن عمير قال‏:‏ ‏"‏ وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير وهو متجعف على وجهه، وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو خير مني‏)‏ لعله قال ذلك تواضعا‏.‏

ويحتمل أن يكون ما استقر عليه الأمر من تفضيل العشرة على غيرهم بالنظر إلى من لم يقتل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع من أبي بكر الصديق نظير ذلك، فذكر ابن هشام أن رجلا دخل على أبي بكر الصديق وعنده بنت سعد بن الربيع وهي صغيرة فقال‏:‏ من هذه‏؟‏ قال‏:‏ هذه بنت رجل خير مني، سعد بن الربيع، كان من نقباء العقبة شهد بدرا واستشهد يوم أحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كفن في بردة‏)‏ تقدم شرحه في كتاب الجنائز‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقتل حمزة‏)‏ أي ابن عبد المطلب، ستأتي كيفية قتله في هذا الباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط‏)‏ يشير إلى ما فتح لهم من الفتوح والغنائم وحصل لهم من الأموال، وكان لعبد الرحمن من ذلك الحظ الوافر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد خشينا أن تكون حسناتنا‏)‏ في رواية الجنائز ‏"‏ طيباتنا‏"‏‏.‏

وفي رواية نوفل بن إياس ‏"‏ ولا أرانا أخرنا لما هو خير لنا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام‏)‏ في رواية أحمد عن غندر عن شعبة ‏"‏ وأحسبه لم يأكله‏"‏‏.‏

وفي الحديث فضل الزهد، وأن الفاضل في الدين ينبغي له أن يمتنع من التوسع في الدنيا لئلا تنقص، حسناته، وإلى ذلك أشار عبد الرحمن بقوله خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت‏.‏

وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ وفيه أنه ينبغي ذكر سير الصالحين وتقللهم في الدنيا لتقل رغبته فيها قال‏:‏ وكان بكاء عبد الرحمن شفقا أن لا يلحق بمن تقدمه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فَأَيْنَ أَنَا قَالَ فِي الْجَنَّةِ فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عمرو‏)‏ هو ابن دينار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال رجل‏)‏ لم أقف على اسمه، وزعم ابن بشكوال أنه عمير بن الحمام وهو بضم المهملة وتخفيف الميم، وسبقه إلى ذلك الخطيب واحتج بما أخرجه مسلم من حديث أنس ‏"‏ أن عمير بن الحمام أخرج تمرات فجعل يأكل منهن ثم قال‏:‏ لئن أنا أحييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ثم قاتل حتى قتل‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ لكن وقع التصريح في حديث أنس أن ذلك كان يوم بدر، والقصة التي في الباب وقع التصريح في حديث جابر أنها كانت يوم أحد، فالذي يظهر أنهما قصتان وقعتا لرجلين، والله أعلم‏.‏

وفيه ما كان الصحابة عليه من حب نصر الإسلام، والرغبة في الشهادة ابتغاء مرضاة الله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ وَمِنَّا مَنْ مَضَى أَوْ ذَهَبَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا كَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ يَتْرُكْ إِلَّا نَمِرَةً كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسُهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلِهِ الْإِذْخِرَ أَوْ قَالَ أَلْقُوا عَلَى رِجْلِهِ مِنْ الْإِذْخِرِ وَمِنَّا مَنْ قَدْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا

الشرح‏:‏

حديث خباب، وقد تقدم شرحه في كتاب الجنائز، ويأتي أيضا بعد سبعة أبواب، ويأتي شرحه في كتاب الرقاق‏.‏

الحديث‏:‏

أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَمَّهُ غَابَ عَنْ بَدْرٍ فَقَالَ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ أَشْهَدَنِي اللَّهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أُجِدُّ فَلَقِيَ يَوْمَ أُحُدٍ فَهُزِمَ النَّاسُ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَتَقَدَّمَ بِسَيْفِهِ فَلَقِيَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ أَيْنَ يَا سَعْدُ إِنِّي أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ فَمَضَى فَقُتِلَ فَمَا عُرِفَ حَتَّى عَرَفَتْهُ أُخْتُهُ بِشَامَةٍ أَوْ بِبَنَانِهِ وَبِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا حسان بن حسان‏)‏ هو أبو علي البصري نزيل مكة ويقال أيضا حسان بن أبي عباد، ووهم من جعله اثنين، وهو من قدماء شيوخ البخاري مات سنة ثلاث عشر، وما له عنده سوى هذا الحديث وآخر في أبواب العمرة‏.‏

ومحمد بن طلحة أي ابن مصرف بتشديد الراء المكسورة كوفي فيه مقال، إلا أنه لم ينفرد بهذا عن حميد، فقد تقدم في الجهاد من رواية عبد الأعلى بأتم من هذا السياق فيه عن حميد ‏"‏ سألت أنسا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليرين الله‏)‏ بفتح التحتانية والراء ثم التحتانية وتشديد النون والله بالرفع، ومراده أن يبالغ في القتال ولو زهقت روحه‏.‏

وقال أنس في رواية ثابت ‏"‏ وخشي أن يقول غيرها ‏"‏ أي غير هذه الكلمة، وذلك على سبيل الأدب منه والخوف لئلا يعرض له عارض فلا يفي بما يقول فيصير كمن وعد فأخلف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما أجد‏)‏ بضم أوله وكسر الجيم وتشديد الدال للأكثر من الرباعي، يقال أجد في الشيء يجد إذا بالغ فيه‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ صوابه بفتح الهمزة وضم الجيم، يقال أحد يجد إذا اجتهد في الأمر، أما أجد فإنما يقال لمن سار في أرض مستوية، ولا معني لها هنا‏.‏

