فصل: الاستبداد والمال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد



.الاستبداد والمال:

الاستبداد لو كان رجلًا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: (أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال).
المال يصحُّ في وصفه أن يُقال: القوة مال، والوقت مال، والعقل مال، والعلم مال، والدِّين مال، والثّبات مال، والجاه مال، والجمال مال، والترتيب مال، والاقتصاد مال، والشُّهرة مال، والحاصل كلُّ ما يُنتَفَع به في الحياة هو مال.
وكلُّ ذلك يُباع ويُشترى؛ أي يستبدل بعضه ببعض، وموازين المعادلة هي: الحاجة والعزّة والوقت والتعب، ومحافظة اليد والفضة والذهب والذمة، وسوقه المجتمعات، وشيخ السوق السلطان... فانظر في سوق يتحكّم فيه مستبدٌّ؛ يأمر زيدًا بالبيع، وينهى عمروًا عن الشراء، ويغصب بكرًا ماله، ويحابي خالدًا من مال الناس.
المال تعتوره الأحكام، فمنه الحلال ومنه الحرام وهما بيِّنان، ولَنِعْمَ الحاكم فيها الوجدان، فالحلال الطيب ما كان عوض أعيان، أو أجرة أعمال، أو بدل وقت، أو مقابل ضمان. والمال الخبيث الحرام هو ثمن الشّرف، ثمَّ المغصوب، ثمَّ المسروق، ثمَّ المأخوذ إلجاءً ثمَّ المحتال فيه.
إنَّ النظام الطبيعي في كلِّ الحيوانات حتى في السّمك والهوام، إلا أنثى العنكبوت، إنَّ النوع الواحد منها لا يأكل بعضه بعضًا، والإنسان يأكل الإنسان. ومن غريزة سائر الحيوان أن يلتمس الرّزق من الله؛ أي من مورده الطبيعي، وهذا الإنسان الظّالم نفسه حريصٌ على اختطافه من يد أخيه، بل من فيه، بل كم أكل الإنسان الإنسان!
الاستبداد والإنسان:
عاش الإنسان دهرًا طويلًا يتلذذ بلحم الإنسان ويتلمَّظ بدمائه، إلى أن تمكَّن الحكماء في الصّين، ثمَّ الهند من إبطال أكل اللحم كليًّا، سدًَّا للباب، كما هو دأبهم إلى الآن. ثمَّ جاءت الشرائع الدينية الأولى في غربي آسيا بتخصيص ما يؤكل من الإنسان بأسير الحرب، ثمَّ بالقربان يُنذَر للمعبود، ويُذبَح على يد الكهان. ثمَّ أُبطِل أكلُ لحم القربان، وجُعِل طعمة للنيران، وهكذا تدرَّج الإنسان إلى نسيان لذَّة لحم إخوانه، وما كان لينسى عبادة إهراق الدِّماء لولا إبراهيم شيخ الأنبياء استبدل قربان البشر بالحيوان، واتَّبعه موسى عليهما السلام، وبه جاء الإسلام. وهكذا بطل هذا العدوان بهذا الشكل إلا في أواسط أفريقيا عند (النامنام).
الاستبداد المشئوم لم يرضَ أن يقتل الإنسان الإنسان ذبحًا ليأكل لحمه أكلًا كما كان يفعل الهمج الأولون، بل تفنَّن في الظلم، فالمستبدّون يأسرون جماعتهم، ويذبحونهم فصدًا بمبضع الظلم، ويمتصون دماء حياتهم بغصب أموالهم، ويقصرون أعمارهم باستخدامهم سخرة في أعمالهم، أو بغصب ثمرات أتعابهم. وهكذا لا فرق بين الأولين والآخرين في نهب الأعمار وإزهاق الأرواح إلا في الشكل.
