فصل: باب من يحل له الخمس والصدقة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **


  باب الإسلام

ذكر عن الحسن رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله قال‏:‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل عبدة الأوثان وهم قوم لا يوحدون الله فمن قال منهم‏:‏ لا إله إلا الله كان ذلك دليلاً على إسلامه والحاصل أنه يحكم بإسلامه إذا أقر بخلاف ما كان معلوماً من اعتقاده لأنه لا طريق إلى الوقوف على حقيقة الاعتقاد لنا فنستدل بما نسمع من إقراره على اعتقاده فإذا أقر بخلاف ما هو معلوم من اعتقاده استدللنا به على أنه بدل اعتقاده وعبدة الأوثان كانوا يقرون بالله تعالى قال الله تعلى‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ الزخرف‏:‏ 78‏.‏

ولكن كانوا لا يقرون بالوحدانية قال الله تعلى ‏{‏إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ الصافات‏:‏ 35 وقال فيما أخبر عنهم ‏{‏أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ‏}‏ فمن قال منهم‏:‏ لا إله إلا الله فقد أقر بما هو مخالف لاعتقاده فلهذا جعل ذلك دليل إيمانه فقال‏:‏ ‏"‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله ‏"‏ وعلى هذا المانوية وكل من يدعي إلا هين إذا قال واحد منهم‏:‏ لا إله إلا الله فذلك دليل إسلامه فإما اليهود والنصارى فهم يقولون‏:‏ لا إله إلا الله فلا تكون هذه الكلمة دليل إسلامهم وهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يقرون برسالته فكان دليل الإسلام في حقهم الإقرار بأن محمداً رسول الله على ما روي عنه أنه دخل على جاره اليهودي يعوده فقال‏:‏ اشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فنظر الرجل إلى أبيه فقال له‏:‏ أجب أبا القاسم فشهد بذلك ومات فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الحمد لله الذي أعتق بي نسمة من النار ‏"‏ ثم قال لأصحابه‏:‏ ‏"‏ لو أخاكم ‏"‏ قال‏:‏ فأما اليوم ببلاد العراق فإنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولكنهم يزعمون أنه رسو ل إلى العرب لا إلى بني إسرائيل ويتمسكون بظاهر قوله تعلى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ‏}‏ الجمعة‏:‏ 3 فمن يقر منهم بأن محمداً رسول الله لا يكون مسلماً حتى يتبرأ من دينه مع ذلك أو يقر بأنه دخل في الإسلام حتى إذا قال اليهودي أو النصراني‏:‏ أنال مسلم أو أسلمت لا يحكم بإسلامه لأنهم لا يدعون ذلك فإن المسلم هو المستسلم للحق المنقاد له وهم يزعمون أن الحق ما هم عليه فلا يكون مطلق هذا اللفظ في حقهم دليل الإسلام حتى يتبرأ من دينه مع ذلك‏.‏

كذلك لو قال‏:‏ برئت من اليهودية ولم يقل مع ذلك‏:‏ دخلت في الإسلام فإنه لا يحكم بإسلامه لأنه يحتمل أن يكون تبرأ من اليهودية ودخل في النصرانية فإن قال مع ذلك ودخلت في الإسلام فحينئذ يزول هذا الاحتمال وقال بعض مشايخنا‏:‏ إذا قال‏:‏ دخلت في الإسلام يحكم بإسلامه وإن لم يتبرأ مما كان عليه لأن في لفظه ما يدل على دخول حادث منه في الإسلام وذلك غير ما كان عليه فتضمن هذا اللفظ التبري مما كان عليه ولو قال المجوسي‏:‏ أسلمت أو أنا مسلم يحكم بإسلامه لأنهم لا يدعون هذا الوصف لأنفسهم ويعدونه شتيمة بينهم يشتم الواحد منهم به ولده فيكون ذلك دليل الإسلام في حقه‏.‏

وذكر عن الحسن أن رجلاً سأله فقال‏:‏ يا أبا سعيد قدمت سفينة من الهند فاشتريت منها علجة مسبية فجئت بها إلى منزلي فماتت أفأنبذها أم أغسلها وأصلي عليها فقال‏:‏ سبحان الله لا بل اغسلها ثم كفنها ثم صلي عليها فإنها دخلت في الإسلام وتأويله في الصغيرة فإنها إذا سببت وليس معها واحد من أبويها فإنه يحكم بإسلامها تبعاً لدار الإٍسلام إذا دخلت فيها فأما الكبيرة التي قد عقلت الكفر فلا يحكم بإسلامها فلا يصلى عليها إذا ماتت قبل أن تضف الإسلام لأن الصلاة على الميت من حق المسلم على المسلم لأجل إيمانه ولكن يصنع بها ما سوى الصلاة من الغسل والتكفين والدفن فإن ذلك سنة الموتى من بني آدم‏.‏

ألا ترى إلى ما روي أن علياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات أبو طالب فقال‏:‏ إن عمك الضال قد توفي فقال‏:‏ اذهب فاغسله وكفنه وواره‏.‏

وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال له‏:‏ ماتت أمي وهي نصرانية أأتبع جنازتها قال‏:‏ اتبع جنازتها وادفنها ولا تصل عليها وبه نقول‏:‏ إذا لم يكن لها ولد كافر يقوم بدفنا فإنه ينبغي للولد المسلم أن يقوم بذلك ولا يتركها جزراً للسباع فقد أمر بالإحسان إلى والديه وإن كانا مشركين وبالمصاحبة معهما بالمعروف لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا‏}‏ لقمان‏:‏ 15 وليس من الإحسان والمعروف أن يتركهما بعد الموت جزراً للسباع فأما إذا كان عناك من يقوم بذلك من أقاربهما المشركين فالأولى للمسلم أن يدع ذلك لهم ولكن يتبع الجنازة إن شاء على ما روي أن الحارث بن أبي ربيعة ماتت أمه نصرانية فتبع جنازتها في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه إذا كان مع الجنازة قوم من أهل دينها فينبغي للمسلم أن يمشي ناحية منهم ولا يخالطهم فيكون مكثراً سواد المشركين أو يمشي أمام الجنازة ليكون معتزلاً عنهم وذكر عن إبراهيم رحمه الله في السبي إذا أقر بالإسلام وأسلم ثم مات قبل أن يصلي قال‏:‏ يصلي عليه وبه نقول فإنه قبل أن يصلي تم إسلامه لأن الصلاة من شرائع الإسلام لا من نفس الإسلام وعن سلمة قال‏:‏ سألت الشعبي عن السبي متى يصلى عليه قال‏:‏ إذا صلى فصلوا عليه وتأويل هذا فيما إذا لم يسمع منه الإقرار بالإسلام ولكنه صلى مع المسلمين بالجماعة فإن ذلك يوجب الحكم بإسلامه عندنا لأن المشركين لا يصلون بالجماعة على هيئة جماعة المسلمين وإظهار ما يختص به المسلمون فعلاً يكون بمنزلة إظهار ما يختص به المسلمون قولاً فيصير به مسلماً حتى إذا رجع عن الإسلام ضربت عنقه إن كان رجلاً وأما إذا صلى وحده لم يحكم بإسلامه إلا في رواية رواها داود بن رشيد عن محمد أنه إذا صلى إلى قبلة المسلمين يحكم بإسلامه لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله ما لنا وعليه ما علينا فأما إذا صام أو أدى الزكاة أوحج لم يحكم بإسلامه في ظاهر الرواية وفي رواية داود بن رشيد عن محمد قال‏:‏ إذا حج البيت على الوجه الذي يفعله المسلمون يحكم بإسلامه لأنه ظهر منه فعل ما يختص به المسلمون فيجعل ذلك دليلاً على إسلامه والله أعلم‏.‏

  باب الجهاد مع الأمراء

ذكر عن مكحول رحمه الله أنه قال في مرضه الذي مات فيه‏:‏ حديث كنت أكتمكموه لو لا ما حضرني من أمر الله ما حدثتكم به أي لولا ما أخاف من وعيد كتمان العلم على ما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من كتم علماً عنده ألجم يوم القيامة بلجام من نار ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ

وَلاَ تَكْتُمُونَهُ‏}‏ آل عمران‏:‏ 187‏.‏

ثم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تكفروا أهل ملتكم وإن عملوا الكبائر الصلاة مع كل إمام الصلاة على كل ميت الجهاد مع كل أمير ‏"‏ وهو دليل لأهل السنة على أن مرتكب الكبائر لا يكفر بارتكابه الكبائر ولا يخرج من الإيمان قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ النور‏:‏ 31‏.‏

ولا شك أن مرتكب الكبائر داخل في جملة من دعاهم الله إلى التوبة في هذه الآية وقد سماهم مؤمنين وهو دليلنا على مالك في جواز الاقتداء بالفاسق فإن قوله‏:‏ ‏"‏ مع كل إمام ‏"‏ أي فاسقاً كان أو عدلا كما قال في حديث آخر‏:‏ ‏"‏ صلوا خلف كل بر وفاجر ‏"‏ وكذلك الصلاة على كل ميت أي فاسقاً كان أو عدلاً بعد أن يكون مؤمناً غير باغ وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏ الجهاد مع كل أمير ‏"‏‏.‏

أي عادلاً كان أو جائراً فلا ينبغي للغازي أن يمتنع من الجهاد معه ويجور الأمير لا ينقطع طمع الغزاة في النصرة جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعاً ‏"‏ إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفار ‏"‏‏.‏

قال مكحول‏:‏ وخصلتان من رأيي لم أسمع فيهما من رسول الله شيئاً‏:‏ علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان لا تذكروهما إلا بخير ‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ البقرة‏:‏ 134 والحديث في الكف عن الصحابة إلا بخير مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً فمن أحبهم فقد أحبني ومن آذاهم فقد آذاني وخص مكحول الختنين بالذكر لأنه كان يسمع من بعض أهل الشام فيهما ما يكرهه فلهذا خصهما بالذكر في وصيته ثم سمى علياً أولاً وهكذا فيما رواه نوح بن أبي مريم عن أبي حنيفة رضي الله عنه فإنه قال‏:‏ سألته عن مذهب أهل السنة فقال‏:‏ أن تفضل أبا بكر وعمر وتحب علياً وعثمان وترى المسح على الخفين ولا تكفر أحداً من أهل القبلة وتؤمن بالقدر ولا تنطق في الله بشيء ومن الناس من يقول‏:‏ قبل الخلافة كان علي مقدما على عثمان وبعد الخلافة عثمان أفضل من علي فأما المذهب عندنا‏:‏ أن عثمان أفضل من علي رضوان الله عليهما قبل الخلافة وبعدها كما روى جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ أبو بكر خليفتي بعدي في أمتي وعمر حبيبي وعثمان مني وعلي أخي وصاحب لوائي فنفضلهم على الترتيب الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد أبو حنيفة رضي الله عنه بما ذكر تقديم علي على عثمان ولكن مراده أن محبتهما من مذهب أهل السنة فالواو عنده لا يوجب الترتيب وإنما ذكر مكحول علياً رضي الله عنه أولاً لأنه كان إمام أهل الشام وأهل الشام في ذلك الوقت كان يقع بعضهم في علي رضي الله عنه فلهذا قدمه في الذكر حتى يزجرهم عن ذلك‏.‏

