فصل: باب الشروط في البَيْع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.باب تحْريم بَيْع الخبائث:

من صفات النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة وعلى ألسنة الأنبياء عليم الصلاة والسلام: أنه الذي يحل الطيبات، ويحرم الخبائث.
وهذا تشريع عام في المآكل والمشارب، والملابس، والعادات وغير ذلك.
وهذه قاعدة كبيرة تحافظ على كل طيب، وتنفي كل خبيث، كما أنها معتمد لكل ما جدّ وطرأ، ليقاس بمقياسها الصحيح.
وهذا من كمال هذه الشريعة، ومن عناصر البقاء والخلود فيها.
وتأمل الحديث الآتي تجدْ أن المحرمات فيه عُددَتْ، إشارة إلى أنها نماذج لما يفسد الأديان، والأبدان، والعقول. فيراد بذكرها، التنبيه على أنواعها وأشباهها. والله حكيم عليم.
الحديث الأول:
عَنْ جَابرِ رَضَ الله عَنْهُ: أنَهُ سَمِعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقُول عَامَ الفَتْح: «إن الله وَرَسُولَهُ حَرمَ بيعَ الخَمر، وَالمَيتَةِ، وَالخِنزِير، والأصنام».
فقيل: يَا رَسُول الله، أرَأيْتَ شحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإنَّهَا يُطْلَى بِهَا السَّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبحُ بِهَا النَّاسُ؟.
فقال: «لَا. هُوَ حَرَام».
ثمَّ قَالَ رَسُولُ اللّه على عنْدَ ذلِكَ: «قَاتَلَ اللّه الْيَهُودَ، إنَّ الله لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوه فَأكلُوا ثَمَنَهُ». جَمَلُوهُ: أذَابُوهُ.
الغريب:
عام الفتح: هو فتح مكة، وكان في السنة الثامنة من الهجرة في شهر رمضان.
حرَّم: بإعادة الضمير إلى الواحد، تأدباً مع الله تعالت عظمته، وتفرد بالإجلال.
الميتة: بفتح الميم، ما ماتت حتف أنفها، أو ذُكتْ ذكاة غير شرعية.
الأصنام: مفرده صنم وهو الوثن المتخذ من الأحجار وغيرها، على هيئة مخصوصة للعبادة.
أرأيت شحوم الميتة: أخبرني عن حكم بيع شحوم الميتة: فهل يحل مع وجود هذه المنافع فيها؟.
يستصبح بها الناس: أي يستضيئون به، حين يجعلونه في المصابيح وهي السرج. هو حرام: الضمير يعود على البيع.
قاتل الله اليهود: لعنهم الله، لما ارتكبوه من هذه الحيلة الباطلة. وفيه تنبيه على علة تحريم بيع هذه الأشياء.
جملوه: بفتح الجيم والميم المخففة. أي أذابوه. والجميل الشحم المذاب.
المعنى الإجمالي:
جاءت هذه الشريعة الإسلامية السامية، بكل ما فيه صلاح للبشر، وحذّرت من كل ما فيه مضرة تعود على العقول والأبدان والأديان.
فأباحت الطيبات- وهى أغلب ما خلق الله في الأرض لنا. وحرمت الخبائث.
ومن تلك الخبائث المحرمة هذه الأشياء الأربعة المعدودة في هذا الحديث. فكل واحدا منها يشار به إلى نوع من المضار.
فالخمر- وهي كل ما أسكر وخامر العقل- هي أم الخبائث، التي بها تزول عن الإنسان نعمة العقل التي كرَّمهْ الله بها.
ويأتي في حال سكره ولهوه بأنواع المنكرات والعظائم، وإشاعة العداوة والبغضاء بين المسلمين، والصد عن الخير وعن ذكر الله.
ثم ذكر الميتة، التي لم تمت- غالباً- إلا بعد أن تسممت بالمكروبات والأمراض أو احتقن دمها في لحمها، فأفسده، فأكلها مضرة كبيرة على البدن، وهدم للصحة. ومع هذا، فهي جيفة خبيثة نتنة نجسة، تعافها النفوس، ولو أكلت مع إكراهها والتقزز منها، لصارت مرضاً على مرض، وبلاء مع بلاء.
