فصل: باب صلاة الخوف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **


  باب صلاة الخوف

قال محمد رحمه الله‏:‏ اختلف الناس في الصلاة الخوف وأحسن الأقاويل فيها ما قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وجامعهما عليه ابن عمر وهو أن يجعل الإمام الناس طائفتين فتقف طائفة بإزاء العدو ويصلي بطائفة شطر الصلاة ثم تذهب هذه الطائفة فتقف بإزاء العدو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم شطر الصلاة ثم يسلم الإمام وتذهب هذه الطائفة فتقف بإزاء العدو وتأتي الطائفة الأولى فيتمون صلاتهم بغير قراءة لأنهم أدركوا أول الصلاة فهم في حكم المقتدين في جميعها ثم تأتي الطائفة الثانية فيقضون ما فاتهم بقراءة لأنهم مسبوقون فيها وقد بينا في كتاب الصلاة ما في هذا الباب من اختلاف الآثار واختلاف العلماء وما في نوادر أبي سليمان لأبي يوسف من الفرق بينهما إذا كان العدو في جهة القبلة أو في دبر القبلة في حكم صلاة الخوف‏.‏

وذكر هاهنا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن الإمام يصلي بكل طائفة سجدة وإنما أراد به ركعة وهذه لغة معروفة عند أهل الحجاز يقولون‏:‏ سجد فلان سجدة‏:‏ أي صلى ركعة‏.‏

وذكر في حديثه أيضاً‏:‏ فإن كان خوفاً هو أشد من ذلك صلوا رجالاً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها وإنما أراد إذا كانوا قياماً لا مشاة فإن المشي عمل لا يجوز الصلاة معه بمنزلة السباحة في البحر والمسايفة في زمان القتال وذكر عن محمد بن يحيى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فنزل منزلاً لم يقعد حتى يصلي ركعتين وأهل الحديث يروون هذا الحديث أتم من هذا لأنه في كل منزل كان يعين مكان الصلاة أولاً فيصلي فيه ركعتين وهكذا ينبغي لكل مسافر أن يفعله فإن النزول للاستراحة وذلك نصيب البدن فالأولى أن يقدم أمر الدين عليه وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته كان يصلي ويسعى في مهنة أهله وبه أمر أمته فقال‏:‏ ‏"‏ لا تتخذوا بيوتكم قبوراً قيل معناه‏:‏ لا تصلوا فيه وقيل معناه‏:‏ بأن تناموا فيه من غير حاجة وأن تعينوا أهاليكم في حوائجهم وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ جعلت قرة عيني في الصلاة ‏"‏ وقرة عين أمته فيما فيه قرة عينه فالبداية به عند النزول في المنزل أولى‏.‏

قال‏:‏ وإذا ابتلي المسلم بالقتل صبراً فإنه يستحب له أن يصلي عند ذلك ركعتين ويستغفر بعدهما ذنوبه ليكون آخر عمله الصلاة والاستغفار قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من ختم كتابه بالطاعة غفر له ما سلف ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ الأمور بخواتيمها ‏"‏ وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من كان أول كلامه وآخر كلامه قول‏:‏ لا إله إلا الله غفر له ما بين ذلك ‏"‏ فلهذا استحبوا أن يلقن الصبي في أول ما يقدر على التكلم كلمة التوحيد ويلقن ذلك عند موته أيضاً ليكون أول كلامه وآخر كلامه هذا‏.‏

ثم الأصل في الباب حديث خبيب فإنه لما أسر فبيع بمكة خرجوا إلى الحل ليقتلوه فقال‏:‏ دعوني أصلي ركعتين فقالوا‏:‏ صل فصلى ركعتين ثم قال‏:‏ لولا أن تظنوني جزعت من الموت لزدت وفي رواية‏:‏ أوجزهما وقال‏:‏ لو لا خشية أن يقولوا‏:‏ جزع من الموت لطولت صلاتي ثم نظر في وجوه المشركين فلم ير إلا شامتاً أو شاتماً أو إنساناً في يده حجر أو عصاً فقال‏:‏ والله ما أرى إلا وجه عدو اللهم ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك عني السلام فأقرئ رسولك وأصحابه مني السلام وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه السلام وهو على المنبر بالمدينة ثم قال خبيب‏:‏ اللهم أحصهم عدداً والعنهم بدداً ولا تبق منهم أحداً زاد في كتب الحديث أنه التمس منهم أن يكبوه على ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي ثم صلبوه بعد القتل مستدبر الكعبة فتحولت خشبته حتى صار مستقبل الكعبة وقد استحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنعه خبيب عند القتل من الصلاة ركعتين وسماه سيد الشهداء وقال‏:‏ ‏"‏ هو رفيقي في الجنة ‏"‏ فصارت سنة من ذلك الوقت‏.‏

قال‏:‏ وصلاة الخوف إنما تكون إذا كانوا موافقين للعدو فأما في حالة المسايفة والمطاعنة والرمي فلا تستقيم الصلاة لأن هذا عمل ولا تستقيم الصلاة مع الاشتغال بعمل ليس منها ولكنهم يؤخرون الصلاة إلى أن يفرغوا من ذلك لأن ما يفوتهم من الصلاة يمكنهم تداركه بعد هذا وما يفوتهم بالاشتغال بالصلاة والكف عن القتال في هذه الحالة لا يمكنهم تداركه‏.‏

والأصل فيه حديث أبي سعيد الخدري قال‏:‏ حبسنا يوم الخندق عن الصلاة إلى هوي من الليل حتى كفينا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وكفى الله المؤمنين القتال ‏"‏ الأحزاب‏:‏ 25 فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمر فأقام الصلاة صلاة الظهر فصلاها كأحسن ما كان يصليها في وقتها ثم أقام العصر فصلاها مثل ذلك ثم المغرب ثم العشاء وذلك قبل أن ينزل في صلاة الخوف‏:‏ ‏{‏فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا‏}‏ البقرة‏:‏ 239 وفي رواية ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره فأذن وأقام للأولى ثم أقام لكل صلاة بعد الأولى وفي رواية عنه أنه أمره فأذن وأقام لكل صلاة وبأي ذلك أخذت فهو حسن وفيه دليل جواز تأخير الصلاة لشغل القتال وأن المستحب في الفوائت أن تقضى بالجماعة كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا قياماً على أرجلهم أو ركباناً لا يعملون شيئاً صلوا بالإيماء ولم يجز لهم تأخير الصلاة لأن عند العجز عن الركوع والسجود الفرض يتأدى بالإيماء وعجزهم ظاهر‏.‏

وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الأحزاب حتى صلى المغرب ثم ذكر بعد ذلك أنه لم يصل فصلاها وفيه دليل على أن الترتيب يسقط بعذر النسيان وقد بينا هذا في كتاب الصلاة ثم يوم الأحزاب هو يوم الخندق أيضاً وقد ذكر في الحديث الأول أنه ترك أربع صلوات وفي هذا الحديث ذكر أنه ترك صلاة العصر وكلاهما صحيح فقد روي أنه قال‏:‏ ‏"‏ شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً ‏"‏ يعني‏:‏ صلاة العصر فوجه التوفيق أن كل واحد من الأمرين كان في يوم على حدة لأنهم بقوا في الخندق سبعة عشر يوماً وكانوا مشغولين بالقتال في أكثر تلك الأيام ليلاً ونهاراً والله الموفق‏.‏

  باب الشهيد وما يصنع به

قال محمد رحمه الله‏:‏ الشهيد إذا قتل في المعركة لم يغسل ويصلى عليه في قول أهل العراق وأهل الشام وبه نأخذ وفي قول أهل المدينة لا يصلى عليه وممن قال ذلك مالك بن أنس واعلم أن محمداً رحمه الله سلك في هذا الكتاب للترجيح طريقاً سوى ما ذكره في سائر الكتب وهو أنه نظر فيما اختلف فيه أهل العراق وأهل الشام وأهل الحجاز فرجع ما اتفق عليه فريقان وأخذ به دون ما تفرد به فريق واحد وهذا خلاف ما هو المذهب الظاهر لأصحابنا في الترجيح أنه لا يكون بكثرة العدد وعليه دل ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ

مَّا هُمْ‏}‏ ص‏:‏ 24 وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ الأعراف‏:‏ 187 وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ يوسف‏:‏ 103 ووجه ما اعتبره هاهنا أن مثل هذا الاختلاف إنما يترتب على اشتباه الأثر فيما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغازي وكان ذلك أمراً ظاهراً فتهمة الغلط فيما تفرد به فريق واحد يكون أظهر من تهمة الغلط فيما اجتمع عليه فريقان كما في هذه المسألة‏.‏

فإن جابراً روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد وأكثر الصحابة يروون أنه صلى عليهم حتى رووا أنه صلى على حمزة رضي الله عنه سبعين صلاة كان موضوعاً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما أتى رجل صلى عليه وعلى حمزة معه وكان جابر رضي الله عنه يومئذ قتل أبوه وخاله فكان مشغولاً بهما لم يشهد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشهداء على ما روي أنه حملهم إلى المدينة فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادفنوا القتلى في مضاجعهم فردهما ولا شك أن توهم الغلط في روايته أظهر‏.‏

