فصل: باب إِذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوْ الذَّائِبِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الْمِسْكِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب المسك‏)‏ بكسر الميم الطيب المعروف‏.‏

قال الكرماني مناسبة ذكره في الذبائح أنه فضلة من الظبي‏.‏

قلت‏:‏ ومناسبته للباب الذي قبله وهو جلد الميتة إذا دبغ تطهر مما سأذكره، قال الجاحظ‏:‏ هو من دويبة تكون في الصين تصاد لنوافجها وسررها، فإذا صيدت شدت بعصائب وهي مدلية يجتمع فيها دمها، فإذا ذبحت قورت السرة التي عصبت ودفنت في الشعر حتى يستحيل ذلك الدم المختنق الجامد مسكا ذكيا بعد أن كان لا يرام من النتن، ومن ثم قال القفال‏:‏ إنها تندبغ بما فيها من المسك فتطهر كما يطهر غيرها من المدبوغات، والمشهور أن غزال المسك كالظبي لكن لونه أسود وله نابان لطيفان أبيضان في فكه الأسفل، وإن المسك دم يجتمع في سرته في وقت معلوم من السنة فإذا اجتمع ورم الموضع فمرض الغزال إلى أن يسقط منه، ويقال إن أهل تلك البلاد يجعلون لها أوتادا في البرية تحتك بها ليسقط‏.‏

ونقل ابن الصلاة في ‏"‏ مشكل الوسيط ‏"‏ أن النافجة في جوف الظبية كالأنفحة في جوف الجدي، وعن علي بن مهدي الطبري الشافعي أنها تلقيها من جوفها كما تلقى الدجاجة البيضة، ويمكن الجمع بأنها تلقيها من سرتها فتتعلق بها إلى أن تحتك، قال النووي‏:‏ أجمعوا على أن المسك طاهر يجوز استعماله في البدن والثوب، ويجوز بيعه‏.‏

ونقل أصحابنا عن الشيعة فيه مذهبا باطلا وهو مستثنى من القاعدة‏:‏ ما أبين من حي فهو ميت ا هـ، وحكى ابن التين عن ابن شعبان من المالكية أن فأرة المسك إنما تؤخذ في حال الحياة أو بذكاة من لا تصح ذكاته من الكفرة، وهي مع ذلك محكوم بطهارتها لأنها تستحيل عن كونها دما حتى تصير مسكا كما يستحيل الدم إلى اللحم فيطهر ويحل أكله، وليست بحيوان حتى يقال نجست بالموت، وإنما هي شيء يحدث بالحيوان كالبيض، وقد أجمع المسلمون على طهارة المسك إلا ما حكى عن عمر من كراهته، وكذا حكى ابن المنذر عن جماعة ثم قال‏:‏ ولا يصح المنع فيه إلا عن عطاء بناء على أنه جزء منفصل، وقد أخرج مسلم في أثناء حديث عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ المسك أطيب الطيب ‏"‏ وأخرجه أبو داود مقتصرا منه على هذا القدر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏ما من مكلوم‏)‏ أي مجروح ‏(‏وكلمه‏)‏ بفتح الكاف وسكون اللام ‏(‏يدمى‏)‏ بفتح أوله وثالثه، وقد تقدم شرح هذا الحديث في كتاب الجهاد، قال النووي‏:‏ ظاهر قوله ‏"‏ في سبيل الله ‏"‏ اختصاصه بمن وقع له ذلك في قتال الكفار، لكن يلتحق به من قتل في حرب البغاة وقطاع الطريق وإقامة المعروف لاشتراك الجميع في كونهم شهداء‏.‏

وقال ابن عبد البر أصل الحديث في الكفار ويلتحق هؤلاء بهم بالمعنى، لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏من قتل دون ماله فهو شهيد ‏"‏ وتوقف بعض المتأخرين في دخول من قاتل دون ماله لأنه يقصد صون ماله بداعية الطبع، وقد أشار في الحديث إلى اختصاص ذلك بالمخلص حيث قال ‏"‏ والله أعلم بمن يكلم في سبيله ‏"‏ والجواب أنه يمكن فيه الإخلاص مع إرادة صون المال، كأن يقصد بقتال من أراد أخذه منه صون الذي يقاتله عن ارتكاب المعصية وامتثال أمر الشارع بالدفع، ولا يمحض القصد لصون المال، فهو كمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا مع تشوفه إلى الغنيمة‏.‏

قال ابن المنير‏:‏ وجه استدلال البخاري بهذا الحديث على طهارة المسك وكذا بالذي بعده وقوع تشبيه دم الشهيد به، لأنه في سياق التكريم والتعظيم، فلو كان نجسا لكان من الخبائث ولم يحسن التمثيل به في هذا المقام‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً

الشرح‏:‏

تقدم شرح حديث أبي موسى في الجليس الصالح في أوائل البيوع، وقوله فيه ‏"‏ يحذيك ‏"‏ بضم أوله ومهملة ساكنة وذال معجمة مكسورة أي يعطيك وزنا ومعنى‏.‏

*3*باب الْأَرْنَبِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الأرنب‏)‏ هو دويبة معروفة تشبه العناق لكن في رجليها طول بخلاف يديها، والأرنب اسم جنس للذكر والأنثى، ويقال للذكر أيضا الخزز وزن عمر بمعجمات، وللأنثى عكرشة، وللصغير خرنق بكسر المعجمة وسكون الراء وفتح النون بعدها قاف، هذا هو المشهور‏.‏

وقال الجاحظ‏:‏ لا يقال أرنب إلا للأنثى، ويقال إن الأرنب شديدة الجبن كثيرة الشبق وأنها تكون سنة ذكرا وسنة أنثى وأنها تحيض، وسأذكر من خرجه، ويقال إنها تنام مفتوحة العين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا وَنَحْنُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغِبُوا فَأَخَذْتُهَا فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا فَبَعَثَ بِوَرِكَيْهَا أَوْ قَالَ بِفَخِذَيْهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبِلَهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أنفجنا‏)‏ بفاء مفتوحة وجيم ساكنة أي أثرنا‏.‏

وفي رواية مسلم ‏"‏ استنفجنا ‏"‏ وهو استفعال منه، يقال نفج الأرانب إذا ثار وعدا، وانتفج كذلك، وأنفجته إذا أثرته من موضعه، ويقال إن الانتفاج الاقشعرار فكأن المعنى جعلناها بطلبنا لها تنتفج، والانتفاج أيضا ارتفاع الشعر وانتفاشه‏.‏

ووقع في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏ للمازري ‏"‏ بعجنا ‏"‏ بموحدة وعين مفتوحة، وفسره بالشق من بعج بطنه إذا شقه، وتعقبه عياض بأنه تصحيف، وبأنه لا يصح معناه من سياق الخبر لأن فيه أنهم سعوا في طلبها بعد ذلك، فلو كان شقوا بطنها كيف كانوا يحتاجون إلى السعي خلفها‏.‏

قوله ‏(‏بمر الظهران‏)‏ مر بفتح الميم وتشديد الراء، والظهران بفتح المعجمة بلفظ تثنية الظهر، اسم موضع على مرحلة من مكة‏.‏

وقد يسمى بإحدى الكلمتين تخفيفا، وهو المكان الذي تسميه عوام المصريين بطن مرو والصواب مر بتشديد الراء‏.‏

قوله ‏(‏فسعى القوم فلغبوا‏)‏ بمعجمة وموحدة أي تعبوا وزنه ومعناه، ووقع بلفظ ‏"‏ تعبوا ‏"‏ في رواية الكشميهني، وتقدم في الهبة بيان ما وقع للداودي فيه من غلط‏.‏

قوله ‏(‏فأخذتها‏)‏ زاد في الهبة ‏"‏ فأدركتها فأخذتها ‏"‏ ولمسلم ‏"‏ فسعيت حتى أدركتها ‏"‏ ولأبي داود من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن زيد ‏"‏ وكنت غلاما حزورا ‏"‏ وهو بفتح المهملة والزاي والواو المشددة بعدها راء ويجوز سكون الزاي وتخفيف الواو وهو المراهق‏.‏

