فصل: باب ما يصدق المستأمن فيه من أهل الحرب وما لا يصدق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **


  باب ما يصدق المستأمن فيه من أهل الحرب وما لا يصدق

وإذا انتهى عسكر المسلمين إلى مطمورة أو حصن فأقاموا عليها فناداهم قوم من أهلها أمنونا على أهلينا ومتاعنا على أن نفتحها لكم ففعلوا ذلك وفتحوها لهم فالقوم الذين سألوا ذلك آمنون وإن لم يذكروا أنفسهم بشيء لأن النون والألف أو النون في قوله‏:‏ أمنونا كناية لإضافة المتكلم ما يتكلم به إلى نفسه وكلمة على للشرط قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ

بِاللَّهِ شَيْئًا‏}‏ الممتحنة‏:‏ 12 وقال تعالى‏:‏ ‏{‏حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ‏}‏ الأعراف‏:‏ 05 أي بشرط ذلك فعرفنا أن تقرير كلامهم نحن آمنون مع أهلينا وأموالنا إن فتحناها لكم وقد أعطاهم المسلمون ذلك فإذا فتحوا كانوا آمنين فإذا خرج أهل المطمورة فقال الذين أومنوا‏:‏ هذا متاعنا لجيد المتاع وهؤلاء أهلونا لفرهة السبي فالقياس في هذا أنهم لا يصدقون إلا ببينة تقوم على ذلك من المسلمين العدول لأن حق المسلمين قد ثبت في جميع ما وجد في المطمورة لظهور سببه فهم يدعون المانع بعدما ظهر الاستحقاق بسببه فلا يصدقون على ذلك إلا بحجة ولا حجة على المسلمين إلا بشهادة العدول من المسلمين بمنزلة ما لو ادعى أحد المتبايعين شرط خيار لم يقبل ذلك منه إلا بحجة‏.‏

قال‏:‏ ولكن العمل بالقياس يتعذر في هذا الموضع فإنهم لا يجدون في المطمورة قبل فتح الباب عدولاً مسلمين ليشهدوهم على ما لهم من المتاع والأهل وكما يسقط اعتبار صفة الذكورة في الشهادة فيما لا يطلع عليه الرجال لأجل الضرورة يسقط اعتبار أصل الشهادة هنا لأجل الضرورة ويجب العمل فيه بالاستحسان فنقول‏:‏ إن صدقهم السبي الذين أدعوهم بما قالوا فهم مصدقون وهم آمنون معم لأنهم كانوا في المطمورة جملة‏.‏

فإذا تصادقوا على شيء فعلينا أن نأخذ بذلك لأنه لا طريق لنا إلى الوقوف على حقيقة ما كان بينهم فيبتنى الحكم على ما يظهر بتصادقهم وإن كذبوهم بما قالوا كانوا فيئاً لأنه عند التكذيب لم يثبت السبب الذي بني الأمان عليه ودعوى المستأمنين لا يكون مقبولاً على من كان معهم في المطمورة أنهم أهلونا إلا بحجة فإن مجرد خبرهم لا يصلح حجة في ذلك لأنهم عارضوهم بالتكذيب بخلاف الأول فالسبب هناك قد ثبت فيما بينهم بالتصادق وعليه بنينا الأمان فلهذا كانوا آمنين‏.‏

فإن كانوا حين كذبهم هؤلاء ادعوا غيرهم أنهم أهلونا لم يصدقوا على ذلك لأنه يتناقض كلامهم والمناقض لا قول له ولأنا إنما نقبل قولهم عند التصديق لنوع من الاستحسان وهو الذي سبق إلى فهم كل أحد أنهم لا يتجاسرون على التصادق على الباطل في مثل هذه الحالة وهذا المعنى ينعدم عند التناقض في الدعوى فكان جميع من في المطمورة فيئاً إلا المستأمنين ومن صدقهم في الابتداء أنه من أهليهم‏.‏

وإن ادعى بعض السبي رجلان منهم فقال كل واحد منهما‏:‏ هذا من أهلي فإن صدق المدعي به أحدهما فهو من أهله وكان آمناً وإن كذبهما جميعاً كان فيئاً لأن السبب الذي رتبنا عليه الأمان لم يثبت بينه وبين وبين واحد منهم‏.‏

وأهله امرأته وولده الذين كانوا في عياله من الصغار والكبار من النساء والرجال وفي القياس أهله‏:‏ زوجته فقط لأنه في العرف يقال لمن له زوجة متأهل ولمن لا زوجة له غير متأهل وإن كان يقوله جماعة ولكنه استحسن فقال‏:‏ اسم الأهل يتناول كل من يعوله الرجل في داره وينفق عليه ألا ترى في قوله تعالى‏:‏ في قصة نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي‏}‏ هود الآية 40 وقد استثنى الله الزوجة عن الأهل في قصة لوط عليه السلام قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ‏}‏ النحل‏:‏ 57 وفي قصة نوح‏:‏ ‏{‏قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ‏}‏ هود‏:‏ 45 يعني زوجته فعرفنا أن اسم الأهل يتناول غير الزوجة ويقال‏:‏ فلان كثير الأهل‏:‏ إذا كان ينفق على جماعة وهذا لأن بين الأهل والعيال مساواة في الاستعمال عرفاً فأما ابن له كبير هو معتزل عنه فليس من أهله وكذلك كل ابنة من بناته لها زوج وقد ضمها زوجها إليه فهي ليست من أهله لأنها ليست في نفقته والأهل من يكون في نفقته في داره سواء كان من قرابته أو لم يكن من قرابته‏.‏

