فصل: باب التعزير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.باب التعزير:

التعزير- لغة- هو مصدر (عزَّر) وأصل العز ر: المنع، فأخذ منه، لأنه يمنع من الوقوع في المعصية.
وشرعاً:- التأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة، كالاستمتاع من المرأة بما دون الفرج، أو السرقة من غيرِ حرز، والقذف بغير الزنا، والمعاصي التي لم يقدر لها حدود، هي الكثرة الغالبة.
أما ما فيه حدّ مقدر من الشارع، فهو القليل المحصور، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على مقدار هذه العقوبة والخلاف فيه.
أما حكمته التشريعية:- فهو من جملة الحدود التي تقدم الكلام في فوائدها ومنافعها.
وحكمه ثابت، في الكتاب، والسنة، والإجماع. ونصوصه كثيرة مشهورة.
الحديث الرابع والخمسون بعد الثلاثمائة:
عَنْ أبي بُرْدَةَ هانئ بْنِ نِيَار البلويِّ رَضي الله عَنْهُ: أنَّهُ سَمِع رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
«لا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرَةِ أسْوَاطٍ إلا في حَدٍّ مِنْ حدود اللّه».
المعنى الإجمالي:
يراد بحدود الله تعالى، أوامره ونواهيه. فهذه لها عقوبات رادعة عنها، إما مقدرة، كالزنا والقذف أو غيره مقدرة، كالإفطار في نهار رمضان، ومنع الزكاة، وغير ذلك من قِبَلِ المحرمات، أو ترك الواجبات.
وهناك تأديبات وتعزيرات للنساء والصبيان، لغير معصية الله..
وإنما تفعل لتقويمهم وتهذيبهم. فهذه لا يزايد فيها على عشرة أسواط، ما داموا لم يتركوا واجبا من دينهم، أو يفعلوا محرما عليهم من ربهم.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن حدود اللّه تعالى، التي أمر بها، أو نهى عنها، لها عقوبات تردع عنها، إما مقدرة من الشارع، أو راجع وتقديرها إلى المصلحة التي يراها الحاكم. وهى أنواع كما يأتي.
2- أن تأديب الصبيان والنساء والخدم ونحوهم، يكون خفيفا بقدر التوجيه والتخويف، فلا يزاد فيه على عشرة أسواط.
والأولى تهذيبهم بدون الضرب، بل بالتوجيه، والتعليم، والإرشاد، والتشويق، فهو أدعى للقبول واللطف في التعليم.
والأحوال في هذا المقام تختلف كثيراً، فينبغي فعل الأصلح.
3- ظاهر هذا الحديث تحريم الزيادة على عشرة أسواط، لأن الحديث جاء بصيغة النَهْي ويقتضي التحريم.
اختلاق العلماء:
اختلاف العلماء في المراد من معنى قوله: «إلا في حَدٍّ من حدود الله» فذهب بعضهم: إلى أن المراد (بالحدود) هي التي قدرت عقوباتها شرعاً كحد الزنا، والقذف، والسرقة، والقصاص في النفس، وما دونها من الأطراف والجروح.
فعلى هذا، يكون ما عداها من المعاصي، هو الذي عقوبة مرتكبه التعزير، وهو من عشرة أسواط فأدنى، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
على أن الأصحاب يريدون بالتعزير المقدر، لمن كان قد فعل المعصية.
أما المقيم عليها، فيُعزَّر حتى يُقلع عنها، ولذا قال شيخ الإسلام: (والذين قدروا التعزير من أصحابنا، إنما هو فيما إذا كان تعزيرا على ما مضى من فعل أو ترك.
فإن كان تعزيرا لأجل ترك ما هو فاعل له، فهو بمنزلة قتل المرتد والحربي، وقتال الباغي. وهذا تعزير ليس يقدر، بل ينتهي إلى القتل، كما في الصائل لأخذ المال، يجوز أن يمنع ولو بالقتل) وله بقية.
وعنه أن كل معصية لها مثل المقدر، لا يبلغ بها حدًا المقدَر، كأن يزني بجارية له فيها شرك، فيجلد مائة سوط إلا واحداً.
ومذهب أبي حنيفة، والشافعي: أنه لا يبلغ بالتعزير، الحدود المقدرة.
وذهب بعض العلماء: إلى أن معنى قوله: «إلا في حد من حدود الله» أن المراد بحدود الله، أوامره ونواهيه، وأنه ما دام التعزير لأجل ارتكاب معصية بترك واجب أو فعل محرم، فيبلغ به الحد الذي يراه الإمام رادعاً وزاجراً من ارتكابه والعودة إليه، وذلك يختلف باختلاف المكان والزمان، وباختلاف الأشخاص، وباختلاف المعصية.
فللأزمنة: والأمكنة، حكم بالتخفيف أو التشديد في عقوبة العصاة، وكذلك الأشخاص، لكل منهم أدبه اللائق والكافي لردعه.