إنَّ بحث الاستبداد والمال بحثٌ قويُّ العلاقة بالظُّلم القائم في فطرة الإنسان، ولهذا؛ رأيت أن لا بأس في الاستطراد لمقدِّمات تتعلَّق نتائجها بالاستبداد السياسي، فمن ذلك:
إنَّ البشر المقدَّر مجموعهم بألف وخمسمائة مليون نصفهم كَلٌّ على النّصف الآخر، ويشكِّل أكثرية هذا النصف الكَلّ نساء المدن. ومن النّساء؟ النّساء هنَّ النّوع الذي عرف مقامه في الطبيعة بأنَّه هو الحافظ لبقاء الجنس، وأنَّه يكفي للألف منه ملقح واحد، وإنَّ باقي الذكور حظهم أن يُساقوا للمخاطر والمشاقّ، أو هم يستحقّون ما يستحقُّه ذكر النحل، وبهذا النظر اقتسمت النساء مع الذكور أعمال الحياة قسمةً ضيزى، وتحكَّمْن بسنِّ قانونٍ عام؛ به جعلن نصيبهنَّ هيِّن الأشغال بدعوى الضّعف، وجعلن نوعهنَّ مطلوبًا عزيزًا بإيهام العفّة، وجعلن الشجاعة والكرم سيئتين فيهنَّ محمدتين في الرجال، وجعلن نوعهنَّ يُهين ولا يُهان، ويظلم أو يُظلَم فيُعان؛ وعلى هذا القانون يربِّين البنات والبنين، ويتلاعبن بعقول الرِّجال كما يشأن حتى أنهن جعلن الذكور يتوهمون أنَّهن أجمل منهم صورةً. والحاصل أنَّه قد أصاب من سمَّاهنَّ بالنصف المضرِّ! ومن المشاهد أنَّ ضرر النساء بالرجال يترقّى مع الحضارة والمدنية على نسبة التَّرقي المضاعف. فالبدوية تشارك الرجل مناصفةً في الأعمال والثمرات، فتعيش كما يعيش، والحضرية تسلب الرّجل لأجل معيشتها وزينتها اثنين من ثلاث. وتُعينه في أعمال البيت. والمدنية تسلب ثلاثة من أربعة، وتودُّ أن لا تخرج من الفراش، وهكذا تترقَّى بنات العواصم في أسر الرِّجال. وما أصدق بالمدنية الحاضرة في أوروبا؛ أن تسمّى المدنية النسائية، لأنَّ الرِّجال فيها صاروا أنعامًا للنِّساء.
ثمَّ إنَّ الرِّجال تقاسموا مشاقَّ الحياة قسمةً ظالمةً أيضًا، فإنَّ أهل السياسة والأديان ومن يلتحق بهم- وعددهم لا يبلغ الخمسة في المائة- يتمتعون بنصف ما يتجمَّد في دم البشر أو زيادة، يُنفقون ذلك في الرَّفه والإسراف، مثال ذلك: أنَّهم يزيِّنون الشوارع بملايين من المصابيح لمرورهم فيها أحيانًا متراوحين بين الملاهي والمواخير ولا يفكِّرون في ملايين من الفقراء يعيشون في بيوتهم في ظلام.
ثمَّ أهل الصنائع النفيسة والكمالية، والتجار الشَّرهون المحتكرون وأمثال هذه الطبقة- ويقدَّرون كذلك بخمسة في المائة- يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصُّنّاع والزُّرّاع. وجرثومة هذه القسمة المتفاوتة المتباعدة الظّالمة هي الاستبداد لا غيره. وهناك أصناف من النّاس لا يعملون إلا قليلًا، إنما يعيشون بالحيلة كالسماسرة والمشعوذين باسم الأدب أو الدين، وهؤلاء يُقدَّرون بخمسة عشر في المائة، أو يزيدون على أولئك.
نعم؛ لا يقتضي أن يتساوى العالم الذي صرف زهوة حياته في تحصيل العلم النافع أو الصنعة المفيدة بذاك الجاهل النائم في ظلِّ الحائط، ولا ذاك التاجر المجتهد المخاطر بالكسول الخامل، ولكن العدالة تقتضي غير ذلك التفاوت، بل تقتضي الإنسانية أن يأخذ الراقي بيد السّافل، فيقرِّبه من منزلته، ويقاربه من منزلته، ويُقاربه في معيشته، ويعينه على الاستقلال في حياته.
لا! لا! لا يطلب الفقير معاونة الغني، إنما يرجوه أن لا يظلمه، ولا يلتمس منه الرّحمة، إنما يلتمس العدالة، لا يؤمِّل منه الإنصاف، إنما يسأله أن لا يُميته في ميدان مزاحمة الحياة.
بَسَطَ المولى- جلّت حكمته- سلطان الإنسان على الأكوان، فطغى، وبغى، ونسي ربَّه وعبد المال والجمال، وجعلهما منيته ومبتغاه، كأنَّه خُلق خادمًا لبطنه وعضوه فقط، لا شأن له غير الغذاء والتّحاك. وبالنظر إلى أنَّ المال هو الوسيلة الموصلة للجمال كاد ينحصر أكبر همٍّ للإنسان في جمع المال، ولهذا يُكنَّى عنه بمعبود الأمم وبسرِّ الوجود، وروى كريسكوا المؤرِّخ الروسي: إنَّ كاترينا شكت كسل رعيّتها، فأرشدها شيطانُها إلى حمل النِّساء على الخلاعة، ففعلت وأحدثت كسوة المراقص، فهبَّ الشبّان للعمل وكسب المال لصرفه على ربّات الجمال، وفي ظرف خمس سنين؛ تضاعف دخل خزينتها، فاتَّسع لها مجال الإسراف. وهكذا المستبدّون لا تهمهم الأخلاق، إنَّما يهمهم المال.