فإذا تصادقوا على ذلك كانوا آمنين وأيهم ادعى ذلك وكذبه المستأمن أو ادعى المستأمن وكذبه المدعي فهو فيء فإن رجع المكذب منهما إلى تصديق صاحبه وقال أوهمت لم يلتفت إلى قوله لأنه مناقض في كلام ولأن حق المسلمين تقرر فيه بالتكذيب فلا يبطل بمجرد رجوعه إلى الصديق ولو قالوا‏:‏ أمنونا على أهل بيوتاتنا فالمسألة بحالها فأهل بيت كل واحد منهم قرابته من قبل أبيه الذين ينسبون إليه في بلادهم كما يكون في بلادنا أهل بيت أمير المؤمنين آل عباس وأهل بيت علي بن أبي طالب وأهل بيت طلحة والزبير لأنه ليس المراد بيت السكنى وإنما المراد بيت النسب والإنسان منسوب إلى قوم أبيه فعرفنا أن ذلك بيت نسبه وأن من يناسبه إلى أقصى أب يعرفون به فهم أهل بيته وإن كانوا في عياله لأنهم ينسبون إلى غير من ينسب هو إليه ألا ترى أن أولاد الخلفاء من الإماء يكونون من أهل بيت الخلافة يصلحون لها وكذلك لو قال‏:‏ آمنوني على آلي فالآل وأهل البيت في عرف الاستعمال سواء وكذلك لو قال‏:‏ آمنوني على جنسي لأن الإنسان من جنس قوم أبيه لا من جنس قوم أمه ألا ترى أن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من قريش وإن كانت أمه قبطية وكذلك إسماعيل كان من جنس قوم أبيه لا من جنس قوم أمه هاجر‏.‏

وإن قال‏:‏ آمنوني على ذوي قرابتي أو على أقربائي أو على أنسابي فهذا في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله على كل ذي رحم محرم وقد بينا هذا في الوصايا في الزيادات إلا أنه يقع الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الوصية في فصلين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن على قول أبي حنيفة رحمه الله استحقاق الوصية للأقرب فالأقرب وهاهنا يدخل في الأمان كل ذي رحم محرم الأقرب والأبعد فيه سواء لأن ذلك إيجاب بطريق الصلة والإنسان في الصلة يميز بني الأقرب والأبعد ويرتب الأبعد على الأقرب وهذا استنقاذ والإنسان عند اكتساب سبب الاستنقاذ لا يرتب الأبعد على الأقرب يوضحه‏:‏ أن في التسوية هناك إضراراً بالأقرب فإنه ينتقص حقه ولا يجوز الإضرار بالأقرب لمزاحمة الأبعد وهاهنا ليس في التسوية إضرار بالأقرب لأنه يثبت الأمان له سواء ثبت للأبعد معه أو لم يثبت‏.‏

والفصل الثاني‏:‏ أن في الوصية لذوي قرابته لا يدخل ولده ووالده وإن كانوا لا يرثونه لمعنى من المعاني وفي الأمان يدخل ولده ووالده استحساناً والقياس فيهما سواء لأن اسم القرابة إنما يتناول من يتقرب إلى الغير بواسطة فأما من يتصل به بغير واسطة فهو أقرب من أن ينسب إلى القرابة وأيد هذا أن الله سبحانه وتعالى عطف الأقربين على الوالدين فقال‏:‏ ‏{‏الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ‏}‏ البقرة‏:‏ 18 ولكنه استحسن وقال‏:‏ مقصوده من طلب الأمان لقرابته استنقاذهم للشفقة عليهم وشفقته على والده وولده أظهر من شفقته على سائر القرابات فلمعرفة المقصود أدخلناهم في الأمان ولأنا إنما لا ندخلهم في هذا الاسم لأنه يعد من الجفاء أن يقول الرجل لأبيه‏:‏ هو قريبي وفي فصل الأمان الجفاء في ترك استنقاذه أو طلب الأمان لغيره أظهر فلو أدخلناهم في الاسم هاهنا يؤدي إلى تحقيق معنى البر لا إلى الجفاء والعقوق فلهذا أدخلوا في الأمان قال ولو استأمنوا على متاعهم ثم ادعوا جيد المتاع فإن كان ذلك المتاع أخذ من يد بعض أهل المطمورة وسئل عن ذلك المأخوذ منه فإن صدقوهم فهم مصدقون وإن كذبوهم كان فيئاً لأنا عرفنا كون اليد في هذه الأمتعة له إلى أن أخذ منه ولصاحب اليد قول فيما في يده كما أن للمرء قولاً معتبراً في نفسه وقد بينا في الأصل أنه يرجع إلى تصديق المدعي فكذلك في المتاع يرجع إلى تصديق من كان في يده ولا يقال‏:‏ يده زائلة في الحال لأن سبب زوالها الأخذ على وجه الاغتنام وما ثبت في الأمان لا يكون محل الداخل بهذه الصفة وهذا المعنى في النفوس موجود أيضاً فقد صارت مأخوذة منهم بالاغتنام حكماً ومع ذلك اعتبر تصديقهم فيها باعتبار الأصل‏.‏

فإن ادعوا بعد هذا التكذيب متاعاً آخر لم يصدقوا على ذلك لأن في دعواهم الأولى بيان أنه ليس لهم في المطمورة سوى ما ادعوا من المتاع وطريق المفهوم الذي نعتبره في هذا الكتاب وكانوا متناقضين فيه يدعون بعد ذلك‏.‏

