فصل: باب شَهَادَةِ الْأَعْمَى وَأَمْرِهِ وَنِكَاحِهِ وَإِنْكَاحِهِ وَمُبَايَعَتِهِ وَقَبُولِهِ فِي التَّأْذِينِ وَغَيْرِهِ وَمَا يُعْرَفُ بِالْأَصْوَاتِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب لَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ جَوْرٍ إِذَا أُشْهِدَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد‏)‏ ذكر فيه حديث النعمان بن بشير في قصة هبة أبيه له، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تشهدني على جور ‏"‏ وقد مضى الكلام عليه مستوفى في الهبة، وقد أخرجه البيهقي من الوجه الذي أخرجه منه البخاري هنا بلفظ ‏"‏ فقال لا أشهد على جور ‏"‏ وقوله في الترجمة‏:‏ ‏"‏ إذا أشهد ‏"‏ يؤخذ منه أنه لا يشهد على جور إذا لم يستشهد بطريق الأولى، وقوله‏:‏ ‏"‏ وقال أبو حريز ‏"‏ بفتح المهملة وكسر الراء وآخره زاي ‏"‏ عن الشعبي لا أشهد على جور ‏"‏ أي في روايته عن الشعبي عن النعمان في هذا الحديث، وقد تقدم في الهبة الإشارة إلى من وصله، وإلى التوفيق بين ما في رواية أبي حريز وغيره عن الشعبي‏.‏

ثم ذكر المصنف حديث ‏"‏ خير الناس قرني ‏"‏ من رواية عبد الله بن مسعود ومن رواية عمران بن حصين وفي كل منهما زيادة على ما في الآخر، وورد الحديث عن آخرين من الصحابة سأذكر ما في رواياتهم من الفوائد والزوائد مشروحة في أول كتاب فضائل الصحابة إن شاء الله تعالى، والغرض هنا ما يتعلق بالشهادات‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ زَهْدَمَ بْنَ مُضَرِّبٍ قَالَ سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ لَا أَدْرِي أَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلَا يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ هو موصول بالإسناد المذكور، فهو بقية حديث عمران وسيأتي في الفضائل ما يوضح ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن بعدكم قوما‏)‏ كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية النسفي وابن شبويه ‏"‏ إن بعدكم قوم ‏"‏ قال الكرماني لعله كتب بغير ألف على اللغة الربيعية، أو حذف منه ضمير الشأن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يخونون‏)‏ كذا في جميع الروايات التي اتصلت لنا بالخاء المعجمة والواو مشتق من الخيانة، وزعم ابن حزم أنه وقع في نسخة يحربون بسكون المهملة وكسر الراء بعدها موحدة؛ قال فإن كان محفوظا فهو من قولهم حربه يحربه إذا أخذ ماله وتركه بلا شيء، ورجل محروب أي مسلوب المال‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قال النووي وقع في أكثر نسخ مسلم ‏"‏ ولا يتمنون ‏"‏ بتشديد المثناة، قال غيره هو نطير قوله‏:‏ ‏"‏ ثم يتزر ‏"‏ موضع قوله‏:‏ ‏"‏ يأتزر ‏"‏ وادعى أنه شاذ، ولكن قد قرأ ابن محيصن ‏"‏ فليؤد الذي اتمن أمانته ‏"‏ ووجهه ابن مالك بأنه شبه بما فاؤه واو أو تحتانية قال‏:‏ وهو مقصور على السماع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يؤتمنون‏)‏ أي لا يثق الناس بهم ولا يعتقدونهم أمناء بأن تكون خيانتهم ظاهرة بحيث لا يبقى للناس اعتماد عليهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويشهدون ولا يستشهدون‏)‏ يحتمل أن يكون المراد التحمل بدون التحميل أو الأداء بدون طلب، والثاني أقرب، ويعارضه ما رواه مسلم من حديث زيد بن خالد مرفوعا ‏"‏ ألا أخبركم بخير الشهداء‏؟‏ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها ‏"‏ واختلف العلماء في ترجيحهما، فجنح ابن عبد البر إلى ترجيح حديث زيد بن خالد لكونه من رواية أهل المدينة فقدمه على رواية أهل العراق وبالغ فزعم أن حديث عمران هذا لا أصل له‏.‏