قوله ‏(‏إلى أبي طلحة‏)‏ وهو زوج أمه‏.‏

قوله ‏(‏فذبحها‏)‏ زاد في رواية الطيالسي ‏"‏ بمروة ‏"‏ وزاد في رواية حماد المذكورة ‏"‏ فشويتها‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فبعث بوركيها أو قال بفخذيها‏)‏ هو شك من الراوي، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الهبة، ووقع في رواية حماد ‏"‏ بعجزها‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقبلها‏)‏ أي الهدية، وتقدم في الهبة من هذا الوجه ‏"‏ قلت وأكل منه‏؟‏ قال‏:‏ وأكل منه ‏"‏ ثم قال‏:‏ فقبله، وللترمذي من طريق أبي داود الطيالسي فيه ‏"‏ فأكله، قلت‏:‏ أكله‏؟‏ قال قبله ‏"‏ وهذا الترديد لهشام بن زيد وقف جده أنسا على قوله ‏"‏ أكله ‏"‏ فكأنه توقف في الجزم به وجزم بالقبول، وقد أخرج الدار قطني من حديث عائشة ‏"‏ أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرنب وأنا نائمة فخبأ لي منها العجز، فلما قمت أطعمني ‏"‏ وهذا لو صح لأشعر بأنه أكل منها، لكن سنده ضعيف‏.‏

ووقع في ‏"‏ الهداية ‏"‏ للحنفية أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الأرنب حين أهدى إليه مشويا وأمر أصحابه بالأكل منه، وكأنه تلقاه من حديثين‏:‏ فأوله من حديث الباب وقد ظهر ما فيه، والآخر من حديث أخرجه النسائي من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة ‏"‏ جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب قد شواها فوضعها بين يديه، فأمسك وأمر أصحابه أن يأكلوا ‏"‏ ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف فيه على موسى بن طلحة اختلافا كثيرا‏.‏

وفي الحديث جواز أكل الأرنب وهو قول العلماء كافة إلا ما جاء في كراهتها عن عبد الله بن عمر من الصحابة وعن عكرمة من التابعين وعن محمد ابن أبي ليلى من الفقهاء، واحتج بحديث خزيمة بن جزء ‏"‏ قلت يا رسول الله، ما تقول في الأرنب‏؟‏ قال لا آكله ولا أحرمه، قالت فإني آكل ما لا تحرمه‏.‏

ولم يا رسول الله‏؟‏ قال نبئت أنها تدمي ‏"‏ وسنده ضعيف، ولو صح لم يكن فيه دلالة على الكراهة كما سيأتي تقريره في الباب الذي بعد، وله شاهد عن عبد الله بن عمرو بلفظ ‏"‏ جيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأكلها ولم ينه عنها ‏"‏ زعم أنها تحيض ‏"‏ أخرجه أبو داود، وله شاهد عن عمر عند إسحاق بن راهويه في مسنده، وحكى الرافعي عن أبي حنيفة أنه حرمها، وغلطه النووي في النقل عن أبي حنيفة‏.‏

وفي الحديث أيضا جواز استثارة الصيد والغدو في طلبه، وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس رفعه ‏"‏ من اتبع الصيد غفل ‏"‏ فهو محمول على من واظب على ذلك حتى يشغله عن غيره من المصالح الدينية وغيرها‏.‏

وفيه أن أخذ الصيد يملكه بأخذه ولا يشاركه من أثاره معه‏.‏

وفيه هدية الصيد وقبولها من الصائد وإهداء الشيء اليسير الكبير القدر إذا علم من حاله الرضا بذلك، وفيه أن ولي الصبي يتصرف فيما يملكه الصبي بالمصلحة‏.‏

وفيه استثبات الطالب شيخه عما يقع في حديثه مما يحتمل أنه يضبطه كما وقع لهشام بن زيد مع أنس رضي الله عنه‏.‏

*3*باب الضَّبِّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الضب‏)‏ هو دويبة تشبه الجرذون، لكنه أكبر من الجرذون، ويكنى أباحل بمهملتين مكسورة ثم ساكنة، ويقال للأنثى ضبة، وبه سميت القبيلة، وبالخيف من منى جبل يقال له ضب، والضب داء في خف البعير، ويقال إن لأصل ذكر الضب فرعين، ولهذا يقال له ذكران‏.‏

وذكر ابن خالويه أن الضب يعيش سبعمائة سنة، وأنه لا يشرب الماء، ويبول في كل أربعين يوما قطرة، ولا يسقط له سن، ويقال بل أسنانه قطعة واحدة، وحكى غيره أن أكل لحمه يذهب العطش، ومن الأمثال ‏"‏ لا أفعل كذا حتى يرد الضب ‏"‏ يقوله من أراد أن لا يفعل الشيء لأن الضب لا يرد بل يكتفي بالنسيم وبرد الهواء، ولا يخرج من جحره في الشتاء‏.‏

وذكر المصنف في الباب حديثين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّبُّ لَسْتُ آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏الضب لست آكله ولا أحرمه‏)‏ كذا أورده مختصرا، وقد أخرجه مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار بلفظ ‏"‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب، فقال‏:‏ لا آكله ولا أحرمه ‏"‏ ومن طريق نافع عن ابن عمر ‏"‏ سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ زاد في رواية عن نافع أيضا ‏"‏ وهو على المنبر ‏"‏ وهذا السائل يحتمل أن يكون خزيمة بن جزء، فقد أخرج ابن ماجه من حديثه ‏"‏ قلت يا رسول الله ما تقول‏؟‏ فقال‏:‏ لا آكله ولا أحرمه، قال‏:‏ قلت فإني آكل ما لم تحرم ‏"‏ وسنده ضعيف‏.‏

وعند مسلم والنسائي من حديث أبي سعيد ‏"‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله أنا بأرض مضبة، فما تأمرنا‏؟‏ قال‏:‏ ذكر لي أن أمة من بني إسرائيل مسخت، فلم يأمر ولم ينه ‏"‏ وقوله ‏"‏ مضبة ‏"‏ بضم أوله وكسر المعجمة أي كثيرة الضباب، وهذا يمكن أن يفسر بثابت بن وديعة، فقد أخرج أبو داود والنسائي من حديثه قال ‏"‏ أصبت ضبابا فشويت منها ضبا، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عودا فعد به أصابعه ثم قال‏:‏ إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض، وإني لا أدري أي الدواب هي، فلم يأكل ولم ينه ‏"‏ وسنده صحيح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ مَيْمُونَةَ فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ فَقَالُوا هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَرَفَعَ يَدَهُ فَقُلْتُ أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ قَالَ خَالِدٌ فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن أبي أمامة بن سهل‏)‏ أي ابن حنيف الأنصاري، له رؤية ولأبيه صحبة، وتقدم الحديث في أوائل الأطعمة من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال ‏"‏ أخبرني أبو أمامة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏عن عبد الله بن عباس عن خالد بن الوليد‏)‏ في رواية يونس المذكورة ‏"‏ أن ابن عباس أخبره أن خالد ابن الوليد الذي يقال له سيف الله أخبره ‏"‏ وهذا الحديث مما اختلف فيه على الزهري هل هو من مسند ابن عباس أو من مسند خالد، وكذا اختلف فيه على مالك فقال الأكثر عن ابن عباس عن خالد‏.‏

وقال يحيى بن بكير في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ وطائفة عن مالك بسنده عن ابن عباس وخالد أنهما دخلا‏.‏

وقال يحيى بن يحيى التميمي عن مالك بلفظ ‏"‏ عن ابن عباس قال‏:‏ دخلت أنا وخالد على النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أخرجه مسلم عنه وكذا أخرجه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بلفظ ‏"‏ عن ابن عباس قال‏:‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في بيت ميمونة بضبين مشويين وقال هشام بن يوسف عن معمر كالجمهور كما تقدم في أوائل الأطعمة، والجمع بين هذه الروايات أن ابن عباس كان حاضرا للقصة في بيت خالته ميمونة كما صرح به في إحدى الروايات، وكأنه استثبت خالد بن الوليد في شيء منه لكونه الذي كان باشر السؤال عن حكم الضب وباشر أكله أيضا، فكان ابن عباس ربما رواه عنه، ويؤيد ذلك أن محمد بن المنكدر حدث به عن أبي أمامة بن سهل عن ابن عباس قال ‏"‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت ميمونة وعنده خالد بن الوليد بلحم ضب ‏"‏ الحديث أخرجه مسلم، وكذا رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس فلم يذكر فيه خالدا، وقد تقدم في الأطعمة‏.‏