وإن كذبهم من كان المتاع في يده وقال‏:‏ هو متاعي ثم صدقهم بعد ذلك لم يلتفت إلى هذا التصديق للتناقض ولتقرر حكم الاغتنام فيه بالتكذيب فيكون المتاع فيئاً وإن وجدنا المتاع في أيدي المستأمنين فقالوا‏:‏ هو متاعنا الذي أمنتمونا عليه فالقول فيه قولهم لأن أصل اليد لهم وهي شاهدة لهم من حيث الظاهر فيبنى الحكم عليه ما لم يعلم خلافه وكل من جعل القول قوله فغن الإمام يستحلفه لأن أكثر ما فيه أنه أمين فيما يخبر فالقول قوله مع اليمين فإن تهمة الكذب شرعاً إنما تنتفي باليمين ولا يستحلفه إلا بالله لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ فمن كامن منكم حالفاً فليحلف بالله أو ليذر ‏"‏ إلا أنه يغلظ اليمين‏.‏

فإن كان نصرانياً استحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وإن كان يهودياً استحلفه بالله الذي أنزل التوراة على موسى لأن انزجاره عن اليمين الكاذب عند ذكر هذه الزيادة أظهر وهو المقصود بالاستحلاف هاهنا‏.‏

قال‏:‏ وإن كان مجوسياً استحلفه بالله الذي خلق النار لهذا المعنى أيضاً وقد قال كثير من مشايخنا‏:‏ لا يستحلف المجوس إلا بالله لأن ذكر هذه الزيادة معنى تعظيم النار والنار بمنزلة سائر المخلوقات من الجمادات بخلاف ما سبق فهناك فيما يزيد معنى تعظيم الكتابين والرسولين وذلك يستقيم‏.‏

فإن كانوا أمنوهم على أهليهم فقال قول المدعي لأنه استفاد الأمن بادعائه الأول فهو بالكلام الثاني يريد إبطال الأمان الثابت له وهو لا يصدق في ذلك لو لم يكن مناقضاً فكيف إذا كان مناقضاً ولو رجع المدعي دون المدعي كان المدعى فيئاً لأنه أقر على نفسه بالرق للمسلمين وبكونه من أهل المدعي لا يخرج من أن يكون مقبول الإقرار على نفسه إلا أن يكون المدعي ادعى أنه عبد أو أمة له وصدقه المدعى ثم قال بعد ذلك‏:‏ لست بمملوك لم يصدق وكان مملوكاً له لأن بتصديقه صار مملوكاً له فلا يبقى له قول معتبر في إبطال ملكه بعد ذلك ومملوكه من أهله فإنه يعوله وينفق عليه فيتناوله الأمان‏.‏

ولو قال المدعي‏:‏ ليس من أهلي وليس بمملوك لي وكذبه المدعى فهو فيء لأن المدعي أقر في ملكه بثبوت حق الغانمين وذلك إقرار منه على نفسه إلا أنه ليس للأمير أن يقتله لأنه صار آمناً من القتل بتصادقهما في الابتداء أنه مملوك له فبعد ذلك لو أبيح قتله إنما يباح بقول المدعي وقوله ليس بحجة على مملوكه في إباحة دمه‏.‏

وإن لم يكن مناقضاً كما لو أقر عليه بالقصاص فكيف إذا كان مناقضاً وإن تصادقا جميعاً أنه ليس بمملوك له فللأمير أن يقتله إن كان رجلاً إن شاء لأن بقول المدعي انتفى ملكه بإقرار المدعى وثبت أنه لم يتناول الأمان وهو غير منهم فيما يقر به على نفسه من إباحة دمه‏.‏

كما لو أقر على نفسه بالقصاص كان إقراره صحيحاً حراً كان أو مملوكاً ولو قال المدعي‏:‏ هو ابني في عيالي وصدقه المدعى وهو رجل فاتهمهما الأمير فإنه يحلف المدعي فإن حلف كان حراً وإن لم يحلف كان فيئاً لإقراره على نفسه بثبوت حق الغانمين فيه فإن النكول بمنزلة الإقرار ولكنه لا يقتل لأنه آمن من القتل بتصادقهما فلو جاز قتله بعد ذلك إنما يجوز بالنكول والنكول لا يصلح حجة لإباحة القتل بدليل المدعى عليه بالقصاص في النفس إذا نكل عن اليمين فإنه لا يقضى عليه بالقصاص فهذا مثله قال عيسى رحمه الله‏:‏ هذا غلط أن إباحة القتل هنا ليس باعتبار النكول بل باعتبار أصل الإباحة فإنه كان مباح الدم فبنكوله ينتفي المانع وهو الأمان فيكون هذا بمنزلة ما لو ادعى القاتل العفو على الولي وجحد الولي وحلف فإنه يستوفي القصاص ولا يكون هذا قتلاً باليمين ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لأن الإباحة التي كانت في الأصل قد ارتفعت بتصادقهما على أنه من أهل المدعي فلو جاز قتله بعد هذا كان ذلك بسبب نكوله وذلك لا يجوز لما في النكول من الشبهة والاحتمال فقد يكون للتورع عن اليمين الكاذبة وقد يكون للترفع عن اليمين الصادقة ولا يستحلف المدعى لأن المقصود من الاستحلاف لم يحصل لأنه لا قول له على ابنه فيما يرجع إلى استحقاق الرق وإباحة القتل والمقصود بالاستحلاف هذا‏.‏

وإن قال الذي استأمن على متاعه‏:‏ لمتاع هذا من متاعي وليس ذلك في يد أحد فإن كان قال هذا بعد ما صار في أيدي المسلمين لم يصدق على ذلك إلا ببينة عادلة من المسلمين وقوله لا يكون حجة في ذلك فلا بد من بينة عادلة من المسلمين‏.‏