ثم ذكر أخبث الحيوانات وأكرهها وأبشعها، وهو الخنزير الذي يحتوى على أمراض وميكروبات، لا تكاد النار تقتلها وتزيلها. فضرره عظيم، ومفاسده متعددة، ومع هذا فهو قذر نجس.
ثم ذكر ما فيه الضرر أكبر والمفسدة العظمى، وهى الأصنام التي هي ضلال البشرية وفتنتهم، وهي التي بها حورب الله تعالى وأشركت في عبادته وحقه على خلقه، فهي مصدر الضلال، ومحط الفتنة.
وما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب إلا لمحاربتها، وإنقاذ الناس من شرها. فكم فتن بها من خلائق، وكم ضل بها من أمم، وكم استوْجبَتْ النار بها.
فهذه الخبائث، عناوين المفاسد والمضار، التي تعود على العقل والبدن والدين.
فهي أمثلة لاجتناب كل خبيث، وصيانة لما يفسد العقول والأبدان والأديان. فاجتنابها وقاية من أنواع المفاسد.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم بيع الخمر وعمله وما يعينها عليه وشربه، أو التداوي به.
ويدخل في مسمى الخمر، كل مسكر، سائلا أو جامداَ أُخذَ من أي شيء، سواء أكان من عنب، أم تمر أم شعير، ومثله الحشيش، والأفيون، والدخان، والقات، فكلها خبائث محرمة.
2- حرمت لما فيها من المضار الكبيرة والمفاسد العظيمة على العقل، والدين، والبدن، والمال، وما تجره من الشرور والعداوات والجنايات، إلى غير ذلك من مفاسد لا تخفى.
3- تحريم الميتة، لحمها، وشحمها، ودمها، وعصبها، وكل ما تسري الحياة فيه من أجزائها.
وحُرمت، لما فيها من المضرة على البدن، ولما. فيها من الخبث والقذارة والنجاسة، فهي كريهة خبيثة، ومن أجل هذه المضار وانتفاء المصالح، حَرُمَ بيعها.
4- استثنى جمهور العلماء، الشعر، والوبر، والصوف، والريش من الميتة، لأنه ليس له صلة بها ولا تحله الحياة، فلا يكسب من خبثها.
أما جلدها، فهو نجس قبل الدبغ، لكن بعد أن يدبغ دبغا جيدا، ويزيل الدباغ فضلاته الخبيثة، فإنه يحل ويطهر عند الجمهور. وبعضهم يقصر استعماله على اليابسات.
والأول أولى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يطهره الماء والقرَظ»
5- تحريم بيع الخنزير:- ويحرم أكله وملامسته وقربه، فهو من الخبائث التي هي مفسدة محضة، لا مصلحة فيها، فضرره على البدن والعقل عظيم، لأنه يسمم الجسد بأمراضه، ويورث آكله من طباعه الخبيثة، وهو مشاهد في الأمم التي تأكله، فقد عرفوا بالبرودة.
6- تحريم بيع الأصنام، لما تجره من شر كبير على العقل، والدين، باتخاذها وترويجها، محادة لله تعالى.
ومن ذلك الصليب، الذي هو شعار النصارى. والتماثيل التي تصنع للزعماء والوزراء.
ومنها أيضا هذه الصور التي تظهر في المجلات والصحف وغطها، لاسيما الصور الخليعة العارية الماجنة، التي فتنت الشباب وأثارت غرائزهم الجنسية.
ومنها الأفلام السينمائية، خصوصا المناظر الماجنة السافرة عن الدعارة والفجور.
فهذه كلها شر لا خير فيه، ومفسدة لا مصلحة فيها، ولكن ألف الناس المنكر، حتى صار معروفا. فالله المستعان.
7- أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. لاسيما إذا كانت المفاسد أرجح من المصالح.
فإن مصالح شحوم الميتة، لم تبح بيعها، والمعاملة به، ولذا- لما عددوا له منافعها، لعلها تسوغ بيعها- قال: لا، هو حرام.
8- استعمال النجاسة على وجه لا يتعدى لا بأس به، فإنه لم ينههم عنه لما أعلموه به.
والضمير في قوله: «هو حرام» راجع إلى البيع، لا إلى الاستعمال.
