فصل: باب الِاسْتِعَانَةِ بِالنَّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ فِي أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ وَالْمَسْجِدِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا دخل المسجد‏)‏ حذف الفاعل للعلم به، وذكر في رواية الأصيلي وكريمة كلفظ المتن‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي قتادة‏)‏ بفتحتين، هكذا اتفق عليه الرواة عن مالك، ورواه سهيل بن أبي صالح عن عامر بن عبد الله بن الزبير فقال ‏"‏ عن جابر ‏"‏ بدل أبي قتادة، وخطأه الترمذي والدارقطني وغيرهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏السلمي‏)‏ بفتحتين لأنه من الأنصار، والإسناد كله مدني كالذي بعده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليركع‏)‏ أي فليصل، من إطلاق الجزء وإرادة الكل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ركعتين‏)‏ هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق، واختلف في أقله، والصحيح اعتباره فلا تتأدى هذه السنة بأقل من ركعتين‏.‏

واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب، ونقل ابن بطال عن أهل الظاهر الوجوب، والذي صرح به ابن حزم عدمه، ومن أدلة عدم الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم الذي رآه يتخطى ‏"‏ اجلس فقد آذيت ‏"‏ ولم يأمره بصلاة، كذا استدل به الطحاوي وغيره وفيه نظر‏.‏

وقال الطحاوي أيضا‏:‏ الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها‏.‏

قلت‏:‏ هما عمومان تعارضا، الأمر بالصلاة لكن داخل من غير تفصيل، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة، فلا بد من تخصيص أحد العمومين، فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر - وهو الأصح عند الشافعية - وذهب جمع إلى عكسه وهو قول الحنفية والمالكية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قبل أن يجلس‏)‏ صرح جماعة بأنه إذا خالف وجلس لا يشرع له التدارك، وفيه نظر لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر أنه ‏"‏ دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أركعت ركعتين‏؟‏ قال لا، قال‏:‏ قم فاركعهما ‏"‏ ترجم عليه ابن حبان أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس‏.‏

قلت‏:‏ ومثله قصة سليك كما سيأتي في الجمعة‏.‏

وقال المحب الطبري‏:‏ يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز، أو يقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء، ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ حديث أبي قتادة هذا ورد على سبب، وهو ‏"‏ أن أبا قتادة دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا بين أصحابه فجلس معهم، فقال له‏:‏ ما منعك أن تركع‏؟‏ قال‏:‏ رأيتك جالسا والناس جلوس‏.‏

قال‏:‏ فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

وعند ابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي قتادة ‏"‏ أعطوا المساجد حقها، قيل له‏:‏ وما حقها‏؟‏ قال ركعتين قبل أن تجلس‏"‏‏.‏

*3*باب الْحَدَثِ فِي الْمَسْجِدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الحدث في المسجد‏)‏ قال المازري‏:‏ أشار البخاري إلى الرد على من منع المحدث أن يدخل المسجد أو يجلس فيه وجعله كالجنب، وهو مبني على أن الحدث هنا الريح ونحوه، وبذلك فسره أبو هريرة كما تقدم في الطهارة‏.‏

وقد قيل المراد بالحدث هنا أعم من ذلك، أي ما لم يحدث سوءا‏.‏

ويؤيده رواية مسلم ‏"‏ ما لم يحدث فيه، ما لم يؤذ فيه ‏"‏ وفي أخرى للبخاري ‏"‏ ما لم يؤذ فيه بحدث فيه‏"‏، وسيأتي قريبا بناء على أن الثانية تفسير للأولى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ تَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏الملائكة تصلي‏)‏ للكشميهني ‏"‏ إن الملائكة تصلي ‏"‏ بزيادة إن، والمراد بالملائكة الحفظة أو السيارة أو أعم من ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تقول الخ‏)‏ هو بيان لقوله تصلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما دام في مصلاه‏)‏ مفهومه أنه إذا انصرف عنه انقضى ذلك، وسيأتي في ‏"‏ باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة ‏"‏ بيان فضيلة من انتظر الصلاة مطلقا سواء ثبت في مجلسه ذلك من المسجد أم تحول إلى غيره، ولفظه ‏"‏ ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة ‏"‏ فأثبت للمنتظر حكم المصلي، فيمكن أن يحمل قوله ‏"‏ في مصلاه ‏"‏ على المكان المعد للصلاة، لا الموضع الخاص بالسجود، فلا يكون بين الحديثين تخالف‏.‏