فبعضهم يكفيه التوبيخ، وبعضهم الضرب والجلد. وبعضهم الحبس. وبعضهم أخذ المال.
والذين يندر أن تقع منهم المعاصي- وهم ذوو الهيئات- فينبغي التجاوز عنهم.
وبعضهم مجاهرون معاندون، فينبغي النكاية بهم.
والمعاصي تختلف في عِظَمِها وخفتها.
فينبغي للحاكم ملاحظة الأحوال، والظروف، والملابسات، ليكون على بصيرة من أمره، ولتكون تعزيراته وتأديباته واقعة مواقعها، وافية بمقصودها، وهو راجع إلى رأي الحاكم، فقد يكون بالتوبيخ، وقد يكون بالهجر، وقد يكون بالجلد، وقد يكون بالحبس، وقد يكون بأخذ المال، وقد يكون بالقتل.
وكل هذه العقوبات، لها أصل في الشرع. وإليك كلام العلماء في هذا الباب.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى- فيمن شرب خمراً في نهار رمضان، أو أتى شيئاً نحو هذا-: (أقيم عليه الحد وغلظ عليه، مثل الذي يقتل في الحرم، ودية وثلث دية)
وقال أيضاً: (إذا أتت المرأة المرأة، تعاقبان وتؤدًبان).
وقال أيضاً- فيمن طعن على الصحابة-: (إنه قد وجب على السلطان عقوبته، فإن تاب وإلا أعاد العقوبة).
وقد أطال الناقل عن شيخ الإسلام في الاختيارات في هذا الباب فنجتزئ من ذلك بفقرات تُبيِّن رأيه، وتنير الطريق في هذه المسألة.
قال رحمه اللَه: (وقد يكون التعزير بالعزل والنَّيْلِ من عِرْضِه، مثل أن يقال: يا ظالم، يا معتدى، وبإقامته من المجلس).
وقال: (والتعزير بالمال سائغ، إتلافاً، وأخذا، وهو جار على أصل أحمد، لأنه لم يختلف أصحابه أن العقوبات في الأموال غير منسوخة كلها).
وقول الشيخ أبى محمد المقدسى (ابن قدامه): (ولا يجوز أخذ مال المعزر)، إشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظلمة.
وقال: (ويملك السلطان تعزير من ثبت عنده أنه كتم الخبر الواجب.كما يملك تعزير المقر إقراراً مجهولا حتى يفسره، أو من كتم الإقرار).
وقد يكون التعزير بتركه المستحب كما يعزر العاطس الذي لم يحمد اللّه، (بترك تشميته).
وقال: وأفتيت أميرا مقدماً على عسكر كبير في الحربية، فإذا نهبوا أموال المسلمين ولم ينز جروا إلا بالقتل، أن يقتل من يَكفون بقتله ولو أنهم عشرة إذ هو من باب دفع الصائل.
وقال ابن القيم: الصواب أن المراد بالحدود هنا، الحقوق التي هي أوامر الله ونواهييه. وهي المرادة بقوله تعالى: {وَمَنْ يتعدَّ حُدودَ اللّه فأولئكَ هُمُ الظالمون} وفي أخرى {فَقَدْ ظَلَمَ نَفسَهُ} وقال: {تِلْكَ حُدُوُد الله فلا تَقرَبُوها} فلا يزاد على الجلدات العشر، في التأديبات التي لا تتعلق بمعِصية، كتأديب الأب ولده الصغير.
وقال أبو يوسف- صاحب أبي حنيفة-: (التعزير على قدر عظم الذنب وصغره، على قدر ما يرى الحاكم من احتمال المضروب، فيما بينه وبين أقل من ثمانين).
وقال الإمام مالك رحمه اللّه تعالى: (التعزير على قدر الجرم. فإن كان جرمه أعظم من القذف، ضُرِبَ مَائة أو أكثر).
وقال أبو ثور: (التعزير على قدر الجناية وتسرعِ الفاعل في الشر، وعلى قدر ما يكون أنكل وأبلغ في الأدب، وإن جاوز التعزير الحد، إذا كان الجرم عظيما، مثل أن يقتل الرجل عبده، أو يقطع منه شيئاً، أو يعاقبه عقوبة يسرف فيها، فتكون العقوبة فيه على قدر ذلك. وما يراه الإمام إذا كان عدلا مأمو نا).
وقال شيخنا (عبد الرحمن بن سعدى) رحمه الله تعالى: و(الصحيح جواز الزيادة في التعزير على عشر جلدات بحسب المصلحة والزجر). فهذه أقوال الأئمة وآراؤهم في التعزير رحمهم اللّه تعالى.
والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا في حَد من حدود الله»: أن المراد به المعصية، وأن الذي لا يزاد على ذلك، تأديب الصغير، والزوجة، والخادم، ونحوهم في غير معصية.
فوائد منقوله عن شيخ الإسلام:
الأولى: كان عمر بن الخطاب يكرر التعزير في الفعل إذا اشتمل على أنواع من المحرمات فكان يعرز في اليوم الأول مائة، وفي الثاني مائة، وفي الثالث مائة، يفرق التعزير لئلا يفضى إلى فساد بعض الأعضاء.
