فصل: كتاب القِصَاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.كتاب القِصَاص:

قال (ابن فارس):القاف والصاد، أصل صحيح، يدل على تَتَبعِ الشيء ومن ذلك قوله اقتصصت الأثر إذا تتبعته، ومن ذلك اشتقاق القصاص في الجراح وذلك أنه يفعل به، مثل فعله بالأول. فهو شرعا: تتبع الدم بالقَوَدِ.
والأصل في القصاص، الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
فأما الكتاب فلقوله تعالى: {النَّفس بِالنَّفْس} الآية، و{كُتِبَ عليكم القِصَاصُ في القتلى}.
وأما السنة، فكثير. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث- إلى قوله:- والنفس بالنفس».
وأجمع العلماء عليه في الجملة.
وهو مقتضى القياس، فهو المساواة بين الجاني والمجني عليه.
حكمته التشريعية:
حكمته متجلية في هذه الآية الكريمة البليغة {ولكم في القِصَاص حَيَاة} قال الشوكاني: (أي لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة).
وذلك لأن الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصاً إذا قتل آخر، كَفَّ عن القتل وانزجر عن التسرع إليه، والوقوع فيه، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية.
وهذا نوع من البلاغة بليغ، وجنس من الفصاحة رفيع، فإنَّه جعل القصاص الذي هو موت حياةً باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضاً، إبقاء على أنفسهم، واستدامة لحياتهم.
ولهذا نجد كثرة القتل: الجرائم عند الأمم التي زعمت المدنية، فحكمت بالقوانين الوضعية، فلم تجاز الجاني بما يستحق، بل حكمت بالسجن تَمَدُّناً ورحمة.
ولم ترحم المقتول الذي فقده أهله، وبنوه. ولم ترحم الإنسانية، التي أصبحت غير آمنة على دمائها بيد هؤلاء السفهاء، والذين لا تلذ لهم الحياة إلا في غياهب السجون.
فهؤلاء الذين عدلوا عن القوانين السماوية إلى القوانين الأرضية، لم يفكروا في عواقب الأمور، لأنهم ليسوا من أولى الألباب الذين يتدبرون فيعقلون.
الحديث الأول:
عَنْ عبدِ الله بْنِ مسعُودٍ رَضي الله عَنْهُ قال: قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَحِلُّ دَمُ امرئ مُسْلمٍ يَشهدُ أن لا إله إلا الله وَأني رَسُولُ الله» إلا بإحْدَى ثلاث:
1- الثيبُ الزًاني.
2- وَالنفْسُ بِالنَفْس.
3- وَالتاركُ لِدِينهِ المُفَارِقُ لِلجمَاعَةِ.
المعنى الإجمالي:
حرص الشارع الحكيم الرحيم على إبقاء النفوس وأمْنِها، فجعل لها من شرعه حماية ووقاية، فجعل أعظم الذنوب-بعد الإشراك بالله- قتل النفس التي حرم الله.
وحرم-هنا- قتل المسلم الذي أقر بالشهادتين إلا أن يرتكب واحدة من الخصال الثلاث.
الأولى: أن يزني وقد مَن الله عليه بالإحصان، وأعف فرجه بالنكاح الصحيح.
والثانية: أن يعمد إلى نفس معصومة، فيزهقها عدوانا وظلما.
فالعدل والمساواة لمثل هذا، أن يلقى مثل ما صنع إرجاعا للحق إلى نصابه وردعا للنفوس الباغية عن العدوان.
والثالثة: من يبتغى غير سبيل المؤمنين، بالارتداد عن دينه، والرجوع عن عقيدته، فهذا يقتل لأنه لا خير في بقاء من ذاق حلاوة الإيمان، ثم رغب عنه وزهد فيه.
فهؤلاء الثلاثة يقتلون، لأن في قتلهم سلامة الأديان والأبدان والأعراض.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم قتل المسلم من ذكر وأنثى، وصغير وكبير، بغير حق.
2- أن من أتى بالشهادتين (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) وأتى بما تقتضيانه وابتعد عما يناقضهما، فهو المسلم. محرم الدم والمال والعرض، له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم.
3- تحريم فعل هذه الخصال الثلاث أو بعضها، وأن من فعل شيئا منها، استحق عقوبة القتل، إما كفرا، أوحدا، فدمه هدر.
4- الثيب، يراد به المحصن، وهو من جامع وهو حُر مكلف، في نكاح صحيح، سواء أكان رجلا أم امرأة. فإذا زنا، فعقوبته الرجم بالحجارة حتى يموت.
5- أن من قتل معصوما عمدا عدواناً، فهو مستحق للقصاص بشروطه.
6- أن المرتد عن الإسلام يقتل، لأن ردته دليل على خبث طويته، وأن قلبه خال من الخير وغير مستعد لقبوله، سوءا أكان ذكرا أم أنثى، فإن كفره أعظم من الكفر الأصلي.
7- استدل بهذا الحديث على أن تارك الصلاة لا يقتل بتركها، لكونه ليس من الأمور الثلاثة.
