فصل: باب الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الذبح قبل الحلق‏)‏ أورد فيه حديث السؤال عن الحلق قبل الذبح، ووجه الاستدلال به لما ترجم له أن السؤال عن ذلك دال على أن السائل عرف أن الحكم على عكسه، وقد أورد حديث ابن عباس من طرق ثم حديث أبي موسى، فأما الطريق الأولى لحديث ابن عباس فمن طريق منصور بن زاذان عن عطاء عنه بلفظ ‏"‏ سئل عمن حلق قبل أن يذبح ونحوه ‏"‏ والثانية من طريق أبي بكر وهو ابن عياش عن عبد العزيز بن رفيع عن عطاء عن ابن عباس فذكر فيه الزيارة قبل الرمي والحلق قبل الذبح والذبح قبل الرمي وعرف به المراد بقوله في رواية منصور ‏"‏ ونحوه ‏"‏ والثالثة من رواية ابن خثيم عن عطاء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ لَا حَرَجَ قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَالَ لَا حَرَجَ قَالَ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ لَا حَرَجَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحِيمِ الرَّازِيُّ عَنْ ابْنِ خُثَيْمٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنِي ابْنُ خُثَيْمٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عَفَّانُ أُرَاهُ عَنْ وُهَيْبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ وَعَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عبد الرحيم بن سليمان عن ابن خثيم‏)‏ وهو عبد الله بن عثمان وهذه الرواية المعلقة وصلها الإسماعيلي من طريق الحسن بن حماد عنه ولفظه ‏"‏ أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله، طفت بالبيت قبل أن أرمي‏.‏

قال‏:‏ ارم ولا حرج ‏"‏ وصله الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ من طريق سعيد بن محمد بن عمرو الأشعثي عن عبد الرحيم‏.‏

وقال‏:‏ تفرد به عبد الرحيم عن ابن خثيم‏.‏

كذا قال، والرواية التي تلي هذه ترد عليه‏.‏

وعرف بهذا أن مراد البخاري أصل الحديث لا خصوص ما ترجم به من الذبح قبل الحلق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال القاسم بن يحيى حدثني ابن خثيم‏)‏ لم أقف على طريقه موصولة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عفان أراه عن وهيب حدثنا ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس‏)‏ القائل ‏"‏ أراه ‏"‏ هو البخاري، فقد أخرجه أحمد عن عفان بدونها ولفظه ‏"‏ جاء رجل فقال‏:‏ يا رسول الله، حلقت ولم أنحر‏.‏

قال‏:‏ لا حرج فانحر‏.‏

وجاءه آخر فقال‏:‏ يا رسول الله، نحرت قبل أن أرمي‏.‏

قال‏:‏ فارم ولا حرج ‏"‏ وزعم خلف أن البخاري قال فيه ‏"‏ حدثنا عفان ‏"‏ والمراد بهذا التعليق بيان الاختلاف فيه على ابن خثيم هل شيخه فيه عطاء أو سعيد بن جبير، كما اختلف فيه على عطاء هل شيخه فيه ابن عباس أو جابر، فالذي يتبين من صنيع البخاري ترجيح كونه عن ابن عباس ثم كونه عن عطاء وأن الذي يخالف ذلك شاذ، وإنما قصد بإيراده بيان الاختلاف‏.‏

وفي رواية عفان هذه الدلالة على تعدد السائلين عن الأحكام المذكورة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال حماد‏)‏ يعني ابن سلمة إلخ‏.‏

هذه الطريق وصلها النسائي والطحاوي والإسماعيلي وابن حبان من طرق عن حماد بن سلمة به نحو سياق عبد العزيز بن رفيع، والطريق الرابعة من طريق عكرمة عن ابن عباس‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ فَقَالَ لَا حَرَجَ قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ قَالَ لَا حَرَجَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبد الأعلى‏)‏ هو ابن عبد الأعلى وخالد هو الحذاء، وكأن البخاري استظهر به لما وقع في طريق عطاء من الاختلاف، فأراد أن يبين أن لحديث ابن عباس أصلا آخر‏.‏

وفي طريق عكرمة هذه زيادة حكم الرمي بعد المساء فإن فيه إشعارا بأن الأصل في الرمي أن يكون نهارا، وسيأتي الكلام على حكم هذه المسألة بعد أربعة أبواب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ أَحَجَجْتَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ بِمَا أَهْلَلْتَ قُلْتُ لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَحْسَنْتَ انْطَلِقْ فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ بَنِي قَيْسٍ فَفَلَتْ رَأْسِي ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ فَكُنْتُ أُفْتِي بِهِ النَّاسَ حَتَّى خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرْتُهُ لَهُ فَقَالَ إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ

الشرح‏:‏

حديث أبي موسى تقدم الكلام عليه في ‏"‏ باب التمتع والقران ‏"‏ ومطابقته للترجمة من قول عمر فيه ‏"‏ لم يحل حتى بلغ الهدي محله ‏"‏ لأن بلوغ الهدي محله يدل على ذبح الهدي فلو تقدم الحلق عليه لصار متحللا قبل بلوغ الهدي محله، وهذا هو الأصل، وهو تقديم الذبح على الحلق، وأما تأخيره فهو رخصة كما سيأتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ففلت‏)‏ بفاء التعقيب بعدها فاء ثم لام خفيفة مفتوحتين ثم مثناة أي تتبعت القمل منه‏.‏

*3*باب مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَحَلَقَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من لبد رأسه عند الإحرام وحلق‏)‏ أي بعد ذلك عند الإحلال، قيل أشار بهذه الترجمة إلى الخلاف فيمن لبد هل يتعين عليه الحلق أو لا‏؟‏ فنقل ابن بطال عن الجمهور تعين ذلك حتى عن الشافعي‏.‏

وقال أهل الرأي لا يتعين بل إن شاء قصر ا هـ، وهذا قول الشافعي في الجديد وليس للأول دليل صريح، وأعلى ما فيه ما سيأتي في اللباس عن عمر ‏"‏ من ضفر رأسه فليحلق ‏"‏ وأورد المصنف في هذا الباب حديث حفصة وفيه ‏"‏ أني لبدت رأسي ‏"‏ وليس فيه تعرض للحلق إلا أنه معلوم من حاله صلى الله عليه وسلم أنه حلق رأسه في حجه‏.‏

وقد ورد ذلك صريحا في حديث ابن عمر كما في أول الباب الذي بعده، وأردفه ابن بطال بحديث حفصة فجعله من هذا الباب لمناسبته للترجمة، وقد قلت غير مرة إنه لا يلزمه أن يأتي بجميع ما اشتمل عليه الحديث في الترجمة بل إذا وجدت واحدة كفت، وقد تقدم الكلام على حديث حفصة في ‏"‏ باب التمتع والقران‏"‏‏.‏

*3*باب الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الحلق والتقصير عند الإحلال‏)‏ قال ابن المنير في الحاشية‏:‏ أفهم البخاري بهذه الترجمة أن الحلق نسك لقوله ‏"‏ عند الإحلال ‏"‏ وما يصنع عند الإحلال وليس هو نفس التحلل وكأنه استدل على ذلك بدعائه صلى الله عليه وسلم لفاعله والدعاء يشعر بالثواب والثواب لا يكون إلا على العبادة لا على المباحات، وكذلك تفضيله الحلق على التقصير يشعر بذلك لأن المباحات لا تتفاضل، والقول بأن الحلق نسك قول الجمهور إلا رواية مضعفة عن الشافعي أنه استباحة محظور، وقد أوهم كلام ابن المنذر أن الشافعي تفرد بها، لكن حكيت أيضا عن عطاء وعن أبي يوسف وهي رواية عن أحمد وعن بعض المالكية، وسيأتي ما فيه بعد بابين‏.‏

ثم ذكر المصنف في الباب لابن عمر ثلاثة أحاديث ولأبي هريرة حديثا ولابن عباس حديثا‏.‏

فالحديث الأول لابن عمر من طريق شعيب بن أبي حمزة قال‏:‏ قال نافع ‏"‏ كان ابن عمر يقول‏:‏ حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته ‏"‏ وهذا طرف من حديث طويل أوله ‏"‏ لما نزل الحجاج بابن الزبير ‏"‏ الحديث، نبه على ذلك الإسماعيلي‏.‏

والحديث الثاني لابن عمر في الدعاء للمحلقين وسيأتي بسطه‏.‏

والحديث الثالث لابن عمر من طريق جويرية بن أسماء عن نافع أن عبد الله وهو ابن عمر قال ‏"‏ حلق النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة من أصحابه وقصر بعضهم ‏"‏ وكأن البخاري لم يقع له على شرطه التصريح بمحل الدعاء للمحلقين فاستنبط من الحديث الأول والثالث أن ذلك كان في حجة الوداع، لأن الأول صرح بأن حلاقه وقع في حجته، والثالث لم يصرح بذلك إلا أنه بين فيه أن بعض الصحابة حلق وبعضهم قصر، وقد أخرجه في المغازي من طريق موسى بن عقبة عن نافع بلفظ ‏"‏ حلق في حجة الوداع وأناس من أصحابه وقصر بعضهم‏.‏

