فصل: باب مَنْ وَجَد سلْعَته عند رجل قد أفلس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.باب الحَوَالة:

الحوالة: بفتى الحاء، مأخوذة من التحول، وهو الانتقال.
فهي نقل دَيْن من ذمة إلى ذمة فتنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.
وهي ثابتة بالسنة كهذا الحديث، وبإجماع العلماء، وبالقياس الصحيح، فإن الحاجة داعية إليها، قال بعضهم: هي من بيع الدين بالدين.
وجاز فيها تأخر القبض من باب الرخصة، فتكون على خلاف القياس، والصحيح خلاف ذاك وأنها من جنس إيفاء الحق، ولهذا أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الوفاء، وأداء الدين.
أما فائدتها، فتسهيل المعاملات بين الناس، لاسيما إذا كان الغريم في بلد، والمحال عليه في بلد آخر، ويسهل على المحال الاستيفاء منه.
وإذا أحال المدين غريمه على من لا دَيْن له عليه، فهو توكيل في الاستقراض والاستيفاء، وليس من الحوالة، وليس له أحكامها.
ومثله: إحالة من لا دين له عليه على من عليه له الدين، فليس بحوالة، وإنما هو توكيل في القبض من المدين.
ولهذا قيد قبولها بكون المحال عليه مليئا. ولو كان الديْن باقياً في ذمة المحيل، لما ضَر كون المحال عليه معسراً.
وانتقال الدين وبراءة ذمة المحيل هو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم.
11- ولكن هل يرجع المحال لو تبين أن المحال عليه مفلس أو مات أو جحد؟ فيه خلاف وتفصيل يأتي إن شاء الله تعالى.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على اعتبار رضا المحيل في الحوالة، واختلفوا في اعتبار رضا المحال والمحال عليه.
فذهب أبو حنيفة إلى اعتبار رضاهما، لأنها معاوضة، يشترط لها الرضا من الطرفين فهما طرف، والمحيل هو الطرف الآخر.
ولكون الرضا معتبراً عندهم، فإنهم لا يرون الحديث على ظاهره، فيفيد الوجوب. وإنما يرون أن الاتباع مستحب ومندوب.
وذهب الإمام أحمد وأتباعه، والظاهرية، وأبو ثور، وابن جرير: إلى أن الأمر للوجوب، إبقاء للحديث على ظاهره، وأنه يتحتم على من أحيل بحقه على مليء أن يحتال.
فإن كانت الحوالة على غير مليء فعند الظاهرية أنها حوالة فاسدة لا تصح، لأنها لم توافق محلها الذي ارتضاه الشارع وهو الملاءة.
وعند الحنابلة تصح، لأن الحق للمحال وقد رضي بذلك.
واختلفوا: هل يرجع المحال على المحيل في ذلك؟ خلافات وتفاصيل.
الحديث الأول:
عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضي الله عَنْهُ: أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَطل الغني ظُلْم، وَإذَا اتْبعَ أحدكم عَلى مليء فَليَتْبع».
الغريب:
مطل الغنى: أصل المطل المد. تقول: مطلت الحديدة أمطلها، إذا مددتها لتطول. والمراد تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر. و«مطل» مصدر مضاف. إلى فاعله، والتقدير: مطل الغنى غريمه، ظلم.
اتبع: بضم الهمزة وسكون التاء وكسر الباء مبنياً للمجهول، بمعنى أحيل..
مليء: بتسكين الياء المهموزة. فأما تعريفه- لغة- فهو الغنى المقتدر على الوفاء. أما تعريفه عند الفقهاء، فهو المليء بماله، وبدنه، وقوله.
بماله: القدرة على الوفاء.
وبدنه: إمكان إحضاره بمجلس الحكم.
وقوله: أن لا يكون مماطلا.
فليتبع: بفتح الياء التحتية وسكون التاء الفوقية، بمعنى فليحتل.
المعنى الإجمالي:
في هذا الحديث الشريف أدب من آداب المعاملة الحسنة.
فهو صلى الله عليه وسلم يأمر المدين بحسن القضاء، كما يرشد الغريم إلى حسن الاقتضاء.