و قوله‏:‏ ‏(‏ما لم يحدث‏)‏ يدل على أن الحدث يبطل ذلك ولو استمر جالسا‏.‏

وفيه دليل على أن الحدث في المسجد أشد من النخامة لما تقدم من أن لها كفارة، ولم يذكر لهذا كفارة، بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة، ودعاء الملائكة مرجو الإجابة لقوله تعالى ‏(‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏)‏ وسيأتي بقية فوائد هذا الحديث في ‏"‏ باب من جلس ينتظر ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ أَكِنَّ النَّاسَ مِنْ الْمَطَرِ وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ وَقَالَ أَنَسٌ يَتَبَاهَوْنَ بِهَا ثُمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب بنيان المسجد‏)‏ أي النبوي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو سعيد‏)‏ هو الخدري، والقدر المذكور هنا طرف من حديثه في ذكر ليلة القدر، وقد وصله المؤلف في الاعتكاف وغيره من طريق أبي سلمة عنه، وسيأتي قريبا في أبواب صلاة الجماعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأمر عمر‏)‏ هو طرف من قصة في ذكر تجديد المسجد النبوي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أكن الناس‏)‏ وقع في روايتنا أكن بضم الهمزة وكسر الكاف وتشديد النون المضمومة بلفظ الفعل المضارع من أكن الرباعي يقال‏:‏ أكننت الشيء إكنانا أي صنته وسترته، وحكى أبو زيد كننته من الثلاثي بمعنى أكننته، وفرق الكسائي بينهما فقال كننته أي سترته وأكننته في نفسي أي أسررته، ووقع في رواية الأصيلي ‏"‏ أكن ‏"‏ بفتح الهمزة والنون فعل أمر من الإكنان أيضا ويرجحه قوله قبله ‏"‏ وأمر عمر ‏"‏ وقوله بعده ‏"‏ وإياك ‏"‏ وتوجه الأولى بأنه خاطب القوم بما أراد ثم التفت إلى الصانع فقال له ‏"‏ وإياك‏"‏، أو يحمل قوله وإياك على التجريد كأنه خاطب نفسه بذلك، قال عياض‏:‏ وفي رواية غير الأصيلي والقابسي - أي وأبي ذر - ‏"‏ كن الناس ‏"‏ بحذف الهمزة وكسر الكاف وهو صحيح أيضا‏.‏

وجوز ابن مالك ضم الكاف على أنه من كن فهو مكنون‏.‏

انتهى‏.‏

وهو متجه، لكن الرواية لا تساعده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتفتن الناس‏)‏ بفتح المثناة من فتن، وضبطه ابن التين بالضم من أفتن، وذكر أن الأصمعي أنكره وأن أبا عبيدة أجازه فقال فتن وأفتن بمعنى، قال ابن بطال‏:‏ كان عمر فهم ذلك من رد الشارع الخميصة إلى أبي جهم من أجل الأعلام التي فيها وقال ‏"‏ إنها ألهتني عن صلاتي‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون عند عمر من ذلك علم خاص بهذه المسألة فقد روى ابن ماجه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر مرفوعا ‏"‏ ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم ‏"‏ رجاله ثقات إلا شيخه جبارة بن المغلس فقيه مقال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أنس‏:‏ يتباهون بها‏)‏ بفتح الهاء أي يتفاخرون، وهذا التعليق رويناه موصولا في مسند أبي يعلى وصحيح ابن خزيمة من طريق أبي قلابة أن أنسا قال ‏"‏ سمعته يقول‏:‏ يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلا ‏"‏ وأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان مختصرا من طريق أخرى عن أبي قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد ‏"‏ والطريق الأولى أليق بمراد البخاري‏.‏

وعند أبي نعيم في كتاب المساجد من الوجه الذي عند ابن خزيمة ‏"‏ يتباهون بكثرة المساجد‏"‏‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قوله ‏"‏ ثم لا يعمرونها ‏"‏ المراد به عمارتها بالصلاة وذكر الله، وليس المراد به بنيانها، بخلاف ما يأتي في ترجمة الباب الذي بعده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس‏:‏ لتزخرفنها‏)‏ بفتح اللام وهي لام القسم وضم المثناة وفتح الزاي وسكون الخاء المعجمة وكسر الراء وضم الفاء وتشديد النون وهي نون التأكيد، والزخرفة الزينة، وأصل الزخرف الذهب ثم استعمل في كل ما يتزين به‏.‏