قوله ‏(‏إنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة‏)‏ زاد يونس في روايته وهي خالته وخالة ابن عباس‏.‏

قلت‏:‏ واسم أم خالد لبابة الصغرى، واسم أم ابن عباس لبابة الكبرى وكانت تكنى أم الفضل بابنها الفضل ابن عباس، وهما أختا ميمونة والثلاث بنات الحارث بن حزن بفتح المهملة وسكون الزاي الهلالي‏.‏

قوله ‏(‏فأتى بضب محنوذ‏)‏ بمهملة ساكنة ونون مضمومة وآخره ذال معجمة أي مشوي بالحجارة المحماة ووقع في رواية معمر بضب مشوي، والمحنوذ أخص والحنيذ بمعناه، زاد يونس في روايته ‏"‏ قدمت به أختها حفيدة ‏"‏ وهي بمهملة وفاء مصغر ومضى في رواية سعيد بن جبر ‏"‏ أن أم حفيدة بنت الحارث بن حزن خالة ابن عباس أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم سمنا وأقطا وأضبا ‏"‏ وفي رواية عوف عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن الطحاوي ‏"‏ جاءت أم حفيدة بضب وقنفذ ‏"‏ وذكر القنفذ فيه غريب، وقد قيل في اسمها هزيلة بالتصغير وهي رواية الموطأ من مرسل عطاء بن يسار، فإن كان محفوظا فلعل لها اسمين أو اسم ولقب، وحكى بعض شراح العمدة في اسمها حميدة بميم وفي كنيتها أم حميد بميم بغير هاء‏.‏

وفي رواية بهاء وبفاء ولكن براء بدل الدال وبعين مهملة بدل الحاء بغير هاء، وكلها تصحيفات‏.‏

قوله ‏(‏فأهوى‏)‏ زاد يونس ‏"‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما يقدم يده لطعام حتى يسمى له ‏"‏ وأخرج إسحاق بن راهويه والبيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ من طريق يزيد بن الحوتكية عن عمر رضي الله عنه ‏"‏ أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب يهديها إليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل من الهدية حتى يأمر صاحبها فيأكل منها من أجل الشاة التي أهديت إليه بخيبر ‏"‏ الحديث وسنده حسن‏.‏

قوله ‏(‏فقال بعض النسوة أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فقالوا‏:‏ هو ضب‏)‏ في رواية يونس ‏"‏ فقالت امرأة من النسوة الحضور‏:‏ أخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدمتن له، هو الضب يا رسول الله ‏"‏ وكأن المرأة أرادت أن غيرها يخبره، فلما لم يخبروا بادرت هي فأخبرت، وسيأتي في ‏"‏ باب إجازة خبر الواحد ‏"‏ من طريق الشعبي عن ابن عمر قال ‏"‏ كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سعد بعني ابن أبي وقاص فذهبوا يأكلون من لحم فنادتهم امرأة من بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ولمسلم من طريق يزيد بن الأصم ‏"‏ عن ابن عباس أنه بينما هو عند ميمونة وعندها الفضل بن عباس وخالد بن الوليد وامرأة أخرى إذ قرب إليهم خوان عليه لحم، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل قالت له ميمونة إنه لحم ضب، فكف يده‏"‏، وعرف بهذه الرواية اسم التي أبهمت في الرواية الأخرى، وعند الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ من وجه آخر صحيح ‏"‏ فقالت ميمونة أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فرفع يده‏)‏ زاد يونس ‏"‏ عن الضب ‏"‏ ويؤخذ منه أنه أكل من غير الضب مما كان قدم له من غير الضب، كما تقدم أنه كان فيه غير الضب، وقد جاء صريحا في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس كما تقدم في الأطعمة، قال فأكل الأقط وشرب اللبن‏.‏

قوله ‏(‏لم يكن بأرض قومي‏)‏ في رواية يزيد بن الأصم ‏"‏ هذا لحم لم آكله قط ‏"‏ قال ابن العربي‏:‏ اعترض بعض الناس على هذه اللفظة ‏"‏ لم يكن بأرض قومي ‏"‏ بأن الضباب كثيرة بأرض الحجاز، قال ابن العربي‏:‏ فإن كان أراد تكذيب الخبر فقد كذب هو، فإنه ليس بأرض الحجاز منها شيء، أو ذكرت له بغير اسمها أو حدثت بعد ذلك، وكذا أنكر ابن عبد البر ومن تبعه أن يكون ببلاد الحجاز شيء من الضباب‏.‏

قلت‏:‏ ولا يحتاج إلى شيء من هذا بل المراد بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏بأرض قومي ‏"‏ قريشا فقط فيختص النفي بمكة وما حولها، ولا يمنع ذلك أن تكون موجودة بسائر بلاد الحجاز، وقد وقع في رواية يزيد بن الأصم عند مسلم ‏"‏ دعانا عروس بالمدينة فقرب إلينا ثلاثة عشر ضبا، فآكل وتارك ‏"‏ الحديث، فبهذا يدل على كثرة وجدانها بتلك الديار‏.‏

قوله ‏(‏فأجدني أعافه‏)‏ بعين مهملة وفاء خفيفة أي أتكره أكله، يقال عفت الشيء أعافه، ووقع في رواية سعيد بن جبير ‏"‏ فتركهن النبي صلى الله عليه وسلم كالمتقذر لهن، ولو كن حراما لما أكلن على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم ولما أمر بأكلهن ‏"‏ كذا أطلق الأمر وكأنه تلقاه من الإذن المستفاد من التقرير، فإنه لم يقع في شيء من طرق حديث ابن عباس بصيغة الأمر إلا في رواية يزيد بن الأصم عند مسلم فإن فيها ‏"‏ فقال لهم كلوا، فأكل الفضل وخالد والمرأة ‏"‏ وكذا في رواية الشعبي عن ابن عمر ‏"‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلوا وأطعموا فإنه حلال - أو قال لا بأس به - ولكنه ليس طعامي‏"‏، وفي هذا كله بيان سبب ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بسبب أنه ما اعتاده، وقد ورد لذلك سبب آخر أخرجه مالك من مرسل سليمان بن يسار فذكر معنى حديث ابن عباس وفي آخره ‏"‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كلا - يعني لخالد وابن عباس - فإنني يحضرني من الله حاضرة ‏"‏ قال المازري يعني الملائكة، وكأن للحم الضب ريحا فترك أكله لأجل ريحه، كما ترك أكل الثوم مع كونه حلالا‏.‏

قلت‏:‏ وهذا إن صح يمكن ضمه إلى الأول ويكون لتركه الأكل من الضب سببان‏.‏

قوله ‏(‏قال خالد فاجتررته‏)‏ بجيم ورائين، هذا هو المعروف في كتب الحديث، وضبطه بعض شراح ‏"‏ المهذب ‏"‏ بزاي قبل الراء وقد غلطه النووي‏.‏

قوله ‏(‏ينظر‏)‏ زاد يونس في روايته ‏"‏ إلى‏"‏‏.‏

وفي هذا الحديث من الفوائد جواز أكل الضب، وحكى عياض عن قوم تحريمه وعن الحنفية كراهته وأنكر ذلك النووي وقال‏:‏ لا أظنه يصح عن أحد، فإن صح فهو محجوج بالنصوص وبإجماع من قبله‏.‏

