فصل: الوليد بن المغيرة وما أنزل الله فيه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **


 قصة تملك النجاشي على الحبشة

قتل أبي النجاشي ، وتملك عمه

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ قال الزهري ‏‏:‏‏ فحدثت عروة بن الزبير حديث أبي بكر ابن عبدالرحمن ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏‏:‏‏ هل تدري ما قوله ‏‏:‏‏ ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي ، فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناسَ فيّ فأطيع الناس فيه ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ قلت ‏‏:‏‏ لا ؛ قال ‏‏:‏‏ فإن عائشة أم المؤمنين حدثتني أن أباه كان ملك قومه ، ولم يكن له ولد إلا النجاشي ، وكان للنجاشي عم ، له من صلبه اثنا عشر رجلا ، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة ، فقالت الحبشة بينها ‏‏:‏‏ لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملَّكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام ، وإن لأخيه من صلبه اثني عشر رجلا ، فتوارثوا ملكه من بعده ، بقيت الحبشة بعده دهرا ؛ فغدوا على أبي النجاشي فقتلوه ، وملَّكوا أخاه ، فمكثوا على ذلك حينا ‏‏.‏‏

 الحبشة تبيع النحاشي

ونشأ النجاشي مع عمه ، وكان لبيبا حازما من الرجال ، فغلب على أمر عمه ، ونزل منه بكل منـزلة ؛ فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها ‏‏:‏‏ والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه ، وإنا لنتخوف أن يملِّكه علينا ، وإن ملكه علينا ليقتلنا أجمعين ، لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه ‏‏.‏‏

فمشوا إلى عمه فقالوا ‏‏:‏‏ إما أن تقتل هذا الفتى ، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا ، فإنا قد خفناه على أنفسنا ؛ قال ‏‏:‏‏ ويلكم ‏‏!‏‏ قتلت أباه بالأمس ، وأقتله اليوم ‏‏!‏‏ بل أخرجه من بلادكم ‏‏.‏‏

قالت ‏‏:‏‏ فخرجوا به إلى السوق ، فباعوه من رجل من التجار بست مئة درهم ؛ فقذفه في سفينة فانطلق به ، حتى إذا كان العشي من ذلك اليوم ، هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها ، فأصابته صاعقة فقتلته ‏‏.‏‏ قالت ‏‏:‏‏ ففزعت الحبشة إلى ولده ، فإذا هو محمَّق ، ليس في ولده خير ، فمرج على الحبشة أمرهم ‏‏.‏‏

 تولية النجاشي الملك برضا الحبشة

فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك ، قال بعضهم لبعض ‏‏:‏‏ تعلموا والله أن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره للذي بعتم غدوة ، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه الآن ‏‏.‏‏

قالت ‏‏:‏‏ فخرجوا في طلبه ، وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى أدركوه ، فأخذوه منه ؛ ثم جاءوا به ، فعقدوا عليه التاج ، وأقعدوه على سرير الملك ، فملكوه ‏‏.‏‏

 حديث التاجر الذي ابتاع النجاشي

فجاءهم التاجر الذي كانوا باعوه منه ، فقال ‏‏:‏‏ إما أن تعطوني مالي ، وإما أن أكلمه في ذلك ‏‏؟‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ لا نعطيك شيئا ، قال ‏‏:‏‏ إذن والله أكلمه ؛ قالوا ‏‏:‏‏ فدونك وإياه ‏‏.‏‏

قالت ‏‏:‏‏ فجاءه فجلس بين يديه ، فقال ‏‏:‏‏ أيها الملك ، ابتعت غلاما من قوم بالسوق بست مئة درهم ، فأسلموا إلي غلامي وأخذوا دراهمي ، حتى إذا سرت بغلامي أدركوني ، فأخذوا غلامي ، ومنعوني دراهمي ‏‏.‏‏ قالت ‏‏:‏‏ فقال لهم النجاشي ‏‏:‏‏ لتُعطنَّه دراهمه ، أو ليضعن غلامه يده في يده ، فليذهبن به حيث شاء ؛ قالوا ‏‏:‏‏ بل نعطيه دراهمه ‏‏.‏‏ قالت ‏‏:‏‏ فلذلك يقول ‏‏:‏‏ ما أخذ الله مني رشوة حين رد علي ملكي ، فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فيّ فأُطيع الناس فيه ‏‏.‏‏ قالت ‏‏:‏‏ وكان ذلك أول ما خُبر من صلابته في دينه ، وعدله في حكمه ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت ‏‏:‏‏ لما مات النجاشي ، كان يُتحدث أنه لا يزال يُرى على قبره نور ‏‏.‏‏

 إسلام النجاشي والصلاة عليه وخروج الحبشة عليه

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني جعفر بن محمد ، عن أبيه ، قال ‏‏:‏‏ اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي ‏‏:‏‏ إنك قد فارقت ديننا ، وخرجوا عليه ‏‏.‏‏ فأرسل إلى جعفر وأصحابه ، فهيأ لهم سفنا ، وقال ‏‏:‏‏ اركبوا فيها وكونوا كما أنتم ، فإن هزمتُ فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم ، وإن ظفرت فاثبتوا ‏‏.‏‏

ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه ‏‏:‏‏ هو يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم ؛ ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن ، وخرج إلى الحبشة ، وصفُّوا له ، فقال ‏‏:‏‏ يا معشر الحبشة ، ألست أحق الناس بكم ‏‏؟‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ بلى ؛ قال ‏‏:‏‏ فكيف رأيتم سيرتي فيكم ‏‏؟‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ خير سيرة ؛ قال ‏‏:‏‏ فما بالكم ‏‏؟‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ فارقت ديننا ، وزعمت أن عيسى عبد ؛ قال ‏‏:‏‏ فما تقولون أنتم في عيسى ‏‏؟‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ نقول هو ابن الله ؛ فقال النجاشي ، ووضع يده على صدره على قبائه ‏‏:‏‏ هو يشهد أن عيسى بن مريم ، لم يزد على هذا شيئا ، وإنما يعني ما كتب ، فرضوا وانصرفوا عنه ‏‏.‏‏ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلما مات النجاشي صلى عليه ، واستغفر له ‏‏.‏‏

 إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه

 اعتزاز المسلمين بإسلام عمر

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ولما قدم عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة على قريش ، ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردَّهما النجاشي بما يكرهون ، وأسلم عمر بن الخطاب ، وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره ، امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى عازُّوا قريشا ، وكان عبدالله بن مسعود يقول ‏‏:‏‏ ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة ، حتى أسلم عمر بن الخطاب ، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة ، وصلينا معه ،وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة ‏‏.‏‏

قال البكائي ، قال ‏‏:‏‏ حدثني مسعر بن كدام ، عن سعد بن إبراهيم ، قال ‏‏:‏‏ قال عبدالله بن مسعود ‏‏:‏‏ إن إسلام عمر كان فتحا ، وإن هجرته كانت نصرا ، وإن إمارته كانت رحمة ، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر ، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة ، وصلينا معه ‏‏.‏‏

 حديث أم عبدالله بنت أبي حثمة عن إسلام عمر

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ حدثني عبدالرحمن بن الحارث بن عبدالله بن عياش بن أبي ربيعة ، عن عبدالعزيز بن عبدالله بن عامر بن ربيعة ، عن أمه أم عبدالله بنت أبي حثمة ، قالت ‏‏:‏‏ ‏

و الله إنا لنترحَّل إلى أرض الحبشة ، وقد ذهب عامر في بعض حاجاتنا ، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علي وهو على شركه - قالت ‏‏:‏‏ وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا - قالت ‏‏:‏‏ فقال ‏‏:‏‏ إنه للانطلاق يا أم عبدالله ‏‏.‏‏

قالت ‏‏:‏‏ فقلت ‏‏:‏‏ نعم والله ، لنخرجن في أرض الله ، آذيتمونا وقهرتمونا ، حتى يجعل الله مخرجا ‏‏.‏‏ قالت ‏‏:‏‏ فقال ‏‏:‏‏ صحبكم الله ، ورأيت له رقة لم أكن أراها ، ثم انصرف وقد أحزنه - فيما أرى - خروجنا ‏‏.‏‏

قالت ‏‏:‏‏ فجاء عامر بحاجته تلك ، فقلت له ‏‏:‏‏ يا أبا عبدالله ، لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ أطمعتِ في إسلامه ‏‏؟‏‏ قالت ‏‏:‏‏ قلت ‏‏:‏‏ نعم ؛ قال ‏‏:‏‏ فلا يسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب ؛ قالت ‏‏:‏‏ يأسا منه ، لما كان يُرى من غلظته وقسوته عن الإسلام ‏‏.‏‏

 سبب إسلام عمر

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب ، وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وكانت قد أسلمت وأسلم بعلها سعيد بن زيد ، وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر ، وكان نُعيم بن عبدالله النحَّام من مكة ، رجل من قومه ، من بني عدي ابن كعب قد أسلم ، وكان أيضا يستخفي بإسلامه فرقا من قومه ، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة ‏بنت الخطاب يُقرئها القرآن ، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه قد ذُكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا ، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبدالمطلب ، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق ، وعلي بن أبي طالب ، في رجال من المسلمين رضي الله عنهم ، ممن كان أقام من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة ‏‏.‏‏