وهذا التعليق وصله أبو داود وابن حبان من طريق يزيد بن الأصم عن ابن عباس هكذا موقوفا، وقبله حديث مرفوع ولفظه ‏"‏ ما أمرت بتشييد المساجد ‏"‏ وظن الطيبي في شرح المشكاة أنهما حديث واحد فشرحه على أن اللام في ‏"‏ لتزخرفنها ‏"‏ مكسورة وهي لام التعليل للمنفي قبله، والمعنى‏:‏ ما أمرت بالتشييد ليجعل ذريعة إلى الزخرفة، قال‏:‏ والنون فيه لمجرد التأكيد، وفيه نوع توبيخ وتأنيب، ثم قال‏:‏ ويجوز فتح اللام على أنها جواب القسم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا هو المعتمد، والأول لم تثبت به الرواية أصلا فلا يغتر به، وكلام ابن عباس فيه مفصول من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب المشهورة وغيرها، وإنما لم يذكر البخاري المرفوع منه للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله وإرساله، قال البغوي‏:‏ التشييد رفع البناء وتطويله، وإنما زخرفت اليهود والنصارى معابدها حين حرفوا كتبهم وبدلوها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا يعقوب بن إبراهيم‏)‏ زاد الأصيلي ابن سعد‏.‏

ورواية صالح بن كيسان عن نافع من رواية الأقران لأنهما مدنيان ثقتان تابعيان من طبقة واحدة، وعبد الله ‏"‏ هو ابن عمر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏باللبن‏)‏ بفتح اللام وكسر الموحدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعمده‏)‏ بفتح أوله وثانيه ويجوز ضمهما، وكذا قوله ‏"‏ خشب‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه‏)‏ أي بجنس الآلات المذكورة ولم يغير شيئا من هيئته إلا توسيعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم غيره عثمان‏)‏ ، أي من الوجهين‏:‏ التوسيع، وتغيير الآلات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالحجارة المنقوشة‏)‏ أي بدل اللبن، وللحموي والمستملي ‏"‏ بحجارة منقوشة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والقصة‏)‏ بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة وهي الجص بلغة أهل الحجاز‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ تشبه الجص وليست به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وسقفه‏)‏ بلفظ الماضي عطفا على جعل، وبإسكان القاف على عمده، والساج نوع من الخشب معروف يؤتى به من الهند‏.‏

وقال ابن بطال وغيره‏:‏ هذا يدل على أن السنة في بنيان المسجد القصد وترك الغلو في تحسينه، فقد كان عمر مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه، وإنما احتاج إلى تجديده لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه، ثم كان عثمان والمال في زمانه أكثر فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة، ومع ذلك فقد أنكر بعض الصحابة عليه كما سيأتي بعد قليل‏.‏

وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان، وذلك في أواخر عصر الصحابة، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة، ورخص في ذلك بعضهم - وهو قول أبي حنيفة - إذا وقع على سبيل التعظيم للمساجد، ولم يقع الصرف على ذلك من بيت المال‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ لما شيد الناس بيوتهم وزخرفوها ناسب أن يصنع ذلك بالمساجد صونا لها عن الاستهانة‏.‏

وتعقب بأن المنع إن كان للحث على اتباع السلف في ترك الرفاهية فهو كما قال، وإن كان لخشية شغل بال المصلي بالزخرفة فلا لبقاء العلة‏.‏

وفي حديث أنس علم من أعلام النبوة لإخباره صلى الله عليه وسلم بما سيقع، فوقع كما قال‏.‏

*3*باب التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب التعاون في بناء المسجد، ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله‏)‏ كذا في رواية أبي ذر‏.‏

وزاد غيره قبل قوله ما كان ‏"‏ وقول الله عز وجل ‏"‏ وفي آخره ‏"‏ إلى قوله المهتدين ‏"‏ وذكره لهذه الآية مصير منه إلى ترجيح أحد الاحتمالين من أحد الاحتمالين في الآية، وذلك أن قوله تعالى ‏(‏مساجد الله‏)‏ يحتمل أن يراد بها مواضع السجود، ويحتمل أن يراد بها الأماكن المتخذة لإقامة الصلاة، وعلى الثاني يحتمل أن يراد بعمارتها بنيانها، ويحتمل أن يراد بها الإقامة لذكر الله فيها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ وَلِابْنِهِ عَلِيٍّ انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى أَتَى ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ قَالَ يَقُولُ عَمَّارٌ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا مسدد‏)‏ هذا الإسناد كله بصري، لأن ابن عباس أقام على البصرة أميرا مدة ومعه مولاه عكرمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏انطلقا إلى أبي سعيد‏)‏ أي الخدري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا هو‏)‏ زاد المصنف في الجهاد ‏"‏ فأتيناه وهو وأخوه في حائط لهما‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يصلحه‏)‏ قال في الجهاد ‏"‏ يسقيانه ‏"‏ والحائط البستان، وهذا الأخ زعم بعض الشراح أنه قتادة بن النعمان وهو أخو أبي سعيد لأمه، ولا يصح أن يكون هو، فإن علي بن عبد الله بن عباس ولد في أواخر خلافة علي ومات قتادة بن النعمان قبل ذلك في أواخر خلافة عمر بن الخطاب، وليس لأبي سعيد أخ شقيق ولا أخ من أبيه ولا من أمه إلا قتادة، فيحتمل أن يكون المذكور أخاه من الرضاعة ولم أقف إلى الآن على اسمه‏.‏

