فصل: مقدمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غاية الوصول إلى شرح لب الأصول




.مقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أظهر بدائع مصنوعاته على أحسن نظام، وخص من بينها من شاء بمزيد الطول والإنعام، ووفقه وهداه إلى دين الإسلام، وأرشده إلى طريق معرفة الاستنباط لقواعد الأحكام، لمباشرة الحلال وتجنب الحرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المفضل على جميع الأنام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الغرّ الكرام.
وبعد، فهذا شرح لمختصري المسمى بـ (لب الأصول) الذي اختصرت فيه جمع الجوامع يبين حقائقه، ويوضح دقائقه، ويذلل من اللفظ صعابه، ويكشف عن وجه المعاني نقابه، سالكا فيه غالبا عبارة شيخنا العلامة، المحقق الفهامة الجلال المحلي لسلاستها وحسن تأليفها، وروما لحصول بركة مؤلفها، وسميته (غاية الوصول إلى شرح لب الأصول). والله أسأل أن ينفع به وهو حسبي ونعم الوكيل.
(بسم الله الرحمن الرحيم) أي أؤلف أو أبتدئ تأليفي، والباء للمصاحبة ليكون ابتداء التأليف مصاحبا لاسم الله تعالى المتبرّك بذكره، وقيل للاستعانة نحو كتبت بالقلم، والاسم من السموّ وهو العلوّ. وقيل من الوسم وهو العلامة، والله علم للذات الواجب الوجود المستحق لجميع الصفات الجميلة، والرحمن الرحيم صفتان بنيتا للمبالغة من رحم، والرحمن أبلغ من الرحيم، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قطع وقطع.
(الحمد لله الذي وفقنا) أي خلق فينا قدرة. (للوصول إلى معرفة الأصول) فيه براعة الاستهلال، والحمد لغة الثناء باللسان على الجميل الاختياري على جهة التبجيل والتعظيم، وعرفا فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الحامد أو غيره، وابتدأت بالبسملة والحمدلة اقتداء بالكتاب العزيز وعملًا بخبر أبي داود وغيره: «كُلُّ أمرٍ ذي بَالٍ لاَ يبدأ فيه ببسْمِ الله الرَّحمن الرَّحيم» وفي رواية: «بالحمد لله فَهُو أجْذَمُ» أي مقطوع البركة، وقدَّمت البسملة عملًا بالكتاب والإجماع، والحمد مختص بالله، كما أفادته الجملة سواء جعلت أل فيه للاستغراق أم للجنس أم للعهد، كما بينت ذلك في شرح البهجة وغيره. (ويسَّر لنا سلوك) أي دخول. (مناهج) جمع منهج أي طرق حسنة. (بـ) سبب (قوّة أودعها في العقول) جمع عقل وهو غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات، وقد بسطت الكلام عليه في شرح لآداب البحث. (والصلاة) وهي من الله رحمة ومن الملائكة استغفار، ومن الآدمي تضرّع ودعاء. (والسلام) بمعنى التسليم. (على محمد) نبينا، ومحمد علم منقول من اسم مفعول المضعف تسمَّى به نبينا بإلهام من الله تعالى تفاؤلًا بأنه يكثر حمد الخلق له لكثرة صفاته الجميلة. (وآله) هم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب. (وصحبه) هو عند سيبويه اسم جمع لصحابة بمعنى الصحابي، وهو كما سيأتي من اجتمع مؤمنا بنبينا صلى الله عليه وسلّم، وعطف الصحب على الآل الشامل لبعضهم لتشمل الصلاة والسلام باقيهم، وجملتا الحمد والصلاة والسلام على من ذكر خبريتان لفظا إنشائيتان معنى، إذ القصد بالأولى الثناء على الله بأنه مالك لجميع الحمد من الخلق، وبالثانية إيجاد الصلاة والسلام لا الإعلام بذلك، وإن كان هو القصد بهما في الأصل. (الفائزين) أي الناجين والظافرين (من الله) متعلق بقولي (بالقبول) قدّم عليه هنا وفيما يأتي رعاية للسجع، ويجوز تعلقه بما قبله.
(وبعد) يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، وأصلها أما بعد بدليل لزوم الفاء في حيزها غالبا لتضمن أما معنى الشرط والأصل مهما يكن من شيء بعد البسملة والحمدلة والصلاة والسلام على من ذكر. (فهذا) المؤلف الحاضر ذهنا (مختصر) من الاختصار، وهو تقليل اللفظ وتكثير المعنى. (في الأصلين) عبر به دون الأصوليين أي أصول الفقه وأصول الدين، إيثارا للتخفيف والاختصار. (وما معهما) من المقدمات والتقليد وآداب الفتيا وخاتمة التصوّف. (احتضرت فيه جمع الجوامع للعلامة) شيخ الإسلام عبد الوهاب. (التاج) ابن الإمام شيخ الإسلام تقي الدين. (السبكي رحمه الله) وتغمده بغفرانه، وكساه حُلِي رضوانه. (وأبدلت منه) أي من جمع الجوامع. (غير المعتمد والواضح بهما) أي بالمعتمد والواضح. (مع زيادات حسنة) ستقف عليها إن شاء الله تعالى. (ونبهت على خلاف المعتزلة) ولو مع غيرهم. (بعندنا و) على خلاف (غيرهم) وحده. (بالأصح غالبا) فيهما. (وسميته لب الأصول راجيا) أي مؤملًا. (من الله) تعالى. (القبول وأسأله النفع به) لمؤلفه وقارئه ومستمعه وسائر المؤمنين. (فإنه خير مأمول) أي مرجوّ. (وينحصر مقصوده) أي لب الأصول. (في مقدمات) بكسر الدال كمقدمة الجيش من قدم اللازم بمعنى تقدم، وبفتحها على قلة كمقدمة الرجل في لغة من قدم المتعدي أي في أمور متقدمة أو مقدمة على المقصود بالذات للانتفاع بها فيه مع توقفه على بعضها، كتعريف الحكم وأقسامه، إذ يثبتها الأصولي تارة وينفيها أخرى كما سيجيء. (وسبعة كتب) في المقصود بالذات، خمسة في مباحث أدلة الفقه الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال.
والسادس في التعادل والتراجيح.
والسابع في الاجتهاد، وما يتبعه من التقليد وأدب الفتيا وما ضم إليه من علم الكلام المفتتح بمسألة التقليد في أصول الدين المختتم بما يناسبه من خاتمة التصوف، وهذا الحصر من حصر الكلي جزائه لا الكلي في جزئياته.

.المقدمات:

أي مبحثها. افتتحتها كالأصل بتعريف أصول الفقه ليتصوّره طالبه بما يضبط مسائله الكثيرة، ليكون على بصيرة في تطلبها، إذ لو تطلبها قبل بطلها لم يأمن فوات ما يرجيه وصرف الهمة إلى ما لا يعنيه فقلت (أصول الفقه) أي الفنّ المسمى بهذا اللقب المشعر بمدحه بابتغاء الفقه عليه، إذ الأصل ما يبنى عليه غيره. (أدلة الفقه الإجمالية) أي غير المعينة كمطلق الأمر والإجماع من حيث إنه يبحث عن أوّلهما، بأنه الوجوب حقيقة، وعن ثانيهما بأنه حجة. (وطرق استفادة جزئياتها) التي هي أدلة الفقه التفصيلية المستفاد هو منها، والمراد بالطرق المرجحات الآتي أكثرها في الكتاب السادس. (وحال مستفيدها) أي وصفات مستفيد جزئيات أدلة الفقه الإجمالية، وهو المجتهد لأنه الذي يستفيدها بالمرجحات عند تعارضها دون المقلد، والمراد بصفاته شرائطه الآتية في الكتاب السابع، ويعبر عنها بشروط الاجتهاد، وخرج بأدلة الفقه غير الأدلة كالفقه، وأدلة غير الفقه كأدلة الكلام وبعض أدلة الفقه وبالإجمالية التفصيلية وإن لم يتغاير إلا بالاعتبار كأقيموا الصلاة ولا تقربوا الزنا، وصلاته صلى الله عليه وسلّم في الكعبة، فليست أصول الفقه، وإنما يذكر بعضها في كتبه للتمثيل.
(وقيل) أصول الفقه (معرفتها) أي عرفة أدلة الفقه وما عطف عليها، ورجح الأول لأن الأدلة وما عطف عليها إذا لم تعرف لم تخرج عن كونها أصولًا، والأصل قال أصول الفقه دلائل الفقه الإجمالية، وقيل معرفتها، ثم قال والأصولي العارف بها وبطرق استفادتها ومستفيدها مخالفا في ذلك الأصوليين باعترافه، وقرره في منع الموانع بما لا يشفي، وقرره شيخنا العلامة الجلال المحلي بما لا مزيد عليه، واستبعده أيضا شيخه العلامة الشمس البرماوي، وقال لا يعرف في المنسوب زيادة قيد من حيث النسبة على المنسوب إليه، وعدلت عن قوله دلائل إلى قولي أدلة، لأن الموجود هنا جمع قلة لا جمع كثرة، ولما قيل إن فعائل لم يأت جمعا لاسم جنس بوزن فعيل، وإن ردّ بأنه أتى نادرا كوصائد جمع وصيد.
واعلم أن لكل علم مبادئ وموضوعا ومسائل، فمبادئه ما يتوقف عليه المقصود بالذات من تعريفه وتعريف أقسامه، وفائدته وهي هنا العلم بأحكام لله وما يستمد منه، وهو هنا علم الكلام والعربية والأحكام أي تصوّرها.
وموضوعه أي ما يبحث في ذلك العلم عن عوارضه الذاتية كأدلة الفقه هنا.
ومسائله ما يطلب نسبة محموله إلى موضوعه في ذلك العلم، كعلمنا هنا بأن الأمر للوجوب حقيقة والنهي للتحريم كذلك.
