فصل: باب جُلُودِ الْمَيْتَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب لَحْمِ الدَّجَاجِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب لحم الدجاج‏)‏ هو اسم جنس مثلث الدال، ذكره المنذري في الحاشية وابن مالك وغيرهما، ولم يحك النووي الضم، والواحدة دجاجة مثلث أيضا، وقيل إن الضم فيه ضعيف، قال الجوهري دخلتها الهاء للوحدة مثل الحمامة، وأفاد إبراهيم الحربي في ‏"‏ غريب الحديث ‏"‏ أن الدجاج بالكسر اسم للذكران دون الإناث والواحد منها ديك، وبالفتح الإناث دون الذكران والواحدة دجاجة بالفتح أيضا، قال‏:‏ وسمى لإسراعه في الإقبال والإدبار من دج يدج إذا أسرع‏.‏

قلت‏:‏ ودجاجة اسم امرأة وهي بالفتح فقط، ويسمى بها الكبة من الغزل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى يَعْنِي الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ دَجَاجًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا يحيى‏)‏ هو ابن موسى البلخي، نسبه أبو علي بن السكن، وجزم الكلاباذي وأبو نعيم بأنه ابن جعفر‏.‏

قوله ‏(‏عن أيوب‏)‏ في الرواية الثانية ‏"‏ ابن أبي تميمة ‏"‏ وهو السختياني، وعند أحمد عن عبد الله بن الوليد عن سفيان ‏"‏ حدثنا أيوب حدثني أبو قلابة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي قلابة‏)‏ كذا رواه سفيان الثوري عن أيوب ووافقه سفيان بن عيينة عن أيوب عند مسلم، وهكذا قال عبد السلام بن حرب عن أيوب كما مضى في المغازي‏.‏

وقال عبد الوارث كما في الحديث الذي يليه ‏"‏ عن أيوب عن القاسم ‏"‏ بدل أبي قلابة، وكذا قال ابن علية عن أيوب كما يأتي في الأيمان والنذور أيضا‏.‏

وقال حماد بن زيد ‏"‏ عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم ‏"‏ قال ‏"‏ وأنا لحديث قاسم أحفظ ‏"‏ أخرجه في فرض الخمس، وكذا قال وهيب عن أيوب عنهما عند مسلم‏.‏

قوله ‏(‏عن زهدم‏)‏ بفتح الزاي هو ابن مضرب بضم أوله وبفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء المكسورة بعدها موحدة ‏(‏الجرمي‏)‏ بفتح الجيم، بصرى ثقة، ليس له في البخاري سوى حديثين‏:‏ هذا الحديث وقد أخرجه في مواضع له، وحديث آخر أخرجه عن عمران بن حصين تقدم في المناقب وذكره في مواضع أخرى أيضا‏.‏

قوله ‏(‏رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل دجاجا‏)‏ كذا أورده مختصرا، وكذا ساقه أحمد عن وكيع، وأخرجه عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان أتم منه، وساقه الترمذي في ‏"‏ الشمائل ‏"‏ من وجه آخر مطولا، كما ذكره المصنف من طريق عبد الوارث عن أيوب عن القاسم وهو ابن عاصم التميمي، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، فقد أورده عنه في مواضع مقرونا ومفردا مختصرا ومطولا مشتملا على قصة الرجل الذي امتنع من أكل الدجاج وحلف على ذلك، وفتوى أبي موسى له بأن يكفر عن يمينه ويأكل، وقص له الحديث في ذلك وسببه، وهو طلبهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملهم، وقد أورد المصنف قصة الاستحمال وما يليها من حكم اليمين وكفارته دون قصة الدجاج أيضا من رواية غيلان بن جرير عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه في كفارة الأيمان، وأوردها أيضا في المغازي من طريق يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة أتم سياقا منه في قصة الاستحمال، وليس فيه ذكر كفارة اليمين، وقد أحلت في فرض الخمس وفي المغازي بشرحه على كتاب الأيمان والنذور، فأذكر هنا ما يتعلق بالدجاج‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ فَأُتِيَ بِطَعَامٍ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ جَالِسٌ أَحْمَرُ فَلَمْ يَدْنُ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ ادْنُ فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْهُ قَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُ أَكَلَ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ أَنْ لَا آكُلَهُ فَقَالَ ادْنُ أُخْبِرْكَ أَوْ أُحَدِّثْكَ إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ وَهُوَ يَقْسِمُ نَعَمًا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا قَالَ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْبٍ مِنْ إِبِلٍ فَقَالَ أَيْنَ الْأَشْعَرِيُّونَ أَيْنَ الْأَشْعَرِيُّونَ قَالَ فَأَعْطَانَا خَمْسَ ذَوْدٍ غُرَّ الذُّرَى فَلَبِثْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي نَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ فَوَاللَّهِ لَئِنْ تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ لَا نُفْلِحُ أَبَدًا فَرَجَعْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا اسْتَحْمَلْنَاكَ فَحَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا فَظَنَنَّا أَنَّكَ نَسِيتَ يَمِينَكَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ حَمَلَكُمْ إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏كنا عند أبي موسى الأشعري وكان بيننا وبينه هذا الحي‏)‏ بالخفض بدل من الضمير في بينه كذا قال ابن التين، وليس بجيد لأنه يصير تقدير الكلام أن زهدما الجرمي قال كان بيننا وبين هذا الحي من جرم إخاء، وليس ذلك المراد، وإنما المراد أن أبا موسى وقومه الأشعريين كانوا أهل مودة وإخاء لقوم زهدم وهم بنو جرم، وقد وقع هنا في رواية الكشميهني ‏"‏ وكان بيننا وبين هذا الحي ‏"‏ وكذا وقع في رواية إسماعيل عن أيوب عن القاسم وأبي قلابة كما سيأتي في كفارة الأيمان، وهو يؤيد ما قال ابن التين إلا أن المعنى لا يصح، وقد أخرجه في أواخر كتاب التوحيد من طريق عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم كلاهما عن زهدم قال ‏"‏ كان بين هذا الحي من جرم وبين الأشعريين ود أو إخاء ‏"‏ وهذه الرواية هي المعتمدة‏.‏

قوله ‏(‏إخاء‏)‏ بكسر أوله والمد قال ابن التين ضبطه بعضهم بالقصر وهو خطأ‏.‏

قوله ‏(‏وفي القوم رجل جالس أحمر‏)‏ أي اللون‏.‏

وفي رواية حماد بن زيد رجل من بني تيم الله أحمر كأنه من الموالي أي العجم، وهذا الرجل هو زهدم الراوي أبهم نفسه، فقد أخرج الترمذي من طريق قتادة عن زهدم قال ‏"‏ دخلت على أبي موسى وهو يأكل دجاجا فقال‏:‏ ادن فكل، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله ‏"‏ مختصرا‏.‏

وقد أشكل هذا لكونه وصف الرجل في رواية الباب بأنه من بني تيم الله وزهدم من بني جرم، فقال بعض الناس‏:‏ الظاهر أنهما امتنعا معا زهدم والرجل التيمي، وحمله على دعوى التعدد استبعاد أن يكون الشخص الواحد ينسب إلى تيم الله وإلى جرم، ولا بعد في ذلك بل قد أخرج أحمد الحديث المذكور عن عبد الله ابن الوليد هو العدني عن سفيان هو الثوري فقال في روايته ‏"‏ عن رجل من بني تيم الله يقال له زهدم قال‏:‏ كنا عند أبي موسى، فأتى بلحم دجاج ‏"‏ فعلى هذا فلعل زهدما كان تارة ينسب إلى بني جرم وتارة إلى بني تيم الله، وجرم قبيلة في قضاعة ينسبون إلى جرم بن زبان بزاي وموحدة ثقيلة ابن عمران بن الحاف بن قضاعة، وتيم الله بطن من بني كلب وهم قبيلة في قضاعة أيضا ينسبون إلى تيم الله بن رفيدة - براء وفاء مصغرا - ابن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، فحلوان عم جرم، قال الرشاطي في الأنساب‏:‏ وكثيرا ما ينسبون الرجل إلى أعمامه‏.‏