وفي الحديث إشارة إلى أن العلم لا يحوى جميعه أحد، لأن ابن عباس مع سعة علمه أمر ابنه بالأخذ عن أبي سعيد، فيحتمل أن يكون علم أن عنده ما ليس عنده، ويحتمل أن يكون إرساله إليه لطلب علو الإسناد، لأن أبا سعيد أقدم صحبة وأكثر سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم من ابن عباس، وفيه ما كان السلف عليه من التواضع وعدم التكبر وتعاهد أحوال المعاش بأنفسهم والاعتراف لأهل الفضل بفضلهم وإكرام طلبة العلم وتقديم حوائجهم على حوائج أنفسهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخذ رداءه فاحتبى‏)‏ فيه التأهب لإلقاء العلم وترك التحديث في حالة المهنة إعظاما للحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى أتى على ذكر بناء المسجد‏)‏ أي النبوي‏.‏

وفي رواية كريمة ‏"‏ حتى إذا أتى‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعمار لبنتين‏)‏ زاد معمر في جامعه ‏"‏ لبنة عنه ولبنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وفيه جواز ارتكاب المشقة في عمل البر، وتوقير الرئيس والقيام عنه بما يتعاطاه من المصالح، وفضل بنيان المساجد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فبنفض‏)‏ فيه التعبير بصيغة المضارع في موضع الماضي مبالغة لاستحضار ذلك في نفس السامع كأنه يشاهد‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ فجعل ينفض‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏التراب عنه‏)‏ زاد في الجهاد ‏"‏ عن رأسه ‏"‏ وكذا لمسلم، وفيه إكرام العامل في سبيل الله والإحسان إليه بالفعل والقول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويقول‏)‏ أي في تلك الحال ‏(‏ويح عمار‏)‏ هي كلمة رحمة، وهي بفتح الحاء إذا أضيفت، فإن لم تضف جاز الرفع والنصب مع التنوين فيهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يدعوهم‏)‏ أعاد الضمير على غير مذكور والمراد قتلته كما ثبت من وجه آخر ‏"‏ تقتله الفئة الباغية يدعوهم الخ ‏"‏ وسيأتي التنبيه عليه‏.‏

فإن قيل كان قتله بصفين وهو مع علي والذين قتلوه مع معاوية وكان معه جماعة من الصحابة فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار‏؟‏ فالجواب أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها وهو طاعة الإمام، وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم‏.‏

وقال ابن بطال تبعا للمهلب‏:‏ إنما يصح هذا في الخوارج الذين بعث إليهم علي عمارا يدعوهم إلى الجماعة، ولا يصح في أحد من الصحابة‏.‏

وتابعه على هذا الكلام جماعة من الشراح‏.‏

وفيه نظر من أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أن الخوارج إنما خرجوا على علي بعد قتل عمار بلا خلاف بين أهل العلم لذلك، فإن ابتداء أمر الخوارج كان عقب التحكيم، وكان التحكيم عقب انتهاء القتال بصفين وكان قتل عمار قبل ذلك قطعا، فكيف يبعثه إليهم علي بعد موته‏.‏

ثانيها‏:‏ أن الذين بعث إليهم علي عمارا إنما هم أهل الكوفة بعثه يستنفرهم على قتال عائشة ومن معها قبل وقعة الجمل، وكان فيهم من الصحابة جماعة كمن كان مع معاوية وأفضل، وسيأتي التصريح بذلك عند المصنف في كتاب الفتن، فما فر منه المهلب وقع في مثله مع زيادة إطلاقه عليهم تسمية الخوارج وحاشاهم من ذلك‏.‏