الثانية: الذي عنده مماليك وغلمان يجب عليه أن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وإذا كان قادرا على عقوبتهم فينبغي له أن يعزرهم على ذلك إذا لم يؤدوا الواجبات ويتركوا المحرمات.
الثالثة: الاستمناء باليد حرام عند جمهور العلماء، وهو أصح القولين في مذهب أحمد، وفي القول الآخر هو مكروه غير محرم، وأكثرهم لا يبيحونه لخوف العنت... ونقل عن طائفة من الصحابة والتابعين أنهم رخصوا فيه للضرورة، مثل أن يخشى الزنا، فلا يعصم منه إلا به، ومثل إن لم يفعله أن يمرض، وهذا قول أحمد وغيره وأما بدون الضرورة فما علمت أحدا أرخص فيه. والله. أعلم.

.كتاب الأيمَان والنذور:

الأيمان- لغة- بفتح الهمزة جمع (يمين). واليمين خلاف اليسار، وأطلقت على الحلف، لأنهم كانوا إذا تحالفوا، أخذ كل منهم يمين صاحبه.
وتعريفه شرعاً: تحقيق الأمر المحتمل أو تأكيده، بذكر اسم من أسماء الله تعالى، أو صفة من صفاته.
والأصل فيه، الكتاب، والسنة، والإجماع.
فأما الكتاب، فقوله تعالى: {لا يُؤاخِذُكُمُ اللّه باللغو في أيمانكم} الآية. وقوله تعالى: {ولا تَنْقُضُوا الأيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها}.
والسنة، شهيرة بذلك، ومنه ما يأتي من الأحاديث إن شاء الله.
وقد أجمعت الأمة على مشروعيه اليمين، وثبوت أحكامها.
ولا ينبغي الإكثار من الحلف، ويشرع مع الحاجة لإزالة شبهة، أو نَفْى تهمة، أو تأكيد خبر.
فقد أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقسم على البعث في ثلاثة مواضع من القرآن {ويستنبؤنك أحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ إي وربِّى} {قُلْ بلَى وربِّى لتبْعَثنَّ} {قلَ بَلَى وربِّى لَتَأتِينَّكم} وأقسم صلى الله عليه وسلم لمناسبات كثيرة.
والحلف أنواع، جاء في الأحاديث التي ذكرها المؤلف (اليمين الغموس) واليمين التي تدخلها الكفارة وسيأتي الكلام عليهما.
ولم يذكر المؤلف لَغوَ اليمين وأحسن ما فسر به نوعان:
الأول: أنها اليمين التي لا يقصدها الحالف، بل تجرى على لسانه من غير تعقيد ولا تأكيد، كما جاء عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هو كلام الرجل في بيته،» لا والله و«بلى والله». وجاء عنها هذا الأثر موقوفا أيضاً.
الثاني: أن يعقد الحالف اليمين ظانًّا صدق نفسه، ثم يتبين بخلافه.
فهذان النوعان من لَغْوِ اليمين، ليس على صاحبها إثم ولا كفارة.
الحديث الأول:
عِنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ سَمُرةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ الرَّحْمنِ بْن سَمُرَةَ، لا تسأل الإمَارَةَ، فَإنَّك إن أعطيتها عَنْ مَسْألةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا، وَإنْ أعطيتها عَنْ غَيْر مَسْألةٍ أعنْتَ عَلَيْهَا. وإذا حَلَفْتَ على يِمِين فَرَأيْتَ غَيرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الًذِي هُوَ خَير».
الحديث الثاني:
عَنْ أبي مُوسىَ رَضيَ اللّه عَنْهُ قَال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني والله- إنْ شَاءَ الله- لا أحْلِفُ على يَمِين فَأرى غيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا إلا أتيت الًذِي هُوَ خَير، وَتَحَلَّلْتُهَا».
المعنى الإجمالي:
يرشد النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سمرة، وهذا النصح والإرشاد للأمة عامة.
فيقول: لا تطلب الإمارة، والولايات والوظائف عامة، وتحرص عليها وعلى تحصيلها بالوسائل والوسائط.
فإن وليتها عن هذا الطريق، فإنك ستُوكَلُ إلى جهدك وقوتك.
وأنت- بلا عَوْنِ الله تعالى وتوفيقه- ضعيف قاصر. ولذا فإنك ستخفق في عملك.
وذلك إنك اتَّكَلْتَ على جهدك، وجئت العمل عن غرور وعجب بنفسك، ولم يكن- لطلب العون من الله والتوفيق- محل في نفسك. فحريٌّ إن يخذلك.
ولأنك غالبا ما طلبتها إلا لأغراضك الخاصة.
وستكون أغراضك من مال أو جاهٍ، أو غيرهما، هي مقصود ك وهدفك، ولن تعطى العمل حقه، فيكون ذلك سبباً لإخفاقك وعدم نجاحك أيضاً.