ثم أهل المدينة يقولون‏:‏ إن الصلاة على الميت استغفار له وترحم عليه والشهيد يستغني عن ذلك فإن السيف محاء للذنوب ونحن نقول‏:‏ الصلاة على الميت من حق المسلم على المسلم كرامة له والشهيد أولى بهذه الكرامة ولا إشكال أن درجة الشهيد دون درجة من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقد صلى عليه أصحابه والناس يقولون‏:‏ وارحم محمداً وآل محمد في الصلاة فعلمنا أنه لا يبلغ الشهيد درجة يستغنى بها عن استغفار المؤمنين والدعاء بالرحمة له ومن يقول منهم‏:‏ إن الشهيد حي بالنص ولا يصلى على الحي فهذا ضعيف أيضاً لأنه حي في أحكام الآخرة فأما في أحكام الدنيا فهو ميت في حقنا ويقسم ميراثه ويجوز لزوجته أن تتزوج بعد انقضاء العدة والصلاة على الميت من أحكام الدنيا إلا أنه لا يغسل ليكون ما عليه شاهداً له على خصمه يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك ولهذا لا ينزع عنه جميع ثيابه على ما روي أن حمزة رضي الله عنه كفن في نمرة كانت عليه حين استشهد ولكن ينزع عنه السلاح لأنه كان لبسه لدفع البأس فقد انقطع ذلك ولأن دفن القتلى مع الأسلحة فعل أهل الجاهلية وقد نهينا عن التشبه بهم وكذلك ما لبس من جنس الكفن كالسراويل والقلنسوة والمنطقة والخاتم والخف هكذا ذكر عن جماعة من أئمة التابعين لأهله أن يزيدوا في أكفانه ما أحبوا وبهذا اللفظ يستدل على أن التقدير بثلاثة أثواب أو بثوبين في كفن الرجال غير لازم‏.‏

وإن صار مرتثاً فهو شهيد في أحكام الآخرة ولكن يصنع به ما يصنع بالموتى من الغسل والتكفين والمرتث‏:‏ من يصير خلقاً في حكم الشهادة مأخوذ من قول القائل ثوب رث أي خلق‏.‏

فإذا حمل من مصرعه حياً فمات على أيدي الرجال أو مرض في خيمته فهو مرتث لأنه نال بعض الراحة‏.‏

فأما إذا جر برحله من بين صفين لكيلا تطأه الخيول فإنه لا يغسل لأن نقله من صرعه لم يكن لإيصال الراحة إليه‏.‏

ولو أكل أو شرب فإنه يغسل لأنه نال بعض الراحة بذلك قال‏:‏ وذكر عن زيد بن صوحان قال‏:‏ لا تنزعوا عني ثوباً إلا الخفين ولا تغسلوا عني دماً وارمسوني في الأرض رمساً فإني رجل محاج أحاج يوم القيامة من قتلني ففيه دليل على أنه لا ينزع عن الشهيد من ثيابه إلا ما ليس من جنس الكفن وأنه لا يغسل ليكون ما عليه من الدم شاهداً له يوم القيامة‏:‏ وعن سعيد ابن عبيد‏:‏ أنه خطب الناس بالقادسية فقال‏:‏ إنا لا قون غداً فمستشهدون فلا تغسلوا عنا دماً ولا تكفنونا في ثوب إلا ما علينا وهذا دليل على ما ذكرنا أيضاً وكأنه كره شيئاً مما يرجع إلى الزينة في كفنه لا لأن الزيادة لا تحل‏.‏

وذكر عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد‏:‏ أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة زملوهم في ثيابهم ثم قال‏:‏ أي هؤلاء كان أكثر أخذاً للقرآن فإذا أشير له إلى رجل قدمه في اللحد قبل صاحبه وكان يدفن في القبر الاثنين والثلاثة وفيه دليل على أنه لا بأس عند الضرورة بدفن الجماعة في قبر واحد فالأنصار يومئذ أصابهم قرح وجهد شديد حتى شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ إن الحفر علينا لكل إنسان شديد فقال‏:‏ ‏"‏ أعمقوا وأوسعوا وادفنوا الاثنين والثلاثة ‏"‏ ولكن ينبغي عند الحاجة أن يجعل بين كل ميتين حاجز من التراب كي يصير في حكم قبرين وعلى هذا الوجه لا بأس بدفن المرأة والرجل في قبر واحد على ما رواه عن إبراهيم ويقدم إلى جانب القبلة أفضلهما وهو الرجل‏.‏

فإن كانا رجلين تقدم أفضلهما أيضاً على ما قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ قدموا أكثرهم أخذاً للقرآن ‏"‏ فإن أكثرهم أخذاً للقرآن كان أفضلهم يومئذ لأنهم يتعلمون القرآن بأحكامه‏.‏

ثم روي حديث جابر أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى يومئذ‏:‏ ادفنوا القتلى في مضاجعهم ‏"‏ وهذا حسن ليس بواجب وإنما صنع هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كره المشقة عليهم بالنقل مع ما أصابهم من القرح‏.‏

وذكر عن محمد بن سيرين قال‏:‏ استعمل يزيد بن معاوية على جيش فكره أبو أيوب الأنصاري الخروج معه ثم ندم ندامة شديدة فغزا معه بعد ذلك فحضر فأتاه يزيد بن معاوية بعوده فقال‏:‏ ألك حاجة قال‏:‏ نعم إذا أنا مت فاغسلوني وكفنوني ثم احملوني حتى تأتوا بلاد العدو ما لم يشق على المسلمين ثم تأمرهم فيدفنوني وهذا أيضاً ليس من الواجب ولكنه شيء أحبه إما ليكون أقرب في نحر العدو فينال ثواب من مات مرابطاً أو ليكون أبعد عن الشهرة بكثرة الزيارة فقد قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ لا تتخذوا قبري بعدي معبداً ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ‏"‏ وذكر في المغازي أنهم فعلوا ذلك به ودفنوه ليلاً فصعد من قبره نور إلى السماء ورأى ذلك من كان بالقرب من ذلك الموضع من المشركين فجاء رسولهم من الغد فقال‏:‏ من كان هذا الميت فيكم قالوا‏:‏ صاحب لنبينا فأسلموا لما رأو‏.‏

وذكر عن ابن أبي مليكة قال‏:‏ مات عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشى فنقل منه ودفن بمكة فجاءت عائشة رضي الله عنها حاجة أو معتمرة فزارت قبره وقالت‏:‏ وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً أن والله لو شهدتك ما زرتك ولو شهدتك ما دفنتك إلا في مكانك الذي مت فيه وإنما قالت ذلك لإظهار التأسف عليه حين مات في الغربة ولإظهار عذرها في زيارته فإن ظاهر قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ لعن الله زوارات القبور ‏"‏ يمنع النساء من زيارة القبور والحديث وإن كان مأولاً فلحشمة ظاهرة ظاهرة قالت ما قالت وفيه دليل أن الأولى أن يدفن القتيل والميت في المكان الذي مات فيه في مقابر أولئك القوم ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات في قال‏:‏ ولو نقل ميلاً أو ميلين أو نحو ذلك فلا بأس به وفي هذا بيان أن النقل من بلد إلى بلد مكروه لأنه قدر المسافة التي لا يكره النقل فيها بميل أو ميلين وهذا لأنه اشتغال بما لا يفيد فالأرض كلها كفات للميت قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا‏}‏ المراسلات‏:‏ 25‏:‏ 26 إلا أن الحي ينتقل من موضع إلى موضع لغرض له في ذلك وذلك لا يوجد في حق الميت ولو لم يكن في نقله إلا تأخير دفنه أياماً كان كافياً في الكراهة‏.‏

وذكر عن الحسن قال‏:‏ إذا وجد ما يلي صدر القتيل إلى رأسه غسل وصلي عليه يعني‏:‏ إذا وجد أكثر البدن أو نصف البدن معه الرأس وبه نأخذ فإنه لا تعاد الصلاة على ميت واحد فلو صلى على النصف أو ما دونه يؤدي إلى تكرار الصلاة على ميت واحد بأن يوجد النصف الباقي وهذا لا يكون فيما إذا وجد أكثر البدن أو النصف ومعه الرأس‏.‏

فأما القتيل فإن علم أنه قتل في سبيل الله تعالى لم يغسل وإن لم يعلم ذلك غسل لأن الغسل سنة الموتى من بني آدم إلا أنه يسقط في حق الشهيد لمقصود قد بيناه فما لم يعلم ذلك وجب غسله بمنزلة سائر الموتى‏.‏