فبين صلى الله عليه وسلم أن الغريم إذا طلب حقه، أو فهم منه الطلب بإشارة أو قرينة، فإن تأخير حقه عند الغنى القادر على الوفاء، ظلم له، للحيلولة دون حقه بلا عذر.
وهذا الظلم يزول إذا أحال المدين الغريم على مليء يسهل عليه أخذ حقه منه، فَلْيَقْبَل الغريم الحوالة حينئذ.
ففي هذا حسن الاقتضاء منه، وتسهيل الوفاء، كما أن فيه إزالة الظلم بما لو بقي الدين بذمة المدين المماطل.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم مطل الغنىّ، ووجوب وفاء الدين الذي عليه لغريمه.
2- لفظ المطل، يشعر بأنه لا يحرم عليه التأخير ويجب عليه الوفاء، إلا عند طلب الغريم، أو ما يشعر برغبته في الاستيفاء.
3- التحريم خاص بالغنى المتمكن من الأداء.
أما الفقير، أو العاجز لشيء من الموانع، فهو معذور.
4- تحريم مطالبة المعسر، ووجوب إنظاره إلى الميسرة، لأن تحريم المطل ووجوب الوفاء، منوطان بالغنى القادر.
أما المعسر فيحرم التضييق عليه، لأنه معذور، وملاحقته بالدين حرام.
5- في الحديث حسن القضاء من المدين. بأن لا يماطل الغريم.
وفيه حسن الاقتضاء من الغريم بأن يقبل الحوالة إذا أحاله المدين على مليء.
6- ظاهر الحديث أنه إذا أحال المدين الغريم على مليء، وجب عليه قبول الحوالة. ويأتي الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى.
7- مفهومه أنه لا يجب على المحال قبول الحوالة إذا أحاله على غير مليء.
8- فسر العلماء المليء بأنه ما اجتمع فيه ثلاث صفات:
1= أن يكون قادراً على الوفاء، فليس بفقير.
2= صادقا بوعده، فليس بمماطل.
3= يمكن جلبه إلى مجلس الحكم، فلا يكون صاحب جاه، أو يكون أباً للمحال، فلا يمكنه الحاكم من مرافعته.
9- قال العلماء: إن مناسبة الجمع بين هاتين الجملتين أنه لما كان المطل ظلماً من المدين، طلب من الغريم إزالة هذا الظلم بقبول الحوالة على من لا يلحقه منه ضرر وهو المليء.
10- ظاهر الحديث، انتقال الديْن من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.
والصحيح الذي تطمئن إليه النفس: أن المحال إن احتال برضاه، عالماً بإفلاس المحال عليه، أو موته، أو مماطلته ونحو ذلك من العيوب التي في المحال عليه، ولم يشترط على المحيل الرجوع عند تعذر أو تعسُّر الاستيفاء، أنه لا يرجع، لأنه رضي بإحالة حقه من ذمة إلى ذمة يعلم مصيره فيها، فهو شبيه بما لو اشترى مبيعاً معيباً يعلم عيبه.
وإن لم يكن راضياً بالحوالة على المعسر ونحوه، أو كان راضيا بالحوالة عليه، لكن يجهل عسره ونحوه أو غرر فيه، شرط الرجوع عند تعذر الاستيفاء، أو تعسره، فالحق أن له الرجوع، لأن عسر المحال عليه عيب لم يعلم به ولم يرض به، فله الرجوع، كما أن له الرجوع عند الشرط لأن المسلمين على شروطهم، والله أعلم.

.باب مَنْ وَجَد سلْعَته عند رجل قد أفلس:

الحديث الأول:
عَنْ أَبي هُرَيْرة رَضِيَ اللّه عَنْة قالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ: سَمعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «منْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِه عِندَ رَجُلٍ- أَوْ إنْسَانٍ- قَدْ أَفْلَس فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ».