أما إن جاءتك من غير مسألة ولا طلب، فالغالب أنك- حين لم تستشرف لها- ستكون مهتما للقيام بها، والاجتهاد فيها.
وهذا سيدعوك إلى الالتجاء إلى اللّه تعالى بطلب مدده وعونه وتسديده، وستحرص على القيام بها، وبهذا تعان عليها فتنجح فيها.
ثم ذكر أنه قد يفرط منك يمين، بسبب الامتناع عن الإمارة أو قبولها، فأمرك أنك إذا حلفت على أمر لتفعله أو لِتَدَعَهُ، فإن كان لا يترتب على حلفك شيء، فأنت مخيَّر بين المضي فيها أو التكفير.
وإن كان الأحسن هو فعل المحلوف على تركه، أو ترك المحلوف على فعله فَائتِ الذي هو خير، وكفرْ عن يمينك.
وكما أن هذا أمره، فهو فعله الرشيد أيضاً، كما بينه في الحديث الثاني، حيث أقسم صلى الله عليه وسلم: أنه لا يحلف على يمين فيرى غيرها خيراً إلا أتى الذي هو خير، وتحلل من يمينه بكفارة.
ما يستفاد من الحديثين:
1- كراهة طلب الإمارة، والمراد بها، الولايات والوظائف كلها، والحرص عليها لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو: «من ابتغى القضاء وسأله وكل إلى نفسه، ومن كره عليه أنزل الله ملكاً يسدده» ولما في ذلك من تعريض نفسه لعمل قد لا يقوم بحقوقه فيكون مُعَرِّضاً نفسه للخطر، ولما في ذلك- غالباً- من العجب والغرور، فإنه ما طلبه إلا معتدا بنفسه وقوته، وناسيا إعانة اللّه تعالى وتوفيقه، ولما فيه غالبا من سوء القصد، فإنه لن يطلبها مع وجود من يقدم بها غيره إلا لغرض مال، أو جاهٍ أو غير ذلك من المقاصد الدنيئة.
2- أن من جاءته الولاية بلا طلب ولا استشراف، فَسَيُعَانُ عليها، لأنه يرى القصور بنفسه، ويخاف العجز عنها، وحينئذ سيلتجئ إلى اللّه تعالى، فتأتيه الألطاف الإلهية بالعون والتسديد.، وسيحرص على عمله ويخلص فيه، فيكون سبباً لنجاحه وقيامه به.
3- مناسبة هذه الفقرة في الحديث لما بعدها، ولعلها تكون ما بينه الزركشى بقوله (لاحتمال أن يؤديه الامتناع عن الإمارة إلى الحلف، وتكون المصلحة في القبول).
4- أن من حلف أن لا يفعل كذا، أو أن يفعله، ثم رأى الخير في غير الذي حلف عليه، إما الفعل وإما الترك، فَليَأتِ الذي هو خير، ولْيكَفِّر عن يمينه. ويختلف هذا، باختلاف المحلوف عليه.
فقد يكون الحنث واجباً، وقد يكون مستحبا، وقد يكون حراماً، وقد يكون مباحاً. فيخَير بين البقاء على يمينه، أو الحنث مع التكفير.
5- عند جمهور العلماء أن الكفارة رخصة شرعها الله تعالى لحل ما عقدت اليمين، ولذلك تجزئ قبل الحنث وبعده، وذكر عياض أن الذين قالوا بتقديم التكفير من الصحابة أربعة عشر صحابيا، كما قال به قبل الحنث ربيعه والأوزاعي والليث ومالك وأحمد وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي.
6- أن هذا التشريع، كما هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فهو- أيضا- فعله. فقد أخبر أنه لا يحلف على يمين فيرى غيرها خيرا منها إلا أتى الذي هو خير، وكفر عن يمينه.
وهذا هو عين المصلحة، وهو تخفيف من ربنا ورحمة.
وكانت الأمم السابقة، ليس عندهم تحليل وتكفير، فلابد من الوفاء بأيمانهم.
ولذا فإن أيوب عليه السلام، لما حلف أن يضرب زوجته، وترك عزمه. لم يجد لقضاء يمينه إلا أن يضربها بِضِغْثِ فيه عدد الجلدات المرادة.
الحديث الثالث:
عَنْ عُمَرَ بْن الخَطَّابِ رَضيَ اللّه عَنْهُ قَالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللّه ينهاكم أنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ».
ولـ مسلم: «فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِالله أوْ لِيَصْمُت».
وفي رواية: قالَ عُمَرُ: فوالله مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَنْهَى عَنْهَا، ذَاكِراً وَلا آثِراً (يعني: حَاكِياً عَنْ غَيْرِي انَّهُ حَلَفَ بِهَا).
الغريب:
ليصمت: بضم الميم وكسرها.
ذاكراً: يعني عامداً.