قلت‏:‏ قد نقله ابن المنذر عن علي، فأي إجماع يكون مع مخالفته‏؟‏ ونقل الترمذي كراهته عن بعض أهل العلم؛ وقال الطحاوي في ‏"‏ معاني الآثار ‏"‏‏:‏ كره قوم أكل الضب، منهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، قال‏:‏ واحتج محمد بحديث عائشة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى له ضب فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أتعطينه مالا تأكلين ‏"‏‏؟‏ قال الطحاوي‏:‏ ما في هذا دليل على الكراهة لاحتمال أن تكون عافته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكون ما يتقرب به إلى الله إلا من خير الطعام، كما نهى أن يتصدق بالتمر الرديء ا هـ‏.‏

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الضب أخرجه أبو داود بسند حسن، فإنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عتبة عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل، وحديث ابن عياش عن الشاميين قوي، وهؤلاء شاميون ثقات، ولا يغتر بقول الخطابي‏:‏ ليس إسناده بذاك، وقول ابن حزم‏:‏ فيه ضعفاء ومجهولون، وقول البيهقي‏:‏ تفرد به إسماعيل بن عياش وليس بحجة، وقول ابن الجوزي‏:‏ لا يصح، ففي كل ذلك تساهل لا يخفى، فإن رواية إسماعيل عن الشاميين قوية عند البخاري وقد صحح الترمذي بعضها، وقد أخرج أبو داود من حديث عبد الرحمن بن حسنة ‏"‏ نزلنا أرضا كثيرة الضباب ‏"‏ الحديث، وفيه أنهم ‏"‏ طبخوا منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض فأخشى أن تكون هذه فاكفئوها ‏"‏ أخرجه أحمد وصححه ابن حبان والطحاوي وسنده على شرط الشيخين إلا الضحاك فلم يخرجا له‏.‏

وللطحاوي من وجه آخر عن زيد بن وهب ووافقه الحارث بن مالك ويزيد بن أبي زياد ووكيع في آخره ‏"‏ فقيل له إن الناس قد اشتووها أكلوها، فلم يأكل ولم ينه عنه ‏"‏ والأحاديث الماضية وإن دلت على الحل تصريحا وتلويحا نصا وتقريرا، فالجمع بينها وبين هذا حمل النهي فيه على أول الحال عند تجويز أن يكون مما مسخ وحينئذ أمر بإكفاء القدور، ثم توقف فلم يأمر به ولم ينه عنه، وحمل الأذن فيه على ثاني الحال لما علم أن الممسوخ لا نسل له، ثم بعد ذلك كان يستقذره فلا يأكله ولا يحرمه، وأكل على مائدته فدل على الإباحة، وتكون الكراهة للتنزيه في حق من يتقذره، وتحمل أحاديث الإباحة على من لا يتقذره، ولا يلزم من ذلك أنه يكره مطلقا‏.‏

وقد أفهم كلام ابن العربي أنه لا يحل في حق من يتقذره لما يتوقع في أكله من الضرر وهذا لا يختص بهذا، ووقع في حديث يزيد بن الأصم ‏"‏ أخبرت ابن عباس بقصة الضب، فأكثر القوم حوله حتى قال بعضهم‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا آكله ولا أنهى عنه ولا أحرمه، فقال ابن عباس‏:‏ بئس ما قلتم، ما بعث نبي الله إلا محرما أو محللا ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ ظن ابن عباس أن الذي أخبر بقوله صلى الله عليه وسلم لا آكله أراد لا أحله فأنكر عليه لأن خروجه من قسم الحلال والحرام محال‏.‏

وتعقبه شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ بأن الشيء إذا لم يتضح إلحاقه بالحلال أو الحرام يكون من الشبهات فيكون من حكم الشيء قبل ورود الشرع، والأصح كما قال النووي أنه لا يحكم عليها بحل ولا حرمة‏.‏

قلت‏:‏ وفي كون مسألة الكتاب من هذا النوع نظر، لأن هذا إنما هو إذا تعارض الحكم على المجتهد، أما الشارع إذ سئل عن واقعة فلا بد أن يذكر فيها الحكم الشرعي ‏"‏ وهذا هو الذي أراده ابن العربي وجعل محط كلام ابن عباس عليه‏.‏

ثم وجدت في الحديث زيادة لفظة سقطت من رواية مسلم وبها يتجه إنكار ابن عباس ويستغنى عن تأويل ابن العربي لا آكله بلا أحله وذلك أن أبا بكر بن أبي شيبة وهو شيخ مسلم فيه أخرجه في مسنده بالسند الذي ساقه به عند مسلم فقال في روايته ‏"‏ لا آكله ولا أنهى عنه ولا أحله ولا أحرمه ‏"‏ ولعل مسلما حذفها عمدا لشذوذها، لأن ذلك لم يقع في شيء من الطرق لا في حديث ابن عباس ولا غيره، وأشهر من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا آكله ولا أحرمه ‏"‏ ابن عمر كما تقدم، وليس في حديثه ‏"‏ لا أحله ‏"‏ بل جاء التصريح عنه بأنه حلال فلم تثبت هذه اللفظة وهي قوله ‏"‏ لا أحله ‏"‏ لأنها وإن كانت من رواية يزيد بن الأصم وهو ثقة لكنه أخبر بها عن قوم كانوا عند ابن عباس فكانت رواية عن مجهول، ولم يقل يزيد بن الأصم إنهم صحابة حتى يغتفر عدم تسميتهم‏.‏

واستدل بعض من منع أكله بحديث أبي سعيد عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ ذكر لي أن أمة من بني إسرائيل مسخت ‏"‏ وقد ذكرته وشواهده قبل‏.‏

وقال الطبري‏:‏ ليس في الحديث الجزم بأن الضب مما مسخ، وإنما خشي أن يكون منهم فتوقف عنه، وإنما قال ذلك قبل أن يعلم الله تعالى نبيه أن الممسوخ لا ينسل، وبهذا أجاب الطحاوي ثم أخرج من طريق المعرور بن سويد عن عبد الله بن مسعود قال ‏"‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ‏؟‏ قال‏:‏ إن الله لم يهلك قوما - أو يمسخ قوما - فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة، وأصل هذا الحديث في مسلم، وكأن لم يستحضره من صحيح مسلم، ويتعجب من ابن العربي حيث قال‏:‏ قوله إن الممسوخ لا ينسل دعوى، فإنه أمر لا يعرف بالعقل وإنما طريقه النقل، وليس فيه أمر يعول عليه‏.‏

كذا قال ثم قال الطحاوي بعد أن أخرجه من طرق ثم أخرج حديث ابن عمر‏:‏ فثبت بهذه الآثار أنه لا بأس بأكل الضب، وبه أقول‏.‏

قال‏:‏ وقد احتج محمد ابن الحسن لأصحابه بحديث عائشة، فساقه الطحاوي من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة ‏"‏ أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه فقال لها‏:‏ أتعطيه ما لا تأكلين ‏"‏‏؟‏ قال محمد‏:‏ دل ذلك على كراهته لنفسه ولغيره وتعقبه الطحاوي باحتمال أن يكون دلك من جنس ما قال الله تعالى ‏(‏ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه‏)‏ ثم ساق الأحاديث الدالة على كراهة التصدق بحشف التمر، وقد مر ذكرها في كتاب الصلاة في ‏"‏ باب تعليق القنو في المسجد ‏"‏ وبحديث البراء ‏"‏ كانوا يحبون الصدقة بأرداء تمرهم، فنزلت ‏(‏أنفقوا من طيبات ما كسبتم‏)‏ الآية‏.‏

قال‏:‏ فلهذا المعنى كره لعائشة الصدقة بالضب لا لكونه حراما ا هـ‏.‏

وهذا يدل على أنه فهم عن محمد أن الكراهة فيه للتحريم، والمعروف عن أكثر الحنفية فيه كراهة التنزيه‏.‏

وجنح بعضهم إلى التحريم وقال‏:‏ اختلفت الأحاديث وتعذرت معرفة المتقدم فرجحنا جانب التحريم تقليلا للنسخ ا هـ‏.‏

