فصل: باب الحرب كيف يعبأ له

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **


  باب القتال في الأشهر الحرم

ذكر عن سليمان بن يسار أنه سئل‏:‏ هل يصلح للمسلم أن يقاتل الكفار في الأشهر الحرم قال‏:‏ نعم وبه نأخذ وكان عطاء يقول‏:‏ لا يحل القتال في الأشهر الحرم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ التوبة‏:‏ 5 ولكنا نقول‏:‏ هذا منسوخ ناسخه قول الله تعالى ‏{‏فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ التوبة‏:‏ 5 يفيد إباحة قتلهم في كل وقت ومكان والمراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ‏}‏ مضى مدة العهد الذي كان لبعضهم لا بيان حرمة القتال في الأشهر الحرم ثم صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا الطائف لست مضين من المحرم ونصب المنجنيق عليها وافتتحها في صفر ونسخ الكتاب بالسنة المشهورة التي تلقاها العلماء بالقبول جائز‏.‏

  باب هجرة الأعراب

وعن الحسن رضي الله عنه قال‏:‏ هجرة الأعراب إذا ضمهم ديوانهم وقد كانت الهجرة فريضة في الابتداء قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ‏}‏ الأنفال‏:‏ 72 وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ثم ادعوهم إلى التحول إلى دار المهاجرين فإن أبوأ فأخبروهم أنهم كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين وليس لهم في الفيء ولا في الغنيمة نصيب ومن مذهب الحسن أنه لم ينسخ هذا الحكم وأن من أسلم من الأعراب فعليه أن يثبت اسمه في ديوان الغزاة ليكون مهاجراً فقد كان المقصود بالهجرة في ذلك الوقت القتال وعلى قول أكثر العلماء رضي الله عنهم فرضية الهجرة انتسخت يوم فتح مكة لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا هجرة بعد الفتح إنما هو جهاد ونية ‏"‏ وقال‏:‏ المهاجر من أمتي من هجر السوء أو قال‏:‏ ما نهى الله عنه‏.‏

وإليه أشار محمد رحمه الله فقال‏:‏ إذا وطن الأعرابي مصراً من أمصار المسلمين فقد خرج من الأعرابية وصار من أهل الأمصار التحق في الديوان أو لم يلحق وإنما شرط أن يتوطن مصراً ليتعلم شرائع الدين فإن تمكن من ذلك في قبيلتة فلا حاجة إلى توطن المصر ولكن إذا تعلم ما يحتاج إليه فقد خرج من الأعرابية يعني ما وصف الله به الأعراب في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ

حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ‏}‏ التوبة‏:‏ 97‏.‏

  باب صلة المشرك

وذكر عن أبي مروان الخزاعي قال‏:‏ قلت لمجاهد‏:‏ رجل من أهل الشرك بيني وبينه قرابة ولي عليه مال أدعه له قال‏:‏ نعم وصله وبه نأخذ فنقول‏:‏ لا بأس بأن يصل المسلم المشرك قريباً كان أو بعيداً محارباً كان أو ذمياً لحديث سلمة بن الأكوع قال‏:‏ صليت الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت مس كف بين كتفي فالتفت فإذا رسول اله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هل أنت واهب لي ابنة أم قرفة قلت‏:‏ نعم فوهبتها له فبعث بها إلى خاله حزن بن أبي وهب وهو مشرك وهي مشركة وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مائة دينار إلى مكة حين قحطوا وأمر بدفع ذلك إلى أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية ليفرقا على فقراء أهل مكة فقبل ذلك أبو سفيان وأبي صفوان وقال‏:‏ ما يريد محمد بهذا إلا أن يخدع شبابنا ولأن صلة الرحم محمود عند كل عاقل وفي كل دين والإهداء إلى الغير من مكارم الأخلاق وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ‏"‏ فعرفنا أن ذلك حسن في حق المسلمين والمشركين جميعاً‏.‏