(والفقه علم بحكم) أي نسبة تامة، فالعلم بها تصديق بتعلقها لا تصوّرها، لأنه من مبادئ أصول الفقه، ولا تصديق بثبوتها لأنه من علم الكلام. (شرعي) أي مأخوذ من الشرع المبعوث به النبي الكريم. (عملي) أي متعلق بكيفية عمل قلبي أو غيره، كالعلم بوجوب النية في الوضوء وبندب الوتر. (مكتسب) ذلك العلم لمكتسبه. (من دليل تفصيلي) للحكم. فالعلم كالجنس، وخرج بالحكم العلم بالذات والصفة والفعل كتصوّر الإنسان والبياض والقيام، وبالشرعي العلم بالحكم العقلي والحسي واللغوي والوضعي، كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، وأن النار محرقة، وأن النور الضياء، وأن الفاعل مرفوع، وبالعملي العلم بالحكم الشرعي العلمي أي الاعتقادي، كالعلم في أصول الفقه بأن الإجماع حجة، والعلم في أصول الدين بأن الله واحد، وبالمكتسب علم الله وجبريل بما ذكر، وكذا علم النبي به الحاصل بوحي، وعلمنا به بالضرورة بأن علم من الدين بالضرورة كإيجاب الصلاة والزكاة والحج وتحريم الزنا والسرقة، وبالدليل التفصيلي العلم بذلك للمقلد، فإنه من المجتهد بواسطة دليل إجمالي، وهو أن هذا الحكم أفتاه به المفتي، وكل ما أفتاه به المفتي، فهو حكم الله في حقه فعلمه مثلًا بوجوب النية في الوضوء كذلك ليس من الفقه، وعبروا عن الفقه هنا بالعلم وإن كان لظنية أدلته ظنا كما عبروا به في كتاب الاجتهاد، لأنه ظن المجتهد الذي هو لقوّته قريب من العلم، ونكرت العلم والحكم وأفردتهما تبعا للعلامة البرماوي، لأن التحديد إنما هو للماهية من غير اعتبار كمية أفرادها، ولأن في تعبيري بحكم لا بالأحكام الذي عبر به الأصل كغيره سلامة من ورود أن العلم بجميع الأحكام ينافي قول كل من أكابر الفقهاء في مسائل سئلوا عنها لا أدري، وإن أجيب عنه بأنهم متهيئون للعلم بأحكامها بمعاودة النظر وإطلاق العلم على مثل هذا التهيؤ شائع عرفا. يقال فلان يعلم النحو ولا يراد أن جميع مسائله حاضرة عنده مفصلة، بل إنه متهيئ لذلك.
(والحكم خطاب الله) تعالى أي كلامه النفسي الأزلي المسمى في الأزل خطابا على الأصح كما سيأتي. (المتعلق) إما (بفعل المكلف) أي البالغ العاقل الذي لم يمتنع تكليفه تعلقا معنويا قبل وجوده أو بعد وجوده قبل البعثة، وتنجيزيا بعد وجوده بعد البعثة، إذ لا حكم قبلها كما سيأتي ذلك. (اقتضاء) أي طلبا للفعل وجوبا أو ندبا أو حرمة أو كراهة أو خلاف الأولى. (أو تخييرا) بين الفعل وتركه أي إباحة فيشمل ذلك الفعل القلبي الاعتقادي وغيره. والقولي وغيره والكف والمكلف الواحد كالنبي صلى الله عليه وسلّم في خصائصه، والأكثر من الواحد، (و) إما (بأعم) من فعل المكلف (وضعا وهو) الخطاب (الوارد) بكون الشيء (سببا وشرطا ومانعا وصحيحا وفاسدا) وسيأتي بيانها، فيشمل ذلك فعل المكلف كالزنا سببا لوجوب الحد، وغير فعله كالزوال سببا لوجوب الظهر، وإتلاف غير المكلف كالسكران سببا لوجوب الضمان، وخطاب كالجنس وخرج بإضافته إلى الله خطاب غيره، وإنما وجبت طاعة الرسول والسيد مثلًا بإيجاب الله تعالى إياها، وبفعل المكلف خطاب الله تعالى المتعلق بذاته وصفاته وذوات المكلفين والجمادات، كمدلول الله لا إله إلا هو خالق كل شيء ولقد خلقناكم ويوم نسير الجبال، وبالاقتضاء والتخيير والوضع مدلول وما تعملون من قوله: {والله خلقكم وما تعملون} فإنه متعلق بفعل المكلف لا باقتضاء ولا تخيير، ولا وضع بل من حيث الإخبار بأنه مخلوق لله، ولا يتعلق الخطاب التكليفي بفعل غير المكلف ووليه مخاطب بأداء ما وجب في ماله منه، كما يخاطب صاحب البهيمة بضمان ما أتلفته حيث فرط في حفظها لتنزل فعلها حينئذ منزلة فعله، وصحة عبادة الصبيّ كصلاته المثاب عليها ليس لأنه مأمور بها كما في البالغ، بل ليعتادها فلا يتركها، وبما تقرر علم أن خطاب الوضع حكم شرعي متعارف، وهو ما اختاره ابن الحاجب خلافا لما جرى عليه الأصل، وذلك لأنه لا يعلم إلا بوضع الشرع كالخطاب التكليفي، بل قيل إنه لا حاجة لذكره لأنه داخل في الاقتضاء والتخيير، إذ لا معنى لكون الزوال مثلًا سببا لوجوب الظهر إلا إيجابها عنده، ولا لكون الطهارة شرطا للإقدام على البيع إلا إباحة الإقدام عندها وتحريمه عند فقدها. وقيل إنه ليس بحكم حقيقة لأنه ليس بإنشاء بل خبر عن ترتب آثار هذه الأمور عليها. قال البرماوي وليس لهذا الخلاف كبير فائدة، بل هو خلاف لفظي وإذا ثبت أن الحكم خطاب الله. (فلا يدرك حكم إلا من الله) فلا يدرك العقل شيئا مما يأتي عن المعتزلة المعبر عن بعضه بالحسن والقبح بالمعنى الآتي على الأثر. (وعندنا) أيها الأشاعرة (أن الحسن والقبح) لشيء (بمعنى ترتب) المدح و(الذم حالًا) والثواب (والعقاب مآلًا) كحسن الطاعة وقبح المعصية. (شرعيان) أي لا يحكم بهما إلا الشرع المبعوث به الرسل. أي لا يدرك إلا به ولا يؤخذ إلا منه، أما عند المعتزلة فعقليان. أي يحكم بهما العقل بمعنى أنه طريق إلى العلم بهما يمكن إدراكه به من غير ورود سمع لما في الفعل من مصلحة أو مفسدة يتبعها حسنه أو قبحه عند الله. أي يدرك العقل ذلك إما بالضرورة كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار، أو بالنظر كحسن الكذب النافع وقبح الصدق الضار، وقيل العكس. والشرع يؤكد ذلك أو بإعانة الشرع فيما خفي على العقل كحسن صوم آخر يوم من رمضان، وقبح صوم أوّل يوم من شوّال وتركت كالأصل المدح والثواب للعلم بهما من ذكر مقابلهما الأنسب بأصول المعتزلة، إذ العقاب عندهم لا يتخلف ولا يقبل الزيادة والثواب يقبلهما، وإن لم يتخلف أيضا، وخرج بمعنى ترتب ما ذكر الحسن والقبح بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته كحسن الحلو وقبح المر، وبمعنى صفة الكمال والنقص كحسن العلم وقبح الجهل فعقليان، أي يحكم بهما العقل اتفاقا. (و) عندنا (أن شكر المنعم) وهو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق له (واجب بالشرع) لا بالعقل فمن لم يبلغه دعوة نبي لا يأثم بتركه خلافا للمعتزلة. (و) عندنا (أنه لا حكم) متعلق بفعل تعلقا تنجيزيا (قبله) أي الشرع أي بعثة أحد من الرسل لانتفاء لازمه حينئذ من ترتب الثواب والعقاب بقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} أي ولا مثيبين فاغتنى عن ذكر الثواب بذكر مقابله الأظهر في تحقق معنى التكليف، والقول بأن الرسول في الآية العقل وتخصيص العذاب فيها بالدنيوي خلاف الظاهر. (بل) انتقالية لا إبطالية. (الأمر) أي الشأن في وجوب الحكم (موقوف إلى وروده) أي الشرع فلا مخالفة بين من عبر منا في الأفعال قبل البعثة بالوقف، ومن نفى منا الحكم فيها. أما عند المعتزلة فالحكم متعلق به تعلقا تنجيزيا قبل البعثة، فإنهم جعلوا العقل حاكما في الأفعال قبل البعثة فما قضى به في شيء منها ضروري كالتنفس في الهواء أو اختياري لخصوصه بأن أدرك فيه مصلحة أو مفسدة، أو انتفاءهما، فأمر قضائه فيه ظاهر، وهو أن الضروري مقطوع بإباحته، والاختياري لخصوصه ينقسم إلى الأقسام الخمسة الحرام وغيره، لأنه إن اشتمل على مفسدة فعله فحرام كالظلم، أو تركه فواجب كالعدل، وإلا فإن اشتمل على مصلحة فعله فمندوب كالإحسان، أو تركه فمكروه،. وإن لم يشتمل على مفسدة ولا مصلحة فمباح، فإن لم يقض العقل في شيء منها لخصوصه بأن لم يدرك فيه شيئا مما مر كأكل الفاكهة فاختلف في قضائه فيه لعموم دليله على ثلاثة أقوال أحدها أنه محظور لأن الفعل تصرف في ملك الله تعالى بغير إذنه إذ العالم كله ملك له تعالى. وثانيها أنه مباح لأن الله تعالى خلق العبد وما ينتفع به، فلو لم يبح له كان خلقهما عبثا أي خاليا عن الحكمة. وثالثها الوقف عنهما أي لا يدري أنه محظور أو مباح مع أنه لا يخلو عن واحد منهما، إما ممنوع منه فمحظور أو لا فمباح، وذلك لتعارض دليلهما، وقد علم بطلان الثلاثة مما مر من قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا}.