ودعواه التعذر ممنوعة لما تقدم والله أعلم‏.‏

ويتعجب من ابن العربي حيث قال‏:‏ قولهم إن الممسوخ لا ينسل دعوى، فإنه أمر لا يعرف بالعقل وإنما طريقه النقل، وليس فيه أمر يعول عليه، كذا قال وكأنه لم يستحضره من صحيح مسلم، ثم قال‏:‏ وعلى تقدير ثبوت كون الضب ممسوخا فذلك لا يقتضي تحريم أكله لأن كونه آدميا قد زال حكمه ولم يبق له أثر أصلا، وإنما كره صلى الله عليه وسلم الأكل منه لما وقع عليه من سخط الله كما كره الشرب من مياه ثمود ا هـ‏.‏

ومسألة جواز أكل الآدمي إذا مسخ حيوانا مأكولا لم أرها في كتب فقهائنا‏.‏

وفي الحديث أيضا الإعلام بما شك فيه لإيضاح حكمه، وأن مطلق النفرة وعدم الاستطابة لا يستلزم التحريم، وأن المنقول عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يعيب الطعام إنما هو فيما صنعه الآدمي لئلا ينكسر خاطره وينسب إلى التقصير فيه؛ وأما الذي خلق كذلك فليس نفور الطبع منه ممتنعا‏.‏

وفيه أن وقوع مثل ذلك ليس بمعيب ممن يقع منه خلافا لبعض المتنطعة‏.‏

وفيه أن الطباع تختلف في النفور عن بعض المأكولات، وقد يستنبط منه أن اللحم إذا أنتن لم يحرم لأن بعض الطباع لا تعافه‏.‏

وفيه دخول أقارب الزوجة بيتها إذا كان بإذن الزوج أو رضاه، وذهل ابن عبد البر هنا ذهولا فاحشا فقال‏:‏ كان دخول خالد بن الوليد بيت النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة قبل نزول الحجاب، وغفل عما ذكره هو أن إسلام خالد كان بين عمرة القضية والفتح، وكان الحجاب قبل ذلك اتفاقا، وقد وقع في حديث الباب ‏"‏ قال خالد‏:‏ أحرام هو يا رسول الله ‏"‏‏؟‏ فلو كانت القصة قبل الحجاب لكانت قبل إسلام خالد، ولو كانت قبل إسلامه لم يسأل عن حلال ولا حرام، ولا خاطب بقوله يا رسول الله‏.‏

وفيه جواز الأكل من بيت القريب والصهر والصديق، وكأن خالدا ومن وافقه في الأكل أرادوا جبر قلب الذي أهدته، أو لتحقق حكم الحل، أو لامتثال قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏كلوا ‏"‏ وفهم من لم يأكل أن الأمر فيه للإباحة‏.‏

وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤاكل أصحابه ويأكل اللحم حيث تيسر؛ وأنه كان لا يعلم من المغيبات إلا ما علمه الله تعالى‏.‏

وفيه وفور عقل ميمونة أم المؤمنين وعظيم نصحتها للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنها فهمت مظنة نفوره عن أكله بما استقرت منه، فخشيت أن يكون ذلك كذلك فيتأذى بأكله لاستقذاره له فصدقت فراستها‏.‏

ويؤخذ منه أن من خشي أن يتقذر شيئا لا ينبغي أن يدلس له لئلا يتضرر به، وقد شوهد ذلك من بعض الناس‏.‏

*3*باب إِذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوْ الذَّائِبِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب‏)‏ أي هل يفترق الحكم أو لا‏؟‏ وكأنه ترك الجزم بذلك لقوة الاختلاف، وقد تقدم في الطهارة ما يدل على أنه يختار أنه لا ينجس إلا بالتغير، ولعل هذا هو السر في إيراده طريق يونس المشعرة بالتفصيل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُهُ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ قِيلَ لِسُفْيَانَ فَإِنَّ مَعْمَرًا يُحَدِّثُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ إِلَّا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مِرَارًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن ميمونة‏)‏ تقدم في أواخر كتاب الوضوء بيان الاختلاف فيه على الزهري في إثبات ميمونة في الإسناد وعدمه، وأن الراجح إثباتها فيه، وتقدم هناك الاختلاف على مالك في وصله وانقطاعه‏.‏

قوله ‏(‏فقال ألقوها وما حولها‏)‏ هكذا أورده أكثر أصحاب ابن عيينة عنه ووقع في مسند إسحاق بن راهويه ومن طريقه أخرجه ابن حبان بلفظ ‏"‏ إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان ذائبا فلا تقربوه ‏"‏ وهذه الزيادة في رواية ابن عيينة غريبة وسيأتي القول فيها‏.‏

قوله ‏(‏قيل لسفيان‏)‏ القائل لسفيان ذلك هو علي بن المديني شيخ البخاري، كذلك ذكره في علله‏.‏

قوله ‏(‏فإن معمرا يحدث به إلخ‏)‏ طريق معمر هذه وصلها أبو داود عن الحسن بن علي الحلواني وأحمد بن صالح كلاهما عن عبد الرزاق عن معمر بإسناده المذكور إلى أبي هريرة، ونقل الترمذي عن البخاري أن هذه الطريق خطأ والمحفوظ رواية الزهري من طريق ميمونة، وجزم الذهلي بأن الطريقين صحيحان، وقد قال أبو داود في روايته عن الحسن بن علي ‏"‏ قال الحسن‏:‏ وربما حدث به معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة ‏"‏ وأخرجه أبو داود أيضا عن أحمد بن صالح عن عبد الرزاق عن عبد الرحمن بن بوذويه عن معمر كذلك من طريق ميمونة، وكذا أخرجه النسائي عن خشيش بن أصرم عن عبد الرزاق، وذكر الإسماعيلي أن الليث رواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال ‏"‏ بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن جامد ‏"‏ الحديث، وهذا يدل على أن لرواية الزهري عن سعيد أصلا، وكون سفيان بن عيينة لم يحفظه عن الزهري إلا من طريق ميمونة لا يقتضي أن لا يكون له عنده إسناد آخر، وقد جاء عن الزهري فيه إسناد ثالث أخرجه الدار قطني من طريق عبد الجبار بن عمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر به، وعبد الجبار مختلف فيه‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وجاء من رواية ابن جريج عن الزهري كذلك، لكن السند إلى ابن جريج ضعيف والمحفوظ أنه من قول ابن عمر‏.‏

قوله ‏(‏قال ما سمعت الزهري‏)‏ القائل هو سفيان ‏"‏ وقوله ولقد سمعته منه مرارا ‏"‏ أي من طريق ميمونة فقط، ووقع في رواية الإسماعيلي عن جعفر الفريابي عن علي بن المديني شيخ البخاري فيه قال سفيان‏:‏ كم سمعناه من الزهري يعيده ويبدئه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَهُوَ جَامِدٌ أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ الْفَأْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا قَالَ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِفَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ ثُمَّ أُكِلَ عَنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك، ويونس هو ابن زيد‏.‏