ثالثها‏:‏ أنه شرح على ظاهر ما وقع في هذه الرواية الناقصة، ويمكن حمله على أن المراد بالذين يدعونه إلى النار كفار قريش كما صرح به بعض الشراح، لكن وقع في رواية ابن السكن وكريمة وغيرهما وكذا ثبت في نسخة الصغاني التي ذكر أنه قابلها على نسخة الفربري التي بخطه زيادة توضح المراد وتفصح بأن الضمير يعود على قتلته وهم أهل الشام ولفظه ‏"‏ ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم ‏"‏ الحديث، واعلم أن هذه الزيادة لم يذكرها الحميدي في الجمع وقال‏:‏ إن البخاري لم يذكرها أصلا، وكذا قال أبو مسعود‏.‏

قال الحميدي‏:‏ ولعلها لم تقع للبخاري، أو وقعت فحذفها عمدا‏.‏

قال‏:‏ وقد أخرجها الإسماعيلي والبرقاني في هذا الحديث‏.‏

قلت‏:‏ ويظهر لي أن البخاري حذفها عمدا وذلك لنكتة خفية، وهي أن أبا سعيد الخدري اعترف أنه لم يسمع هذه الزيادة من النبي صلى الله عليه وسلم فدل على أنها في هذه الرواية مدرجة، والرواية التي بينت ذلك ليست على شرط البخاري، وقد أخرجها البزار من طريق داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد فذكر الحديث في بناء المسجد وحملهم لبنة لبنة وفيه فقال أبو سعيد ‏"‏ فحدثني أصحابي ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية ‏"‏ ا هـ‏.‏

وابن سمية هو عمار وسمية اسم أمه‏.‏

وهذا الإسناد على شرط مسلم، وقد عين أبو سعيد من حدثه بذلك، ففي مسلم والنسائي من طريق أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال ‏"‏ حدثني من هو خير مني أبو قتادة، فذكره ‏"‏ فاقتصر البخاري على القدر الذي سمعه أبو سعيد من النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وهذا دال على دقة فهمه وتبحره في الاطلاع على علل الأحاديث‏.‏

وفي هذا الحديث زيادة أيضا لم تقع في رواية البخاري، وهي عند الإسماعيلي وأبي نعيم في المستخرج من طريق خالد الواسطي عن خالد الحذاء وهي‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يا عمار ألا تحمل كما يحمل أصحابك‏؟‏ قال‏:‏ إني أريد من الله الأجر ‏"‏ وقد تقدمت زيادة معمر فيه أيضا‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ روى حديث ‏"‏ تقتل عمارا الفئة الباغية ‏"‏ جماعة من الصحابة‏:‏ منهم قتادة بن النعمان كما تقدم، وأم سلمة عند مسلم، وأبو هريرة عند الترمذي، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي، وعثمان ابن عفان وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع وخزيمة بن ثابت ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو اليسر وعمار نفسه، وكلها عند الطبراني وغيره، وغالب طرقها صحيحة أو حسنة، وفيه عن جماعة آخرين يطول عدهم، وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة وفضيلة ظاهرة لعلي ولعمار ورد على النواصب الزاعمين أن عليا لم يكن مصيبا في حروبه‏.‏

قوله في آخر الحديث ‏(‏يقول عمار أعوذ بالله من الفتن‏)‏ فيه دليل على استحباب الاستعاذة من الفتن، ولو علم المرء أنه متمسك فيها بالحق، لأنها قد تفضي إلى وقوع من لا يرى وقوعه‏.‏

قال ابن بطال وفيه رد للحديث الشائع‏:‏ لا تستعيذوا بالله من الفتن فإن فيها حصاد المنافقين‏.‏

قلت‏:‏ وقد سئل ابن وهب قديما عنه فقال‏:‏ إنه باطل، وسيأتي في كتاب الفتن ذكر كثير من أحكامها وما ينبغي من العمل عند وقوعها‏.‏

أعاذنا الله تعالى مما ظهر منها وما بطن‏.‏

*3*باب الِاسْتِعَانَةِ بِالنَّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ فِي أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ وَالْمَسْجِدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد‏)‏ الصناع بضم المهملة جمع صانع، وذكره بعد النجار من العام بعد الخاص، أو في الترجمة لف ونشر فقوله في أعواد المنبر ليتعلق بالنجار وقوله والمسجد يتعلق بالصناع، أي والاستعانة بالصناع في المسجد أي في بناء المسجد‏.‏