وذكر عن أبي برزة الأسلمي أنه صلى ركعتين وهو آخذ بعنان فرسه ثم انسل قياد فرسه من يده فمضى الفرس على القبلة وتبعه أبو برزة حتى أخذ بقياد فرسه ثم رجع ناكصاً على عقبيه فصلى بقية صلاته فقال الرجل‏:‏ ما لهذا الشيخ فعل الله به وفعل فانصرف أبو برزة من صلاته فقال‏:‏ من هذا الشاتم لي آنفاً إنا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأينا من يسره ولو كنت تركت فرسي حتى تباعد ثم طلبته شق علي فقال القوم للرجل‏:‏ ما كان ينتهي بك خبثك حتى تتناول رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبه ففي هذا دليل على أنه لا بأس للغازي أن يأخذ بعنان فرسه في الصلاة لأنه يبتلى به من ليس له سائس وإن مشى في صلاته عند تحقق الحاجة يسيراً وهو مستقبل القبلة لم تفسد صلاته ألا ترى أن أبا بكر رضي الله عنه كبر عند باب المسجد وركع ودب راكعاً حتى التحق بالصف ولو استدبر القبلة في مشيه حتى جعلها خلف ظهره كان مفسداً لصلاته لا لمشيه بل لتفويت شرط الجواز وهو استقبال القبلة وكأن الرجل استعظم مشيه في الصلاة لأجل الفرس فنال منه لأنه لم يعرفه فاستعظم فعله ثم بين أبو برزة أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى من يسره يريد من تيسيره على الناس فعلاً وقولاً على ما قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ خير دينكم اليسر ‏"‏ فبين عذر نفسه ولم يشتغل بمكافأة من نال منه ففعل ذلك القوم على وجه النيابة عنه وهذا هو الطريق المحمود في المعاشرة مع الناس‏.‏

قال‏:‏ ولا بأس للغزاة وغيرهم من المسافرين أن يصلوا على دوابهم حيث ما كانت وجوههم تطوعاً يومؤن إيماء وهذا لأن التطوع مستدام غير مختص بوقت والظاهر أن المسافر يلحقه الحرج في النزول واستقبال القبلة في كل وقت فذلك يشبه بالعذر لإثبات هذه الرخصة له إذا أراد استدامة الصلاة والدليل عله حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر وكان ابن عمر رضي الله عنهما يصنع ذلك أيضاً وعن جابر رضي الله عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أبواء يصلي على راحلته ووجهه قبل المشرق ورآه يصلي على راحلته وهو ذاهب إلى خيبر حيث ما توجهت به مقبلاً أو مدبراً فعرفنا أنه لا بأس بذلك‏.‏

ثم ذكر أن ينبغي للغزاة الذين لا ثياب لهم أن يصلوا قعوداً وحداناً كأستر ما يكون يومون إيماء وذلك مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم قال‏:‏ ولا يعجبنا أن يصلوا جماعة فإن صلوا جماعة قعد الإمام في وسط الصف لكيلا يقع بصرهم على عورته كما هو السنة في صلاة النساء بالجماعة ثم ذكر الجمع بين الصلاتين في الغزو وغيره من الأسفار أنهن لا بأس به فعلاً لا وقتاً بأن يؤخر الأولى إلى آخر الوقت ثم ينزل فيصليها في آخر الوقت ويمكث ساعة حتى يدخل وقت الأخرى فيصليها في أول الوقت وهكذا فعله ابن عمر رضي الله عنهما وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هكذا إذا جهد به السير وقد بينا تمام هذه الفصول في كتاب الصلاة والله الموفق‏.‏

M0ا صلاة القوم الذين يخرجون إلى العسكر ويريدون العدو قال‏:‏ إذا كان للمسلمين مدينتان بينهما مسرة يوم واحد هما أقرب إلى أرض الحرب فكتب والي المدينة القريبة إلى والي المدينة البعيدة أن الخليفة كتب إلي يأمرني بالغزو فأعلم من قبلك ذلك ليقدموا علي فإني شاخص من مدينتي يوم كذا فخرج القوم من المدينة البعيدة على قصد الغزو مع والي المدينة القريبة ولا يدرون أين يريد من أرض الحرب فإن كان بين المدينة القريبة وبين أرض الحرب مسيرة يومين فأهل المدينة البعيدة يقصرون الصلاة كما خرجوا من مدينتهم لأنهم يتيقنون السفر ثلاثة أيام فإن من المدينة البعيدة إلى المدينة القريبة مسيرة يوم ومنها إلى أرض الحرب مسيرة يومين والغزاة يدخلون دار الحرب لا محالة فلهذا يقصرون الصلاة‏.‏

وإن كانت المسيرة من المدينة القريبة إلى دار الحرب دون يومين فإنهم يتمون الصلاة‏.‏

لأنهم لا يدرون أين يريد الوالي فلعله لا يريد أن يجاوز أول دار الحرب‏.‏

وإنما يؤخذ في العبادة بالاحتياط‏.‏

وطريق العبادة الاحتياط في البناء على المتيقن به دون المحتمل والغزاة تبع للوالي في نية السفر والإقامة لأن عليهم طاعته بمنزلة العبد مع مولاه والزوجة مع زوجها‏.‏

وإن كان بين في كتابه أين يريد المسير إليه من دار الحرب فقد زال الاشتباه ببيانه‏.‏

فإن كان المسير إلى ذلك الموضع مقدار ثلاثة أيام فصاعداً من مدينتهم قصروا الصلاة وإلا أتموا‏.‏

وإن قدموا على والي المدينة القريبة فلم يخرج أياماً فإنهم يقصرون الصلاة ما لم يعزموا على الإقامة خمس عشرة ليلة في المدينة القريبة‏.‏

لأنهم صاروا مسافرين فما لم يعزموا على الإقامة في موضعها أو في مدة الإقامة كانوا مسافرين على حالهم‏.‏

ألا ترى أنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة وابن عمر رضي الله عنهما أقام بأذربيجان ستة أشهر وكان يقصر الصلاة وأما أهل المدينة القريبة فإنهم يتمون الصلاة حتى يخبرهم الأمير أنه يريد سفر ثلاثة أيام فصاعداً وإذا أخبرهم بذلك فما لم يخرجوا من مدينتهم يتمون الصلاة أيضاً‏.‏

وإن خرجوا إلى العسكر ينتظرون أن يخرج الأمير فمن كان منهم لا يعزم على الرجوع إلى منزله فإنه يقصر الصلاة وإن أقام في ذلك المكان شهراً‏.‏

لأنه صار مسافراً حين فارق عمران مصره على قصد السفر وإن كان من عزمه أن يرجع إلى منزله ساعة من نهار ليقضى حاجته فإنه يتم الصلاة‏.‏

لأن عزمه على الرجوع إلى وطنه الأصلي إذا كان هو في فنائها بمنزلة مقامه في جوفها فيتم الصلاة حتى يخرج من المدينة راجعاً إلى العسكر وهو لا يريد الرجعة إلى أهله حتى يغزو فإذا جعلها خلف ظهره قصر الصلاة لأنه صار مسافراً بهذا الخروج وإن عزموا على الإقامة في المعسكر خمس عشرة ليلة أتمو الصلاة لأنهم نووا الإقامة في موضعها فإن فناء المصر كجوف المصر في صحة نية الإقامة فيه ولو أن أهل المدينة البعيدة قصروا الصلاة إلى أن ينتهوا إلى المدينة القريبة فقال الوالي‏:‏ إن الخليفة كتب إلي أن تغزوا قبل أن تخرجوا من مدينتكم إلي فصلاتهم التي أدوها تامة‏.‏

لأنهم كانوا مسافرين وما لم يعرفوا فسخ الوالي عزيمة السفر لا يصيرون مقيمين لأن التكليف يثبت بحسب الوسع‏.‏

ثم عليهم من حين سمعوا هذا الخبر أن يتموا الصلاة لأنهم عزموا على الرجوع إلى وطنهم الأصلي وبينهم وبين وطنهم مسيرة يوم فكانوا مقيمين في الحال‏.‏

وإن سمع بذلك بعضهم دون بعض فعلى الذين سمعوا أن يتموا الصلاة وقصر الذين لم يسمعوا فصلاتهم صحيحة ليس عليهم إعادتها لأن ما يبتنى على السماع لا يثبت حكمه في حق المخاطب ما لم يسمع به أصله خطاب الشرع وهذا لأن حكم الخطاب إنما يلزم المخاطب إذا تمكن من العمل به وذلك لا يكون إلا بعد السماع فكانوا مسافرين ما لم يسمعوا السبب الذي هو فاسخ لعزيمة سفرهم فإن كان والي المدينة القريبة كتب إلى أهل المدينة البعيدة‏:‏ من أراد منكم الغزو فليوافنى في موضع كذا ولم يخبر أين يريد وذلك المكان على مسيرة يومين من المدينة البعيدة فإن أهلها يتمون الصلاة حتى ينتهوا إلى ذلك المكان على مسيرة يومين من المدينة البعيدة فإن أهلها يتمون الصلاة حتى ينتهوا إلى ذلك المكان لأنهم قصدوا أقل من مدة السفر ولعل من رأى الإمام أن يقيم معهم في ذلك المكان ويبعث السرايا والجيوش من غيرهم ويتمون الصلاة في ذلك المكان أيضاً لأنهم إذا لم يصيروا مسافرين بالقصد إلى ذلك المكان لا يصيرون مسافرين بالمقام في ذلك المكان أيضاً فإن أخبرهم الوالي بعد ما نزلوا ذلك المكان أن يسير بهم مسيرة شهر في دار الحرب فإنهم يتمون الصلاة ما داموا في ذلك المكان لأنهم حصلوا فيه وهم مقيمون فبمجرد نية السفر لا يصيرون مسافرين ما لم يرتحلوا منه بمنزلة المقيم ينوي السفر وهو في مصره فإن قصروا الصلاة قبل أن يرتحلوا من ذلك المكان فعليهم إعادة الصلاة لأنهم خرجوا منها قبل إكمال الفرض ثم إن خرجوا من ذلك المكان قبل أن يمضي وقتها وقبل أن يعيدوها صلوها ركعتين وإن خرجوا بعد مضي وقتها صلوها أربعاً لأن تقرر الوجوب باعتبار آخر الوقت فإذا خرج الوقت وهم مسافرون كان عليهم صلاة السفر وإن خرج الوقت وهم مقيمون كان عليهم صلاة المقيمين ولا يتغير هذا الحكم بما أدوا لأن المؤداة كانت فاسدة حين سلموا على رأس ركعتين وهم مقيمون فكأنهم لم يصلوها أصلاً فإن سبق أهل المدينة البعيدة إلى ذلك المكان فلم يأتهم والي المدينة القريبة عشرة أيام وأن ذلك المكان من مدينتهم على مسيرة يومين أتموا الصلاة لما بينا‏.‏