قوله ‏(‏عن الزهري عن الدابة‏)‏ أي في حكم الدابة ‏(‏تموت في الزيت والسمن إلخ‏)‏ ظاهر في أن الزهري كان في هذا الحكم لا يفرق بين السمن وغيره ولا بين الجامد منه والذائب، لأنه ذكر ذلك في السؤال ثم استدل بالحديث في السمن، فأما غير السمن فإلحاقه به في القياس عليه واضح، وأما عدم الفرق بين الذائب والجامد فلأنه لم يذكر في اللفظ الذي استدل به، وهذا يقدح في صحة من زاد في هذا الحديث عن الزهري التفرقة بين الجامد والذائب كما ذكر قبل عن إسحاق، وهو مشهور من رواية معمر عن الزهري أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما وصححه ابن حبان وغيره على أنه اختلف عن معمر فيه، فأخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر بغير تفصيل، نعم وقع عند النسائي من رواية ابن القاسم عن مالك وصف السمن في الحديث بأنه جامد، وتقدم التنبيه عليه في الطهارة وكذا وقع عند أحمد من رواية الأوزاعي عن الزهري، وكذا عند البيهقي من رواية حجاج بن منهال عن ابن عيينة، وكذا أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن سفيان وتقدم التنبيه على الزيادة التي وقعت في رواية إسحاق ابن راهويه عن سفيان وأنه تفرد بالتفصيل عن سفيان دون حفاظ أصحابه مثل أحمد والحميدي ومسدد وغيرهم، ووقع التفصيل فيه أيضا في رواية عبد الجبار بن عمر عن الزهري عن سالم عن أبيه، وقد تقدم أن الصواب في هذا الإسناد أنه موقوف، وهذا الذي ينفصل به الحكم فيما يظهر لي بأن التقييد عن الزهري عن سالم عن أبيه من قوله، والإطلاق من روايته مرفوعا، لأنه لو كان عنده مرفوعا ما سوى في فتواه بين الجامد وغير الجامد، وليس الزهري ممن يقال في حقه لعله نسي الطريق المفصلة المرفوعة لأنه كان أحفظ الناس في عصره فخفاء ذلك عنه في غاية البعد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَتْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن حديث عبيد الله بن عبد الله‏)‏ يعني بسنده لكن يظهر لنا هل فيه ميمونة أو لا‏؟‏ وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق نعيم بن حماد عن ابن المبارك فقال فيه ‏"‏ عن عبيد الله بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكره مرسلا وأغرب أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ فساقه من طريق الفربري عن البخاري عن عبدان موصولا بذكر ابن عباس وميمونة بالمرفوع دون الموقوف وقال ‏"‏ أخرجه البخاري عن عبدان، وذكر فيه كلاما، واستدل بهذا الحديث لإحدى الروايتين عن أحمد أن المائع إذا حلت فيه النجاسة لا ينجس إلا بالتغير، وهو اختيار البخاري وقول ابن نافع من المالكية وحكى عن مالك، وقد أخرج أحمد عن إسماعيل بن علية عن عمارة ابن أبي حفصة عن عكرمة ‏"‏ أن ابن عباس سئل عن فأرة ماتت في سمن قال‏:‏ تؤخذ الفارة وما حولها، فقلت إن أثرها كان في السمن كله، قال إنما كان وهي حية وإنما ماتت حيث وجدت ‏"‏ ورجاله رجال الصحيح‏.‏

وأخرجه أحمد من وجه آخر وقال فيه عن جر فيه زيت وقع فيه جرذ وفيه ‏"‏ أليس جال في الجر كله‏؟‏ قال‏:‏ إنما جال وفيه الروح، ثم استقر حيث مات ‏"‏ وفرق الجمهور بين المائع والجامد عملا بالتفصيل المقدم ذكره، وقد تمسك ابن العربي بقوله ‏"‏ وما حولها ‏"‏ على أنه كان جامدا، قال‏:‏ لأنه لو كان مائعا لم يكن له حول، لأنه لو نقل من أي جانب مهما نقل لخلفه غيره في الحال فيصير مما حولها فيحتاج إلى إلقائه كله، كذا قال، وأما ذكر السمن والفأرة فلا عمل بمفهومهما، وجمد ابن حزم على عادته فخص التفرقة بالفأرة، فلو وقع غير جنس الفأر من الدواب في مائع لم ينجس إلا بالتغير، وضابط المائع عند الجمهور أن يتراد بسرعة إذا أخذ منه شيء‏.‏

واستدل بقوله ‏"‏ فماتت ‏"‏ على أن تأثيرها في المائع إنما يكون بموتها فيه فلو وقعت فيه وخرجت بلا موت لم يضره، ولم يقع في رواية مالك التقييد بالموت، فيلزم من لا يقول بحمل المطلق على المقيد أن يقول بالتأثير ولو خرجت وهي في الحياة، وقد التزمه ابن حزم فخالف الجمهور أيضا‏.‏

قوله ‏(‏ألقوها وما حولها‏)‏ لم يرد في طريق صحيحة تحديد ما يلقي، لكن أخرج ابن أبي شيبة من مرسل عطاء بن يسار أنه يكون قدر الكف وسنده جيد لولا إرساله، وقد وقع عند الدار قطني من رواية يحيى القطان عن مالك في هذا الحديث ‏"‏ فأمر أن يقور ما حولها فيرمي به ‏"‏ وهذا أظهر في كونه جامدا من قوله ‏"‏ وما حولها ‏"‏ فيقوى ما تمسك به ابن العربي، وأما ما أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا من التقييد في المأخوذ منه ثلاث غرفات بالكفين فسنده ضعيف، ولو ثبت لكان ظاهرا في المائع‏.‏

واستدل بقوله في الرواية المفصلة ‏"‏ وإن كان مائعا فلا تقربوه ‏"‏ على أنه لا يجوز الانتفاع به في شيء، فيحتاج من أجاز الانتفاع به في غير الأكل كالشافعية وأجاز بيعه كالحنفية إلى الجواب - أعني الحديث - فإنهم احتجوا به في التفرقة بني الجامد والمائع، وقد احتج بعضهم بما وقع في رواية عبد الجبار بن عمر عند البيهقي في حديث ابن عمر ‏"‏ إن كان السمن مائعا انتفعوا به ولا تأكلوه ‏"‏ وعنده في رواية ابن جريج مثله، وقد تقدم أن الصحيح وقفه‏.‏

وعنده من طريق الثوري عن أيوب عن نافع عن ابن عمر في فأرة وقعت في زيت قال ‏"‏ استصبحوا به وادهنوا به أدمكم ‏"‏ وهذا السند على شرط الشيخين إلا أنه موقوف، واستدل به على أن الفأرة طاهرة العين، وأغرب ابن العربي فحكى عن الشافعي وأبي حنيفة أنها نجسة‏.‏

قوله في رواية مالك ‏(‏سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ هو كذلك في أكثر الروايات بإبهام السائل، ووقع في رواية الأوزاعي عن أحمد تعيين من سأل، ولفظه عن ميمونة ‏"‏ إنها استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فأرة ‏"‏ الحديث، ومثله في رواية يحيى القطان عن مالك عند الدار قطني بلفظ ‏"‏ عن ابن عباس أن ميمونة استفتت ‏"‏ والله أعلم‏.‏

*3*باب الْوَسْمِ وَالْعَلَمِ فِي الصُّورَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب العلم‏)‏ بفتحتين ‏(‏والوسم‏)‏ بفتح أوله وسكون المهملة، وفي بعض النسخ بالمعجمة فقيل هو بمعنى الذي بالمهملة وقيل بالمهملة في الوجه وبالمعجمة في سائر الجسد، فعلى هذا فالصواب هنا بالمهملة لقوله في الصورة، والمراد بالوسم أن يعلم الشيء بشيء يؤثر فيه تأثيرا بالغا، وأصله أن يجعل في البهيمة علامة ليميزها عن غيرها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُعْلَمَ الصُّورَةُ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُضْرَبَ تَابَعَهُ قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا الْعَنْقَزِيُّ عَنْ حَنْظَلَةَ وَقَالَ تُضْرَبُ الصُّورَةُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن حنظلة‏)‏ هو ابن أبي سفيان الجمحي، وسالم هو ابن عبد الله بن عمر‏.‏

قوله ‏(‏أن تعلم‏)‏ بضم أوله أي تجعل فيها علامة‏.‏

قوله ‏(‏الصورة‏)‏ في رواية الكشميهني في الموضعين ‏"‏ الصور ‏"‏ بفتح الواو بلا هاء جمع صورة والمراد بالصورة الوجه‏.‏

قوله ‏(‏وقال ابن عمر‏:‏ نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تضرب‏)‏ هو موصول بالسند المذكور، بدأ بالموقوف وثنى بالمرفوع مستدلا به على ما ذكر من الكراهة، لأنه إذا ثبت النهي عن الضرب كان منع الوسم أولى، ويحتمل أن يكون أشار إلى ما أخرجه مسلم من حديث جابر ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه ‏"‏ وفي لفظ له ‏"‏ مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بحمار قد وسم في وجه فقال‏:‏ لعن الله من وسمه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏تابعه قتيبة قال حدثنا العنقزي‏)‏ بفتح المهملة والقاف بينهما نون ساكنة وبعد القاف زاي، منسوب إلى العنقز وهو نبت طيب الريح، ويقال هو المرزنجوش بفتح الميم وسكون الراء ثم فتح الزاي وسكون النون بعدها جيم مضمومة وآخره معجمة، وهذا تفسير للشيء بمثله في الخفاء، والمرزنجوش هو الشمار أو الشذاب، وقيل العنقز الريحان، وقيل القصب الغض، واسم العنقزي عمرو بن محمد الكوفي وثقه أحمد والنسائي وغيرهما‏.‏