وأخرج مسلم من طريق الليث بن سعد عن نافع مثل حديث جويرية سواء وزاد فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ يرحم الله المحلقين ‏"‏ فأشعر ذلك بأن ذلك وقع في حجة الوداع، وسنذكر البحث فيه مع ابن عبد البر هنا إن شاء الله تعالى‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ أفاد ابن خزيمة في صحيحه من الوجه الذي أخرجه البخاري منه في المغازي من طريق موسى بن عقبة عن نافع متصلا بالمتن المذكور قال ‏"‏ وزعموا أن الذي حلقه معمر بن عبد الله بن نضلة ‏"‏ وبين أبو مسعود في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ أن قائل ‏"‏ وزعموا ‏"‏ ابن جريج الراوي له عن موسى بن عقبة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي نَافِعٌ رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قَالَ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ وَالْمُقَصِّرِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالوا والمقصرين يا رسول الله‏)‏ لم أقف في شيء من الطرق على الذي تولى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد، والواو في قوله ‏"‏ والمقصرين ‏"‏ معطوفة على شيء محذوف تقديره قل والمقصرين أو قل وارحم المقصرين، وهو يسمى العطف التلقيني‏.‏

وفي قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏والمقصرين ‏"‏ إعطاء المعطوف حكم المعطوف عليه ولو تخلل بينهما السكوت لغير عذر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال والمقصرين‏)‏ كذا في معظم الروايات عن مالك إعادة ذلك الدعاء للمحلقين مرتين، وعطف المقصرين عليهم في المرة الثالثة، وانفرد يحيى بن بكير دون رواة ‏"‏ الموطأ ‏"‏ بإعادة ذلك ثلاث مرات نبه عليه ابن عبد البر في ‏"‏ التقصي ‏"‏ وأغفله في ‏"‏ التمهيد ‏"‏ بل قال فيه‏:‏ أنهم لم يختلفوا على مالك في ذلك‏.‏

وقد راجعت أصل سماعي من موطأ يحيى بن بكير فوجدته كما قال في ‏"‏ التقصي‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الليث‏)‏ وصله مسلم ولفظه ‏"‏ رحم الله المحلقين مرة أو مرتين، قالوا‏:‏ والمقصرين، قال‏:‏ والمقصرين ‏"‏ والشك فيه من الليث وإلا فأكثرهم موافق لما رواه مالك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عبيد الله‏)‏ بالتصغير وهو العمري، وروايته وصلها مسلم من رواية عبد الوهاب الثقفي عنه باللفظ الذي علقه البخاري، وأخرجه أيضا عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه عنه بلفظ ‏"‏ رحم الله المحلقين قالوا‏:‏ والمقصرين ‏"‏ فذكر مثل رواية مالك سواء وزاد ‏"‏ قال رحم الله المحلقين‏.‏

قالوا‏:‏ والمقصرين يا رسول الله، قال‏:‏ والمقصرين ‏"‏ وبيان أن كونها في الرابعة أن قوله والمقصرين معطوف على مقدر تقديره يرحم الله المحلقين، وإنما قال ذلك بعد أن دعا للمحلقين ثلاث مرات صريحا فيكون دعاؤه للمقصرين في الرابعة‏.‏

وقد رواه أبو عوانة في مستخرجه من طريق الثوري عن عبيد الله بلفظ ‏"‏ قال في الثالثة والمقصرين ‏"‏ والجمع بينهما واضح بأن من قال في الرابعة فعلى ما شرحناه، ومن قال في الثالثة أراد أن قوله ‏"‏ والمقصرين ‏"‏ معطوف على الدعوة الثالثة، أو أراد بالثالثة مسألة السائلين في ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم لا يراجع بعد ثلاث كما ثبت، ولو لم يدع لهم بعد ثالث مسألة ما سألوه ذلك‏.‏

أخرجه أحمد من طريق أيوب عن نافع بلفظ ‏"‏ اللهم اغفر للمحلقين‏.‏

قالوا‏:‏ وللمقصرين - حتى قالها ثلاثا أو أربعا - ثم قال‏:‏ والمقصرين ‏"‏ ورواية من جزم مقدمة على رواية من شك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَلِلْمُقَصِّرِينَ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَلِلْمُقَصِّرِينَ قَالَهَا ثَلَاثًا قَالَ وَلِلْمُقَصِّرِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عياش بن الوليد‏)‏ هو الرقام بالتحتانية والمعجمة، ووقع في رواية ابن السكن بالموحدة والمهملة‏.‏

وقال أبو علي الجياني‏:‏ الأول أرجح بل هو الصواب، وكان القابسي يشك عن أبي زيد فيه فيهمل ضبطه فيقول‏:‏ عباس أو عياش‏.‏

قلت‏:‏ لم يخرج البخاري للعباس - بالموحدة والمهملة - ابن الوليد إلا ثلاثة أحاديث نسبه في كل منهما ‏"‏ النرسي ‏"‏ أحدها في علامات النبوة والآخر في المغازي والثالث في الفتن ذكره معلقا قال ‏"‏ وقال عباس النرسي‏"‏، وأما الذي بالتحتانية والمعجمة فأكثر عنه وفي الغالب لا ينسبه والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالها ثلاثا‏)‏ أي قوله ‏"‏ اللهم اغفر للمحلقين ‏"‏ وهذه الرواية شاهدة لأن عبيد الله العمري حفظ الزيادة‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لم أر في حديث أبي هريرة من طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير عنه إلا من رواية محمد بن فضيل هذه بهذا الإسناد في جميع ما وقفت عليه من السنن والمسانيد، فهي من أفراده عن عمارة ومن أفراد عمارة عن أبي زرعة، وتابع أبا زرعة عليه عبد الرحمن بن يعقوب أخرجه مسلم من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ولم يسق لفظه، وساقه أبو عوانة، ورواية أبي زرعة أتم‏.‏

واختلف المتكلمون على هذا الحديث في الوقت الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال ابن عبد البر‏:‏ لم يذكر أحد من رواة نافع عن ابن عمر أن ذلك كان يوم الحديبية، وهو تقصير وحذف، وإنما جرى ذلك يوم الحديبية حين صد عن البيت، وهذا محفوظ مشهور من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وحبشي بن جنادة وغيرهم‏.‏

ثم أخرج حديث أبي سعيد بلفظ ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة ‏"‏ وحديث ابن عباس بلفظ ‏"‏ حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ رحم الله المحلقين ‏"‏ الحديث، وحديث أبي هريرة من طريق محمد بن فضيل الماضي ولم يسق لفظه بل قال ‏"‏ فذكر معناه ‏"‏ وتجوز في ذلك فإنه ليس في رواية أبي هريرة تعيين الموضع ولم يقع في شيء من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع لأنه شهدها ولم يشهد الحديبية، ولم يسق ابن عبد البر عن ابن عمر في هذا شيئا، ولم أقف على تعيين الحديبية في شيء من الطرق عنه، وقد قدمت في صدر الباب أنه مخرج من مجموع الأحاديث عنه أن ذلك كان في حجة الوداع كما يومئ إليه صنيع البخاري، وحديث أبي سعيد الذي أخرجه ابن عبد البر أخرجه أيضا الطحاوي من طريق الأوزاعي وأحمد وابن أبي شيبة، وأبو داود الطيالسي من طريق هشام الدستوائي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم الأنصاري عن أبي سعيد، وزاد فيه أبو داود أن الصحابة حلقوا يوم الحديبية إلا عثمان وأبا قتادة، وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجة من طريق ابن إسحاق ‏"‏ حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه ‏"‏ وهو عند ابن إسحاق في المغازي بهذا الإسناد وأن ذلك كان بالحديبية، وكذلك أخرجه أحمد وغيره من طريقه، وأما حديث حبشي بن جنادة فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق عنه ولم يعين المكان، وأخرجه أحمد من هذا الوجه وزاد في سياقه ‏"‏ عن حبشي وكان ممن شهد حجة الوداع ‏"‏ فذكر هذا الحديث، وهذا يشعر بأنه كان في حجة الوداع‏.‏

وأما قول ابن عبد البر ‏"‏ فوهم ‏"‏ فقد ورد تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرة في ‏"‏ السنن ‏"‏ ومن طريق الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق في ‏"‏ المغازي ‏"‏ وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم الحصين عند مسلم، ومن حديث قارب بن الأسود الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم عمارة عند الحارث، فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا وأصح إسنادا ولهذا قال النووي عقب أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وأم الحصين‏:‏ هذه الأحاديث تدل على أن هذه الواقعة كانت في حجة الوداع، قال‏:‏ وهو الصحيح المشهور‏.‏

وقيل‏:‏ كان في الحديبية، وجزم بأن ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في ‏"‏ النهاية ‏"‏ ثم قال النووي‏:‏ لا يبعد أن يكون وقع في الموضعين انتهى‏.‏

وقال عياض‏:‏ كان في الموضعين‏.‏

ولذا قال ابن دقيق العيد أنه الأقرب‏.‏

قلت‏:‏ بل هو المتعين لتظاهر الروايات بذلك في الموضعين كما قدمناه، إلا أن السبب في الموضعين مختلف، فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل، والقصة مشهورة كما ستأتي في مكانها‏.‏

فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال توقفوا، فأشارت أم سلمة أن يحل هو صلى الله عليه وسلم قبلهم ففعل، فتبعوه فحلق بعضهم وقصر بعض، وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير‏.‏

وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس المشار إليه قبل فإن في آخره عند ابن ماجة وغيره أنهم ‏"‏ قالوا يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة‏؟‏ قال‏:‏ لأنهم لم يشكوا‏"‏‏.‏

وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع فقال ابن الأثير في ‏"‏ النهاية ‏"‏‏:‏ كان أكثر من حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسق الهدي، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها ويحلقوا رؤوسهم شق عليهم، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير في أنفسهم أخف من الحلق ففعله أكثرهم، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم فعل من حلق لكونه أبين في امتثال الأمر انتهى‏.‏

وفيما قاله نظر وإن تابعه عليه غير واحد، لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا، وقد كان ذلك في حقهم كذلك‏.‏

والأولى ما قاله الخطابي وغيره‏:‏ إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعر والتزين به، وكان الحلق فيهم قليلا وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن زي الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير‏.‏

وفي حديث الباب من الفوائد أن التقصير يجزئ عن الحلق، وهو مجمع عليه إلا ما روي عن الحسن البصري أن الحلق يتعين في أول حجة، حكاه ابن المنذر بصيغة التمريض، وقد ثبت عن الحسن خلافه‏.‏

قال ابن أبي شيبة‏:‏ حدثنا عبد الأعلى عن هشام عن الحسن في الذي لم يحج قط، فإن شاء حلق وإن شاء قصر‏.‏

نعم روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال‏:‏ إذا حج الرجل أول حجة حلق، فإن حج أخرى فإن شاء حلق وإن شاء قصر‏.‏

ثم روي عنه أنه قال‏:‏ كانوا يحبون أن يحلقوا في أول حجة وأول عمرة انتهى‏.‏

وهذا يدل على أن ذلك للاستحباب لا للزوم‏.‏

نعم عند المالكية والحنابلة أن محل تعيين الحلق والتقصير أن لا يكون المحرم لبد شعره أو ضفره أو عقصه، وهو قول الثوري والشافعي في القديم والجمهور‏.‏

وقال في الجديد وفاقا للحنفية‏:‏ لا يتعين إلا إن نذره أو كان شعره خفيفا لا يمكن تقصيره أو لم يكن له شعر فيمر الموسى على رأسه‏.‏

وأغرب الخطابي فاستدل بهذا الحديث لتعين الحلق لمن لبد، ولا حجة فيه، وفيه أن الحلق أفضل من التقصير، ووجهه أنه أبلغ في العبادة وأبين للخضوع والذلة وأدل على صدق النية، والذي يقصر يبقى على نفسه شيئا مما يتزين به، بخلاف الحالق فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله تعالى‏.‏

وفيه إشارة إلى التجرد، ومن ثم استحب الصلحاء إلقاء الشعور عند التوبة والله أعلم‏.‏

وأما قول النووي تبعا لغيره في تعليل ذلك بأن المقصر يبقى على نفسه الشعر الذي هو زينة والحاج مأمور بترك الزينة بل هو أشعث أغبر ففيه نظر، لأن الحلق إنما يقع بعد انقضاء زمن الأمر بالتقشف فإنه يحل له عقبة كل شيء إلا النساء في الحج خاصة‏.‏

واستدل بقوله ‏"‏ المحلقين ‏"‏ على مشروعية حلق جميع الرأس لأنه الذي تقتضيه الصيغة‏.‏

وقال بوجوب حلق جميعه مالك وأحمد واستحبه الكوفيون والشافعي، ويجزئ البعض عندهم، واختلفوا فيه فعن الحنفية الربع، إلا أبا يوسف فقال النصف‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات، وفي وجه لبعض أصحابه شعرة واحدة، والتقصير كالحلق فالأفضل أن يقصر من جميع شعر رأسه، ويستحب أن لا ينقص عن قدر الأنملة، وإن اقتصر على دونها أجزأ، هذا للشافعية وهو مرتب عند غيرهم على الحلق، وهذا كله في حق الرجال وأما النساء فالمشروع في حقهن التقصير بالإجماع، وفيه حديث لابن عباس عند أبي داود ولفظه ‏"‏ ليس على النساء حلق، وإنما على النساء التقصير ‏"‏ وللترمذي من حديث علي ‏"‏ نهى أن تحلق المرأة رأسها ‏"‏ وقال جمهور الشافعية‏:‏ لو حلقت أجزأها ويكره‏.‏

وقال القاضيان أبو الطيب وحسين‏:‏ لا يجوز، والله أعلم‏.‏

وفي الحديث أيضا مشروعية الدعاء لمن فعل ما شرع له، وتكرار الدعاء لمن فعل الراجح من الأمرين المخير فيهما والتنبيه بالتكرار على الرجحان وطلب الدعاء لمن فعل الجائز وإن كان مرجوحا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن الحسن بن مسلم‏)‏ في رواية يحيى بن سعيد عن ابن جريج ‏"‏ حدثني الحسن بن مسلم ‏"‏ أخرجه مسلم، والإسناد سوى أبي عاصم مكيون، وفيه رواية صحابي عن صحابي‏.‏

ومعاوية هو ابن أبي سفيان الخليفة المشهور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن معاوية‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ أن معاوية بن أبي سفيان أخبره‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قصرت‏)‏ أي أخذت من شعر رأسه، وهو يشعر بأن ذلك كان في نسك، إما في حج أو عمرة، وقد ثبت أنه حلق في حجته فتعين أن يكون في عمرة، ولا سيما وقد روى مسلم في هذا الحديث أن ذلك كان بالمروة ولفظه ‏"‏ قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة ‏"‏ أو ‏"‏ رأيته يقصر عنه بمشقص وهو على المروة ‏"‏ وهذا يحتمل أن يكون في عمرة القضية أو الجعرانة، لكن وقع عند مسلم من طريق أخرى عن طاوس بلفظ ‏"‏ أما علمت أني قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة‏؟‏ فقلت له لا أعلم هذه إلا حجة عليك ‏"‏ وبين المراد من ذلك في رواية النسائي فقال بدل قوله‏:‏ ‏"‏ فقلت له لا إلخ ‏"‏ يقول ابن عباس ‏"‏ وهذه على معاوية أن ينهى الناس عن المتعة وقد تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ولأحمد من وجه آخر عن طاوس عن ابن عباس قال ‏"‏ تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ‏"‏ الحديث وقال ‏"‏ وأول من نهى عنها معاوية‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ فعجبت منه، وقد حدثني أنه قصر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص ‏"‏ انتهى‏.‏

وهذا يدل على أن ابن عباس حمل ذلك على وقوعه في حجة الوداع لقوله لمعاوية ‏"‏ أن هذه حجة عليك ‏"‏ إذ لو كان في العمرة لما كان فيه على معاوية حجة‏.‏

وأصرح منه ما وقع عند أحمد من طريق قيس بن سعد عن عطاء ‏"‏ أن معاوية حدث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام العشر بمشقص معي وهو محرم ‏"‏ وفي كونه في حجة الوداع نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ الهدي محله فكيف يقصر عنه على المروة‏.‏

وقد بالغ النووي هنا في الرد على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع فقال‏:‏ هذا الحديث محمول على أن معاوية قصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنا وثبت أنه حلق بمنى وفرق أبو طلحة شعره بين الناس، فلا يصح حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصح حمله أيضا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلما إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان، هذا هو الصحيح المشهور، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا لأن هذا غلط فاحش، فقد تظاهرت الأحاديث في مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له ‏"‏ ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك‏؟‏ فقال‏:‏ إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ولم يذكر الشيخ هنا ما مر في عمرة القضية، والذي رجحه من كون معاوية إنما أسلم يوم الفتح صحيح من حيث السند، لكن يمكن الجمع بأنه كان أسلم خفية وكان يكتم إسلامه ولم يتمكن من إظهاره إلا يوم الفتح‏.‏

وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق من ترجمة معاوية تصريح معاوية بأنه أسلم بين الحديبية والقضية وأنه كان يخفي إسلامه خوفا من أبويه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل في عمرة القضية مكة خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظروه وأصحابه يطوفون بالبيت، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة لسبب اقتضاه، ولا يعارضه أيضا قول سعد بن أبي وقاص فيما أخرجه مسلم وغيره ‏"‏ فعلناها - يعني العمرة - في أشهر الحج وهذا يومئذ كافر بالعرش ‏"‏ بضمتين يعني بيوت مكة، يشير إلى معاوية لأنه يحمل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله ولم يطلع على إسلامه لكونه كان يخفيه‏.‏

ويعكر على ما جوزوه أن تقصيره كان في عمرة الجعرانة أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب من الجعرانة بعد أن أحرم بعمرة ولم يستصحب أحدا معه إلا بعض أصحابه المهاجرين، فقدم مكة فطاف وسعى وحلق ورجع إلى الجعرانة فأصبح بها كبائت، فخفيت عمرته على كثير من الناس‏.‏

وكذا أخرجه الترمذي وغيره، ولم يعد معاوية فيمن صحبه حينئذ، ولا كان معاوية فيمن تخلف عنه بمكة في غزوة حنين حتى يقال لعله وجده بمكة، بل كان مع القوم وأعطاه مثل ما أعطى أباه من الغنيمة مع جملة المؤلفة‏.‏