تتمة:
لو وقع بعد البعثة صورة لا حكم فيها فثلاثة أقوال الحظر لآية: {يسألونك ماذا أحلّ لهم} فإنها تدل على سبق التحريم والإباحة لقوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعا} والوقف لتعارض الدليلين.
(والأصح امتناع تكليف الغافل) وهو من لا يدري كالنائم والساهي، لأن مقتضى التكليف بشيء الإتيان به امتثالًا وذلك يتوقف على العلم بالمكلف به والغافل لا يعلم ذلك، ومنه السكران وإن أجرى عليه حكم المكلف تغليظا عليه كما أوضحته في حاشية شرح الأصل وغيرها. (و) امتناع تكليف (الملجأ) وهو من يدري ولا مندوحة له عما ألجئ إليه كالساقط من شاهق على شخص يقتله لا مندوحة له عن الوقوع عليه القاتل له، فيمتنع تكليفه بالملجأ إليه وبنقيضه لعدم قدرته على ذلك، لأن الأوّل واجب الوقوع، والثاني ممتنعه ولا قدرة له على واحد منهما. وقيل يجوز تكليف الغافل والملجأ بناء على جواز التكليف بما لا يطاق كحمل الواحد الصحرة العظيمة، وردّ بأن الفائدة في التكليف بذلك من الاختبار هل يأخذ في المقدمات منتفية في تكليف من ذكر، وظاهر أن من ذكر يمتنع أن يتعلق به خطاب غير وضعي بغير الواجب والحرام أيضا، وإن أوهم التعبير بالتكليف قصوره عليهما. (لا المكره) وهو من لا مندوحة له عما أكره عليه إلا بالصبر على ما أكره به، فلا يمتنع تكليفه بالمكره عليه، وإن خالف داعي الإكراه داعي الشرع ولا بنقيضه، وإن وافقه على الأصح فيهما لإمكان الفعل، لكن لم يقع الأوّل مع المخالفة لخبر: «رُفِعَ عَنْ أمَّتي الخَطَأَ والنِّسيانَ وما اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ». ولا الثاني مع الموافقة قياسا على الأوّل، وإنما وقعا مع غير ذلك لقدرته على امتثال ذلك بأن يأتي بالمكره عليه لداعي الشرع كمن أكره على أداء الزكاة فنواها عند أخذها منه، أو بنقيضه صابرا على ما أكره به، وإن لم يكلف الصبر عليه كمن أكره على شرب خمر فامتنع منه صابرا على العقوبة، وقيل يمتنع تكليفه بذلك لعدم قدرته على امتثاله، إذ الفعل للإكراه لا يحصل الامتثال به، ولا يمكن الإتيان معه بنقيضه والقول الأوّل للأشاعرة والثاني للمعتزلة وصححه الأصل ورجع عنه إلى الأوّل آخرا وأدرج فيما صححه امتناع تكليف المكره على القتل، فاحتاج إلى الجواب عن إثم القاتل المجمع عليه بأنه ليس للإكراه، بل لإيثاره نفسه بالبقاء على قتيله، وعلى ما رجحناه لا يحتاج إلى الجواب، ثم ما ذكر في تكليف المكره هو كلام الأصوليين، أما الفقهاء فاضطربت أجوبتهم فيه بحسب قوة الدليل، فمرة قطعوا بما يوافق عدم تكليفه كعدم صحة عقوده وحلها وكالتلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ومرة قطعوا بما يوافق تكليفه كإكراه الحربي والمرتد على الإسلام ونحوه مما هو إكراه بحق، ومرة رجحوا ما يوافق الأوّل كإكراه الصائم على الفطر وإكراه من حلف على شيء فإنه لا يفطر ولا يحنث بفعل ذلك على الراجح، ومرة رجحوا ما يوافق الثاني كالإكراه على القتل فإنه يأثم بالقتل إجماعا ويلزمه الضمان قودا أو مالًا على الراجح. لا يقال التعبير بالتكليف قاصر على الوجوب والحرمة بناء على أن التكليف إلزام ما فيه كلفة لأنا نمنع ذلك، فإن ما عداهما لازم للتكليف، إذ لولا وجوده لم يوجد ما عداهما ألا ترى إلى انتفائه قبل البعثة كانتفاء التكليف. (ويتعلق الخطاب) من أمر أو غيره فهو أعم من قوله ويتعلق الأمر (عندنا) أيها الأشاعرة (بالمعدوم تعلقا معنويا) بمعنى أنه إذا وجد بصفة التكليف يكون مخاطبا بذلك الخطاب النفسي الأزلي لا تعلقا تنجيزيا بأن يكون حال عدمه مخاطبا، أما المعتزلة فنفوا التعلق المعنوي أيضا لنفيهم الكلام النفسي، (فإن اقتضى) أي طلب الخطاب الذي هو كلام الله النفسي (فعلًا غير كف) من المكلف (اقتضاء جازما) بأن لم يجز تركه (فإيجاب) أي فهذا الخطاب يسمى إيجابا (أو) اقتضاء (غير جازم) بأن جوّز تركه (فندب أو) اقتضى (كفا) اقتضاء (جازما) بأن لم يجز فعله. (فتحريم أو) اقتضاء (غير جازم بنهي مقصود) لشيء كالنهي في خير الصحيحين: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» (فكراهة). أي فالخطاب المدلول عليه بالمقصود يسمى كراهة ولا يخرج عن المقصود دليل المكروه إجماعا أو قياسا، لأنه في الحقيقة مستند الإجماع أو دليل المقيس عليه، وذلك من المقصود وقد يعبرون عن الإيجاب والتحريم بالوجوب والحرمة لأنهما أثرهما، وقد يعبرون عن الخمسة بمتعلقاتها من الأفعال كالعكس تجوُّزا فيقولون في الأول الحكم إما واجب أو مندوب إلخ. وفي الثاني الفعل إما إيجاب أو ندب إلخ. (أو بغير مقصود) وهو النهي عن ترك المندوبات المستفاد من أوامرها، إذ الأمر بشيء يفيد النهي عن تركه. (فخلاف الأولى) أي فالخطاب المدلول عليه بغير المقصود يسمى خلاف الأولى كما يسماه متعلقه فعلًا غير كف كان كفطر مسافر لا يتضرر بالصوم كما سيأتي، أو كفا كترك صلاة الضحى، والفرق بين قسمي المقصود وغيره أن الطلب في المقصود أشدّ منه في غيره، والقسم الثاني وهو واسطة بين الكراهة والإباحة زاده جماعة من متأخري الفقهاء منهم إمام الحرمين على الأصوليين، وأما المتقدمون فيطلقون المكروه على القسمين، وقد يقولون في الأول مكروه كراهة شديدة، كما يقال في قسم المندوب سنة مؤكدة، وعلى ما عليه الأصوليون يقال أو غير جازم فكراهة. (أو خير) الخطاب بين الفعل المذكور والكف عنه (فإباحة) وتعبيري بخير سالم مما يرد على تعبيره بالتخيير من أنه يقتضي أن في الإباحة اقتضاء وليس كذلك، وإن كان عن الإيراد جواب وزدت غير كف لأسلم من مقابلة الفعل بالكف الذي عبر عنه الأصل بالترك هو لا يقابل به، إذ الكف فعل والترك فعل هو كف كما سيأتي. (و) بما ذكر (عرفت حدودها) أي حدود المذكورات من أقسام خطاب التكليف، فحد الإيجاب مثلًا الخطاب المقتضي لفعل غير كف اقتضاء جازما، وأما حدود أقسام خطاب الوضع فتعرف من حده المشهور الذي قدمته وهو الخطاب الوارد بكون الشيء سببا إلخ. فحدّ السببي منه مثلًا الخطاب الوارد بكون الشيء سببا لحكم شيء، وأما حدود السبب وغيره من أقسام متعلق خطاب الوضع فسيأتي، وكذا حد الحد بالجامع المانع الدافع للاعتراض بأنّ ما عرف رسوم لا حدود، لأن المميز فيها خارج عن الماهية. (والأصح ترادف) لفظي (الفرض والواجب) أي مسماهما واحد وهو كما علم من حدّ الإيجاب الفعل غير الكف المطلوب طلبا جازما، ولا ينافي هذا ما ذكره أئمتنا من الفرق بينهما في مسائل، كما قالوا فيمن قال الطلاق واجب عليّ تطلق أو فرض عليّ لا تطلق، إذ ذاك ليس للفرق بين حقيقتيهما، بل لجريان العرف بذلك أو لاصطلاح آخر كما بينته مع زيادة تحقيق في الحاشية. ونفت الحنفية ترادفهما فقالوا هذا الفعل إن ثبت بدليل قطعي كالقرآن فهو الفرض كقراءة القرآن في الصلاة الثابتة بقوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} أو بدليل ظني كخبر الواحد فهو الواجب كقراءة الفاتحة في الصلاة الثابتة بخبر الصحيحين: «لا صَلاَةَ لمنْ لَم يقرأ بفاتِحَةِ الكِتابِ» فيأثم بتركها ولا تفسد به صلاته بخلاف ترك القراءة. (كالمندوب) أي كما أن الأصح ترادف ألفاظ المندوب (والمستحب والتطوّع والسنّة) والحسن والنفل والمرغب فيه أي مسماها واحد وهو كما علم من حد الندب الفعل غير الكف المطلوب طلبا غير جازم، ونفى القاضي حسين وغيره ترادفها فقالوا هذا الفعل إن واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلّم فهو السنّة، إلا كأن فعله مرة أو مرتين فهو المستحب، أو لم يفعله وهو ما ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد فهو التطوّع، ولم يتعرضوا للبقية لعمومها للأقسام الثلاثة. (والخلف) في المسألتين (لفظي) أي عائد إلى اللفظ والتسمية، إذ حاصله في الثانية أن كلًّا من الأقسام الثلاثة كما يسمى باسم من الأسماء الثلاثة كما ذكر هل يسمى بغيره منها. فقال القاضي وغيره لا إذ السنة الطريقة والعادة والمستحب المحبوب والتطوّع الزيادة، والأكثر يعم ويصدق على كل من الأقسام أنه طريقة وعادة في الدين ومحبوب للشارع وزائد على الواجب. وفي الأولى أن ما ثبت بقطعي كما يسمى فرضا هل يسمى واجبا، وما ثبت بظني كما يسمى واجبا هل يسمى فرضا؟ فعند الحنفية لا أخذا للفرض من فرض الشيء حزه أي قطعُ بعضه، وللواجب من وجب الشيء وجبة سقط وما ثبت بظني ساقط من قسم المعلوم، وعندنا نعم أخذا من فرض الشيء قدّره ووجب الشيء وجوبا ثبت وكلّ من المقدر والثابت أعم من أن يثبت بقطعي أو ظني ومأخذنا أكثر استعمالًا مع أنهم نقضوا أصلهم في أشياء منها جعلهم مسح ربع الرأس والقعدة في آخر الصلاة والوضوء من الفصد فرضا مع أنها لم تثبت بدليل قطعي، وما مر من أن ترك الفاتحة من الصلاة لا يفسدها عندهم أي دوننا لا يضر في أن الخلف لفظي، لأنه كم فقهي لا دخل له في التسمية.