أما ابن القيم فقد قال في كتاب الصلاة: وأما حديث ابن مسعود- ولا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث- فهو حجة لنا في قتل تارك الصلاة، فإنه جعل منهم التارك لدينه، والصلاة ركن الدين الأعظم، ولاسيما إن قلنا بأنه كافر، فقد ترك الدين بالكلية، وأنه إن لم يكفر فقد ترك عمود الدين.
الحديث الثاني:
عن عبد الله بن مسعود رَضيَ الله عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يقضى بيْنَ الناس يَوْمَ القيامَةِ، في الدماءِ».
المعنى الإجمالي:
يحاسب الله تعالى الخلائق يوم القيامة، ثم يقضي بينهم بعدله. ويبدأ من المظالم بالأهم.
بما أن الدماء هي أعظم وأهم ما يكون من المظالم، فإنها أول ما يقضي به منها في ذلك اليوم العظيم.
ما يستفاد من الحديث:
1- عِظَمُ شأن دم الإنسان، فإنه لم يبدأ به يوم القيامة إلا لكونه أهم وأعظم من غيره من أنواع مظالم العباد. قال ابن دقيق العيد: فيه تعظيم لأمر الدماء، فإن البداءة تكون بالأهم فالأهم، وهي حقيقة بذلك فإن الذنوب تعظم بحسب عظم المفردة الواقعة بها، أو بحسب فوات المصالح المعلقة بعدمها، وهدم البنية الإنسانية من أهم المفاسد، ولا ينبغي أن يكون بعد الكفر بالله تعالى أعظم منه.
2- إثبات يوم القيامة والحساب والقضاء: الجزاء فيه.
3- هذا الحديث لا ينافي ما أخرجه أصحاب السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما يحاسب عنه العبد صلاته، لأن حديث الباب فيما بين العبد وبين غيره من الخلق، وحديث الصلاة، فيما يتعلق بحقوق الخالق.
ولا شك أن أعظم حقوق الناس هي الدماء، وأن أعظم حقوق الله على المسلم، الصلاة.
4- أنه على القضاء والمحاكم العناية بأمر قضايا الدماء والقتل، وجعل الأهمية لها والأولوية على غيرها من القضايا.
الحديث الثالث:
عَنْ سَهْل بْنِ أبي حَشمَةَ قَال: انطلق عَبْدُ الله بْن سهل وَمحَيصَةُ بْنُ مَسْعُود إلَى خَيْبَرَ-وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْح- فَتَفَرَّقَا. فَأتَى مُحَيصةُ إلَى عَبْدِ الله بْن سَهْل وَهُوَ يَتَشَحطُ فِي دَمِه قَتِيلا. فَدَفَنَهُ. ثُمً قَدِمَ المَدِينَةَ فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرحمن بنُ سَهْل وَمُحَيصَةُ وَحُريصَةُ ابنا مَسْعُود إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فَذَهَبَ عَبْدُ الرحمن يتكلم.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «كَبِّر كَبِّر» وَهُو أحدث القَوْم، فَسكَتَ، فَتَكَلَمَا.
فَقَال: «أتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقونَ قاتلكم أوْ صاحبكم»؟.
قَالوا: وَكَيفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَرَ؟ قَال: «فتبرئكم يهود بِخَمسِينَ يمينا؟». قَالوا: وَكَيفَ بأيمان قَوْم كُفَّار؟.
فَعَقَلَهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ.
وَفي حَدَيثِ حَمادِ بن زَيدٍ: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «يقسم خَمْسُونَ منكم عَلَى رَجُل مِنْهُمْ فيدْفعُ بِرمتِهِ» قالوا: أمْر لَم نشهده، كَيفَ نَحْلِفُ؟.
قال: «فتبرئكم يهود بِأيمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟» قالوا: يَا رسول الله، قوم كُفَّار؟.
وَفي حَدِيِثِ سعد بن عبيد: فَكَرِهَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُبطِل دمه، فَوَدَاهُ بمِائةٍ مِن إبِل الصَّدَقَةِ.
الغريب:
مُحَيصة: بضم الميم فحاء مهملة، فمثناة تحتية مشددة، فصاد مهملة، على صيغة التصغير.
يتشحط: بفتح الياء التحتية والتاء الفوقية أيضا، بعدها شين معجمة، ثم حاء مهملة مشددة، بعدها طاء. يعنى: يضطرب ويتخبط.
حُوَيِّصة: بضم الحاء وفتح الواو، فمثناة تحتية مشدَّدة، فصاد مهملة.
كبَّر كَبِّر: بلفظ الأمر فيهما، والثاني تأكيد لفظي للأول.
يعنى: ليتكلم الكبير سناً.
أحدث القوم: أصغرهم.
فعقله: أصله أن القاتل كان إذا قَتَل، جمع الديةَ من الإبل فعقلها بفناء أولياء المقتول أي: شدها في عقلها، ليسلمها إلى أهله. فسميت (عقلا) بالمصدر، وكثر استعماله للدية ولو بالنقود.
بِرمته: بضم الراء المهملة بعدها ميم مشددة مفتوحة، والرمة: الحبل، والمراد إذا استحققتم بأيمانكم قتله دفع إليكم أسيرا مقيدا بحبله، لا يستطع الهرب.