وجنح غيره إلى ترجيح حديث عمران لاتفاق صاحبي الصحيح عليه وانفراد مسلم بإخراج حديث زيد بن خالد‏.‏

وذهب آخرون إلى الجمع بينهما فأجابوا بأجوبة‏:‏ أحدها أن المراد بحديث زيد من عنده شهادة لإنسان يحق لا يعلم بها صاحبها فيأتي إليه فيخبره بها، أو يموت صاحبها العالم بها ويخلف ورثة فيأتي الشاهد إليهم أو إلى من يتحدث عنهم فيعلمهم بذلك، وهذا أحسن الأجوبة، وبهذا أجاب يحيى بن سعيد شيخ مالك ومالك وغيرهما‏.‏

ثانيها أن المراد به شهادة الحسبة، وهي ما لا يتعلق بحقوق الآدميين المختصة بهم محضا، ويدخل في الحسبة مما يتعلق بحق الله أو فيه شائبة منه العتاق والوقف والوصية العامة والعدة والطلاق والحدود ونحو ذلك، وحاصله أن المراد بحديث ابن مسعود الشهادة في حقوق الآدميين، والمراد بحديث زيد بن خالد الشهادة في حقوق الله‏.‏

ثالثها أنه محمول على المبالغة في الإجابة إلى الأداء، فيكون لشدة استعداده لها كالذي أداها قبل أن يسألها، كما يقال في وصف الجواد‏:‏ إنه ليعطي قبل الطلب، أي يعطي سريعا عقب السؤال من غير توقف‏.‏

وهذه الأجوبة مبنية على أن الأصل في أداء الشهادة عند الحاكم أن لا يكون إلا بعد الطلب من صاحب الحق، فيخص ذم من يشهد قبل أن يستشهد بمن ذكر ممن يخبر بشهادة عنده لا يعلم صاحبها بها أو شهادة الحسبة‏.‏

وذهب بعضهم إلى جواز أداء الشهادة قبل السؤال على ظاهر عموم حديث زيد بن خالد، وتأولوا حديث عمران بتأويلات‏:‏ أحدها أنه محمول على شهادة الزور، أي يؤدون شهادة لم يسبق لهم تحملها، وهذا حكاه الترمذي عن بعض أهل العلم‏.‏

ثانيها المراد بها الشهادة في الحلف، يدل عليه قول إبراهيم في آخر حديث ابن مسعود ‏"‏ كانوا يضربوننا على الشهادة ‏"‏ أي قول الرجل أشهد بالله ما كان إلا كذا على معنى الحلف، فكره ذلك كما كره الإكثار من الحلف، واليمين قد تسمى شهادة كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏فشهادة أحدهم‏)‏ وهذا جواب الطحاوي‏.‏

ثالثها المراد بها الشهادة على المغيب من أمر الناس، فيشهد على قوم أنهم في النار وعلى قوم أنهم في الجنة بغير ذلك، كما صنع ذلك أهل الأهواء، حكاه الخطابي‏.‏

رابعها المراد به من ينتصب شاهدا وليس من أهل الشهادة‏.‏

خامسها المراد به التسارع إلى الشهادة وصاحبها بها عالم من قبل أن يسأله‏.‏

والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ يشهدون ولا يستشهدون ‏"‏ استدل به على أن من سمع رجلا يقول‏:‏ لفلان عندي كذا فلا يسوغ له أن يشهد عليه بذلك إلا إن استشهده، وهذا بخلاف من رأى رجلا يقتل رجلا أو يغصبه ماله فإنه يجوز له أن يشهد بذلك وإن لم يستشهده الجاني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وينذرون‏)‏ بفتح أوله وبكسر الذال المعجمة وبضمها ‏(‏ولا يفون‏)‏ يأتي الكلام عليه في كتاب النذور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ويظهر فيهم السمن‏)‏ بكسر المهملة وفتح الميم بعدها نون أي يحبون التوسع في المآكل والمشارب، وهي أسباب السمن بالتشديد‏.‏