المال عند الاقتصاديين: ما ينتفع به الإنسان، وعند الحقوقيين: ما يجري فيه المنع والبذل؛ وعند السياسيين: ما تُستعاض به القوة؛ وعند الأخلاقيين: ما تُحفظ به الحياة الشريفة. المال يستمدُّ من الفيض الذي أودعه الله تعالى في الطبيعة ونواميسها، ولا يملك؛ أي لا يتخصص بإنسان، إلا بعمل فيه أو في مقابله.
والمقصود من المال هو أحد اثنين لا ثالث لهما وهما: تحصيل لذّة أو دفع ألم، وفيهما تنحصر كلُّ مقاصد الإنسان، وعليهما مبنى أحكام الشرائع كلها، والحاكم المعتدل في طيّب المال وخبيثه؛ هو الوجدان الذي خلقه الله صبغةً للنّفس، وعبَّر عنه القرآن بإلهامها فجورها وتقواها، فالوجدان خيَّر بين المال الحلال والمال الحرام.
ثمَّ إنَّ أعمال البشر في تحصيل المال ترجع إلى ثلاثة أصول: 1- استحضاره المواد الأصلية. 2- تهيئته المواد للانتفاع. 3- توزيعها على الناس. وهي الأصول التي تسمّى بالزراعة والصناعة والتجارة، وكلُّ وسيلة خارجة عن هذه الأصول وفروعها الأولية، فهي وسائل ظالمة لا خير فيها.
التموُّل؛ أي ادِّخار المال، طبيعة في بعض أنواع الحيوانات الدنيئة كالنمل والنحل، ولا أثر له في الحيوانات المرتقية غير الإنسان. الإنسان تطبَّع على التموُّل لدواعي الحاجة المحقَّقة أو الموهومة، ولا تحقُّق للحاجة إلا عند سكان الأراضي الضيّقة الثمرات على أهلها، أو الأراضي المعرَّضة للقحط في بعض السنين، ويلتحق بالحاجة المحقَّقة حاجة العاجزين جسمًا عن الارتزاق في البلاد المبتلاة بجور الطبيعة أو جور الاستبداد، وربما يلتحق بها أيضًا الصرف على المضطرين وعلى المصارف العمومية في البلاد التي ينقصها الانتظام العام.
والمراد بالانتظام العام، معيشة الاشتراك العمومي التي أسسها الإنجيل بتخصيصه عشر الأموال للمساكين، ولكن؛ لم يكد يخرج ذلك من القوة إلى الفعل، ثمَّ أحدث الإسلام سُنَّة الاشتراك على أتمِّ نظام، ولكن؛ لم تدم أيضًا أكثر من قرنٍ واحد كان فيه المسلمون لا يجدون من يدفعون لهم الصدقات والكفّارات، وذلك أنَّ الإسلامية- كما سبق بيانه- أسست حكومة أرستقراطية المبنى، ديمقراطية الإدارة، فوضعت للبشر قانونًا مؤسسًا على قاعدة: إنَّ المال هو قيمة الأعمال، ولا يجتمع في يد الأغنياء إلا بأنواع من الغَلَبة والخداع.
فالعدالة المطلقة تقتضي أن يؤخذ قسمٌ من مال ويُردّ على الفقراء؛ بحيث يحصل التعديل ولا يموت النشاط للعمل. وهذه القاعدة يتمنّى ما هو من نوعها أغلب العالم المتمدن الإفرنجي، وتسعى وراءها الآن جمعيات منهم منتظمة مكوَّنة من ملايين كثيرة. وهذه الجمعيات تقصد حصول التساوي أو التقارب في الحقوق المعاشية بين البشر، وتسعى ضدَّ الاستبداد المالي، فتطلب أنْ تكون الأراضي والأملاك الثابتة وآلات المعامل الصناعية الكبيرة مشتركة الشيوع بين عامة الأمة، وأنَّ الأعمال والثمرات تكون موزعة بوجوهٍ متقاربة بين الجميع، وأنَّ الحكومة تضع قوانين لكافة الشئون حتى الجزئيات، وتقوم بتنفيذها.