المعنى الإجمالي:
من باع متاعه لأحد، أو أودعه، أو أقرضه إياه ونحوه، فأفلس المشترىَ ونحوه، بأن كان ماله لا يفي بديونه، فله أن يأخذ متاعه إذا وجد عينه، بأن كان بحاله لم تتغير فيها صفاته بما يخرجه عن اسمه، ولى يقبض من ثمنه شيئا، ولم يتعلق به حق أحد من مشتر، أو مُتَّهب. أو رهن، أو شفعة أو غير ذلك من عقود المعاوضات.
فحينئذ يكون أحق به من الغرماء المتحاصي المال، لأنه وجد متاعه بعينه فلا ينازعه فيه أحد.
فإن كان المبيع ونحوه قد تغير بما يخرجه عن اسمه ومسماه، أو كان البائع قد قبض ثمنه أو بعضه، أو قد تصرف فيه المفلس بما تعلق به حق أحد، فلصاحب المتاع- حينئذ أسوة بالغرماء.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن من وجد متاعه عند أحد قد أفلس فله الرجوع فيه بشروط أخذها العلماء من الأحاديث، وأخذوا بعضها من فهمهم لمراد الشارع الحكيم. قال ابن دقيق العيد: دلالته قوية. قال الإصطخري من أصحاب الشافعي: لو قضى القاضي بخلافه نقض حكمه.
2- يراد بصاحب المتاع في الحديث، البائع وغيره، من مُقْرِض ومودع ونحوهم من أصحاب عقود المعاوضات. فعموم الحديث يشملهم.
ولا ينافي العموم أن يصرح باسم البائع في بعض الأحاديث.
3- أن تكون موجودات المفلس لا تفي بديونه، وهذا الشرط مأخوذ من اسم المفلس شرعا.
4- أن تكون عين المتاع موجودة عند المشترى، هذا الشرط هو نص الحديث الذي معنا وغيره.
5- أن يكون الثمن غير مقبوض من المشترى. فإن قبض كله أو بعضه، فلا رجوع بعين المتاع.
وهذا الشرط مأخوذ من المعنى المفهوم، ومن بعض ألفاظ الأحاديث.
6- الذي يفهم من عموم لفظ الحديث، أن الغرماء لو قدموا صاحب المتاع بثمن متاعه، فلا يسقط حقه من الرجوعَ بمتاعه.
قلت: وأرى أننا إذا رجعنا إلى مراد الشارع وهو (حفظ حق صاحب المتاع) فإننا نلزمه بأخذ الثمن، الذي باعه به إذا قدمه الغرماء، خصوصاً إذا كان في أخذه مصلحة لعموم الغرماء، وللمفلس الذي يتشوف الشارع إلى التخفيف من ديونه.
قال ابن رشد: تقدر السلعة.
فإن كانت قيمتها مساوية للثمن أو أقل منه، قضى بها للبائع.
وإن كانت أكثر، دفع إليه مقدار ثمنه ويتحاصُون الباقي وبهذاْ القول قال جماعة من أهل الأثر.
7- أن تكون السلعة بحالها لم يتلف منها شيء، ولم تتغير صفاتها بما يزيل اسمها، كنسج الغزاة،وخبز الحب، وجعل الخشب باباً ونحو ذلك.
فإن تغيرت صفاتها، أو تلف بعضها فهو أسوة بالغرماء.
8- أن لا يتعلق بها حق من شفعة، أو رهن، وأولى من ذلك أن لاتباعَ أو توهب، أو توقف ونحو ذلك، فلا رجوع فيها ما لم يكن التصرف فيها حيلة على إبطال الرجوع، فإن الحيل محرمة، وليس لها اعتبار.
هذه هي الشروط المعتبرة للرجوع في عين المتاع عند المفلس.
وبعضها أخذ من لفظ الأحاديث،وبعضها من المعنى المفهوم. والله أعلم.
اختلاف العلماء:
ذهبت الحنفية إلى أن البائع غير مستحق لأخذ عين ماله حين يجده عند المفلس، وأن المفلس أحق به. لأن السلعة صارت بالبيع ملكا للمشتري، ومن ضمانه،واستحقاق البائع أخذها منه، نقض لملكه.
وتأولوا الحديث بأنه خبر واحد مخالف للأصول، وحملوه على صورة وهي أن يكون المتاع وديعة، أو عارية أو لقطة عند المفلس وهو حمل مردود.