وإن كان على مسيرة ثلاثة أيام قصروا الصلاة فيها وإن أقاموا شهراً أو أكثر لأنهم صاروا مسافرين بالخروج إليها فلا يصيرون مقيمين ما لم يعزموا على إقامة خمس عشرة ليلة وهم منتظرون للوالي في هذا المكان غير عازمين على إقامة خمسة عشر ليلة فإن قصروا الصلاة في ذلك المكان ثم أتاهم كتاب الوالي أنه قد أمر بالمقام فإنهم يقصرون الصلاة على حالهم حتى يرجعوا إلى مدينتهم لأنهم انصرفوا وبينهم وبين مواضع إقامتهم مسيرة سفر فلا يصيرون مقيمين حتى يدخلوا وطنهم‏.‏

قال‏:‏ وإن دخل المسلمون أرض الحرب فانتهوا إلى حصن ووطنوا أنفسهم على أن يقيموا عليه شهراً إلا أن يفتحوه قبل ذلك أخبرهم الوالي بذلك فإنهم يقصرون الصلاة لأنهم لم يعزموا على إقامة خمس عشرة ليلة لمكان الاشتثناء فالفتح قبل مضي خمس عشرة ليلة محتمل وإن أخبرهم الوالي أنه لا يقيم بهم في ذلك المكان فتحوا أو لم يفتحوا فإنهم يقصرون الصلاة أيضاً لأنهم في دار الحرب محاربون لأهلها والمحارب بين أن يقهر عدوه فيتمكن من المقام وبين أن يظهر عليه عدوه فلا يتمكن من المقام ومثل هذا الموضع لا يكون موضع الإقامة في حقه ونية الإقامة في غير موضعها هدر كأهل السفينة إذا نووا الإقامة في موضع من لجة البحر‏.‏

ولو أطالوا المقام في دار الحرب حتى وقع الثلج فصاروا لا يستطيعون الخروج فعزموا على الإقامة سنتهم حتى يذهب عنهم الثلج فيخرجون وهم في غير أمان من أهل الحرب فإنهم يقصرون الصلاة أيضاً لأنهم لا يأمنون من أن يقاتلهم العدو فيمنعوهم من القرار في ذلك الموضع وعن زفر رحمه الله أنه إن كانت لهم منعة وشوكة على وجه ينتصفون من العدو إن أتاهم يصح بينهم الإقامة باعتبار الظاهر وعن أبي يوسف رحمه الله قال‏:‏ إذا كانوا في الأخبية والفساطيط لم يصح بينهم الإقامة وإن كانوا في الأبنية وهم ممتنعون صحت منهم الإقامة والأصح ما ذكر محمد رحمه الله لما قلنا إن موضع الإقامة ما يتمكن المرء من المقام فيه بقدر ما نوى‏.‏

واستدل عليه بحديث زائدة بن عمير قال‏:‏ قلت لابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إنا نطيل الثواء بأرض العدو يعني القرار فيكيف أنوي في الصلاة قال‏:‏ ركعتين حتى ترجع إلى أهلك قلت‏:‏ كيف تقول في العزل قال‏:‏ إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فيه شيئاً فهو كما ذكر وإلا فإني أقول فيه‏:‏ ‏{‏نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏ البقرة‏:‏ 223‏.‏

من شاء عزل ومن شاء ترك وفيه دليل جواز العزل وهذا اللفظ مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً واليهود كانوا يكرهون ذلك ويقولون إنه الموءودة الصغرى فنزلت الآية رداً عليهم وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن العزل فقال‏:‏ إذا أخذ الله ميثاق نسمة من صلب رجل فهو خالقها وإن صب الماء على صخرة فإن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فاتركوا وهكذا يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه في العزل عن الحرة يحتاج إلى رضاها ليحل له ذلك وفي العزل عن أمته لا يحتاج إلى ذلك‏.‏

قال‏:‏ ولو دخل مسلم دار الحرب بأمان ونوى الإقامة في موضع خمسة عشر يوماً أتم الصلاة لأنه غير محارب لهم بل هو في أمان منهم فيتمكن من المقام بقدر ما نواه كما يتمكن منه في دار الإسلام ومن أسلم منهم في دار الحرب فلم يأسروه أو لم يعلموا بإسلامه فهو يتم الصلاة أيضاً ما دام في منزله لأنه كان مقيماً في هذا الموضع فلا يصير مسافراً ما لم يرتحل منه‏.‏

وإن سافر مسيرة ثلاثة أيام فقصر الصلاة ثم انتهى إلى مقصده في دار الحرب نوى أن يقيم خمسة عشر يوماً أتم الصلاة لأنه ما لم يتعرض له أهل الحرب فهو يتمكن من القرار في موضعه وهو غير محارب لهم فيكون في حكم المستأمن فيهم‏.‏

قال‏:‏ والأسير من المسلمين في أيديهم إن أقاموا به في موضع يريدون المقام فيه خمسة عشر يوماً فعليه أن يتم الصلاة وإن كان لا يريد المقام معهم بل يكون عازما على الفرار منهم إن تمكن من ذلك لأنه مقهور مغلوب في أيديهم فيكون المعتبر في حقه نيتهم في السفر والإقامة لا نيته بمنزلة عبد الرجل وزوجته في دار الإسلام فإنه يعتبر في حقهما نية المولى والزوج في السفر والإقامة لا نيتهما وكذلك من بعث إليه الخليفة من عماله ليؤتى به من بلد إلى بلد لا تعتبر نيته في السفر والإقامة لأنه غير متمكن من تنفيذ قصده فمن بعثه الخليفة لا يمكنه من ذلك فكذلك حال الأسير في أيديهم‏:‏ وإن كن الأسير انفلت منهم وهو مسافر فوطن نفسه على إقامة شهر في غار أو غيره قصر الصلاة لأنه محارب لهم فلا تكون دار الحرب موضع الإقامة في حقه حتى ينتهي إلى دار الإسلام‏.‏

وكذا الذي أسلم في دارهم إذا علموا بإسلامه فطلبوه فخرج هارباً يريد مسيرة ثلاثة أيام فهو مسافر وإن أقام في موضع مختفياً شهراً منهم أو أكثر لأنه صار محارباً لهم حين طلبوه ليقتلوه‏.‏

وكذلك المستأمن إذا غدروا به فطلبوه ليقتلوه لأنه صار محارباً لهم وحال هؤلاء كحال من دخل دار الحرب متلصصاً فنوى الإقامة في موضع شهراً فإنه يكون مسافراً ونيته الإقامة لغو لأنه في غير موضع إقامته‏.‏

قال‏:‏ وإن كان واحد من هؤلاء مقيماً بمدينة من دار الحرب فلما طلبوه ليقتلوه اختفى فيها منهم فإنه يتم الصلاة أيضاً لأنه كان مقيماً في هذه البلدة فلا يصير مسافراً ما لم يخرج منها وكذلك إن خرج منها يريد مسيرة يوم أو يومين لأن المقيم لا يصير مسافراً بنية الخروج إلى ما دون مدة السفر بمنزلة الرجل يخرج إلى ضيعته في بعض القرى‏.‏

وهؤلاء بمنزلة جيش دخلوا دار الحرب من مسيرة يوم من منازلهم ولا يريدون أن يسيروا في أرض العدو إلا يوماً آخر فلقوا العدو وقاتلوهم فإنهم يكملون الصلاة وإن طال مقامهم لأنهم لم يكونوا مسافرين في دار الحرب فبالقتال لا يصيرون مسافرين‏.‏

ألا ترى أن أهل مدينة من أهل الحرب لو أسلموا فقاتلهم أهل الحرب وهم مقيمون في مدينتهم فإنهم يتمون الصلاة وكذلك إن غلبهم أهل الحرب على مدينتهم فخرجوا منها يريدون مسيرة يوم فإنهم يتمون الصلاة وإن خرجوا منها يريدون مسيرة ثلاثة أيام فقد صاروا مسافرين يقصرون الصلاة فإن أقاموا في موضع من دار الحرب عند مدينتهم قصروا الصلاة أيضاً لأنهم محاربون ومن حصل مسافراً في دار الحرب محارباً للمشركين لا يصير مقيماً بنية الإقامة في موضع منها‏.‏

وإن رجعوا إلى مدينتهم ولم يكن المشركون عرضوا لها فعادوا فيها أتموا الصلاة لأن مدينتهم كانت دار الإسلام حين أسلموا فيها وكانت موضع إقامة لهم فما لم يعرض لها المشركون فهي وطن أصلي في حقهم فيتمون الصلاة إذا وصلوا إليها‏.‏