وهذه الأصول مع بعض التعديل قررتها الإسلامية دينًا، وذلك أنها قررت:
أولًا- أنواع العشور والزكاة وتقسيمها على أنواع المصارف العامة وأنواع المحتاجين حتى المدينين. ولا يخفى على المدققين أنَّ جزءًا من أربعين من رءوس الأموال يقارب نصف الأرباح المعتدلة باعتبار أنها خمسة بالمائة سنويًا، وبهذا النظر يكون الأغنياء مضاربين للجماعة مناصفةً. وهكذا يلحق فقراء الأمة بأغنيائها، ويمنع تراكم الثروات المفرطة المولِّدة للاستبداد، والمضرَّة بأخلاق الأفراد.
ثانيًا- قررت أحكامٌ محكمة تمنع محذور التواكل في الارتزاق، وتُلزِم كلَّ فرد من الأمة متى اشتدَّ ساعده، أو ملك قوت يومه، أو النَّصّاب على الأكثر؛ أن يسعى لرزقه بنفسه، أو يموت الفرد جوعًا؛ إذا لم تكن حكومته مستبدّة تضرب على يده وسعيه ونشاطه بمدافع استبدادها، وقد قيل: يبدأ الانقياد للعمل عند نهاية الخوف من الحكومة ونهاية الاتِّكال على الغير.
ثالثًا- قررت الإسلامية ترك الأراضي الزراعية ملكًا لعامة الأمة، يستنبتها ويستمتع بخيراتها العاملون فيها بأنفسهم فقط، وليس عليهم غير العشر أو الخراج الذي لا يجوز أن يتجاوز الخمس لبيت المال.
رابعًا- جاءت الإسلامية بقواعد شرعية كليّة تصلح للإحاطة بأحكام كافة الشئون حتى الجزئية الشخصية، وأناطت تنفيذها بالحكومة، كما تطلبه أغلب جمعيات الاشتراكيين. على أنَّ هذا النظام الذي جاء به الإسلام، صعب الإجراء جدًا، لأنَّه منوط بسيطرة الكلّ ورضاء النفوس، ولأنَّ القانون الكثير الفروع يتعذَّر حفظه بسيطًا، ويكون معرَّضًا للتأويل حسب الأغراض، وللاختلاف في تطبيقه حسب الأهواء، كما وقع فعلًا في المسلمين، فلم يمكنهم إجراء شريعتهم ببساطة وأمان إلا عهدًا قليلًا، ثمَّ تشعَّبت معهم الأمور بطبيعة اتِّساع الملك واختلاف طبائع الأمم، وفَقَدَ الرجال الذين يمكنهم أن يسوقوا مئات ملايين من أجناس الناس: الأبيض والأصفر، والحضري والبدوي، بعصا واحدة قرونًا عديدة.
ولا غَرْوَ إذا كانت المعيشة الاشتراكية من أبدع ما يتصوَّره العقل، ولكن؛ مع الأسف لم يبلغ البشر بعد الترقّي ما يكفي لتوسيعهم نظام التعاون والتضامن في المعيشة العائلية إلى إدارة الأمم الكبيرة. وكم جرَّبت الأمم ذلك فلم تنجح فيها إلا الأمم الصغيرة مدة قليلة. والسبب كما تقدَّم هو مجرّد صعوبة التحليل والتركيب بين الصوالح والمصالح الكثيرة المختلفة. والمتأمِّل في عدم انتظام حالة العائلات الكبيرة، يقنع حالًا بأنَّ التكافل والتضامن غير ميسورين في الأمم الكبيرة؛ ولهذا يكون خير حلٍّ مقدور للمسألة الاجتماعية هو ما يأتي:
1- يكون الإنسان حرًّا مستقلًا في شئونه، كأنه خُلِق وحده.
2- تكون العائلة مستقلة، كأنها أمة وحدها.
3- تكون القرية أو المدينة مستقلة كأنها قارّة واحدة لا علاقة لها بغيرها.
4- تكون القبائل في الشعب أو الأقاليم في المملكة كأنها أفلاك؛ كلٌّ منها مستقلٌّ في ذاته، لا يربطها بمركز نظامها الاجتماعي؛ وهو الجنس أو الدين أو الملك غير محض التجاذب المانع من الوقوع في نظام آخر لا يلائم طبائع حياتها.