ولو كان كذلك لما قيد بالإفلاس، فإنه يرجع بهذه الأشياء مع الإفلاس ودونه.
والحق ما ذهب إليه جمهور العلماء من العمل بالحديث.
قال الشوكاني: والاعتذار بأنه الحديث، مخالف للأصول، اعتذار فاسد، حيث أن السنة الصحيحة من جملة الأصول، فلا يترك العمل بها إلا بما هو أنهض منها، ولم يرد في المقام ما هو كذلك، ا.هـ منه.
قال بعض العلماء: لو حكم الحاكم بخلاف هذا الحديث، نقض حكمه، لأنه لا يقبل التأويل.
ولولا شهرة هذا الخلاف للحنفية ما ذكرته، ولكنى قصدت بذكره التنبيه على ضعفه، وأنه من الآراء التي صودمت بها النصوص.
وقد أذكر في هذا الكتاب بعض الخلافات الضعيفة، لشهرة من يقول بها، وضعف ما تسند إليه، خشية الوقوع فيها تقليدا وثقة بأصحابها، والعصمة لأصحاب الرسالات عليهم الصلاة والسلام.

.باب الشفعَة:

الشفعة: بضم الشين وسكون الفاء.
والشفع: لغة، الزوج، قسيم الفرد، فإذا ضمت فرداً إلى فرد، فأنت شفعته. ومن هنا اشتقت الشفعة، لأن الشافع يضم حصة شريكه إلى حصته.
والشفعة: تطلق على التملك وعلى الحصة المملوكة فتعريفها- شرعاً- على المعنى الأول: (استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض). وهى ثابتة بالسنة، بحديث الباب، وبإجماع العلماء. ولما كان موضوعها، العقارات المشتركة.
- وبطبيعة الشراكة والخلطة يحصل أضرار عظيمة ومشاكل جسيمة. وكثير من الخلطاء يبغي بعضهم على بعض. إلا من آتى الشركة حقها، وقليل ما هم- لما كان الأمر هكذا صارت الشفعة على وفق القياس الصحيح أيضا. فإن انتزاع حصة الشريك بثمنه من المشترى، منفعة عظيمة للشريك المنتزع، ودفع للضرر الكبير عنه، بلا مضرة تلحق البائع والمشترى فكل قد أخذ حقه كاملا غير منقوص.
وبهذا تعلم أنها جاءت على الأصل وفق القياس والحكمة، والشرع كله، خير وبركة. فلا يأمر إلا بما تتمحض مصلحته أو تزيد على مفسدته، لا ينهى إلا عما تتمحض مضرته أو تزيد على مصلحته.
ولم يستحق الشفيع نزع الشقص من يد المشترى بغير رضاه إلا للمصلحة الخالية من المضرة.
فحينئذ تكون ثابتة بالسنة، والإجماع، والقياس، خلافاً لمن توهموا ثبوتها على خلاف الأصل والقياس.
الحديث الأول:
عَنْ جَابِرِ بن عَبْدِ الله رَضي الله عَنْهُماَ قَالَ. جَعَلَ (وفي لفظ: قضى) النبي صلى الله عليه وسلم بالشُّفعَةِ فيِ كُل مَال لَم يقسم. فَإذَا وقَعَتِ الحُدودُ وَصرفَتِ الطرقُ فَلا شُفعَة.
الغريب:
وقعت الحدود: عينت. والحدود جمع حد وهو- هنا- ما تميز به الأملاك بعد القسمة.
صرفت الطرق: بضم الصاد وكسر الراء المثقلة، يتخفف. بمعنى بينت مصارفها وشوارعها.
المعنى الإجمالي:
هذه الشريعة الحكيمة جاءت لإحقاق الحق والعدل ودفع الشر والضر ولها النظم المستقيمة والأحكام العادلة للغايات الحميدة والمقاصد الشريفة، فتصرفاتها حسب المصلحة وفق الحكمة والسداد.
ولهذا فإنه لما كانت الشركة في العقارات يكثر ضررها ويمتد شررها وتشق القسمة فيها، أثبت الشارع الحكيم الشفعة للشريك.