قلت‏:‏ وربما أبهم الرجل نفسه كما تقدم في عدة مواضع، فلا بعد في أن يكون زهدم صاحب القصة والأصل عدم التعدد، وقد أخرج البيهقي من طريق الفريابي عن الثوري بسنده المذكور في هذا الباب إلى زهدم قال ‏"‏ رأيت أبا موسى يأكل الدجاج فدعاني فقلت‏:‏ إني رأيته يأكل نتنا، قال ادنه فكل ‏"‏ فذكر الحديث المرفوع‏.‏

ومن طريق الصعق بن حزن عن مطر الوراق عن زهدم قال ‏"‏ دخلت على أبي موسى وهو يأكل لحم دجاج فقال‏:‏ ادن فكل، فقلت إني حلفت لا آكله ‏"‏ الحديث، وقد أخرجه موسى عن شيبان بن فروخ عن الصعق لكن لم يسق لفظه، وكذا أخرجه أبو عوانة في صحيحه من وجه آخر عن زهدم نحوه وقال فيه ‏"‏ فقال لي‏:‏ ادن فكل، فقلت‏:‏ إني لا أريده ‏"‏ الحديث‏.‏

فهذه عدة طرق صرح زهدم فيها بأنه صاحب القصة فهو المعتمد، ولا يعكر عليه إلا ما وقع في الصحيحين مما ظاهره المغايرة بين زهدم والممتنع من أكل الدجاج، ففي رواية عن زهدم ‏"‏ كنا عند أبي موسى فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي فقال‏:‏ هلم، فتلكأ ‏"‏ الحديث، فإن ظاهره أن الداخل دخل وزهدم جالس عند أبي موسى، لكن يجوز أن يكون مراد زهدم بقوله ‏"‏ كنا ‏"‏ قومه الذين دخلوا قبله على أبي موسى، وهذا مجاز قد استعمل غيره مثله كقول ثابت البناني ‏"‏ خطبنا عمران بن حصين ‏"‏ أي خطب أهل البصرة، ولم يدرك ثابت خطبة عمران المذكورة، فيحتمل أن يكون زهدم دخل فجرى له ما ذكر، وغاية ما فيه أنه أبهم نفسه، ولا عجب فيه والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏إني رأيته يأكل شيئا فقذرته‏)‏ بكسر الذال المعجمة‏.‏

وفي رواية أبي عوانة ‏"‏ إني رأيتها تأكل قذرا ‏"‏ وكأنه ظن أنها أكثرت من ذلك بحيث صارت جلاله فبين له أبو موسى أنها ليست كذلك أو أنه لا يلزم من كون تلك الدجاجة التي رآها كذلك أن يكون كل الدجاج كذلك‏.‏

قوله ‏(‏فقال ادن‏)‏ كذا للأكثر فعل أمر من الدنو، ووقع عند المستملي والسرخسي ‏"‏ إذا ‏"‏ بكسر الهمزة وبذال معجمة مع التنوين حرف نصب، وعلى الأول فقوله ‏"‏ أخبرك ‏"‏ مجزوم، وعلى الثاني هو منصوب، وقوله ‏"‏أو أحدثك ‏"‏ شك من الراوي‏.‏

قوله ‏(‏إني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ سيأتي شرحه في الأيمان والنذور، وقوله ‏"‏فأعطانا خمس ذود غر الذري ‏"‏ الغر بضم المعجمة جمع أغر والأغر الأبيض‏.‏

والذري بضم المعجمة والقصر جمع ذروة وذروة كل شيء أعلاه، والمراد هنا أسنمة الإبل ولعلها كانت بيضاء حقيقة، أو أراد وصفها بأنها لا علة فيها ولا دبر، ويجوز في غر النصب والجر، وقوله ‏"‏خمس ذود ‏"‏ كذا وقع بالإضافة، واستنكره أبو البقاء في غريبه قال‏:‏ والصواب تنوين خمس وأن يكون ذود بدلا من خمس، فإنه لو كان بغير تنوين لتغير المعنى، لأن العدد المضاف غير المضاف إليه فيلزم أن يكون خمس ذود خمسة عشر بعيرا لأن الإبل الذود ثلاثة انتهى، وما أدري كيف يحكم بفساد المعنى إذا كان العدد كذا؛ وليكن عدد الإبل خمسة عشر بعيرا فما الذي يضر‏؟‏ وقد ثبت في بعض طرقه ‏"‏ خذ هذين القرينين والقرينين ‏"‏ إلى أن عد ست مرات، والذي قاله إنما يتم أن لو جاءت رواية صريحة أنه لم يعطهم سوى خمسة أبعرة، وعلى تقدير ذلك فأطلق لفظ ذود على الواحد مجازا كإبل، وهذه الرواية الصحيحة لا تمنع إمكان التصوير‏.‏

وفي الحديث دخول المرء على صديقه في حال أكله، واستدناء صاحب الطعام الداخل وعرضه الطعام عليه ولو كان قليلا، لأن اجتماع الجماعة على الطعام سبب للبركة فيه كما تقدم‏.‏

وفيه جواز أكل الدجاج إنسيه ووحشيه، وهو بالاتفاق إلا عن بعض المتعمقين على سبيل الورع، إلا أن بعضهم استثنى الجلالة وهي ما تأكل الأقذار، وظاهر صنيع أبي موسى أنه لم يبال بذلك، والجلالة عبارة عن الدابة التي تأكل الجلة بكسر الجيم والتشديد وهي البعر، وادعى ابن حزم اختصاص الجلالة بذوات الأربع، والمعروف التعميم‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثا‏.‏

وقال مالك والليث‏:‏ لا بأس بأكل الجلالة من الدجاج وغيره، وإنما جاء النهي عنها للتقذر، وقد ورد النهي عن أكل الجلالة من طرق أصحها ما أخرجه الترمذي وصححه وأبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عكرمة عن ابن عباس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المجثمة، وعن لبن الجلالة، وعن الشرب من في السقاء ‏"‏ وهو على شرط البخاري في رجاله، إلا أن أيوب رواه عن عكرمة فقال ‏"‏ عن أبي هريرة ‏"‏ وأخرجه البيهقي والبزار من وجه آخر عن أبي هريرة ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة وعن شرب ألبانها وأكلها وركوبها ‏"‏ ولابن أبي شيبة بسند حسن عن جابر ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة أن يؤكل لحمها أو يشرب لبنها، ولأبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وعن الجلالة، عن ركوبها وأكل لحمها ‏"‏ وسنده حسن‏.‏

وقد أطلق الشافعية كراهة أكل الجلالة إذا تغير لحمها بأكل النجاسة، وفي وجه إذا أكثرت من ذلك، ورجح أكثرهم أنها كراهة تنزيه، وهو قضية صنيع أبي موسى، ومن حجتهم أن العلف الظاهر إذا صار في كرشها تنجس فلا تتغذى إلا بالنجاسة، ومع ذلك فلا يحكم على اللحم واللبن بالنجاسة‏.‏

فكذلك هذا‏.‏

وتعقب بأن العلف الطاهر إذا تنجس بالمجاورة جاز إطعامه للدابة لأنها إذا أكلته لا تتغذى بالنجاسة وإنما تتغذى بالعلف، بخلاف الجلالة، وذهب جماعة من الشافعية وهو قول الحنابلة إلى أن النهي للتحريم، وبه جزم ابن دقيق العيد عن الفقهاء، وهو الذي صححه أبو إسحاق المروزي والقفال وإمام الحرمين والبغوي والغزالي وألحقوا بلبنها ولحمها بيضها، وفي معنى الجلالة ما يتغذى بالنجس كالشاة ترضع من كلبة، والمعتبر في جواز أكل الجلالة زوال رائحة النجاسة بعد أن تعلف بالشيء الطاهر على الصحيح، وجاء عن السلف فيه توقيت فعند ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثا، كما تقدم‏.‏