ثمَّ إنَّ التموُّل لأجل الحاجات السالفة الذِّكر وبقدرها فقط محمودة بثلاثة شروط، وإلاّ كان التموّل من أقبح الخصال:
الشرط الأول: أن يكون المال بوجه مشروع حلال؛ أي بإحرازه من بذل الطبيعة، أو بالمعاوضة، أي في مقابل عمل، أو في مقابل ضمان على ما تقوم بتفصيله الشرائع المدنية.
والشرط الثاني: أن لا يكون في التموّل تضييق على حاجيات الغير كاحتكار الضروريات، أو مزاحمة الصنّاع والعمال الضعفاء، أو التغلُّب على المباحات؛ مثل امتلاك الأراضي التي جعلها خالقها ممرحًا لكافة مخلوقاته، وهي أمهم ترضعهم لبن جهازاتها، وتغذّيهم بثمراتها، وتأويهم في حضن أجزائها، فجاء المستبدّون الظالمون الأولون ووضعوا أصولًا لحمايتها من أبنائها وحالوا بينهما. فهذه إيرلندة- مثلًا- قد حماها ألف مستبدّ مالي من الإنكليز، ليتمتعوا بثلثي أو ثلاثة أرباع ثمرات أتعاب عشرة ملايين من البشر الذين خُلِقوا من تربة إيرلندة. وهذه مصر وغيرها تقرب من ذلك حالًا وستفوقها مالًا، وكم من البشر في أوربا المتمدنة، وخصوصًا في لندرة وباريس، لا يجد أحدهم أرضًا ينام عليها متمددًا، بل ينامون في الطبقة السفلى من البيوت؛ حيث لا ينام البقر، وهم قاعدون صفوفًا يعتمدون بصدورهم على حبالٍ من مسد منصوبة أفقية يتلوون عليها يمنةً ويسرة.
وحكومة الصين المختلّة النظام في نظر المتمدنين، لا تجيز قوانينها أن يمتلك الشّخص الواحد أكثر من مقدار معين من الأرض لا يتجاوز العشرين كيلومترًا مربعًا؛ أي نحو خمسة أفدن مصرية أو ثلاثة عشر دونمًا عثمانيًا. وروسيا المستبدّة القاسية في عُرف أكثر الأوربيين وضعت- أخيرًا- لولايتها البولونية الغربية قانونًا أشبه بقانون الصين، وزادت عليه أنَّها منعت سماع دعوى دينٍ مسجّل على فلاح، ولا تأذن لفلاحٍ أن يستدين أكثر من نحو خمسمائة فرنك. وحكومات الشّرق إذا لم تستدرك الأمر فتضع قانونًا من قبيل قانون روسيا، تصبح الأراضي الزراعية بعد خمسين عامًا أو قرن على الأكثر كإيرلندة الإنكليزية المسكينة، التي وجدت لها في مدى ثلاثة قرون شخصًا واحدًا حاول أن يرحمها فلم يُفلح؛ وأعني به غلادستون، على أنَّ الشرق ربما لا يجد في ثلاثين قرنًا من يلتمس له الرَّحمة.
والشرط الثالث لجواز التمّول، هو: ألا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير، لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الإنسان، وهذا معنى الآية: {كلا إنَّ الإنسان ليطغى*أن رآه استغنى}، والشرائع السماوية كلُّها، وكذلك الحكمة الأخلاقية والعمرانية حرَّمت الربا؛ صيانةً لأخلاق المرابين من الفساد، لأنَّ الربا: هو كسب بدون مقابل مادي؛ ففيه معنى الغصب، وبدون عمل؛ لأنَّ المرابي يكسب وهو نائم؛ ففيه الأُلفة على البطالة، ومن دون تعرُّض لخسائر طبيعية كالتجارة والزراعة والأملاك؛ ففيه النماء المطلق المؤدي لانحصار الثروات. ومن القواعد الاقتصادية المتَّفق عليها أنْ ليس من كسب لا عار ولا احتكار فيه أربح من الربا مهما كان معتدلًا، وأنَّ بالربا تربو الثروات فيختلُّ التساوي أو التقارب بين النّاس.