وإن كان المشركون غلبوا عليها وأقاموا فيها ثم إن المسلمين رجعوا إليها وخلا المشركون عنها فإن كانوا اتخذوها داراً ومنزلاً يبرحونها فصارت دار الإسلام يتمون فيها الصلاة لأنها صارت في حكم دار الحرب حين غلب المشركون عليها فحين ظهر المسلمون عليها وعزموا على المقام فقد صارت دار الإسلام ونية المسلم الإقامة في دار الإسلام صحيحة‏.‏

وإن كانوا لا يريدون أن يتخذوها داراً ولكن يقيمون فيها شهراً ثم يخرجون إلى دار الإسلام قصروا الصلاة لأن هذا الموضع من جملة دار الحرب وهم محاربون لهم فلا يصيرون مقيمين بنية الإقامة فيها‏.‏

وكذلك عسكر من المسلمين دخلوا دار الحرب فغلبوا على مدينة فإن اتخذوها داراً فقد صارت دار الإسلام يتمون فيها الصلاة فإن لم يتخذوها داراً ولكن هم أرادوا الإقامة بها شهراً أو أكثر فإنهم يقصرون الصلاة لأنها دار الحرب وهم فيها محاربون فهذا التخريج بهذه الصفة على قولهما لأنه بمجرد ظهور أحكام الشرك في بلدة عند غلبة أهل الحرب عليها تصير دار حرب فإما عند أبي حنيفة رحمه الله فيشترط مع هذا أن تكون ملاصقة لدار أهل الشرك وأن لا يبقى فيها مسلم أو ذمي آمنا على نفسه وبيان هذا يأتي في موضعه وذكر بعد هذا باب من يغسل من الشهداء وباب صلاة الخوف في الخطا وقد استقصينا شرح مسائل البابين فيما أمليناه من شرح الزيادات فإنه أعاد تلك المسائل بعينها من غير زيادة ولا نقصان‏.‏

قال رضي الله عنه‏:‏ اعمل بأن أدق مسائل هذا الكتاب وألطفها في أبواب الأمان فقد جمع بين دقائق علم النحو ودقائق أصول الفقه وكان شاور فيها علي ابن حمزة الكسائي رحمه الله تعالى فإنه كان ابن خالته وكان مقدماً في علم النحو وقيل‏:‏ من أراد امتحان حفاظ الرواية من أصحابنا فعليه بباب الأذان من كتاب الصلاة ومن أراد امتحان المتبحرين في الفقه فعليه بأيمان الجامع ومن أراد امتحان المتبحرين في النحو والفقه فعليه بأمان السير‏.‏

قال‏:‏ ثم أمان الرجل الحر المسلم جائز على أهل الإسلام كلهم عدلاً كان أو فاسقاً لقوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم والمراد بالذمة العهد مؤقتاً كان أو مؤبداً وذلك الأمان وعقد الذمة فإن كان اللفظ مشتقاً من الأدنى الذي هو الأقل كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ‏}‏ الفتح‏:‏ 7 فهو تنصيص على صحة أمان الواحد وإن كان مشتقاً من الدنو وهو القرب كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى‏}‏ النجم‏:‏ 9 فهو دليل على صحة أمان المسلم الذي يسكن الثغور فيكون قريباً من العدو وإن كان مشتقاً من الدناءة فهو تنصيص على صحة أمان الفاسق لأن صفة الدناءة به تليق من المسلمين ثم الحاصل أن في الأمان معنى النصرة فإن قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا‏}‏ الفتح‏:‏ 1 نزلت في صلح الحديبية وقد سماه الله فتحاً مبيناً نصراً عزيزاً وكل مسلم أهل أن يقوم بنصرة الدين ويقوم في ذلك مقام جماعة المسلمين ألا ترى أنه إذا تحقق النصرة منه بالقتال على وجه يدفع شر المشركين سقط به الفرض عن جماعتهم فكذلك إذا وجد منهم النصرة بعقد الأمان والصلح كان ذلك كالموجود من جماعة المسلمين‏.‏

ولهذا يصح أمان الحرة المسلمة لأنها من أهل النصرة إلا أنه ليس لها بنية صالحة لمباشرة القتال والأمان نصرة بالقول وبنيتها تصلح لذلك ألا ترى أنها تجاهد بمالها لأن مالها يصلح لذلك كمال الرجل‏.‏

والدليل على صحة أمانها أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها وعن أم هانئ قالت‏:‏ أجرت حموين لي من المشركين أي قريبين فدخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فتغلت عليهما ليقتلهما‏.‏

أي قصدهما فجأة وقال‏:‏ أتجيرين المشركين فقلت‏:‏ والله لا تقتلهما حتى تبدأ بي قبلهما ثم خرجت وقلت‏:‏ أغلقوا دونه الباب فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسف الثنية فلم أجده ووجدت فاطمة فقلت‏:‏ ماذا لقيت من ابن أمي علي أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما فكانت أشد علي من زوجها إلى أن طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رهجة الغبار فقال‏:‏ مرحباً بأم هانئ فاخته فقلت‏:‏ يا رسول الله ماذا لقيت من ابن أمي علي ما كدت أنفلت منه أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما فقال‏:‏ ما كان له ذلك فقد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت ثم أمر فاطمة رضي الله عنها فسكبت له غسلاً فاغتسل ثم صلى ثماني ركعات في ثوب واحد يخالف بين طرفيه وذلك ضحى فتح مكة فقد صحح رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها وبين أنه ما كان لعلي أن يتعرض لهما بعد أمانها وقيل في معنى قوله‏:‏ ثمان ركعات أن ركعتين منهما للشكر على فتح مكة وركعتين كان يفتتح صلاة الضحى بهما على ما رواه عمارة ابن رويبة فأربعاً كان يواظب عليها في صلاة الضحى على ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه ومعنى قوله‏:‏ ‏"‏ مخالفاً بين طرفيه ‏"‏‏:‏ أي متوشحاً به من طرفيه فيكون فيه بيان أنه لا بأس بالصلاة في ثوب واحد متوشحاً به‏.‏

وعن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ إن كانت المرأة لتأجر على المسلمين فيجوز ذلك أي تعطي الأمان للمشركين وفي رواية‏:‏ لتأخذ أي تأخذ العهد بالصلح والأمان وهكذا قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ إن كانت المرأة لتأخذ على المسلمين فأما العبد المسلم فلا أمان له إلا أن يكون يقاتل وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله وفي الرواية الأخرى وهو قول محمد رحمه الله‏:‏ أمانه صحيح قاتل أو لم يقاتل لأنه مسلم من أهل نصرة الدين بما يملكه والأمان نصرة بالقول وهو مملوك له بخلاف مباشرة القتال فإنه نصرة الدين بما لا يملكه من نفسه ومنافعه ولأنه بالأمان يلتزم حرمة التعرض لهم في نفوسهم وأموالهم ثم يتعدى ذلك إلى غيره والعبد في مثل هذا كالحر أصله الشهادة على رؤية هلال رمضان لكن أبا حنيفة رحمه الله يقول‏:‏ معنى النصرة في الأمان مستور فلا يتبين ذلك إلا لمن يكون مالكاً للقتال والعبد المشغول بخدمة المولى غير مالك للقتال فلا تظهر الخيرية أمانة بخلاف ما إذا كان مقاتلاً بإذن المولى فإنه يظهر عنده الخيرية في الأمان حتى يتمكن من مباشرة القتال فيكون تصرفه واقعاً على وجه النظر للمسلمين وإنما يكون بالأمان ملتزماً للكف عن قتالهم إذا كان متمكناً من القتال فأما إذا لم يكن متمكناً من ذلك كان ملزماً غيره ابتداء لا ملتزماً وليس لعبد هذه الولاية‏.‏

قال‏:‏ والأمة كالعبد في ذلك واستدل محمد رحمه الله فيه بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال‏:‏ أمان المرأة والعبد والصبي جائز وتأويل هذا عند أبي حنيفة رحمه الله في العبد المقاتل‏.‏

وبحديث الفضل الرقاشي قال‏:‏ حضرنا أهل حصن فكتب عبد أماناً في سهم ثم رمى به إلى العدو فكتبنا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب‏:‏ إنه رجل من المسلمين وإن أمانه جائز وإنما علل لصحة أمانة بكونه مسلماً لا بكونه مقاتلاً ولكن أبا حنيفة رحمه الله قال‏:‏ هذا العبد كان مقاتلاً لأن الرمي بالسهم من عمل المقاتلين وأمان المقاتل إنما يصح عنده لكونه رجلاً من المسلمين وفي المغازي ذكر أنه كتب على سهمه بالفارسية‏:‏ مترسيد فأما أمان الذمي فباطل وإن كان يقاتل مع المسلمين بأمرهم لأنه مائل إليهم للموافقة في الاعتقاد فالظاهر أنه لا يقصد بالأمان النظر للمسلمين ثم هو ليس من أهل نصرة الدين والاستعانة بهم في القتال عند الحاجة بمنزلة الاستعانة بالكلاب أو كأن ذلك للمبالغة في قهر المشركين حيث يقاتلهم بمن يوافقهم في الاعتقاد وهذا المعنى لا يتحقق في تصحيح أمانهم بل في إبطاله‏.‏