فلقيه نعيم بن عبدالله ، فقال له ‏‏:‏‏ أين تريد يا عمر ‏‏؟‏‏ فقال ‏‏:‏‏ أريد محمدا هذا الصابئ ، الذي فرَّق أمر قريش ، وسفه أحلامها ، وعاب دينها ، وسب آلهتها ، فأقتله ؛ فقال له نعيم ‏‏:‏‏ والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا ‏‏!‏‏ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ وأي أهل بيتي ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ خَتَنُكَ وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو ، وأختك فاطمة بنت الخطاب ، فقد والله أسلما ، وتابعا محمدا على دينه ، فعليك بهما ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه ، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة ، فيها ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ طه ‏‏)‏‏ يقرئهما إياها ، فلما سمعوا حس عمر ، تغيب خباب في مخدع لهم ، أو في بعض البيت ، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها ، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما ، فلما دخل قال ‏‏:‏‏ ما هذه الهَيْنَمة التي سمعت ‏‏؟‏‏ قالا له ‏‏:‏‏ ما سمعت شيئا ؛ قال ‏‏:‏‏ بلى والله ، لقد أُخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه ، وبطش بختنه سعيد بن زيد ؛ فقامت إليه أخته فاطمة ‏بنت الخطاب لتكفه عن زوجها ، فضربها فشجها ؛ فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه ‏‏:‏‏ نعم لقد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله ، فاصنع ما بدا لك ‏‏.‏‏

فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع ، فارعوى ، وقال لأخته ‏‏:‏‏ أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد ، وكان عمر كاتبا ؛ فلما قال ذلك ، قالت له أخته ‏‏:‏‏ إنا نخشاك عليها ؛ قال ‏‏:‏‏ لا تخافي ، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها ؛ فلما قال ذلك ، طمعت في إسلامه ، فقالت له ‏‏:‏‏ يا أخي ، إنك نجس ، على شركك ، وإنه لا يمسها إلا الطاهر ، فقام عمر فاغتسل ، فأعطته الصحيفة ، وفيها ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ طه ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ فقرأها ؛ فلما قرأ منها صدرا ، قال ‏‏:‏‏ ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ‏‏!‏‏ فلما سمع ذلك خباب خرج عليه ، فقال له ‏‏:‏‏ يا عمر ، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه ، فإني سمعته أمس وهو يقول ‏‏:‏‏ اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام ، أو بعمر بن الخطاب ، فالله الله يا عمر ‏‏.‏‏ فقال له عند ذلك عمر ‏‏:‏‏ فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأُسلم ؛ فقال له خباب ‏‏:‏‏ هو في بيت عند الصفا ، معه فيه نفر من أصحابه ،‏ فأخذ عمر سيفه فتوشحه ، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فضرب عليهم الباب ؛ فلما سمعوا صوته ، قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظر من خَلل الباب فرآه متوشحا السيف ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع ، فقال ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف ؛ فقال حمزة بن عبدالمطلب ‏‏:‏‏ فأذنْ له ، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له ، وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ ائذن له ، فأذن له الرجل ، ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة ، فأخذ حُجْزته ، أو بمجمع ردائه ، ثم جَبَذه به جبذة شديدة ، وقال ‏‏:‏‏ ما جاء بك يا ابن الخطاب ‏‏؟‏‏ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينـزل الله بك قارعة ، فقال عمر ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، جئتك لأومن بالله وبرسوله ، وبما جاء من عند الله ؛ قال ‏‏:‏‏ فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم ‏‏.‏‏

فتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانهم ، وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة ، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينتصفون بهما من عدوهم ‏‏.‏‏ فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر بن الخطاب حين أسلم ‏‏.‏‏ ‏

 ما رواه عطاء ومجاهد عن إسلام عمر

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني عبدالله بن أبي نجيح المكي ، عن أصحابه ‏‏:‏‏ عطاء ، ومجاهد ، أو عمن روى ذلك ‏‏:‏‏ أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه ، أنه كان يقول ‏‏:‏‏ كنت للإسلام مباعدا ، وكنت صاحب خمر في الجاهلية ، أحبها وأسر بها ، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحَزْوَرة ، عند دور آل عمر بن عبد بن عمران المخزومي ، قال ‏‏:‏‏ فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك ، قال ‏‏:‏‏ فجئتهم فلم أجد فيه منهم أحدا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقلت ‏‏:‏‏ لو أني جئت فلانا الخمَّار ، وكان بمكة يبيع الخمر ، لعلي أجد عنده خمرا فأشرب منها ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فخرجت فجئته فلم أجده ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقلت ‏‏:‏‏ فلو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي ، وكان إذا صلى استقبل الشام ، وجعل الكعبة بينه وبين الشام ، وكان مصلاه بين الركنين ‏‏:‏‏ الركن الأسود ، والركن اليماني ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقلت حين رأيته ، والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول ‏‏!‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقلت ‏‏:‏‏ لئن دنوت منه أستمع منه لأروِّعنه ؛ فجئت من قبل الحجر ، فدخلت تحت ثيابها ، فجعلت أمشي رويدا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي يقرأ القرآن ، حتى قمت في قبلته مستقبله ، ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فلما سمعت القرآن رق له قلبي ، فبكيت ودخلني الإسلام ، فلم أزل قائما في مكاني ذلك ، حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ، ثم انصرف ، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين ، وكانت طريقه ، حتى يجزع المسعى ، ثم يسلك بين دار عباس بن عبدالمطلب ، وبين دار ابن أزهر بن عبد عوف الزهري ، ثم على دار الأخنس بن شريق ، حتى يدخل بيته ‏‏.‏‏ وكان مسكنه صلى الله عليه وسلم في الدار الرقطاء ، التي كانت بيدي معاوية بن أبي سفيان ‏‏.‏‏