(و) الأصح (أنه) أي المندوب (لا يجب) بالشروع فيه (إتمامه) لأن المندوب يجوز تركه وترك إتمامه المبطل لما فعل منه ترك له. وقالت الحنفية يجب إتمامه لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} حتى يجب بترك الصلاة والصوم منه إعادتهما وعورض في الصوم بخبر: «الصائمُ المتطوِّعُ أميرُ نَفْسِه إن شاءَ صامَ وإنْ شَاءَ أفْطَرَ» رواه الترمذي وغيره، وصحح الحاكم إسناده، ويقاس بالصوم الصلاة فلا تشملهما الآية جمعا بين الأدلة. (ووجب) إتمامه (في النسك) من حج أو عمرة (لأنه كفرضه نية) فإنها في كل منهما قصد الدخول في النسك أي التلبس به (وغيرها) ككفارة فإنها تجب في كل منهما بالوطء المفسد له وكانتفاء الخروج بالفساد، فإن كلًّا منهما لا يحصل الخروج منه بفساده، بل يجب المضيّ في فاسده وغير النسك ليس نفله كفرضه فيما ذكر، فالنية في نفل الصلاة والصوم غيرهما في فرضهما، والكفارة في فرض الصوم دون نفله ودون الصلاة مطلقا وبفسادهما يحصل الخروج منهما مطلقا، ففارق النسك المندوب غيره من باقي المندوب في وجوب إتمامه، وتعبيري بالنسك أعم من تعبيره بالحج، ثم أخذت في بيان متعلق خطاب الوضع من سبب وغيره فقلت (والسبب) الشرعي هنا (وصف) وجودي أو عدمي (ظاهر منضبط معرف للحكم) الشرعي لا مؤثر فيه بذاته، أو بإذن الله أو باعث عليه كما قال بكل قائل كما سيأتي بيانها في معنى العلة، وهذا التعريف مبين لمفهوم السبب، وبه عرف المصنف في شرح المختصر كالآمدي وعرفه في الأصل بما يبين خاصته، ولذلك عدلت عنه إلى الأوّل والمعبر عنه هنا بالسبب هو المعبر عنه في القياس بالعلة، كالزنا لوجوب الجلد، والزوال لوجوب الظهر، والإسكار لحرمة الخمر، ومن قال لا يسمى الوقت السببي كالزوال علة نظر إلى اشتراط المناسبة في العلة. وسيأتي أنها لا يشترط فيها بناء على أنها المعرّف وهو الحق وخرج بمعرف الحكم المانع وسيأتي.
(والشرط ما يلزم من عدمه العدم) للمشروط (ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم) له خرج القيد الأوّل المانعَ إذ لا يلزم من عدمه شيء، وبالثاني السبب، إذ يلزم من وجوده الوجود وزاد الأصل ككثير في تعريفه لذاته ليدخل الشرط المقارن للسبب، فيلزم الوجود كوجود الحول الذي هو شرط لوجوب الزكاة مع النصاب الذي هو سبب للوجوب، والمقارن للمانع كالدين على القول بأنه مانع من وجوب الزكاة فيلزم العدم فلزوم الوجود والعدم في ذلك لوجود السبب والمانع لا لذات الشرط وحذفه لعدم الاحتياج إليه فيما ذكر، إذ المقتضي للزوم الوجود والعدم إنما هو السبب والمانع لا الشرط، ثم هو عقلي كالحياة للعلم، وشرعي كالطهارة للصلاة، وعادي كنصب السلم لصعود السطح، ولغوي كما في أكرم فلانا إن جاء أي الجائي، وسيأتي في مبحث التخصيص، وتعريفي هنا للشرط بما ذكر وإن شمل اللغوي أنسب من تأخير الأصل له إلى مبحث المخصص (والمانع) المراد عند الإطلاق كما هنا وهو مانع الحكم. (وصف وجودي) لا عدمي (ظاهر) لا خفي (منضبط) لا مضطرب (معرف نقيض الحكم) أي حكم السب (كالقتل في) باب (الإرث) فإنه مانع من وجود الإرث المسبب عن القرابة أو غيرها لحكمة، وهي عدم استعجال الوارث موت مورثه بقتله أما مانع السبب والعلة ولا يذكر إلا مقيدا بأحدهما، فسيأتي في مبحث العلة (والصحة) الشاملة لصحة العبادة وصحة غيرها من عقد وغيره (موافقة) الفعل (ذي الوجهين) وقوعا (الشرع في الأصح). والوجهان موافقة الشرع ومخالفته أي الفعل الذي يقع تارة موافقا للشرع، وتارة مخالفا له عبادة كان كصلاة أو غيرها كبيع صحته موافقته الشرع، بخلاف ما لا يقع إلا موافقا له كمعرفة الله تعالى، إذ لو وقعت مخالفة له أيضا لكان الواقع جهلًا لا معرفة فلا يسمى الموافق له صحيحا فصحة العبادة أخذا مما ذكر موافقة العبادة ذات الوجهين وقوعا الشرع، وإن لم يسقط قضاؤها، وهذا منسوب للمتكلمين، وقيل صحتها سقوط قضائها وهذا منسوب للفقهاء فما وافق منها الشرع ولم يسقط القضاء كصلاة من ظن أنه متطهر ثم تبين له حدثه يسمى صحيحا على الأوّل نظرا إلى ظن المكلف دون الثاني نظرا إلى ما في نفس الأمر.
قال ابن دقيق العيد وفي هذا البناء نظر لأنه إن أريد بموافقة الأمر الأمر الأصلي فلم يسقط، أو الأمر بالعمل بالظن، فقد بان فساد الظن، فيلزم أن لا يكون صحيحا بالتقديرين، واستظهره البرماوي ويجاب بأن تبين فساد الظن وإن اقتضى عدم تسمية ذلك صحيحا بالنظر إلى نفس الأمر لا يمنع تسميته صحيحا بالنظر إلى الظنّ، وللسبكي وغيره هنا كلام ذكرته في الحاشية. (وبصحة العبادة) خبر لقولي (إجزاؤها أي كفايتها في سقوط التعبد) أي الطلب وإن لم يسقط القضاء (في الأصح) وقيل إجزاؤها سقوط قضائها كصحتها على القول المرجوح، فالصحة منشأ الإجزاء على القول الراجح فيهما ومرادفة له على المرجوح فيهما. (و) بصحة (غيرها) التي هي أخذا مما مر موافقته الشرع (ترتب أثره) أي أثر غيرها وهو ما شرع الغير له كحل الانتفاع في البيع والتمتع في النكاح، فالصحة منشأ الترتب لا نفس الترتب، كما زعمه الآمدي وغيره بمعنى أنه حيثما وجدت فهو ناشئ عنها لا بمعنى أنها حيثما وجدت نشأ عنها حتى يرد البيع قبل انقضاء الخيار، فإنه صحيح ولم يترتب عليه أثره وتعبيري بغيرها أعم من تعبيره بالعقد. (ويختصّ الإجزاء بالمطلوب) من واجب ومندوب لا يتجاوزهما إلى غيرهما من عقد وغيره (في الأصحّ) وقيل يختص بالواجب لا يتجاوزه إلى غيره من المندوب وغيره، ومنشأ الخلاف خبر ابن ماجة وغيره أربع لا تجزئ في الأضحى فاستعمل الأجزاء في الأضحية وهي مندوبة عندنا واجبة عند غيرنا كأبي حنيفة. (ويقابلها) أي الصحة (البطلان) فهو مخالفة الفعل ذي الوجهين الشرع. وقيل في العبادة عدم إسقاطها القضاء (وهو) أي البطلان (الفساد في الأصح) فكل منهما مخالفة ما ذكر الشرع وإن اختلفا في بعض أبواب الفقه كالخلع والكتابة لاصطلاح آخر، وقالت الحنفية مخالفته الشرع بأن كان منهيا عنه إن كانت لكون النهي عنه لأصله فهي البطلان كما في الصلاة الفاقدة شرط أو ركنا، وكما في بيع الملاقيح لفقد ركن من البيع أو لوصفه فهي الفساد كما في صوم يوم النحر للإعراض بصومه عن ضيافة الله للناس بلحوم الأضاحي التي شرعها فيه، وكما في بيع الدرهم بدرهمين لاشتماله على الزيادة فيأثم به ويفيد بالقبض ملكا خبيثا أي ضعيفا ولو نذر صوم يوم النحر صح نذره، لأن الإثم في فعله دون نذره ويؤمر بفطره وقضائه ليتخلص عن الإثم ويفي بالنذر، ولو صامه وفي بنذره لأنه أدّى الصوم كما التزمه، فقد اعتدّ بالفاسد، أما الباطل فلا يعتد به وضعف ذلك بأن التفرقة إن كانت شرعية فأين دليلها بل يبطلها قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} حيث سمى الله تعالى ما لم يثبت أصلًا فاسدا وإن كانت عقلية، فالعقل لا يحتج به في مثل ذلك (والخلف لفظي) من زيادتي أي عائد إلى اللفظ والتسمية، إذ حاصله أن مخالفة ما ذكر الشرع بالنهي عنه لأصله كما تسمى بطلانا هل تسمى فسادا أو لوصفه. كما يسمى فسادا هل تسمى بطلانا، فعندهم لا وعندنا نعم. (والأصح أن الأداء فعل العبادة) صوما أو صلاة أو غيرهما (أو) فعل (ركعة) من الصلاة (في وقتها) مع فعل البقية بعده واجبة كانت أو مندوبة، وتعبيري بالركعة هنا وبدونها في القضاء أولى ن تعبيره بالبعض لما لا يخفى، ولخبر الصحيحين: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» أي مؤداة، وقيل الأداء فعل العبادة في وقتها ففعل بعضها فيه ولو ركعة وبعضها بعده لا يكون أداء حقيقة كما لا يكون قضاء، كذلك، بل يسمى بأحدهما مجازا بتبعية ما في الوقت لما بعده أو بالعكس، وهذا ما عليه الأصوليون، واعتبار الركعة في الأداء ودونها في القضاء كما سيأتي ذكره الفقهاء، وإنما ذكرته هنا تبعا للأصل، والخبر المذكور قد لا يدل على ما ذكروه لاحتمال أنه فيمن زال عذره كجنون وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة فيجب عليه الصلاة. (وهو) أي وقت العبادات المؤدّاة (زمن مقدر لها شرعا) موسعا كان كزمن الصلوات المكتوبة وسننها أو مضيقا كزمن صوم رمضان أو الأيام البيض، فما لم يقدر له زمن شرعا كنذر ونفل مطلقين وغيرهما وإن كان فوريا كالإيمان لا يسمى فعله أداء ولا قضاء اصطلاحا، وإن كان الزمن ضروريا لفعله، ومن ذلك ما وقته العمر كالحج وتسمية بعضهم لوقته موسعا مجاز، إذ الموسع ما يعلم المكلف آخره وآخر العمر لا يعلمه فلا يسمى فعله أداء ولا قضاء اصطلاحا، بل يسماهما مجازا أو لغة كأداء الدين وقضائه نبه على ذلك العلامة البرماوي.