قال‏:‏ فأما أمان الغلام الذي راهق من المسلمين أو كان من الكافرين فعقل الإسلام ووصفه فغير جائز على المسلمين في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول محمد رحمه الله جائز لأنه يصح إسلامه إذا كان عاقلاً ومن صح إيمانه صح أمانه بعد إيمانه وهذا لأن الأمان نصرة الدين بالقول فإذا اعتبر قول مثله في أصل الدين فكذلك يعتبر في نصرة الدين وأبو حنيفة رحمه الله يقول‏:‏ في معنى الخيري والنظر في الأمان إنه مستور لا يعرفه إلا من اعتدل حاله واعتدال الحال لا يكون قبل البلوغ ثم هو لا يملك القتال بنفسه وإنما يتبين الخيرية في الأمان لمن يكون مالكاً للقتال مباشراً له ولم يذكر قول أبي حنيفة فيما إذا كان الصبي مأذوناً في القتال وكان أبو بكر الرازي يقول‏:‏ يصح أمانه لكونه متمكناً من مباشرة القتال بمنزلة العبد وغيره من مشايخنا كان يقول‏:‏ لا يصح أمانه لأنه ليس بمعتدل الحال فلا يتم معنى النظر للمسلمين في أمانه والله الموفق‏.‏

M0ا الأمان ثم يصاب المشركون بعد أمانهم قال‏:‏ رجل من المسلمين أمن قوماً من المشركين فأغار عليهم قوم آخرون من المسلمين فقتلوا الرجال وأصابوا النساء والأموال فاقتسموها وولد منهن لهم أولاد ثم علموا بالأمان فعلى القاتلين دية القتلى لأن أمان الواحد نافذ في حق جماعة المسلمين فيظهر به العصمة والتقوم في نفوسهم وأموالهم والقتل من القاتلين كان بصفة الخطأ حين لم يعلموا بالأمان أو بصفة العمد إن علموا بالأمان ولكن مع قيام الشبهة المبيحة وهي المحاربة فتجب الدية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً‏}‏ النساء‏:‏ 92 والنساء والأموال مردودة عليهم لبطلان الاسترقاق بعصمة المحل ويغرمون للنساء أصدقهن لأجل الوطء بشبهة فقد ظهر أنهم باشروا الوطء في غير الملك وسقط الحد بشبهة فيجب المهر والأولاد أحرار لأنهم انفصلوا من حرائر فكانوا أحرار الأصل بغير قيمة مسلمين تبعاً لآبائهم لأن الولد يتبع خير الأبوين ديناً‏.‏

وذكر فيه حديث المهلب ابن أبي صفرة قال‏:‏ حاصرنا مدينة بالأهواز على عهد عمر رضي الله عنه ففتحناها وقد كان صلحاً لهم من عمر فأصبنا نساء فوقعنا عليهن فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فكتب إلينا أن خذوا أولادكم وردوا إليهم نساءهم وعن عطاء قال‏:‏ كانت تستر فتحت صلحاً وهو اسم موضع فكفر أهلها فغزاهم المهاجرون فسبوهم وأصاب المسلمون نساءهم حتى ولدن لهم فأمر عمر رضي الله عنه برد النساء على حريتهن وفرق بينهن وبين ساداتهن فتأويل هذا أن القوم حين كفروا لم يغلبوا على الدار ولم يجر فيها حكم الشرك ولم تصر دارهم دار حرب فلهذا لم ير عمر عليهم شيئاً وعن شويس قال‏:‏ لقد خشيت أن يكون من صلبي بميسان رجال ونساء قالوا‏:‏ وما ذاك يا فلان قال‏:‏ كنت جئت بجارية فنكحتها زماناً ثم جاء كتاب عمر فرددتها إذ رد الناس وإنما خاف من ذلك لأنه ردها قبل أن تحيض عنده وما كان ينبغي له أن يردها حتى تحيض ثلاث حيض لأنها حرة وقد وطئها بشبهة فعليها أن تعتد بثلاث حيض وليس عليه أن يردها حتى تعلم أنها حامل أو غير حامل‏.‏

وعن أبي جعفر محمد بن علي قال‏:‏ لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع خالد ببني جذيمة رفع يديه حتى روئي بياض إبطيه وهو يقول‏:‏ ‏"‏ اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ثلاث مرات ‏"‏ ثم دعا علياً رضي الله عنه فقال‏:‏ خذ هذا المال فاذهب به إلى بني جذيمة واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك يعني ما كان بينهم وبين أهل مكة من الخماشات والذحول في الجاهلية قال‏:‏ فدلهم ما أصاب خالد فخرج إليهم علي بذلك المال فودى لهم كل ما أصاب خالد منهم حتى إنه أدى لهم ميلغة الكلب حتى إذا لم يبق شيء يطلبونه وبقيت مع علي بقينة من المال قال علي رضي الله عنه‏:‏ هذه البقية من المال لكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أصاب خالد مما لا يعلمه ولا تعلمونه فأعطاهم ذلك ثم انصرف علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر وفيه دليل أن المسلمين إذا أصابوا شيئاً مما كان في أمان أو موادعة فإنه يؤدى لهم كل شيء أصيب لهم من دم أو مال وكان خالد أصاب ذلك خطأ وكانت عاقلته رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن قوته ونصرته كانت به ولهذا أدى ذلك بنفسه أو تبرع بأداء ذلك من عنده وهذا هو الأظهر فإن تحمل العقل في الدماء لا في الأموال وما أطلق من لفظ الدية في بذل المال إنما أطلقه على وجه المجاز والاتباع لبذل النفس قاسم الدية حقيقة إنما يتناول بذل النفس ولكن باعتبار معنى الأداء يجوز إطلاقه على بذل المال مجازاً وفيه دليل جواز الصلح عن الحقوق المجهولة على مال معلوم فإنه قال‏:‏ هذا لكم مما لا يعلمه ولا تعلمونه واستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه‏.‏

قال‏:‏ وأيما عسكر من المسلمين حاصروا حصناً أو مدينة فأسلم بعضهم كان آمناً على نفسه وماله وأولاده الصغار لقوله عليه السلام ‏"‏ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ‏"‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ‏}‏ التوبة‏:‏ 5 فأما زوجته وأولاده الكبار إن لم يسلموا معه فهم فيء لأن الصغار صاروا مسلمين تبعاً له فأما الكبار ما صاروا مسلمين بإسلامه وزوجته كذلك فهم بمنزلة غيرهم من أهل الحرب واستدل عليه بحديث الزهري‏:‏ أن ثعلبة وأسيد ابني سعية وأسيد بن عبيد قالوا‏:‏ لبني قريظة حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محاصراً لهم‏:‏ يا معشر بني قريظة أسلموا تأمنوا على دمائكم وأموالكم هذا والله الذي كان أخبركم به بنو الهيبان قالوا‏:‏ ليس به وقصة الهيبان مذكورة في المغازي أنه كان حبراً من أحبار الشام قدم على يهود يثرب قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضره الموت فجمعهم فقال‏:‏ أتدرون لم تركت أرض الخمر والخمير يعني الخصب من أرض الشام فنزلت بأرض الجدب والشدة قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ لأجل نبي قد أظل زمانه وهذا مهاجره وكنت أرجو أن أدركه فمن يدركه منكم فليقرئه مني السلام وليؤمن به فإنه خاتم النبيين وخير الخلائق أجمعين قال‏:‏ فلما كانت الليلة التي في صبيحتها نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ابنا سعية وابن عبيد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وأمنوا على دمائهم وأموالهم وفي هذا دليل على أن المحاصر يأمن بالإسلام كما يأمن غير المحاصر‏.‏

وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ أيما رجل من العدو أشار إليه رجل بأصبعه‏:‏ إنك إن جئت قتلتك فجاءه فهو آمن فلا يقتله وبعد هذا نأخذ فنقول‏:‏ إذا أشار إليه بإشارة الأمان وليس يدري الكافر ما يقول فهو آمن لأنه بالإشارة دعاه إلى نفسه وإنما يدعى بمثله الآمن لا الخائف وما تكلم به‏:‏ إن جئت قتلتك لا طريق للكافر إلى معرفته بدون الاستكشاف منه ولا يتمكن من ذلك قبل أن يقرب منه فلا بد من إثبات الأمان بظاهر الإشارة وإسقاط ما وراء ذلك للتحرز عن الغدر فإن ظاهر إشارته أمان له وقوله‏:‏ إن جئت قتلتك بمعنى النبذ لذلك الأمان فما لم يعلم بالنبذ كان آمناً عملا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء‏}‏ الأنفال‏:‏ 58 أي‏:‏ سواء منكم ومنهم في العلم بالنبذ وأشار إلى المعنى فيه فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ‏}‏ ومبنى الأمان على التوسع حتى يثبت بالمحتمل من الكلام فكذلك يثبت بالمحتمل من الإشارة‏.‏