وأخرج البيهقي بسند فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعا أنها لا تؤكل حتى تعلف أربعين يوما‏.‏

*3*باب لُحُومِ الْخَيْلِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب لحوم الخيل‏)‏ قال ابن المنير‏:‏ لم يذكر الحكم لتعارض الأدلة، كذا قال، ودليل الجواز ظاهر القوة كما سيأتي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلْنَاهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سفيان‏)‏ هو ابن عيينة، وهشام هو ابن عروة‏.‏

وفاطمة هي بنت المنذر بن الزبير وهي ابنة عم هشام المذكور وزوجته، وقد تقدم ذلك صريحا في ‏"‏ باب النحر والذبح‏"‏‏.‏

وقد اختلف في سنده على هشام فقال أيوب من رواية عبد الوهاب الثقفي عنه عن أبيه عن أسماء، وكذا قال ابن ثوبان من رواية عتبة بن حماد عنه عن هشام ابن عروة‏.‏

وقال المغيرة بن مسلم عن هشام عن أبيه عن الزبير بن العوام أخرجه البزار، وذكر الدار قطني الاختلاف ثم رجح رواية ابن عيينة ومن وافقه‏.‏

قوله ‏(‏نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه‏)‏ زاد عبدة بن سليمان عن هشام ‏"‏ ونحن بالمدينة ‏"‏ وقد تقدم ذلك قبل بابين‏.‏

وفي رواية للدار قطني ‏"‏ فأكلناه نحن وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وتقدم الاختلاف في قولها ‏"‏ نحرنا ‏"‏ و ‏"‏ ذبحنا ‏"‏ واختلف الشارحون في توجيهه فقيل يحمل النحر على الذبح مجازا‏.‏

وقيل وقع ذلك مرتين، وإليه جنح النووي، وفيه نظر لأن الأصل عدم التعدد والمخرج متحد، والاختلاف فيه على هشام‏:‏ فبعض الرواة قال عنه نحرنا وبعضهم قال ذبحنا، والمستفاد من ذلك جواز الأمرين عندهم وقيام أحدهما في التذكية مقام الآخر، وإلا لما ساغ لهم الإتيان بهذا موضع هذا، وأما الذي وقع بعينه فلا يتحرر لوقوع التساوي بين الرواة المختلفين في ذلك، ويستفاد من قولها ‏"‏ ونحن بالمدينة ‏"‏ أن ذلك بعد فرض الجهاد، فيرد على من استند إلى منع أكلها بعلة أنها من آلات الجهاد، ومن قولها ‏"‏ نحن وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الرد على من زعم أنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد لم يظن بآل أبي بكر أنهم يقدمون على فعل شيء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وعندهم العلم بجوازه، لشدة اختلاطهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدم مفارقتهم له، هذا مع توفر داعية الصحابة إلى سؤاله عن الأحكام، ومن ثم كان الراجح أن الصحابي إذا قال ‏"‏ كنا نفعل كذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كان له حكم الرفع، لأن الظاهر إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك في مطلق الصحابي فكيف بآل أبي بكر الصديق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حماد‏)‏ هو ابن زيد، وعمرو هو ابن دينار، ومحمد بن علي أي ابن الحسين بن علي وهو الباقر أبو جعفر كذا أدخل حماد بن زيد بين عمرو بن دينار وبين جابر في هذا الحديث محمد بن علي ولما أخرجه النسائي قال‏:‏ لا أعلم أحدا وافق حمادا على ذلك، وأخرجه من طريق حسين بن واقد، وأخرجه هو والترمذي من رواية سفيان بن عيينة كلاهما عن عمرو بن دينار عن جابر ليس فيه محمد بن علي، ومال الترمذي أيضا إلى ترجيح رواية ابن عيينة وقال‏:‏ سمعت محمدا يقول ابن عيينة أحفظ من حماد‏.‏

قلت‏:‏ لكن اقتصر البخاري ومسلم على تخريج طريق حماد بن زيد، وقد وافقه ابن جريج عن عمرو على إدخال الواسطة بين عمرو وجابر لكنه لم يسمه، أخرجه أبو داود من طريق ابن جريج، وله طريق أخرى عن جابر أخرجها مسلم من طريق ابن جريج، وأبو داود من طريق حماد، والنسائي من طريق حسين بن واقد كلهم عن أبي الزبير عنه، وأخرجه النسائي صحيحا عن عطاء عن جابر أيضا، وأغرب البيهقي فجزم بأن عمرو بن دينار لم يسمعه من جابر، واستغرب بعض الفقهاء دعوى الترمذي أن رواية ابن عيينة أصح مع إشارة البيهقي إلى أنها منقطعة، وهو ذهول فإن كلام الترمذي محمول على أنه صح عنده اتصاله، ولا يلزم من دعوى البيهقي انقطاعه كون الترمذي يقول بذلك، والحق أنه إن وجدت رواية فيها تصريح عمرو بالسماع من جابر فتكون رواية حماد من المزيد في متصل بالأسانيد وإلا فرواية حماد بن زيد هي المتصلة وعلى تقدير وجود التعارض من كل جهة فللحديث طرق أخرى عن جابر غير هذه، فهو صحيح على كل حال‏.‏

قوله ‏(‏يوم خيبر عن لحوم الحمر‏)‏ زاد مسلم في روايته ‏"‏ الأهلية‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ورخص في لحوم الخيل‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ وأذن ‏"‏ بدل ‏"‏ رخص‏"‏، وله في رواية ابن جريج ‏"‏ أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي ‏"‏ وفي حديث ابن عباس عند الدار قطني ‏"‏ أمر‏"‏‏.‏

قال الطحاوي‏:‏ وذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل وخالفه صاحباه وغيرهما، واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها، ولو كان ذلك مأخوذا من طريق النظر لما كان بين الخيل والحمر الأهلية فرق، ولكن الآثار إذا صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يقال بها مما يوجبه النظر، ولا سيما وقد أخبر جابر أنه صلى الله عليه وسلم أباح لهم لحوم الخيل في الوقت الذي منعهم فيه من لحوم الحمر، فدل ذلك على اختلاف حكمهما‏.‏

قلت‏:‏ وقد نقل الحل بعض التابعين عن الصحابة من غير استثناء أحد، فأخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عطاء قال ‏"‏ لم يزل سلفك يأكلونه‏.‏

قال ابن جريج‏:‏ قلت له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏"‏‏.‏

وأما ما نقل في ذلك عن ابن عباس من كراهتها فأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين، ويدل على ضعف ذلك عنه ما سيأتي في الباب الذي بعده صحيحا عنه أنه استدل لإباحة الحمر الأهلية بقوله تعالى ‏(‏قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما‏)‏ فإن هذا إن صلح مستمسكا لحل الحمر صلح للخيل ولا فرق، وسيأتي فيه أيضا أنه توقف في سبب المنع من أكل الحمر هل كان تحريما مؤبدا أو بسبب كونها كانت حمولة الناس‏؟‏ وهذا يأتي مثله من الخيل أيضا فيبعد أن يثبت عنه القول بتحريم الخيل والقول بالتوقف في الحمر الأهلية، بل أخرج الدار قطني بسند قوي عن ابن عباس مرفوعا مثل حديث جابر ولفظه ‏"‏ نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل ‏"‏ وصح القول بالكراهة عن الحكم بن عيينة ومالك وبعض الحنفية، وعن بعض المالكية والحنفية التحريم‏.‏

وقال الفاكهي‏:‏ المشهور عند المالكية الكراهة، والصحيح عند المحققين منهم التحريم‏.‏