قال وضبطه بعضهم بفتح الهمزة وكسر الجيم وتخفيف الدال من الوجدان أي ما ألتقي من الشدة في القتال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إني أجد ريح الجنة دون أحد‏)‏ يحتمل أن يكون ذلك على الحقيقة بأن يكون شم رائحة طيبة زائدة عما يعهد فعرف أنها ريح الجنة‏.‏

ويحتمل أن يكون أطلق ذلك باعتبار ما عنده من اليقين حتى كأن الغائب عنه صار محسوسا عنده، والمعنى أن الموضع الذي أقاتل فيه يئول بصاحبه إلى الجنة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمضى فقتل‏)‏ في رواية عبد الأعلى ‏"‏ قال سعد بن معاذ‏:‏ فما استطعت يا رسول الله ما صنع‏"‏‏.‏

قلت‏.‏

وهذا يشعر بأن أنس بن مالك إنما سمع هذا الحديث من سعد بن معاذ لأنه لم يحضر قتل أنس بن النضر، ودل ذلك على شجاعة مفرطة في أنس بن النضر بحيث أن سعد بن معاذ مع ثباته يوم أحد وكمال شجاعته ما جسر على ما صنع أنس بن النضر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فما عرف حتى عرفته أخته بشامة، أو ببنانه‏)‏ كذا هنا بالشك والأول بالمعجمة والميم والثاني بموحدتين ونونين بينهما ألف والثاني هو المعروف وبه جزم عبد الأعلى في روايته وكذا وقع في رواية ثابت عن أنس عند مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم‏)‏ ووقع في رواية عبد الأعلى بلفظ ‏"‏ ضربة بالسيف أو طعنة بالرمح أو رمية بالسهم ‏"‏ وليست ‏"‏ أو ‏"‏ للشك بل هي للتقسيم وزاد في روايته ‏"‏ ووجدناه قد مثل به المشركون ‏"‏ وعنده ‏"‏ قال أنس‏:‏ كنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ‏(‏من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى‏)‏ إلى آخر الآية ‏"‏ وفي رواية ثابت المذكورة ‏"‏ قال أنس فنزلت هذه الآية ‏(‏رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه‏)‏ وكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه، وكذا وقع الجزم بأنها نزلت في ذلك عند المصنف في تفسير الأحزاب من طريق ثمامة عن أنس ولفظه ‏"‏ هذه الآية نزلت في أنس بن النضر ‏"‏ فذكرها، وفي الحديث جواز الأخذ بالشدة في الجهاد، وبذل المرء نفسه في طلب الشهادة، والوفاء بالعهد، وتقدمت بقية فوائده في كتاب الجهاد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فَقَدْتُ آيَةً مِنْ الْأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ

الشرح‏:‏

حديث زيد بن ثابت أورده مختصرا، وسيأتي تاما في فضائل القرآن مع شرحه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ رَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَهُ وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةً تَقُولُ نُقَاتِلُهُمْ وَفِرْقَةً تَقُولُ لَا نُقَاتِلُهُمْ فَنَزَلَتْ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا وَقَالَ إِنَّهَا طَيْبَةُ تَنْفِي الذُّنُوبَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبد الله بن يزيد‏)‏ هو الخطمي بفتح المعجمة وسكون المهملة صحابي صغير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رجع ناس ممن خرج معه‏)‏ يعني عبد الله بن أبي وأصحابه، وقد ورد ذلك صريحا في رواية موسى بن عقبة في المغازي وأن عبد الله بن أبي كان وافق رأيه رأي النبي صلى الله عليه وسلم على الإقامة بالمدينة، فلما أشار غيره بالخروج وأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج قال عبد الله بن أبي لأصحابه‏:‏ أطاعهم وعصاني‏.‏

علام نقتل أنفسنا‏؟‏ فرجع بثلث الناس‏.‏

قال ابن إسحاق في روايته‏:‏ فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام وهو والد جابر وكان خزرجيا كعبد الله بن أبي فناشدهم أن يرجعوا فأبوا فقال‏:‏ أبعدكم الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين‏)‏ أي في الحكم فيمن انصرف مع عبد الله بن أبي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فنزلت‏)‏ هذا هو الصحيح في سبب نزولها‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم عن أبي سعيد بن معاذ قال‏:‏ ‏"‏ نزلت هذه الآية في الأنصار، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ من لي بمن يؤذيني‏؟‏ فذكر منازعة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسيد بن حضير ومحمد بن مسلمة، قال‏:‏ فأنزل الله هذه الآية ‏"‏ وفي سبب نزولها قول آخر أخرجه أحمد من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه ‏"‏ أن قوما أتوا المدينة فأسلموا، فأصابهم الوباء فرجعوا، واستقبلهم ناس من الصحابة فأخبروهم، فقال بعضهم‏:‏ نافقوا‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لا، فنزلت ‏"‏ وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سلمة مرسلا، فإن كان محفوظا احتمل أن تكون نزلت في الأمرين جميعا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال إنها طيبة تنفي الذنوب‏)‏ كذا في هذه الرواية، وتقدم في الحج ‏"‏ تنفي الدجال ‏"‏ ويأتي في التفسير بلفظ ‏"‏ تنفي الخبث ‏"‏ وهو المحفوظ، وقد سبق الكلام عليه في أواخر الحج مستوفى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كما تنفي النار إلخ‏)‏ هو حديث آخر تقدم في أواخر الحج، وقد فرقه مسلم حديثين، فذكر ما يتعلق بهذه القصة في ‏"‏ باب ذكر المنافقين ‏"‏ وهو في أواخر كتابه، وذكر قوله‏:‏ ‏"‏ إنها طيبة إلخ ‏"‏ في فضل المدينة من أواخر كتاب الحج، وهو من نادر صنيعه، بخلاف البخاري فإنه يقطع الحديث كثيرا في الأبواب‏.‏