قال عمر رضي الله عنه ‏‏:‏‏ فتبعته حتى إذا دخل بين دار عباس ، ودار ابن أزهر ، أدركته ؛ فلما سمع رسول اله صلى الله عليه وسلم حسي عرفني ، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أني إنما تبعته لأوذيه فنهمني ، ثم قال ‏‏:‏‏ ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ قلت ‏‏:‏‏ جئت لأومن بالله وبرسوله ، وبما جاء من عند الله ؛ قال ‏‏:‏‏ فحمد اللهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال ‏‏:‏‏ قد هداك الله يا عمر ، ثم مسح صدري ، ودعا لي بالثبات ، ثم انصرفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ والله أعلم أي ذلك كان ‏‏.‏‏

 ذكر ثبات عمر في إسلامه و جلده

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني نافع مولى عبدالله بن عمر ، عن ابن عمر ، قال ‏‏:‏‏ لما أسلم أبي عمر قال ‏‏:‏‏ أي قريش أنقل للحديث ‏‏؟‏‏ فقيل له ‏‏:‏‏ جميل بن معمر الجمحي ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏‏ فغدا عليه ‏‏.‏‏ قال عبدالله بن عمر ‏‏:‏‏ فغدوت أتبع أثره ، وأنظر ما يفعل ، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت ، حتى جاءه ، فقال له ‏‏:‏‏ أعلمت يا جميل أني قد أسلمت ، ودخلت في دين محمد ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر ، واتبعت أبي ، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، وهم في أنديتهم حول الكعبة ، ألا إن عمر بن الخطاب قد صبا ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ و يقول عمر من خلفه ‏‏:‏‏ كذب ، ولكني قد أسلمت ، وشهدت أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ‏‏.‏‏ وثاروا إليه ، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ وطَلِحَ ، فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول ‏‏:‏‏ افعلوا ما بدا لكم ، فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم ، أو تركتموها لنا ؛ قال ‏‏:‏‏ فبينما هم على ذلك ، إذ أقبل شيخ من قريش ، عليه حلة حِبْـرَة ، وقميص موشى ، حتى وقف عليهم ، فقال ‏‏:‏‏ ما شأنكم ‏‏؟‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ صبا عمر ؛ فقال ‏‏:‏‏ فمه ، رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون ‏‏؟‏‏ أترون بني عدي بن كعب يُسلمون لكم صاحبكم هكذا ‏‏!‏‏ خلوا عن الرجل ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فوالله لكأنما كانوا ثوبا كُشط عنه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة ‏‏:‏‏ يا أبت ، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت ، وهم يقاتلونك ‏‏؟‏‏ فقال ‏‏:‏‏ ذاك ، أي بُنيّ ، العاص بن وائل السهمي ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وحدثني بعض أهل العلم ، أنه قال ‏‏:‏‏ يا أبت ، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت ، وهم يقاتلونك ، جزاه الله خيرا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ يا بني ، ذلك العاص بن وائل ، لا جزاه الله خيرا ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني عبدالرحمن بن الحارث عن بعض آل عمر ، أو بعض أهله ، قال ‏‏:‏‏ قال عمر ‏‏:‏‏ لما أسلمت تلك الليلة ، تذكرت أيّ أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت ؛ قال ‏‏:‏‏ قلت ‏‏:‏‏ أبو جهل - وكان عمر لحنتمة بنت هشام بن المغيرة - قال ‏‏:‏‏ فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فخرج إلي أبو جهل ، فقال ‏‏:‏‏ مرحبا وأهلا بابن أختي ، ما جاء بك ‏‏؟‏‏ قلت ‏‏:‏‏ جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد ، وصدقت بما جاء به ؛ قال ‏‏:‏‏ فضرب الباب في وجهي وقال ‏‏:‏‏ قبحك الله ، وقبح ما جئت به ‏‏.‏‏ ‏

 خبر الصحيفة

 ائتمار قريش بالرسول

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا ، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم ، وأن عمر قد أسلم ، فكان هو وحمزة بن عبدالمطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وجعل الإسلام يفشو في القبائل ، اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم ، و بني المطلب ، على أن لا يُنكحوا إليهم ولا يُنكحوهم ، ولا يبيعوهم شيئا ، ولا يبتاعوا منهم ؛ فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة ، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم ، وكان كاتبَ الصحيفة منصورُ بن عكرمة بن عامر ابن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي - قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ النضر بن الحارث - فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشُلّ بعض أصابعه ‏‏.‏‏

 من انحاز إلى أبي طالب ومن خرج عنه

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم و بنو المطلب إلى أبي طالب بن عبدالمطلب ، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه ، وخرج من ‏بني هاشم أبو لهب ، عبدالعزى بن عبدالمطلب ، إلى قريش ، فظاهرهم ‏‏.‏‏