(و) الأصح (أن القضاء فعلها) أي العبادة (أو) فعلها (إلا دون ركعة بعد وقتها) والفرق بين ذي الركعة وما دونها أنها تشتمل على معظم أفعال الصلاة، إذ معظم الباقي كالتكرير لها فجعل ما بعد الوقت تابعا لها، بخلاف ما دونها، وقيل القضاء فعل العبادة أو بعضها ولو دون ركعة بعد وقتها، وبعض الفقهاء حقق فسمى ما في الوقت أداء وما بعده قضاء. (تداركا) بذلك الفعل (لما سبق لفعله مقتض) وجوبا أو ندبا سواء كان المقتضي من المتدارك كما في قضاء الصلاة المتروكة بلا عذر أم من غيره، كما في قضاء النائم الصلاة والحائض الصوم، فإنه سبق لفعلهما مقتض من غير النائم والحائض لا منهما، وإن انعقد سبب الوجوب أو الندب في حقهما وخرج بالتدارك إعادة الصلاة المؤداة في الوقت بعده. (و) الأصح (أن الإعادة فعلها) أي العبادة (وقتها ثانيا مطلقا) سواء أكان لعذر من خلل في فعلها أولًا أو حصول فضيلة لم تكن في فعلها أولًا لكون الإمام أعلم أو أورع أو الجمع أكثر أو المكان أشرف، أم لغير عذر ظاهر بأن استوت الجماعتان أو زادت الأولى بفضيلة، وقيل الإعادة مختصة بخلل في الأوّل وعليه الأكثر، وقيل بالعذر الشامل للخلل ولحصول فضيلة لم تكن في الأوّل، وذكر الأول أن زيادتي وهو ما اختاره الأصل في شرح المختصر، ويمكن حمل أول كلامه هنا عليه كما بينته في الحاشية، وبما ذكر علم تعريف المؤدي والمقضي والمعاد بأن يقال على الأصح المؤدي مثلًا ما فعل مما مر في الأداء في وقته، وقس به الآخرين وأن الإعادة قسم من الأداء فهي أخص منه وعليه الأكثر، وقيل قسيم له وعليه مشى البيضاوي حيث قال العبادة إن وقعت في وقتها المعين ولم تسبق بأداء مختلّ فأداء، وإلا فإعادة لكن كلامه في المرصاد يخالفه، وقد ذكرته في الحاشية مع زيادة.
(والحكم) أي الشرعي إذ الكلام فيه (إن تغير) من حيث تعلقه من صعوبة له على المكلف (إلى سهولة) كأن تغير من حرمة شيء إلى حله (لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي) المتخلف عنه للعذر، (فرخصة) أي فالحكم السهل المذكور يسمى رخصة وهي بإسكان الخاء أكثر من ضمها لغة السهولة. (واجبة ومندوبة ومباحة. وخلاف الأولى) هذه الصفات اللازمة بيان لأقسام الرخصة الممثل لها على هذا الترتيب بقولي (كأكل ميتة لمضطر وقصر) من مسافر بقيد زدته بقولي (بشرطه) بأن كره القصر أو شك في جوازه، وكان سفره يبلغ ثلاث مراحل فأكثر ولم يختلف في جواز قصره كما هو معلوم من محله، (وسلم) وهو بيع موصوف في الذمة بلفظ سلم (وفطر مسافر) في زمن صوم واجب أصالة أو بنذر أو قضاء ما فات بلا تعدّ (لا يضره الصوم) فإن ضره فالفطر أولى، والمعنى أن الرخصة كحل المذكورات من وجوب وندب وإباحة وخلاف الأولى وحكمها الأصلي الحرمة وأسبابها الخبث في الميتة، ودخول وقتي الصلاة والصوم في القصر والنظر لأنه سبب لوجوب الصلاة تامة والصوم والغرر في السلم، وهي قائمة حال الحل وأعذار الحل الاضطرار ومشقة السفر، والحاجة إلى ثمن الغلات قبل إدراكها، وسهولة الوجوب في أكل الميتة لموافقته غرض النفس في بقائها، وقيل إنه عزيمة لصعوبته ومن الرخصة المباحة إباحة ترك الجماعة في الصلاة لمرض أو نحوه، وحكمه الأصلي الكراهة وسببها قائم حال الإباحة، وهو الانفراد فيما يطلب فيه الاجتماع من شعائر الإسلام، وقد بينت في الحاشية كمية أقسام الرخصة الحاصلة بالانتقال من حكم إلى آخر، وقضية ما ذكر أن الرخصة لا تكون محرمة ولا مكروهة، وهو كما قال العراقي ظاهره، خبر: «إنَّ اللَّهُ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخصه». وما قيل من أنها تكون كذلك حيث قيل إن الاستنجاء بذهب أو فضة يجزئ مع أنه حرام، وأن القصر لدون ثلاث مراحل جائز مع أنه مكروه كما قاله الماوردي. أجيب عن أولهما بأن الاستنجاء بما ذكر جائز على الصحيح أي في غير ما طبع أو هيئ لذلك، أما فيه فيجاب بأن هذه الحرمة ليست لخصوص الاستنجاء حتى تكون رخصة، بل لعموم الاستعمال. وعن ثانيهما بأن الماوردي أراد أنه مكروه كراهة غير شديدة وهي بمعنى خلاف الأولى، ولك أن تقول الرخصة إنما لم توصف بالحرمة لصعوبتها مطلقا، وهذا منتف في الكراهة كخلاف الأولى لأنهما سهلان بالنسبة إلى الحرمة.