وعن مجاهد قال‏:‏ قلت لابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ ما تقول في الغزو فقد صنع الأمراء ما قد رأيت قال‏:‏ أرى أن تغزو فإنه ليس عليك مما أحدثوا شيء يعني‏:‏ ما أحدثوا مما تكرهه وقد روي أنه لما ولي يزيد بن معاوية قال ابن عمر‏:‏ إن يكن خيراً شكرنا وإن يكن بلاء صبرنا ثم قرأ قوله تعالى ‏{‏فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ‏}‏ النور‏:‏54 وعن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم قالوا‏:‏ إذا عدل السلطان فعلى الرعية الشكر وللسلطان الأجر وإذا جار فعلى الرعية الصبر وعلى السلطان الوزر فهذا كله لبيان أنه لا ينبغي أن يترك الجهاد بما يصنعه الأمراء من الجور والغلول‏.‏

قال فإذا أردت ذلك فاجعل طريقك علي فمررت بالمدينة فقال‏:‏ إني أحب أن أعينك في وجهك هذا بطائفة من مالي قلت‏:‏ إذا لا أقبل إني رجل قد وسع الله علي قال‏:‏ إن غناك لك إني أحب أن تكون طائفة أن لا أقضيكم ثم كتب إلى قيم له بالشام أن يدفع إلي دنانير قد سماها أستعين بها على وجهي وفيه دليل على أنه لا ينبغي للغازي وإن كان غنياً أن يمتنع من قبول المال إذا علم أن المعطي يعطيه من حلال على وجه الرغبة في الجهاد بالمال لأن الامتناع عن قبول ذلك في صورة المنع مما هو طاعة وذلك لا يحل قال‏:‏ فانطلقت فلم أزل مرابطاً في جزيرة من البحر سنين ثم بدا لبعض أمراء المؤمنين أن يخرب تلك الجزيرة ويخرج أهلها منها فوالله لكأنما جيء بي سبياً حيث رجعت إلى أهلي وإنما شق عليه ذلك لأنه انقطع عن ثواب المرابطين حين رجع إلى أهله وهكذا ينبغي أن يكون تأسف المؤمن على ما ينقطع عنه من الثواب‏.‏

ثم استدل على أنه لا يترك الجهاد بجور الأمراء بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر عصابة من أمتي الدجال لا يصده جور جائر ولا عدل عادل ‏"‏ ولحديث سليمان بن قيس حيث قال‏:‏ لجابر أرأيت إن كان علي إمام جائر أأقاتل معه أهل الضلالة والشرك قال‏:‏ نعم ‏{‏عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا‏}‏ النور‏:‏ 54 ولحديث أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أصل الإسلام ثلاثة‏:‏ الكف عمن قال‏:‏ لا إله إلا الله أن تكفروه بذنب ولا تخرجوه من الإسلام بعمل والجهاد ماض منذ بعثني الله حتى يقاتل آخر عصابة من أمتي الدجال والإيمان بالأقدار كلها ‏"‏ يعني‏:‏ ما ذكره في الحديث المشهور حين سأله جبريل عليه السلام‏:‏ ما الإيمان إلى أن قال‏:‏ والقدر خيره وشره من الله وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ومع كل واحد منهما فئام من الناس فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليهما السلام ثم قيل‏:‏ يا رسول الله إنهما تكلما في القدر فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ الحسنات من الله والسيئات منا وقال عمر‏:‏ الحسنات والسيئات كلها من الله تعالى فاتبع من الناس أبا بكر وطائفة عمر فقال والسيئات كلها من الله تعالى فاتبع طائفة من الناس أبا بكر وطائفة عمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ سأقضي بينكما بما قضى به إسرافيل بين جبرائيل وميكائيل فإن جبرائيل قال‏:‏ مثل ما قلت يا عمر وميكائيل قال مثل ما قلت يا أبا بكر ثم قالا‏:‏ إنا إذا اختلفنا اختلف أهل السماء وإذا اختلف أهل أسماء اختلف أهل الأرض فلنتحاكم إلى إسرافيل فقضى بينهما بأن القدر خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما يا أبا بكر لو شاء الله أن لا يعصى ما خلق إبليس فهذا هو الأصل لأهل السنة في الإيمان بالقدر ولا يظن بميكائيل وأبي بكر بما نفيا تقدير الشر من الله إلا خيراً لأن طالب الصواب قبل أن يستقر رأيه جاهد في الله حق جهاده‏.‏

  باب من يحل له الخمس والصدقة

وذكر عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة‏:‏ الغازي في سبيل الله أو العامل عليها أو الغارم أو رجل اشتراها بماله أو رجل له جار مسكين تصدق على هذا المسكين فأهدى إلى الغني وأخذ أهل المدينة بظاهر الحديث وقالوا‏:‏ تحل الصدقة للغازي وإن كن غنياً وللغارم إذا كان غرمه لإصلاح ذات البين وإن كان غنياً ولكن تأويل الحديث عندنا‏:‏ إذا كان الغازي غنياً في أهله وليس بيده مال حيث هو فحينئذ لا بأس له أن يأخذ من الصدقة ما يتقوى به وكذلك الغارم إذا كان ماله غائباً عنه أوديناً على ظهور الرجال لا يقدر على أخذه فهما حينئذ بمنزلة ابن السبيل فأما من يكون ماله بحضرته وذلك فوق ما عليه من الدين بقدر نصاب لا يحل له أخذ الصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تحل الصدقة لغني ‏"‏ وأما العامل فما يأخذه عمالة وليس بصدقة في حقه فغناه لا يمنعه من أخذه والمشتري من الفقير إنما يأخذه مبيعاً عوضاً عن ماله‏.‏

والذي أهدى إليه المسكين إنما يأخذه هديه لا صدقة على ما قال صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة رضي الله عنهما‏:‏ ‏"‏ هي لها صدقة ولنا هدية ‏"‏‏.‏