فوداه: يعني: دفع دية.
ما يستفاد من الحديث:
1- هذا الحديث أًصل في مسألة القسامة وصفتها:- أن يوجد قتيل بجراح أو غيره ولا يعرف قاتله، ولا تقوم البينة على من قتله، ويدَّعى أولياء المقتول على واحدٍ أو جماعة قتله، وتقوم القرائن على صدق الولي المدَّعِي، إما بعداوة بين القتيل والمدعي عليه، أو أن يوجد في داره قتيلا، أو يوجد أثاثه مع إنسان، ونحو ذلك من القرائن، فيحلف المدعي خمسين يمينا ويستحق دم الذي يزعم أنه القاتل. قال في فتح الباري: اتفقوا على أنها لا تجب لمجرد دعوى الأولياء حتى تقرن بها شبهة يغلب على الظن الحكم بها.
فإن نكل، حلف المدعي عليه خمسين يمينا وبرئ. وإن نكل، قضى عليه بالنكول.
2- المشهور من مذهب الإمام أحمد أنه لابد في صحة دعوى المدَّعِي من قرينة العداوة بين المقتول والمدعى عليه، وهو ما يسمى (باللوث). فإن لم يكن ثَم عداوة، فلا قسامة.
والرواية الثانية عنه: صحة الدعوى، وتُوَجَّه التُهمَةُ بما يغلب على الظن من القرائن، كأن يوجد القتيل في دار إنسان، أو يرى أثاثه عنده، أو توجد شهادة لا تثبت القتل، كشهادة الصبيان ونحو ذلك من القرائن.
واختار هذه الرواية (ابن الجوزي) وشيخ الإسلام (ابن تيميه). قال في (الإنصاف): وهو الصواب، وهى مذهب الإمام الشافعي.
3- دعوى القسامة خالفت سائر الدعاوى بأمور:
الأول: أن اليمين توجهت على المدعي، وبقية الدعاوى، البينة على المدَّعي واليمين على المدعى عليه المنكر.
الثاني: أنه يبدأ بأيمان المدعي أو المدعين، إن كانوا أكثر.
الثالث: تكرير اليمين، وفي سائر الدعاوى يمين واحدة.
وتشابه القسامة (مسألة اللعان) وتقدمت في بابها.
4- إذا وجد القتيل المجهول القاتل، ووجدت القرائن على قاتله، حلف أولياء المقتول خمسين يمينا على صحة دعواهم، فيستحقون دم المدعى عليه إذا كان القتل عمداً محضا، روى عن جماعة من الصحابة، وهو مذهب مالك، وأحمد، وأبي ثور، وابن المنذر، وهو المذهب القديم للشافعي، لقوله صلى الله عليه وسلم: «يُقْسِمُ خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته».
ولـ (مسلم) ويسلم إليكم. وفي لفظ: «تستحقون دم صاحبكم»، ولأنه حجة قويةِ، يثبت بها العمد، فيجب بها القتل، كالبينة.
أما المشهور من مذهب الشافعي، فلا يستحقون إلا الدية لقوله: صلى الله عليه وسلم: «إما أن يَدوا صاحبكم، وإما أن يُؤذَنُوا بحرب».
وإن كان القتل غير عمد وثبت القول على المتهم فعليه الدية.
5- إذا نكل المدعون عن الدعوى، أو كانوا من غير أهل الأيمان (النساء والصبيان) توجهت الأيمان على المتهمين في القتل فيحلفون خمسين يمينا، أنهم لم يقتلوه، وأنهم لا يعلمون قاتله فإذا حلفوا برئوا، وإن نكلوا، أُدِينُوا بصدق الدعوى عليهم.
6- إذا نكل أولياء المقتول على الأيمان، وحلف المدعى عليهم فحينئذ تكون دية القتيل من بيت المال، حتى لا يضيع دمه. ومثله المقتول في زحام حج، أو مسجد، أو حفل، أو وجد مقتولا ولا يعلم قاتله، ولا تدل القرائن على قاتل. كل هؤلاء ونحوهم تكون دياتهم من خزينة الدولة.
7- أن اليمين تكون في جانب الأقوى من المتخاصمين.
ففي (دعوى القسامة) توجهت الأيمان على أولياء المقتول أولا، لأن جانبهم تقوى بالقرائن الدالة على صحة دعواهم في قتل صاحبهم. والقرائن إذا قويت، فإنها من البيانات الواضحة.
فإن نكلوا عن الأيمان، دل نكولهم على قوة جانب المدعى عليهم فيحلفون ويبرأون من التهمة.
8- استحباب تقديم الأكبر سنا في الأمور، لما له من شرف السن، وكثرة العبادة، وممارسة الأمور،و كثرة الخبرة.
9- قوله: فوداه بمائة من إبل الصدقة دليل على جواز صرف الزكاة في المصالح العامة. ويدل عليه قوله تعالى: {وَفِي سَبِيل الله}.
فسبيل الله، كل مصلحة عامة، فيها نفع للمسلمين.