وأخرج الحاكم في ‏"‏ الإكليل ‏"‏ في آخر قصة غزوة حنين أن الذي حلق رأسه صلى الله عليه وسلم في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة، فإن ثبت هذا وثبت أن معاوية كان حينئذ معه أو كان بمكة فقصر عنه بالمروة أمكن الجمع بأن يكون معاوية قصر عنه أولا وكان الحلاق غائبا في بعض حاجته ثم حضر فأمره أن يكمل إزالة الشعر بالحلق لأنه أفضل ففعل، وإن ثبت أن ذلك كان في عمرة القضية وثبت أنه صلى الله عليه وسلم - حلق فيها جاء هذا الاحتمال بعينه وحصل التوفيق بين الأخبار كلها، وهذا مما فتح الله علي به في هذا الفتح ولله الحمد ثم لله الحمد أبدا‏.‏

قال صاحب ‏"‏ الهدي ‏"‏ الأحاديث الصحيحة المستفيضة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر كما أخبر عن نفسه بقوله ‏"‏ فلا أحل حتى أنحر ‏"‏ وهو خبر لا يدخله الوهم بخلاف خبر غيره، ثم قال‏:‏ ولعل معاوية قصر عنه في عمرة الجعرانة فنسي بعد ذلك وظن أنه كان في حجته انتهى‏.‏

ولا يعكر على هذا إلا رواية قيس بن سعد المتقدمة لتصريحه فيها بكون ذلك في أيام العشر، إلا أنها شاذة، وقد قال قيس بن سعد عقبها‏:‏ والناس ينكرون ذلك انتهى‏.‏

وأظن قيسا رواها بالمعنى ثم حدث بها فوقع له ذلك‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يحتمل أن يكون في قول معاوية ‏"‏ قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص ‏"‏ حذف تقديره قصرت أنا شعري عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى‏.‏

ويعكر عليه قوله في رواية أحمد ‏"‏ قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة ‏"‏ أخرجه من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن ابن عباس‏.‏

وقال ابن حزم يحتمل أن يكون معاوية قصر عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شعر لم يكن الحلاق استوفاه يوم النحر، وتعقبه صاحب ‏"‏ الهدي ‏"‏ بأن الحالق لا يبقى شعرا يقصر منه، ولا سيما وقد قسم صلى الله عليه وسلم شعره بين الصحابة الشعرة والشعرتين، وأيضا فهو صلى الله عليه وسلم لم يسع بين الصفا والمروة إلا سعيا واحدا في أول ما قدم فماذا يصنع عند المروة في العشر‏.‏

قلت‏:‏ وفي رواية العشر نظر كما تقدم، وقد أشار النووي إلى ترجيح كونه في الجعرانة وصوبه المحب الطبري وابن القيم، وفيه نظر لأنه جاء أنه حلق في الجعرانة، واستبعاد بعضهم أن معاوية قصر عنه في عمرة الحديبية لكونه لم يكن أسلم ليس ببعيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بمشقص‏)‏ بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح القاف وآخره صاد مهملة، قال القزاز‏:‏ هو نصل عريض يرمى به الوحش‏.‏

وقال صاحب ‏"‏ المحكم ‏"‏‏:‏ هو الطويل من النصال وليس بعريض‏.‏

وكذا قال أبو عبيد والله أعلم‏.‏

*3*باب تَقْصِيرِ الْمُتَمَتِّعِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب تقصير المتمتع بعد العمرة‏)‏ أي عند الإحلال منها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ يَحِلُّوا وَيَحْلِقُوا أَوْ يُقَصِّرُوا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد بن أبي بكر‏)‏ هو المقدمي، وفضيل شيخه بالتصغير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم يحلوا ويحلقوا أو يقصروا‏)‏ فيه التخيير بين الحلق والتقصير للمتمتع، وهو على التفصيل الذي قدمناه إن كان بحيث يطلع شعره فالأولى له الحلق وإلا فالتقصير ليقع له الحلق في الحج‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ

وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّيَارَةَ إِلَى اللَّيْلِ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ أَيَّامَ مِنًى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الزيارة يوم النحر‏)‏ أي زيارة الحاج البيت للطواف به، وهو طواف الإفاضة، ويسمى أيضا طواف الصدر وطواف الركن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو الزبير إلخ‏)‏ وصله أبو داود والترمذي وأحمد من طريق سفيان وهو الثوري عن أبي الزبير به، قال ابن القطان الفاسي‏:‏ هذا الحديث مخالف لما رواه ابن عمر وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف يوم النحر نهارا انتهى‏.‏

فكأن البخاري عقب هذا بطريق أبي حسان ليجمع بين الأحاديث بذلك، فيحمل حديث جابر وابن عمر على اليوم الأول، وحديث ابن عباس هذا على بقية الأيام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويذكر عن أبي حسان عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت أيام منى‏)‏ وصله الطبراني من طريق قتادة عنه‏.‏

وقال ابن المديني في ‏"‏ العلل ‏"‏ روى قتادة حديثا غريبا لا نحفظه عن أحد من أصحاب قتادة إلا من حديث هشام، فنسخته من كتاب ابنه معاذ بن هشام ولم اسمعه منه عن أبيه عن قتادة حدثني أبو حسان عن ابن عباس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى ‏"‏ وقال الأثرم قلت لأحمد تحفظ عن قتادة‏؟‏ فذكر هذا الحديث فقال‏:‏ كتبوه من كتاب معاذ، قلت‏:‏ فإن هنا إنسانا يزعم أنه سمعه من معاذ، فأنكر ذلك‏.‏

وأشار الأثرم بذلك إلى إبراهيم بن محمد بن عرعرة فإن من طريقه أخرجه الطبراني بهذا الإسناد، وأبو حسان اسمه مسلم بن عبد الله قد أخرج له مسلم حديثا غير هذا عن ابن عباس وليس هو من شرط البخاري‏.‏

ولرواية أبي حسان هذه شاهد مرسل أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة ‏"‏ حدثنا ابن طاوس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض كل ليلة‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا ثُمَّ يَقِيلُ ثُمَّ يَأْتِي مِنًى يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ وَرَفَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال لنا أبو نعيم إلخ‏)‏ ثم قال ‏(‏رفعه عبد الرزاق حدثنا عبيد الله‏)‏ وصله ابن خزيمة والإسماعيلي من طريق عبد الرزاق بلفظ أبي نعيم وزاد في آخره ‏"‏ ويذكر - أي ابن عمر - أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ‏"‏ وفيه التنصيص على الرجوع إلى منى بعد القيلولة في يوم النحر، ومقتضاه أن يكون خرج منها إلى مكة لأجل الطواف قبل ذلك‏.‏

ثم ذكر المصنف حديث أبي سلمة أن عائشة قالت ‏"‏ حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضنا يوم النحر ‏"‏ أي طفنا طواف الإفاضة، وهو مطابق للترجمة، وذكر فيه قصة صفية وسيأتي الكلام عليه في ‏"‏ باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت ‏"‏ قريبا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الْأَعْرَجِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا حَائِضٌ قَالَ حَابِسَتُنَا هِيَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ اخْرُجُوا وَيُذْكَرُ عَنْ الْقَاسِمِ وَعُرْوَةَ وَالْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَفَاضَتْ صَفِيَّةُ يَوْمَ النَّحْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويذكر عن القاسم وعروة والأسود عن عائشة أفاضت صفية يوم النحر‏)‏ وغرضه بهذا أن أبا سلمة لم ينفرد عن عائشة بذلك، وإنما لم يجزم لأن بعضهم أورده بالمعنى كما نبينه، أما طريق القاسم فهي عند مسلم من طريق أفلح بن حميد عنه عن عائشة قالت ‏"‏ كنا نتخوف أن تحيض صفية قبل أن تفيض، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أحابستنا صفية‏؟‏ قلنا‏:‏ قد أفاضت‏.‏

قال‏:‏ فلا إذا ‏"‏ ورواه أحمد من وجه آخر عن القاسم عنها ‏"‏ أن صفية حاضت بمنى وكانت قد أفاضت ‏"‏ الحديث‏.‏

وأما طريق عروة فرواه المصنف في المغازي من طريق شعيب عن الزهري عنه عن عائشة ‏"‏ أن صفية حاضت بعدما أفاضت ‏"‏ وأخرجه الطحاوي عقب رواية الأسود عن عائشة بلفظ ‏"‏ أكنت أفضت يوم النحر‏؟‏ قالت‏.‏

نعم ‏"‏ أخرجه من طريق يونس عن الزهري به وقال نحوه، وأما طريق الأسود فوصلها المصنف في ‏"‏ باب الإدلاج من المحصب ‏"‏ بلفظ ‏"‏ حاضت صفية ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ أطافت يوم النحر‏؟‏ فقيل نعم‏"‏‏.‏

*3*باب إِذَا رَمَى بَعْدَ مَا أَمْسَى أَوْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا رمى بعد ما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسيا أو جاهلا‏)‏ أورد فيه حديث ابن عباس في ذلك، وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده، ولم يبين الحكم في الترجمة إشارة منه إلى أن الحكم برفع الحرج مقيد بالجاهل أو الناسي فيحتمل اختصاصهما بذلك، أو إلى أن نفي الحرج لا يستلزم رفع وجوب القضاء أو الكفارة، وهذه المسألة مما وقع فيها الاختلاف بين العلماء كما سنبينه إن شاء الله تعالى، وكأنه أشار بلفظ النسيان والجهل إلى ما ورد في بعض طرق الحديث كما يأتي بيانه أيضا في الباب الذي يليه وأما قوله ‏"‏ إذا رمى بعدما أمسى ‏"‏ فمنتزع من حديث ابن عباس في الباب قال ‏"‏ رميت بعدما أمسيت ‏"‏ أي بعد دخول المساء، وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام، فلم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل‏.‏