آثرا: بهمزة ممدودة، فثاء مثلثة مكسورة. يعنى حاكياً عن غيري: أن حلف بها. ومنه الزيادة ثابتة في صحيح (البخاري) أيضا من حديث ابن عمر، فتوجه فيها نقدان:
أحدهما: كونها ليست من أفراد (مسلم).
الثاني: أنها ليست من سند عمر.
المعنى الإجمالي:
الحلف: معناه تأكيد الفعل أو الترك، بذكر المعظم في النفس، المرهوب السطوة والانتقام، والتعظيم المطلق، والخوف والخشية من الأعمال التي لا تكون إلا للّه.
وصرفها لغيره، أو صرف بعضها، شرك. لهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا، ينهانا أن نحلف بشيء غيره كآبائنا، تلك العادة الجارية في الجاهلية، وأمرنا- إذا حلفنا- أن لا نحلف إلا بالله تعالى، لأنه المستحق للتعظيم، وهو القادر- وحده- على الانتقام من الكاذب، وهو الضار النافع.
وإن لم نكن حالفين بالله فَلْنَصْمُتْ وَلنسكتْ عن الحلف بغيره، فإنه شرك كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود، والحاكم، من حديث ابن عمر: (من حلف بغير الله كفر)
ولما علم الصحابة رَضي الله عنهم بالنهي عن ذلك، انتهوا عنه واجتنبوه. فكانوا لا يحلفون إلا بالله، أو بصفاته العلية.
ولذا قال عمر رضي الله عنه: (فو الله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، لا عامدا، ولا حاكيا، أي ناقلا كلام غيري).
كل هذا احتراز من الوقوع في المحظور وابتعاد عنه.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم الحلف بالآباء، لأنه الأصل في النهي. والنهي عن الحلف بالآَباء عام لكل شيء.
فلا يحل لمخلوق- كائنا ً من كان- أن يقسم ويحلف بغير اللّه جل وعلا.
أما الله سبحانه وتعالى فله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته.
ولهذا، فلا يحلْ الحلف بغير الله تعالى وصفاته، مهما كان عظم المحلوف به، كالنبي صلى الله عليه وسلم، والكعبة المشرفة، وغيرها.
2- أن من أراد الحلف بغير اللَه فليلزم الصمت، فإنه أسلم له.
3- وعلة النهى: أن الحلف يراد به التأكيد بذكر أعظم شيء في نفس الحالة وأشد عقاب وانتقام. وهذا لا يكون إلا لله تعالى وحده.
وصرفه لغيره كفر كما جاء في حديث ابن عمر. ولكنه كفر لا يخرج من الملة، فإن الكفر أنواع وأقسام.
4- وأما ما وقع مما يخالف هذا النهى من قوله صلى الله عليه وسلم: «أفلح وأبوه إن صدق» فقيل بعدم صحتها. قال ابن عبد البر: هذه اللفظة غير محفوظة. وقيل: إن وأبيه مصحفة عن (واللّه) قال ابن حجر: هو محتمل. وقيل إن هذا اللفظ مما يجرى على الألسنة بغير قصد القسم به وذكر النووي أنه ربما كان جائزا ثم نسخ.
5- فضيلة عمر رضي الله عنه، بسرعة امتثاله وحسن فهمه وتورعِه. فلم يحلف بغير الله بنفسه، ولم يحك قَسَمَ غيره بغير الله، امتثالا وابتعاداً، لئلا يتعود لسانه عليه، فيخف عليه ويعتاده.
6- إنما خصَّ النهي عن الحلف بالآباء، مع أنه عامُّ في كل ما سوى الله تعالى، لأن هذه عادة جاهلية، فنص عليها بعينها، مع فهم المراد العام منها.
فقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب مع رَكب فسمعه يحلف بأبيه، فذكر الحديث.
الحديث الرابع:
عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضي اللّه عَنْهُ عَنِ النَبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ عَلَيْهمَا السلام: لأطُوفَنَّ الّليلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأةً تَلِدُ كُلُّ امْرَأةٍ مِنْهُنً غلاماً يُقَاتِلُ في سَبِيلِ اللّه.
فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللّه. فَلَمْ يَقُلْ. فَطَافَ بِهنَّ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُن إلا. امْرَأة وَاحِدَة نِصْفَ إنْسَانٍ.
قَالَ: فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَوْ قَالَ: إنْ شَاء اللّه لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ ذلِكَ دَرَكاً لِحَاجَتِهِ».
قوله: «قيل له: قُلْ: إنْ شَاءَ اللّه» يَعْني قال لَهُ المَلَكُ.
الغريب:
لأطوفن: اللام واقعة في جواب قسم مقّدر محذوف، كأنه قال: (والله لأطوفن) والنون للتأكيد.
وطاف بنسائه: ألَم بِهنَّ وقاربهن، والمراد به المجامعة.
دَرَكاً لحاجته: بفتح الدال المهملة والراء، اسم مصدر لـ (أدرك) والمراد به: اللحاق والوصول إلى الشيء.
والملك: بفتح الميم واللام، أحد الملائكْة.