قال ابن التين‏:‏ المراد ذم محبته وتعاطيه لا من تخلق بذلك، وقيل‏:‏ المراد يظهر فيهم كثرة المال، وقيل المراد أنه يتسمنون أي يتكثرون بما ليس فيهم ويدعون ما ليس لهم من الشرف، ويحتمل أن يكون جميع ذلك مرادا‏.‏

وقد رواه الترمذي من طريق هلال بن يساف عن عمران بن حصين بلفظ ‏"‏ ثم يجيء قوم يتسمنون ويحبون السمن ‏"‏ وهو ظاهر في تعاطي السمن على حقيقته‏.‏

فهو أولى ما حمل عليه خبر الباب، وإنما كان مذموما لأن السمين غالبا بليد الفهم ثقيل عن العبادة كما هو مشهور‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن منصور‏)‏ هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وعبيدة بفتح أوله هو السلماني، وعبد الله هو ابن مسعود، وهذا الإسناد كله كوفيون، وفيه ثلاثة من التابعين في نسق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته‏)‏ أي في حالين، وليس المراد أن ذلك يقع في حالة واحدة لأنه دور، كالذي يحرص على تزويج شهادة فيحلف على صحتها ليقويها فتارة يحلف قبل أن يشهد وتارة يشهد قبل أن يحلف، ويحتمل أن يقع ذلك في حال واحدة عند من يجيز الحلف في الشهادة فيريد أن يشهد ويحلف‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ المراد أنهم لا يتورعون ويستهينون بأمر الشهادة واليمين‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ يستدل به على أن الحلف في الشهادة يبطلها، قال وحكى ابن شعبان في الزاهي‏:‏ من قال أشهد بالله أن لفلان على فلان كذا لم تقبل شهادته، لأنه حلف وليس بشهادة، قال ابن بطال‏:‏ والمعروف عن مالك خلافه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال إبراهيم إلخ‏)‏ هو موصول بالإسناد المذكور، ووهم من زعم أنه معلق، وإبراهيم هو النخعي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد‏)‏ زاد المصنف بهذا الإسناد في أول الفضائل ‏"‏ ونحن صغار ‏"‏ وكذلك أخرجه مسلم بلفظ ‏"‏ كانوا ينهون ونحن غلمان عن العهد والشهادات ‏"‏ وسيأتي في كتاب الأيمان والنذور نحوه ‏"‏ وكان أصحابنا ينهوننا ونحن غلمان عن الشهادة ‏"‏ وقال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ معناه عندهم النهي عن مبادرة الرجل بقوله أشهد بالله وعلي عهد الله لقد كان كذا ونحو ذلك‏.‏

وإنما كانوا يضربونهم على ذلك حتى لا يصير لهم به عادة فيحلفوا في كل ما يصلح وما لا يصلح‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون الأمر في الشهادة على ما قال، ويحتمل أن يكون المراد النهي عن تعاطي الشهادات والتصدي لها لما في تحملها من الحرج، ولا سيما عند أدائها، لأن الإنسان معرض للنسيان والسهو، ولا سيما وهم إذ ذاك غالبا لا يكتبون، ويحتمل أن يكون المراد بالنهي عن العهد الدخول في الوصية لما يترتب على ذلك من المفاسد، والوصية تسمى العهد، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏لا ينال عهدي الظالمين‏)‏ وسيأتي مزيد بيان لهذا في كتاب الأيمان وا لنذور إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب مَا قِيلَ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ

لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِهِ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما قيل في شهادة الزور‏)‏ أي هن التغليظ والوعيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لقول الله عز وجل‏:‏ والذين لا يشهدون الزور‏)‏ أشار إلى أن الآية سيقت في ذم متعاطي شهادة الزور، وهو اختيار منه لأحد ما قيل في تفسيرها، وقيل المراد بالزور هنا الشرك وقيل الغناء، وقيل غير ذلك‏.‏