9- أن التحيل على محارم الله، سبب لغضبه ولعنه، فإن من يأتي الأمر، عالما تحريمه، أخف ممن يأتيه متذرعاً إليه بالحيل.
لأن الأول معترف بالاعتداء على حدود الله ويرج له الرجوع والاستغفار.
وأما الثاني، فهو مخادع لله تعالى، وبحيلته هذه سيصر على آثامه، فلا يتوب، فيكون محجوبا عن الله تعالى.
10- أن الحيل هي سنة اليهود، المغضوب عليهم.
11- أن حبهم للمادة قديم، حملهم على الحيل ونقض العهود وغشيان المحرمات، ولا يزالون في غيهم يعمهون، شتت الله شملهم.
قلما ذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم تحريم هذه الأشياء، ذكروا له منافع في شحم الميتة يأتونها، لعله يستثنى تحريمها من هذه الأشياء المحرمة، لهذه المنافع المقصودة، فقال: لا تبيعوها فإن بيعها حرام، لا تسوغه هذه المنافع. ولم ينههم عن استعمالها فيما ذكروه.
ثم من كان رأفته ونصحه بأمته، حذرهم مما وقع فيه اليهود من استحلال المحرمات بالحيل الدنيئة السافرة، لئلا يقعوا مثلهم فيما يشبهها، فدعا على اليهود باللعن ليشعر أمته عظيم جريمتهم بارتكاب الحيل.
وبين لهم أنه تعالى لما حرم على اليهود الشحوم، عمدوا- من مخادعتهم الله تعالى وعبادتهم للمادة- إلى أن أذابوا الشحم المحرم عليهم كله وباعوه، وأكلوا ثمنه، وزعموا بهذا، أنهم لم ارتكبوا معصية، فهم لم يأكلوا الشحم، وإنما أكلوا ثمن الشحم، وهذا هو التلاعب بأوامر الله تعالى ونواهيه، والاستخفاف بأحكامه وحدوده.
ولقد أصابنا ما أصابهم من ارتكاب الحيل، ومخادعة الله تعالى، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَتَركبُن سنن مَنْ كَان قبلكُم حَذوَ القُذةِ يالقُذةِ. حَتى لَو دخَلوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلتُمُوهُ» فالله المستعان.
ونسأل الله تعالى العصمة والهداية، وأن يرينا الحق حقا وارزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
12- تحريم الحيل، وأنها لا تغير الحقائق، ولو سميت الأشياء بغير أسمائها وأزيلت بعض صفاتها.
13- أن الشرع جاء. بكل ما فيه الخير والحذر من كل ما فيه شر أو رجح شره على خيره.
14- أن المحرمات المعدودة في الحديث نماذج لأنواع الخبائث المحرمة، التي يعود ضررها على الدين، أو العقل، أو البدن، أو الطباع والأخلاق.
فكأن هذا الحديث سيق لبيان أنواع الخبائث.

.باب السَّلَم:

السلم:- هو السلف، وزنا ومعنى، وسمى سلما، لتسليم رأس المال في المجلس، وسلفا، لتقديمه.
وتعريفه شرعا: عقد على موصوف في الذمة، مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد. وبهذا التعريف يعلم أنه نوع من البيع.
والأصل في جوازه، الكتاب، والسنة، والإجماعِ، والقياس الصحيح. فأما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أيهَا الذي آمَنُوا إذا تداينتم بدين إلَى أجَل مُسَمى فَاكْتُبُوهُ} قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مُسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية.
وأما السنة، فمنها حديث الباب الآتي. وإما الإجماع، فلم ينقل عن أحد من العلماء منعه. قال الشافعي: أجمعت الأمة على جواز السلم فيما علمت.
وهو على وفق القياس والمصلحة للبائع والمشترى.
فالبائع ينتفع بشراء السلعة بأقل من قيمتها حاضرة. والمشترى ينتفع بتوسعه بالثمن. وقد اشترطت فيه الشروط، التي تحقق فيه المصلحة، وتبعده عن الضرر والغرر. حيث شرط قبض الثمن بالمجلس لتحصل الفائدة من التوسعة، وشرطه العلم بالعوضين والأجل، وضبط المسلم فيه بمعايير الشرعية، لإبعاد النزاع والمخاصمات. ولا فرق بين تأجيل الثمن وتأجيل المثمن، فكلاهما وفق القياس والمصلحة، والشرع لا يأتي إلا بالخير.