المعنى الإجمالي:
سليمان عليه السلام نبي من أنبياء اللّه تعالى إلى بنى إسرائيل، وقد أعطاه الله من الملكً ما لم يعطه أحدا.
وكان من حرصه ورغبته في الخير وإعلاء كلمة اللّه بجهاد أعدائه، أن أقسم باللّه تعالى أن يجامع تسعين امرأة، تلد كل واحدة منهن غلاما يشب ويقوى، حتى يجاهد في سبيل الله وأتى إلى شهوته بهذه النية الصالحة، لتكون عبادةً تقربه من ربه تبارك وتعالى، جاء واثقاً بربه، مخلصاً في مقصده، جازماً في تحقق مراده فأذهله ذلك، وأنساه عن الاستثناء بيمينه بأن يقول: (إن شاء اللّه) مع تذكير الملك له ذلك.
فطاف بهن، فلم تلد له منهن إلا واحدة جاءت بنصف إنسان، تأديبا من اللّه تعالى، وعظة لأوليائه وأصفيائه، وليرجعهم إلى كمالهم بالتعلق به وإدامةْ ذكره ومراقبته، فيما يأتون وما يذرون، وليعلم الناس أن الأمر للّه وحده، وأنه المدبر المتصرف بالأمور.
فليس لنبي ولا لملك ولا لغيرهما مشاركة معه في ملكه وتصرفه، فهو القادر على كل شيء والمدبر لكل شيء.
فلو أن سليمان عليه السلام، استثنى في يمينه بمشيئة الله تعالى، لأدرك حاجته، ونال مطلوبه. ولكن الله قدر هذا، ليكون تشريعاً لخلقه، وعِظَة وعبرة للناس أجمعين.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن الاستثناء في اليمين، وهو قول الحالف (إن شاء الله) نافع ومفيد جداً لتحقيق المطلوب، ونَيْلِ المرغوب، فاٍن مشيئة الله تعالى نافذة على كل شيء، وبركة ويمن.
2- أن المستثنى لا يحنث في يمينه، إذا علقه على مشيئة اللّه تعالى.
3- في هذا الحديث، عبرة وعظة وقعت لنبي من أنبياء الله تعالى، صمم في أمره بلا مشيئة اللّه، فلم يشفع له قربه من اللّه جلا وعلا أن يحقق طلبه إلا أن يذكره فلا ينساه، فكيف بمن هو دون الأنبياء رتبة ومنزلة؟! فسبحانك من مرب حكيم.
4- أن عادات أنبياء اللّه وأوليائه، تكون بسبب نيا تهم الصالحة عبادات.
فهم يجامعون- مثلا- ليحصنوا فروجهم وأعينهم عن الحرام، وليحصنوا زوجاتهم أو ليرزقوا أولاداً صالحين، أو ليحصل كل هذا. فتكون العادة عبادة بسبب هذه النية الصالحة، والمقاصد السامية.
أما الغافلون فعباداتهم كعاداتهم. فهم يأتون المساجد للصلاة، جَرْياً على العادة المتبعة عند المسلمين، وليس لذكر الله في قلوبهم مقام. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
5- يُجْرِى الله تعالى ويُقدر مثل هذه الأمور على الكَمَلَةِ من عباده لِيرىَ الناس أن الأمر له وحده، وأنه المتفرد بالتدبير والتصريف، وأن ليس له مشارك في حكمه وأمره.
6- قال ابن دقيق العيد: وقد يؤخذ من الحديث جواز الإخبار عن وقوع الشيء بناء على الظن، فإن هذا الإخبار من سليمان لم يكن عن وحي، وإلا لوجب أن يقع ما أخبر به.
الحديث الخامس:
عَنْ عَبْدِ اللَه بْنِ مَسْعُودٍ رَضيَ الله عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمينِ صَبْرٍ، يَقتَطِعُ بها مال امرئٍ مسلم، هُوَ فِيها فاجر، لقي الله وٍهُوَ عَلَيْهِ غضبانُ» ونَزَلَت {إنَّ الَذِيَنَ يَشتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمنا قلِيلا} إلى آخر الآية.
الغريب:
يمين صبر: بإضافة يمين إلى صبر، و(صَبْر) هو بفتح الصاد وسكون الباء الموحدة،
والصبر: الحبس.وصفت اليمين بالصبر تجوُّزاً، لأنَّ الحبس وقع على الحالف المصبور عليها، الملزَم بها.
المعنى الإجمالي:
في هذا الحديث وعيد شديد لمن اقتطع مال امرئ بغير حق.
وإنما اقتطعه وأخذه بخصومته الفاجرة، ويمينه الكاذبة الآثمة.
فهذا يلقي الله وهو عليه غضبان، ومن غضب اللَه عليه فهو هالك.
ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية الكريمة، مصداقاً لهذا الوعيد الأكيد الشديد من القرآن الكريم.
