فصل: باب الْقُرْعَةِ فِي الْمُشْكِلَاتِ وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب لَا يُسْأَلُ أَهْلُ الشِّرْكِ عَنْ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمِلَلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ الْآيَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها‏)‏ هذه الترجمة معقودة لبيان حكم شهادة الكفار، وقد اختلف في ذلك السلف على ثلاثة أقوال‏:‏ فذهب الجمهور إلى ردها مطلقا، وذهب بعض التابعين إلى قبولها مطلقا - إلا على المسلمين - وهو مذهب الكوفيين فقالوا تقبل شهادة بعضهم على بعض، وهي إحدى، الروايتين عن أحمد وأنكرها بعض أصحابه واستثنى أحمد حالة السفر فأجاز فيها شهادة أهل الكتاب كما سيأتي بيانه في أواخر الوصايا إن شاء الله تعالى‏.‏

وقال الحسن وابن أبي ليلى والليث وإسحاق‏:‏ لا تقيل ملة على ملة وتقبل بعض الملة على بعضها لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة‏)‏ وهذا أعدل الأقوال لبعده عن التهمة، واحتج الجمهور بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ممن ترضون من الشهداء‏)‏ وبغير ذلك من الآيات والأحاديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الشعبي‏:‏ لا تجوز شهادة أهل الملل إلخ‏)‏ وصله سعيد بن منصور ‏"‏ حدثنا هشيم حدثنا داود عن الشعبي‏:‏ لا تجوز شهادة مله على أخرى إلا المسلمين فإن شهادتهم جائزة على جميع الملل ‏"‏ وروى عبد الرزاق عن الثوري عن عيسى - وهو الخياط - عن الشعبي قال‏:‏ كان يجيز شهادة النصراني على اليهودي واليهودي على النصراني‏.‏

وروى ابن أبي شيبة من طريق أشعث عن الشعبي قال‏:‏ تجوز شهادة أهل الملل للمسلمين بعضهم على بعض‏.‏

قلت فاختلف فيه على الشعبي‏.‏

وروى ابن أبي شيبة عن نافع وطائفة الجواز مطلقا‏.‏

وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري الجواز مطلقا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تصدقوا أهل الكتاب إلخ‏)‏ وصله في تفسير البقرة من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة وفيه قصة، وسيأتي الكلام عليه ثم إن شاء الله تعالى‏.‏

والغرض منه هنا النهي عن تصديق أهل الكتاب فيما لا يعرف صدقه من قبل غيرهم، فيدل على رد شهادتهم وعدم قبولها كما يقول الجمهور‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاللَّهِ تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ فَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أَفَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ وَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب‏)‏ أي من اليهود والنصارى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكتابكم‏)‏ أي القرآن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أحدث الأخبار بالله‏)‏ أي أقربها نزولا إليكم من عند الله عز وجل، فالحديث بالنسبة إلى المنزول إليهم وهو في نفسه قديم، وقوله‏:‏ ‏(‏لم يشب‏)‏ بضم أوله وفتح المعجمة بعدها موحدة أي لم يخلط، ووقع عند أحمد من حديث جابر مرفوعا ‏"‏ لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ‏"‏ الحديث‏.‏

وسيأتي مزيد بسط في ذلك في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى‏.‏

والغرض منه هنا الرد على من يقبل شهادة أهل الكتاب، وإذا كانت أخبارهم لا تقبل فشهادتهم مردودة بالأولى، لأن باب الشهادة أضيق من باب الرواية‏.‏

*3*باب الْقُرْعَةِ فِي الْمُشْكِلَاتِ وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ اقْتَرَعُوا فَجَرَتْ الْأَقْلَامُ مَعَ الْجِرْيَةِ وَعَالَ قَلَمُ زَكَرِيَّاءَ الْجِرْيَةَ فَكَفَلَهَا زكَرِيَّاءُ وَقَوْلِهِ فَسَاهَمَ أَقْرَعَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ مِنْ الْمَسْهُومِينَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا فَأَمَرَ أَنْ يُسْهِمَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب القرعة في المشكلات‏)‏ أي مشروعيتها، ووجه إدخالها في كتاب الشهادات أنها من جملة البينات التي تثبت بها الحقوق، فكما تقطع الخصومة والنزاع بالبينة كذلك تقطع بالقرعة‏.‏