(وإلا) أي وإن لم يتغير الحكم كما ذكر بأن لم يتغير كوجوب المكتوبات أو تغير إلى صعوبة كحرمة الاصطياد بالإحرام بعد إباحته قبله، أو إلى سهولة لا لعذر كحل ترك الوضوء لصلاة ثانية مثلًا لمن لم يحدث بعد حرمته بمعنى أنه خلاف الأولى، أو لعذر لا مع قيام السبب للحكم الأصلي كإباحة ترك ثبات واحد منا لعشرة من الكفار في القتال بعد حرمته، وسببها قلتنا ولم يبق حال الإباحة لكثرتنا حينئذ، وعذر الإباحة مشقة الثبات المذكور لما كثرنا. (فعزيمة) أي فالحكم غر المتغير أو المتغير إليه الصعب أو السهل المذكور آنفا يسمى عزيمة، وهي لغة القصد المصمم من عزمت على الشيء جزمت به وصممت عليه عزما وعزما وعزيما وعزيمة لأنه عزم أمره أي قطع وحتم وصعب على المكلف أو سهل، وظاهر كلام كثير انقسامها إلى الأحكام الستة، وبه صرح الشمس البرماوي، لكن الإمام الرازي خصها بغير الحرمة، والغزالي والآمدي وغيرهما بالوجوب، والقرافي بالوجوب والندب، واعترض تعريفا الرخصة والعزيمة بوجوب ترك الصلاة والصوم على الحائض، فإنه عزيمة ويصدق به تعريف الرخصة. وأجيب بمنع الصدق فإن الحيض وإن كان عذرا في الترك مانع من الفعل، ومن مانعيته نشأ وجوب الترك وتقسيم الحكم إلى الرخصة والعزيمة كما ذكر أقرب إلى اللغة من تقسيم الإمام الرازي وغيره الفعل الذي هو متعلق الحكم إليهما. (والدليل) لغة المرشد وما به الإرشاد واصطلاحا (ما) أي شيء (يمكن التوصل) أي الوصول بكلفة (بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري) بأن يكون النظر فيه من الجهة التي من شأنها أن ينتقل الذهن بها إلى ذلك المطلوب المسماة وجه الدلالة بفتح الدال أفصح من كسرها، والخبري ما يخبر به، ومعنى الوصول إليه بما ذكر علمه أو اعتقاده أو ظنه فالنظر هنا الفكر لا بقيد المؤدّي إلى علم أو ظن كما سيأتي حذرا من التكرار، والفكر حركة النفس في المعقولات بخلافها في المحسوسات، فإنها تخييل لا فكر، وكأنهم ضمنوا الحركة اعتبار قصدها فيخرج الحدس وما يتوارد على النفس في المعقولات بلا قصد كما في النوم والنسيان، ويطلق الفكر أيضا على حركة النفس من المطالب إلى المبادئ، ثم الرجوع منها إليها، وشمل التعريف الدليل القطعي كالعالم لوجود الصانع والظني كالنار لوجود الدخان، وأقيموا الصلاة لوجوبها بناء على طريقة الأصوليين والفقهاء من أن مطلوبهم العمل وهو لا يتوقف على العلم، بخلاف طريقة المتكلمين والحكماء، فإن مطلوبهم العلم ولهذا زادوا لفظة في التعريف، فقالوا إلى العلم بمطلوب خبري فبالنظر الصحيح في الأدلة المذكورة أي بحركة النفس فيما تعقله منها مما من شأنه أن ينتقل به إلى تلك المطلوبات، كالحدوث في الأول، والإحراق في الثاني، والأمر بالصلاة في الثالث يصل إلى تلك المطلوبات بأن ترتب هكذا العالم حادث وكل حادث له صانع فالعالم له صانع. النار شيء محرق وكل محرق له دخان فالنار لها دخان. أقيموا الصلاة أمر بها وكل أمر بشيء لوجوبه حقيقة فأقيموا الصلاة لوجوبها حقيقة، وقالوا يمكن التوصل دون يتوصل لأن الشيء يكون دليلًا، وإن لم يوجد النظر المتوصل به فالدليل مفرد، ويقال له المادة والإمكان يكون قبل الفكر فيه، أما بعده فلابد من قضيتين صغرى مشتملة على موضوع المطلوب كما رأيت.
وأما الدليل عند المناطقة فقضيتان فأكثر تكون عنهما قضية أخرى فهو عندهم مركب، ويقال له المادة والصورة، وخرج بصحيح النظر فاسده فلا يمكن التوصل به إلى المطلوب لانتفاء وجه الدلالة عنه، وإن أدى إليه بواسطة اعتقاد أو ظن كما إذا نظر في العالم والنار من حيث البساطة، فإنهما ليسا من شأنهما أن ينتقل بهما إلى وجود الصانع والدخان، لكن يؤدّي إلى وجودهما هذان النظران ممن اعتقد أن العالم بسيط وكل بسيط له صانع، وممن ظنّ أن كل مسخن له دخان كذا قيل، وهو ظاهر في المطلوب الاعتقادي والظني لا العلمي لما سيأتي أن العلم لا يقبل النقض، وظاهر أن الحاصل بذلك يقبله إذا تبين فساد النظر. وبالخبري المطلوب التصوري، فيتوصل إليه بالحد بأن يتصور بتصوره كالحيوان الناطق حدا للإنسان، وسيأتي حد الحد الشامل لذلك ولغيره.
(والعلم) بالمطلوب الحاصل (عندنا) أيها الأشاعرة (عقبه) أي عقب صحيح النظر عادة عند الأشعري وغيره فلا يتخلف إلا خرقا للعادة كتخلف الإحراق عن مماسة النار، أو لزوما عند الإمام الرازي وغيره، فلا ينفك أصلًا كوجود الجوهر لوجود العرض. (مكتسب) للناظر (في الأصح) لأن حصوله عن نظره المكتسب له، وقيل لا لأن حصوله اضطراري لا قدرة على دفعه فلا خلاف إلا في التسمية وهي بالمكتسب أنسب والتصحيح من زيادتي، وكالعلم فيما ذكر الظن وإن لم يكن بينه وبين أمر ما ارتباط بحيث يمتنع تخلفه عنه عقلًا أو عادة، لأن النتيجة لازمة للقضيتين وإن كانتا ظنيتين، وزواله بعد حصوله لا يمنع حصوله لزوما أو عادة وخرج بعندنا المعتزلة فقالوا النظر يولد العلم كتوليد حركة اليد لحركة المفتاح عندهم، وعلى وزانه يقال الظن الحاصل متولد عن النظر عندهم. (والحد) لغة المنع واصطلاحا عند الأصوليين. (ما يميز الشيء عن غيره) ولا يميز كذلك إلا ما لا يخرج عنه شيء من أفراد المحدود، ولا يدخل فيه شيء من غيرها، والأول وهو من زيادتي مبين لمفهوم الحدّ ولهذا زدته، والثاني لخاصته وهو بمعنى قول القاضي أبي بكر الباقلاني المذكور بقولي (ويقال) الحد (الجامع) أي لأفراد المحدود (المانع) أي من دخول غيرها فيه (و) يقال أيضا الحد (المطرد) أي الذي كلما وجد وجد لمحدود فلا يدخل فيه شيء من غير أفراد المحدود فيكون مانعا. (المنعكس) أي الذي كلما وجد المحدود وجد هو فلا يخرج عنه شيء من أفراد المحدود فيكون جامعا، فمؤدى العبارتين واحد والأولى أوضح فيصدقان بالحيوان الناطق حدا للإنسان بخلاف حدّه بالحيوان الكاتب بالفعل، فإنه غير جامع وغير منعكس، وبالحيوان الماشي فإنه غير مانع وغير مطرد وتفسير المنعكس، بما ذكر الموافق للعرف واللغة حيث يقال كل إنسان ناطق، وبالعكس وكل إنسان حيوان، ولا عكس أظهر في معنى الجامع من تفسير ابن الحاجب وغيره له، بأنه كلما انتفى الحدّ انتفى المحدود اللازم لذلك التفسير، وبما ذكر علم أنه قد يكون للشيء حدّان فأكثر، كقولهم الحركة نقلة وزوال وذهاب في جهة وهو المختار، كما نقله الزركشي عن القاضي عبد الوهاب بعد نقله عن غيره خلافه.
(والكلام) النفسي (في الأزل يسمى خطابا) حقيقة في الأصح بتنزيل المعدوم الذي سيوجد منزلة الوجود، وقيل لا يسماه حقيقة لعدم من يخاطب به إذ ذاك، وإنما يسماه حقيقة فيما لا يزال عند وجود من يفهم وإسماعه إياه ما بلفظ كالقرآن، أو بلا لفظ كما وقع لموسى عليه الصلاة والسلام خرقا للعادة، وقيل سمعه بلفظ من جميع الجهات لذلك. (و) الكلام النفسي في الأزل (يتنوّع) إلى أمر ونهي وخبر وغيرها. (في الأصح) بالتنزيل السابق، وقيل لا يتنوّع إليها لعدم من تتعلق به هذه الأشياء إذ ذاك، وإنما يتنوّع إليها فيما لا يزال عند وجود من يتعلق به فتكون الأنواع حادثة مع قدم المشترك بينها، وهذا يلزمه محال وهو وجود الجنس مجردا عن أنواعه إلا أن يراد أنها أنواع اعتبارية أي عوارض له يجوز خلوّه عنها تحدث بحسب التعلقات كما أن تنوّعه إليها على الأول بحسب التعلقات أيضا لكونه صفة واحدة كالعلم وغيره من الصفات، فمن حيث تعلقه في الأزل أو فيما لا يزال بشيء على وجه الاقتضاء لفعله يسمى أمرا أو لتركه يسمى نهيا، وعلى هذا القياس، وأخرت كالأصل هاتين المسألتين عن الدليل لأن موضوعهما مدلوله في الجملة والمدلول متأخر عن الدليل، وإنما قدمتا على النظر المتعلق بالدليل أيضا لأن موضوعهما أشدّ ارتباطا منه بالدليل لأنه مقصود من الدليل والنظر من آلات تحصيله. (والنظر) لغة يقال لمعان منها الاعتبار والرؤية واصطلاحا (فكر). وتقدم تفسيره (يؤدّي) أي يوصل (إلى علم أو اعتقاد) والتصريح به من زيادتي، (أو ظنّ) بمطلوب خبري فيها أو تصوّري في العلم والاعتقاد، فخرج الفكر غير المؤدّي إلى ذلك كأكثر حديث النفس فليس بنظر وشمل التعريف النظر الصحيح من قطعي وظني، والفاسد فإنه يؤدّي إلى ذلك بواسطة اعتقاد أو ظن كما مر بيانه، وإن لم يستعمل بعضهم التأدية إلا فيما يؤدّي بنفسه كذا قيل، وظاهر أنه خاص بتأديته إلى الاعتقاد أو الظنّ لا إلى العلم لما مر في تعريف الدليل. (والإدراك) لغة الوصول واصطلاحا وصول النفس إلى تمام المعنى من نسبة أو غيرها (بلا حكم) معه من إدراك وقوع النسبة أو لا وقوعها (تصور) ساذج، ويسمى علما أيضا كما علم مما مر، أما وصول النفس إلى المعنى لا بتمامه فيسمى شعورا. (وبه) أي بالحكم أي والإدراك للنسبة وطرفيها مع الحكم المسبوق بذلك. (تصوّر بتصديق) أي معه كإدراك الإنسان والكاتب وثبوت الكتابة له، وأن النسبة واقعة أولًا في التصديق بأن الإنسان كاتب أو أنه ليس بكاتب الصادقين في الجملة. (وهو) أي التصديق (الحكم) وهذا من زيادتي وهو رأي المحققين، وقيل التصديق التصور مع الحكم، وعليه جرى الأصل، فالتصورات السابقة على الحكم على هذا شطر منه، وعلى الأول شرط له، وتفسيري له بأنه إدراك وقوع النسبة أو لا وقوعها هو رأي متقدمي المناطقة. قال القطب الرازي وغيره من المحققين وهو التحقيق، وأما متأخروهم ففسروه بإيقاع النسبة أو انتزاعها، وقدماؤهم قالوا الإيقاع والانتزاع ونحوهما عبارات وألفاظ أي توهم أن للنفس بعد تصور النسبة وطرفيها فعلًا وليس كذلك، فالحكم عندهم من مقولة الانفعال، وعند متأخريهم من مقولة الفعل.