*3*باب الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الفتيا على الدابة عند الجمرة‏)‏ هذه الترجمة تقدمت في كتاب العلم لكن بلفظ ‏"‏ باب الفتيا وهو واقف على الدابة أو غيرها ‏"‏ ثم قال بعد أبواب كثيرة ‏"‏ باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار ‏"‏ وأورد في كل من الترجمتين حديث عبد الله بن عمرو المذكور في هذا الباب، ومثل هذا لا يقع له إلا نادرا، وقد اعترض عليه الإسماعيلي بأنه ليس في شيء من الروايات عن مالك أنه كان على دابة، بل في رواية يحيى القطان عنه أنه جلس في حجة الوداع فقام رجل، ثم قال الإسماعيلي‏:‏ فإن ثبت في شيء من الطرق أنه كان على دابة فيحمل قوله ‏"‏ جلس ‏"‏ على أنه ركبها وجلس عليها قلت‏:‏ وهذا هو المتعين، فقد أورد هو رواية صالح بن كيسان بلفظ ‏"‏ وقف على راحلته ‏"‏ وهي بمعنى جلس، والدابة تطلق على المركوب من ناقة وفرس وبغل وحمار، فإذا ثبت في الراحلة كان الحكم في البقية كذلك‏.‏

ثم قال الإسماعيلي‏:‏ إن صالح بن كيسان تفرد بقوله ‏"‏ وقف على راحلته ‏"‏ وليس كما قال، فقد ذكر ذلك أيضا يونس عند مسلم ومعمر عند أحمد والنسائي كلاهما عن الزهري، وقد أشار المصنف إلى ذلك بقوله ‏"‏ تابعه معمر ‏"‏ أي في قوله ‏"‏ وقف على راحلته ‏"‏ ثم أورد المصنف حديث عبد الله بن عمرو وهو ابن العاصي كما في الطريق الثانية، بخلاف ما وقع في بعض نسخ العمدة وشرح عليه ابن دقيق العيد ومن تبعه على أنه ابن عمر بضم العين أي ابن الخطاب، وأورده المصنف من أربعة طرق عن الزهري عن عيسى بن طلحة، وطلحة هو ابن عبيد الله أحد العشرة عن عبد الله، ولم أره من حديثه إلا بهذا الإسناد، وقد اختلف أصحاب الزهري عليه في سياقه، وأتمهم عنه سياقا صالح بن كيسان وهي الطريق الثالثة، ولم يسق المصنف لفظها، وهي عند أحمد في مسنده عن يعقوب وفيه زيادة على سياق ابن جريج ومالك، وقد تابعه يونس عن الزهري عند مسلم بزيادة أيضا سنبينها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ فَقَالَ رَجُلٌ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَالَ اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ ارْمِ وَلَا حَرَجَ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏مالك عن ابن شهاب‏)‏ كذا في ‏"‏ الموطأ‏"‏، وعند النسائي من طريق يحيى وهو القطان عن مالك ‏"‏ حدثني الزهري‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عيسى‏)‏ في رواية صالح ‏"‏ حدثني عيسى‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقف في حجة الوداع‏)‏ لم يعين المكان ولا اليوم، لكن تقدم في كتاب العلم عن إسماعيل عن مالك ‏"‏ بمنى ‏"‏ وكذا في رواية معمر، وفيه من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة عن الزهري ‏"‏ عند الجمرة ‏"‏ وفي رواية ابن جريج وهي الطريق الثانية هنا ‏"‏ يخطب يوم النحر ‏"‏ وفي رواية صالح ومعمر كما تقدم ‏"‏ على راحلته ‏"‏ قال عياض‏:‏ جمع بعضهم بين هذه الروايات بأنه موقف واحد على أن معنى خطب أي علم الناس لا أنها من خطب الحج المشروعة، قال‏:‏ ويحتمل أن يكون ذلك في موطنين أحدهما على راحلته عند الجمرة ولم يقل في هذا خطب، والثاني يوم النحر بعد صلاة الظهر وذلك وقت الخطبة المشروعة من خطب الحج يعلم الإمام فيها الناس ما بقي عليهم من مناسكهم‏.‏

وصوب النووي هذا الاحتمال الثاني‏.‏

فإن قيل لا منافاة بين هذا الذي صوبه وبين الذي قبله فإنه ليس في شيء من طرق الحديثين - حديث ابن عباس وحديث عبد الله بن عمرو - بيان الوقت الذي خطب فيه من النهار، قلت‏:‏ نعم لم يقع التصريح بذلك، لكن في رواية ابن عباس ‏"‏ أن بعض السائلين قال رميت بعدما أمسيت ‏"‏ وهذا يدل على أن هذه القصة كانت بعد الزوال لأن المساء يطلق على ما بعد الزوال، وكأن السائل علم أن السنة للحاج أن يرمي الجمرة أول ما يقدم ضحى فلما أخرها إلى بعد الزوال سأل عن ذلك، على أن حديث عبد الله بن عمرو من مخرج واحد لا يعرف له طريق إلا طريق الزهري هذه عن عيسى عنه، الاختلاف فيه من أصحاب الزهري، وغايته أن بعضهم ذكر ما لم يذكره الآخر، واجتمع من مرويهم ورواية ابن عباس أن ذلك كان يوم النحر بعد الزوال وهو على راحلته يخطب عند الجمرة، وإذا تقرر أن ذلك كان بعد الزوال يوم النحر تعين أنها الخطبة التي شرعت لتعليم بقية المناسك، فليس قوله خطب مجازا عن مجرد التعليم بل حقيقة، ولا يلزم من وقوفه عند الجمرة أن يكون حينئذ رماها فسيأتي في آخر الباب الذي يليه من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات فذكر خطبته، فلعل ذلك وقع بعد أن أفاض ورجع إلى منى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال رجل‏)‏ لم أقف على اسمه بعد البحث الشديد، ولا على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة، وسأبين أنهم كانوا جماعة، لكن في حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره كان الأعراب يسألونه، وكأن هذا هو السبب في عدم ضبط أسمائهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم أشعر‏)‏ أي لم أفطن، يقال شعرت بالشيء شعورا إذا فطنت له، وقيل الشعور العلم، ولم يفصح في رواية مالك بمتعلق الشعور، وقد بينه يونس عند مسلم ولفظه ‏"‏ لم أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل أن أرمي ‏"‏ وقال آخر ‏"‏ لم أشعر أن النحر قبل الحلق فحلقت قبل أن أنحر ‏"‏ وفي رواية ابن جريج‏:‏ كنت أحسب أن كذا قبل كذا، وقد تبين ذلك في رواية يونس، وزاد في رواية ابن جريج‏:‏ وأشباه ذلك‏.‏

ووقع في رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري عند مسلم ‏"‏ حلقت قبل أن أرمي ‏"‏ وقال آخر ‏"‏ أفضت إلى البيت قبل أن أرمي ‏"‏ وفي حديث معمر عند أحمد زيادة الحلق قبل الرمي أيضا، فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمرو السؤال عن أربعة أشياء‏:‏ الحلق قبل الذبح، والحلق قبل الرمي، والنحر قبل الرمي، والإفاضة قبل الرمي، والأوليان في حديث ابن عباس أيضا كما مضى، وعند الدارقطني من حديث ابن عباس أيضا السؤال عن الحلق قبل الرمي، وكذا في حديث جابر وفي حديث أبي سعيد عند الطحاوي، وفي حديث علي عند أحمد السؤال عن الإفاضة قبل الحلق، وفي حديثه عند الطحاوي السؤال عن الرمي والإفاضة معا قبل الحلق، وفي حديث جابر الذي علقه المصنف فيما مضى ووصله ابن حبان وغيره السؤال عن الإفاضة قبل الذبح، وفي حديث أسامة بن شريك عند أبي داود السؤال عن السعي قبل الطواف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اذبح ولا حرج‏)‏ أي لا ضيق عليك في ذلك، وقد تقدم في ‏"‏ باب الذبح قبل الحلق ‏"‏ تقرير ترتيبه، وذلك أن وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة أشياء‏:‏ رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة‏.‏

وفي حديث أنس في الصحيحين ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى فنحر‏.‏

وقال للحالق خذ ‏"‏ ولأبي داود ‏"‏ رمى ثم نحر ثم حلق ‏"‏ وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب، إلا أن ابن الجهم المالكي استثنى القارن فقال‏:‏ لا يحلق حتى يطوف، كأنه لاحظ أنه في عمل العمرة والعمرة يتأخر فيها الحلق عن الطواف، ورد عليه النووي بالإجماع، ونازعه ابن دقيق العيد في ذلك‏.‏