قال الطبري‏:‏ أصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل لمن سمعه أنه بخلاف ما هو به، قال‏:‏ وأولى الأقوال عندنا أن المراد به مدح من لا يشهد شيئا من الباطل، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكتمان الشهادة‏)‏ هو معطوف على شهادة الزور، أي وما قيل في كتمان الشهادة بالحق من الوعيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تكتموا الشهادة - إلى قوله - عليم‏)‏ والمراد منها قوله‏:‏ ‏(‏فإنه آثم قلبه‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تلووا ألسنتكم بالشهادة‏)‏ هو تفسير ابن عباس أخرجه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه في قوله‏:‏ ‏(‏وإن تلووا أو تعرضوا‏)‏ أي تلووا ألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها، ومن طريق العوفي عن ابن عباس في هذه الآية قال‏:‏ تلوي لسانك بغير الحق وهي اللجلجة فلا تقيم الشهادة على وجهها، والإعراض عنها الترك‏.‏

وعن مجاهد من طرق حاصلها أنه فسر اللي بالتحريف، والإعراض بالترك، وكأن المصنف أشار بنظم كتمان الشهادة مع شهادة الزور إلى هذا الأثر وإلى أن تحريم شهادة الزور لكونها سببا لإبطال الحق فكتمان الشهادة أيضا سبب لإبطال الحق، وإلى الحديث الذي أخرجه أحمد وابن ماجة من حديث ابن مسعود مرفوعا ‏"‏ إن بين يدي الساعة - فذكر أشياء ثم قال - وظهور شهادة الزور، وكتمان شهادة الحق‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ جَرِيرٍ وَعَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ قَالَا حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَبَائِرِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ تَابَعَهُ غُنْدَرٌ وَأَبُو عَامِرٍ وَبَهْزٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ شُعْبَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس‏)‏ في رواية محمد بن جعفر الآتية في الأدب عن محمد بن جعفر عن سعيد ‏"‏ حدثني عبيد الله بن أبي بكر سمعت أنس بن مالك‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر‏)‏ زاد بهز عن شعبة عند أحمد ‏"‏ أو ذكرها ‏"‏ وفي رواية محمد بن جعفر ‏"‏ ذكر الكبائر أو سئل عنها ‏"‏ وكأن المراد بالكبائر أكبرها كما في حديث أبي بكرة الذي يليه، وكذا وقع في بعض الطرق عن شعبة كما سأبينه، وليس القصد حصر الكبائر فيما ذكر، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في تعريفها والإشارة إلى تعيينها في الكلام على حديث أبي هريرة ‏"‏ اجتنبوا السبع الموبقات ‏"‏ وهو في آخر كتاب الوصايا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وشهادة الزور‏)‏ في رواية محمد بن جعفر ‏"‏ قول الزور أو قال شهادة الزور ‏"‏ قال شعبة‏:‏ ‏"‏ وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه غندر‏)‏ هو محمد بن جعفر المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأبو عامر وبهز وعبد الصمد‏)‏ أما رواية أبي عامر وهو العقدي فوصلها أبو سعيد النقاش في كتاب الشهود، وابن منده في كتاب الإيمان من طريقه عن شعبة بلفظ ‏"‏ أكبر الكبائر الإشراك بالله ‏"‏ الحديث، وكذلك أخرجه المصنف في الديات عن عمرو بن عوف عن شعبة بلفظ ‏"‏ أكبر الكبائر‏"‏‏.‏

وأما رواية بهز وهو ابن أسد المذكور فأخرجها أحمد عنه‏.‏

أما رواية عبد الصمد وهو ابن عبد الوارث فوصلها المؤلف في الديات‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا الجريري‏)‏ بضم الجيم وهو سعيد بن إياس، وسماه في رواية خالد الحذاء عنه في أوائل الأدب، وقد أخرج البخاري للعباس بن فروخ الجريري لكنه إذا أخرجه عنه سماه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الرحمن بن أبي بكرة‏)‏ في رواية إسماعيل بن علية عن الجريري ‏"‏ حدثنا عبد الرحمن ‏"‏ وقد علقها المصنف آخر الباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألا أنبئكم بأكبر الكبائر‏)‏ هذا يقوي - إن كان المجلس متحدا - أحد الوجهين مما شك فيه شعبة، هل قال ذلك ابتداء، أو لما سئل‏؟‏ وقد نظم كل من العقوق وشهادة الزور بالشرك في آيتين‏.‏