وقال أبو حنيفة في ‏"‏ الجامع الصغير ‏"‏‏:‏ أكره لحم الخيل فحمله أبو بكر الرازي على التنزيه وقال‏:‏ لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم وليس هو عنده كالحمار الأهلي، وصحح عنه أصحاب المحيط والهداية والذخيرة التحريم، وهو قول أكثرهم، وعن بعضهم يأثم آكله ولا يسمى حراما، وروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك المنع وإنه احتج بالآية الآتي ذكرها‏.‏

وأخرج محمد بن الحسن في ‏"‏ الآثار ‏"‏ عن أبي حنيفة بسند له عن ابن عباس نحو ذلك‏.‏

وقال القرطبي في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏‏:‏ مذهب مالك الكراهة، واستدل له ابن بطال بالآية‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ الشبه الخلقي بينها وبين البغال والحمير مما يؤكد القول بالمنع، فمن ذلك هيئتها وزهومة لحمها، وغلظة، وصفة أرواثها، وأنها لا تجتر، قال‏:‏ وإذا تأكد الشبة الخلقي التحق بنفي الفارق وبعد الشبه بالأنعام المتفق على أكلها ا هـ‏.‏

وقد تقدم من كلام الطحاوي ما يؤخذ منه الجواب عن هذا‏.‏

وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة‏:‏ الدليل في الجواز مطلقا واضح، لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالبا في الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله ولو كثر لأدى إلى قتلها فيفضي إلى فنائها فيئول إلى النقص من إرهاب العدو الذي وقع الأمر به في قوله تعالى ‏(‏ومن رباط الخيل‏)‏ ‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا فالكراهة لسبب خارج وليس البحث فيه، فإن الحيوان المتفق على إباحته لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكاب محذور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه، وكذا قوله إن وقوع أكلها في الزمن النبوي كان نادرا، فإذا قيل بالكراهة قل استعماله فيوافق ما وقع قبل انتهى‏.‏

وهذا لا ينهض دليلا للكراهة بل غايته أن يكون خلاف الأولى، ولا يلزم من كون أصل الحيوان حل أكله فناؤه بالأكل‏.‏

وأما قول بعض المانعين لو كانت حلالا لجازت الأضحية بها فمنتض بحيوان البر فإنه مأكول ولم تشرع الأضحية به، ولعل السبب في كون الخيل لا تشرع الأضحية بها استبقاؤها لأنه لو شرع فيها جميع ما جاز في غيرها لفاتت المنفعة بها في أهم الأشياء منها وهو الجهاد‏.‏

وذكر الطحاوي وأبو بكر الرازي وأبو محمد بن حزم من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر والخيل والبغال ‏"‏ قال الطحاوي‏:‏ وأهل الحديث يضعفون عكرمة ابن عمار‏.‏

قلت‏:‏ لا سيما في يحيى بن أبي كثير، فإن عكرمة وإن كان مختلفا في توثيقه فقد أخرج له مسلم، لكن إنما أخرج له من غير روايته عن يحيى بن أبي كثير، وقد قال يحيى بن سعيد القطان‏:‏ أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير ضعيفة‏.‏

وقال البخاري حديثه عن يحيى مضطرب‏.‏

وقال النسائي‏:‏ ليس به بأس إلا في يحيى‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حديثه عن غير إياس بن سلمة مضطرب، وهذا أشد مما قبله، ودخل في عمومه يحيى بن أبي كثير أيضا، وعلى تقدير صحة هذه الطريق فقد اختلف عن عكرمة فيها، فإن الحديث عند أحمد والترمذي من طريقه ليس فيه للخيل ذكر، وعلى تقدير أن يكون الذي زاده حفظه فالروايات المتنوعة عن جابر المفصلة بين لحوم الخيل والحمر في الحكم أظهر اتصالا وأتقن رجالا وأكثر عددا، وأعل بعض الحنفية حديث جابر بما نقله عن ابن إسحاق أنه لم يشهد خيبر، وليس بعلة لأن غايته أن يكون مرسل صحابي، ومن حجج من منع أكل الخيل حديث خالد ابن الوليد المخرج في السنن ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الخيل ‏"‏ وتعقب بأنه شاذ منكر، لأن في سياقه أنه شهد خيبر، وهو خطأ فإنه لم يسلم إلا بعدها على الصحيح، والذي جزم به الأكثر أن إسلامه كان سنة الفتح، والعمدة في ذلك على ما قال مصعب الزبيري وهو أعلم الناس بقريش قال ‏"‏ كتب الوليد ابن الوليد إلى خالد حين فر من مكة في عمرة القضية حتى لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فذكر القصة في سبب إسلام خالد، وكانت عمرة القضية بعد خيبر جزما، وأعل أيضا بأن في السند راويا مجهولا، لكن قد أخرج الطبري من طريق يحيى بن أبي كثير عن رجل من أهل حمص قال‏:‏ كنا مع خالد، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها، وأعل بتدليس يحيى وإبهام الرجل، وادعى أبو داود أن حديث خالد بن الوليد منسوخ ولم يبين ناسخه، وكذا قال النسائي‏:‏ الأحاديث في الإباحة أصح، وهذا إن صح كان منسوخا، وكأنه لما تعارض عنده الخبران ورأى في حديث خالد ‏"‏ نهى ‏"‏ وفي حديث جابر ‏"‏ أذن ‏"‏ حمل الإذن على نسخ التحريم وفيه نظر لأنه لا يلزم من كون النهي سابقا على الإذن أن يكون إسلام خالد سابقا على فتح خيبر، والأكثر على خلافه والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وقد قرر الحازمي النسخ بعد أن ذكر حديث خالد وقال‏:‏ هو شامي المخرج، جاء من غير وجه بما ورد في حديث جابر من ‏"‏ رخص ‏"‏ و ‏"‏ أذن ‏"‏ لأنه من ذلك يظهر أن المنع كان سابقا والإذن متأخرا فيتعين المصير إليه، قال‏:‏ ولو لم ترد هذه اللفظة لكانت دعوى النسخ مردودة لعدم معرفة التاريخ ا هـ‏.‏

وليس في لفظ رخص وأذن ما يتعين معه المصير إلى النسخ، بل الذي يظهر أن الحكم في الخيل والبغال والحمير كان على البراءة الأصلية، فلما نهاهم الشارع يوم خيبر عن الحمر والبغال خشي أن يظنوا أن الخيل كذلك لشبهها بها فأذن في أكلها دون الحمير والبغال، والراجح أن الأشياء قبل بيان حكمها في الشرع لا توصف لا بحل ولا حرمة فلا يثبت النسخ في هذا‏.‏

ونقل الحازمي أيضا تقرير النسخ بطريق أخرى فقال‏:‏ إن النهي عن أكل الخيل والحمير كان عاما من أجل أخذهم لها قبل القسمة والتخميس، ولذلك أمر بإكفاء القدور، ثم بين بندائه بأن لحوم الحمر رجس أن تحريمها لذاتها، وأن النهي عن الخيل إنما كان بسبب ترك القسمة خاصة‏.‏

ويعكر عليه أن الأمر بإكفاء القدور إنما كان بطبخهم فيها الحمر كما هو مصرح به في الصحيح لا الخيل فلا يتم مراده، والحق أن حديث خالد ولو سلم أنه ثابت لا ينهض معارضا لحديث جابر الدال على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء، وقد ضعف حديث خالد أحمد والبخاري وموسى بن هارون والدار قطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون، وجمع بعضهم بين حديث جابر وخالد بأن حديث جابر دال على الجواز في الجملة وحديث خالد دال على المنع في حالة دون حالة، لأن الخيل في خيبر كانت عزيزة وكانوا محتاجين إليها للجهاد، فلا يعارض النهي المذكور، ولا يلزم وصف أكل الخيل بالكراهة المطلقة فضلا عن التحريم‏.‏