ثم ذكر عن كعب بن مالك قال‏:‏ قدم عامر بن مالك أخو البراء وهو مشرك فأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم فرسين وحلتين فقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ لا أقبل هيدية مشرك ‏"‏ وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل هدايا المشركين وأنه أهدى مع عمرو بن أمية الضمري إلى أبي سفيان تمر عجوة واستهداه أدماً فقبل هدية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له الأدم وأن نصرانياً أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حريراً يتلألأ فقبل هديته وأن عياض بن حمار المجاشعي أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حريراً يتلألأ فقبل هديته وأن عياض بن حمار المجاشعي أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حريراً يتلألأ فقبل هديته وأن عياض بن حمار المجاشعي أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ أسلمت يا عياض فقال‏:‏ لا قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى نهاني أن أقبل زبد المشركين ‏"‏ أي‏:‏ عطاياهم وذكر الزهري‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زبد المشركين أي‏:‏ عن قبول هديتهم فتأويل ما روي أنه لم يقبل من وجوه‏:‏ أحدها أنه لم يقبل ممن كان يطمع في إيمانه إذا رد هديته ليحمله ذلك على أن يؤمن ثم يقبل هديته أو لم يقبل لأنه كان فيهم من يطالب بالعوض ولا يرضى بالمكافأة بمثل ما أهدى وبيان هذا في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لقد هممت أن لا أقبل هدية الأعراب وفي رواية‏:‏ ‏"‏ لا أقبل الهدية إلا من قرشي أو ثقفي ‏"‏ وأيد هذا ما روي أن عامر بن مالك كان أهدى إليه فرسين قد كان أحدهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقع في أيديهم في بعض الحروب فعوضه رسول الله فوق هديته فجعل يطلب الزيادة حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته‏:‏ ‏"‏ ما بال أقوام يهدون ما نعرفه أنه لنا ثم لا يرضون بالمكافأة بالمثل ‏"‏ وإنما لم يقبل هدية عامر لأن أباه كان أجار سبعين نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قتلهم قومه وهم أصحاب بئر معونة وفي هذا قصة معوفة فلهذا رد رسول الله صلى الله عليه وسلم هديته‏.‏

ثم قال محمد رحمه الله‏:‏ يكره لأمير الجيش أن يقبل هداياهم فإن قبلها فليجعلها فيئاً للمسلمين وتكلموا في معنى هذا اللفظ فقيل‏:‏ هذا ليس بكراهة التحريم ولكن مراده التنزيه لأنه إذا قبل هداياهم لا يأمن أن يتألفهم على ما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ الهدية تذهب وحر الصدر ‏"‏ وقد أمرنا بالغلظة عليهم قال الله تعالى ‏{‏وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً‏}‏ التوبة‏:‏ 123 وقيل‏:‏ المراد به لا يحل له أن يقبلها على أن يختص بها ولكنه يقبلها على أن يجعلها في فيء المسلمين لأنهم أهدوا إليه لمنعته ومنعته بالمسلمين لا بنفسه وكذلك إذا أهدوا إلى قائد من قواد المسلمين بخلاف ما إذا أهدوا إلى مبارز فإن عزته بقوة في نفسه فتسلم له الهدية وأما في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت الهدية له فإن عزته تومنعته لم تكن بالمسلمين قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ المائدة‏:‏ 67 وما كان في حقه توهم الركون بقلبه إذا قبل هداياهم فلهذا قبلها في بعض الأوقات واختلفت الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في جواز قبول الهدية من أمراء الجور فكان ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ومن بعدهم في جواز قبول الهدية من أمراء الجور فكان ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم يقبلان هدية المختار وهكذا نقل عن إبراهيم النخعي وكان أبو ذر وأبو الدراداء رضي الله عنه مائة دينار فجعل يقول‏:‏ هل أهدي إلى كل مسلم مثل هذا فقيل‏:‏ لا فردها وقال‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى‏}‏ المعارج‏:‏ 15 16 وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ للسلطان نصيب من الحلال والحرام فإذا أعطاك شيئاً فخذه فإن ما يعطيه حلال لك وحاصل المذهب فيه أنه إن كان أكثر ماله من الرشوة والحرام لم يحل قبول الجائزة منه ما لم يعلم أن ذلك له من وجه حلال وإن كان صاحب تجارة أو زرع أكثر ماله من ذلك فلا بأس بقبول الجائزة منه ما لم يعلم أن ذلك له من وجه حرام وفي قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدية من بعض المشركين دليل على ما ذكرنا‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏

  باب المبارزة

ذكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وهو يتغنى فقال‏:‏ أتتغنى فقال‏:‏ أخشى أن أموت على فراشي وقد قتلت سبعة وسبعين من المشركين بيدي سوى ما شاركت فيه بالمسلمين وفيه دليل على أنه لا بأس للإنسان أن يتغنى إذا كان وحده ليدفع به الوحشة عن نفسه فإن البراء بن مالك رضي الله عنه كان من زهاد الصحابة رضي الله عنهم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لو أقسم على الله لأبره ‏"‏ ثم كان يتغنى في مرضه حين بقي وحده واستبعد ذلك منه أنس فبين أنه لا يفعل هذا تلهياً ولكن يدفع الوسواس عن نفسه فإنه كان يطمع في الشهادة وخشي أن يموت في مرضه فاستوحش من ذلك وجعل يتغنى فعرفنا أن هذا القدر لا بأس به إنما المكروه ما يكون على سبيل اللهو على ما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أنهاكم عن صوتين أحمقين فاجرين صوت الغناء فإنه مزمار الشيطان وخمش الوجوه وشق الجيوب رنة الشيطان ‏"‏ يعني رفع الصوت عند المصيبة ثم صح أن البراء رضي الله عنه برأ من مرضه ثم استشهد كما كان يطمع‏.‏

  باب من قاتل فأصاب بنفسه

وذكر عن مكحول أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول رجلاً من العدو ليضربه فأخطأ فأصاب رجله فنزف حتى مات فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحابه رضي الله عنهم أشهيد هو قال‏:‏ نعم وأنا عليه شهيد وتأويل الحديث أنه شهيد فيما تناول من الثواب في الآخرة فأما من ابتلي بهذا في الدنيا يغسل ويكفن ويصلى عليه لأن الشهيد الذي لا يغسل من يصير مقتولاً بفعل مضاف إلى العدو وهذا صار مقتولاً بفعل نفسه ولكنه معذور في ذلك لأنه قصد العدو لا نفسه فيكون شهيداً في حكم الآخرة ويصنع به ما يصنع بالميت في الدنيا وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ المبطون شهيد والنفساء شهيد المرأة التي تموت بجمع لم تطمث شهيد ‏"‏ يعنى في أحكام الآخرة لا في أحكام الدنيا ثم اختلفت مشايخنا فيمن تعمد قتل نفسه بحدية أنه هل يصلى عليه فمنهم من قال‏:‏ لا يصلي عليه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من قتل نفسه بحديدة فحديته في يده يجأ بها نفسه في نار جهنم خالداً مخلداً ومن تردى من موضع فهو يتردى في نار جهنم قال رضي الله عنه وكان شيخنا الإمام يقول‏:‏ الأصح عندي أن يصلى عليه وأن تقبل توبته إن كان تاب في ذلك الوقت لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ‏"‏ وتأويل الحديث فيمن استحل ذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ‏"‏ قال رضي الله عنه وسمعت القاضي الإمام علي السغدي يقول‏:‏ الأصح وذكر عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال‏:‏ قلت يا رسول الله‏!‏ زعم أسيد بن حضير أن عامر بن سنان بن الأكوع حبط عمله وكان ضرب يهودياً فقطع رجله ورجع السيف على عامر بن سنان بن الأكوع حبط عمله وكان ضرب يهودياً فقطع رجله ورجع السيف على عامر فعقره فمات منها فقال‏:‏ كذب من قال ذلك إن له لأجرين إنه جاهد مجاهد وإنه ليعوم في الجنة عوم الدعموص وبه نقول إنه معذور فيما أصيب به مثاب على ما صنع فإنه جاهد في قتل الكافر مبالغ في ذلك مصاب حين رجع إليه السيف فعقره وصبر على ذلك إلى أن مات فهو مجاهد صابر و ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ الزمر‏:‏ 10 فهذا مجاهد صابر و ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ الزمر‏:‏ 10 فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن له لأجرين ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ وإذا التقت السريتان ليلاً من المسلمين وكل واحد ترى أن صاحبتها من المشركين فاقتتلوا فأجلوا عن قتلى ثم علموا فلا شيء عليهم من دية ولا كفارة لأن كل واحدة من السريتين باشرت دفعاً مباحاً فقد قصدت كل سرية إلى الأخرى وإنما قتلتها الأخرى دفعاً عن أنفسهم وذلك دفع مأمور به شرعاً فلا يكون موجباً دية ولا كفارة‏.‏