وإن قال ذلك قبل أن يصل المتاع إلى أيدي المسلمين فالقول قوله مع يمينه لأن ما كان في المطمورة فيده إليه أقرب من يد المسلمين حين كان في المطمورة‏.‏

فكأنه كان في يده حين ادعى ذلك‏.‏

وإن كن في يده ويد المسلمين جميعاً فوصل ذلك إلى الأمير وهم متعلقون به فهو للمستأمن بعدما يحلف لأن يده كانت أقرب إليه باعتبار الأصل وقد علمنا أن يد المسلمين يد مستحدثة فيه فمع بقاء الأصل لا يعتبر يد المسلمين فيه ألا ترى أنا لو علمنا أنهم أخذوه من المستأمن كان القول فيه قول المستأمن فهذا أولى‏.‏

وكذلك إن وصل إلى الأمير وقوم من أهل المطمورة وقوم من المسلمين متعلقون به وأهل المطمورة يقرون أنه للمستأمن فالقول قولهم باعتبار أن اليد في الأصل كانت لهم فلا يعتبر يد المسلمين بتعلقهم به‏.‏

فأما إذا وصلوا إلى الأمير وهو في يد المسلمين خاصة فقد عرفنا زوال اليد التي كانت في الأصل ولا يدرى لمن كانت حقيقة للمدعي كان أو للمصدقين له أو لغيرهم‏.‏

فلا يعتبر ذلك وإنما يعتبر ما هو معلوم في الحال وهو في يد المسلمين فلا يجوز إزالتها إلا ببينة عدول من المسلمين‏.‏

فإن شهد قوم من المسلمين أن الذين في أيديهم ذلك أخذوه من المستأمنين أو أقر الذين ذلك في أيديهم أنهم أخذوه من المستأمنين أو أقروا أنهم أخذوه من قوم من أهل المطمورة وأقر أولئك أنه للمستأمنين أو شهد شهود أنهم أخذوه من هؤلاء الذين هم من أهل المطمورة وأقر أولئك أنه للمستأمنين فهو رد عليهم لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة والثابت بالإقرار في حق المقر كذلك والاستحقاق للمسلمين الآن باعتبار يد الأخذين في بيان جهة الوصول إلى أيديهم فلهذا وجب رده على المستأمنين ولو لم يقر الذين أخذ ذلك من أيديهم أنه للمستأمنين إلا بعدما أخذه المسلمون منهم فهذا وما لو أقروا به قبل الأخذ منهم سواء لأنا قد علمنا أن أصل اليد لهم وتلك اليد قائمة حكماً لما وجب اعتبار تصادقهم مع المستأمنين فكان إقرارهم بعد الأخذ منهم بمنزلة إقرارهم قبله فإن اقتسم المسلمون المتاع أو بيع المتاع ثم ادعى المستأمنون أن المتاع متاعهم لم يصدقوا على ذلك إلا ببينة تشهد أنه أخذ منهم أو من قوم كانوا مقرين بالملك لهم قبل القسمة لأن سبب الملك قديم لمن وقع في سهمه أو للمشتري والملك لا يستحق بمجرد الظاهر بل بالحجة التامة وإنما الظاهر حجة لدفع الاستحقاق وحاجة المستأمنين هنا إلى استحقاق الملك على الملاك فلا بد من بينة تشهد بما ذكرنا‏.‏

فإن أقر المسلمون الذين كانوا أخذوه أنهم أخذوه من أيدي المستأمنين أو من أيدي قوم يقرون أنه للمستأمنين لم يصدقوا على ذلك لأنهم لم يبق لهم في المتاع يد ولا ملك فهم كسائر المسلمين في هذا الإقرار‏.‏

إلا أن يقع شيء من ذلك في سهم الذي أقر فيصدق على نفسه ويؤخذ منه فيرد على المستأمنين لأن إقراره في ملك نفسه بمنزلة البينة في حقه أو أقوى‏.‏

ولكن لا يعوض لأن الاستحقاق كان بإقراره وإقراره ليس بحجة على سائر الغانمين فكان هو في حقهم متلفاً نصيب نفسه فلا يستحق التعويض من الغنيمة‏.‏