وقد نظر المالّيون وبعض الاقتصاديين من أنصار الاستبداد في أمر الرِّبا، فقالوا: إنَّ المعتدل منه نافع، بل لابد منه. أولًا: لأجل قيام المعاملات الكبيرة، وثانيًا: لأجل أنَّ النقود الموجودة لا تكفي للتداول، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسمًا منها أيضًا؟! وثالثًا: لأجل أنَّ كثيرين من المتمولين لا يعرفون طرائق الاسترباح أو لا يقدرون عليها، كما أنَّ كثيرًا من العارفين بها لا يجدون رءوس أموال ولا شركاء عنان. فهذا النظر صحيح من وجه إنماء ثروات بعض الأفراد. أما السياسيون الاشتراكيو المبادئ والأخلاقيون، فينظرون إلى أنَّ ضرر الثروات الأفرادية في جمهور الأمم أكبر من نفعها. لأنها تمكِّن الاستبداد الداخلي، فتجعل الناس صنفين: عبيدًا وأسيادًا، وتقوّي الاستبداد الخارجي، فتسهِّل للأمم التي تغنى بغناء أفرادها التعدّي على حرية استقلال الأمم الضعيفة. وهذه مقاصد فاسدة في نظر الحكمة والعدالة؛ ولذلك يقتضي تحريم الرِّبا تحريمًا مغلَّظًا.
حِرْص التموُّل، وهو الطمع القبيح، يخفُّ كثيرًا عند أهالي الحكومات العادلة المنتظمة ما لم يكن فساد الأخلاق منغلبًا على الأهالي، كأكثر الأمم المتمدِّنة في عهدنا؛ لأنَّ فساد الأخلاق يزيد في الميل إلى التموُّل في نسبة الحاجة الإسرافية، ولكنَّ تحصيل الثروة الطائلة في عهد الحكومة العادلة عسيرٌ جدًا، وقد لا يتأتى إلا من طريق المراباة مع الأمم المنحطّة، أو التجارة الكبيرة التي فيها نوع احتكار، أو الاستعمار في البلاد البعيدة مع المخاطرات، على أنَّ هذه الصعوبة تكون مقرونة بلذّة عظيمة من نوع لذّة من يأكل ما طبخ، أو يسكن ما بنى.
وحِرْص التموّل القبيح يشتدُّ في رءوس الناس في عهد الحكومات المستبدِّة؛ حيث يسهل فيها تحصيل الثروة بالسرقة من بيت المال، وبالتعدّي على الحقوق العامة، وبغصب ما في أيدي الضعفاء، ورأس مال ذلك هو أنْ يترك الإنسان الدِّين والوجدان والحياء جانبًا وينحطَّ في أخلاقه إلى ملائمة المستبدّ الأعظم، أو أحد أعوانه وعماله، ويكفيه وسيلةً أن يتّصل بباب أحدهم ويتقرَّب من أعتابه، ويظهر له أنَّه في الأخلاق من أمثاله وعلى شاكلته، ويبرهن له ذلك بأشياء من التملُّق وشهادة الزور، وخدمة الشهوات، والتجسس، والدلالة على السّلب ونحو ذلك. ثمَّ قد يطلع هذا المنتسب على بعض الخفايا والأسرار التي يخاف رجال الاستبداد من ظهورها خوفًا حقيقيًا أو وهميًا، فيكسب المنتسب رسوخ القدم ويصير هو بابًا لغيره، وهكذا يحصل على الثروة الطائلة إذا ساعدته الظروف على الثّبات طويلًا. وهذا أعظم أبواب الثروة في الشرق والغرب، ويليه الاتِّجار بالدّين، ثمَّ الملاهي، ثمَّ الربا الفاحش، وهي بئس المكاسب وبئس ما تؤثِّر في إفساد أخلاق الأمم.
وقد ذكر المدققون أنَّ ثروة بعض الأفراد في الحكومات العادلة أضرّ كثيرًا منها في الحكومات المستبدَّة؛ لأنَّ الأغنياء في الأولى يصرفون قوّتهم المالية في إفساد أخلاق الناس وإخلال المساواة وإيجاد الاستبداد، أمّا الأغنياء في الحكومات المستبدّة فيصرفون ثروتهم في الأبَّهة والتعاظم إرهابًا للناس، وتعويضًا للسّفالة المنصبّة عليهم بالتغالي الباطل، ويسرفون الأموال في الفسق والفجور.
بناءً عليه؛ ثروة هؤلاء يتعجّلها الزوال؛ حيث يغصبها الأقوى منهم من الأضعف، وقد يسلبها المستبدُّ الأعظم في لحظةٍ وبكلمة. وتزول أيضًا- والحمد لله- قبل أن يتعلّم أصحابها أو ورثتهم كيف تُحفظ الثروات، وكيف تنمو، وكيف يستعبدون بها الناس استعبادًا أصوليًا مستحكمًا، كما هو الحال في أوربا المتمدنة المهدَّدة بشروط الفوضويين بسبب اليأس من مقاومة الاستبداد المالي فيها.