 تهكم أبي لهب بالرسول صلى الله عليه و سلم ، و ما نزل فيه من القرآن

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني حسين بن عبدالله ‏‏:‏‏ أن أبا لهب لقي هند بنت عتبة بن ربيعة ، حين فارق قومه ، وظاهر عليهم قريشا ، فقال ‏‏:‏‏ يا بنت عتبة ؛ هل نصرت اللات والعزى ، وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما ‏‏؟‏‏ قالت ‏‏:‏‏ نعم ، فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحُدثت أنه كان يقول بعض ما يقول ‏‏:‏‏ يعدني محمد أشياء لا أراها ، يزعم أنها كائنة بعد الموت ، فماذا وضع في يديّ بعد ذلك ‏‏؟‏‏ ثم ينفخ في يديه ويقول ‏‏:‏‏ تبا لكما ، ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى فيه ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ تبت يدا أبي لهب وتبَّ ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ تَـَّبت ‏‏:‏‏ خسرت ‏‏.‏‏ والتباب ‏‏:‏‏ الخسران ‏‏.‏‏ قال حبيب بن خُدْرة الخارجي ‏‏:‏‏ أحد بني هلال بن عامر بن صعصعة ‏‏:‏‏

يا طيب إنا في معشر ذهبت * مسعاتهم في التبار والتببِ

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏

 شعر أبي طالب في تظاهر قريش على الرسول الله صلى الله عليه و سلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فلما اجتمعت على ذلك قريش ، وصنعوا فيه الذي صنعوا ‏‏.‏‏ قال أبو طالب ‏‏:‏‏

ألا أبلغا عني على ذات بيننا * لؤيا وخُصَّا من لؤي بني كعبِ

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خُط في أول الكتب

وأن عليه في العباد محبة * ولا خير ممن خصه الله بالحب

وأن الذي ألصقتمُ من كتابكم * لكم كائن نحسا كراغيه السقب

أفيقوا أفيقوا قبل أن يحُفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب

ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب

وتستجلبوا حربا عوانا وربما * أمرّ على من ذاقه جلب الحرب

فلسنا ورب البيت نُسلم أحمدا * لعزَّاء من عض الزمان ولا كرب

ولما تبنْ منا ومنكم سوالف * وأيد أُترّت بالقُساسية الشهب

بمعترك ضيق ترى كسر القنا * به والنسور الطُخم يعكفن كالشَّرب

كأن مجُال الخيل في حَجَراته * ومعمعة الأبطال معركة الحرب

أليس أبونا هاشم شد أزره * وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

ولسنا نمل الحرب حتى تملنا * ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب

ولكننا أهل الحفائظ والنهى * إذا طار أرواح الكماة من الرعب

فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا ، حتى جُهدوا لا يصل إليهم شيء ، إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش ‏‏.‏‏

 أبو جهل يحكم الحصار على المسلمين

وقد كان أبو جهل بن هشام - فيما يذكرون - لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد ، معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد ، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه في الشعب ، فتعلق به وقال ‏‏:‏‏ أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ‏‏؟‏‏ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة ‏‏.‏‏

فجاءه أبو البَخْتري بن هشام بن الحارث بن أسد ، فقال ‏‏:‏‏ ما لك وله ‏‏؟‏‏ فقال ‏‏:‏‏ يحمل الطعام إلى بني هاشم ؛ فقال له أبو البختري ‏‏:‏‏ طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه ، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ‏‏!‏‏ خلّ سبيل الرجل ؛ فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه ، فأخذ له أبو البختري لَـحْي ‏بعير فضربه به فشجه ، ووطئه وطأ شديدا ، وحمزة بن عبدالمطلب قريب يرى ذلك ، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فيشمتوا بهم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا ، و سرا وجهارا ، مباديا بأمر الله لا يتقي فيه أحدا من الناس ‏‏.‏‏

 ذكر ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه من الأذى

 ما نزل من القرآن في أبي لهب وامرأته حمالة الحطب

فجعلت قريش حين منعه الله منها ، وقام عمه وقومه من بني هاشم ، وبني المطلب دونه ، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به ، يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه ، وجعل القرآن ينـزل في قريش بأحداثهم ، وفيمن نصب لعداوته منهم ، ومنهم من سمّى لنا ، ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار ، فكان ممن سمّي لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب بن عبدالمطلب وامرأته أم جميل بنت حرب ابن أمية ، حمالة الحطب ، وإنما سماها الله تعالى حمالة الحطب ، لأنها كانت - فيما بلغني - تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يمر ، فأنزل الله تعالى فيهما ‏

‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ تبت يدا أبي لهب وتب ، ما أغنى عنه ماله وما كسب ، سيصلى نارا ذات لهب ، وامرأته حمالةَ الحطب ، في جيدها حبل من مسد ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ الجيد ‏‏:‏‏ العنق ‏‏.‏‏ قال أعشى بني قيس بن ثعلبة ‏‏:‏‏

يوم تُبدي لنا قُتيلة عن جيد * أسيل تزينه الأطواقُ

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ وجمعه ‏‏:‏‏ أجياد ‏‏.‏‏ والمسد ‏‏:‏‏ شجر يدق كما يدق الكتان فتفتل منه حبال ‏‏.‏‏ قال النابغة الذبياني ، واسمه زياد بن عمرو ابن معاوية ‏‏:‏‏