10- جواز الوكالة في المطالبة بالحدود.
11- وفيه دليل على رد اليمين على المدَّعِي من المدَّعَى عليه، أو عند نكول المدعي عليه.
12- وعلى أن الدعوى بين المسلم والذمي، كالدعوى بين المسلمين، وأن الأيمان تُقَبل من الكفار.
الحديث الرابع:
عِنْ أنَس بنِ مَالك رَضيَ الله عَنْهُ: أنَ جَارِيَةً وُجدَ رأسها مَرْضُوضاً بين حجرين، فَقِيل مَنْ فَعَل هذَا بِكِ؟ فلان، فلان، حَتَّى ذكِرَ يهودي، فَأوْمَأتْ برأسها.
فَأخِذَ اليَهْودِيُّ فَاعْتَرَفَ، فَأمَرَ النَبي صلى الله عليه وسلم أنْ يُرَضَّ رَأسُهُ بَيْنَ حجرينِ.
الحديث الخامس:
ولـ (مسلم)، وَالنِّسَائِي عَن أنَس: أن يهوديًّا قَتَلَ جَارِيَة عَلى أوْضَاح فَأقَادَهُ بِها رَسُولُ صلى الله عليه وسلم.
الغريب:
مرضوضا: اسم مفعول، أي مدقوقا.
أوضاح: بالفاء المعجمة، وبعد الألف حاء مهملة، وهي قطع الفضة، سميت أوضاحا لبياضها.
المعنى الإجمالي:
وجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم- جارية قد رض رأسها بين حجرين،وبها بقية من حياة، فسألوها عن قاتلها يعددون عليها من يظنون أنهم قتلوها، حتى أتوا على اسم يهودي، فأومأت برأسها: أي نعم، هو الذي رض رأسها، فصار متهما بقتلها.
فأخذوه وقرروه حتى اعترف بقتلها من أجل حُليِّ فضة عليها.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجازى بمثل ما فعل، فرضَّ رَأسه بين حجرين، تأويلا لقوله تعالى: {وَإن عَاقبتمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقبتمْ بِهِ} فقتلوه كما قتل الجارية، صيانة للدماء، وردعا للسفهاء.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن الرجل يقتل بالمرأة. قال تعالى: {النفس بالنًفْس} قال النووي: وهو إجماع من يعتد به.
2- ثبوت القصاص في القتل بالمثل، وأنه لا يختص بالمحدد، وهو مذهب جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة مالك، والشافعي، وأحمد.
3- قبول قول المجني عليه في مثل هذه الحال لإلقاء التُّهمة على أحد، فيقرر ويحبس ويسأل ويناقش، فإن ثبت عليه القتل، أخِذَ به، وإلاَّ، حلف وتُرك.
4- أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به، فإن قتل بسيف قتل به، وإن قتل ببندقية قتل بها، أو بغرق غرق، أو بتحريق حرق جزاء لما فعل، وعملا بقوله تعالى: {وإن عاقبتم فَعَاقِبُوا بمثل مَا عوقبتم بِهِ} {وجزاء سيِّئةٍ سيِّئة مِثْلُهَا} {فمن اعتَدَى عَلَيكم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عليكم} وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، اختارها الشيخ (ابن تيميه) وقال: (هذا أشبه بالكتاب والسنة والعدل).
قال الزركشي: (وهي أصح دليلا) وهو مذهب عمر بن عبد العزيز، ومذهب الأئمة مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور، واختارها شيخنا (عبد الرحمن بن سعدي).
وفي هذا يظهر العدل، ويكمل معنى القصاص، ويرتدع المجرمون.
أما المشهور من مذهب الحنابلة، فلا يستوفى القصاص في النفس إلا بالسيف، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا قَوَدَ إلا بالسيف» رواه ابن ماجة.
لكن الحديث ضعيف، فقد قال ابن عدي: طرقه كلها ضعيفة.
الحديث السادس:
عَنْ أبي هريرة رضي اللَه عَنْهُ قالَ: لَمَّا فَتَحَ الله عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَتَلَتْ هُذَيْل رَجلا مِنْ بَني لَيْثٍ بِقتِيل كَان لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَامَ النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إنَّ الله عَزَّ وَجَل قَدْ حَبَسَ عَنْ مكَّةَ الفِيلَ، وَسلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤمِنِينِ. وَإنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ كَانَ قبلي وَلا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعدِي، وَإنَمَا أحلّت لي سَاعَة مِن النَّهار، وَإنَّهَا ساعتي هذِهِ حَرَام:لا يُعضَدُ شَجَرُهَا وَلا يختلى خَلاهَا ولا يُعْضَدُ شَوْكهَا وَلا تُلْتَقَط ساقِطتهَا إلا لِمُنْشِدٍ. وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتيل فهو بخير النَّظَرَين: إما أن يَقتُل وإمَّا إن يُدَى».
فقَامَ رَجُل مِنْ أهْلِ اليمن يُقَالُ له أبُو شَاهٍ، فَقَالَ: يا رسول الله، اكْتُبُوا لي.
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبُوا لأبي شاهٍ».