وقد وقع عند الدار قطني في حديث أسماء ‏"‏ كانت لنا فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرادت أن تموت فذبحناها فأكلناها ‏"‏ وأجاب عن حديث أسماء بأنها واقعة عين فلعل تلك الفرس كانت كبرت بحيث صارت لا ينتفع بها في الجهاد فيكون النهي عن الخيل لمعنى خارج لا لذاتها، وهو جمع جيد، وزعم بعضهم أن حديث جابر في الباب دال على التحريم لقوله ‏"‏ رخص ‏"‏ لأن الرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع، فدل على أنه رخص لهم فيها بسبب المخمصة التي أصابتهم بخيبر، فلا يدل ذلك على الحل المطلق‏.‏

وأجيب بأن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن وبعضها بالأمر فدل على أن المراد بقوله رخص أذن لا خصوص الرخصة باصطلاح من تأخر عن عهد الصحابة‏.‏

ونوقض أيضا بأن الإذن في أكل الخيل لو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك لكثرتها وعزة الخيل حينئذ، ولأن الخيل ينتفع بها فيما ينتفع بالحمير من الحمل وغيره، والحمير لا ينتفع بها فيما ينتفع بالخيل من القتال عليها، والواقع كما سيأتي صريحا في الباب الذي يليه أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة القدور التي طبخت فيها الحمر مع ما كان بهم من الحاجة فدل ذلك على أن الإذن في أكل الخيل إنما كان للإباحة العامة لا لخصوص الضرورة، وأما ما نقل عن ابن عباس ومالك وغيرهما من الاحتجاج للمنع بقوله تعالى ‏(‏والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة‏)‏ فقد تمسك بها أكثر القائلين بالتحريم، وقرروا ذلك بأوجه‏:‏ أحدها أن اللام للتعليل فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية‏.‏

ثانيها عطف البغال والحمير فدل على اشتراكها معها في حكم التحريم فيحتاج من أفرد حكمها عن حكم ما عطفت عليه إلى دليل‏.‏

ثالثها أن الآية سبقت مساق الامتنان، فلو كانت ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم لأنه يتعلق به بقاء البنية بغير واسطة، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها، ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها‏.‏

رابعها لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة، هذا ملخص ما تمسكوا به من هذه الآية، والجواب على سبيل الإجمال أن آية النحل مكية اتفاقا والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النبي صلى الله عليه وسلم من الآية المنع لما أذن في الأكل‏.‏

وأيضا فآية النحل ليست نصا في منع الأكل، والحديث صريح في جوازه‏.‏

وأيضا على سبيل التنزل فإنما يدل ما ذكر على ترك الأكل، والترك أعم من أن يكون للتحريم أو للتنزيه أو خلاف الأولى، وإذا لم يتعين واحد منها بقي التمسك بالأدلة المصرحة بالجواز وعلى سبيل التفصيل، أما أولا فلو سلمنا أن اللام للتعليل لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة، فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما وفي غير الأكل اتفاقا، وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل، ونظيره حديث البقرة المذكور في الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت ‏"‏ إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث ‏"‏ فإنه مع كونه أصرح في الحصر لم يقصد به الأغلب، وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقا، وأيضا فلو سلم الاستدلال للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير، ولا قائل به‏.‏

وأما ثانيا فدلالة العطف إنما هي دلالة اقتران، وهي ضعيفة‏.‏

وأما ثالثا فالامتنان إنما قصد به غالبا ما كان يقع به انتفاعهم بالخيل فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم، بخلاف الأنعام فإن أكثر انتفاعهم بها كان لخمل الأثقال وللأكل فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق للزم مثله في الشق الآخر‏.‏

وأما رابعا فلو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى للزم مثله في البقر وغيرها مما أبيح أكله ووقع الامتنان بمنفعة له أخرى، والله أعلم‏.‏

*3*باب لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ

فِيهِ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب لحوم الحمر الإنسية‏)‏ القول في عدم جزمه بالحكم في هذا كالقول في الذي قبله، لكن الراجح في الحمر المنع بخلاف الخيل، والإنسية بكسر الهمزة وسكون النون منسوبة إلى الإنس، ويقال فيه أنسية بفتحتين، وزعم ابن الأثير أن في كلام أبي موسى المديني ما يقتضي أنها بالضم ثم السكون لقوله الأنسية هي التي تألف البيوت، والأنس ضد الوحشة، ولا حجة في ذلك لأن أبا موسى إنما قاله بفتحتين، وقد صرح الجوهري أن الأنس بفتحتين ضد الوحشة، ولم يقع في شيء من روايات الحديث بضم ثم سكون مع احتمال جوازه، نعم زيف أبو موسى الرواية بكسر أوله ثم السكون، فقال ابن الأثير‏:‏ إن أراد من جهة الرواية فعسى، وإلا فهو ثابت في اللغة‏.‏

ونسبتها إلى الأنس، وقد وقع في حديث أبي ثعلبة وغيره ‏"‏ الأهلية ‏"‏ بدل الأنسية، ويؤخذ من التقييد بها جواز أكل الحمر الوحشية، وقد تقدم صريحا في حديث أبي قتادة في الحج‏.‏

قوله ‏(‏فيه سلمة‏)‏ هو ابن الأكوع وقد تقدم حديثه موصولا في المغازي مطولا‏.‏

ثم ذكر في الباب أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَالِمٍ وَنَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ تَابَعَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَالِمٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عبدة‏)‏ هو ابن سليمان وعبيد الله هو العمري‏.‏

قوله ‏(‏عن سالم ونافع‏)‏ كذا قال عبد الله بن نمير عن عبيد الله عند مسلم ومحمد بن عبيد عنه كما سبق في المغازي، ثم ساقه المصنف من طريق يحيى القطان عن عبيد الله عن نافع وحده، وقوله ‏"‏تابعه ابن المبارك ‏"‏ وصله المؤلف في المغازي‏.‏

قوله ‏(‏وقال أبو أسامة عن عبيد الله عن سالم‏)‏ وصله في المغازي من طريقه، وفصل في روايته بين أكل الثوم والحمر، فبين أن النهي عن الثوم من رواية نافع فقط، وأن النهي عن الحمر عن سالم فقط، وهو تفصيل بالغ، لكن يحيى القطان حافظ فلعل عبيد الله لم يفصله إلا لأبي أسامة، وكان يحدث به عن سالم ونافع معا مدمجا فاقتصر بعض الرواة عنه على أخذ شيخه تمسكا بظاهر الإطلاق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ وَعَنْ لُحُومِ حُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ

الشرح‏:‏

حديث علي، ذكره مختصرا وتقدم مطولا في كتاب النكاح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ

الشرح‏:‏

حديث جابر، قد سبق في الباب الذي قبله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَدِيٌّ عَنْ الْبَرَاءِ وَابْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ

الشرح‏:‏

حديث البراء وابن أبي أوفى أورده مختصرا، وقد تقدم عنهما أتم سياقا من هذا في المغازي، وأفرده عن ابن أبي أوفى هنا وفي فرض الخمس وفيه زيادة اختلافهم في السبب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَبَا إِدْرِيسَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ قَالَ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وَعُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَالَ مَالِكٌ وَمَعْمَرٌ وَالْمَاجِشُونُ وَيُونُسُ وَابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسحاق‏)‏ هو ابن راهويه، ويعقوب بن إبراهيم أي ابن سعيد، وصالح هو ابن كيسان‏.‏

قوله ‏(‏حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية‏)‏ تابعه الزبيدي وعقيل عن الزهري، فرواية الزبيدي وصلها النسائي من طريق بقية قال ‏"‏ حدثني الزبيدي - ولفظه - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن لحوم الحمر الأهلية ‏"‏ ورواية عقيل وصلها أحمد بلفظ الباب وزاد ‏"‏ ولحم كل ذي ناب من السباع ‏"‏ وسيأتي البحث فيه بعد هذا‏.‏