والأصل فيه ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال‏:‏ خرجت طليعتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ليلاً فالتقتا تحت الليل ولا يشعر بعضهم ببعض ويظنون أنهم العدو فكانت بينهم جراحات وقتلى ثم تنادوا بشعار الإسلام فكف بعضهم عن بعض وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ جراحاتكم في سبيل الله ومن قتل منكم فهو شهيد إذا كان القوم من المسلمين يقاتلون المشركين فقتل مسلم مسلماً ظن أنه مشرك أو رمى إلى مشرك فرجع السهم فأصاب مسلماً فقتله فعليه الدية والكفارة لأن هذا صورة الخطأ والدية والكفارة في قتل الخطأ واجب بالنص‏.‏

والأصل في هذا ما روي أن سيوف المسلمين اختلفت يوم أحد على اليمان أبي حذيفة فقتلوه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الدية فوهبها لهم حذيفة وكان المعنى في الفرق بين هذا والأول أن المقتول هاهنا ما كان قاصداً قتل صاحبه الذي قتله وكانت حرمة نفسه باقية في نفسه فيجب الدية صيانة لدمه عن الهدر وفي الأول المقتول كان قاصداً إلى قتل صاحبه وذلك يسقط حرمة نفسه في حقه فإنما قتله بدفع مباح‏.‏

  باب قتل ذي الرحم المحرم

قال‏:‏ ولا بأس بأن يقتل الرجل من المسلمين كل ذي رحم محرم منه من المشركين يبتدئ به إلا الوالد خاصة فإنه يكره له أن يبتدئ والده بذلك وكذلك جده من قبل أبيه أو من قبل أمه وإن بعد إلا أن يضطره إلى ذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا‏}

لقمان‏:‏ 15 فالمراد الأبوان إذا كانا مشركين بدليل قوله تعالى ‏{‏وَإِن جَاهَدَاكَ‏}‏ الآية لقمان‏:‏ 15 وليس من المصاحبة بالمعروف البداية بالقتل وأما إذا اضطره إلى ذلك فهو يدفع عنه نفسه وهو مأمور بالبداية بنفسه في الإحسان إليها ودفع شر القتل عنها أبلغ جهات الإحسان ثم الأب كان سبباً لإيجاد الولد فلا يجوز للولد أن يجعل نفسه سبب إعدامه بالقصد إلى قتله إلا أن يضطره إلى ذلك فحينئذ يكون الأب هو المكتسب لذلك السبب بمنزلة الجاني على نفسه على ما هو الأصل أن الملجأ بمنزلة الآلة للملجئ ولهذا لا يحبس الأب بدين الولد ويحبس بنفقته لأنه إذا منع نفقته فقد قصد إتلافه ثم استدل محمد رحمه الله في الكتاب بما روى‏:‏ أن حنظلة بن أبي عامر وعبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول رضي الله عنهما أستاذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبويهما فنهاهما عن ذلك وعن عمير ابن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إني لقيت أبي في العدو فسمعت منه مقالة لك سيئة فقتلته فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذا دليل على أنه لا يستوجب بقتله شيئاً إذا قتله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بشيء والسكوت عن البيان بعد تحقق الحاجة إليه لا يجوز وأول الوجوه أن لا يقصده بالقتل ولا يمكنه من الرجوع إذا تمكن منه في الصف ولكنه يلجئه إلى موضع ويستمسك به حتى يجيء غيره فيقتله روي في الكتاب حديثاً بهذه الصفة قال‏:‏ فهو أحب إلينا فإما إباحة قتل غير الوالدين والمولودين من ذي الرحم المحرم من المشركين فقد بيناه في الجامع الصغير وبالله التوفيق‏.‏

  باب البكاء على القتلى

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ببني عبد الأشهل وهم يندبون قتلاهم يوم أحد فقال‏:‏ لكن حمزة لا بواكي له قالت المرأة التي روت‏:‏ فخرجنا حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فندبنا حمزة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت حتى سمعنا نشيجه في البيت فأرسل إلينا أن قد أصبتم أو قد أحسنتم وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن حمزة كان سيد الشهداء يومئذ لكنه كان غريباً بالمدينة فندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وذكر في المغازي‏:‏ أن سعد بن معاذ رضي الله عنه لما سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء قومه وكذلك سعد بن عبادة وكذلك معاذ بن جبل فجاء كل فريق إلى باب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يندبون حمزة رضي الله عنه فاستأنس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببكائهم حتى نام‏.‏

ومن ذلك الوقت جرى الرسم بالمدينة أنه إذا مات منهم ميت يبدءون بالبكاء لحمزة رضي الله عنه والرجال في تعزية بعضهم بعضاً يقولون‏:‏ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيدون على ذلك‏.‏