فأما السبي فهم مصدقون أنهم من أهل المستأمنين وإن وقعوا في أيدي المسلمين ما لم يقتسموا أو يباعوا سواء كانوا في دار الحرب أو قد أخرجوا منها لأن اعتبار يدهم وقولهم في أنفسهم لا يزول إلا بضرب الرق عليهم وذلك بالقسمة أو البيع دون الإحراز ألا ترى أن للإمام أن يقتلهم بعد الإحراز وليس له بعد ضرب الرق عليهم أن يقتلهم وكذلك له أن يمن عليهم فيجعلهم ذمة وإذا فعلوا ذلك كانوا أحرار الأصل فأما إذا اقتسموا أو بيعوا لم يصدقوا على ذلك لان الرق قد تقرر فيهم فلا قول لهم بعد ذلك ولا يد معتبرة في أنفسهم إلا أن يقوم لهم ببينة من المسلمين أنهم تصادقوا مع المستأمنين قبل القسمة والبيع أنهم من أهليهم فحينئذ لا سبيل عليهم لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وكذلك في المتاع إذا قامت البينة على أنهم تصادقوا على ذلك قبل الآخذ من أيديهم وكأنه جعل الأخذ من أيديهم في المتاع بمنزلة ضرب الرق عليهم بالقسمة والبيع في نفوسهم ولكن هذا إنما يستقيم في متاع لم يعلم أن أصل اليد فيه لمن كان وإذا ثبت الاستحقاق بالبينة بهذه الصفة فإن كان مشترياً رجع بالثمن وإن كان عازباً أصابه ذلك بالقسمة عوض قيمته من بيت مال المسلمين وإن كانت الغنائم كلها قسمت لأن نصيبه قد استحق فيستوجب الرجوع بعوضه على الغانمين والظاهر أنه يتعذر الرجوع عليهم لتفرقهم فتكون هذه نائبة من نوائب المسلمين ومال بيت المال معد لها ألا ترى أنه لو بقي من الغنيمة شيء يتعذر قسمته كجوهرة ونحوها يوضع ذلك في بيت المال فكذلك إذا ظهر درك يجعل ذلك في بيت المال لأن الغرم مقابل بالغنم وإن كان الذين شهدوا على هذا هم الذين اشتروا أو وقع المتاع في سهامهم صدقوا على أنفسهم لإقرارهم ولا يصدقون على بيت المال فلا يثبت لهم حق الرجوع بعوض ولا ثمن فيؤخذ ما في أيديهم فيرد على المستأمنين وتركوا يرجعون بذلك كله إلى دار الحرب إلا الكراع والسلاح والرقيق فإنهم قد احتبست في دارنا حتى نفد فيها القسمة والبيع وهذا الاحتباس لحق الشرع وحق جماعة المسلمين حتى لا يتقوى أهل الحرب بذلك عليهم فلا يصدق الملاك ففي إبطال حق المسلمين وصار هذا بمنزلة ما لو وهبوه للمستأمنين أو باعوه منهم فلا يمكنون من إدخاله دار الحرب بخلاف ما إذا ثبت بالبينة من المسلمين فإن البينة حجة على المسلمين‏.‏

ولو قال الذين أمنوا على أهليهم ومتاعهم‏:‏ جميع ما في المطمورة أهلونا وجميع ما فيها متاعنا ونحن بطارقتها وصدقهم بذلك من فيها فهم مصدقون لأن المعنى الذي لأجله وجب تصديقه إذا ادعوا بعض ما فيها وذلك المعنى موجود في الكل‏.‏

ولكن هذا إذا لم يعلم خلاف ذلك بأن كانوا قوماً معروفين بأنهم رءوس أهل المطمورة وأما إذا كان يعلم خلاف ذلك لا يصدقون لأن التصديق هنا باعتبار نوع من الظاهر ويسقط اعتبار ذلك إذ ظهر دليل الكذب‏.‏

قال‏:‏ ولا يدخل في المتاع نقد ولا تبر ولا حلي ولا جوهر لأن المتاع وإن كان اسماً لما يستمتع به في الحقيقة ولكن الذهب والفضة والحلي اختصت باسم آخر وهو العين أو الجوهر وذلك يمنع دخولها في مطلق اسم المتاع ولأن المتاع ما يكون مبتذلاً في الاستمتاع به على وجه يفنى بالاستمتاع وهذا لا يوجد في مثل هذه الأعيان لنفاستها‏.‏

ويدخل في المتاع ما سواها من الثياب والفرش والستور وجميع متاع البيت وفي القياس لا يدخل في ذلك الأواني لأن في عرف الاستعمال يعطف الأواني على الأمتعة والشيء لا يعطف على نفسه والعطف دليل على أن الأواني غير الأمتعة‏.‏

وفي الاستحسان الأواني التي ينتفع بها في البيوت تدخل في المتاع لأن المفهوم عند الناس من مطلق اسم المتاع ما يستمتع به في البيوت ويتأتى به السكنى والمقام في البيوت وهذا موجود في الأواني ولهذا لا يدخل السلاح والكراع والسروج في ذلك لأنه لا يستمتع بها في البيوت وإنما يستمتع بها عند الركوب أو الحرب وذلك ليس من السكنى في البيوت في شيء فلا يتناولها مطلق اسم المتاع كما لا يتناول النقود والمصاغ والجواهر‏.‏