(وجازمه) أي الحكم أي والحكم الجازم (إن لم يقبل تغيرا) بأن كان لموجب من حس ولو باطنا أو عقل أو عادة، فيكون مطابقا للواقع. (فعلم) كالحكم بأن به جوعا أو عطشا أو بأن زيدا متحرك ممن رآه متحركا أو بأن العالم حادث، أو بأن الجبل من حجر. (وإلا) أي وإن قبل التغير بأن لم يكن لموجب مما ذكر طابق الواقع أو لا. إذ يتغير الأول بالتشكيك والثاني به أو بالاطلاع على ما في نفس الأمر. (فاعتقاد) وهو اعتقاد (صحيح إن طابق) الواقع كاعتقاد المقلد سنية الضحى، (وإلا) أي وإن لم يطابق الواقع (ففاسد) كاعتقاد الفلسفي قدم العالم، (و) الحكم (غير الجازم ظن ووهم وشك لأنه) أي غير الجازم إما (راجح) لرجحان المحكوم به على نقيضه فالظن، أو مرجوح لمرجوحية المحكوم به لنقيضه فالوهم، أو مساو لمساواة المحكوم به من كل من النقيضين على البدل للآخر فالشك فهو بخلاف ما قبله حكمان، كما قال إمام الحرمين والغزالي وغيرهما الشك اعتقادان يتقاوم سببهما. وقال بعض المحققين ليس الوهم والشك من التصديق أي بل من التصور، إذ الوهم ملاحظة الطرف المرجوح والشك التردّد في الوقوع واللاوقوع، فما أريد مما مر من أن العقل يحكم بالمرجوح أو المساوي عنده ممنوع على هذا، وقد أوضحت ذلك في الحاشية، وقد يطلق العلم على الظن كعكسه مجازا، فالأول كقوله تعالى: {فإن علمتموهنّ مؤمنات} أي ظننتموهن والثاني كقوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم} أي يعلمون ويطلق الشك مجازا كما يطلق لغة على مطلق التردّد الشامل للظن والوهم، ومن ذلك قول الفقهاء من تيقن طهرا أو حدثا وشك في ضدّه عمل بيقينه.
(فالعلم) أي القسم المسمى بالعلم التصديقي من حيث تصوره بحقيقته بقرينة السياق (حكم جازم لا يقبل تغيرا فهو نظري يحد في الأصح). واختار الإمام الرازي أنه ضروري أي يحصل بمجرد التفات النفس إليه من غير نظر واكتساب، لأن علم كل أحد بأنه عالم بأنه موجود مثلًا ضروري بجميع أجزائه، ومنها تصور العلم بأنه موجود بالحقيقة وهو علم تصديقي خاص، فيكون تصور مطلق العلم التصديقي بالحقيقة ضروريا وهو المدعي. وأجيب بمنع أنه يتعين أن يكون من أجزاء ذلك تصور العلم المذكور بالحقيقة، بل يكفي تصوره بوجه، فالضروري تصور مطلق العلم التصديقي بالوجه لا بالحقيقة الذي النزاع فيه، وعلى ما اختاره فلا يحدّ، إذ لا فائدة، في حدّ الضروري لحصوله بغير حدّ قال نعم قد يحدّ الضروري لإفادة العبارة عنه أي فيكون حدّه حينئذ حدّا لفظيا لا حقيقيا. وقال إمام الحرمين هو نظري لكنه عسر أي لا يحصل إلا بنظر دقيق لخفائه ومال إليه الأصل حيث قال فالرأي الإمساك عن تعريفه أي المسبوق بذلك التصور العسر صونا للنفس عن مشقة الخوض في العسر. قال الإمام ويميز عن غيره من أقسام الاعتقاد بأنه اعتقاد جازم مطابق ثابت فليس هذا حقيقته عنده، والترجيح من زيادتي.
(قال المحققون ولا يتفاوت) العلم (إلا بكثرة المتعلقات) أي لا يتفاوت في جزئياته فليس بعضها ولو ضروريا أقوى من بعضها ولو نظريا، وإنما يتفاوت بكثرة المتعلقات في بعض جزئياته دون بعض فيتفاوت فيها كما في العلم بثلاثة أشياء والعلم بشيئين، بناء على اتحاد العلم مع تعدّد المعلوم، كما هو قول بعض الأشاعرة قياسا على علم الله تعالى، والأشعري وكثير من المعتزلة على تعدد العلم بتعدد المعلوم، وأجابوا عن القياس بأنه خال عن الجامع، وعلى هذا لا يقال يتفاوت بما ذكر، وقيل يتفاوت العلم في جزئياته، إذ العلم مثلًا بأن الواحد نصف الاثنين أقوى في الجزم من العلم بأن العالم حادث. وأجيب بأن التفاوت في ذلك ونحوه ليس من حيث الجزم، بل من حيث غيره كإلف النفس بأحد المعلومين دون الآخر.
(والجهل انتفاء العلم بالمقصود في الأصح) أي بما من شأنه أن يقصد ليعلم بأن لم يدرك ويسمى الجهل البسيط أو أدرك على خلاف هيئته في الواقع، ويسمى الجهل المركب لتركبه من جهلين جهل المدرك بما في الواقع، وجهله بأنه جاهل به كاعتقاد الفلسفي أن العالم قديم، وقيل الجهل إدراك العلوم على خلاف هيئته، فالجهل البسيط على الأول ليس جهلًا على هذا، واستغنى بانتفاء العلم عن التقييد في قول بعضهم عدم العلم عما من شأنه العلم لإخراج الجماد والبهيمة عن الاتصاف بالجهل لأن انتفاء العلم إنما يقال فيما من شأنه العلم بخلاف عدم العلم، وخرج بالمقصود غيره كأسفل الأرض وما فيه فلا يسمى انتفاء العلم به جهلًا اصطلاحا، والتعبير به أحسن كما قال البرماوي من تعبير بعضهم بالشيء، لأن الشيء لا يطلق على المعدوم بخلاف المقصود، ولأنه يشمل غير المقصود.
(والسهو الغفلة عن المعلوم) الحاصل فيتنبه له بأدنى تنبيه بخلاف النسيان، فهو زوال المعلوم فيستأنف تحصيله، وعرّفه الكرماني وغيره بزوال المعلوم عن القوّة الحافظة والمدركة والسهو بزواله عن الحافظة فقط، وذلك قريب مما ذكر، وجعلهما البرماوي من أقسام الجهل البسيط حيث قسمه إليهما وإلى غيرهما، ثم فرق بينهما بأنه إن قصر زمن الزوال سمي سهوا وإلا فنسيانا. قال وهذا أحسن ما فرق بيه بينهما.
مسألة هي إثبات عرض ذاتي للموضوع. (الأصح أن الحسن ما) أي فعل (يمدح) أي يؤمر بالمدح (عليه). وهو الواجب والمندوب وفعل الله تعالى. (والقبيح ما يذم عليه) وهو الحرام. (فما لا) يمدح (ولا) يذم عليه من المكروه الشامل لخلاف الأولى والمباح. (واسطة) بين الحسن والقبيح، وهذا ما قاله إمام الحرمين في المكروه صريحا وفي المباح، وفعل غير المكلف لزوما، ورجحه الأصل في شرح المختصر في المكروه، وتبعه البرماوي فيه، وألحق به المباح بحثا، وقيل الحسن فعل المكلف المأذون فيه من واجب ومندوب ومباح، والقبيح ما نهى عنه شرعا ولو كان منهيا عنه بعموم النهي المستفاد من أوامر الندب كما مرّ، فيشمل الحرام والمكروه، وخلاف الأولى وهذا ما رجحه الأصل هنا فيهما ولأصحابنا فيهما عبارات أخرى. وللمعتزلة فيهما بناء على تحكيمهم العقل عبارات أيضا منها أن الحسن ما للقادر عليه العالم بحاله أن يفعله والقبيح بخلافه فيدخل فيه الحرام فقط، وفي الحسن ما سواه. ومنها أن الحسن هو الواقع على صفة توجب المدح والقبيح هو الواقع على صفة توجب الذم، فيدخل فيه الحرام فقط أيضا. وفي الحسن الواجب والمندوب، فالمكروه والمباح واسطة بين الحسن والقبيح.