مقذوفة بدخيس النحض بازلها * له صريف صريف القعو بالمسدِ

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ وواحدته ‏‏:‏‏ مسدة ‏‏.‏‏

 أم جميل امرأة أبي لهب و رد الله كيدها عن الرسول صلى الله عليه و سلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فذُكر لي ‏‏:‏‏ أن أم جميل ‏‏:‏‏ حمالة الحطب ، حين سمعت ما نزل فيها ، وفي زوجها من القرآن ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق ، وفي يدها فِهْر من حجارة ، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا ترى إلا أبا بكر ، فقالت ‏‏:‏‏ يا أبا بكر ، أين صاحبك ‏‏؟‏‏ فقد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ، أما والله إني لشاعرة ، ثم قالت ‏‏:‏‏

مذمما عصينا وأمره أبَيْنا

ودينه قَلَيْنا *

ثم انصرفت ، فقال أبو بكر ‏‏:‏‏ يا رسول الله أما تُراها رأتك ‏‏؟‏‏ فقال ‏‏:‏‏ ما رأتني ، لقد أخذ الله ببصرها عني ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ قولها ‏‏(‏‏ ودينه قلينا ‏‏)‏‏ عن غير ابن إسحاق ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وكانت قريش إنما تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم مذمما ، ثم يسبونه ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏‏:‏‏ ألا تعجبون لما يصرف الله عني من أذى قريش ، يسبون و يهجون مذمما ، وأنا محمد ‏‏.‏‏

 إيذاء أمية بن خلف للرسول صلى الله عليه و سلم

وأمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح ، كان إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه ، فأنزل الله تعالى فيه ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ويل لك همزة لمزة ، الذي جمع مالا وعدده ‏‏.‏‏ يحسب أن ماله أخلده ‏‏.‏‏ كلا لينبذن في الحطمة ، وما أدراك ما الحطمة ، نار الله الموقدة ، التي تطلع على الأفئدة ‏‏.‏‏ إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ الهمزة ‏‏:‏‏ الذي يشتم الرجل علانية ، ويكسر عينيه عليه ، ويغمز به ‏‏.‏‏ قال حسان بن ثابت ‏‏:‏‏

همزتك فاخْتضعْتُ لذل نفس * بقافية تأجج كالشُواظِ

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ وجمعه ‏‏:‏‏ همزات ‏‏.‏‏ واللمزة ‏‏:‏‏ الذي يعيب الناس سرا ويؤذيهم ‏‏.‏‏

قال رؤبة بن العجاج ‏‏:‏‏

في ظل عَصْريْ باطلي ولمزي *

وهذا البيت في أرجوزة له ، وجمعه ‏‏:‏‏ لمزات ‏‏.‏‏

 إيذاء العاص الرسول صلى الله عليه وسلم وما نزل فيه من قرآن

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ والعاص بن وائل السهمي ، كان خباب بن الأرت ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قينا بمكة يعمل السيوف ، وكان قد باع من العاص ابن وائل سيوفا عملها له حتى كان له عليه مال ، فجاءه يتقاضاه ، فقال له ‏‏:‏‏ يا خباب ، أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلُها من ذهب ، أو فضة ، أو ثياب ، أو خدم ‏‏!‏‏ قال خباب ‏‏:‏‏ بلى ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فأنظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك ، فوالله لا تكون أنت وصاحبك يا خباب آثر عند الله مني ، ولا أعظم حظا في ذلك ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى فيه ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ، أطلع الغيب ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏‏‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ونرثه ما يقول ، ويأتينا فردا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 إيذاء أبي جهل الرسول صلى الله عليه و سلم ، و ما نـزل فيه

ولقي أبو جهل بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - فقال له ‏‏:‏‏ والله يا محمد ، لتتركن سب آلهتنا ، أو لنسبن إلهك الذي تعبد ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى فيه ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ، فيسبوا الله عدوا بغير علم ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ فذُكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كف عن سب آلهتهم ، وجعل يدعوهم إلى الله ‏‏.‏‏

 إيذاء النضر الرسول صلى الله عليه و سلم ، و ما نـزل فيه

والنضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي ، كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا ، فدعا فيه إلى الله تعالى وتلا فيه القرآن ، وحذر فيه قريشا ما أصاب الأمم الخالية ، خلفه في مجلسه إذا قام ، فحدثهم عن رستم السنديد ، وعن أسفنديار ، وملوك فارس ، ثم يقول ‏‏:‏‏ والله ما محمد بأحسن حديثا مني ، وما حديثه إلا أساطير الأولين ، اكتتبها كما اكتتبتها ‏‏.‏‏ فأنزل الله فيه ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ، قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، إنه كان غفورا رحيما ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ونزل فيه ‏‏(‏‏ إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ونزل فيه ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تُتلى عليه ثم يُصرّ مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا ، فبشره بعذاب أليم ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ الأفاك ‏‏:‏‏ الكذاب ‏‏.‏‏ وفي كتاب الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله ، وإنهم لكاذبون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ‏