وإن كانوا قالوا‏:‏ آمنونا على مالنا من شيء دخل جميع ذلك في كلامهم لأن اسم الشيء يعم كل موجود ولو قالوا‏:‏ أمنونا على مالنا أو على جميع ما لنا من مال دخل ذلك كله أيضاً لأن اسم المال يعم ذلك كله باعتبار أنه متمول منتفع به ألا ترى أنه لو أوصى بثلث ماله لرجل دخل جميع ذلك فكذلك في الأمان بل هذا نظير الوصية لأن الوصية أخت الميراث والإرث يثبت في كل مال فكذلك الوصية وهاهنا إعطاء الأمان على المال نظير اغتنام المال فكما أن الاغتنام يثبت في كل مال فكذلك حكم الأمان عند إعطائه بلفظ المال وإن قالوا للمسلمين‏:‏ أمنوا أهلينا فقالوا‏:‏ نعم قد أمناهم فهم فيء وأهلوهم آمنون لأنهم طلبوا الأمان لأهليهم ولم يذكروا أنفسهم بشيء صريحاً ولا كناية ولا دلالة فالإنسان لا يكون من أهل نفسه وإنما أهله غيره لأن المضاف غير المضاف إليه فإن الأمان إشفاقاً على أهليهم وشفقتهم على أنفسهم أظهر منه على أهليهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قصدوا بهذا استبقاء أهليهم وبقاؤهم بمن يعولهم وينفق عليهم وذلك أنفسهم قلنا‏:‏ نعم هم قصدوا هذا ولكن حرموا هذا المقصود حين خذلهم الله فلم يذكروا أنفسهم بشيء ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ثم بمجرد القصد لا يثبت لهم الأمان بل بإعطاء المسلمين إياهم الأمان أعطوا أهليهم فقالوا‏:‏ أمناهم ولم يقولوا أمناكم وقد حكي أن مثل هذه الحادثة وقع في زمن معاوية وكان الذي يسعى في طلب الأمان لجماعة قد آذى المسلمين فقال معاوية رضي الله عنه‏:‏ اللهم أغفله عن نفسه فطلب الأمان لقومه وأهله ولم يذكر نفسه بشيء فأخذ وقتل ثم الإنسان في مثل هذه الحالة قد يسعى في استنقاذ أهله من غير أن يقصد نفسه بذلك إما لانقطاع طمعه بأنه لا يؤمن إن طلب ذلك لنفسه أو لأنه ملَّ من نفسه لفرط الضجر فباعتبار المقصود الدليل مشترك وباعتبار اللفظ لا ذكر له ألا ترى أنهم لو قالوا‏:‏ نضع أيدينا في أيديكم على أن تؤمنوا أبناءنا ونساءنا ففعل المسلمون ذلك لم ندخلهم في الأمان فإن معنى كلامهم‏:‏ أن نضع أيديكم لتفعلوا بنا ما شئتم فكذلك ما سبق فإن قالوا‏:‏ نخرج إليكم على أن نراوضكم في الأمان على أهلينا فقالوا لهم‏:‏ اخرجوا فلما خرجوا أمنوا أهليهم فلا سبيل للمسلمين عليهم لا باعتبار أنهم أمنوا أهليهم بل باعتبار أنهم حين أمروهم أن يخرجوا للمراوضة على الأمان فهذا أمان منهم لهم ألا ترى أنه لو لم يتهيأ بينهم أمان في شيء كان عليهم أن يردوهم إلى مأمنهم ولا يتعرضوا لهم بشيء بخلاف الأول فهناك قالوا وهم في المطمورة‏:‏ أمنوا أهلينا فأمنا أهليهم ولم يتناولهم ذلك الكلام ثم خرجوا لا على طلب الأمان فهذا أمان منهم لهم ألا ترى أنه لو لم يتهيأ بينهم أمان في شيء كان عليهم أن يردوهم إلى مأمنهم ولا يتعرضوا لهم بشيء بخلاف الأول فهناك قالوا وهم في المطمورة‏:‏ أمنوا أهلينا فأمنا أهليهم ولم يتناولهم ذلك الكلام ثم خرجوا لا على طلب الأمان فكانوا فيئاً‏.‏

وإن قالوا‏:‏ أمنونا على ذرارينا فأمنوهم على ذلك فهم آمنون وأولادهم وأولاد أولادهم وإن سفلوا من أولاد الرجال لأن اسم الذرية يعم جميع ذلك فذرية المرء فرعه الذي هو مستولد منه وهو أصل لذريته ألا ترى أن الناس كلهم ذرية آدم ونوح صلوات الله عليهما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ‏}‏ مريم‏:‏ 58 قال‏:‏ ولا يدخل أولاد البنات من ذرية آبائهم لا من ذرية قوم الأم ألا ترى أن أولاد الخلفاء من الإماء من ذرية آبائهم كما قال المأمون‏:‏ لا عيب للمرء فيما أن يكون له أم من الروم أو سوداء عجماء فإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللأنساب آباء وذكر بعد هذا ما يدل على أنه يدخل أولاد البنات في ذلك ووجهته ما بينا أن الذرية اسم للفرع المتولد من الأصل والأب والأم أصلان للولد ثم الأم من ذرية أبيها فما يتولد منها يكون من ذريته أيضاً ومعنى الأصلية والتولد في جانب الأم أرجح لأن ماء الفحل يصير مستهلكاً بحضانتها في رحمها فإنما يكون الولد متولداً منها بواسطة ماء الفحل فإذا جعل النافلة من ذرية أب أبيه فكذلك يجعل من ذرية أب أمه وفيه حكاية يحيى بن يعمر فإن الحجاج أمر به ذات يوم فأدخل عليه وهم بقتله فقال له‏:‏ لتقرأن علي آية من كتاب الله تعالى نصاً على أن العلوية ذرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لأقتلنك ولا أريد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ‏}‏ آل عمران‏:‏ 61 فتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى‏}‏ الأنعام‏:‏ 84 85 ثم قال‏:‏ فعيسى من ذرية نوح من قبل الأب أو من قبل الأم فبهت الحجاج ورده بجميل وقال‏:‏ كأني سمعت هذه الآية الآن ولو قالوا‏:‏ أمنونا على أولادنا فهذا على أولادهم لأصلابهم وأولاد أولادهم من قبل الرجال وأما أولاد البنات فليسوا بأولادهم هكذا ذكر هاهنا وذكر الخصاف عن محمد رحمهما الله أنهم يدخلون في الأمان أيضاً لأن اسم الأولاد يتناولهم من الوجه الذي قلنا وأيد ذلك قوله عليه السلام حين أخذ الحسن والحسين‏:‏ ‏"‏ أولادنا أكبادنا ‏"‏ فأما على هذه الرواية يقول ذلك نوع من المجاز بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ‏}‏ الأحزاب‏:‏ 40 ومن كان ولدك حقيقة كنت أباً له حقيقة أو كان ذلك لأولاد فاطمة رضي الله عنها على الخصوص كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ كل الأولاد ينتمون إلى آبائهم إلا أولاد فاطمة فإنهم ينتسبون إلي أنا أبوهم ‏"‏ ولكن هذا حديث شاذ وهو مخالف للكتاب كما تلونا‏.‏