بمعنى أنه إذا باع أحد الشريكين نصيبه من العقار المشترك بينهما، فللشريك الذي لم يبع أخذ النصيب من المشترى بمثل ثمنه، دفعاً لضرره بالشراكة.
هذا الحق، ثابت للشريك ما لم يكن العقار المشترك قد قسم وعرفت حدوده وصرفت طرقه.
أما بعد معرفة الحدود وتميزها بين النصيبين، وبعد تصريف شوارعها وتشقيقها فلا شفعة، لزوال ضرر الشراكة والاختلاط الذي ثبت من أجله استحقاق انتزاع المبيع من المشترى.
ما يستفاد من الحديث:
1- هذا الحديث أصل في ثبوت الشفعة وهو مستند الإجماع عليها.
2- صدر الحديث يشعر بثبوت الشفعة في المنقولات وسياقه يخصها بالعقار، ولكن يتبعها الشجر والبناء إذا كانا في الأرض.
3- تكون الشفعة في العقار المشترك، الذي لم تميز حدوده، ولم تصرف طرقه، لضرر الشراكة التي تلحق الشريك الشفيع.
4- إذا ميزت حدوده، وصرفت طرقه، فلا شفعة لزوال الضرر بالقسمة، وعدم الاختلاط.
5- بهذا يعلم أنها لا تثبت للجار، لقيام الحدود وتمييزها.
ويأتي الكلام على الشفعة فيما فيه منفعة مشتركة بين الجارين إن شاء الله تعالى.
6- استدل بعضهم بالحديث: على أن الشفعة لا تكون إلا في العقار الذي تمكن قسمته دون ما لا تمكن قسمته، أخذاً من قوله: «في كل ما لم يقسم» لأن الذي لا يقبل القسمة، لا يحتاج إلى نفيه. ويأتي الخلاف فيه إن شاء الله.
7- تثبت الشفعة إزالةً لضرر الشريك، ولذا اختصت بالعقارات لطول مدة الشراكة فيها.
وأما غير العقار، فضرره يسير. يمكن التخلص منه بوسائل كثيرة، من المقاسمة التي لا تحتاج إلى كلفة، أو بالبيع ونحو ذلك.
فائدة:
يرى بعض العلماء- ومنهم الفقهاء المتابعون للمشهور من مذهب الحنابلة- سقوطها إن علم الشفيع ببيع الشقص ولم يشفع على الفور، ولم يجعلوا له مهلة إلا لعمل الأشياء الضرورية، من أكل، وشرب، وصلاة ونحو ذلك، بناء منهم على أن الأصل في المعاملات الرضا.
والشفيع يريد انتزاع الشقص بغير رضا المشترى فحاربوه، واستأنسوا على ذلك بأحاديث ضعيفة كحديث: «الشفعة كَحل العِقَال».
والحق أنه يرجع في ذلك إلى العرف في التحديد، ويعطى مهلة متعارفة للتفكير والمشاورة.
فائدة ثانية:
يحرم التحيل لإسقاط الشفعة ولإبطال حق مسلم،كما قال ذلك الإمام أحمد رحمه الله.
وقد يعمد من لا يراعى حدود دينه وحقوق إخوانه، إلى محاولة إسقاطها بشيء من الحيل، كأن يعطى الشقص بصورة من الصور، التي لا تثبت فيها،
أو لا يثبتها الحكام فيها، أو يضر الشفيع بإظهار زيادة في الثمن، أو بوقف الشقص، حيلة لإسقاطها.
فهذه حيل لا تسقط فيها الشفعة عند الأئمة الأربعة، كما قال ذلك صاحب الفائق رحمه الله تعالى.
وقال شيخ الإسلام: الاحتيال على إسقاط الشفعة بعد وجوبها لا يجوز بالاتفاق. وإنما اختلف الناس في الاحتيال عليها قبل وجوبها وبعد انعقاد السبب، وهو ما إذا أراد المالك بيع الشقص المشفوع مع أن الصواب أنه لا يجوز الاحتيال على إسقاط حق مسلم، وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال المحرم فهو باطل.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على ثبوت الشفعة في العقارات التي تقسم قسمة إجبار واختلفوا فيما سوى ذلك.