وقد ظن بعض العلماء خروجه عن القياس، وعدوه من باب بيع ما ليس عندك المنهي عنه في حديث حكيم بن حزام، وليس منه في شيء.
فإن حديث حكيم يحمل على بيع عين معينة ليست في ملكه، وإنما ليشتريها من صاحبها فيعطيها المشترى، فهذا غرر، وعقد على غير مقدور عليه.
أو يحمل على السلم، الذي يظن المسلم أنه لا يتمكن من تحصيله وقت حلول الأجل.
فأما السلم الذي استوفى شروطه، فليس من الحديث في شيء، لأن متعلقه الذمم لا الأعيان. فهو على وفق القياس. والحاجة داعية إليه. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن ثلاثا فيهن البركة، ذكر منها (البيع إلى أجل) والسلم منه.
الحديث الأول:
عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عَبَّاسِ رَضيَ اللّه عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللّه صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ الْمَدِينة وَهمْ يُسْلِفون في الثّمَارِ السنةَ والسنتين والثَّلاثَ.
فقال: «مَنْ أسلَفَ في شَيءٍ فَلْيُسْلِفْ في كَيْل مَعْلُوم، وَوَزْنٍ مَعْلُوم، إلَى أجل مَعْلُوم».
المعنى الإجمالي:
قدم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا، فوجد أهل المدينة- لأنهم أهل زروع وثمار- يسلفون. وذلك بأن يقدموا الثمن ويؤجلوا المثمن في الثمار، مدة سنة، أو سنتين، أو ثلاث سنين، فأقرهم صلى الله عليه وسلم على هذه المعاملة ولم يجعلها من باب بيع ما ليس عند البائع المفضي إلى الغرر، لأن السلف متعلقه الذمم لا الأعيان. ولكن بين صلى الله عليه وسلم لهم في المعاملة أحكاما تبعدهم عن المنازعات والمخاصمات التي ربما يجرها طول المدة في الأجل فقال: من أسلف في شيء فليضبط قدره بمكياله وميزانه، الشرعيين المعلومين، وليربطه بأجل معلوم، حتى إذا عرف قدره وأجله، انقطعت الخصومة والمشاجرة، واستوفى المشترى حقه بسلام.
ما يستفاد من الحديث:
يشترط في السلم ما يشترط في البيع، لأنه أحد أنواعه.
فلابد أن يكون العقد من جائز التصرف، مالك للمعقود عليه، أو مأذون له فيه، ولابد فيه من الرضا، وأن يكون المسلم فيه مما يصح بيعه، ولابد فيه من القدرة عليه وقت حلوله، وأن يكون الثمن والمثمن معلومين.
ويزيد السلم على هذه الشروط شروطاً ترجع إلى زيادة ضبطه وتحريره، لئلا تفضي المعاملة إلى الشجار والمخاصمة، ونأخذ أهم هذه الشروط من الحديث الذي معنا.
1- أن يبين قدر المسلم فيه بمكياله أو ميزانه الشرعيين، إن كان مكيلا أو موزوناً، أو بذرعه، إن كان مما يُذْرَعُ، أو بِعَدّهِ إن كان مما يُعَد، ولا يختلف المعدود بالكبر أو الصغر أو غيرهما، اختلافاً ظاهراً.
2- أن يكون مؤجلا، ولابد في الأجل أن يكون معلوما، فلا يصح حالاُّ، ولا إلى أجل مجهول.
3- أن يقبض الثمن بمجلس العقد، وهذا مأخوذ من قوله: «فَلْيُسْلِفْ» لأن السلف هو البيع، الذي عُجلَ ثمنه وأجلِ مثمنه.
4- أن يسلم في الذمة لا في الأعيان، وهذا هو الذي سوَغ العقد، وإن كان وفاؤه من شيء غير موجود عند البائع، وإنما يستوفى من ثمار أو زروع لم توجد وقت العقد.