واختلفوا في جواز تقديم بعضها على بعض فأجمعوا على الإجزاء في ذلك كما قاله ابن قدامة في ‏"‏ المغني ‏"‏ إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ روي عن ابن عباس ولم يثبت عنه أن من قدم شيئا على شيء فعليه دم، وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والحسن والنخعي وأصحاب الرأي انتهى‏.‏

وفي نسبة ذلك إلى النخعي وأصحاب الرأي نظر، فإنهم لا يقولون بذلك إلا في بعض المواضع كما سيأتي‏.‏

قال‏:‏ وذهب الشافعي وجمهور السلف والعلماء وفقهاء أصحاب الحديث إلى الجواز وعدم وجوب الدم لقوله للسائل ‏"‏ لا حرج ‏"‏ فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معا، لأن اسم الضيق يشملهما‏.‏

قال الطحاوي‏:‏ ظاهر الحديث يدل على التوسعة في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض، قال‏:‏ إلا أنه يحتمل أن يكون قوله ‏"‏ لا حرج ‏"‏ أي لا إثم في ذلك الفعل، وهو كذلك لمن كان ناسيا أو جاهلا، وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه الفدية، وتعقب بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجبا لبينه صلى الله عليه وسلم حينئذ لأنه وقت الحاجة ولا يجوز تأخيره‏.‏

وقال الطبري‏:‏ لم يسقط النبي صلى الله عليه وسلم الحرج إلا وقد أجزأ الفعل، إذ لو لم يجزئ لأمره بالإعادة لأن الجهل والنسيان لا يضعان عن المرء الحكم الذي يلزمه في الحج، كما لو ترك الرمي ونحوه فإنه لا يأثم بتركه جاهلا أو ناسيا لكن يجب عليه الإعادة‏.‏

والعجب ممن يحمل قوله ‏"‏ ولا حرج ‏"‏ على نفي الإثم فقط ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض، فإن كان الترتيب واجبا يجب بتركه دم فليكن في الجميع وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض من تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج‏.‏

وأما احتجاج النخعي ومن تبعه في تقديم الحلق على غيره بقوله تعالى ‏(‏ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله‏)‏ قال‏:‏ فمن حلق قبل الذبح إهراق دما عنه رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح، فقد أجيب بأن المراد ببلوغ محله وصوله إلى الموضع الذي يحل ذبحه فيه وقد حصل، وإنما يتم ما أراد أن لو قال ولا تحلقوا حتى تنحروا‏.‏

واحتج الطحاوي أيضا بقول ابن عباس‏:‏ من قدم شيئا من نسكه أو أخره فليهرق لذلك دما، قال وهو أحد من روى أن لا حرج، فدل على أن المراد بنفي الحرج نفي الإثم فقط‏.‏

وأجيب بأن الطريق بذلك إلى ابن عباس فيها ضعف، فإن ابن أبي شيبة أخرجها وفيها إبراهيم بن مهاجر وفيه مقال، وعلى تقدير الصحة فيلزم من يأخذ بقول ابن عباس أن يوجب الدم في كل شيء من الأربعة المذكورة ولا يخصه بالحلق قبل الذبح أو قبل الرمي‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ منع مالك وأبو حنيفة تقديم الحلق على الرمي والذبح لأنه حينئذ يكون حلقا قبل وجود التحللين، وللشافعي قول مثله، وقد بني القولان له على أن الحلق نسك أو استباحة محظور‏؟‏ فإن قلنا إنه نسك جاز تقديمه على الرمي وغيره لأنه يكون من أسباب التحلل، وإن قلنا إنه استباحة محظور فلا، قال‏:‏ وفي هذا البناء نظر، لأنه لا يلزم من كون الشيء نسكا أن يكون من أسباب التحلل، لأن النسك ما يتاب عليه، وهذا مالك يرى أن الحلق نسك ويرى أنه لا يقدم على الرمي مع ذلك‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ إن أفاض قبل الرمي إهراق دما‏.‏

وقال عياض‏:‏ اختلف عن مالك في تقديم الطواف على الرمي‏.‏

وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يجب عليه إعادة الطواف، فإن توجه إلى بلده بلا إعادة وجب عليه دم‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ وهذا يخالف حديث ابن عباس، وكأنه لم يبلغه انتهى‏.‏

قلت‏:‏ وكذا هو في رواية ابن أبي حفصة عن الزهري في حديث عبد الله بن عمرو، وكأن مالكا لم يحفظ ذلك عن الزهري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر‏)‏ في رواية يونس عند مسلم وصالح عند أحمد ‏"‏ فما سمعته سئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور على بعض أو أشباهها إلا قال‏:‏ افعلوا ذلك ولا حرج ‏"‏ واحتج به وبقوله في رواية مالك ‏"‏ لم أشعر ‏"‏ بأن الرخصة تختص بمن نسي أو جهل لا بمن تعمد، قال صاحب ‏"‏ المغني ‏"‏ قال الأثرم عن أحمد‏:‏ إن كان ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه، وإن كان عالما فلا لقوله في الحديث ‏"‏ لم أشعر‏"‏‏.‏

وأجاب بعض الشافعية بأن الترتيب لو كان واجبا لما سقط بالسهو، كالترتيب بين السعي والطواف فإنه لو سعى قبل أن يطوف وجب إعادة السعي، وأما ما وقع في حديث أسامة بن شريك فمحمول على من سعى بعد طواف القدوم ثم طاف طواف الإفاضة فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف أي طواف الركن، ولم يقل بظاهر حديث أسامة إلا أحمد وعطاء فقالا‏:‏ لو لم يطف للقدوم ولا لغيره وقدم السعي قبل طواف الإفاضة أجزأه، أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عنه‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ ما قاله أحمد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع الرسول في الحج بقوله ‏"‏ خذوا عني مناسككم ‏"‏ وهذه الأحاديث المرخصة في تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السائل ‏"‏ لم أشعر ‏"‏ فيختص الحكم بهذه الحالة وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج‏.‏

وأيضا فالحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يجز إطراحه، ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم المؤاخذة، وقد علق به الحكم فلا يمكن إطراحه بإلحاق العمد به إذ لا يساويه، وأما التمسك بقول الراوي ‏"‏ فما سئل عن شيء إلخ ‏"‏ فإنه يشعر بأن الترتيب مطلقا غير مراعى، فجوابه أن هذا الإخبار من الراوي يتعلق بما وقع السؤال عنه وهو مطلق بالنسبة إلى حال السائل والمطلق لا يدل على أحد الخاصين سنة فلا يبقى حجة في حال العمد والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله‏)‏ في رواية صالح ‏"‏ أنه سمع عبد الله‏"‏‏.‏

وفي رواية ابن جريج وهي الثانية ‏"‏ إن عبد الله حدثه‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ لَهُنَّ كُلِّهِنَّ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَتِهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سعيد بن يحيى حدثنا أبي‏)‏ هو يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاصي الأموي‏.‏

قوله في رواية ابن جريج ‏(‏فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهن كلهن‏:‏ افعل ولا حرج‏)‏ قال الكرماني‏:‏ اللام في قوله ‏"‏ لهن ‏"‏ متعلقة بقال، أي قال لأجل هذه الأفعال، أو بمحذوف أي قال يوم النحر لأجلهن أو بقوله ‏"‏ لا حرج ‏"‏ أي لا حرج لأجلهن انتهى‏.‏

ويحتمل أن تكون اللام بمعنى عن أي قال عنهن كلهن‏.‏

‏(‏تكميل‏)‏ ‏:‏ قال ابن التين هذا الحديث لا يقتضي رفع الحرج في غير المسألتين المنصوص عليهما يعني المذكورتين في رواية مالك لأنه خرج جوابا للسؤال ولا يدخل فيه غيره انتهى‏.‏

وكأنه غفل عن قوله في بقية الحديث ‏"‏ فما سئل عن شيء قدم ولا أخر ‏"‏ وكأنه حمل ما أبهم فيه على ما ذكر، لكن قوله في رواية ابن جريج ‏"‏ وأشباه ذلك ‏"‏ يرد عليه، وقد تقدم فيما حررناه من مجموع الأحاديث عدة صور، وبقيت عدة صور لم تذكرها الرواة إما اختصارا وإما لكونها لم تقع، وبلغت بالتقسيم أربعا وعشرين صورة، منها صورة الترتيب المتفق عليها والله أعلم‏.‏

وفي الحديث من الفوائد جواز القعود على الراحلة للحاجة، ووجوب اتباع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لكون الذين خالفوها لما علموا سألوه عن حكم ذلك، واستدل به البخاري على أن من حلف على شيء ففعله ناسيا أن لا شيء عليه كما سيأتي في الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله في الطريق الثالثة ‏(‏حدثني إسحاق‏)‏ كذا للأكثر غير منسوب، ونسبه أبو علي بن السكن فقال ‏"‏ إسحاق بن منصور ‏"‏ وأورده أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من ‏"‏ مسند إسحاق بن راهويه ‏"‏ وهو المترجح عندي لتعبيره بقوله ‏"‏ أخبرنا يعقوب ‏"‏ لأن إسحاق بن راهويه لا يحدث عن مشايخه إلا بلفظ الإخبار بخلاف إسحاق بن منصور فيقول ‏"‏ حدثنا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقف النبي‏)‏ في رواية ابن جريج ‏"‏ أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه معمر عن الزهري‏)‏ قد سبق أن أحمد وصله‏.‏