ووقع عند النسائي من وجه آخر عن أبي ثعلبة فيه قصة ولفظه ‏"‏ غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر والناس جياع، فوجدوا حمرا أنسية فذبحوا منها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف فنادى‏:‏ ألا إن لحوم الحمر الأنسية لا تحل‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وقال مالك ومعمر والماجشون ويونس وابن إسحاق عن الزهري‏:‏ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع‏)‏ يعني لم يتعرضوا فيه لذكر الحمر، فأما حديث مالك فسيأتي موصولا في الباب الذي يليه، وأما حديث معمر ويونس فوصلهما الحسن بن سفيان من طريق عبد الله بن المبارك عنهما، وأما حديث الماجشون وهو يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة فوصله مسلم عن يحيى بن يحيى عنه، وأما حديث ابن إسحاق فوصلة إسحاق بن راهويه عن عبدة بن سليمان ومحمد بن عبيد كلاهما عنه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ أُكِلَتْ الْحُمُرُ ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ أُكِلَتْ الْحُمُرُ ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ أُفْنِيَتْ الْحُمُرُ فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى فِي النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ فَأُكْفِئَتْ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ

الشرح‏:‏

حديث أنس في النداء بالنهي عن لحوم الحمر، وقع عند مسلم أن الذي نادى بذلك هو أبو طلحة وعزاه النووي لرواية أبي يعلى فنسب إلى التقصير، ووقع عند مسلم أيضا أن بلالا نادى بذلك، وقد تقدم قريبا عند النسائي أن المنادي بذلك عبد الرحمن بن عوف، ولعل عبد الرحمن نادى أولا بالنهي مطلقا، ثم نادى أبو طلحة وبلال بزيادة على ذلك وهو قوله ‏"‏ فإنها رجس، فأكفئت القدور وإنها لتفور باللحم ‏"‏ ووقع في ‏"‏ الشرح الكبير للرافعي ‏"‏ أن المنادي بذلك خالد بن الوليد وهو غلط فإنه لم يشهد خيبر وإنما أسلم بعد فتحها‏.‏

قوله ‏(‏جاءه جاء فقال‏:‏ أكلت الحمر‏)‏ لم أعرف اسم هذا الرجل ولا اللذين بعده، ويحتمل أن يكونوا واحدا فإنه قال أولا‏:‏ ‏"‏ أكلت ‏"‏ فإما لم يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وإما لم يكن أمر فيها بشيء، وكذا في الثانية، فلما قال الثالثة ‏"‏ أفنيت الحمر ‏"‏ أي لكثرة ما ذبح منها لتطبخ صادف نزول الأمر بتحريمها، ولعل هذا مستند من قال‏:‏ إنما نهى عنها لكونها كانت حمولة الناس كما سيأتي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ حُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَقَالَ قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَاكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ وَلَكِنْ أَبَى ذَاكَ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَرَأَ قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سفيان‏)‏ هو ابن عيينة وعمرو هو ابن دينار‏.‏

قوله ‏(‏قلت لجابر بن زيد‏)‏ هو أبو الشعثاء بمعجمة ومثلثة البصري‏.‏

قوله ‏(‏يزعمون‏)‏ لم أقف على تسمية أحد منهم، وقد تقدم في الباب الذي قبله أن عمرو بن دينار روى ذلك عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله، وأن من الرواة من قال عنه عن جابر بلا واسطة‏.‏

قوله ‏(‏قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة‏)‏ زاد الحميدي في مسنده عن سفيان بهذا السند ‏"‏ قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وأخرجه أبو داود من رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار مضموما إلى حديث جابر بن عبد الله في النهي عن لحوم الحمر مرفوعا‏.‏

ولم يصرح برفع حديث الحكم‏.‏

قوله ‏(‏ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس‏)‏ و ‏"‏ أبى ‏"‏ من الإباء أي امتنع، والبحر صفة لابن عباس قيل له لسعة علمه، وهو من تقديم الصفة على الموصوف مبالغة في تعظيم الموصوف كأنه صار علما عليه، وإنما ذكر لشهرته بعد ذلك لاحتمال خفائه على بعض الناس، ووقع في رواية ابن جريج ‏"‏ وأبى ذلك البحر يريد ابن عباس ‏"‏ وهذا يشعر بأن في رواية ابن عيينة إدراجا‏.‏

قوله ‏(‏وقرأ قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما‏)‏ في رواية ابن مردويه وصححه الحاكم من طريق محمد بن شريك عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال ‏"‏ كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا ‏"‏ فبعث لله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فيه فهو حلال، وما حرم فيه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو‏.‏

وتلا هذه‏:‏ قل لا أجد إلى آخرها ‏"‏ والاستدلال بهذا للحل إنما يتم فيما لم يأت فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمه، وقد تواردت الأخبار بذلك والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل وعلى القياس، وقد تقدم في المغازي عن ابن عباس أنه توقف في النهي عن الحمر‏:‏ هل كان لمعنى خاص، أو للتأييد‏؟‏ ففيه عن الشعبي عنه أنه قال‏:‏ لا أدري أنهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرمها البتة يوم خيبر‏؟‏ وهذا التردد أصح من الخبر الذي جاء عنه بالجزم بالعلة المذكورة، وكذا فيما أخرجه الطبراني وابن ماجه من طريق شقيق بن سلمة عن ابن عباس قال ‏"‏ إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية مخافة قلة الظهر ‏"‏ وسنده ضعيف، وتقدم في المغازي في حديث ابن أبي أوفى‏:‏ فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس ‏"‏ وقال بعضهم نهى عنها لأنها كانت تأكل العذرة‏.‏

قلت‏:‏ وقد أزال هذه الاحتمالات من كونها لم تخمس أو كانت جلالة أو كانت انتهبت حديث أنس المذكور قبل هذا حيث جاء فيه ‏"‏ فإنها رجس ‏"‏ وكذا الأمر بغسل الإناء في حديث سلمة، قال القرطبي‏:‏ قوله ‏"‏ فإنها رجس ‏"‏ ظاهر في عود الضمير على الحمر لأنها المتحدث عنها المأمور بإكفائها من القدور وغسلها، وهذا حكم المتنجس، فيستفاد منه تحريم أكلها، وهو دال على تحريمها لعينها لا لمعنى خارج‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ الأمر بإكفاء القدر ظاهر إنه سبب تحريم لحم الحمر، وقد وردت علل أخرى إن صح رفع شيء منها وجب المصير إليه، لكن لا مانع أن يعلل الحكم بأكثر من علة، وحديث أبي ثعلبة صريح في التحريم فلا معدل عنه‏.‏

وأما التعليل بخشية قلة الظهر فأجاب عنه الطحاوي بالمعارضة بالخيل، فإن في حديث جابر النهي عن الحمر والإذن في الخيل مقرونا، فلو كانت العلة لأجل الحمولة لكانت الخيل أولى بالمنع لقلتها عندهم وعزتها وشدة حاجتهم إليها‏.‏

والجواب عن آية الأنعام أنها مكية وخبر التحريم متأخر جدا فهو مقدم، وأيضا فنص الآية خبر عن الحكم الموجود عند نزولها، فإنه حينئذ لم يكن نزل في تحريم المأكول إلا ما ذكر فيها، وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها، وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها كالخمر في آية المائدة، وفيها أيضا تحريم ما أهل لغير الله به والمنخنقة إلى آخره، وكتحريم السباع والحشرات، قال النووي‏:‏ قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم، ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافا لهم إلا عن ابن عباس، وعند المالكية ثلاث روايات ثالثها الكراهة، وأما الحديث الذي أخرجه أبو داود عن غالب بن الحر قال ‏"‏ أصابتنا سنة، فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية وقد أصابتنا سنة، قال‏:‏ أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل حوالي القرية ‏"‏ يعني الجلالة، وإسناده ضعيف، والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، فالاعتماد عليها‏.‏