ثم أعاد الحديث بطريق ابن عمر رضي الله عنهما وزاد في آخره‏:‏ فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يبكين فقال‏:‏ يا ويحهن‏!‏ إنهن لها هنا منذ اليوم فليرجعن ولا يبكين علي هالك بعد اليوم فمن العلماء من أخذ بظاهر الحديث وقال‏:‏ هذه رخصة كانت يومئذ وقد انتسخت بما ذكر في آخر الحديث وأكثرهم على أن رفع الصوت بالبكاء والنوح قد انتسخ ولا رخصة فيه على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ النائحة ومن حولها من مستمعيها عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين‏.‏

وأما البكاء من غير رفع الصوت لا بأس به لما روي أنه لما قبض إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه‏:‏ أليس قد نهيتنا عن البكاء فقال‏:‏ ‏"‏ إنما نهيتكم عن صوتين أحمقين فاجرين وأما هذه رحمة يجعلها الله تعالى في قلوب الرحماء العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول ما يسخط الرب ‏"‏‏.‏

وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع امرأة وهي تبكي على ولدها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ دعها يا عمر فإن القلب حزين والنفس مصابة والعهد قريب ‏"‏ ولكن مع هذا الصبر أفضل على ما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ‏}‏ البقرة‏:‏ 156‏.‏

  باب حمل الرءوس إلى الولاة

وذكر عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أنه قدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه برأس يناق البطريق فأنكر ذلك فقيل له‏:‏ يا خليفة رسول الله إنهم يفعلون ذلك بنا قال‏:‏ فاستنان بفارس والروم لا يحمل إلي راس إنما يكفي الكتاب والخبر فبظاهر الحديث أخذ بعض العلماء وقال‏:‏ لا يحل حمل الرءوس إلى الولاة لأنها جيفة فالسبيل دفنها لإماطة الأذى ولن إبانة الرأس مثلة ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور وقد بين أبو بكر رضي الله عنه أن هذا من فعل أهل الجاهلية وغيظ للمشركين أو فراغ قلب للمسلمين بأن كان المقتول من قواد المشركين أو عظماء المبارزين فلا بأس بذلك‏.‏

ألا ترى أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حمل رأس أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يوم بدر حتى ألقاه بين يديه فقال‏:‏ هذا رأس عدوك أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حتى ألقاه بين يديه فقال‏:‏ هذا رأس عدوك أبي جهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الله أكبر‏!‏ هذا فرعوني وفرعون أمتي وكان شره علي أمتي أعظم من شر فرعون على موسى وأمته ‏"‏ وما منعه ولم ينكر عليه ذلك‏.‏

وهو معنى ما رواه عن الزهري رحمه الله قال‏:‏ لم يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس إلا يوم بدر‏.‏

وحمل إلى أبي بكر رضي الله عنه فأنكره وأول من حملت إليه الرءوس ابن الزبير رضي الله عنه ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن عبد الله قال عبد الله‏:‏ فضربت عنقه وأخذت برأسه فصعدت إلى جبل فاختبأت فيه حتى إذا رجع الطلب وجهت برأسه حتى جئت به النبي صلى الله عليه وسلم وحين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة رضي الله عنه بقتل كعب بن الأشرف جاء برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه ذلك فتبين بهذه الآثار أنه لا بأس بذلك والله الموفق‏.‏

  باب السلاح والفروسية

ذكر عن عتبة بن أبي حكيم رضي الله عنه قال‏:‏ ذكرت القوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما سبقها سلاح قط إلى خير ‏"‏ يعني أنه أقوى آلات الجهاد فيه حث للغزاة على تعلم الرمي وفي ذلك آثار منها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ‏}‏ الأنفال‏:‏ 60 ‏"‏ ألا إن القوة الرمي ‏"‏ قالها ثلاثاً وفي حديثه أيضاً ‏"‏ إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة‏:‏ صانعه الذي يحتسب به ومنبله والرامي به ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ كل لهو ابن آدم باطل إلا ثلاثة‏:‏ تأديبه فرسه وملاعبته أهله ورميه عن قوسه وما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد بين أبويه إلا لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يوم أحد فقال‏:‏ ‏"‏ ارم فداك أبي وأمي ‏"‏‏.‏

وذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب أن وفروا الأظافير في أرض العدو فإنها سلاح وهذا مندوب إليه للمجاهدين في دار الحرب وإن كان قص الأظافير من الفطرة لأنه إذا سقط السلاح من يده وقرب العدو منه ربما يتمكن من دفعه بأظافيره وهو نظير قص الشوارب فإنه سنة ثم الغزي في دار الحرب مندوب إلى أن يوفر شاربه ليكون أهيب في عين العدو فيحصل به الإرهاب‏.‏

وذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ علموا أولادكم السباحة والفروسية ومروهم بالاحتفاء بن الأغراض وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن في حديثه ‏"‏ علموا أولادكم السباحة والرمي والمرأة الغزل ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ اركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ‏"‏ والحاصل أن ما يعينه على الجهاد فهو مندوب إلى تعلمه وإلى أن يعود نفسه ذلك لما فيه من إعزاز الدين وقهر المشركين‏.‏

وعن عبيد بين عمير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله عنهم يوم فتح مكة‏:‏ أفطروا فإنه يوم قتال وفيه دليل على أنه فتحت عنوة بالقتال وأن الأفضل للغازي إذا كان يقاتل العدو في شهر رمضان أن يفطر فإن الصوم ربما يضعفه عن شيء من القتال والخلل الذي يتمكن بذلك لا يمكنه تداركه في غير هذا الوقت وهو يتمكن من أداء الصوم في عدة من أيام أخر ولهذا كان الفطر أفضل للمريض والمسافر إذا كان يجهده الصوم فلأن يكون أفضل للمسافر المقاتل كان أولى‏.‏

وعن عون بن أبي جحيفة عن أبيه رضي الله عنه قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم يعني يوم فتح مكة ورأيت بلالاً رضي الله عنه أدخل وضوءه إليه ثم أخرجه يهريقه فرأيت الناس يبتدرونه فمن أصاب منه شيئاً تمسح به ومن لم يصب أخذ من بلل يد صاحبه فتمسح به وبه يستدل محمد رحمه الله على طهارة الماء المستعمل لأنهم كانوا يتبركون بذلك ولا يتبرك بما هو نجس فلو كان نجساً لأنكر عليهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو حنيفة يعتذر ويقول‏:‏ لم ينقل أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يستقيم الاحتجاج به أن لو بلغه فلم ينكر عليهم‏.‏

قال‏:‏ ثم رأيت بلالاً رضي الله عنه أخرج عنزة فركزها وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء متشمراً فصلى إلى العنزة بالناس ركعتين ورأيت الناس والدواب يمرون بين يديه العنزة‏:‏ شبه الحربة كانت تحمل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره لتركز بين يديه إذا صلى‏.‏

ومنه عادة الأمراء في حمل السلاح أمامهم وفيه دليل أنه لا بأس بلبس بالثوب الأحمر وأن المصلي في الصحراء ينبغي أن يتخذ السترة بين يديه وأنه إذا كانت السترة بين يدي الإمام خاصة فذلك يكفي ولا تشترط السترة بين يدي القوم لأن الإمام بمنزلة السترة للصف الأول والصف الأول للثاني وأنه لا يمنع أحد من المرور وراء السترة لأن السترة تحول بينه وبين المصلي بمنزلة الحائط‏.‏

والمقصود من السترة ان يعلم به من يكون بالبعد منه فلا يمر بينه وبين السترة ولا يمتنع من المرور وراءه ولا يحصل ذلك إلا إذا كان طويلاً غليظاً فقيل‏:‏ ينبغي أن يكون طوله دراعاص وغلظته بقدر الأصبع لما قال‏:‏ بلغين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يجزئ من السترة السهم ‏"‏ والله المعين‏.‏