فذهب أبو حنيفة وأصحابه، إلى ثبوتها في كل شيء من العقارات والمنقولات.
مستدلين على ذلك بصدر الحديث الذي معنا، قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم.
وبما رواه الطحاوى عن جابر قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء».
وعندهم، أن الشفعة جاءت لإزالة الضرر الحاصل بالشركة والقسمة، ولذلك كلفة ومؤنة.
وبعض العلماء- كالقاضي عياض وابن دقيق العيد- عَدوا هذا القول من الشواذ.
وذهب مالك، وأهل المدينة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: إلى أنه لا شفعة للجار، ولا للشريك المقاسم، بل تثبت بالعقار الذي لم يقسم.
فإذا وقعت حدوده، وصُرِّفت طرقه، فلا شفعة عندهم.
وهو مروىُ عن عمر، وعثمان، وعلىّ رضي اللّه عنهم.
واستدلوا على ذلك بحديث الباب: «فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة».
قال الإمام أحمد: إنه أصح ما روى في الشفعة.
وفي البخاري عن جابر إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة.
وفي سنن أبي داود عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قسمت الأرض وَحُدَّتْ فلا شفعة فيها» إلى غير ذلك من الأحاديث.
ولأن الشفعة إنما أثبتها الشارع لإزالة الضرر اللاحق بشراكة العقارات التي تطول ويصعب التخلص منها بالقسمة، وتستوجب أعمالا وتغييرات، ولها مرافق وحقوق، وكل هذا مدعاة إلى جلب الخصام والشجار، فثبتت لإزالة هذه الأضرار.
أما غير العقارات المشتركة، فلا توجد فيها إلا نسبة قليلة من الضرر يمكن التخلص منها بالقسمة، أو البيع، أو التأجير.
والجار ليس عنده هذه الأضرار ما دام غير مشارك، ولو أثبتنا للجار لشاعت القضية فما من أحد إلا وله جار.
وذهب بعض العلماء- ومنهم الحنفية- إلى ثبوتها للجار مطلقاً، سواء كان له مع جاره شركة في زقاق، أو حوش، أو بئر ونحو ذلك، أو لم يكن.
ويستدلون على ذلك بما رواه البخاري عن أبي رافع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الجار أحق بصقبِه».
وبما رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جار الدار أحق بالدار».
وروى أصحاب السنن الأربعة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً، إذا كان طريقهما واحدا» وهذا حديث صحيح.
وقالوا: إن الضرر الذي قصد الشارع رفعه، هو ضرر الجوار، فإن الجار قد يسيء إلى جاره بِتَعْلِيَةِ جداره وتَتَبُعِ عوراته والتطلَع على أحواله، فجعل له الشارع هذا الحق، ليزيل به الضرر عن نفسه وحرمه وماله.
وللجار حرمة وحق، حث الله عليهما ورسوله.
فأمر بإكرامه، ونَفَى الإيمان عمن أساء إليه.
فنظر قوم إلى أدلة كل من الفريقين. فرأوا أن كلا منهما معه أثر لا يُرَدُّ، ونظر لا يُصَد. فمع كل منهما أحاديث صحيحة وتعليلات قويه مقبولة. وقد علموا أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا تتضارب، بل ينظر بعضها إلى بعض وتتلاحظ بعين التوافق والالتئام، لأنها من عند من {لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}.
لذا فقد توسطوا بين القولين، وجمعوا بين الدليلين فقالوا:
إن منطوق حديث: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق» ونحوه، انتفاء الشفعة عند معرفة كل واحد حده واختصاصه بطريقه.
وإن منطوق حديث: «الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها، وإن كان غائباً، إذا كان طريقهما واحداً» إثبات الشفعة بالجوار عند الاشتراك في الطريق وانتفائها عند تصريف الطريق، فتوافق المفهوم والمنطوق.