وأما الحديث الذي أخرجه الطبراني عن أم نصر المحاربية ‏"‏ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية فقال‏:‏ أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال فأصب من لحومها ‏"‏ وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرة قال ‏"‏ سألت ‏"‏ فذكر نحوه، ففي السندين مقال، ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التحريم‏.‏

قال الطحاوي‏:‏ لو تواتر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الحمر الأهلية لكان النظر يقتضي حلها لأن كل ما حرم من الأهلي أجمع على تحريمه إذا كان وحشيا كالخنزير، وقد أجمع العلماء على حل الحمار الوحشي فكان النظر يقتضي حل الحمار الأهلي‏.‏

قلت‏:‏ ما ادعاه من الإجماع مردود، فإن كثيرا من الحيوان الأهلي مختلف في نظيره من الحيوان الوحشي كالهر، وفي الحديث أن الذكاة لا تطهر ما لا يحل أكله، وإن كل شيء تنجس بملاقاة النجاسة يكفي غسله مرة واحدة لإطلاق الأمر بالغسل فإنه يصدق بالامتثال بالمرة، والأصل أن لا زيادة عليها، وأن الأصل في الأشياء الإباحة لكون الصحابة أقدموا على ذبحها وطبخها كسائر الحيوان من قبل أن يستأمروا مع توفر دواعيهم على السؤال عما يشكل، وأنه ينبغي لأمير الجيش تفقد أحوال رعيته، ومن رآه فعل ما لا يسوغ في الشرع أشاع منعه إما بنفسه كأن يخاطبهم وإما بغيره بأن يأمر مناديا فينادي لئلا يغتر به من رآه فيظنه جائزا‏.‏

*3*باب أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب أكل كل ذي ناب من السباع‏)‏ لم يبت القول بالحكم للاختلاف فيه أو للتفصيل كما سأبينه‏.‏

قوله ‏(‏من السباع‏)‏ يأتي في الطب بلفظ ‏"‏ من السبع ‏"‏ وليس المراد حقيقة الإفراد بل هو اسم جنس‏.‏

وفي رواية ابن عيينة في الطب أيضا عن الزهري ‏"‏ قال ولم أسمعه حتى أتيت الشام ‏"‏ ولمسلم من رواية يونس عن الزهري ‏"‏ ولم أسمع ذلك من علمائنا بالحجاز حتى حدثني أبو إدريس وكان من فقهاء أهل الشام ‏"‏ وكأن الزهري لم يبلغه حديث عبيدة بن سفيان وهو مدني عن أبي هريرة، وهو صحيح أخرجه مسلم من طريقه ولفظه ‏"‏ كل ذي ناب من السباع فأكله حرام ‏"‏ ولمسلم أيضا من طريق ميمون بن مهران عن ابن عباس ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ‏"‏ والمخلب بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح اللام بعدها موحدة وهو للطير كالظفر لغيره لكنه أشد منه وأغلظ واحد فهو له كالناب للسبع‏.‏

وأخرج الترمذي من حديث جابر بسند لا بأس به قال ‏"‏ حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمر الإنسية ولحوم البغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ‏"‏ ومن حديث العرباض بن سارية مثله وزاد ‏"‏ يوم خيبر‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ تَابَعَهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَالْمَاجِشُونُ عَنْ الزُّهْرِيِّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏تابعه يونس ومعمر وابن عيينة والماجشون عن الزهري‏)‏ تقدم بيان من وصل أحاديثهم في الباب قبله، إلا ابن عيينة فقد أشرت إليه في هذا الباب قريبا، قال الترمذي‏:‏ العمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وعن بعضهم لا يحرم، وحكى ابن وهب وابن عبد الحكم عن مالك كالجمهور‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ المشهور عنه الكراهة‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ اختلف فيه علي ابن عباس وعائشة وجابر عن ابن عمر من وجه ضعيف، وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير، واحتجوا بعموم ‏(‏قل لا أجد‏)‏ ، والجواب أنها مكية وحديث التحريم بعد الهجرة‏.‏

ثم ذكر نحوه ما تقدم من أن نصر الآية عدم تحريم غير ما ذكر إذ ذاك، فليس فيها نفي ما سيأتي، وعن بعضهم أن آية الأنعام خاصة ببهيمة الأنعام لأنه تقدم قبلها حكاية عن الجاهلية أنهم كانوا يحرمون أشياء من الأزواج الثمانية بآرائهم فنزلت الآية ‏(‏قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما‏)‏ أي من المذكورات إلا الميتة منها والدم المسفوح، ولا يرد كون لحم الخنزير ذكر معها لأنها قرنت به علة تحريمه وهو كونه رجسا، ونقل إمام الحرمين عن الشافعي أنه يقول بخصوص السبب إذا ورد في مثل هذه القصة لأنه لم يجعل الآية حاصرة لما يحرم من المأكولات مع ورود صيغة العموم فيها، وذلك أنها وردت في الكفار الذين يحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ويحرمون كثيرا مما أباحه الشرع، فكأن الغرض من الآية إبانة حالهم وأنهم يضادون الحق، فكأنه قيل لا حرام إلا ما حللتموه مبالغة في الرد عليهم، وحكى القرطبي عن قوم أن آية الأنعام المذكورة نزلت في حجة الوداع فتكون ناسخة، ورد بأنها مكية كما صرح به كثير من العلماء، ويؤيده ما تقدم قبلها من الآيات من الرد على مشركي العرب في تحريمهم ما حرموه من الأنعام وتخصيصهم بعض ذلك بآلهتهم إلى غير ذلك مما سبق للرد عليهم، وذلك كله قبل الهجرة إلى المدينة‏.‏

واختلف القائلون بالتحريم في المراد بما له ناب فقيل‏:‏ إنه ما يتقوى به ويصول على غيره ويصطاد ويعدو بطبعه غالبا كالأسد والفهد والصقر والعقاب، وأما ما لا يعود كالضبع والثعلب فلا، وإلى هذا ذهب الشافعي والليث ومن تبعهما، وقد ورد في حل الضبع أحاديث لا بأس بها، وأما الثعلب فورد في تحريمه حديث خزيمة بن جزء عند الترمذي وابن ماجه، ولكن سنده ضعيف‏.‏

*3*باب جُلُودِ الْمَيْتَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب جلود الميتة‏)‏ زاد في البيوع ‏"‏ قبل أن تدبغ ‏"‏ فقيده هناك بالدباغ وأطلق هنا، فيحمل مطلقه على مقيده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا قَالُوا إِنَّهَا مَيِّتَةٌ قَالَ إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن صالح‏)‏ هو ابن كيسان‏.‏

قوله ‏(‏مر بشاة‏)‏ كذا للأكثر عن الزهري، وزاد في بعض الرواة عن الزهري ‏"‏ عن ابن عباس عن ميمونة ‏"‏ أخرجه مسلم وغيره من رواية ابن عيينة، والراجح عند الحفاظ في حديث الزهري ليس فيه ميمونة، نعم أخرج مسلم والنسائي من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس ‏"‏ أن ميمونة أخبرته‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏بإهابها‏)‏ بكسر الهمزة وتخفيف الهاء هو الجلد قبل أن يدبغ، وقيل هو الجلد دبغ أو لم يدبغ، وجمعه أهب بفتحتين ويجوز بضمتين، زاد مسلم من طريق ابن عيينة ‏"‏ هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ‏"‏ وأخرج مسلم أيضا من طريق ابن عيينة أيضا عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس نحوه قال ‏"‏ ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به ‏"‏ وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه الدار قطني وقال حسن‏.‏

قوله ‏(‏قالوا إنها ميتة‏)‏ لم أقف على تعيين القائل‏.‏

قوله ‏(‏قال إنما حرم أكلها‏)‏ قال ابن أبي جمرة‏:‏ فيه مراجعة الإمام فيما لا يفهم السامع معنى ما أمره، كأنهم قالوا كيف تأمرنا بالانتفاع بها وقد حرمت علينا‏؟‏ فبين له وجه التحريم‏.‏