ولو استأمنوا على أولاد أولادهم دخل في ذلك أولاد البنات لأن اسم ولد الولد حقيقة لمن ولدته وهو ولده وابنة ولده فما ولد لابنته يكون ولد ولده حقيقة بخلاف الأول فقد ذكر هناك أولاده وهم في الحقيقة ولده هو ومن حيث الحكم من يكون منسوباً إليه بالولادة وذلك أولاد الابن دون أولاد البنات‏.‏

ولو قال‏:‏ أمنونا على موالينا ولهم موال وموالي موال فكلهم آمنون استحساناً وفي القياس لا يدخل موالي الموالي لأن الاسم لمواليه حقيقة ولموالي الموالي مجازاً ألا ترى أنه يستقيم نفسه عنهم فيقال‏:‏ هؤلاء ليسوا من مواليه ولهذا لا يدخلون في الوصية لمواليه حتى لا يزاحمون مواليه ولكنه استحسن فقال‏:‏ موالي الموالي ينسبون إليه بالولاء بواسطة الموالي فهم بمنزلة أولاد الأولاد مع الأولاد وفي الوصية يدخل موالي الموالي إذا لم يكن له موال إلا عند وجود الفريقين لو أثبتنا المزاحمة انتقض نصيب الموالي ولا يجوز إدخال النقصان على الأقرب بمزاحمة الأبعد وهذا لا يوجد في الأمان فسواء دخل موالي الموالي أو لم يدخلوا كان الأمان لمواليه بصفة واحدة والظاهر أن مقصوده استنقاذ الفريقين ثم لا نقول بالجمع بين الحقيقة والمجاز ولكن هذا الاسم للموالي حقيقة ولموالي الموالي أيضاً صورة ومجازاً فباعتبار هذه الصورة تتمكن شبهة في حقهم والأمان مبني على التوسع حيث يثبت بمجرد الإشارة صورة فلأن يثبت بهذا اللفظ أولى وبه فارق الوصية ولو قالوا‏:‏ أمنونا على إخواننا ولهم إخوة وأخوات فهم آمنون لاسم الأخوة عند الإطلاق للذكور والإناث قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء‏}‏ النساء‏:‏ 176 وفي الحقيقة هذه الصيغة للذكور إلا أن من مذهب العرب عند اختلاط الذكور بالإناث تغليب الذكور وإطلاق علامة الذكور على الكل والمستعمل بهذه الصيغة بمنزلة الحقيقة نقول‏:‏ فإن كان لهم أخوات ليس معهن واحد من الذكور لم يدخلن في الأمان لأن الإناث المفردات لا تتناولهن صيغة الذكور فإن قيل‏:‏ أليس أن الله سبحانه وتعالى قال‏:‏ ‏{‏فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ‏}‏ النساء‏:‏ 11 ثم الأخوات المنفردات يحجبن الأم من الثلث إلى السدس قلنا‏:‏ لا بهذه الآية بل باتفاق الصحابة واعتبار معنى الحجب وقد بينا ذلك في الفرائض ولكن اعتبار المعنى في النصوص الشرعية جائز فأما في ألفاظ العباد يراعى عين الملفوظ به من غير أن يستقل بتعليله واسم الإخوة لا يتناوله الإناث المفردات حقيقة ولا استعمالاً‏.‏

ولو قالوا‏:‏ أمنونا على أبنائنا ولهم بنون وبنات فهم آمنون جميعاً لما بينا في الإخوة ومن أصحابنا من يقول‏:‏ جوابه في الفصلين قولهما وقول أبي حنيفة الأول فأما قوله الآخر فيتناول الذكور خاصة بمنزلة الوصية لبني فلان وفلان أب أولاد أو لإخوة فلان ولكن الأصح أن هذا قولهم جميعاً لأنه يتوسع في باب الأمان ما لا يتوسع في باب الوصية فأبو حنيفة في الوصية اعتبر الحقيقة فقط فأما في الأمان فيعتبر الحقيقة وما يشبه الحقيقة بطريق الاستعمال فإن لم يكن فيهم ذكر وإنما بنات خاصة فهن فيء جميعاً لأن هذه الصيغة لا تتناول الإناث المفردات إلا إذا كان المضاف إليه أبا قبيلة وقد بينا هذا في الوصايا أنه إذا أوصى لبني فلان وفلان أبو قبيلة فالمراد بهذه النسبة إلى القبيلة والإناث المفردات في النسبة بهذا اللفظ كالذكور بخلاف ما إذا كان فلان أبا أولاد وقد قال بعض مشايخنا‏:‏ إذا تقدم منه كلام يستدل به على أنه أراد الأمان لهن بأن قال‏:‏ ليس لي إلا هؤلاء البنات أو الأخوات فأمنوني على بني أو على إخوتي فحينئذ يستدل بتلك المقدمة أن مراده الإناث فهن آمنات وإن قالوا‏:‏ أمنونا على أولادنا دخل في هذا الذكور والإناث المفردات أيضاً لأن الولاد حقيقة في الفريقين قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يُوصِيكُمُ اللّهُ

فِي أَوْلاَدِكُمْ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ‏}‏ النساء‏:‏ 11 فقد فسر الأولاد بالإناث المفردات‏.‏