ووقع في رواية السرخسي وحده ‏"‏ من المشكلات ‏"‏ والأول أوضح، وليست ‏"‏ من ‏"‏ للتبعيض إن كانت محفوظة، ومشروعية القرعة مما اختلف فيه، والجمهور على القول بها في الجملة، وأنكرها بعض الحنفية، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة القول بها، وجعل المصنف ضابطها الأمر المشكل، وفسرها غيره بما ثبت فيه الحق لاثنين فأكثر وتقع المشاححة فيه فيقرع لفصل النزاع‏.‏

وقال إسماعيل القاضي‏:‏ ليس في القرعة إبطال الشيء من الحق كما زعم بعض الكوفيين، بل إذا وجبت القسمة بين الشركاء فعليهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة ثم يقترعوا فيصير لكل واحد ما وقع له بالقرعة مجتمعا مما كان له في الملك مشاعا فيضم في موضع بعينه ويكون ذلك بالعوض الذي صار لشريكه لأن مقادير ذلك قد عدلت بالقيمة، وإنما أفادت القرعة أن لا يختار واحد منهم شيئا معينا فيختاره الأخر فيقطع التنازع، وهي إما في الحقوق المتساوية وإما في تعيين الملك، فمن الأول عقد الخلافة إذا استووا في صفة الإمامة، وكذا بين الأئمة في الصلوات والمؤذنين والأقارب في تغسيل الموتى والصلاة عليهم والحاضنات إذا كن في درجة والأولياء في التزويج والاستباق إلى الصف الأول وفي إحياء الموات وفي نقل المعدن ومقاعد الأسواق والتقديم بالدعوى عند الحاكم والتزاحم على أخذ اللقيط والنزول في الخان المسبل ونحوه وفي السفر ببعض الزوجات وفي ابتداء القسم والدخول في ابتداء النكاح وفي الإقراع بين العبيد إذا أوصي بعتقهم ولم يسعهم الثلث، وهذه الأخيرة من صور القسم الثاني أيضا وهو تعيين الملك ومن صور تعيين الملك الإقراع بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقوله عز وجل‏:‏ إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم‏)‏ أشار بذلك إلى الاحتجاج بهذه القصة في صحة الحكم بالقرعة بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه ولا سيما إذا ورد في شرعنا تقريره، وساقه مساق الاستحسان والثناء على فاعله وهذا منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس إلخ‏)‏ وصله ابن جرير بمعناه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وعال قلم زكريا‏)‏ أي ارتفع على الماء‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ وعلا ‏"‏ وفي نسخة ‏"‏ وعدا ‏"‏ بالدال‏.‏

و ‏"‏ الجرية ‏"‏ بكسر الجيم والمعنى أنهم اقترعوا على كفالة مريم أيهم يكفلها فأخرج كل واحد منهم قلما وألقوها كلها في الماء فجرت أقلام الجميع مع‏.‏

الجرية إلى أسفل وارتفع قلم زكريا فأخذها‏.‏

وأخرج ابن العديم في ‏"‏ تاريخ حلب ‏"‏ بسنده إلى شعيب بن إسحاق أن النهر الذي ألقوا فيه الأقلام هو نهر قويق النهر المشهور بحلب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقوله‏)‏ أي وقول الله عز وجل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فساهم أقرع‏)‏ هو تفسير ابن عباس أخرجه ابن جرير من طريق معاوية بن صالح عن علي من أبي طلحة عنه، وروي عن السدي قال‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏ فساهم ‏"‏ أي قارع وهو أوضح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكان من المدحضين‏:‏ من المسهومين‏)‏ هو تفسير ابن عباس أيضا أخرجه ابن جرير بالإسناد المذكور بلفظ ‏"‏ فكان من المقروعين‏"‏‏.‏

ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ ‏"‏ فكان من المسهومين ‏"‏ والاحتجاج بهذه الآية في إثبات القرعة يتوقف على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا، وهو كذلك ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وهذه المسألة من هذا القبيل، لأنه كان في شرعهم جواز إلقاء البعض لسلامة البعض، وليس ذلك في شرعنا لأنهم مستوون في عصمة الأنفس فلا يجوز إلقاؤهم بقرعة ولا بغيرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو هريرة‏:‏ عرض النبي صلى الله عليه وسلم إلخ‏)‏ وصله قبل بأبواب، وتقدم الكلام عليه في ‏"‏ باب إذا تسارع قوم في اليمين ‏"‏ وهو حجة في العمل بالقرعة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي الشَّعْبِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا فَتَأَذَّوْا بِهِ فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ فَأَتَوْهُ فَقَالُوا مَا لَكَ قَالَ تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلَا بُدَّ لِي مِنْ الْمَاءِ فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏مثل المدهن‏)‏ بضم أوله وسكون المهملة وكسر الهاء بعدها نون أي المحابي بالمهملة والموحدة والمدهن والمداهن وأحد، والمراد به من يرائي ويضيع الحقوق ولا يغير المنكر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والواقع فيها‏)‏ كذا وقع هنا، وقد تقدم في الشركة من وجه آخر عن عامر وهو الشعبي ‏"‏ مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ‏"‏ وهو أصوب لأن المدهن والواقع أي مرتكبها في الحكم واحد، والقائم مقابله‏.‏

ووقع عند الإسماعيلي في الشركة ‏"‏ مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ‏"‏ وهذا يشمل الفرق الثلاث وهو الناهي عن المعصية والواقع فيها والمرائي في ذلك، ووقع عند الإسماعيلي أيضا هنا ‏"‏ مثل الواقع في حدود الله تعالى والناهي عنها ‏"‏ وهو المطابق للمثل المضروب فإنه لم يقع فيه إلا ذكر فرقتين فقط لكن إذا كان المداهن مشتركا في الذم مع الواقع صارا بمنزلة فرقة واحدة، وبيان وجود الفرق الثلاث في المثل المضروب أن الذين أرادوا خرق السفينة بمنزله الواقع في حدود الله، ثم من عداهم إما منكر وهو القائم، وإما ساكت وهو المدهن‏.‏

وحمل ابن التين قوله هنا ‏"‏ الواقع فيها ‏"‏ على أن المراد به القائم فيها واستشهد بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إذا وقعت الواقعة‏)‏ أي قامت القيامة ولا يخفى ما فيه، وكأنه غفل عما وقع في الشركة من مقابلة الواقع بالقائم، وقد رواه الترمذي من طريق أبي معاوية عن الأعمش بلفظ ‏"‏ مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها ‏"‏ وهو مستقيم‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ قال في الشركة ‏"‏ مثل القائم ‏"‏ وهنا ‏"‏ مثل المدهن ‏"‏ وهما نقيضان، فإن القائم هو الآمر بالمعروف والمدهن هو التارك له، ثم أجاب بأنه حيث قال القائم نظر إلى جهة النجاة، وحيث قال المدهن نظر إلى جهة الهلاك ولا شك أن التشبيه مستقيم على الحالين‏.‏

قلت‏:‏ كيف يستقيم هنا الاقتصار على ذكر المدهن وهو التارك للأمر بالمعروف وعلى ذكر الواقع في الحد وهو العاصي وكلاهما هالك، فالذي يظهر أن الصواب ما تقدم‏.‏

والحاصل أن بعض الرواة ذكر المدهن والقائم وبعضهم ذكر الواقع والقائم وبعضهم جمع الثلاثة، وأما الجمع بين المدهن والواقع دون القائم فلا يستقيم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏استهموا سفينة‏)‏ أي اقترعوها، فأخذ كل واحد منهم سهما أي نصيبا من السفينة بالقرعة بأن تكون مشتركة بينهم إما بالإجارة وإما بالملك، وإنما تقع القرعة بعد التعديل، ثم يقع التشاح في الأنصبة فتقع القرعة لفصل النزاع كما تقدم‏.‏