  باب الحرب كيف يعبأ له

وفي نسخة‏:‏ كيف تغشاه ذكر عن محمد بن إبراهيم بن الحارث رحمه الله قال‏:‏ لما كان من الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبأهم في وادي حنين وهو واد حدور ذو شعاب ومضايق وفرق الناس فيه وأوعز إلى الناس أن يحملوا على محمد وأصحابه حملة واحدة أي أمرهم بذلك وتقدم إليهم فيه ومالك هذا كان صاحب الجيش يوم حنين فكان أمرهم أن يستصحبوا أهاليهم وأموالهم ليقاتلوا عنهم إن لم يقاتلوا عن دينهم فخطأه دريد بن الصمة في هذا الرأي وقال له‏:‏ راعي الضأن ماله وللحرب وهل يرد المنهزم شيء هذا الذي تسوقونه كله غنائم محمد وأصحابه قيل‏:‏ فما الرأي قال‏:‏ أن تحملوا الظعن إلى علياء بلادكم وأن يلقى الرجال بالسيوف على متون الخيل عدوهم فقال مالك‏:‏ لا أغير ما صنعت فهل غير هذا قال‏:‏ نعم اجعل الناس فريقين‏:‏ يمنة ويسرة ليكمنوا في هذه الشعاب والمضايق حتى إذا دخلها العدو خرجوا من الجانبين فحملوا عليهم حملة واحدة فقال‏:‏ أما هذه فنعم وفعل ذلك برأيه عبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فصفهم صفوفاً في السحر ووضع الألوية في أهلها الحديث إلى أن قال‏:‏ فانحدر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وادي حنين انحداراً وهو واد حدور ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء بدلدل واستقبل الصفوف فطاف عليهم يحثهم على القتال ويبشرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا وهكذا ينبغي للإمام أن يفعله في موضع الخوف وبالليل إذا كانوا بالقرب من العدو‏.‏

قال‏:‏ فبيانهم على ذلك ينحدرون في غبش الصبح إذا حمل المشركون عليهم حملة واحدة من تلك الشعاب والمضايق فانكشف أو الخيول خيل بني سليم مولية يعني انهزمت راجعة ثم تبعهم أهل مكة وتبعهم الناس مدبرين فلا يلوي أحد على أحد وفي المغازي أن إبليس عليه اللعنة نادى‏:‏ ألا إن محمداً قد قتل فليرجع كل ذي دين دينه فلهذا انهزموا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ‏}‏ التوبة‏:‏ 25 وأمعن بعضهم في الانهزام حتى انتهى إلى مكة وسمع صفوان بن أمية واحداً من المنافقين يقول‏:‏ قتل محمد واستراح الناس منه وكان صفوان يومئذ مشركاً فقال‏:‏ بفيك الأثلب لرب من قريش أحب إلي من رب من هوازان إذا كنت مربوباً‏.‏

قال‏:‏ فاقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابته حتى رأى المسلمين ولوا مدبرين فثبت قائماً وجرد سيفه وطرح غمده فجعل يتقدم في نحر العدو وهو يصيح بأعلى صوته‏:‏ يا أصحاب الشجرة يوم الحديبية الله الله‏!‏ الكرة على نبيكم وذكر في المغازي أنه لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمه العباس رضي الله عنه على يمينه وسفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنهما على يساره وما كان كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم يوم فتح مكة إلى هذا الوقت لكثرة ما كان آذاه بهجائه فحين رأى ذلك الجد منه كلمه وعانقه وبلغ الله صوت رسول إلى المهاجرين والأنصار فكبروا بأجمعهم وحملوا على العدو حملة واحدة فانهزم العدو قبل أن يطعنوا برمح أو يضربوا بسيف كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ التوبة‏:‏ 26‏.‏

ذكر عن سعيد بن ذي حدان قال‏:‏ أخبرني من سمع علياً رضي الله عنه يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الحرب خدعة أو خدعة بالنصب ‏"‏ وكلاهما لغة وفيه دليل على أنه لا بأس للمجاهد أن يخادع قرنه في حالة القتال وأن ذلك لا يكون غدراً منه وأخذ بعض العلماء بالظاهر فقالوا‏:‏ يرخص في الكذب في هذه الحالة واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا يصلح الكذب إلا في ثلاث‏:‏ في الصلح بين اثنين وفي القتال وفي إرضاء الرجل أهله والمذهب عندنا أنه ليس المراد الكذب المحض فإن ذلك لا رخصة فيه وإنما المراد استعمال المعاريض وهو نظير ما روي أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه كذب ثلاث كذبات والمراد‏:‏ أنه تلكم بالمعاريض إذ الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه معصومون عن الكذب المحض‏.‏