وبيانها: أن الذين يعتاضون ويستبدلون بعهد الله عليهم وبأيمانِهم الكاذبة الآثمة، أعراض الحياة الدنيا، ليس لهم نصيب من الآخرة، وليس لهم من لطف الله ورحمته في ذلك اليوم العظيم، حظ ولا نصيب، ولا يطهرهم من ذنوبهم وأدر انهم، ولا يذكرهم في الملأ الأعلى بما يَسُرهم، ومع هذا، فلهم عذاب أليم لما في عملهم من مخادعة اللًه ورسوله وإيثارهم الحياة الدنيا على الآخرة، وأكلهم أموال الناس بالباطل، والتضليل في الخصومات والدعاوى.
وهذه صفات اليهود، الذين يتهالكون على المادة بكل طريق ولو بالسفالة والمهانة والنذالة.
فمن أحب أن يتصف بصفاتهم، ويتلطخ بأخلاقهم، ويسلك مسلكهم، ليحشر معهم، فَلْيَعْمَلْ عملهم، فليس عند الله محاباة.
فالناس مراتبهم عنده بأعمالهم. نسأل الله تعالى سلوك الطريق السَّوِيِّ إلى مرضاته.
ما يستفاد هن الحديث:
1-تحريم أخذ أموال الناس بالدعاوى الفاجرة والأيمان الكاذبة، وهو من كبائر الذنوب، لأن ما ترتب عليه غضب الحليم- جل وعلا- كبيرة.
2- التقييد (بالمسلم) من باب التعبير بالغالب، وإلا فمثله الذّميُّ والمعاهد.
3- شرط العقاب على مرتكب هذه اليمين، ما لم يتب ويتحلل من الإثم.
فإن تاب، فالتوبة تَجُبُّ ما قبلها، وهو إجماع العلماء.
4- قوله:- (هو فيها فاجر) ليخرج الناسي والجاهل، فإن الإثم والجزاء لا يستحقهما إلا العامد.
5- إثبات صفة الغضب لله تعالى على وجه يليق بجلاله تعالى {ليْس كَمِثلِهِ شيء وَهُوَ السَمِيعُ البصير}.
6- تفسير هذه الآية الكريمة بهذه القضية، وهو تفسير مرفوع، فيكون الحديث مبينا لمعناها، موضحاً للمراد منها.
7- ملخص معنى الآية الكريمة: أن من استبدل بأيمانه- بالله ورسوله ونكث بما أخذ عليه من الإيمان الوثيقة- الحياة الدنيا وأعراضها، فقد خاب وخسرت صفقته. لأن عوضه ولو كان الدنيا كلها، هو قليل فجزاء هذا الحرمان من الآخرة والهجران من كلام اللطف والعطف ونظر الرحمة والحنان من الكريم الحنان وسيبقى في آثامه وأرجاسه فلن يطهر. ومع هذا فلن يترك. فإن له عذاباً أليماً أعاذنا الله من ذلك ووالدينا وأقاربنا ومشايخنا وإخواننا المسلمين. آمين.
الحديث السادس:
عَنِ الأشْعَثِ بْن قَيْس قَالَ: كَانَ بيني وَبَيْنَ رَجُل خُصُومَةٌ في بِئر، فاخْتَصَمْنَا إلى رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم.
فَقَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «شَاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ».
قُلْتُ: إذن يَحْلِفَ ولا يُبَالي.
فَقاَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يِمِيِنِ صبْرٍ يقتطع بِهَا مَالَ امْرِئ مسلم هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ».
ما يستفاد من الحديث:
المعنى المقصود في هذا الحديث، تقدم شرحه في الحديث السابق، ويبقى استخراج الفوائد والأحكام، ونجملها هنا:
1- أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، هي القاعدة الإسلامية في الخصومات، وهي من فصل الخطاب المشار إليه في قوله تعالى {وآتيناه الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}.
2- ثبوت الحق بالشاهدين. فإن لم توجد البينة عند المدعِي، فعلى المدعى عليه باليمين.
3- تحريم اليمين (الغموس) وهي الكاذبة، التي تقتطع بها حق غيره، وأنها من الكبائر، التي تعرض صاحبها لغضب اللّه وعقابه.
4- أن حكم الحاكم يرفع الخلاف الظاهر فقط، أما الباطن، فلا يزال باقياً فعلى هذا لا يحل المحكوم به، ما لم يكن مباحا للمحكوم له.
5- أن يمين الفاجر تُسقطُ عنه الدعوى وأن فجوره في دينه، لا يوجب الحجر عليه ولا إبطال إقراره، ولولا ذلك، لم يكن لليمين معنى.
6- البداءة بسماع الحاكم من المدعى، ثم من المدعى عليه: هل يقر أو ينكر؟ ثم طلب لمبينة من المدعى إن أنكر المدعى عليه، ثم توجيه اليمين على المدعى عليه إن لم يجد بينة.
7- فيه موعظة الحاكم للخصوم، خصوصاً عند إرادة الحلف.
8- تغليظ حقوق المسلمين، في قليل الحق وكثيره.