وحديث الباب من رواية سهل وجابر جميعا يتعلق بالنجار فقط، ومنه تؤخذ مشروعية الاستعانة بغيره من الصناع لعدم الفرق، وكأنه أشار بذلك إلى حديث طلق بن علي قال ‏"‏ بنيت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول‏:‏ قربوا اليمامي من الطين، فإنه أحسنكم له مسا وأشدكم له سبكا ‏"‏ رواه أحمد‏.‏

وفي لفظ له ‏"‏ فأخذت المسحاة فخلطت الطين فكأنه أعجبه فقال‏:‏ دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين ‏"‏ ورواه ابن حبان في صحيحه ولفظه ‏"‏ فقلت يا رسول الله أأنقل كما ينقلون‏؟‏ فقال‏:‏ لا ولكن اخلط لهم الطين فأنت أعلم به‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى امْرَأَةٍ مُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد العزيز‏)‏ هو ابن أبي حازم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى امرأة‏)‏ تقدم ذكرها في باب الصلاة على المنبر والسطوح، والتنبيه على غلط من سماها علاثة، وكذا التنبيه على اسم غلامها‏.‏

وساق المتن هنا مختصرا، وساقه بتمامه في البيوع بهذا الإسناد‏.‏

وسنذكر فوائده في كتاب الجمعة إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا خَلَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ فَإِنَّ لِي غُلَامًا نَجَّارًا قَالَ إِنْ شِئْتِ فَعَمِلَتْ الْمِنْبَرَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا خلاد‏)‏ هو ابن يحيى، وأيمن بوزن أفعل وهو الحبشي مولى بني مخزوم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن امرأة‏)‏ هي التي ذكرت في حديث سهل، فإن قيل ظاهر سياق حديث جابر مخالف لسياق حديث سهل لأن في هذا أنها ابتدأت بالعرض، وفي حديث سهل أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أرسل إليها يطلب ذلك، أجاب ابن بطال باحتمال أن تكون المراة ابتدأت بالسؤال متبرعة بذلك، فلما حصل لها القبول أمكن أن يبطئ الغلام بعمله فأرسل يستنجزها إتمامه لعلمه بطيب نفسها بما بذلته‏.‏

قال‏:‏ ويمكن إرساله إليها ليعرفها بصفة ما يصنعه الغلام من الأعواد وأن يكون ذلك منبرا‏.‏

قلت‏:‏ قد أخرجه المصنف في علامات النبوة من هذا الوجه بلفظ ‏"‏ ألا أجعل لك منيرا ‏"‏ فلعل التعريف وقع بصفة للمنبر مخصوصة‏.‏

أو يحتمل أنه لما فوض إليها الأمر بقوله لها ‏"‏ إن شئت ‏"‏ كان ذلك سبب البطء، لا أن الغلام كان شرع وأبطأ، ولا أنه جهل الصفة، وهذا أوجه الأوجه في نظري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألا أجعل لك‏)‏ أضافت الجعل إلى نفسها مجازا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن لي غلاما نجارا‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فإني لي غلام نجار ‏"‏ وقد اختصر المؤلف هذا المتن أيضا، ويأتي بتمامه في علامات النبوة‏.‏

وفي الحديث قبول البذل إذا كان بغير سؤال، واستنجاز الوعد ممن يعلم منه الإجابة، والتقرب إلى أهل الفضل بعمل الخير، وسيأتي بقية فوائده في علامات النبوة إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب مَنْ بَنَى مَسْجِدًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من بنى مسجدا‏)‏ أي ما له من الفضل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ الْخَوْلَانِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ وَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا قَالَ بُكَيْرٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرني عمرو‏)‏ هو ابن الحارث، وبكير بالتصغير هو ابن عبد الله بن الأشج، وعبيد الله هو ابن الأسود‏.‏

وفي هذا الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق‏:‏ بكير وعاصم وعبيد الله، وثلاثة من أوله مصريون، وثلاثة من آخره مدنيون، وفي وسطه مدني سكن مصر وهو بكير، فانقسم الإسناد إلى مصري ومدني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عند قول الناس فيه‏)‏ وقع بيان ذلك عند مسلم حيث أخرجه من طريق محمود بن لبيد الأنصاري - وهو من صغار الصحابة - قال ‏"‏ لما أراد عثمان بناء المسجد كره الناس ذلك وأحبوا أن يدعوه على هيئته ‏"‏ أي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وظهر بهذا أن قوله في حديث الباب ‏"‏ حين بنى ‏"‏ أي حين أراد أن يبني‏.‏