ومن طبائع الاستبداد أنَّه لا يظهر فيه أثرُ فقر الأمة ظهورًا بيانًا إلا فجأةً قُرَيب قضاء الاستبداد نحبه. وأسباب ذلك أنَّ الناس يقتصدون في النسل، وتكثر وفياتهم، ويكثر تغرّبهم، ويبيعون أملاكهم من الأجانب، فتتقلّص الثروة، وتكثر النقود بين الأيدي. وبئست من ثروة ونقود تشبه نشوة المذبوح.
ولنرجع إلى بحث طبيعة الاستبداد في مطلق المال فأقول: إنَّ الاستبداد يجعل المال في أيدي الناس عرضةً لسلب المستبدّ وأعوانه وعمّاله غصبًا، أو بحجةٍ باطلة، وعرضةً أيضًا لسلب المعتدين من اللصوص والمحتالين الراتعين في ظلِّ أمان الإدارة الاستبدادية. وحيث المال لا يُحصَل إلا بالمشقّة، فلا تختار النفوس الإقدام على المتاعب مع عدم المنِّ على الانتفاع بالثمرة.
حِفْظُ المال في عهد الإدارة المستبدّة أصعب من كسبه؛ لأنَّ ظهور أثره على صاحبه مجلبة لأنواع البلاء عليه، ولذلك يُضطر الناس زمن الاستبداد لإخفاء نعمة الله والتّظاهر بالفقر والفاقة، ولهذا ورد في أمثال الأُسراء أنَّ حفظ درهم من الذهب يحتاج إلى قنطار من العقل، وأنَّ العاقل من يخفي ذهبه وذهابه ومذهبه، وأنَّ أسعد الناس الصعلوك الذي لا يعرف الحكّام ولا يعرفونه.
ومن طبائع الاستبداد، أنَّ الأغنياء أعداؤه فكرًا وأوتاده عملًا، فهم ربائط المستبدِّ، يذلُّهم فيئنّون، ويستدرّهم فيحنّون، ولهذا يرسخ الذلُّ في الأمم التي يكثر أغنياؤها. أما الفقراء فيخافهم المستبدُّ خوف النعجة من الذئاب، ويتحبب إليهم ببعض الأعمال التي ظاهرها الرأفة، يقصد بذلك أن يغصب أيضًا قلوبهم التي لا يملكون غيرها. والفقراء كذلك يخافونه خوف دناءةٍ ونذالة، خوف البغاث من العقاب، فهم لا يجسرون على الافتكار فضلًا عن الإنكار، كأنهم يتوهَّمون أنَّ داخل رءوسهم جواسيس عليهم. وقد يبلغ فساد الأخلاق في الفقراء أن يسرّهم فعلًا رضاء المستبدِّ عنهم بأيِّ وجهٍ كان رضاؤه.
وقد خالف الأخلاقيون المتأخِّرون أسلافهم في قولهم، ليس الفقراء بعيب، فقالوا: الفقر أبو المعائب؛ لأنه مفتقرٌ للغير، والغناء استغناءٌ عن النّاس، ثمَّ قالوا: الفقر يذهب بعزّة النفس، ويفضي إلى خلع الحياء، وقالوا: إنَّ لحسن اللباس والأمتعة والتنعّم في المعيشة تأثيرًا مهمًا على نفوس البشر، خلافًا لمن يقول: ليس المرء بطيلسانه، وحديث (اخشوشنوا، فإن النعم لا تدوم) هو لأنّه يحمل على التعوّد جسمًا على المشاقّ في الحروب والأسفار وعند الحاجة. فقالوا: إنَّ رغد العيش ونعيمه لمن أعظم الحاجات، به تعلو الهمم، ولأجله تُقتَحم العظائم.
يُقال في مدح المال: إنَّ ما يحلُّ المشكلات الزمان والمال. القوة كانت للعصبية، ثمَّ صارت للعلم، ثمَّ صارت للمال. العلم والمال يُطيلان عمر الإنسان؛ حيث يجعلان شيخوخته كشبابه. لا يُصان الشّرف إلا بالدمّ، ولا يتأتى العزُّ إلا بالمال. وقد مضى مجد الرجال وجاء مجد المال. وورد في الأثر: إنَّ اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى. وأنَّ الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر. ولم يكن قديمًا أهمية للثروة العمومية، أما الآن وقد صارت المحاربات محض مغالبة وعلم ومال، فأصبح للثروة العمومية أهمية عظمى لأجل حفظ الاستقلال، على أنَّ الأمم المأسورة لا نصيب لها من الثروة العمومية، بل منزلتها في المجتمع الإنساني كأنعام تتناقلها الأيدي، ولا تعارض هذه القاعدة ثروة اليهود؛ لأنها ثروة غير مزاحمين عليها، لأنها فيما يقوله أعداؤه فيها: ثروة رأسمالها الناموس، ومصرفها الملاهي والمقامرة والربا والغشّ والمضاربات، ولا يخلو هذا القول من التحامل عليهم حسدًا ممن يقدمون إقدامهم ولا ينالون منالهم.