ويؤخذ منه جواز تخصيص الكتاب بالسنة، لأن لفظ القرآن ‏(‏حرمت عليكم الميتة‏)‏ وهو شامل لجميع أجزائها في كل حال، فخصت السنة ذلك بالأكل، وفيه حسن مراجعتهم وبلاغتهم في الخطاب لأنهم جمعوا معاني كثيرة في كلمة واحدة وهي قولهم ‏"‏ إنها ميتة ‏"‏ واستدل به الزهري بجواز الانتفاع بجلد الميتة مطلقا سواء أدبغ أم لم يدبغ، لكن صح التقييد من طرق أخرى بالدباغ، وهي حجة الجمهور، واستثنى الشافعي من الميتات الكلب والخنزير وما تولد منهما لنجاسة عينها عنده، ولم يستثن أبو يوسف وداود شيئا أخذا بعموم الخبر، وهي رواية عن مالك، وقد أخرج مسلم من حديث ابن عباس رفعه ‏"‏ إذا دبغ الإهاب فقد طهر ‏"‏ ولفظ الشافعي والترمذي وغيرهما من هذا الوجه ‏"‏ أيما إهاب دبغ ففد طهر ‏"‏ وأخرج مسلم إسنادها ولم يسق لفظها، فأخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من هذا الوجه باللفظ المذكور، وفي لفظ مسلم من هذا الوجه عن ابن عباس ‏"‏ سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال‏:‏ دباغه طهوره ‏"‏ وفي رواية للبزار من وجه آخر قال ‏"‏ دباغ الأديم طهوره ‏"‏ وجزم الرافعي وبعض أهل الأصول أن هذا اللفظ ورد في شاة ميمونة، ولكن لم أقف على ذلك صريحا مع قوة الاحتمال فيه لكون الجميع من رواية ابن عباس، وقد تمسك بعضهم بخصوص هذا السبب فقصر الجواز على المأكول لورود الخبر في الشاة، ويتقوى ذلك من حيث النظر بأن الدباغ لا يزيد في التطهير على الذكاة، وغير المأكول لو ذكى لم يطهر بالذكاة عند الأكثر فكذلك الدباغ، وأجاب من عمم بالتمسك بعموم اللفظ فهو أولى من خصوص السبب وبعموم الإذن بالمنفعة، ولأن الحيوان طاهر ينتفع به قبل الموت فكان الدباغ بعد الموت قائما له مقام الحياة والله أعلم‏.‏

وذهب قوم إلى أنه لا ينتفع من الميتة بشيء سواء دبغ الجلد أم لم يدبغ، وتمسكوا بحديث عبد الله بن عكيم قال‏:‏ أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته ‏"‏ أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ‏"‏ أخرجه الشافعي وأحمد والأربعة وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي‏.‏

وفي رواية للشافعي ولأحمد ولأبي داود ‏"‏ قبل موته بشهر ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ كان أحمد يذهب إليه ويقول‏:‏ هذا آخر الأمر، ثم تركه لما اضطربوا في إسناده، وكذا قال الخلال نحوه، ورد ابن حبان على من ادعى فيه الاضطراب وقال‏:‏ سمع ابن عكيم الكتاب يقرأ وسمعه من مشايخ من جهينة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا اضطراب، وأعله بعضهم بالانقطاع وهو مردود، وبعضهم بكونه كتابا وليس بعلة قادحة؛ وبعضهم بأن ابن أبي ليلى راويه عن ابن عكيم لم يسمعه منه لما وقع عند أبي داود عنه أنه ‏"‏ انطلق وناس معه إلى عبد الله بن عكيم قال‏:‏ فدخلوا وقعدت على الباب، فخرجوا إلي فأخبروني ‏"‏ فهذا يقتضي أن في السند من لم يسم، ولكن صح تصريح عبد الرحمن بن أبي ليلى بسماعه من ابن عكيم فلا أثر لهذه العلة أيضا، وأقوى ما تمسك به من لم يأخذ بظاهره معارضة الأحاديث الصحيحة له وأنها عن سماع وهذا عن كتابة وأنها أصح مخارج، وأقوى من ذلك الجمع بين الحديثين بحمل الإهاب عل الجلد قبل الدباغ وأنه بعد الدباغ لا يسمى إهابا إنما يسمى قربة وغير ذلك، وقد نقل ذلك عن أئمة اللغة كالنضر بن شميل، وهذه طريقة ابن شاهين وابن عبد البر والبيهقي، وأبعد من جمع بينهما بحمل النهي على جلد الكلب والخنزير لكونهما لا يدبغان، وكذا من حمل النهي على باطن الجلد والإذن على ظاهره ‏"‏ وحكى الماوردي عن بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات كان لعبد الله ابن عكيم سنة، وهو كلام باطل فإنه كان رجلا‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا خَطَّابُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَنْزٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ مَا عَلَى أَهْلِهَا لَوْ انْتَفَعُوا بِإِهَابِهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا خطاب بن عثمان‏)‏ هو الفوزي بفتح الفاء وسكون الواو بعدها زاي، ومحمد بن حمير بكسر المهملة وسكون الميم وفتح التحتانية، وأخطأ من قاله بالتصغير، وهو قضاعي حمصي، وكذا شيخه والراوي عنه حمصيون ما لهم في البخاري سوى هذا الحديث، إلا محمد بن حمير وله آخر سبق في الهجرة إلى المدينة، فأما ثابت فوثقه ابن معين ودحيم‏.‏

وقال أحمد‏:‏ أنا أتوقف فيه، وساق له ابن عدي ثلاثة أحاديث غرائب قال العقيلي‏:‏ لا يتابع في حديثه، وأما محمد بن حمير فوثقه أيضا ابن معين ودحيم‏.‏

وقال أبو حاتم لا يحتج به، وأما خطاب فوثقه الدار قطني وابن حبان لكن قال ربما أخطأ، فهذا الحديث من أجل هؤلاء من المتابعات لا من الأصول، والأصل فيه الذي قبله، ويستفاد منه خروج الحديث عن الغرابة، وقد ادعى الخطيب تفرد هؤلاء الرواة به فقال بعد أن أخرجه من طريق عمر بن يحيى بن الحارث الحراني ‏"‏ حدثنا جدي خطاب بن عثمان به هذا حديث عزيز ضيق المخرج ‏"‏ انتهى‏.‏

وقد وجدت لمحمد بن حمير فيه متابعا أخرجه الطبراني من رواية عبد الملك بن محمد الصغائي عن ثابت بن عجلان، ووجدت لخطاب فيه متابعا أخرجه الإسماعيلي من رواية علي بن بحر عن محمد بن حمير، ولابن عباس حديث آخر في المعنى سيأتي في الأيمان والنذور من طريق عكرمة عنه عن سودة قالت ‏"‏ ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها ‏"‏ الحديث، والمسك بفتح الميم وسكون المهملة الجلد، وهذا غير حديث الباب جزما، وهو مما يتأيد به من زاد ذكر الدباغ في الحديث؛ وقد أخرجه أحمد مطولا من طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال ‏"‏ ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت‏:‏ يا رسول الله ماتت فلانة، فقال‏:‏ فلولا أخذتم مسكها، فقالت‏:‏ نأخذ مسك شاة قد ماتت‏؟‏ فقال‏:‏ إنما قال الله ‏(‏قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة‏)‏ الآية وإنكم لا تطعمونه، إن تدبغوه تنتفعوا به، قال فأرسلت إليها فسخلت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة‏.‏

الحديث‏.‏

قوله ‏(‏بعنز‏)‏ بفتح المهملة وسكون النون بعدها زاي هي الماعزة وهي الأنثى من المعز، ولا ينافي رواية سماك ‏"‏ ماتت شاة ‏"‏ لأنه يطلق عليها شاة كالضأن‏.‏