9- أن اليمين الغموس ونقض العهد، لا كفارة فيهما لأنهما أعظم وأخطر من أن تحلهما الكفارة.
فلابد من التوبة النصوح والتخلص من حقوق العباد.
الحديث السابع:
عَنْ ثَابِتِ بن الضَّحَّاكِ الأنصَارِي ِّ: أنهُ بايَعَ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَاًنَّ رَسُولَ الله قالَ: «مَنْ حَلف عَلَى يِمِين بمِلَّةٍ غَيْرِ الإسلام، كَاذِباً، مُتَعمِّداً، فَهُوَ كَما قَالَ، وَمن قَتَلَ نفسَه بشيء عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَليسَ عَلَى رجل نذر فِيمَا لا يملُك».
وفِى رواية: «وَلَعْنُ الْمُؤمِنِ كَقَتْلِهِ».
وفي رواية: «مَن ادَّعَى دَعْوَى كَذِبةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا، لَمْ يَزِدْهُ اللّه إلا قِلَّةً».
المعنى الإجمالي:
روى ثابت بن الضحاك الأنصاري- أحد المبايعين تحت الشجرة (بيعة الرضوان) يوم الحديبيِة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما معناه: من حلف على يمين بغير شريعة الإسلام: كأن يقول: هو يهودي أو نصرانيّ، أو هو مجوسي، أو هو كافر أو برئ من الله ورسوله متعمداً كاذباً في يمينه، فهو كما نسب نفسه إليه من إحدى هذه الملل الكافرة.
ومن قتل نفسه بشيء، كسيف، أو سكين، أو رصاص، أو غير ذلك من آلات القتل، عُذب به يوم القيامة.
وذلك لأن نفسه ليست ملكا له، وإنما هي ملك للَه تعالى، وهو المتصرف بها، فهي عنده وديعة وأمانة خان فيها بانتحاره.
فالجزاء من جنس العمل، فاستحق العذاب والقصاص، بمثل ما فعل.
ومن لعن مؤمنا، فكأنما قتله، لاشتراك اللاعن والقاتل، بانتهاك حرم الله تعالى، واكتساب الإثم، واستحقاق العذاب.
ومن تكبر وتكثر بالدعاوى الكاذبة، التي ليست فيه، من مال أو علم، أو نسب، أو شرف، أو منصب، مريداً بذلك التطاول، لم يزده اللّه إلا ذلَّةً وحقارة، لأنه أراد رفع نفسه بما ليس فيه، فجزاؤه من جنس مقصده.
وأعظمها أن يقصْد بدعاويه الحيلة لأكل أموال الناس بالباطل، أو تضليلهم ومخادعتهم.
ومن نذر شيئاً لم يملكه- كأن ينذر عتق عبد فلان، أو التصدق بشيء من مال فلان، فإن نذره لاغ لم ينعقد، لأنه لم يقع موقعه، ولم يحل محله.
ما يستفاد من الحديث:
1- تغليظ التحريم على من حلف بشريعة غير الإسلام.
وقد اختلف العلماء. هل لها كفارة أم لا؟.
فالمشهور من مذهبنا أن فيها الكفارة، وهو مذهب الحنفية وغيرهم. ومذهب مالك، والشافعي: ليس فيها كفارة، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها (ابن قدامه) و(ابن دقيق العيد) وغيرهما، وهي أصح.
2- تحريم قتل الإنسان نفسه، فإن إثمه كإثم القاتل لغيره، ويعذًب بما قتل به نفسه، فإن الجزاء من جنس العمل.
3- وأن لعن الإنسان كقتله في المشاركة في الإثم، وإن لم يستويا في قدره.
4- تحريم ادعاء الإنسان ما ليس فيه، من علم، أو نسب، أو شجاعة، أو غير ذلك. خصوصاً لمن غَر بها الناس، أو يدعي معرفته لعمل، ليتولى وظيفته. كل هذا حرام.
ومن فعله رياء وتكبرا، لم يزده الله تعالى إلا ذِلة، فالجزاء من جنس القصد الدنيء.
5- أن النذر لا ينعقد فيما لا يملكه الناذر، فإن النذر طاعة وقربة. ولا يتقرب فيما لا يتصرف فيه، وإذا نذر، فليس عليه في نذره شيء.
6- ظاهر قوله في الحديث: (فهو كما قال) أن الحالف بغير ملة الإسلام يخرج من الإسلام، وأن قوله (لعن المؤمن كقتله) أن إثم اللاعن والقاتل سواء. وتقدم الكلام على مثل هذه النصوص.
ولشيخ الإسلام ابن تيميه في مثل هذه الأحاديث مسلك، وهو: أنه لابد في وقوع الوعيد من وجود أسبابه وانتفاء موانعه.
فإذا رتب الوعيد على فعل شيء، كان فعله سبباً من أسباب الوعيد الموجب لحصوله.
فإن انتفت الموانع من ذلك وقع، وإن عارض السبب مانع اندفع موجب السبب بحسب قوة المانع وضعفه، وهذه قاعدة نافعة.