وقال رؤبة بن العجاج ‏‏:‏‏

ما لامرىء أفَّك قولا إفكا *

وهذا البيت في أرجوزة له ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما - فيما بلغني - مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس ، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ، لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ، وكل فيها خالدون ، لهم فيها زفير ، وهم فيها لا يسمعون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ حصب جهنم ‏‏:‏‏ كل ما أوقدت به ‏‏.‏‏ قال أبو ذؤيب الهذلي ، واسمه خويلد بن خالد‏‏:‏‏

فأطفىء ولا توقد ولا تك محضأ * لنار العداة أن تطير شكاتها

وهذا البيت في أبيات له ‏‏.‏‏ ويُروى ‏‏(‏‏ ولا تك محضأ ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ قال الشاعر ‏‏:‏‏

حضأت له ناري فأبصر ضوءها * وما كان لولا حضأة النار يهتدي

 مقالة ابن الزبعرى ، وما أنـزل الله فيه

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عبدالله بن الزبعرى السهمي حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة لعبدالله بن الزبعرى ‏‏:‏‏ والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبدالمطلب آنفا وما قعد ، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم ؛ فقال عبدالله بن الزبعرى ‏‏:‏‏ أما والله لو وجدته خصمته ، فسلوا محمدا ‏‏:‏‏ أكلّ ما يُعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ‏‏؟‏‏ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد عيسى بن مريم عليهما السلام ؛ فعجب الوليد ، ومن كان معه في المجلس من قول عبدالله بن الزبعرى ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم ‏‏.‏‏ فذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول ابن الزبعرى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ إن كل من أحب أن يُعبد من دون الله فهو مع من عبده ، إنهم إنما يعبدون الشياطين ، ومن أمرتهم بعبادته ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى عليه في ذلك ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ، أولئك عنها مبعدون ، لا يسمعون حسيسها ، وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي عيسى بن مريم ، وعزيرا ، ومن عُبدوا من الأحبار والرهبان الذي مضوا على طاعة الله ، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله ‏‏.‏‏

ونزَّل فيما يذكرون ، أنهم يعبدون الملائكة ، وأنها بنات الله ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه ، بل عباد مكرمون ‏‏.‏‏ لا يسبقونه بالقول ، وهم بأمره يعملون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏‏‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ومن يقل منهم إني إله من دونه ، فذلك نجزيه جهنم ، كذلك نجزي الظالمين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ‏

ونزّل فيما ذكر من أمر عيسى بن مريم أنه يُعبد من دون الله ، وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ولما ضُرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي يصدون عن أمرك بذلك من قولهم ‏‏.‏‏

ثم ذكر عيسى بن مريم فقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إن هو إلا عبد أنعمنا عليه ، وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ، ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ، وإنه لعلم للساعة فلا تمترُنَّ بها واتبعون هذا صراط مستقيم ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى ، وإبراء الأسقام ، فكفى به دليلا على علم الساعة ، يقول ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ فلا تمترن بها واتبعون ، هذا صراط مستقيم ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 الأخنس بن شريق ، وما أنزل الله فيه

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، حليف بني زهرة ، وكان من أشراف القوم وممن يُستمع منه ، فكان يصيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويرد عليه ؛ فأنزل الله تعالى فيه ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ولا تطع كل حلاف مهين ، هماز مشاء بنميم ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏‏‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ زنيم ‏‏)‏‏ ، ولم يقل ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ زنيم ‏‏)‏‏ لعيب في نسبه ، لأن الله لا يعيب أحدا بنسب ، ولكنه حقق بذلك نعته ليُعرف ‏‏.‏‏ والزنيم ‏‏:‏‏ العديد للقوم ‏‏.‏‏ وقد قال الخطيم التميمي في الجاهلية ‏‏:‏‏

زنيم تداعاه الرجال زيادة * كما زيد في عرض الأديم الأكارعُ ‏

 الوليد بن المغيرة ، وما أنزل الله تعالى فيه

والوليد بن المغيرة ، قال ‏‏:‏‏ أيُنـزَّل على محمد وأُترك وأنا كبير قريش وسيدها ، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف ، ونحن عظيما القريتين ، فأنزل الله تعالى فيه ، فيما بلغني ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏‏‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ مما يجمعون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط وما أنزل الله فيهما

وأبي بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح ، وعقبة بن أبي معيط ، وكانا متصافيين ، حَسَنا ما بينهما ‏‏.‏‏ فكان عقبة قد جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه ، فبلغ ذلك أبيا ، فأتى عقبة فقال له ‏‏:‏‏ ألم يبلغني أنك جالست محمدا وسمعت منه ، قال ‏‏:‏‏ وجهي من وجهك حرام أن أكلمك - واستغلظ من اليمين - إن أنت جلست إليه أو سمعت منه ، أو لم تأته فتتفل في وجهه ‏‏.‏‏ ففعل ذلك عدو الله عقبة بن أبي معيط لعنه الله ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى فيهما ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏‏‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ للإنسان خذولا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