وبهذا تبين أن السلم لم يتناوله النهى في قوله: «ولا تبع ما ليس عندك» وأن العقد عليه وفق القياس. هذه أهم شروطه المعتبرة.
وقد شدد فيه بعض الفقهاء بذكر قيود وحدود، ليس عليها دليل واضح.

.باب الشروط في البَيْع:

والأصل في الشروط، الصحة، والتزامها لمن شرطت عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إلا شَرْطاً أحَلَّ حَرَاماً أوْ حَرّمَ حَلالا».
الحديث الأول:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِ اللّه عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْني بَريرةُ فَقَالَت: كاتَبْتُ أهلي عَلَى تِسْعِ أوَاقٍ. في كُل عَام أوقيةٌ، فَأعِينِيِي.
فَقُلْتُ: إنْ أحَبَّ أهْلُكِ أنْ أعُدّهَا لَهُمْ وَوَلاؤكِ لي، فَعَلْتُ.
فَذَهَبَتْ بَرِيرَة إلى أهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأبَوْا علَيْهَا.
فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم جَالِس.
فَقَالَتْ: إني عَرَضْتُ ذلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأبَوْا إلا أنْ يَكُونَ لَهُم الْوَلاءُ.
فَأخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «خُذِيهَا واشتَرِطِي لَهُمُ الوَلاء، فَإنمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ».
فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ. ثُم قَامَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي الناس. فَحَمِدَ الله وأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أمّا بَعْدُ، فَمَا بَال رِجَال يَشترِطُونَ شرُوطاً لَيسَتْ فِي كِتَابِ اللّه؟ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيسَ فِي كِتَاب الله فَهُوَ بَاطِل، وإن كانَ مِائَةَ شرْط. قَضَاءُ الله أحَق، وَشرْط الله أوْثقُ، وَإنَمَا الوَلاءُ لمَنْ أعْتَقَ».
الغريب:
كاتبت: مشتقة من الكتب، وهو الجمع، لأن نجوم أقساطها جمعت على العبد.
أواق: الأوقية أربعون درهماً، وتقدم ضبطها بالعملة الحاضرة في الزكاة.
وولاؤك لي: الولاء، هو النصرة، لكن خص في الشرع بالعتق الذي هو تحرير الرقبة، وتخليصها من الرق.
فما بال: حال.
في كتاب الله: أي في شرعه الذي كتبه على العباد وحكمه العام.
وإن كان مائة شرط: لم يقصد بالمائة التحديد، وإنما قصد التوكيد والمبالغة للعموم، ويدل على ذلك قوله: «من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، قضاء اللَه أحق وشرط الله أوثق».
أحق وأوثق: جاءا على صيغة التفضيل وليسا علىٍ بابهما بمعنى أن في كل من الجانبين حقاً ووثاقه، وإنما جاءت الصيغتان مرادا بهما أن قضاء اللَه هو الحق، وشرط الله هو القوى. فهما صفتان مشبهتان.
المعنى الإجمالي:
هذا حديث جليل عظيم، لما اشتمل عليه من الأحكام، ولما حوى من الفوائد.
ولقد أفرده بعض العلماء بالتصنيف، واستخرجوا منه ما يزيد على أربعمائة حكم وفائدة.
ونحن نجمل أهم الأحكام التي يدل عليها.
فملخص القصة، أن أمة لأحد بيوت أهل المدينة يقال لها (بريرة) كاتبت أهلها، بمعنى اشترت نفسها من سادتها بتسع أواق من فضة، تسلم لهم كل عام أوقية واحدة، وكانت تخدم عائشة، ولها بها صلة ومعرفة.
فجاءتها تستعينها على وفاء كتابتها لتخلص من الرق، لأن المكاتب رقيق، ما بقى عليه درهم واحد.
فمن رغبة عائشة رضي الله عنها في الخير، وكبير مساعدتها في طرق البر، قالت لبريرة: اذهبي إلى سادتك فأخبريهم أني مستعدة أن أدفع لهم أقساط كتابتهم مرة واحدة ليكون ولاؤك لي خالصاً.