وقال ابن حبان في الثقات كان يبيع العنقز‏.‏

وهذه المتابعة لها حكم الوصل عند ابن الصلاح لأن قتيبة من شيوخ البخاري، وإنما ذكرها لزيادة المحذوف في رواية عبيد الله بن موسى حيث قال ‏"‏ أن تضرب ‏"‏ فإن الضمير في روايته للصورة لكونها ذكرت أولا وأفصح العنقزي في روايته بذلك، وقوله عن حنظلة يريد بالسند المذكور وهو عن سالم عن أبيه، وقد أخرج الإسماعيلي الحديث من طريق بشر بن السري ومحمد بن عدي فرقهما كلاهما عن حنظلة بالسند المذكور واللفظ المذكور، لكن لفظ رواية بشر بن السري ‏"‏ عن الصورة تضرب ‏"‏ وأخرجه من طريق وكيع عن حنظلة بلفظ ‏"‏ أن تضرب وجوه البهائم ‏"‏ ومن وجه آخر عنه ‏"‏ أن تضرب الصورة ‏"‏ يعني الوجه، وأخرجه أيضا من طريق محمد بن بكر يعني البرساني وإسحاق بن سليمان الرازي كلاهما عن حنظلة قال ‏"‏ سمعت ‏"‏ سالما يسأل عن العلم في الصورة فقال‏:‏ كان ابن عمر يكره أن تعلم الصورة ‏"‏ وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تضرب الصورة ‏"‏ يعني بالصورة الوجه‏.‏

قال الإسماعيلي المسند منه على اضطراب فيه ضرب الصورة، وأما العلم فإنه من قول ابن عمر وكان المعنى فيه الكي، قلت وهذه الرواية الأخيرة هي المطابقة للفظ الترجمة، وعطفه الوسم عليها إما عطف تفسيري وإما من عطف الأعم على الأخص‏.‏

وأشار الإسماعيلي بالاضطراب إلى الرواية الأخيرة حيث قال فيها ‏"‏ وبلغنا ‏"‏ فإن الظاهر أنه من قول سالم فيكون مرسلا بخلاف الروايات الأخرى أنها ظاهرة الاتصال لكن اجتماع العدد الكثير أولى من تقصير من قصر به والحكم لهم‏.‏

ومثل هذا لا يسمى اضطرابا في الاصطلاح لأن شرط الاضطراب أن يتعذر الترجيح بعد تعذر الجمع وليس الأمر هنا كذلك‏.‏

وجاء في ذكر الوسم في الوجه صريحا حديث جابر قال ‏"‏ مر النبي صلى الله عليه وسلم بحمار قد وسم في وجهه فقال‏:‏ لعن الله من فعل هذا‏.‏

لا يسم أحد الوجه ولا يضرب أحد الوجه ‏"‏ أخرجه عبد الرزاق ومسلم والترمذي‏.‏

وهو شاهد جيد لحديث ابن عمر‏.‏

وتقدم البحث في ضرب وجه الآدمي في كتاب الجهاد في الكلام على حديث أبي هريرة، وتقدم قبل أبواب النهي عن صبر البهيمة وعن المثلة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخٍ لِي يُحَنِّكُهُ وَهُوَ فِي مِرْبَدٍ لَهُ فَرَأَيْتُهُ يَسِمُ شَاةً حَسِبْتُهُ قَالَ فِي آذَانِهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن هشام بن زيد‏)‏ أي ابن أنس ابن مالك‏.‏

قوله ‏(‏عن أنس‏)‏ هو جده‏.‏

قوله ‏(‏بأخ لي يحنكه‏)‏ هو أخوه من أمه وهو عبد الله بن أبي طلحة، وسيأتي مطولا في اللباس من وجه آخر‏.‏

قوله ‏(‏في مربد‏)‏ بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة بعدها مهملة مكان الإبل وكأن الغنم أدخلت فيه مع الإبل‏.‏

قوله ‏(‏وهو يسم شاة‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ شاء ‏"‏ بالهمز وهو جمع شاة مثل شياه، وسيأتي في الرواية التي في اللباس بلفظ ‏"‏ وهو يسم الظهر الذي قدم عليه ‏"‏ وفيه ما يدل على أن ذلك بعد رجوعهم من غزوة الفتح وحنين، والمراد بالظهر الإبل، وكأنه كان يسم الإبل والغنم فصادف أول دخول أنس وهو يسم شاة، ورآه يسم غير ذلك، وقد تقدم في العقيقة بيان شيء من هذا‏.‏

قوله ‏(‏حسبته‏)‏ القائل شعبة، والضمير لهشام بن زيد وقع مبينا في رواية مسلم‏.‏

قوله ‏(‏في آذانها‏)‏ هذا محل الترجمة وهو العدول عن الوسم في الوجه إلى الوسم في الأذن، فيستفاد منه أن الأذن ليست من الوجه، وفيه حجة للجمهور في جواز وسم البهائم بالكي، وخالف فيه الحنفية تمسكا بعموم النهي عن التعذيب بالنار، ومنهم من ادعى بنسخ وسم البهائم وجعله الجمهور مخصوصا من عموم النهي‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب إِذَا أَصَابَ قَوْمٌ غَنِيمَةً فَذَبَحَ بَعْضُهُمْ غَنَمًا أَوْ إِبِلًا بِغَيْرِ أَمْرِ أَصْحَابِهِمْ لَمْ تُؤْكَلْ

لحَدِيثِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ طَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ فِي ذَبِيحَةِ السَّارِقِ اطْرَحُوهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا أصاب قوم غنيمة‏)‏ يفتح أوله وزن عظيمة‏.‏

قوله ‏(‏فذبح بعضهم غنما أو إبلا بغير أمر أصحابه لم تؤكل لحديث رافع‏)‏ هذا مصير من البخاري إلى أن سبب منع الأكل من الغنم التي طبخت في القصة التي ذكرها رافع بن خديج كونها لم تقسم، وقد تقدم البحث في ذلك في ‏"‏ باب التسمية على الذبيحة ‏"‏ وقوله فيه ‏"‏ وسأحدثكم عن ذلك ‏"‏ جزم النووي بأنه من جملة المرفوع وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الظاهر من السياق، وجزم أبو الحسن بن القطان في ‏"‏ كتاب بيان الوهم والإيهام ‏"‏ بأنه مدرج من قول رافع بن خديج راوي الخبر، وذكر ما حاصله أن أكثر الرواة عن سعيد ومسروق أوردوه على ظاهر الرفع، وأن أبا الأحوص قال في روايته عنه بعد قوله ‏"‏ أو ظفر ‏"‏‏:‏ ‏"‏ قال رافع وسأحدثكم عن ذلك ‏"‏ ونسبت ذلك لرواية أبي داود وهو عجيب فإن أبا داود أخرجه عن مسدد وليس في شيء من نسخ السنن قوله ‏"‏ قال رافع ‏"‏ وإنما فيه كما عند المصنف هنا بدونها، وشيخ أبي داود فيه مسدد هو شيخ البخاري فيه هنا، وقد أورده البخاري في الباب الذي بعد هذا بلفظ ‏"‏ غير السن والظفر فإن السن عظم إلخ ‏"‏ وهو ظاهر جدا في أن الجميع مرفوع‏.‏

قوله ‏(‏وقال طاوس وعكرمة في ذبيحة السارق‏:‏ اطرحوه‏)‏ وصله عبد الرزاق من حديثهما بلفظ ‏"‏ إنهما سئلا عن ذلك فكرهاها ونهيا عنها ‏"‏ وتقدم بيان الحكم في ذلك في ذبيحة المرأة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّنَا نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى فَقَالَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلُوهُ مَا لَمْ يَكُنْ سِنٌّ وَلَا ظُفُرٌ وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ وَتَقَدَّمَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَأَصَابُوا مِنْ الْغَنَائِمِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ النَّاسِ فَنَصَبُوا قُدُورًا فَأَمَرَ بِهَا فَأُكْفِئَتْ وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ وَعَدَلَ بَعِيرًا بِعَشْرِ شِيَاهٍ ثُمَّ نَدَّ بَعِيرٌ مِنْ أَوَائِلِ الْقَوْمِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ خَيْلٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ فَقَالَ إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا فَعَلَ مِنْهَا هَذَا فَافْعَلُوا مِثْلَ هَذَا