وقال البغوي في شرح السنة‏:‏ لعل الذي كره الصحابة من عثمان بناؤه بالحجارة المنقوشة لا مجرد توسيعه‏.‏

انتهى‏.‏

ولم يبن عثمان المسجد إنشاء، وإنما وسعه وشيده كما تقدم في باب بنيان المسجد، فيؤخذ منه إطلاق البناء في حق من جدد كما يطلق في حق من أنشأ‏.‏

أو المراد بالمسجد هنا بعض المسجد من إطلاق الكل على البعض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مسجد الرسول‏)‏ كذا للأكثر، وللحموي والكشميهني ‏"‏ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قوله‏:‏ ‏(‏إنكم أكثرتم‏)‏ حذف المفعول للعلم به، والمراد الكلام بالإنكار ونحوه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ كان بناء عثمان للمسجد النبوي سنة ثلاثين على المشهور، وقيل في آخر سنة من خلافته‏.‏

ففي كتاب السير عن الحارث بن مسكين عن ابن وهب أخبرني مالك أن كعب الأحبار كان يقول عند بنيان عثمان المسجد‏:‏ لوددت أن هذا المسجد لا ينجز، فإنه إذا فرغ من بنيانه قتل عثمان‏.‏

قال مالك‏:‏ فكان كذلك‏.‏

قلت‏:‏ ويمكن الجمع بين القولين بأن الأول كان تاريخ ابتدائه والثاني تاريخ انتهائه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من بنى مسجدا‏)‏ التنكير فيه للشيوع فيدخل فيه الكبير والصغير، ووقع في رواية أنس عند الترمذي صغيرا أو كبيرا، وزاد ابن أبي شيبة في حديث الباب من وجه آخر عن عثمان ‏"‏ ولو كمفحص قطاة ‏"‏ وهذه الزيادة أيضا عند ابن حبان والبزار من حديث أبي ذر‏.‏

وعند أبي مسلم الكجي من حديث ابن عباس، وعند الطبراني في الأوسط من حديث أنس وابن عمر، وعند أبي نعيم في الحلية من حديث أبي بكر الصديق، ورواه ابن خزيمة من حديث جابر بلفظ ‏"‏ كمفحص قطاة أو أصغر‏"‏، وحمل أكثر العلماء ذلك على المبالغة لأن المكان الذي تفحص القطاة عنه لتضع فيه بيضها وترقد عليه لا يكفي مقداره للصلاة فيه‏.‏

ويؤيده رواية جابر هذه‏.‏

وقيل بل هو على ظاهره، والمعنى أن يزيد في مسجد قدرا يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا القدر، أو يشترك جماعة في بناء مسجد فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر، وهذا كله بناء على أن المراد بالمسجد ما يتبادر إلى الذهن، وهو المكان الذي يتخذ للصلاة فيه، فإن كان المراد بالمسجد موضع السجود وهو ما يسع الجبهة فلا يحتاج إلى شيء مما ذكر، لكن قوله ‏"‏ بنى ‏"‏ يشعر بوجود بناء على الحقيقة‏.‏

ويؤيده قوله في رواية أم حبيبة ‏"‏ من بنى لله بيتا ‏"‏ أخرجه سمويه في فوائده بإسناد حسن، وقوله في رواية عمر ‏"‏ من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله ‏"‏ أخرجه ابن ماجه وابن حبان‏.‏

وأخرج النسائي نحوه من حديث عمرو بن عبسة، فكل ذلك مشعر بأن المراد بالمسجد المكان المتخذ لا موضع السجود فقط، لكن لا يمتنع إرادة الآخر مجازا، إذ بناء كل شيء بحسبه، وقد شاهدنا كثيرا من المساجد في طرق المسافرين يحوطونها إلى جهة القبلة وهي في غاية الصغر، وبعضها لا تكون أكثر من قدر موضع السجود‏.‏

وروى البيهقي في الشعب من حديث عائشة نحو حديث عثمان وزاد‏:‏ قلت وهذه المساجد التي في الطرق‏؟‏ قال نعم‏.‏

وللطبراني نحوه من حديث أبي قرصافة وإسنادهما حسن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال بكير حسبت أنه‏)‏ أي شيخه عاصما بالإسناد المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يبتغي به وجه الله‏)‏ أي يطلب به رضا الله، والمعنى بذلك الإخلاص‏.‏