هذا وللمال الكثير آفات على الحياة الشريفة ترتعد منها فرائص أهل الفضيلة والكمال، الذين يفضلون الكفاف من الرِّزق مع حفظ الحرية والشرف على امتلاك دواعي الترف والسّرف، وينظرون إلى المال الزائد عن الحاجة الكمالية أنّه بلاء في بلاء في بلاء؛ أي أنّه بلاءٌ من حيث الافتكار بإنمائه، وأما المكتفي فيعيش مطمئنًا مستريحًا أمينًا بعض الأمن على دينه وشرفه وأخلاقه.
قرر الأخلاقيون أنَّ الإنسان لا يكون حرًا تمامًا ما لم تكن له صنعة مستقلٌّ فيها؛ أي غير مرءوس لأحد، لأن حريته الشخصية تكون تابعة لارتباطه بالرؤساء. وعليه تكون أقبح الوظائف هي وظائف الحكومة. وقالوا: إنَّ للصنعة تأثيرًا في الأخلاق والأميال، وهي من أصدق ما يُستَدلُّ به على أحوال الأفراد والأقوام. فالموظفون في الحكومة مثلًا يفقدون الشفقة والعواطف العالية تبعًا لصنعتهم التي من مقتضاها عدم الشعور بتبعة أعمالهم، وقال الحكماء: إنَّ العاجز يجمع المال بالتقتير، والكريم يجمعه بالكسب، وقالوا: إنَّ أقل كسب يرضى به العاقل ما يكفي معاشه باقتصاد، وقالوا: خير المال ما يكفي صاحبه ذلّ القلة وطغيان الكثرة. وهذا معنى الحديث (فاز المخففون) وحديث (اسألوا الله الكفاف من الرزق). ويُقال: الغنى غنى القلب، والغني من قلَّت حاجته، والغني من استغنى عن الناس. وقال بعض الحكماء: كلُّ إنسانٍ فقير بالطبع ينقصه مثل ما يملك، فمن يملك عشرة يرى نفسه محتاجًا لعشرة أخرى، ومن يملك ألفًا يرى نفسه محتاجًا لألفٍ أخرى. وهذا معنى الحديث: (لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب أحبَّ أن يكون له واديان).
ولا يقصد الأخلاقيون من التزهيد في المال التثبيط عن كسبه، إنما يقصدون أن لا يتجاوز كسبه بالطرائق الطبيعية الشريفة. أما السياسيون فلا يهمهم إلا أن تستغني الرعية بأي وسيلة كانت، والغربيون منهم يُعينون الأمة على الكسب ليشاركوها، والشرقيون لا يفتكرون في غير سلب الموجود، وهذه من جملة الفروق بين الاستبدادين الغربي والشرقي، التي منها أنَّ الاستبداد الغربي يكون أحكم وأرسخ وأشدّ وطأةً، ولكنْ؛ مع اللّين، والشرقي يكون مقلقلًا سريع الزوال، ولكنّه يكون مزعجًا. ومنها أنَّ الاستبداد الغربي إذا زال تبدّل بحكومة عادلة تُقيم ما ساعدت الظروف أن تقيم، أما الشرقي فيزول ويخلفه استبداد شرٌّ منه؛ لأنَّ من دأب الشرقيين أن لا يفتكروا في مستقبل قريب، كأنَّ أكبر همهم منصرف إلى ما بعد الموت فقط، أو أنهم مبتلون بقصر النظر.
وخلاصة القول: إنَّ الاستبداد داءٌ أشدُّ وطأةً من الوباء، أكثر هولًا من الحريق، أعظم تخريبًا من السّيل، أذلُّ للنفوس من السؤال. داءٌ إذا نزل بقومٍ سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي القضاء القضاء، والأرض تناجي ربّها بكشف البلاء. الاستبداد عهدٌ؛ أشقى الناس فيه العقلاء والأغنياء، وأسعدهم بمحياه الجهلاء والفقراء، بل أسعدهم أولئك الذين يتعجّلون الموت فيحسدهم الأحياء.