وذكر عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رجلاً سأله عن التهلكة أهو الرجل إذا ما التقى الجمعان حمل فقاتل حتى يقتل فقال‏:‏ لا ولكنه الرجل يذنب ثم لا يتوب وهو المراد بمعنى قوله تعالى ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ البقرة‏:‏ 195 فوقع عند السائل أن من حمل على جماعة من الأعداء يكون ملقياً نفسه في التهلكة فبين له البراء بن عازب ن الملقي نفسه في التهلكة من يذنب ثم لا يتوب فإنه يصير مرتهناً بصنيعه فأما من حمل على العدو فهو يسعى في إعزاز الدين ويتعرض للشهادة التي يستفيد بها الحياة الأبدية كيف يكون ملقياً نفسه في التهلكة ثم بين المذهب فقال‏:‏ لا بأس بأن يحمل الرجل وحده وإن ظن أنه يقتل إذا كان يرى أنه يصنع شيئاً يقتل أو يجرح أو يهزم فقد فعل ذلك جماعة من الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومدحهم على ذلك وقيل لأبي هريرة‏:‏ ألم تر أن سعد بن هشام لما التقى الصفان حمل فقاتل حتى قتل وألقى بيده إلى التهلكة فقال‏:‏ كلا ولكنه تأول آية من كتاب الله وهو قوله تعالى‏{‏ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ‏}‏ البقرة‏:‏ 207 فأما إذا كان يعلم أنه لا ينكي فيهم فإنه لا يحل له أن يحمل عليهم لأنه لا يحصل بحملته شيء مما يرجع إلى إعزاز الدين ولكنه يقتل فقط وقد قال الله تعالى ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ النساء‏:‏ 29 وهذا بخلاف ما إذا أراد أن ينهى قوماً من فساق المسلمين عن منكر وهو يعلم أنهم لا يمتنعون بنهيه وأنهم يقتلونه فإنه لا بأس له بالإقدام على ذلك وهو العزيمة وإن كان يجوز له أن يترخص بالسكوت لأن القوم هناك يعتقدون ما يأمرهم به فلا بد من أن يكون فعله مؤثراً في باطنهم فإما الكفار غير معتقدين لما يدعوهم إليه فالشرط أن تكون حملته بحيث تنكي فيهم ظاهراً فإذا كان لا ينكي لا يكون مفيداً فيما هو المقصود فلا يسعه الإقدام عليه والله الموفق‏.‏

  باب ما يجب من طاعة الوالي وما لا يجب

قال‏:‏ وإذا دخل العسكر دار الحرب للقتال بتوفيق الله عز وجل فأمرهم أميرهم بشيء من أمر الحرب فإن كان فيما أمرهم به منفعة لهم فعليهم أن يطيعوه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ‏}‏ النساء‏:‏ 59 والمراد الأمراء عند بعض المفسرين والعلماء عند بعضهم وإنما تجب طاعة العلماء فيما يأمرون به لأنهم يأمرونهم بما فيه منفعة للناس في أمر دينهم وكذلك إن أمروهم بشيء لا يدرون أينتفعون به أم لا فعليهم أن يطيعوه لأن فريضة الطاعة ثابتة بنص مقطوع به وما تردد لهم من الرأي في أن ما أمر به منتفع أو غير منتفع به لا يصلح معارضاً للنص المقطوع‏.‏

وقد تكون طاعة الأمير في الكف عن القتال خيراً من كثير من القتال وقد يكون الظاهر الذي يعتمده الجند يدلهم على شيء والأمر في الحقيقة بخلاف ذلك عند الأمير ولا يرى الصواب في أن يطلع على ما هو الحقيقة عامة الجند فلهذا كان عليهم الطاعة ما لم يأمرهم بأمر يخافون فيه الهلكة وعلى ذلك أكثر رأي جماعتهم لا يشكون في ذلك فإذا كن هكذا فلا طاعة له عليهم لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وفي حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية وأمر عليهم أميراً فغضب عليهم أميرهم فأجج ناراً وقال‏:‏ قد أمرتم بطاعتي فاقتحموها فمنهم من قال‏:‏ ندخلها ومنهم من قال‏:‏ لا ندخلها فإنا أسلمنا فراراً من النار فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه بذلك فقال‏:‏ ‏"‏ لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً إنما الطاعة في المعروف لا في المنكر ‏"‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏"‏ ما خرجوا منها ‏"‏ أي‏:‏ ينقلون منها إلى نار جهنم ثم أكبر الرأي فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته بمنزلة الحقيقة‏.‏

فإذا كن عندهم أنهم لو أطاعوه هلكوا كن أمره إياهم بذلك قصداً منه إهلاكهم واستخفافاً بهم وقد ذم الله تعلى الطاعة في ذلك فقال‏:‏ ‏{‏فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ‏}‏ الزخرف‏:‏ 54 وإن كان الناس في ذلك الأمر مختلفين فمنهم من يقول فيه الهلكة و منهم من يقول فيه النجاة فليطيعوا الأمير في ذلك لأن الاجتهاد لا يعارض النص ولأن الامتناع من الطاعة فتح لسان اللائمة عليهم وفي إظهار الطاعة قطع ذلك عنهم فعليهم أن يطيعوه‏.‏

إلا أن يأمرهم بأمر ظاهر لا يكاد يخفى على أحد أنه هلكة أو أمرهم بمعصية فحينئذ لا طاعة عليهم في ذلك ولكن ينبغي أن يصبروا ولا يخرجوا على أميرهم لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من أتاه من أميره ما يكرهه فليصبر فإن من خالف المسلمين قيد شبر ثم مات ما ت ميتة الجاهلية‏.‏