وهذه الجملة لم يجزم بها بكير في الحديث، ولم أرها إلا من طريقه هكذا، وكأنها ليست في الحديث بلفظها، فإن كل من روى حديث عثمان من جميع الطرق إليه لفظهم ‏"‏ من بنى لله مسجدا ‏"‏ فكأن بكيرا نسيها فذكرها بالمعنى مترددا في اللفظ الذي ظنه، فإن قوله ‏"‏ لله ‏"‏ بمعنى قوله يبتغي به وجه الله، لاشتراكهما في المعنى المراد وهو الإخلاص‏.‏

فائدة‏:‏ قال ابن الجوزي من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدا من الإخلاص‏.‏

انتهى‏.‏

ومن بناه بالأجرة لا يحصل له هذا الوعد المخصوص لعدم الإخلاص وإن كان يؤجر في الجملة‏.‏

وروى أصحاب السنن وابن خزيمة والحاكم من حديث عقبة بن عامر مرفوعا ‏"‏ إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة‏:‏ صانعه المحتسب في صنعته، والرامي به، والممد به ‏"‏ فقوله ‏"‏ المحتسب في صنعته ‏"‏ أي من يقصد بذلك إعانة المجاهد، وهو أعم من أن يكون متطوعا بذلك أو بأجرة، لكن الإخلاص لا يحصل إلا من المتطوع، وهل يحصل الثواب المذكور لمن جعل بقعة من الأرض مسجدا بأن يكتفي بتحويطها من غير بناء، وكذا من عمد إلى بناء كان يملكه فوقفه مسجدا‏؟‏ إن وقفنا مع ظاهر اللفظ فلا، وإن نظرنا إلى المعنى فنعم وهو المتجه، وكذا قوله ‏"‏ بنى ‏"‏ حقيقة في المباشر بشرطها، لكن المعنى يقتضي دخول الآمر بذلك أيضا، وهو المنطبق على استدلال عثمان رضي الله عنه، لأنه استدل بهذا الحديث على ما وقع منه، ومن المعلوم أنه لم يباشر ذلك بنفسه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بنى الله‏)‏ إسناد البناء إلى الله مجاز، وإبراز الفاعل فيه لتعظيم ذكره جل اسمه، أو لئلا تتنافر الضمائر، أو يتوهم عوده على باني المسجد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مثله‏)‏ صفة لمصدر محذوف أي بنى بناء مثله، ولفظ ‏"‏ المثل ‏"‏ له استعمالان‏:‏ أحدهما الإفراد مطلقا كقوله تعالى ‏(‏فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا‏)‏ والآخر المطابقة كقوله تعالى ‏(‏أمم أمثالكم‏)‏ فعلى الأول لا يمتنع أن يكون الجزاء أبنية متعددة، فيحصل جواب من استشكل التقييد بقوله ‏"‏ مثله ‏"‏ مع أن الحسنة بعشرة أمثالها، لاحتمال أن يكون المراد بنى الله له عشرة أبنية مثله، والأصل أن ثواب الحسنة الواحدة واحد بحكم العدل، والزيادة عليه بحكم الفضل‏.‏

وأما من أجاب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل نزول قوله تعالى ‏(‏من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها‏)‏ ففيه بعد، وكذا من أجاب بأن التقييد بالواحد لا ينفي الزيادة عليه‏.‏

ومن الأجوبة المرضية أيضا أن المثلية هنا بحسب الكمية، والزيادة حاصلة بحسب الكيفية، فكم من بيت خير من عشرة بل من مائة‏.‏

أو أن المقصود من المثلية أن جزاء هذه الحسنة من جنس البناء لا من غيره مع قطع النظر عن غير ذلك، مع أن التفاوت حاصل قطعا بالنسبة إلى ضيق الدنيا وسعة الجنة، إذ موضع شبر فيها خير من الدنيا وما فيها كما ثبت في الصحيح، وقد روى أحمد من حديث واثلة بلفظ ‏"‏ بنى الله له في الجنة أفضل منه ‏"‏ وللطبراني من حديث أبي أمامة بلفظ ‏"‏ أوسع منه ‏"‏ وهذا يشعر بأن المثلية لم يقصد بها المساواة من كل وجه‏.‏

وقال النووي‏:‏ يحتمل أن يكون المراد أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في الجنة‏)‏ يتعلق ببنى، أو هو حال من قوله ‏"‏ مثله‏"‏، وفيه إشارة إلى دخول فاعل ذلك الجنة، إذ المقصود بالبناء له أن يسكنه، وهو لا يسكنه إلا بعد الدخول‏.‏

والله أعلم‏.‏