(و) والأصح (أن جائز الترك) سواء كان جائز الفعل أيضا أم لا. (ليس بواجب) وإلا لامتنع تركه والفرض أنه جائز. وقال بعض الفقهاء يجب الصوم على الحائض والمريض والمسافر مع جواز تركهم له لقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وهم شهدوه ولوجوب القضاء عليهم بقدر ما فاتهم فكان المأتيّ به بدلًا عن الفائت. وأجيب بأن شهود الشهر موجب عند انتفاء العذر لا مطلقا، وبأن وجوب القضاء إنما يتوقف على سبب الوجوب هو هنا شهود الشهر، وقد وجد لا على وجوب الأداء وإلا لما وجب قضاء الظهر مثلًا على من نام جميع وقتها. وقيل يجب الصوم على المسافر دون الحائض والمريض لقدرته عليه دونهما. وقيل يجب عليه دونهما أحد الشهرين الحاضر أو آخر بعده. (والخلف لفظي) أي راجع إلى اللفظ دون المعنى لأن ترك الصوم حال العذر جائز اتفاقا والقضاء بعد زواله واجب اتفاقا. (و) الأصح (أن المندوب مأمور به) أي مسمى به حقيقة كما نص عليه الشافعي وغيره، وقيل لا. والخلاف مبني على أن أ م ر حقيقة في الإيجاب كصيغة افعل أو في القدر المشترك بينه وبين الندب أي طلب الفعل، والترجيح من زيادته، وعليه جرى الآمدي، أما إنه مأمور به بمعنى أنه متعلق الأمر أي صيغة افعل فلا نزاع فيه، سواء أقلنا إنها مجاز في الندب أم حقيقة فيه كالإيجاب خلاف يأتي. (و) الأصح (أنه) أي المندوب (ليس مكلفا به كالمكروه) فالأصح أنه ليس مكلفا به، وقيل مكلف بهما كالواجب والحرام ورجحوا الأول. (بناء على أن التكليف) اصطلاحا (إلزام ما فيه كلفة) أي مشقة من فعل أو ترك. (لا طلبه) وبه فسر القاضي أبو بكر الباقلاني أي لا طلب ما فيه كلفة على وجه الإلزام أو لا. فعلى تفسير التكليف بالأوّل يدخل الواجب والحرام فقط، وعلى تفسيره بالثاني يدخل جميع الأحكام إلا المباح، لكن أدخله الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني من حيث وجوب اعتقاد إباحته تتميما للأقسام، وإلا فغيره مثله في ذلك وإلحاقي المكروه بالمندوب هو الوجه لا إلحاق المباح به كما سلكه الأصل، إذ لا إلزام فيه ولا طلب فلا يتأتى فيه القول بأنه مكلف به إلا على ما سلكه الأستاذ. (و) الأصح (أن المباح ليس بجنس للواجب) بل هما نوعان لجنس وهو فعل المكلف الذي تعلق به حكم شرعي، وقيل إنه جنس له لأنه مأذون في فعله وتحته أنواع الواجب والمندوب والمخير فيه والمكروه الشامل لخلاف الأولى، واختص الواجب بفصل المنع من الترك، قلنا واختص المباح أيضا بفصل الإذن في الترك على السواء والخلف لفظي، إذ المباح بالمعنى الأول أي المأذون فيه جنس للواجب اتفاقا وبالمعنى الثاني أي المخير فيه وهو المشهور غير جنس له اتفاقا. (و) الأصح (أنه) أي المباح (في ذاته غير مأمور به) فليس بواجب ولا مندوب. وقال الكعبي إنه مأمور به أي واجب إذ ما من مباح إلا ويتحقق به ترك حرام ما، فيتحقق بالسكوت ترك القذف، وبالسكون ترك القتل، وما يتحقق بالشيء لا يتم إلا به وترك الحرام واجب، وما لا يتم الواجب إلا به واجب كما سيجيء، فالمباح واجب ويأتي ذلك في غيره كالمكروه والخلف لفظي، فإن الكعبي قائل بأنه غير مأمور به من حيث ذاته ومأمور به من حيث ما عرض له من تحقق ترك الحرام به وغيره لا يخالفه فيهما، فقولي في ذاته قيد للقول بأن المباح غير مأمور به لا لمحل الخلاف، وسيأتي ماله بذلك تعلق. (و) الأصح (أن الإباحة حكم شرعي) لأنها التخيير بين الفعل والترك المتوقف وجوده كبقية الأحكام على الشرع كما مر. وقال بعض المعتزلة لا لأنها انتفاء الحرج عن الفعل والترك وهو ثابت قبل ورود الشرع مستمر بعده. (والخلف) في المسائل الثلاث (لفظي) أي راجع إلى اللفظ دون المعنى. أما في الأوليين فلما مر، وأما في الثالثة فلأن الدليلين لم يتواردا على محل واحد، فتأخيري لهذا عن الثلاث أولى من تقديم الأصل له على الأخيرة.
واعلم أن ما سلكته في مسألة الكعبي تبعت فيه هنا الأكثر، وأولى منه ما ملكته في الحاشية أخذا من كلام بعض المحققين من تحريم الكلام فيها بوجه آخر، ومن رد دليل الكعبي بما يقتضي أن الخلاف معنوي وإن خالف ذلك ظاهر كلام الكعبي. (و) الأصحّ (أن الوجوب) لشيء (إذا نسخ) كأن قال الشارع نسخت وجوبه أو حرمة تركه (بقي الجواز) له الذي كان في ضمن وجوبه من الإذن في الفعل بما يقوّمه من الإذن في الترك. وقال الغزالي لا يبقى لأن نسخ الوجوب يجعله كأن لم يكن ويرجع الأمر إلى ما كان قبله من تحريم أو إباحة أو براءة أصلية فالخلف معنوي. (وهو) أي الجواز المذكور (عدم الحرج) في الفعل والترك من الإباحة أو الندب أو الكراهة بالمعنى الشامل لخلاف الأولى. (في الأصح) إذ لا دليل على تعيين أحدها، وقيل هو الإباحة فقط، إذ بارتفاع الوجوب ينتفي الطلب فيثبت التخيير، وقيل هو الندب فقط، إذ المتحقق بارتفاع الوجوب انتفاء الطلب الجازم فيثبت الطلب غير الجازم. والحاصل أنه يعتبر في الجواز المذكور رفع الحرج عن الفعل والترك في الأقوال الثلاثة، لكنه مطلق في الأول منها ومقيد باستواء الطرفين في الثاني، وبترجح الفعل في الثالث فالخلف معنويّ هكذا أفهم.
مسألة في الواجب الحرام المخيرين (الأمر بأحد أشياء) معينة كما في كفارة اليمين. (يوجبه) أي الأحد (مبهما عندنا) وهو القدر المشترك بينها في ضمن أيّ معين منها لأنه المأمور به، وقيل يوجبه معينا عند الله تعالى، فإن فعل المكلف المعين فذاك أو فعل غيره منها سقط بفعله الواجب، وقيل يوجبه كذلك، وهو ما يختاره المكلف بأن علم الله منه أنه لا يختار سواه، وإن اختلف باختيار المكلفين. وقيل يوجب الكل فيثاب بفعلها ثواب واجبات، ويعاقب بتركها عقاب ترك واجبات، ويسقط الكل الواجب بواحد منها، لأن الأمر تعلق بكل منها بخصوصه على وجه الاكتفاء بواحد منها. قلنا إن سلم ذلك لا يلزم منه وجوب الكل المرتب عليه ذلك والقول الأخير والثاني للمعتزلة، فهم متفقون على نفي أيجاب واحد منهم كنفيهم تحريمه كما سيجيء لما قالوا من أن إيجاب الشيء أو تحريمه لما في تركه، أو فعله من المفسدة التي يدركها العقل، وإنما يدركها في المعين، والثالث يسمى قول التراجم، لأن كلًّا من الأشاعرة والمعتزلة تنسبه إلى الأخرى فاتفق الفريقان على بطلانه. (فـ)ـعلى الأصح (إن فعلها) كلها (فالمختار) أنه (إن فعلها مرتبة فالواجب) أي المثاب عليه ثواب الواجب الذي هو كثواب سبعين مندوبا (أولها) وإن تفاوتت لتأدّى الواجب به من حيث إنه مبهم. (أو) فعلها كلها (معا فأعلاها) ثوابا الواجب لأنه لو اقتصر لأثيب عليه ثواب الواجب الأكمل فضمّ غيره إليه لا ينقصه عن ذلك. (وإن تركها) كلها (عوقب بأدناها) عقابا إن عوقب، لأنه لو فعله فقط من حيث إنه مبهم لم يعاقب، فإن تساوت وفعلت معا أو تركت فثواب الواجب والعقاب على واحد منها. وقيل الواجب فيما إذا تفاوتت أعلاها ثوابا، وفيما إذا تساوت أحدها وإن فعلت مرتبة فيهما لما مر، فإن تركت فحكمه موافق للمختار ويثاب ثواب المندوب في كل قول على غير ما ذكر لثواب الواجب، وذكر حكم التساوي في المرتبة مع الترجيح في البقية من زيادتي المقتضية من حيث الترجيح لإبدال قوله في المرتبة أعلاها بقولي أولها، وبما قررته علم أن محل ثواب الواجب والعقاب أحدها مبهما لا من حيث خصوصه، حتى إن الواجب ثوابا في المرتبة أولها من حيث إنه مبهم لا من حيث خصوصه، وكذا يقال في كل من الزائد على ما يتأدّى به الواجب، منها أنه يثاب عليه ثواب المندوب من حيث إنه مبهم لا من حيث خصوصه. (ويجوز تحريم واحد مبهم) من أشياء معينة (عندنا) نحو لا تتناول السمك أو اللبن أو البيض، فعلى المكلف تركه في أي معين منها، وله فعله في غيره، إذ لا مانع من ذلك ومنعه المعتزلة كمنعهم إيجابه لما مر عنهم فيهما. وزعمت طائفة منهم أنه لم ترد به اللغة، وهذا (كـ)ـالواجب (المخير) فيما مر فيه فالنهي عن واحد مبهم مما ذكر يحرّمه مبهما. وقيل يحرمه معينا عند الله تعالى ويسقط تركه الواجب بتركه أو ترك غيره منها. فالتارك لبعضها إن صادف المحرم فذاك، وإلا فقد ترك بدله، وقيل يحرمه كذلك وهو ما يختاره المكلف، وقيل يحرمها كلها فيعاقب بفعلها عقاب فعل محرمات ويثاب بتركها امتثالًا ثواب ترك محرمات، ويسقط تركها الواجب بترك واحد منها، فعلى الأول إن تركها كلها امتثالًا وتفاوتت، فالمختار أنه يثاب على ترك أشدها عقابا وإن فعلها مرتبة عوقب على آخرها، وإن تفاوتت لارتكابه المحرم به أو فعلها معا عوقب على أخفها عقابا، فإن تساوت وفعلت معا أو تركت فالمعتبر أحدها. وقيل المحرم فيما إذا فعلت ولو مرتبة أخفها عقابا.
تنبيه:
المندوب كالواجب والمكروه كالحرام فيما ذكر.