وممن يرى هذا الرأي، علماء البصرة، وفقهاء المحدثين. وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وشيخنا عبد الرحمن آل سعدي. قال شيخ الإسلام: وقد تنازع الناس في شفعة الجار على ثلاثة أقوال، أعدلها القول بأنه إن كان شريكا في حقوق الملك ثبتت له الشفعة وإلا فلا. اهـ.
قلت: وهو قول وسط، تجمع فيه الأدلة، ويزول به كثير من الأضرار الكبيرة الطويلة.
أما إثباتها في المنقول أو للجار الذي ليس له شركة في مرفق، فلا يعتضد بشيء من الأدلة، ولا يكفى أنه يوجد في ذلك قليل من الضرر، الذي يمكن إزالته بسهولة ويسر. والله أعلم.

.باب أحْكام الجوَار:

المؤلف رحمه اللَه ذكر بعد هذا الحديث المتعلق بـ الشفعة أربعهَ أحاديث تتعلق ب الوقف والهبة.
ثم ذكر بعدهن ثلاثة أحاديث تتعلق ب المزارعة. ثم ذكر بعدهن حديثاً في الهبة أيضاً.
ثم ذكر أحاديث تتعلق بالغصب وأحكام الجوار، ثم ذكر أحاديث الوصايا.
فلا أعلم، ما وجه هذا الترتيب عنده؟.
وبما أن أحاديث الوقف والهبة والوصايا كلها من جنس واحد، لأنها عقود تبرعات، وأحكامها متقاربة، ومسائلها متناظرة، عمدت إلى جعلها متوالية، وأخرتها ليكون بعدها باب الفرائض لوجود المناسبة بينها أيضاً.
وقدمت هذه الأحاديث المتعلقة ب المزارعة، ووالغصب وأحكام الجوار ليحسن الترتيب، وتجتمع المسائل المتناسبة.
الحديث الأول:
عَن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: أن رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَمْنَعَن جَار جَارَهُ أن يَغْرزَ خَشَبَةً في جدَارهِ», ثم يقول أبو هريرة: «مَا لي أراكم عَنْهَا مُعْرضِينَ؟ والله لأرْمِيَن بِهَا بَين أكتافكم».
الغريب:
لا يمنعن: لا:- ناهية، والفعل بعدها مجزوم بها، وحرك بالفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة.
خشبة: بالإفراد، وقد روى بالجمع، والمعنى واحد، لأن المراد بالواحد الجنس.
عنها، بها: الضمير فيهما راجع إلى السنة المذكورة في مقالته.
بين أكتافكم: بالتاء المثناة الفوقية جمع كتف. وقد ورد في بعض الروايات بالنون. وأكناف جمع كنف بفتح الكاف والنون، هو الجانب.
المعنى الإجمالي:
للجار على جاره حقوق تجب مراعاتها، فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صلة الجار، وذكر أن جبريل ما زال يوصيه به حتى ظن أنه سيورثه من جاره، لعظم حقه، وواجب بره.
فلهذا تجب بينهم العشرة الحسنهَ، والسيرة الحميدة، ومراعاة حقوق الجيزة، وأن يكف بعضهم عن بعض الشر القولي والفعلي. فلا يؤمن بالله تعالى من لا يأمن جاره بوائقه.
ومن حسن الجوار، ومراعاة حقوقه، أن يبذل بعضهم لبعض، المنافع التي لا تعود عليهم بالضرر الكبير مع نفعها للجار.
ومن ذلك أن يريد الجار، أن يضع خشبة في جدار جاره.
فإن لم يكن ثَم حاجة إلى ذلك، ينبغ لصاحب الجدار أن يأذن له، مراعاة لحق الجار.
وإن كان ثَم حاجة لصاحب الخشب، وليس على صاحب الجدار ضرر من وضع الخشب، فيجب على صاحب الجدار أن يأذن له في هذا الانتفاع، الذي ليس عليه منه ضرر مع حاجة جاره إليه. ويجبره الحاكم على ذلك إن لم يأذن.
فإن كان ثَم ضرر، أو ليس هناك حاجة، فالضرر لا يزال بالضرر.