ثُمَّ قَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَارَسُولَ الله، إلا الأذخِر، فَإنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيوتِنَا وقُبُورنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «إلا الأذْخِرَ».
الغريب:
هذيل: بضم الهاء بعد ذال مفتوحة. ثم ياء فلام. قبيلة مُضرِية مشهورة لا تزال مساكنهم بالقرب من مكة.
ليث: بالثاء المثلثة، قبيلة مشهورة تنسب إلى ليث بن بكر بن كنانة، من قبائل مضر.
لا يُعْضَد شجرها: بضم الياء التحتية وسكون السين المهملة وفتح الضاد المعجمة، آخره دال. أي، لا يقطع.
ولا يُخْتَلَى خلاها: بضم الياء التحتية وسكون الخاء، وفتح التاء واللام المقصورة: وهو الرطب من الحشيش: أي لا يُجَزُ ولا يُقطَعُ.
لمنشد: اسم فاعل من (أنشد) وهو المُعَرف على اللقطة.
بخير النظرين: أخذُ الدية أو القصاص.
أن يُودِيَ: بسكون الواو أي يعطى القاتل أو أولياءه الدية لأولياء المقتول.
أبو شاه: بالشين المعجمة، بعدها ألف، فهاء، بالوقف والدرج، ولا يقال بالتاء.
الإذخر: بكسر الهمزة، وبعدها ذال فخاء معجمتان، ثم راء: نبت معروف طيب الرائحة، دقيق الأصل، صغير الشجر.
ما يؤخذ من الحديث:
تقدمت أكثر معاني هذا الحديث في (كتاب الحج) ونجملها هنا مفصلين الفوائد الزوائد.
1- فيه دليل على أن مكة فتنحت عَنْوَة، إذ حبس الله عنا الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين قال النووي في شرح مسلم: من خصائص الحرم ألا يحارب أهله فإن بغوا على أهل العدل، فقد قال بعض الفقهاء: يحرم قتالهم بل يضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة، ويدخلوا في أحكام العدل.
وقال الجمهور: يقاتلون على بغيهم. إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال، لأن قتال البغاة من حقوق الله التي لا يجوز إضاعتها فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها.
2- أن مكة محرمة، لم تحِلَّ لأحد، وأنها لا تزال ولن تزال محرمة، فلا يعضد شجرها وشوكها، ولا يقطع أو يُجَز خلاها. ففي هذا بيان شرفها وحرمتها عند الله تعالى.
3- استثنى من ذلك ما أنبته الآدمي وما وجد مقطوعا، ورَعي البهائم، والكمأة والإذخر، فهذه مباحة.
4- أن لقطة الحرم لا تحل إلا لمن أراد التعريف عليها حتى يجدها صاحبها.
فإذا أيس من صاحبها، تصدق بها عنه بنية تعويضه عنها، إذا جاء يطلبها.
5- كتابة العلم، ففيها حفظه وتقييده عن الضياع.
وقد حث الله تعالى على الكتابة بقوله: {عَلَّمَ بالقلم عَلَّّم الإنسان ما لَم يعْلَمْ} وعظمها بقوله تعالى: {ن والقَلَم وما يَسْطًرُونَ} ففي الكتابة مصالح الدنيا والآخرة.
6- قوله: «ومن قتِلَ له قتيل فهو بخير النظرين:إما أن يقتل وإما أن يُودَى» فيه دليل على أن لأولياء المقتول (وهم ورثته) العفو مطلقا وهو أفضل لهم والعفو إلى الدية، وأن لهم القصاص والتخيير، وهو المشهور من مذهبنا.
وكان القصاص مُتحَتِّما في التوراة، فخفف الله عن هذه الأمة بجواز العفو عن القاتل إلى الدية بقوله: {فَمن عُفي لَهُ مِنْ أخِيه شيء فاتِّباع بالمَعروفِ وَأدَاء إليهِ بِإحْسَانٍ ذلِكَ تَخْفِيف من ربكم وَرَحَمْة}.
والقصاص عدل، والعفو إحسان، فينبغي أن يوافق موقعه، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيميه: استيفاء الإنسان حقه من الدم عَدْل، والعفو إحسان، والإحسان- هنا، أفضل، لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانا بعد العدل، وهو أن يحصل ضرر، فإذا حصل منه ضرر، كان ظلما من العافي، إما لنفسه، وإما لغيره، فلا يشرع.
قال في (الإنصاف): وهذا عين الصواب.
الحديث السابع:
عَن عُمَرَ بنِ الَخطَّاب رَضِيَ الله عَنْهُ: أنَّهُ اسْتشارَ النَّاسَ فِي إمْلاصِ الْمَرأةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بنُ شُعبةَ رَضِيَ الله عَنْهْ: شَهِدْتُ النًبي صلى الله عليه وسلم قَضىَ فِيهِ بِغُرَّة: عَبْدٍ أو أمَةٍ.
فَقَالَ: «لتأتينَّ بِمَنْ يِشْهَدُ مَعَكَ» فشهد معه محمد ابن مَسْلَمةَ.