*3*باب الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الخطبة أيام منى‏)‏ أي مشروعيتها خلافا لمن قال إنها لا تشرع وأحاديث الباب صريحة في ذلك إلا حديث جابر بن زيد عن ابن عباس وهو ثاني أحاديث الباب، فإن فيه التقييد بالخطبة بعرفات، وقد أجاب عنه ابن المنير كما سيأتي‏.‏

وأيام منى أربعة يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وليس في شيء من أحاديث الباب التصريح بغير يوم النحر وهو الموجود في أكثر الأحاديث كحديث الهرماس بن زياد وأبي أمامة كلاهما عند أبي داود، وحديث جابر بن عبد الله عند أحمد ‏"‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال‏:‏ أي يوم أعظم حرمة ‏"‏ الحديث، وقد تقدم حديث عبد الله بن عمرو وفيه ذكر الخطبة يوم النحر، وأما قوله في حديث ابن عمر أنه قال ذلك بمنى فهو مطلق فيحمل على المقيد فيتعين يوم النحر، فلعل المصنف أشار إلى ما ورد في بعض طرق حديث الباب كما عند أحمد من طريق أبي حرة الرقاشي عن عمه فقال ‏"‏ كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق أذود عن الناس ‏"‏ فذكر نحو حديث أبي بكرة، فقوله ‏"‏ في أوسط أيام التشريق ‏"‏ يدل أيضا على وقوع ذلك أيضا في اليوم الثاني أو الثالث‏.‏

وفي حديث سراء بنت نبهان عند أبي داود ‏"‏ خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الرؤوس فقال‏:‏ أي يوم هذا‏؟‏ أليس أوسط أيام التشريق‏"‏‏.‏

وفي الباب عن كعب بن عاصم عند الدارقطني، وعن ابن أبي نجيح عن رجلين من بني بكر عند أبي داود، وعن أبي نضرة عمن سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم عند أحمد، قال ابن المنير في الحاشية‏:‏ أراد البخاري الرد على من زعم أن يوم النحر لا خطبة فيه للحاج، وأن المذكور في هذا الحديث من قبيل الوصايا العامة لا على أنه من شعار الحج، فأراد البخاري أن يبين أن الراوي قد سماها خطبة كما سمى التي وقعت في عرفات خطبة، وقد اتفقوا على مشروعية الخطبة بعرفات فكأنه الحق المختلف فيه بالمتفق عليه انتهى والله أعلم‏.‏

وسنذكر نقل الاختلاف في مشروعية الخطبة يوم النحر في آخر الباب‏.‏

وعلي بن عبد الله المذكور في الإسناد هو ابن المديني ويحيى بن سعيد هو القطان وفضيل بالتصغير وغزوان بفتح المعجمة وسكون الزاي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ قَالَ فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ قَالَ فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌ قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال‏:‏ يا أيها الناس أي يوم هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ يوم حرام‏)‏ كذا في حديث ابن عباس هذا، وفي حديث أبي بكرة ثالث أحاديث الباب ‏"‏ أتدرون أي يوم هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال‏:‏ أليس يوم النحر‏؟‏ قلنا‏:‏ بلى ‏"‏ وحديث ابن عمر المذكور بعده نحو إلا أنه ليس فيه ‏"‏ فسكت إلخ ‏"‏ بل فيه بعد قولهم أعلم ‏"‏ قال هذا يوم حرام ‏"‏ فقيل في الجمع بين الحديثين‏:‏ لعلهما واقعتان، وليس بشيء لأن الخطبة يوم النحر إنما تشرع مرة واحدة وفد قال في كل منهما أن ذلك كان يوم النحر، وقيل في الجمع بينهما إن بعضهم بادر بالجواب وبعضهم سكت، وقيل في الجمع إنهم فوضوا أولا كلهم بقولهم الله ورسوله أعلم، فلما سكت أجاب بعضهم دون بعض، وقيل وقع السؤال في الوقت الواحد مرتين بلفظين، فلما كان في حديث أبي بكرة فخامة ليس في الأول لقوله فيه ‏"‏ أتدرون ‏"‏ سكتوا عن الجواب بخلاف حديث ابن عباس لخلوه عن ذلك، أشار إلى ذلك الكرماني‏.‏

وقيل‏:‏ في حديث ابن عباس اختصار بينته رواية أبي بكرة وابن عمر، فكأنه أطلق قولهم يوم حرام باعتبار أنهم قرروا ذلك بقولهم بلى، وسكت في رواية ابن عمر عن ذكر جوابهم، وهذا جمع حسن، وقد تقدم الكلام في هذا باختصار في كتاب العلم في ‏"‏ باب قوله رب مبلغ أوعى من سامع‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يوم حرام‏)‏ أي يحرم فيه القتال، وكذلك الشهر وكذلك البلد، وسيأتي الكلام على قوله ‏"‏ لا ترجعوا بعدي كفارا ‏"‏ في كتاب الفتن مستوعبا إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأعادها مرارا‏)‏ لم أقف على عددها صريحا ويشبه أن يكون ثلاثا كعادته صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم رفع رأسه‏)‏ زاد الإسماعيلي من هذا الوجه ‏"‏ إلى السماء‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن عباس‏:‏ فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته‏)‏ يريد بذلك الكلام الأخير وهو قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏فليبلغ الشاهد الغائب ‏"‏ إلى آخر الحديث، وقد رواه أحمد بن حنبل عن عبد الله بن نمير عن فضيل بإسناد الباب بلفظ ‏"‏ ثم قال ألا فليبلغ إلخ ‏"‏ وهو يوضح ما قلناه والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى أمته‏)‏ في رواية أحمد عن ابن نمير ‏"‏ أنها لوصيته إلى ربه ‏"‏ وكذلك رواه عمرو بن علي الفلاس والمقدمي عن يحيى بن سعيد أخرجه أبو نعيم من طريقهما‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لستة أيام متوالية من أيام ذي الحجة أسماء‏:‏ الثامن يوم التروية، والتاسع عرفة، والعاشر النحر، والحادي عشر القر، والثاني عشر النفر الأول، والثالث عشر النفر الثاني‏.‏

وذكر مكي بن أبي طالب أن السابع يسمى يوم الزينة وأنكره النووي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ تَابَعَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا عمرو‏)‏ هو ابن دينار‏.‏

و قوله‏:‏ ‏(‏يخطب بعرفات‏)‏ هو طرف من حديث سيأتي في ‏"‏ باب لبس الخفين للمحرم ‏"‏ عن أبي الوليد عن شعبة بهذا الإسناد وبعده متصلا ‏"‏ يخطب بعرفات بقوله‏:‏ من لم يجد النعلين فليلبس الخفين ‏"‏ الحديث وذكره بعده بباب عن آدم عن شعبة بلفظ ‏"‏ خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فقال‏:‏ من لم يجد ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه ابن عيينة عن عمرو‏)‏ أي أن سفيان بن عيينة تابع شعبة في رواية هذا الحديث، والمراد به أصل الحديث، فإن أحمد أخرجه في مسنده عن سفيان بن عيينة ولفظه ‏"‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول‏:‏ من لم يجد ‏"‏ فذكره فلم يعين موضع الخطبة، وكذلك رواه الحميدي وابن أبي شيبة وغيرهما عن سفيان، وهو عند مسلم وغيره من طريق سفيان كذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا قُرَّةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَرَجُلٌ أَفْضَلُ فِي نَفْسِي مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ قُلْنَا بَلَى قَالَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ أَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ قُلْنَا بَلَى قَالَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ قَالُوا نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني عبد الله بن محمد‏)‏ هو الجعفي، وأبو عامر هو العقدي، وقرة هو ابن خالد، وحميد بن عبد الرحمن هو الحميري، وإنما كان عند ابن سيرين أفضل من عبد الرحمن بن أبي بكرة لأنه دخل في الولايات وكان حميد زاهدا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أليس يوم النحر‏)‏ بنصب يوم على أنه خبر ليس والتقدير أليس اليوم يوم النحر، ويجوز الرفع على أنه اسم ليس والتقدير أليس يوم النحر هذا اليوم والأول أوضح، لكن يؤيد هذا الثاني قوله ‏"‏ أليس ذو الحجة ‏"‏ أي أليس ذو الحجة هذا الشهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالبلدة الحرام‏)‏ كذا فيه بتأنيث البلد وتذكير الحرام وذلك أن لفظ الحرام اضمحل منه معنى الوصفية وصار اسما، قال الخطابي‏:‏ يقال إن البلدة اسم خاص بمكة وهي المرادة بقوله تعالى ‏(‏إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة‏)‏ وقال الطيبي‏:‏ المطلق محمول على الكامل وهي الجامعة للخير المستجمعة للكمال، كما أن الكعبة تسمى البيت ويطلق عليها ذلك‏.‏

وقد اختصرت ذلك من كلام طويل للتوربشتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى يوم تلقون‏)‏ بفتح يوم وكسره مع التنوين وعدمه، وترك التنوين مع الكسر هو الذي ثبتت به الرواية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اللهم اشهد‏)‏ تقدم أنه أعاد ذلك في حديث ابن عباس، وإنما قال ذلك لأنه كان فرضا عليه أن يبلغ، فأشهد الله على أنه أدى ما أوجبه عليه‏.‏