والأصل في حق المسلم المنع، ولذا فإن أبا هريرة رضي الله عنه، لما علم مراد المشرع الأعظم من هذه السنة الأكيدة، استنكر منهم إعراضهم في العمل بها، وتوعدهم بأن يلزمهم بالقيام بها، فإن للجار حقوقا فرضها اللَه تعالى تجب مراعاتها والقيام بها.
ما يستفاد من الحديث:
1- النهْىُ عن منع الجار أن يضع خشبة على جدار جاره، إذا لم يكن عليه ضرر من وضعها، وكان في الجار حاجة إلى ذلك.
2- قيد وضع الخشب بعدم الضرر على صاحب الجدار، وبحاجة صاحب الخشب، لأن التصرف في مال الغير ممنوع إلا بإذنه.
فلا يجوز إلا لحاجة من عليه له الحق وهو الجار،كما أنه لا يوضع مع تضرره لأًن الضرر لا يزال بالضرر.
3- هل النَهْىُ على وجه التحريم أو الكراهة؟ يأتي بيان ذلك إن شاء الله.
4- فهم أبو هريرة رضي الله عنه أن الجار متحتم عليه بَذْلُ ذلك لجاره، ولذلك فإنه استنكر عليهم إعراضهم عن هذه السنة. وتهددهم بالأخذ بها.
5- هذا من حقوق الجار الذي حضً الشارع على بره والإحسان إليه، فنعلم من هذا عِظَمَ حقوقه ووجوب مراعاتها.
ولهذا فإنه يقاس على وضع الخشب غيره، من الانتفاعات، التي يكون في الجيران حاجة إليها، وليس على مالك نفعها مضرة كبيرة في بذلها، فيجب بذلها ويحرم منعها.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على المنع من وضع خشب الجار على جدار جاره مع وجود الضرر إلا بإذنه لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار».
واختلفوا فيما إذا لم يكن على صاحب الجدار ضرر، وكان بصاحب الخشب حاجة إلى ذلك، بأن لا يمكنه التسقيف إلا به.
ذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة،: مالك، والشافعي في المشهور عنهم إلى أنه لا يجوز وضع الخشب على حائط الجار إلا بإذن صاحب الجدار وإن لم يأذن، فلا يجبر عليه.
مستدلين على ذلك بأصل المنع من حق الغير إلا برضاه كحديث: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» وحديث: «إن أموالكم وأعراضكم عليكم حرام» ونحو ذلك من الأدلة.
وذهب الإمام أحمد، وإسحاق وأهل الحديث إلى وجوب بذل الجدار لصاحب الخشب مع حاجة الجار إليه وقلة الضرر على صاحب الجدار وإجباره على ذلك مع الامتناع.
وقال بهذا القول، بعض المالكية، وهو قول لأبي حنيفة، ومذهب الشافعي في القديم. والدليل على ذلك ما يأتي:
1- ظاهر هذاَ الحديث الذي معنا، فإنه ورد بصيغة النهي، والنهي يقتضي التحريم، وإذا كان المنع حراماً، فإن البذل واجب.
2- أبو هريرة الذي روى الحديث، استنكر عدم الأخذ به، وتوعد على ذلك، وهذا يقتضي فهمه لوجوب البذل وتحريم المنع، وراوي الحديث، أعرف بمعناه.
3- ورد مثل هذه القضية في زمن عمر فقد روى مالك بسند صحيح أن الضحاك بن خليفة، سأله محمد بن مسلمة أن يسوق خليجا له فيجريه في أرض محمد بن مسلمة، فامتنع.
فكلمه عمر في ذلك فأبى. فقال: والله ليمرن به ولو على بطنك.
ولم يعلم لعمر مخالف في هذه القضية من الصحابة، فكان اتفاقاً منهم على ذلك.
4- أن الشارع عظم حقوق الجار وأكد حرمته، فله على جاره حقوق فإذا لم يبذل له ما ليس عليه فيه مضرة، فأين رَعْىُ الحقوق والحرمة؟
أما العمومات التي يستدلون بها على عدم الوجوب، فلا يبعد أن تكون مخصصة بهذا الحديث، للمصالح.