واستدل بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة بعث خالداً إلى بني جذيمة فقاتلهم بعد ما سمع الأذان منهم وبعد ما وضعوا السلاح فأمر بهم فأسروا ثم قال‏:‏ ليقتل كل رجل منكم أسيره فأما بنو سليم ففعلوا ذلك وأما المهاجرون والأنصار فخلوا أسراهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ثلاث مرات ثم أرسل علياً رضي الله عنه فودى لهم ما أصابه خالد من قليل أو كثير وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار على ما صنعوا من تخلية سبيل الأسرى فعرفنا أنه لا طاعة للأمير على جنده فيما هو معصية ولا فيما كان وجه الخطأ فيه بيناً فإما فيما سوى ذلك فينبغي لهم أن يطيعوه لئلا يفشلوا ولا يتنازعوا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ‏}‏ الأنفال‏:‏ 46‏.‏

قال‏:‏ وينبغي أن يؤمر على الجند العاقل الفاضل العالم بالحرب الرفيق وقد بينا هذا فيما تقدم نقول‏:‏ من يكون هكذا فهو موضع للإمارة عربياً كان أو مولى أو غيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اسمعوا وأطيعوا ول أمر عليكم عبد حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله عزوجل وفيه بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ عليكم بالسمع والطاعة لكل من يؤمر عليكم ما لم يأمركم بالمنكر ففي المنكر لا سمع ولا طاعة‏.‏

قال‏:‏ وإذا نادى الأمير أن يكون فلان وجنده في الميمنة وفلان وجنده في المقدمة وفلان وجنده في الميسرة وفلان وجنده في الساقة فلا ينبغي لأحد أن يترك الموضع الذي أمره بالكون فيه لأن هذا من التدبير الحسن في أمر الحرب فإنما تظهر فائدته بالطاعة‏.‏

فإن عصاه عاص فليتقدم إليه الأمير يعني‏:‏ لا ينبغي له أن يعاقبه في المرة الأولى لأن هذه عثرة منه وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ولكن يتقدم إليه وإلى الجند جميعاً أنه يؤدب من خالف أمره بعد ذلك فيكون ذلك إنذاراً منه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ قد أعذر من أنذر وبيان هذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ‏}‏ ق‏:‏ 28 فإن عصاه عاص بعد ذلك من غير عذر فما أحسن أدبه في ذلك ليكون ذلك فطاماً له وزجراً لغيره عن إساءة الأدب لمخالفة أمره فإن امتناع الناس مما لا يحل لمخافة العقوبة أكثر من امتناعهم خوفاً من الله تعالى وبه ورد الأثر ‏"‏ إن الله يزع بالسلطان فوق ما يزع بالقرآن ‏"‏‏.‏

وإن ادعى عذراً يعتذر به وحلف على ذلك فلا سبيل له عليه لأنه أخبر بخبر محتمل للصدق وأكد ذلك بيمينه فينبغي أن يكف عنه إذ ليس هاهنا خصم ينازعه في ذلك وإنما لا يجعل اليمين في جانب المدعي في الخصومات لأن الخصم ينازعه في ذلك والشرع جعل اليمين في جانب المنكر دون المدعي‏.‏

وإذا نادى منادي الأمير أن الساقة غداً على أهل الكوفة فلا يتخلفن رجل من أهل الديوان ولا من المطوعة لأنهم جميعاً رعيته حين خرجوا للجهاد تحت رعيته فعليهم طاعته فعليهم طاعته إلا أن يكون الأمر المشهور أنه إذا نادى بهذا يريد به أهل الديوان خاصة فحينئذ الثابت بالعرف كالثابت بالنص وإن كان رجل من أهل الكوفة ديوانه مع أهل البصرة فهو مع أهل ديوانه وليس مع أهل بلده لأن أمره راجع إلى الجهاد وفي الجهاد إنما يجمعهم الديوان لا البلدة ولأن مراده من هذا الأمر أن ينضم بعضهم إلى بعض في التناصر وتناصر أهل الديوان بالديوان ولهذا يتعاقلون به‏.‏

ولو نادى المنادي‏:‏ الساقة غداً على أصحاب الخيل فهو على نحو ما ذكرنا وينبغي لأصحاب البراذين أن يكونوا مع أصحاب العراب في ذلك لأن كلها من الخيل قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ ‏}‏النحل‏:‏ 8 وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ‏}‏ الأنفال‏:‏ 60 ولما سئل سعيد بن المسيب عن صدقة البراذين قال‏:‏ أو في الخيل صدقة فأصحاب البراذين في ذلك مع أصحاب العراب‏.‏

إلا أن يكون المعروف من ذلك أنهم إذا نادوا بذلك يريدون أصحاب العراب خاصة لأنها أسرع في الطلب والحرب فحينئذ يكون الأمر على ما أراد لأن الثابت بالعرف كالثابت بالنص وإن قال‏:‏ الميمنة غداً على أهل المصيصة فكان رجل من أهل الكوفة سكن المصيصة فإن كان اتخذها منزلاً فهو من المصيصة لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من تأهل ببلدة فهو من أهلها ‏"‏ ولأن من يكون ساكناً في بلدة مقيماً بها في الناس من أهلها ألا ترى أنا إذا عددنا فقهاء الكوفة ذكرنا في جملتهم النخعي والشعبي وأبا حنيفة رضي الله عنهم وهم ما كانوا من الكوفة في الأصل ولكنهم سكنوها‏.‏

وإن كان لم يتخذ المصيصة مسكناً فلا يدخل في هذا النداء إلا أن يكون ديوانه مع أهل المصيصة فحينئذ يتناوله النداء باعتبار انضمامه إلى أهل المصيصة في الديوان‏.‏