فأخبرت بريرة سادتها بما قالته عائشة، فأبوا ذلك إلا أن يكون لهم الولاء، لينالوا به الفخر حينما انتسب إليهم الجارية وربما حصلوا به نفعا مادياَ، من إرث ونصرة وغيرهما.
فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم باشتراطهم، فقال: اشتريها منهم، واشترطي لهم الولاء، فهذا اشتراط باطل لن ينفعهم، فإنما الولاء لمن أعتق.
وهم قد أقدموا على هذا الاشتراط طمعا في حطام الحياة الدنيا غير مبالين بالحدود والأحكام الشرعية. فاشترتها عائشة على هذا.
فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب في الناس فحمد الله وأثنى عليه- كعادته في الأمور الهامة والخطب- ثم انتقل من الثناء على الله تعالى بقوله: أما بعد إلى زجر الناس عن الشروط المحرمة المخالفة لكتاب الله تعالى فقال: ما بال رجال يشترطون شروطا ليست من أحكام الله وشرعه، وإنما هي من دافع الطمع والجشع، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، مهما كثر وَأكد ووُثق، فإن قضاء اللَه تعالى أحق بالاتباع، لأنه الذي على وفق الحق والعدل، وهو يأتي بمصالح العباد ويدفع مضارهم، وشرط اللَه الذي ارتضاه لخلقه هو القوىُ، وما سواه واه ضعيف، وإنما الولاء لمن أعتق، وليس للبائع ولا لغيره.
ما يستفاد من الحديث:
1- مشروعية مكاتبة العبد، لأنها طريق إلى تخليصه من الرق وفك رقبته، خصوصاً مع قوة العبد على الكسب وصلاحه، وحسن تصرفه، ففيها أجر كبير. قال تعالى: {فَكاتبوهم إنْ عَلِمتُم فيهم خَيْراً}.
2- أن الكتابة تكون مؤجلة على أقساط يدفعها العبد شيئا فشيئا.
لأنه حين عقد الكتابة- لا يملك شيئا، فصار التأجيل فيها لازما، ومن هنا أخذ بعض العلماء معناها.
3- جواز تعجيل تسليم الأقساط المؤجلة لتخليص المكاتب من الرق عاجلا، وهو مأخوذ من استعانة بريرة بعائشة على ذلك.
4- جاز بيع المكاتب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة في شرائها، وبريرة لم تأت عائشة إلا لطلب العون.
وقد منعه بعض العلماء، ويحتاجون إلى جواب عن هذا الحديث، ولا جواب عندهم يكفي للعدول عنه.
وممن قال بجواز بيعه، الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
5- أن شرط الولاء في البيع باطل،لأن الولاء للمعتق لا للبائع، فهو لحمة كلحمة النسب، يعد نفعه على من أنعم على العتيق بالعتق، لا على من باعه وأحذ ثمنه، فهذا من تمام عدل الله في أحكامه. وأما البيع فصحت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبطل العقد بما اشترطه أولياء بريرة على عائشة، وإنما أفاد أن الشرط باطل.
6- أخذ العلماء من هذا الحديث أن البائع إذا اشترط على المشترى عتق العبد الجميع فإن الشرط صحيح، ويجب على المشتري أن يعتقه فإن لم يفعل أعتقه الحاكم، لأن العتق حق الله تعالى، وهو متشوف إلى عتق الرقاب.
7- أشكل على العلماء إذْنُ النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة بشراء بريرة من أهلها، مع موافقتهم على اشتراط الولاء لهم وهو شرط باطل مع اتفاق العلماء على تكريم النبي صلى الله عليه وسلم عن قصد تغريرهم، فذهبت في تأويل ذلك مذاهب كثيرة.
وأحسنها أن يقال: إن سياق القصة يفهم منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين هذا الحكم، وأن الولاء للمعتق لا لغيره. فأراد هؤلاء البائعون أن يشترطوا الولاء طمعاً به، لما يعود به عليهم من النفع.
ولعل الذي سوَّغ لهم الإقدام عليه، أن عقد الكتابة قد تم، وقد سلم بعض نجومه.
فتوهموا أن هذا يُخَوّل لهم اشتراط الولاء، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم غضب أن يُتَلاعَبَ بكتاب الله وأحكامه بأدنى الشبهِ.