إمْلاصُ الْمَرأةِ: أنْ تُلْقِي جَنينَهَا مَيْتاً.
الغريب:
إملاص المرأة: بكسر الهمزة وسكون الميم، آخره صاد مهملة، مصدر (أملص) أملصت المرأة ولدها: أي أزلفته، وهو أن تضعه قبل أوانه.
بغرة: بضم الغين المعجمة وتشديد الراء المفتوحة، بعدها تاء، وهى-في الأصل- بياض في الوجه.
واستعمل-هنا- في العبد والأمة ولو كانا أسودين، لكرم الآدمي على الله.
المعنى الإجمالي:
وضعت امرأة ولدها ميتا قبل أوان الولادة على إثر جناية عليها.
وكان من عادة الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يستشير أصحابه وعلماءهم في أموره وقضاياه، لاسيما المستجد فيها، يستشيرهم مع ما أوتيه من سعة في العلم، وقوة في الفكر. لما في أخذ رأيهم من استخراج غامض العلم وإصابة لصادق الحكم، وتأليف قلوبهم، وجبر خواطرهم، والعمل بقوله تعالى: {وأمرهم شُورَى بينهم}.
فحين أسقطت هذه المرأة جنينا ميتا غير تام، أشكل عليه الحكم في ديته. فاستشار الصحابة رضي الله عنهم في ذلك.
فأخبره المغيرة بن شعبة أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية الجنين بغرَّة عبد أو أمة.
فأراد عمر التَّثبُتَ من هذا الحكم، الذي سيكون تشريعاً عاما إلى يوم القيامة.
فأكد على المغيرة أن يأتي بمن يشهد على صدق قوله وصحة نقله. فشهد محمد بن مسلمة الأنصاري على صدق ما قال. رضي الله عنهم أجمعين.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن دية الجنين إذا سقط ميتا، بسبب الجناية، عبد أو أمة. أما إذا سقط حياً ثم مات بسببها، ففيه دية كاملة.
2- استشارة أهل العلم والعقل في مهام الأمور ومستجدها، لطلب الحق والصواب.
3- التثبت في المسائل، وطلب صحة الأخبار فيها، وإلا فخبر الواحد كافٍ متى توفرت فيه شروط العدالة والحفظ.
4- قال (ابن دقيق العيد): وفى ذلك دليل على أن العلم الخاص قد يخفى على الأكابر ويعلمه من هو دونهم، وذلك يصد في وجه من يغلو من المقلدين إذا استدل عليه بحديث، فقال: لو كان صحيحا لعلمه فلان مثلا، فإن ذلك إذا خفي على أكابر الصحابة وجاز عليهم، فهو على غيرهم أخفى.
5- في الحديث دليل على أنه لا اجتهاد مع النص.
ووجهته أن عمر أراد استثارة الصحابة وأخذ رأيهم في القضية. فلما علموا بالنص، لم يلتفتوا إلى غيره، وهو أمر معروف.
الحديث الثامن:
عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللَه عَنْهُ قالَ: اقتَتلَتِ امْرأتَانِ مِن هُذَيْل، فَرَمَتْ إحداهما الأخرى بِحَجَر فَقَتَلتهَا وَمَا في بَطنِهَا فاختصموا إلَى النبي صلى الله عليه وسلم. فَقَضَى النَّبي صلى الله عليه وسلم أنّ ديِةَ جَنِينهَا غُرَّة عبد أو وَليِدَة. وقضَى بدية المرأة على عاقلتها، وورَّثَهَا ولدَهَا وَمَن معهم.
فَقَامَ حَمَلُ بنُ النابغة الهُذَلُي فَقَالَ: يَا رسُولَ الله، كَيْفَ أغْرَمُ مَنْ لا شَرِبَ ولا أكَلَ، وَلا نَطَقَ ولا اسْتَهَلَّ؟ فَمِثْلُ ذلك يُطَلُّ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا هُوَ مِن إخوان الكهَّان». مِنْ أجْلِ سَجْعِهِ الذي سَجَعَ.
الغريب:
جنين: مأخوذ من الاجتنان، وهو الاختفاء.
عاقلتها: العاقلة هم الأقارب الذين يقومون بدفع دية الخطأ عن قريبهم القاتل.
سموا (عاقلة) لأنهم يمنعون عن القاتل. فالعقل، المنع.
حَمَل: بفتح الحاء المهملة، ثم ميم مفتوحة أيضاً مخففة، هو ابن مالك بن النابغة.
ولا استهل: الاستهلال: رفع الصوت يريد: أنه لم تعلم حياته بصوت نطق أو بكاء.
يُطَلُّ: بضم الِياء المثناة التحتية، وفتح الطاء، وتشديد اللام، أي: يُهدرُ ويُلْغَى.
وروى بالباء الموحدة، على أنه فعل ماض. من البطلان.
قال عياض: وهو المروى للجمهور في صحيح (مسلم).
قال النووي: وأكثر نسخ بلادنا بالمثنَّاهَ.
السجع: هو الإتيان بفقرات الكلام، منتهية بفواصل، كقوافي الشعر.