فإن كان شد العدو إلى الساقة فلا بأس بأن يعينهم أهل الميمنة والميسرة إذا خافوا عليهم لأنهم تواعدوا النصرة حين اجتمعوا على محاربة المشركين ومن لا يعين غيره لا يعينه غيره عند حاجته وفي ترك التعاون ظهور العدو عليهم‏.‏

فإذا ظهر العدو على الساقة يقصدون أهل الميمنة والميسرة من ذلك الجانب فعليهم أن يدفعوا عن أنفسهم بالدفع عن إخوانهم قال‏:‏ فإن كان ذلك يخل بمراكزهم فلا ينبغي لهم أن يفعلوا لأن الإمام فوض إليهم حفظ ذلك عيناً فيحرم عليهم تضييع ذلك والاشتغال بحفظ ما هو مفوض إلى غيرهم‏.‏

وإن أمرهم الإمام أن لا يبرحوا من مراكزهم ونهى عن أن يعين بعضهم بعضاً فلا ينبغي لهم أن يعصوه وإن أمنوا من ناحيتهم وخافوا على غيرهم لأن طاعة الإمام فرض عليهم بدليل مقطوع به وما يخافونه موهوم على ما قيل‏:‏ أكثر ما يخاف لا يكون‏.‏

والأصل فيه بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرماة يوم أحد أن يقوموا بموضع ولا يبرحوا من مراكزهم فلما نظروا إلى المشركين وقد انهزموا ذهبوا يطلبون الغنيمة فكانت هزيمة المسلمين في ناحيتهم كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ‏}‏ آل عمران‏:‏ 152‏.‏

قال‏:‏ وإن خرج علج من المشركين بين الصفين يدعو إلى البراز فلا بأس بأن يخرج إليه رجل من المسلمين من غير أن يستأذن من الإمام في ذلك لأن دلالة الإذن في المبارزة كصريح الإذن وتسوية الصفوف كان للقتال فذلك دلالة الإذن في المبارزة‏.‏

ما لم ينههم فإن نهاهم فليس ينبغي لهم أن يخرجوا لأن الدلالة يسقط اعتبارها عند التصريح بخلافها كمقدم المائدة بين يدي الغير إذا نهاه عن الأكل وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القتال في بعض أيام خيبر فقاتل رجل فقتل فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تحل الجنة لعاص ‏"‏‏.‏

وكذلك إن نهى إنساناً بعينه فلا ينبغي له أن يخرج لاحتمال النظر في نهي الإمام له ولا بأس بأن يخرج غيره لبقاء دليل الإذن في حقه والأصل فيه ما روي أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة خرجوا يوم بدر يدعون إلى البراز فخرج إليهم ثلاثة من فتيان الأنصار فقالوا لهم‏:‏ انتسبوا فقالوا‏:‏ أنتم أبناء قوم كرام ولكنا نريد أكفاءنا من قريش فارجعوا إلى محمد وقولوا له‏:‏ أخرج إلينا أكفاءنا هكذا ذكر في المغازي وهو دليل على أنه لا بأس بالخروج قبل نهي الإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم ذلك وروى محمد رحمه الله هذه القصة من وجه آخر‏:‏ فقال‏:‏ فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجوا وأحب أن يكون أول القتال من أهل بيته وأمر حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث فخرجوا إليهم ذلك نزل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ‏}‏ الحج‏:‏ 19 فإذا تبارز المسلم والمشرك فلا بأس بأن يعين المسلمون صاحبهم إن قدروا على ذلك لأن المشرك قاصد إلى قتلهم كما هو قاصد إلى قتل صاحبهم لو تمكن من ذلك فلهم أن يدفعوا شره لو لم يكن قاصداً إليهم كان لهم أن يقتلوه لكونه مشركاً محارباً‏.‏

وفي قصة المبارزين يوم بدر ذكر أن علياً رضي الله عنه قتل الوليد وحمزة قتل عتبة واختلف عبيدة وشيبة ضربتين فأعان علي وحمزة رضي الله عنهما عبيدة على شيبة حتى قتلاه فعرفنا أنه لا بأس به ولا بأس بأن تخرج الجماعة الممتنعة إلى العلافة بغير إذن الوالي فيتعلفون ثم يرجعون به لوجود دلالة الإذن فإن الإمام جرهم إلى ذلك الموضع مع علمه أنهم يحتاجون إلى العلف وأنه يشق عليهم استصحاب العلف من دار الإسلام ولا يجدون في دار الحرب من يشترونه منه ولأنه أذن لهم فيما فيه كبت وغيظ للعدو وفي أخذ العلوفة منهم تحقيق هذا المعنى‏.‏

إلا أنهم لا يتمكنون من ذلك إلا بمنعة فلا بأس بأن يخرجوا إذا كانوا أهل منعة ولا يتفرقون إلا بحيث يغيث بعضهم بعضاً لأنهم إذا تفرقوا وبعد بعضهم عن بعض على وجه لا يمكنه أن يستغيث به إذا حزبه أمر كان معرضاً نفسه لأجل المال فإنه لا يأمن أن يجتمع عليه نفر من المشركين فيقتلوه‏.‏

كما لا يحل للواحد والمثنى أن يخرج ابتداء خوفاً من ذلك إلا أن يكون بالقرب من العسكر على وجه يتمكن من أن يستغيث بهم إذا حزبه أمر فكذلك لا ينبغي لهم أن يتفرقوا إلا على هذه الصفة‏.‏

وإن نادى منادي الأمير بالنهي عن الخروج للعلافة فلا ينبغي لأهل منعة ولا لغيرهم أن يخرجوا لأن دلالة الإذن تنعدم بصريح النهي وربما يكون النظر في هذا النهي‏.‏