ومشى أبي بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم بال قد ارْفتَّ ، فقال ‏‏:‏‏ يا محمد ، أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرمّ ، ثم فتَّه في يده ، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ نعم ، أنا أقول ذلك ، يبعثه الله وإياك بعدما تكونان هكذا ، ثم يدخلك الله النار ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى فيه ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال ‏‏:‏‏ من يحيي العظام وهي رميم ، قل يحييها الذي أنشأها ‏أول مرة وهو بكل خلق عليم ، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ، فإذا أنتم منه توقدون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 سورة ‏‏(‏‏ قل يا أيها الكافرون ‏‏)‏‏ وسبب نزولها

واعترض رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يطوف بالكعبة - فيما بلغني - الأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى ، والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل السهمي ، وكانوا ذوي أسنان في قومهم ، فقالوا ‏‏:‏‏ يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت في الأمر ، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد ، كنا قد أخذنا بحظنا منه ، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد ، كنت قد أخذت بحظك منه ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى فيهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم ‏‏.‏‏ ولا أنتم عابدون ما أعبد ‏‏.‏‏ لكم دينكم ولي دينِ ‏‏)‏‏ أي إن كنتم لا تعبدون الله ، إلا أن أعبد ما تعبدون ، فلا حاجة لي بذلك منكم ، لكم دينكم جميعا ، ولي ديني ‏‏.‏‏

 أبو جهل ، وما أنزل الله فيه

وأبو جهل بن هشام ، لما ذكر الله عز وجل شجرة الزقوم تخويفا بها لهم ، قال ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد ‏‏؟‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ لا ؛ قال ‏‏:‏‏ ‏عجوة يثرب بالزبد ، والله لئن استمكنا منها لنتزقمنَّها تزقما ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى فيه ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إن شجرة الزقوم ، طعام الأثيم ، كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي ليس كما يقول ‏‏.‏‏

تفسير لفظ ‏‏(‏‏ المهل ‏‏)‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ المهل ‏‏:‏‏ كل شيء أذبته ، من نحاس أو رصاص أو ما أشبه ذلك فيما أخبرني أبو عبيدة ‏‏.‏‏

وبلغنا عن الحسن البصري أنه قال ‏‏:‏‏ كان عبدالله بن مسعود واليا لعمر ابن الخطاب على بيت مال الكوفة ، وأنه أمر يوما بفضة فأُذيبت ، فجعلت تلون ألوانا ، فقال ‏‏:‏‏ هل بالباب من أحد ‏‏؟‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ نعم ؛ قال ‏‏:‏‏ فأدخلوهم ، فأدخلوا ، فقال ‏‏:‏‏ إن أدنى ما أنتم راءون شبها بالمهل ، لهذا ‏‏.‏‏ وقال الشاعر ‏‏:‏‏

يسقيه ربي حميم المهل يجرعه * يشوي الوجوه فهو في بطنه صهر

ويقال ‏‏:‏‏ إن المهل ‏‏:‏‏ صديد الجسد ‏‏.‏‏

وقال عبدالله بن الزبير الأسدي ‏‏:‏‏

فمن عاش منهم عاش عبدا وإن يمت * ففي النار يُسقى مهلها وصديدها

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ ‏

استشهاد في تفسير ‏‏(‏‏ المهل ‏‏)‏‏ بكلام لأبي بكر

بلغنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما حُضِر أمر بثوبين لَبِيْسين يُغسلان فيكفن فيهما ، فقالت له عائشة ‏‏:‏‏ قد أغناك الله يا أبت عنهما ، فاشترِ كفنا ، فقال ‏‏:‏‏ إنما هي ساعة حتى يصير إلى المهل ‏‏.‏‏ قال الشاعر ‏‏:‏‏

شاب بالماء منه مُهلا كريها * ثم علّ المتون بعد النهالِ

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فأنزل الله تعالى فيه ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ والشجرة الملعونة في القرآن ، وُنخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏

 ابن أم مكتوم ، والوليد ، و نزول سورة ‏‏(‏‏ عبس ‏‏)‏‏

ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و رسول الله عليه و سلم يكلمه ، وقد طمع في إسلامه ، فبينا هو في ذلك ، إذ مر به ابن أم مكتوم الأعمى ، فكلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، وجعل يستقرئه القرآن ، فشق ذلك منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضجره ، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد ، وما طمع فيه من إسلامه ‏‏.‏‏ فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى فيه ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ عبس وتولى أن جاءه الأعمى ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏‏‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ في صحف مكرمة ، مرفوعة مطهرة ‏‏)‏‏ أي إنما بعثتك بشيرا ونذيرا ، لم أخص بك أحدا دون أحد ، فلا تمنعه ممن ابتغاه ، ولا تتصدينّ به لمن لا يريده ‏‏.‏‏ ‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ابن أم مكتوم ، أحد بني عامر بن لؤي ، و اسمه عبدالله ، و يقال ‏‏:‏‏ عمرو ‏‏.‏‏