والمذموم: ما جاء متكلفا، أو قصد به نصر الباطل، وإخماد الحق، وإلا فقد ورد في الكلام النبوي.
المعنى الإجمالي:
اختصمت امرأتان ضرتان من قبيلة هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر صغير، لا يقتل غالبا، ولكنه قتلها وقتل جنينها الذي في بطنها.
فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية الجنين، عبدا أو أمة، سوءا أكان الجنين ذكرا أم أنثى، وتكون ديته على القاتلة.
وقضى للمرأة المقتولة بالدية، لكون قتلها (شبه عمد) وتكون على عاقلة المرأة، لأن مبناها على التناصر والتعادل، ولكون القتل غير عمد.
بما أن الدية ميراث بعد المقتولة فقد أخذها ولدها ومن معهم من الورثة، وليس للعاقلة منه شيء.
فقال حمل بن النابغة-والد القاتلة:- يا رسول الله، كيف نغرم من سقط ميتا، فلم يأكل، ولم يشرب، ولم ينطق، حتى تعرف بذلك حياته؟ يقول ذلك بأسلوب خطابي مسجوع.
فكره النبي صلى الله عليه وسلم مقالته، لما فيها من رد الأحكام الشرعية بهذه الأسجاع المتكلفة المشابهة لأسجاع الكهان الذين يأكلون بها أموال الناس بالباطل.
ما يستفاد من الحديث:
1- هذا الحديث أصل في النوع الثالث من القتل، وهو (شبه العمد). وهو أن يقصد الجاني الجناية بما لا يقتل غالباً، كالقتل بالحجر الصغير، أو العصا الصغيرة.
فحكم هذا النوع من القتل، أن تغلظ الدية على القاتل ولا يقتل.
2- أن دية (شبه العمد) ومثله (الخطأ) تكون على عاقلة القاتل، وهم (الذكور من عصبته القريبون والبعيدون، ولو لم يكونوا وارثين) لأن مبنى العصوبة، التناصر والتآزر.
وهذه الجائحة وقعت عليه بلا قصد، فناسب مساعدتهم له ولو كان غنيا، ولكن تخفف عنهم، بتوزيعها عليهم حسب قرْبهم، وتؤجل عليهم مقسطة إلى ثلاث سنوات.
3- أن دية الجنين الذي سقط ميتا بسبب الجناية (غرة) عبد أو أمة.
قدر الفقهاء قيمة هذه الغرة بخمس من الإبل، تورث عنه كأنه سقط حياً.
ودية الجنين على القاتل لا على العاقلة، لأنها أقل من ثلث الدية. وما كان أقل من ثلث الدية فإن العاقلة لا تتحمله.
4- أن الدية تكون ميراثا بعد المقتول، لأنها بدل نفسه، وليس للعاقلة فيها شيء.
5- قال العلماء: إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم سجع حَمَل بن النابغة لأمرين:
الأمر الأول: أنه عارض به حكم الله تعالى وشرعه، ورام إبطاله.
الأمر الثاني: أنه تكلف هذه السجعات بخطابه لنصر الباطل كما كان الكهان يروجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين، فيستميلون بها القلوب، ويستضيفون بها الأسماع.
فأما إذا وقع السجع بغير هذا التكلف ولم يقصد به نصر الباطل، فهو غير مذموم.
وقد جاء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقد خاطب الأنصار بقوله: «أما إنكم تقلون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع».
وفي دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقول لا يسمع وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع».
الحديث التاسع:
عَنْ عِمْرَانَ بن حُصَيْن رَضيَ اللَه عَنْهُ: أنَّ رَجُلا عَضَّ يَدَ رَجُل، فَنَزَعَ يَده مِنْ فِيهِ فوقعت ثِنِيَتَاهُ فَاخْتَصَمَا إلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَعَضُّ أحدكم أخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الفحل؟ اذهَبْ لا دِيَةَ لَكَ».
المفردات:
يعض الفحل: يريد به الذكر من الإبل، ويطلق على غيره من ذكور الدواب.
المعنى الإجمالي:
اعتدى رجل على آخر فعض يده، فانتزع المعضوض يده من فم العاض، فسقطت ثنيتاه فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
العاض يطالب بدية ثنيتيه الساقطتين. المعضوض يدافع عن نفسه بأنه يريد إنقاذ يده من أسنانه.
فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على المدعِي العاض، كيف يفعل مثل ما يفعله غلاظ الحيوانات فيعضُّ أحدكم أخاه، ثم بعد هذا يأتي ليطالب بدية أسنانه الجانية؟! ليس لك دية، فالبادي هو المعتدى.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن من عض يد إنسان فانتزعها منه، فسقطت أسنانه أو بعضها، فلا قَودَ عليه ولا دِيَة.
2- هذا الحكم عام في كل من صال عليه إنسان أو حيوان، فدافع عن نفسه، أو عن عرضه، أو عن حرمه، أو ماله، فجرح الصائل، أو قتله، فلا شيء عليه لأنه يدافعِ عمَّا تجب عليه حمايته، وذلك هو المعتدى الباغي. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من قُتِل دون نفسه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون أهله فهو شهيد».