إلا أنه ينبغي للإمام أن يبعث لذلك قوماً وينبغي أن يؤمر عليهم أميراً لتتفق كلمتهم ويتمكنوا من المحاربة مع المشركين إن ابتلوا بذلك وكذلك إن خرجوا مفريقين قبل نهي الإمام فهجم عليهم العدو فينبغي لهم أن يجتمعوا ويؤمروا عليهم أميراً ثم يقاتلوا حتى يلتحقوا بالعسكر لأن حاجة الجيش إلى ذلك ماسة والإمام ناظر لهم فإنما يتم النظر منه إذا بعث لذلك قوماً لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روينا‏:‏ ‏"‏ هل أمرتما قالا‏:‏ نعم فقال‏:‏ ألا قد رشدتما ‏"‏ وقد بينا أن المسافرين يستحب لهم أن يؤمروا عليهم أميراً فما ظنك في المحاربين وبعد ما نهى الوالي الناس عن الخروج إذا أصابهم ضرورة من العلف وخافوا على أنفسهم أو على ظهورهم ولم يجدوا ما يشترون فلا بأس بأن يخرجوا في طلب العلف لأن موضع الضرورة مستثنى عن وموجب الأمر دليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ‏}‏ الأنعام‏:‏ 119‏.‏

وإن قال الوالي‏:‏ لا يخرجن أحد إلى العلف إلا تحت لواء فلان فينبغي لهم أن يراعوا شرطه فيخرجوا تحت لوائه فإذا أتوا القرى فلا بأس بأن يتفرقوا فيها لطلب العلف على وجه يغيث بعضهم بعضاً إذا احتاجوا إليه فإذا أتاهم العدو فلينضموا إلى صاحب اللواء حتى يقاتلوا تحت لوائه وإن لم يكن صاحب اللواء بحضرتهم فليؤمروا عليهم أميراً والحاصل أنه ينبغي أن يتحرزوا عن إلقاء النفس في التهلكة بأقصى ما يتمكنون منه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ البقرة‏:‏ 95‏.‏

ولا ينبغي بعدما خرجوا أن يفارقوا صاحب اللواء إلا حيث يمكنهم أن يغيثوهم إذا استغاثوا لأنا نعلم أن مقصود الإمام من قوله‏:‏ لا يخرجوا إلا تحت لواء فلان ‏"‏ ليس الخروج فقط ولكن مراده‏:‏ كونوا تحت لوائه إلى أن ترجعوا ومن يراع أمره في شيء يراع صفة أمره‏.‏

وكذلك لو قال منادي الأمير‏:‏ من أراد العلف فليخرج تحت لواء فلان ولم يكن منه نهي ولا أمر غير هذا فهذا بمنزلة النهي وقد بينا أنه بني هذا الكتاب على أن المفهوم حجة وظاهر المذهب عندنا أن المفهوم ليس بحجة مفهوم الصفة ومفهوم الشرط في ذلك سواء ولكنه اعتبر المقصود الذي يفهمه أكثر الناس في هذا الموضع لأن الغزاة في العام الغالب لا يقفون على حقائق العلوم وأن أمرهم بهذا اللفظ إنما يقصد نهي الناس عن الخروج إلا تحت لواء فلان فجعل النهي المعلوم بدلالة كلامه كالمنصوص عليه وتمام بيان هذه المسألة في الأصول‏.‏

قال‏:‏ ولا أحب إذا انتهوا إلى القرى أن يدخل القرية الرجل الواحد لعل فيها قوماً مختفين فيقتلونه ولكن يدخل عدد القرية متأهبين للقتال فإن كان فيها أحد أعلم بعضهم بعضاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا‏}‏ النساء‏:‏ 71‏.‏

وإن نهى الأمير المسلمين أن يقطعوا الشجر أو يهدموا الأبنية فليس ينبغي لهم أن يعصوه في ذلك لأن في هذا النهي احتمال معنى النظر للمسلمين وهذا المنع من أمر الحرب ولو نهاهم عن القتال كان عليهم أن لا يعصوه ما لم يأت ضرورة أو معصية فكذلك إذا نهاهم عن هذه الخصال‏.‏

ولو عقد الأمير لواء الرجل وقال‏:‏ لا يخرجن معه إلا ثلاث مائة فينبغي لهم أن يطيعوه فلا يخرج إلا العدد الذي قال لأن الكلام القيد بالاستثناء يكون عبارة عن ما وراء المستثنى فيكون هذا تصريحاً بالنهي عن الزيادة عن العدد المستثنى‏.‏

ولو صرح لهم بالنهي مطلقاً لم يحل لهم عصيانه فكذلك هاهنا فإن خرجوا أربع مائة فأصابوا غنائم لم يحرموا الغنيمة مع أهل العسكر وإن كانوا قد أساءوا لأنهم مجاهدون قاصدون إعلاء كلمة الله تعلى وإعزاز الدين فمخالفتهم أمر الأمير لا يكون أكثر تأثيراً من مخالفتهم أمر الله تعلى بارتكاب ما لا يحل فكما أن ذلك لا يخرجهم من أن يكونوا مؤمنين فهذا لا يخرجهم من أن يكونوا غزاة كيف وهذا النهي بمعنى في غير المنهي عنه فإنه ما نهاهم عن الخروج لعين الخروج أو القتال أو الاغتنام ولكن للإشفاق عليهم‏.‏

فإن كان قد نفلهم الربع بعد الخمس فخرجوا فأصابوا غنائم فإن كانت الثلاث مائة الذين أمرهم بالخروج قوماً مسلمين بأعيانهم ميز ثلاثة أرباع الغنيمة فأعطى أولئك منها نفلهم هكذا ذكر في بعض النسخ وهو غلط ولكن الصواب ما ذكره في بعض النسخ أنه يعزل الخمس من هذه الثلاثة الأرباع ثم يعطيهم من ربع ما بقي نفلهم لأنه هكذا شرط لهم الربع بعد الخمس ومراده مما يصيبون ومصابهم ثلاثة أرباع الغنيمة‏.‏