إحداهما قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا‏)‏ ، ثانيهما قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثلاثا‏)‏ أي قال لهم ذلك ثلاث مرات، وكرره تأكيدا لينتبه السامع على إحضار فهمه، ووهم من قال‏:‏ المراد بذلك عدد الكبائر، وقد ترجم البخاري في العلم ‏"‏ من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه ‏"‏ وذكر فيه طرفا من هذا الحديث تعليقا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الإشراك بالله‏)‏ يحتمل مطلق الكفر ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، ولا سيما في بلاد العرب، فذكره تنبيها على غيره‏.‏

ويحتمل أن يراد به خصوصيته، إلا أنه يرد عليه أن بعض الكفر أعظم قبحا من الإشراك وهو التعطيل، لأنه نفي مطلق والإشراك إثبات مقيد فيترجح الاحتمال الأول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعقوق الوالدين‏)‏ يأتي الكلام عليه في الأدب مع الكلام على الكبائر وضابطها وبيان ما قيل في عددها إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وجلس وكان متكئا‏)‏ يشعر بأنه اهتم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئا، ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعا على الناس والتهاون بها أكثر، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها من الإشراك قطعا، بل لكون مفسدة الزور متعدية إلى غير الشاهد، بخلاف الشرك فإن مفسدته قاصرة غالبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألا وقول الزور‏)‏ في رواية خالد عن الجريري ‏"‏ ألا وقول الزور وشهادة الزور ‏"‏ وفي رواية ابن عليه ‏"‏ شهادة الزور أو قول الزور ‏"‏ وكذا وقع في العمدة بالواو، قال ابن دقيق العيد‏:‏ يحتمل أن يكون من الخاص بعد العام، لكن ينبغي أن يحمل على التأكيد، فإنا لو حملنا القول على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة، وليس كذلك‏.‏

قال‏:‏ ولا شك أن عظم الكذب ومراتبه متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت‏)‏ أي شفقة عليه، وكراهية لما يزعجه‏.‏

وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه صلى الله عليه وسلم والمحبة له والشفقة عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال إسماعيل بن إبراهيم‏)‏ أي ابن علية، وروايته موصولة في كتاب استتابة المرتدين، وفي الحديث انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويؤخذ منه ثبوت الصغائر لأن الكبيرة بالنسبة إليها أكبر منها؛ والاختلاف في ثبوت الصغائر مشهور، وأكثر ما تمسك به من قال ليس في الذنوب صغيرة كونه نظر إلى عظم المخالفة لأمر الله ونهيه، فالمخالفة بالنسبة إلى جلال الله كبيرة، لكن لمن أثبت الصغائر أن يقول وهي بالنسبة لما فوقها صغيرة كما دل عليه حديث الباب، وقد فهم الفرق بين الصغيرة والكبيرة من مدارك الشرع، وسبق في أوائل الصلاة ما يكفر الخطايا ما لم تكن كبائر، فثبت به أن من الذنوب ما يكفر بالطاعات، ومنها ما لا يكفر، وذلك هو عين المدعي، ولهذا قال الغزالي‏:‏ إنكار الفرق بين الكبيرة والصغيرة لا يليق بالفقيه‏.‏

ثم إن مراتب كل من الصغائر والكبائر مختلف بحسب تفاوت مفاسدها‏.‏

وفي الحديث تحريم شهادة الزور‏:‏ وفي معناها كل ما كان زورا من تعاطي المرء ما ليس له أهلا‏.‏

*3*باب شَهَادَةِ الْأَعْمَى وَأَمْرِهِ وَنِكَاحِهِ وَإِنْكَاحِهِ وَمُبَايَعَتِهِ وَقَبُولِهِ فِي التَّأْذِينِ وَغَيْرِهِ وَمَا يُعْرَفُ بِالْأَصْوَاتِ

وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ قَاسِمٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا وَقَالَ الْحَكَمُ رُبَّ شَيْءٍ تَجُوزُ فِيهِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ أَرَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةٍ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُ رَجُلًا إِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ أَفْطَرَ وَيَسْأَلُ عَنْ الْفَجْرِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ طَلَعَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَعَرَفَتْ صَوْتِي قَالَتْ سُلَيْمَانُ ادْخُلْ فَإِنَّكَ مَمْلُوكٌ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ شَيْءٌ وَأَجَازَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ مُنْتَقِبَةٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب شهادة الأعمى ونكاحه وأمره وإنكاحه ومبايعته وقبوله في التأذين وغيره وما يعرف بالأصوات‏)‏ مال المصنف إلى إجازة شهادة الأعمى، فأشار إلى الاستدلال لذلك بما ذكر من جواز نكاحه ومبايعته وقبول تأذينه، وهو قول مالك والليث، سواء علم ذلك قبل العمى أو بعده‏.‏