وقال عمر‏:‏ إن في معاريض الكلام لمندوحة عن الكذب وتفسير هذا ما ذكره محمد رحمه الله في الكتاب‏:‏ وهو أن يكلم من يبارزه بشيء وليس المر كما قال‏:‏ ولكنه يضمر خلاف ما يظهره له كما فعل علي رضي الله عنه يوم الخندق حين بارزه عمرو بن ورد قال‏:‏ أليس قد ضمنت لي أن لا تستعين علي بغيرك فمن هؤلاء الذين دعوتهم فالتفت كالمستبعد لذلك فضرب على ساقيه ضربة قطع رجليه وكان من الخدعة أن يقول لأصحابه قولاً ليري من سمعه أن فيه ظفراً أو أن فيه أمراً يقوي أصحابه وليس الأمر كذلك حقيقة ولكن يتكلم على وجه لا يكون كاذباً فيه ظاهراً على ما روي أن علياً رضي الله عنه في حروبه كان ينظر إلى الأرض ثم يرفع رأسه إلى السماء يقول‏:‏ ما كذبت ولا كذبت يري من حضره أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بما ابتلي به وأمره في ذلك بما أمر به أصحابه ولعله لا يكون كذلك فهذا ونحوه لا بأس به وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن الجنة لا يدخلها العجائز ‏"‏ فلما سمعت العجوز ذلك جعلت تبكي حتى بين لها صفة أهل الجنة حين يدخلونها ومن هذا النوع أن يقيد كلامه بلعل وعسى فإن ذلك بمنزلة الاستثناء يخرج الكلام به من أن يكون عزيمة على ما قال‏:‏ بلغنا أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق واسم هذا الرجل مذكور في المغازي نعيم بن مسعود الثقفي فقال‏:‏ يا رسول الله إن بني قريظة قد غدرت وبايعت أبا سفيان وأصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فلعلنا نحن أمرناهم بهذا فرجع إلى أبي سفيان وقال‏:‏ زعم محمد أنه أمر بني قريظة بهذا فقال‏:‏ أنت سمعته يقول هذا قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فو الله ما كذب وتمام هذه القصة ذكر في المغازي من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن بني قريظة كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن جاء الأحزاب ومعهم حيي بن أخطب رأس بني النضير فما زال بكعب بن الأشرف وبني قريظة حتى نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعوا أبا سفيان على أن يغيروهم على المدينة والأحزاب يقاتلون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فاشتد الأمر على المسلمين لذلك كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ‏}‏ الأحزاب‏:‏ 10 فجاء نعيم بن مسعود يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المبالغة وهو كان مشركاً يومئذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فلعلنا أمرناهم بذلك ‏"‏ يريد أن هذا من مواطأة بيننا وبينهم حتى نحيط بالأحزاب من كل جانب فلما خرج من عنده قال له عمر‏:‏ يا رسول الله أمر بني قريظة أهون من أن يؤثر عنك شيء من أجل صنيعهم فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الحرب خدعة يا عمر ‏"‏ فكانت تلك الكلمة سبب تفرقهم وتفرق كلمتهم وانهزامهم والوجه الآخر‏:‏ أنهم بعد هذه المبايعة قالوا لحيي بن أخطب‏:‏ لا نأمن أن يطول الأمر وتذهب الأحزاب ونبقى مع محمد فيحاصرنا ويخرجنا من ديارنا كما فعل بك وبأصحابك فقال حيي بن أخطب‏:‏ أنا أطلب منهم أن يبعثوا سبعين من أبناء كبرائهم إليكم ليكونوا رهناً في حصنكم وكان نعيم بن مسعود عندهم حين جرت هذه المحاورة فحثهم على ذلك فقالوا‏:‏ هو الرأي ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما جرى فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فلعلنا أمرناهم بذلك ‏"‏ فجاء إلى أبي سفيان فوجد عنده رسول بني قريظة يسأله الرهن فقال له‏:‏ هل علمت أن محمداً لم يكذب قط قال‏:‏ نعم فقال‏:‏ إني سمعته الآن يقول كذا وهذا مواطأة بينه وبين بني قريظة ليأخذوا سبعين منكم فيدفعوهم إليه ليقتلهم وقد ضمن لهم على ذلك إصلاح جناحهم يعني رد بني النضير إلى دارهم فقالوا‏:‏ هو كما قلت واللات والعزى وكان ذلك يوم الجمعة فبعث إلى بني قريظة أن اخرجوا على تلك المبايعة التي بيننا فقد طال الأمر فقالوا‏:‏ غداً يوم السبت ونحن لا نكسر السبت ومع ذلك لا نخرج حتى تعطونا الرهن فقال أبو سفيان‏:‏ هو كما أخبرنا به نعيم وقذف الله الرعب في قلوبهم فانهزموا في تلك الليلة وكفى الله المؤمنين القتال‏.‏

قال محمد ابن الحسن رحمه الله فهذا ونحوه من مكائد الحرب فلا بأس به‏.‏