وإن قالوا‏:‏ أمنونا على بناتنا وأخواننا فهذا على الإناث دون الذكور لأن صيغة الكلام للإناث خاصة فلا يدخل فيه الذكور حقيقة ولا استعمالاً ومن حيث المقصود قد يطلب الأمان للإناث خاصة لضعفهن ولعلمه أنه لا يجاب إلى الأمان لو طلبه للذكور بعدما اتصل منهم أذى بالمسلمين من حيث القتال‏:‏ وإن قالوا‏:‏ أمنونا على بنينا فإذا لكلهم بنات إلا لواحد منهم فإن له ابناً واحداً كان الأمان عليهم جميعاً لأنهم استأمنوا للكل بكلمة واحدة وتلك الكلمة تتناول الذكور والإناث عند الاختلاط وبالابن الواحد لأحدهم يتحقق الاختلاط‏.‏

وإن قالوا‏:‏ أمنونا كل واحد منا على بنيه والمسألة بحالها كان البنات كلهن فيئاً إلا أولاد الرجل الذي له الابن لأن كلمة كل توجب الإحاطة على سبيل الانفراد وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ‏}‏ آل عمران‏:‏ 185 وباعتبار انفراد اللفظ في حق كل واحد منهم لا يتناول هذا اللفظ إلا أولاد الجل الذي له الابن بخلاف الأول لأن الكلمة هناك للإحاطة على وجه الاجتماع والإخوة والأخوات في هذا بمنزلة البنين والبنات‏.‏

ولو قالوا‏:‏ أمنونا على أبنائنا ولهم آباء وأمهات فهم آمنون جميعاً لأن اسم الآباء يتناول الآباء والأمهات ألا ترى أنهما يسميان أبوين قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ‏}‏ النساء‏:‏ 11 وكذلك إن لم يكن الأب منهم إلا لإنسان واحد فالأمهات والأب الذي معهن آمنون لأن الاسم حقيقة للكل استعمالاً عند الاختلاط ولو قالوا‏:‏ أمنونا على أبنائنا ولهم أبناء وأبناء أبناء فالأمان على الفريقين جميعاً استحساناً وكان ينبغي في القياس أن يكون الأمان للأبناء خاصة لأن الاسم حقيقة للأبناء مجاز في حق أبناء الأبناء ولا يجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد ولهذا جعل أبو حنيفة الوصية للأبناء خاصة بهذا اللفظ إلا إذا لم يكن هناك أبناء فحينئذ يتناول أبناء الأبناء لأن الحقيقة لما تنحت وجب استعمال اللفظ بطريق المجاز ولكنه استحسن هاهنا فقال‏:‏ وإنما يطلب الأمان لمن يكون مضافاً إليه بالبنوة وباعتبار الصورة وهذا يوجد في أبناء الأبناء فيصير ذلك شبهة يثبت به الأمان لهم بخلاف الوصية فإنها لا تستحق بالصورة والشبهة ثم في إثبات المزاحمة هناك بين الحقيقة والمجاز إدخال النقص في نصيب الأبناء ولا يوجد مثل ذلك في الأمان وهذا نظير ما تقدم في قوله‏:‏ لذوي قرابتي لأن طلب الأمان بهذا اللفظ لإظهار الشفقة على ما ينسب إليه بالبنوة وربما يكون ذلك في حق أبناء الأبناء أظهر منه في حق الأبناء على ما قيل‏:‏ النافلة أحب إلى المرء من الولد ولو كان لبعضهم أبناء لصلبه ولبعضهم أبناء أبناء فهم آمنون جميعاً لما قلنا وإن قالوا‏:‏ أمنونا على آبائنا وليس لهم آباء ولهم أجداد فليس يدخل الأجداد في ذلك وهذا الفصل مشكل فإن اسم الأب لا يتناول الجد حقيقة حتى يجوز أن ينفي عنه بإثبات غيره فيقال‏:‏ إنه جد ولي بأب ولكن يتناوله مجازاً ألا ترى إلى ما روي عن ابن عباس أنه قال لرجل‏:‏ أي أب لك أكبر فلم يفهم الرجل ما قال فتلا ابن عباس قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي آدَمَ‏}‏ الأعراف‏:‏ 6 وقال‏:‏ أما علمت أن من كنت ابنه فهو أبوك فباعتبار هذا المجاز أو باعتبار الصورة ينبغي أن يثبت الأمان لهم كما ذكرنا في أبناء الأبناء ولكنه فرق بينها لمعنى آخر فقال‏:‏ المجاز تبع للحقيقة ويمكن تحقيق هذا في أبناء الأبناء فإنهم تفرعوا من الأبناء فكانوا تبعاً لهم ولا يأتي مثل ذلك في الأجداد فإنهم أصول الآباء مختصون باسم فيكف يتناولهم اسم الآباء على وجه الاتباع لفروعهم ألا ترى أنه لو قال‏:‏ أمنوني على أمي وليست له أم إنما له جدة أن الأمان لا يتناولها فإن قال قائل‏:‏ يتناولها باعتبار أن الجدة تسمى أماً قلنا‏:‏ قد سمى الله تعالى الخالة أماً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ‏}‏يوسف‏:‏ 105‏.‏

أي أباه وخالته وسمى العم أباً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ‏}‏ البقرة‏:‏ 133 وإسماعيل كان عماً ثم أحد لا يقول إن العم والخالة يدخلان في الأمان للآباء لأن كل واحد منهما مختص باسم الآخر به ينسب إليه فكذلك الجد والجدة بخلاف بني الابن فإنهم ينسبون إليه باسم النبوة ولكن بواسطة الابن فكان الأمان بهذا الاسم متناولاً لهم وهذا بيان لسان العرب فإن كل قوم في لسانهم الذي يتكلمون به أن الجد ولد كما أن ابن الابن ابن فهو داخل في الأمان وهكذا في لسان الفارسية فإنه يقال للجد‏:‏ بدر بدر كما يقال للحفيد‏:‏ يسر يسر والله سبحانه وتعالى الموفق‏.‏