وفصل الجمهور فأجازوا ما تحمله قبل العمى لا بعده، وكذا ما يتنزل فيه منزلة المبصر، كأن يشهد شخص بشيء ويتعلق هو به إلى أن يشهد به عليه، وعن الحكم يجوز في الشيء اليسير دون الكثير‏.‏

وقال أبو حنيفة ومحمد‏:‏ لا تجوز شهادته بحال إلا فيما طريقه الاستفاضة، وليس في جميع ما استدل به المصنف دفع للمذهب المفصل إذ لا مانع من حمل المطلق على المقيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأجاز شهادته القاسم والحسن وابن سيرين والزهري وعطاء‏)‏ ، أما القاسم فأظنه أراد ابن محمد بن أبي بكر أحد الفقهاء السبعة، وقد روى سعيد بن منصور عن هشيم عن يحيى بن سعيد هو الأنصاري قال‏:‏ ‏"‏ سمعت الحكم بن عتيبة - هو بالمثناة والموحدة مصغر - يسأل القاسم بن محمد عن شهادة الأعمى فقال‏:‏ جائزة‏"‏‏.‏

وأما قول الحسن وابن سيرين فوصله ابن أبي شيبة من طريق أشعث عنهما قالا‏:‏ ‏"‏ شهادة الأعمى جائزة‏"‏‏.‏

وأما قول الزهري فوصله ابن أبي شيبة من طريق ابن أبي ذئب عنه ‏"‏ أنه كان يجيز شهادة الأعمى‏"‏‏.‏

وأما قول عطاء وهو ابن أبي رباح فوصله الأثرم من طريق ابن جريج عنه قال‏:‏ ‏"‏ تجوز شهادة الأعمى‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الشعبي تجوز شهادته إذا كان عاقلا‏)‏ وصله ابن أبي شيبة عنه بمعناه، وليس مراده بقوله‏:‏ ‏"‏ عاقلا ‏"‏ الاحتراز من الجنون لأن ذاك أمر لا بد من الاحتراز منه سواء كان أعمى أو بصيرا، وإنما مراده أن يكون فطنا مدركا للأمور الدقيقة بالقرائن، ولا شك في تفاوت الأشخاص في ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الحكم‏:‏ رب شيء تجوز فيه‏)‏ وصله ابن أبي شيبة عنه بهذا، وكأنه توسط بين مذهبي الجواز والمنع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الزهري‏:‏ أرأيت ابن عباس لو شهد على شهادة أكنت ترده‏)‏ ‏؟‏ وصله الكرابيسي في ‏"‏ أدب القضاء ‏"‏ من طريق ابن أبي ذئب عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكأن ابن عباس يبعث رجلا إلخ‏)‏ وصله عبد الرزاق بمعناه من طريق أبي رجاء عنه، ووجه تعلقه به كونه كان يعتمد على خبر غيره مع أنه لا يرى شخصه وإنما سمع صوته‏.‏

قال ابن المنير‏:‏ لعل البخاري يشير بحديث ابن عباس إلى جواز شهادة الأعمى على التعريف، أي إذا عرف أن هذا فلان، فإذا عرف شهد، قال وشهادة التعريف مختلف فيها عند مالك وغيره، وقد جاء عن ابن عباس أنه كان لا يكتفي برؤية الشمس لأنها تواريها الجبال والسحاب، ويكتفي بغلبة الظلمة على الأفق الذي من جهة المشرق، وأخرجه سعيد بن منصور عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال سليمان بن يسار‏:‏ استأذنت على عائشة فعرفت صوتي فقالت‏:‏ سليمان ادخل إلخ‏)‏ تقدم الكلام عليه في آخر العتق، وفيه دليل على أن عائشة كانت ترى ترك الاحتجاب من العبد سواء كان في ملكها أو في ملك غيرها لأنه كان مكاتب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأما من قال يحتمل أنه كان مكاتبا لعائشة فمعارضة للصحيح من الأخبار بمحض الاحتمال وهو مردود، وأبعد من قال يحمل قوله على عائشة بمعنى من عائشة أي استأذنت عائشة في الدخول على ميمونة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأجاز سمرة بن جندب شهادة امرأة متنقبة‏)‏ كذا قي رواية أبي ذر بالتشديد، ولغيره بسكون النون وتقديمها على المثناة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا وَزَادَ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ تَهَجَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ أَصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا قُلْتُ نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا

الشرح‏:‏

حديث عائشة ‏"‏ سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في المسجد ‏"‏ والغرض منه اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم على صوته من غير أن يرى شخص‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وزاد عباد بن عبد الله‏)‏ أي ابن الزبير عن أبيه عن عائشة، وصله أبو يعلى من طريق محمد بن إسحاق عن يحيي بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة ‏"‏ تهجد النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، وتهجد عباد بن بشر في المسجد، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال‏:‏ يا عائشة هذا عباد بن بشر، قلت‏:‏ نعم، فقال‏:‏ اللهم ارحم عبادا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فسمع صوت عباد‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏أصوت عباد‏)‏ هذا في رواية أبي يعلي المذكور عباد بن بشر في الموضعين كما سقته، وبهذا يزول اللبس عمن يظن اتحاد المسموع صوته والراوي عن عائشة، وهما اثنان مختلفا النسبة والصفة، فعباد بن بشر صحابي جليل وعباد بن عبد الله بن الزبير تابعي من وسط التابعين، وظاهر الحال أن المبهم في الرواية التي قبل هذه هو المفسر في هذه الرواية لأن مقتضى قوله‏:‏ ‏"‏ زاد ‏"‏ أن يكون المزيد فيه والمزيد عليه حديثا واحدا فتتحد القصة، لكن جزم عبد الغني بن سعيد في ‏"‏ المبهمات ‏"‏ بأن المبهم في رواية هشام عن أبيه عن عائشة هو عبد الله بن يزيد الأنصاري، فروى من طريق عمرة عن عائشة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوت قارئ يقرأ فقال‏:‏ صوت من هذا‏؟‏ قالوا‏.‏

عبد الله بن يزيد، قال‏:‏ لقد ذكرني آية يرحمه الله كنت أنسيتها ‏"‏ ويؤيد ما ذهب إليه مشابهة قصة عمرة عن عائشة بقصة عروة عنها، بخلاف قصة عباد بن عبد الله عنها فليس فيه تعرض لنسيان الآية، ويحتمل التعدد من جهة غير الجهة التي اتحدت، وهو أن يقال سمع صوت رجلين فعرف أحدهما فقال‏:‏ هذا صوت عباد ولم يعرفه الآخر فسأل عنه، والذي لم يعرفه هو الذي تذكر بقراءته الآية التي نسيها، وسيأتي بقية الكلام على شرحه في كتاب فضائل القرآن إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ أَوْ قَالَ حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ النَّاسُ أَصْبَحْتَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في تأذين بلال وابن أم مكتوم، وقد مضى بتمامه وشرحه في الأذان، والغرض منه ما تقدم من الاعتماد على صوت الأعمى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبِيَةٌ فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ قَبَاءٌ وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ وَهُوَ يَقُولُ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ

الشرح‏:‏

حديث المسور في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم له القباء، والغرض منه قوله فيه‏:‏ ‏"‏ فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته فخرج ومنه قباء وهو يريه محاسنه ويقول‏:‏ خبأت لك هذا ‏"‏ فإن فيه أنه اعتمد على صوته قبل أن يرى شخصه، وسيأتي شرحه في اللباس إن شاء الله تعالى‏.‏