وبيان هذا في حديث الهرمزان فإنه لما أتي به عمر رضي الله عنه قال له‏:‏ تكلم قال‏:‏ أتكلم بكلام حي أم كلام ميت فقال عمر‏:‏ كلام حي فقال‏:‏ كنا نحن وأنتم في الجاهلية لم يكن لنا ولا لكم دين فكنا نعدكم معشر العرب بمنزلة الكلاب فإذا أعزكم الله بالدين وبعث رسوله منكم لم نطعكم فقال عمر‏:‏ أتقول هذا وأنت أسير في أيدينا اقتلوه فقال‏:‏ أفيما علمكم نبيكم أن تؤمنوا أسيراً ثم تقتلوه فقال متى أمنتك فقال‏:‏ قلت لي تكلم بكلام حي والخائف على نفسه لا يكون حياً‏.‏

فقال عمر‏:‏ قاتله الله أخذ الأمان ولم أفطن به فهذا دليل على التوسع في باب الأمان‏.‏

قال‏:‏ فإذا أمن الإمام قوماً ثم بدا له أن ينبذ إليهم فلا بأس بذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء‏}‏ الأنفال‏:‏ 58 لأن الأمان كان باعتبار النظر فيه للمسلمين ليحفظوا قوة أنفسهم وذلك يختص ببعض الأوقات فإذا انقضى ذلك الوقت كان النظر والخيرية في النبذ إليهم ليتمكنوا من قتالهم بعد ما ظهرت لهم الشوكة والنبذ لغة هو الطرح قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ‏}‏ آل عمران‏:‏ 187‏.‏

وإنما يتحقق طرح الأمان بإعلامهم وإعادتهم إلى ما كانوا عليه قبل الأمان حتى إن كانوا لم يبرحوا حصنهم فلا بأس بقتالهم بعد الإعلام لأنهم في منعتهم فصاروا كما كانوا‏.‏

وإن نزلوا وصاروا في عسكر المسلمين فهم آمنون حتى يعود وإلى مأمنهم كما كانوا لأنهم نزلوا بسبب الأمان فلو عمل النبذ في رفع أمانهم قبل أن يصيروا ممتنعين كان ذلك خيانة من المسلمين والله لا يحب الخائنين‏.‏

ودل على هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ‏}‏ التوبة‏:‏ 6 واستدل عليه بحديث معاوية فإنه كان بينه وبين الروم عهد فكان يشير نحو بلادهم كأنه يقول‏:‏ حتى نفي بالعهد ثم نغير عليهم يعني أن العهد كان إلى مدة ففي آخر المدة سار إليهم ليقرب منهم حتى يغير عليهم مع انقضاء المدة‏.‏

قال‏:‏ وإذا شيخ يقول‏:‏ الله أكبر وفاء لا غدر وفاء لا غدر وكان هذا الشيخ عمرو بن عنبسة السلمي تبين له بما قال أن في صنعه معنى الغدر لأنهم لا يعلمون أنهم يدنو منهم يريد غارتهم وإنما يظنون أنه يدنو منهم للأمان‏.‏

فقال معاوية‏:‏ ما قولك‏:‏ وفاء لا غدر قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ أيما رجل بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى يمضي أمدها وينبذ إليهم على سواء وفي هذا دليل وجوب التحرز عما يشبه الغدر صورة ومعنى والله الموفق‏.‏

قال‏:‏ وإذا دخل المسلم دار الحرب بغير أمان فأخذه المشركون فقال لهم‏:‏ أنا رجل منكم أو جئت أريد أن أقاتل معكم المسلمين فلا بأس بأن يقتل من أحب منهم ويأخذ من أموالهم ما شاء لأن هذا الذي قال ليس بأمان منه لهم إنما هو خداع باستعمال معاريض الكلام فإن معنى قوله‏:‏ أنا رجل منكم أي‏:‏ آدمي من جنسكم ومعنى قوله‏:‏ جئت لأقاتل معكم المسلمين أي‏:‏ أهل البغي إن نشطتم في ذلك أو أضمر في كلامه ‏"‏ عن أي‏:‏ جئت لأقاتل معكم دفعاً عن المسلمين ولو كان هذا اللفظ أماناً منه لم يصح لأنه أسير مقهور في أيديهم فكيف يؤمنهم إنما حاجته إلى طلب الأمان منهم وليس في هذا اللفظ من طلب الأمان شيء‏.‏

ثم استدل عليه بالآثار فمن ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن أنيس سرية وحده إلى خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي إلى نخلة أو بعرنة وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجمع له أي‏:‏ جمع الجيش لقتاله وأمره بقتله وقال‏:‏ انتسب إلى خزاعة وإنما أمره بذلك لأن ابن سفيان كان منهم فقال‏:‏ يا رسول الله إني لا أعرفه فقال‏:‏ إنك إذا رأيته هبته وكنت لا أهاب الرجال فأقبلت عشيشية الجمعة وهو تصغير العشية فحانت الصلاة فخشيت أن أصلي فأعرف فأومأت إيماء وأنا أمشي وبه يستدل أبو يوسف على أن المنهزم ما شياً يومئ ثم يعيد‏.‏

قال‏:‏ حتى أدفع إلى راعية له فقلت‏:‏ لم أنت فقالت‏:‏ لا بن سفيان فقلت‏:‏ أين هو قالت‏:‏ جاءك الأن فلم أنشب أن جاء يتوكأ على عصا أي لم ألبث فلما رأيته وجدتني أقطر وفي رواية أفكل أي‏:‏ ترتعد فرائصي هيبة منه فجاء فسلم ثم نسبني فانتسبت إلى خزاعة وذكر في الطريق الآخر‏:‏ كنت أعتزي إلى جهينة أي أنتسب إليهم ثم قلت له‏:‏ جئت لأنصرك وأكثرك وأكون معك ومعناه لأنصرك بالدعاء إلى الإسلام وبالمنع عن المنكر وهو قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقيل‏:‏ كيف ينصره ظالماً قال‏:‏ يكفه عن ظلمه ‏"‏ وقوله‏:‏ أكثرك أي‏:‏ أجعلك إرباً إرباً فأكثر أجزاءك إن لم تؤمن وأكون معك إلى أن أقتلك‏.‏

فقال للجارية‏:‏ احلبي فحلبت ثم ناولتني فمصصت شيئاً يسيراً ثم دفعته إليه فعب فيه كما يعب الجمل حتى إذا غاب أنفه في الرغوة صوبته وقلت للجارية‏:‏ لئن تكلمت لأقتلنك وذكر بعد هذا‏:‏ فمشيت معه حتى استحلى حديثي ثم أريته أني وطئت على غصن شوك فشيكت رجلي فقال‏:‏ إلحق يا أخا جهينة فجعلت أتخلف ويستلحقني فلحقته وهو مولي فضربت عنقه وأخذت برأسه ثم خرجت أشتد حتى صعدت الجبل فدخلت غاراً وأقبل الطلب وفي رواية‏:‏ خرجت الخيل توزع في كل وجه في الطلب وأنا متمكن في الجبل فأقبل رجل معه إداوة ونعلاه في يده وكنت حافياً فجلس يبول فوضع إداوته ونعليه وضربت العنكبوت على الغار أو قال‏:‏ خرجت حمامة فقال لأصحابه ليس فيه أحد فنزل وترك نعليه و إداوته فخرجت ولبست النعلين وأخذت الإداوة فكنت أسير الليل وأتوارى بالنهار حتى جئت المدينة فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فلما رآني قال‏:‏ أفلح الوجه وهذا لفظ يتكلم به العرب خطاباً لمن نال المراد وفاز بالنصرة فقلت‏:‏ وجهك الكريم يا رسول الله فأخبرته خبري فدفع إلي عصا وقال‏:‏ ‏"‏ تخصر بهذه يا ابن أنيس في الجنة فإن المتخصرين في الجنة قليل ‏"‏ قيل معناه‏:‏ تحكم بها في الجنة كما يتحكم الملوك بما يشاءون وقيل معناه‏:‏ ليكن هذا علامة بيني وبينك يوم القيامة حتى أجازيك على صنيعك بسؤال الزيادة في الدرجة لك فإن مثلك ممن يكون بينه وبين نبيه علامة فيجازيه على صنيعه في الجنة‏.‏

قيل‏:‏ فكانت عند ابن أنيس حتى إذا مات أمر أهله أن يدرجوها في كفنه ومراده من القصة الاستدلال بقوله‏:‏ جئت لأنصرك وأكثرك فإن ذلك لم يكن أماناً منه‏.‏

وذكر حديث يزيد بن رومان قال‏:‏ لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوم كعب بن الأشرف وإعلانه بالشر وقوله الأشعار وكعب هذا من عظماء اليهود بيثرب وهو المراد بالطاغوت المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوت‏}‏ِ

النساء‏:‏ 60 وكان يستقصي في إظهار العداوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة بعد حرب بدر وجعل يرثي قتلاهم ويهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشعاره ويحثهم على الانتقام فمن ذلك القصيدة التي أولها‏:‏ فلما رجع إلى المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من لي بابن الأشرف فإنه قد آذاني فقال محمد بن مسلمة‏:‏ أنا لك يا رسول الله وأنا أقتله قال‏:‏ فافعل فمكث ابن مسلمة أياماً لا يأكل ولا يشرب فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ تركت الطعام والشراب فقال‏:‏ يا رسول الله قلت لك قولاً فلا أدري أفي به أم لا فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنما عليك بالجهد ‏"‏ ومعنى هذا أنه ترك الإصابة من اللذات قبل أن يفي بما وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا ينبغي لمن قصد إلى خير أن يقدمه على الإصابة من اللذات إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين له أن نفسه لا تتقوى إلا بالطعام والشراب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ‏}‏ الأنبياء‏:‏ 8 وأن عليه الجهد بالوفاء بالوعد لا غير‏.‏