الشرح‏:‏

ذكر المصنف حديث رافع بن خديج وقد تقدم شرحه مستوفي قبل‏.‏

*3*باب إِذَا نَدَّ بَعِيرٌ لِقَوْمٍ فَرَمَاهُ بَعْضُهُمْ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَأَرَادَ إِصْلَاحَهُمْ فَهُوَ جَائِزٌ

لِخَبَرِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا ند بعير لقوم فرماه بعضهم بسهم فقتله فأراد إصلاحهم فهو جائز‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ إصلاحه ‏"‏ ولكريمة ‏"‏ صلاحه ‏"‏ بغير ألف بالإفراد أي البعير وضمير الجمع القوم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَدَّ بَعِيرٌ مِنْ الْإِبِلِ قَالَ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ قَالَ ثُمَّ قَالَ إِنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَكُونُ فِي الْمَغَازِي وَالْأَسْفَارِ فَنُرِيدُ أَنْ نَذْبَحَ فَلَا تَكُونُ مُدًى قَالَ أَرِنْ مَا نَهَرَ أَوْ أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ غَيْرَ السِّنِّ وَالظُّفُرِ فَإِنَّ السِّنَّ عَظْمٌ وَالظُّفُرَ مُدَى الْحَبَشَةِ

الشرح‏:‏

ذكر المصنف حديث رافع ابن خديج، وقد تقدم التنبيه عليه في الذي قبله، ومضى في ‏"‏ باب ذبيحة المرأة ‏"‏ بحث في خصوص هذه الترجمة، وقوله في هذه الرواية ما أنهر الدم أو نهر شك من الراوي والصواب ‏"‏ أنهر ‏"‏ بالهمز، وقد ألزمه الإسماعيلي التناقض في هذه الترجمة والتي قبلها‏.‏

وأشار إلى عدم الفرق بين الصورتين، والجامع أن كلا منهما متعد بالتذكية، وأجيب بأن الذين ذبحوا في القصة الأولى ذبحوا ما لم يقسم ليختصوا به فعوقبوا بحرمانه إذ ذاك حتى يقسم، والذي رمى البعير أراد إبقاء منفعته لمالكه فافترقا‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ نبه بهذه الترجمة على أن ذبح غير المالك إذا كان بطريق التعدي كما في القصة الأولى فاسد، وأن ذبح غير المالك إذا كان بطريق الإصلاح للمالك خشية أن تفوت عليه المنفعة ليس بفاسد‏.‏

*3*باب إِذَا أَكَلَ الْمُضْطَرُّ

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَقَالَ فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ وَقَوْلِهِ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَنْ لَا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فُصِّلَ لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُهْرَاقًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَالَ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا أكل المضطر‏)‏ أي من الميتة، وكأنه أشار إلى الخلاف في ذلك وهو في موضعين‏:‏ أحدهما في الحالة التي يصح الوصف بالاضطرار فيها ليباح الأكل، والثاني في مقدار ما يؤكل، فأما الأول فهو أن يصل به الجوع إلى حد الهلاك أو إلى مرض يفضي إليه، هذا قول الجمهور، وعن بعض المالكية تحديد ذلك بثلاثة أيام، قال ابن أبي جمرة‏:‏ الحكمة في ذلك أن في الميتة سمية شديدة فلو أكلها ابتداء لأهلكته، فشرع له أن يجوع ليصير في بدنه بالجوع سمية أشد من سمية الميتة فإذا أكل منها حينئذ لا يتضرر ا هـ، وهذا إن ثبت حسن بالغ في غاية الحسن، وأما الثاني فذكره في تفسير قوله تعالى ‏(‏متجانف لإثم‏)‏ وقد فسره قتادة بالمتعدي وهو تفسير معنى‏.‏

وقال غيره الإثم أن يأكل فوق سد الرمق، وقيل فوق العادة وهو الراجح لإطلاق الآية‏.‏

ثم محل جواز الشبع أن لا يتوقع غير الميتة عن قرب، فإن توقع امتنع إن قوى على الجوع إلا أن يجده، وذكر إمام الحرمين أن المراد بالشبع ما ينتفي الجوع لا الامتلاء حتى لا يبقى لطعام آخر مساغ فإن ذلك حرام‏.‏

واستشكل بما في حديث جابر في قصة العنبر حيث قال أبو عبيدة ‏"‏ وقد اضطررتم فكلوا، قال فأكلنا حتى سمنا ‏"‏ وقد تقدم البحث فيه مبسوطا‏.‏

قوله ‏(‏لقوله تعالى‏:‏ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم - إلى قوله - فلا إثم عليه‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة ما حذف، وقوله ‏(‏غير باغ‏)‏ أي في أكل الميتة، وجعل الجمهور من البغي العصيان فمنعوا العاصي بسفره أن يأكل الميتة وقالوا‏:‏ طريقه أن يتوب ثم يأكل، وجوزه بعضهم مطلقا‏.‏

قوله ‏(‏وقال فمن اضطر في مخمصة‏)‏ أي مجاعة ‏(‏غير متجانف‏)‏ أي مائل‏.‏

قوله ‏(‏وقوله‏:‏ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين‏)‏ زاد في رواية كريمة الآية التي بعدها إلى قوله ‏(‏ما اضطررتم إليه‏)‏ وفيه نسخة ‏"‏ إلي بالمعتدين ‏"‏ وبه تظهر مناسبة ذكر ذلك هنا، وإطلاق الاضطرار هنا تمسك به من أجاز أكل الميتة للعاصي وحمل الجمهور المطلق على المقيد في الآيتين الأخيرتين‏.‏

قوله ‏(‏وقوله جل وعلا‏:‏ قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما‏)‏ ساق في رواية كريمة إلى آخر الآية وهي قوله ‏(‏غفور رحيم‏)‏ وبذلك يظهر أيضا وجه المناسبة وهو قوله ‏(‏فمن اضطر‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏وقال ابن عباس‏:‏ مهراقا‏)‏ أي فسر ابن عباس المسفوح بالمهراق، وهو موصول عند الطبراني من طريق علي بن أبي طلحة عنه‏.‏

قوله ‏(‏وقوله‏:‏ فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا‏)‏ كذا ثبت هنا لكريمة والأصيلي وسقط للباقين، وساق في نسخة الصغاني إلى قوله ‏(‏خنزير‏)‏ ثم قال إلى قوله ‏(‏فإن الله غفور رحيم‏)‏ قال الكرماني وغيره‏:‏ عقد البخاري هذه للترجمة ولم يذكر فيها حديثا إشارة إلى أن الذي ورد فيها ليس فيه شيء على شرطه، فاكتفى بما ساق فيها من الآيات، ويحتمل أن يكون بيض فانضم بعض ذلك إلى بعض عند تبيض الكتاب‏.‏

قلت‏:‏ والثاني أوجه، واللائق بهذا الباب على شرطه حديث جابر في قصة العنبر، فلعله قصد أن يذكر له طريقا أخرى‏.‏

‏(‏خاتمة‏)‏ ‏:‏ اشتمل كتاب الذبائح والصيد من الأحاديث المرفوعة على ثلاثة وتسعين حديثا، المعلق منها أحد وعشرون حديثا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى تسعة وسبعون حديثا، والخالص أربعة عشر حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عمر في النهي عن أن تصبر البهيمة، وحديث ابن عباس فيه، وحديث عبد الله بن زيد في النهي عن المثلة، وحديث ابن عباس والحكم بن عمرو في الحمر الأهلية، وحديث ابن عمر في النهي عن ضرب الصورة‏.‏

وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أربعة وأربعون أثرا، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