واحتج من لم يجز شهادة الأعمى بأن العقود لا تجوز الشهادة عليها إلا باليقين، والأعمى لا يتيقن الصوت لجواز شبهه بصوت غيره، وأجاب المجيزون بأن محل القبول عندهم إذا تحقق الصوت ووجدت القرائن الدالة لذلك، وأما عمد الاشتباه فلا يقول به أحد، ومن ذلك جواز نكاح الأعمى زوجته وهو لا يعرفها إلا بصوتها، لكنه يتكرر عليه سماع صوتها حتى يقع له العلم بأنها هي، وإلا فمتى احتمل عنده احتمالا قويا أنها غيرها لم يجز له الإقدام عليها‏.‏

وقال الإسماعيلي‏:‏ ليس في أحاديث الباب دلالة على الجواز مطلقا، لأن نكاح الأعمى يتعلق بنفسه لأنه في زوجته وأمته وليس لغيره فيه مدخل‏.‏

وأما قصة عباد ومخرمة ففي شيء يتعلق بهما لا يتعلق بغيرهما‏.‏

وأما التأذين فقد قال في بقية الحديث ‏"‏ كان لا يؤذن حتى يقال له أصبحت ‏"‏ فالاعتماد على الجمع الذين يخبرونه بالوقت، قال‏:‏ وأما ما ذكره الزهري في حق ابن عباس فهو تهويل لا تقوم به حجة، لأن ابن عباس كان أفقه من أن يشهد فيما لا تجوز فيها شهادته، فإنه لو شهد لأبيه أو ابنه أو مملوكه لما قبلت شهادته، وقد أعاذه الله من ذلك‏.‏

*3*باب شَهَادَةِ النِّسَاءِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب شهادة النساء، وقول الله تعالى‏:‏ فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان‏)‏ قال ابن المنذر أجمع العلماء على القول بظاهر هذه الآية، فأجازوا شهادة النساء مع الرجال، وخص الجمهور ذلك بالديون والأموال وقالوا لا تجوز شهادتهن في الحدود والقصاص، واختلفوا في النكاح والطلاق والنسب والولاء، فمنعها الجمهور وأجازها الكوفيون، قال‏:‏ واتفقوا على قبول شهادتهن مفردات فيما لا يطلع عليه الرجال كالحيض والولادة والاستهلال وعيوب النساء، واختلفوا في الرضاع كما سيأتي في الباب الذي بعده‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ أما اتفاقهم على جواز شهادتهن في الأموال فللآية المذكورة، وأما اتفاقهم على منعها في الحدود والقصاص فلقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فإن لم يأتوا بأربعة شهداء‏)‏ وأما اختلافهم في النكاح ونحوه فمن ألحقها بالأموال فذلك لما فيها من المهور والنفقات ونحو ذلك، ومن ألحقها بالحدود فلأنها تكون استحلالا للفروج وتحريمها بها، قال‏:‏ وهذا هو المختار، ويؤيد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏)‏ ثم سماها حدودا فقال‏:‏ ‏(‏تلك حدود الله‏)‏ والنساء لا يقبلن في الحدود، قال‏:‏ وكيف يشهدن فيما ليس لهن فيه تصرف من عقد ولا حل انتهى، وهذا التفصيل لا ينافي الترجمة لأنها معقودة لإثبات شهادتهن في الجملة، وقد اختلفوا فيما لا يطلع عليه الرجال هل يكفي فيه قول المرأة وحدها أم لا‏؟‏ فعند الجمهور لا بد من أربع، وعن مالك وابن أبي ليلى يكفي شهادة اثنتين، وعن الشعبي والثوري تجوز شهادتها وحدها في ذلك وهو قول الحنفية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد مختصرا وقد مضى بتمامه في الحيض، والغرض منه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ‏"‏‏؟‏ قال المهلب‏:‏ ويستنبط منه التفاضل بين الشهود بقدر عقلهم وضبطهم، فتقدم شهادة الفطن اليقظ على الصالح البليد، قال‏:‏ وفي الآية أن الشاهد إذا نسي الشهادة فذكره بها رفيقه حتى تذكرها أنه يجوز أن يشهد بها‏.‏

ومن اللطائف ما حكاه الشافعي عن أمه أنها شهدت عند قاضي مكة هي وامرأة أخرى، فأراد أن يفرق بينهما امتحانا فقالت له أم الشافعي‏:‏ ليس لك ذلك، لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏(‏أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى‏)‏ ‏.‏