‏"‏ والمبلغ ‏"‏ بفتح اللام أي رب شخص بلغه كلامي فكان أحفظ له وأفهم لمعناه من الذي نقله له، قال المهلب‏:‏ فيه أنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم ما ليس لمن تقدمه، إلا أن ذلك يكون في الأقل لأن ‏"‏ رب ‏"‏ موضوعة للتقليل‏.‏

قلت‏:‏ هي في الأصل كذلك إلا أنها استعملت في التكثير بحيث غلبت على الاستعمال الأول، لكن يؤيد أن التقليل هنا مراد أنه وقع في رواية أخرى تقدمت في العلم بلفظ ‏"‏ عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه ‏"‏ وفي الحديث دلالة على جواز تحمل الحديث لمن لم يفهم معناه ولا فقهه إذا ضبط ما يحدث به، ويجوز وصفه بكونه من أهل العلم بذلك‏.‏

وفي الحديث من الفوائد أيضا وجوب تبليغ العلم على الكفاية، وقد يتعين في حق بعض الناس، وفيه تأكيد التحريم وتغليظه بأبلغ ممكن من تكرار ونحوه، وفيه مشروعية ضرب المثل وإلحاق النظير بالنظير ليكون أوضح للسامع، وإنما شبه حرمة الدم والعرض والمال بحرمة اليوم والشهر والبلد لأن المخاطبين بذلك كانوا لا يرون تلك الأشياء ولا يرون هتك حرمتها ويعيبون على من فعل ذلك أشد العيب، وإنما قدم السؤال عنها تذكارا لحرمتها وتقريرا لما ثبت في نفوسهم ليبني عليه ما أراد تقريره على سبيل التأكيد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَقَالَ فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ أَفَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ بَلَدٌ حَرَامٌ أَفَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهْرٌ حَرَامٌ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْغَازِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ بِهَذَا وَقَالَ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَطَفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ وَوَدَّعَ النَّاسَ فَقَالُوا هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبيه‏)‏ هو محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر فروايته عن جده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أفتدرون‏)‏ في رواية الإسماعيلي عن القاسم المطرز عن محمد بن المثنى شيخ البخاري قال ‏"‏ أو تدرون ‏"‏ قوله‏:‏ ‏(‏وقال هشام بن الغاز‏)‏ بالغين المعجمة وآخره زاي خفيفة، وقد وصله ابن ماجة قال ‏"‏ حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا هشام ‏"‏ وأخرجه الطبراني عن أحمد بن المعلى، والإسماعيلي عن جعفر الفريابي كلاهما عن هشام بن عمار، وعن جعفر الفريابي عن دحيم عن الوليد بن مسلم عن هشام بن الغاز، ومن هذا الوجه أخرجه أبو داود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بين الجمرات‏)‏ بفتح الجيم والميم فيه تعيين البقعة التي وقف فيها، كما أن في الرواية التي قبلها تعيين المكان، كما أن في حديثي ابن عباس وأبي بكرة تعيين اليوم، ووقع تعيين الوقت من اليوم في رواية رافع بن عمر والمزني عند أبي داود والنسائي ولفظه ‏"‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في الحجة التي حج‏)‏ هذا هو المعروف عند من ذكر أولا، ووقع في رواية الكشميهني ‏"‏ في حجته التي حج ‏"‏ وللطبراني ‏"‏ في حجة الوداع‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بهذا‏)‏ أي بالحديث الذي تقدم من طريق محمد بن زيد عن جده، وأراد المصنف بذلك أصل الحديث وأصل معناه لكن السياق مختلف فإن في طريق محمد بن زيد أنهم أجابوا بقولهم ‏"‏ الله ورسوله أعلم ‏"‏ وفي هذا عند ابن ماجة وغيره في أجوبتهم قالوا‏:‏ يوم النحر، قالوا‏:‏ بلد حرام، قالوا‏:‏ شهر حرام‏.‏

ويجمع بينهما بنحو ما تقدم وهو أنهم أجابوا أولا بالتفويض فلما سكت أجابوا بالمطلوب‏.‏

وأغرب الكرماني فقال‏:‏ قوله ‏"‏ بهذا ‏"‏ أي وقف متلبسا بهذا الكلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال هذا يوم الحج الأكبر‏)‏ فيه دليل لمن يقول إن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر وسيأتي البحث فيه في أول تفسير سورة براءة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فطفق‏)‏ في رواية ابن ماجة وغيره بين قوله ‏"‏ يوم الحج الأكبر ‏"‏ وبين قوله ‏"‏ فطفق ‏"‏ من الزيادة ‏"‏ ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة هذا البلد في هذا اليوم ‏"‏ وقد وقع معنى ذلك في طريق محمد بن زيد أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فودع الناس‏)‏ وقع في طريق ضعيفة عند البيهقي من حديث ابن عمر سبب ذلك ولفظه ‏"‏ أنزلت ‏(‏إذا جاء نصر الله والفتح‏)‏ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق، وعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له فركب، فوقف بالعقبة واجتمع الناس إليه فقال‏:‏ يا أيها الناس ‏"‏ فذكر الحديث، وفي هذه الأحاديث دلالة على مشروعية الخطبة يوم النحر، وبه أخذ الشافعي ومن تبعه، وخالف ذلك المالكية والحنفية قالوا‏:‏ خطب الحج ثلاثة، سابع ذي الحجة، ويوم عرفة، وثاني يوم النحر بمنى‏.‏

ووافقهم الشافعي إلا أنه قال بدل ثاني النحر ثالثه لأنه أول النفر، وزاد خطبة رابعة وهي يوم النحر وقال‏:‏ إن بالناس حاجة إليها ليتعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف‏.‏

وتعقبه الطحاوي بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج لأنه لم يذكر فيها شيئا من أمور الحج وإنما ذكر فيها وصايا عامة، ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئا من الذي يتعلق بيوم النحر، فعرفنا أنها لم تقصد لأجل الحج‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ إنما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا، فظن الذي رآه أنه خطب، قال‏:‏ وأما ما ذكره الشافعي أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين لأن الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة ا هـ‏.‏

وأجيب بأنه نبه صلى الله عليه وسلم في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر، وعلى تعظيم شهر ذي الحجة، وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة فلا يلتفت لتأويل غيرهم، وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكر يوم عرفة يعكر عليه في كونه يرى مشروعية الخطبة ثاني يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا ذلك يوم عرفة، بل كان يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يأتي بعده من أعمال الحج، لكن لما كان في كل يوم أعمال ليست في غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجديد الأسباب، وقد بين الزهري - وهو عالم أهل زمانه - أن الخطبة ثاني يوم النحر نقلت من خطبة يوم النحر، وأن ذلك من عمل الأمراء، يعني من بني أمية‏.‏

قال ابن أبي شيبة ‏"‏ حدثنا وكيع عن سفيان هو الثوري عن ابن جريج عن الزهري قال‏:‏ كأن النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، فشغل الأمراء فأخروه إلى الغد ‏"‏ وهذا وإن كان مرسلا لكنه يعتضد بما سبق، وبان به أن السنة الخطبة يوم النحر لا ثانيه، وأما قول الطحاوي إنه لم ينقل أنه علمهم شيئا من أسباب التحلل فلا ينفي قوع ذلك أو شيئا منه في نفس الأمر، بل قد ثبت في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كما تقدم في الباب قبله أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عن تقدم بعض المناسك على بعض، فكيف ساغ للطحاوي هذا النفي المطلق مع روايته هو لحديث عبد الله بن عمرو، وثبت أيضا في بعض طرق أحاديث الباب أنه صلى الله عليه وسلم قال للناس حينئذ ‏"‏ خذوا عني مناسككم ‏"‏ فكأنه وعظهم بما وعظهم به وأحال في تعليمهم على تلقي ذلك من أفعاله‏.‏

ومما يرد به على تأويل الطحاوي ما أخرجه ابن ماجة من حديث ابن مسعود قال ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته بعرفات‏:‏ أتدرون أي يوم هذا ‏"‏ الحديث، ونحوه للطبراني في الكبير من حديث ابن عباس‏.‏

وأخرج أحمد من حديث نبيط بن شريط أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة على بعير أحمر يخطب ‏"‏ فسمعته يقول‏:‏ أي يوم أحرم‏؟‏ قالوا‏:‏ هذا اليوم‏.‏

قال فأي بلد أحرم ‏"‏ الحديث، ونحوه لأحمد من حديث العداء بن خالد، فهذا الحديث - الذي وقع في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم خطب به يوم النحر - قد ثبت أنه خطب به قبل ذلك يوم عرفة، وأما الأحاديث التي وردت عن الصحابة بتصريحهم أنه صلى الله عليه وسلم خطب يوم النحر غير ما تقدم، فمنها حديث الهرماس بن زياد أخرجه أبو داود ولفظه ‏"‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على ناقته الجدعاء يوم الأضحى ‏"‏ وحديث أبي إمامة ‏"‏ سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر ‏"‏ أخرجه عبد الرحمن، وحديث معاذ ‏"‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى ‏"‏ أخرجه‏.‏‏.‏‏.‏وحديث رافع بن عمرو ‏"‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى ‏"‏ أخرجه وأخرج من مرسل مسروق ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم النحر ‏"‏ والله أعلم‏.‏