وذكر هكذا شرط لهم الربع بعد الخمس ومراده مما يصيبون ومصابهم ثلاثة أرباع الغنيمة‏.‏

وذكر بعد هذا هذه المسألة وقال‏:‏ يقسم ما جاءوا به بينهم على سهام الخيل والرجالة ثم ينظر إلى ما أصاب الثلاث مائة فيخرج الخمس من ذلك ثم يعطيهم نفلهم مما بقي ووجه التوفيق أنه وضع المسألة هناك فيما إذا كان بعضهم فارساً وبعضهم راجلاً وهاهنا وضع المسألة فيما إذا كانوا فرساناً كلهم أو رجالة كلهم فلهذا ميز لهم ثلاثة أرباع الغنيمة ليعطي منها نفلهم‏.‏

وقال في موضع آخر‏:‏ يرفع الخمس في جميع المصاب أولاً ينظر إلى ثلاثة أرباع الغنيمة فيعطيهم من ذلك نفلهم فالحاصل أنه كرر ذكر هذه المسألة في أربعة مواضع في هذا الكتاب وأجاب في كل موضع بجواب آخر فنذكر في كل موضع ما هو صواب من الجواب وما هو غلط إذ انتهينا إليه إن شاء الله‏.‏

قال‏:‏ ثم نظر إلى الربع الباقي فعزل خمسة ثم جمع ما بقي منه إلى ما بقي من الثلاثة الأرباع فجعل ذلك مع غنائم أهل العسكر يقسمها بينهم جميعاً على قسمة الغنيمة وفي بعض النسخ يذكر‏:‏ أنه لا يخمس هذا الربع فكأنه بنى ذلك على أن المائة العصاة بمنزلة المتلصصين في دار الحرب بغير إذن الإمام فلا يخمس ما أصابوا‏.‏

وهو غلط فإنه إنما لا يخمس مصاب المتلصصين إذا لم يكونوا أهل منعة وهؤلاء كانوا أهل منعة بالانضمام إلى الثلاث مائة فلا بد من أن يخمس ما أصابوا‏.‏

وإن كانت الثلاث مائة ليسوا قوماً بأعيانهم والمسألة بحالها فإن الإمام ينظر إلى ثلاثة أرباع الغنيمة فيخرج منها الخمس ثم ينظر إلى ربع ما بقي فيقسم بين الأربع مائة بالسوية نفلاً لهم لأن الاستحقاق بالتنفيل يثبت لثلاث مائة منهم وليس بعضهم أولى من البعض فلا بد من قسمة ذلك بينهم بالسوية لاستوائهم في سبب الاستحقاق ثم يخرج الخمس من الربع الباقي ويجمع ما بقي منه إلى ما بقي من الثلاثة الأرباع فيقسمها بينهم وبين جميع العسكر على سهام الخيل والرجالة كما هو الحكم في قسمة الغنيمة بين الغانمين‏.‏

فإن كانت المائة العصاة بأعيانهم فرأى الأمير أن يحرمهم سهمهم مما أصابوا فقسم ما بقي بين الثلاث مائة وأهل العسكر وحرم العصاة ثم ولي آخر يرى ما صنيع الأول جوراً أمضى صنيعه ذلك ولم يرده لأنه أمضى باجتهاده فعلاً مختلفاً فيه فإن عند بعض الفقهاء يحرم العصاة حظهم مما أصابوا ليكون زجراً وفطاماً لهم عن العود إلى مثله وردوا ذلك إلى حرمان القاتل الميراث بسبب جنايته وبيان هذا يأتي في باب إحراق رحل الغال وقضاء القاضي في المجتهدات يكون نافذاً لا يرد فلهذا قال‏:‏ لا يرد الثاني ما صنع الأول‏.‏

قال‏:‏ ولا ينبغي للرجل أن يخرج إلى الجهاد وله أب أو أم إلا بإذنه لأن برهما واجب والتحرز عن عقوقهما فرض عليه بعينه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ليعمل البار ما شاء فلن يدخل النار وليعمل العاق ما شاء فلن يدخل الجنة ‏"‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ من أصبح ووالداه راضيان عنه فله بابان مفتوحان إلى الجنة ‏"‏ فلا ينبغي له أن يسد هذا الباب بالخروج بغير إذنهما وهو لا يدري أنه هل ينتفع بخروجه هو أو غيره أو لا ينتفع‏.‏

وذكر عن ابن عباس بن مرداس أنه قال‏:‏ يا رسول الله إني أريد الجهاد قال‏:‏ ألك أم قال‏:‏ نعم قال‏:‏ الزمن أمك فإن الجنة عند رجل أمك وتفريع المسائل على هذا الأصل في باب بعد هذا فيؤخر بعض الكلام فيه إلى ذلك الموضع وذكر عن ابن الزبير قال‏:‏ سألت جابراً أيقاتل العبد بغير إذن مولاه قال‏:‏ لا وبه نأخذ لأن منافعه ملك المولى فلا يجوز له أن يفوتها عليه بالاشتغال بالقتال وماليته ملك المولى فلا يجوز له أن يعرضها للتلف بالقتال غلا أن يجيء حال ضرورة الملمين إليه بأن وقع النفير عاماً فحينئذ لا بأس أن يخرج لما بينا أن موضع الضرورة مستثنى من لزوم الطاعة شرعاً ولأنه ليس للمولى في مثل هذه الحالة أن يمنعه بل يفترض عليه دفع شر المشركين بنفسه وبما يقدر عليه من ملكه فلذلك لا يجب على العبد أن يطيعه إن نهاه عن الخروج وكذلك هذا الجواب في حق الولد إذا نهاه والداه في مثل هذه الحالة والله الموفق‏.‏