3- قيد العلماء حكم هذا الحديث وأمثاله، بأنه يدافع عن نفسه بالأسهل فالأسهل من وسائل الدفاع.
قال العلماء: وهذا التقييد مأخوذ من القواعد الكلية العامة في الشرع.
الحديث العاشر:
عَنِ الحَسَنِ بنِ أبي الَحسَنِ البصري قَالَ: حَدَّثَنَا جندب في هذَا الْمَسجِدِ وَمَا نَسِينا منهُ حديثا، وَمَا نَخْشى أن يَكُونَ ُجندُب كَذَبَ عَلَى رسولِ الله صَلى الله عَليهِ وسَلَّمَ قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَانَ فيمَن كَانَ قبلكم رَجُل بِهِ جرح، فَجَزع، فَأخَذَ سكينا فَحَزَّ بهَا يَدَهُ فَمَا رَقأ الدًمُ حَتى مَاتَ. قالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: عبدي بَادَرَني بِنَفْسِهِ، فَحَرمْتُ عَلَيْهِ الجَنةَ».
الغريب:
جندب: بضم الجيم، وسكون النون، وضم الدال وفتحها، بعدها باء. هو ابن عبد الله البجلي من قبيلة (بجيلة).
قال الجوهري: (إنهم من العدنانيين) مساكنهم الآن بين مكة والمدينة.
فحز بها يده: بالحاء المهملة، وبعدها زاي مشددة: أي قطعها.
فما رقأ الدم: بفتح الراء والقاف مهموز: أي ما انقطع دمه حتى مات.
المعنى الإجمالي:
روى العالم الصالح الزاهد العابد، الحسن البصري عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: أنه حدث في مسجد الكوفة بهذا الحديث الذي معنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه عن رجل كان فيمن قبلنا من الأمم الماضية فيه جرح جزع منه، فأيس من رحمة الله تعالى وشفائه، ولم يصبر على ألمه رجاء ثوابه، لضعف داعي الإيمان واليقين في قلبه، فأخذ سكينا فقطع بها يده، فأصابه نزيف في دمه، فلم يرقأ وينقطع حتى مات.
قال الله تعالى ما معناه: هذا عبدي استبطأ رحمتي وشفائي، ولم يكن له جَلدّ على بلاءي، فعجل إلى نفسه بجنايته عليها، وظن أنه قصر أجله بقتله نفسه، لذا فقد حرمت عليه الجنة، ومن حرم الجنة، فالنار مثواه.
فكان هذا الهارب من وجع الجرح إلى عذاب النار، كالمستجير من الرمضاء بالنار. فنعوذ بالله تعالى من سوء الخاتمة.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه تحريم قتل النفس بغير حق، وحرمتها، وعظم شأنها، وخطرها. وأنه أمر كبير، قال ابن دقيق العيد: الحديث أصل كبير في تعظيم قتل النفس سواء كانت نفس الإنسان أو غيره.
2- وجوب الصبر عند المصائب عما يسخط الله تعالى من قول، كالنياحة. أو فعل، كاللطْمِ والشق. وأعظم منه، قتل النفس.
3- أن الأحسن للمبتلي أن يقول-إذا كان لابد من القول-: «اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي».
4- قوله: «عبدي بادرني بنفسه» ليس فيه منافاة لقضاء الله وقدره السابق. فالله مقدر الأشياء قبل وجودها. وأطلقت عليه المبادرة بوجود صورتها.
والذي قتل نفسه منُتهٍ أجله الذي كتب له بهذا السبب الذي فعله.
ولكنه استبطأ شفاء الله ورحمته، وقنط من روحه ورحمته، وهذا ذنب عظيم قدر عليه أن يكون قتل نفسه بيده عقابا له على فساد نيته، التي نوى بها تعجيل أجله قبل انتهائه.
والله سبحانه وتعالى لم يظلمه، فقد أعطاه الإرادة والقدرة على الفعل والترك، ولكنه تبع هواه فقتل نفسه.
5- في هذا الحديث دليل على تحريم قتل الإنسان نفسه. لأنها ليست ملكه وإنما هي ملك خالقها، فلا يجوز له أن يتصرف إلا بما أذن فيه كالتداوي والحجامة.
وقد فشا في هذه الأزمنة الانتحار لأتفَهِ الأسباب، والعياذ بالله تعالى من سوء الحال.
فعندما تعاكسه الأمور، يعمد إلى قتل نفسه وتعجيلها إلى النار.
وهذا يرجع إلى ضعف في العزيمة، وضيق في الفكر، وجبن عند الخطوب، وضحالة في الإيمان.
ولو كان عنده شيء من إيمان بالله تعالى، أو يقين فيما عنده، لَرَََََجَا بمصيبته الثواب، ولَخَافَ من قتل نفسه العقاب، ولكن أكثرهم لا يفقهون.
6- قوله: «حرمت عليه الجنة» تقدم أن الأحسن في مثل هذه النصوص إبقاءها على تهويلها وزجرها بلا تأويل، وهو مذهب جمهور العلماء.