قال‏:‏ فاجتمع في قتله محمد وأناس من الأوس منهم عبادة بن بشر بن وقش وأبو نائلة سكان بن سلامة بن وقش والحارث بن أوس وأبو عبس بن جبر فقالوا‏:‏ يا رسول الله نحن نقتله فائذن لنا فلنقل فإنه لا بد لنا منه أي‏:‏ نخدعه باستعمال المعاريض وإظهار النيل منك قال‏:‏ فقولوا فخرج إليه أبو نائلة وكان أخاه من الرضاعة فتحدث معه وتناشد الأشعار ثم قال أبو نائلة كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء يعني النبي ومراده من ذكر البلاء النعمة فالبلاء يذكر بمعنى النعمة كما يذكر بمعنى الشدة فإنه من الابتلاء وذلك يكون بهما كما قالت الصحابة‏:‏ ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر وقيل في تأويل قوله تعالى ‏{‏وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏ البقرة‏:‏ 49 أي‏:‏ في إنجائكم من فرعون وقومه نعمة عظيمة وقيل‏:‏ أي في ذبحه أبناءكم واستحيائه نساءكم محنة عظيمة ثم قال‏:‏ حاربتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وتقطعت السبل عنا حتى جهدت الأبدان وضاع العيال وأخذنا بالصدقة ولا نجد ما نأكل قال كعب‏:‏ قد والله كنت أحدثك بهذا يا ابن سلامة‏:‏ إن الأمر سيصير إلى هذا قال سلكان‏:‏ ومعي رجال من أصحابي على مثل رأيي وقد أردت أن آتيك بهم لنبتاع منك طعاماً وتمراً وتحسن في ذلك إلينا ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة قال كعب‏:‏ أما إن رفافي تتقصف تمراً من عجوة يغيب فيها الضرس والرفاف‏:‏ جمع الرف وهو الموضع الذي يجمع فيه التمر شبه الخنبق وقوله‏:‏ تتقصف أي‏:‏ تتكسر من كثرة ما فيها من التمر ووصف جودتها بقوله يغيب فيها الضرس‏.‏

قال‏:‏ أما والله يا أبا نائلة ما كنت أحب أن أرى هذه الخصاصة يعني شدة الحاجة وإن كنت لمن أكرم الناس علي فماذا ترهنون أترهنونني أبناءكم ونساءكم قال‏:‏ لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا ولكنا نرهنك من الحلقة ما ترضى به يا كعب قال‏:‏ إن في الحلقة لوفاء يعني السلاح وإنما قال ذلك سلكان كيلا ينكرهم إذا جاءوا إلى السلاح‏.‏

فرجع أبو نائلة من عنده على ميعاد فأتى أصحابه وأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسوا ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء فأخبروه فمشى معهم حتى أتى البقيع ثم وجههم وقال‏:‏ امضوا على ذكر الله وعونه ثم دعا لهم وذلك في ليلة مقمرة مثل النهار فمضوا حتى أتوه فلما انتهوا إلى حصنه هتف به أبو نائلة وكان ابن الأشراف حديث عهد بعرس فوثب فأخذت امرأته بناحية ملحفته فقالت‏:‏ أين تذهب إنك رجل محارب ولا ينزل مثلك في مثل هذه الساعة قال‏:‏ إنما هو أخي أبو نائلة والله لو وجدني نائماً ما أيقظني ثم ضرب بيده الملحفة فنزل وهو يقول‏:‏ لو دعي الفتي لطعنة لأجابا ثم نزل إليهم فحياهم وتحدثوا ساعة ثم انبسط إليهم فقالوا‏:‏ ويحك يا ابن الأشرف هل لك أن نمشي إلى شرج العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا فقال‏:‏ نعم فخرجوا يتمشون فلما توجهوا قبل الشرج أدخل أبو نائلة يده في رأس كعب وقال‏:‏ ويحك يا ابن الأشرف ما أطيب عطرك هذا ثم مشى ساعة فعاد بمثلها حتى إذا اطمأن إليه أخذ بقرون رأسه وقال لأصحابه‏:‏ اقتلوا عدو الله فضربوه بأسيافهم فالتفت عليه فلم تغن شيئاً يعين رد بعضها بعضاً قال محمد بن مسلمة‏:‏ فذكرت مغولاً كان في سيفي وهو يشبه الخنجر فانتزعته فوضعته في سرته ثم تحاملت عليه فغططته أي غيبته فيه حتى انتهى إلى عانته فصاح عدو الله صيحة ما بقي أطم من آطام اليهود إلا أوقدت عليه نار وهذه عادة اليهود يوقدون النار بالليل عند الفزع قال ابن سنينة يهودي من يهود بني حارثة‏:‏ إني لأجد ريح دم بيثرب مسفوح وذكر في المغازي أنه كان بينه وبين ذلك الموضع مقدار فرسخ قال‏:‏ وقد أصاب بعض القوم الحارث بن أوس بسيف وهم يضربون كعباً فكلمه في رجله أي جرحه فلما فرغوا منه خرجوا يشتدون حتى أخذوا على بني أمية ثم على بني قريضة ثم على بعاث حتى إذا كانوا بحرة العريض وهذه أسماء الواضع نزف الحارث الدم يعني كثر سيلان الدم من جراحته فعطفوا عليه أي رحموه أو حملوه على أعناقهم حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فلما أتوا البقيع كبروا وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي فلما سمع تكبيرهم عرف أنهم قتلوه ثم أتوا يصاحبهم الحارث بن أوس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتفل على جرحه فلم يؤذه وأخبروه بخبر عدو الله ثم رجعوا إلى أهلهم فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ‏"‏ وإنما قال ذلك لئلا يتجمعوا في كل موضع للتحدث بما جرى والتدبير فيه وهذا من الحزم والسياسة‏.‏

قال‏:‏ فخافت اليهود ولم يخرج عظيم من عظمائهم ولم ينطقوا بشيء وخافوا أن يبيتوا كما بيت ابن الأشرف وكان ابن سنينة من يهود بني حارثة وكان حليفاً لحويصة بن مسعود وكان أخوه محيصة قد أسلم فغدا محيصة على ابن سنينة فقتله فجعل حويصة يضرب محيصة وكان أسن منه ويقول‏:‏ أي عدو الله قتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله لأنه كان ينفق عليهما فقال محيصة‏:‏ والله لو أمرني بقتلك الذي أمرني بقتله لقتلتك فقال له‏:‏ لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني قال‏:‏ نعم قال حويصة‏:‏ والله إن ديناً يبلغ منك هذا لدين معجب فأسلم حويصة يومئذ وأنشأ محيصة يقول‏:‏ يلوم ابن أمي لو أمرت بقتله لطبقت دفراه بأبيض قاضب حسام كلون الملح أخلص صقله متى ما أصوبه فليس بكاذب وما سرني أني قتلتك طائعاً ولو أن لي ما بين بصري ومارب ثم أعاد هذا الحديث برواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما من وجه آخر‏:‏ أن محمد بن مسلمة هو الذي أتى ابن الأشرف فقال‏:‏ يا كعب قد جئتك لحاجة قال‏:‏ مرحباً بحاجتك قال‏:‏ جئتك استسلفك تمراً قال‏:‏ ما بغيتكم إلى مسألة التمر وإنما قال ذلك لأنهم كانوا يجدون في الجاهلية ألف وسق فقال محمد‏:‏ إن هذا الرجل لم يدع عندنا شيئاً وأصحابه وأراد به لم يدع عندنا شيئاً مما كان يضرنا من أمور الجاهلية أو شيئاً من الشرك أو شيئاً مما يحتاج إليه من امور الدين والدنيا إلا هدنا إليه‏.‏

قال كعب‏:‏ الحمد لله الذي أراك النصرة فانظر حاجتك ولكن لا بد من رهن قال‏:‏ أرهنك درعي قال‏:‏ لعلها درع أبيك الزغباء قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فائت بمن أحببته وخذ حاجتك قال‏:‏ فإني آتيك في خمر الليل أي في ظلمة الليل والخمر ما وراك‏.‏

فإني أكره أن يرى الناس أني أطلبك أو آتيك في حاجة أو أني احتجت‏.‏

‏.‏

‏.‏

الحديث إلى أن نزل إلى محمد وآنسه شيئاً وحادثه ثم أدخل يده في رأسه وكان جعداً فقال‏:‏ ما أطيب دهنك قال‏:‏ إن شئت أرسلت إليك منه ثم عاد الثانية فقال‏:‏ قد تركت يا محمد أنت وأصحابك هذا يعنى الدهن فلما أن خلل أصابعه في رأسه ضرب بالخنجر سرته الحديث إلى آخره فقد أخبره أنه يأتيه ليستسلفه تمراً ثم قتله ولم يك ذلك منه غدراً فتبين أنه لا بأس بمثله والله الموفق‏.‏