قال ابن التين‏:‏ وإنما يقع ذلك في السفينة ونحوها فيما إذا نزلوها معا، أما لو سبق بعضهم بعضا فالسابق أحق بموضعه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا فيما إذا كان مسبلة مثلا، أما لو كانت مملوكة لهم مثلا فالقرعة مشروعة إذا تنازعوا والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتأذوا به‏)‏ أي بالمار عليهم بالماء حالة السقي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخذ فأسا‏)‏ بهمزة ساكنة معروف ويؤنث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ينقر‏)‏ بفتح أوله وسكون النون وضم القاف أي يحفر ليخرقها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن أخذوا على يديه‏)‏ أي منعوه من الحفر ‏(‏أنجوه ونجوا أنفسهم‏)‏ هو تفسير للرواية الماضية في الشركة حيث قال‏:‏ ‏"‏ نجوا ونجوا ‏"‏ أي كل من الآخذين والمأخوذين، وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه، وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا بها‏.‏

قال المهلب وغيره‏:‏ في هذا الحديث تعذيب العامة بذنب الخاصة، وفيه نظر لأن التعذيب المذكور إذا وقع في الدنيا على من لا يستحقه فإنه يكفر من ذنوب من وقع به أو يرفع من درجته‏.‏

وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف، وتبيين العالم الحكم بضرب المثل، ووجوب الصبر على أذى الجار إذا خشي وقوع ما هو أشد ضررا، وأنه ليس لصاحب السفل أن يحدث على صاحب العلو ما يضر به، وأنه إن أحدث عليه ضررا لزمه إصلاحه، وأن لصاحب العلو منعه من الضرر‏.‏

وفيه جواز قسمة العقار المتفاوت بالقرعة وإن كان فيه علو وسفل‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع حديث النعمان هذا في بعض النسخ مقدما على حديث أم العلاء‏.‏

وفي رواية أبي ذر وطائفة كما أوردته‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِمْ قَدْ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُ سَهْمُهُ فِي السُّكْنَى حِينَ أَقْرَعَتْ الْأَنْصَارُ سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ قَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ فَسَكَنَ عِنْدَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ وَجَعَلْنَاهُ فِي ثِيَابِهِ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ لَا أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ وَاللَّهِ الْيَقِينُ وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ قَالَتْ فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا وَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ قَالَتْ فَنِمْتُ فَأُرِيتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ذَاكِ عَمَلُهُ

الشرح‏:‏

حديث أم العلاء في قصة عثمان بن مظعون، وقد تقدم الكلام عليه في أوائل الجنائز، ويأتي في الهجرة شيء من ترجمة أم العلاء المذكورة وعثمان بن مظعون، إن شاء الله تعالى، والغرض منه قولها فيه‏:‏ ‏"‏ إن عثمان بن مظعون طار له سهمه في السكنى ‏"‏ ومعني ذلك أن المهاجرين لما دخلوا المدينة لم يكن لهم مساكن، فاقترع الأنصار في إنزالهم، فصار عثمان بن مظعون لآل أم العلاء فنزل فيهم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

حديث عائشة ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ‏"‏ وهو طرف من أول حديث الإفك، وباقيه يتعلق بالقسم، وقد تقدم في باب هبة المرأة لغير زوجها وسبقت الإشارة إلى محل شرحه هناك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ‏"‏ وقد تقدم مشروحا في أبواب الأذان من كتاب الصلاة، والغرض منه مشروعية القرعة لأن المراد بالاستهام هنا الإقراع وقد تقدم بيانه هناك‏.‏

‏(‏خاتمة‏)‏ ‏:‏ اشتمل كتاب الشهادات وما اتصل به من القرعة وغير ذلك من الأحاديث المرفوعة على سنة وسبعين حديثا، المعلق منها أحد عشر حديثا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثمانية وأربعون حديثا والخالص ثمانية وعشرون، وافقه مسلم على تخريجها سوى خمسة أحاديث وهي حديث عمر ‏"‏ كان الناس يؤخذون بالوحي ‏"‏ وحديث عبد الله بن الزبير في قصة الإفك، وحديث القاسم بن محمد فيه وهو مرسل، وحديث أبي هريرة في الاستهام في اليمين، وحديث ابن عباس في الإنكار على من يأخذ عن أهل الكتاب‏.‏

وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين ثلاثة وسبعون أثرا‏.‏

والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