فقام ووعظ الناس، وبين لهم أن كل شرط ليس في شرع الله، فهو باطل مهما كَثُرَ، ومهما أكد، لأن الخير والعدل في اتباع شرعه، والشر والظلم في الابتعاد عنه. وفقنا الله لاتباعه.
اعتراض: قد يرد على هذا التخريج فيقال: إذا كان هذا شرطا باطلا معلوم البطلان، قد غضب النبي صلى الله عليه وسلم من اشتراطه، فكيف اشترطت عليهم عائشة أن الولاء لها؟.
ولعَل الجواب أن الحكم قد اشتبه عليها مع وجود الكتابة وتسليم بعض الأقساط، فأرادت أن تحتاط لنفسها باشتراط ما تظن أن الشارع ملكها إياه.
وحين أبوا أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بإبائهم، فكان الغضب منصبا على الذين يريدون شرطا مخالفا لحكم الله، مع أنه ربما كان قد وقع منهم بتأويل بعيد.
ولم أر هذا الاعتراض وجوابه لأحد، فالله أعلم.
8- استحباب تبيين الأحكام عند المناسبات،وأن يكون في المجامع الحافلة.
9- افتتاح الخطب، بحمد الله، والثناء عليه، لتحل بها البركة، ولتكون أولى بالقبول، من إيرادها جافة.
10- استحباب إتيان الخطيب أما بعد لأنها تشعر بانتقال الخطيب من موضوع إلى آخر، وتزيد الكلام حلاوة وطلاوة.
11- أنه يراد بكتاب الله، أحكامه وشرعه.
12- أن كل شرط لم يأذن الله به فهو باطل مردود، وإن كثرَ وأكدَ.
13- ليس المقصود بالمائة الشرط، التحديد فإن زيد عليها جازت الشروط.
وإنما المراد المبالغة والتعظيم كقوله تعالى في حق المنافقين الذين لن يغفر لهم {استغفرْ لَهم أولا تَستغفرْ لَهُم إنْ تَستغفِرْ لَهُم سَبْعِينَ مَرة فَلن يَغفِرَ الله لهُم}.
14- أن أقضية الله وأحكامه، وشروطه، وحدوده، هي المتبعة.
وما عداها فلا يتبع ولا يركن إليه، لأنه على خلاف الحق والعدل.
15- أن الولاء للمعتق خاصة، فهو لحمة كلحمة النسب، يحصل بها التوارث والتناصر والتقارب.
16- أن العتق سبب الولاء بأي طريق كان، سواء أكان لمكاتبة،أم لكفارة أم مقصودا به البر الإحسان.
17- أن الشروط التي على خلاف مقتضى العقد، فاسدة بنفسها، غير مفسدة للعقد. فإن عقد البيع يقتضي أن يكون الولاء للمشترى الذي أعتق، فشرط الولاء لغير المعتق خلاف مقتضى العقد، فيكون فاسدا.
ملخص من كلام ابن تيمية حول الشروط الصحيحة، والفاسدة:
ذكر رحمه الله أن الذي يمكن ضبطه منها قولان:
أحدهما أن يقال: الأصل في العقود والشروط فيها الحظر، إلا ما ورد الشرع بإجازته، وهو قول أهل الظاهر وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا، كثير من أصول الشافعي، وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمد، فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس، وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد، ويقولون: ما خالف مقتضى العقد فهو باطل. أما أهل الظاهر فلم يصححه لا عقداً ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع. وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي ألا يصح في العقود شروط يخالف مقتضاها في المطلق. والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل، لكنه يستثنى مواضع للدليل الخاص، وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي.
وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر ويوسعون في الشروط أكثر منهم، لقولهم بالقياس، ولما يفهمونه من معاني النصوص التي يتفردون بها عن أهل الظاهر وحجة هؤلاء ما جاء في قصة بريرة: «ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» فكل شرط ليس في القرآن ولا في الإجماع فهو مردود.
والحجة الثانية أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء، لأن العلة فيه كونه مخالفا لمقتضى العقد، لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع.
فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع، بمنزلة تغيير العبادات، وهذه نكتة القاعدة: وهى أن العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغير للمشروع.
والقول الثاني: أن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصا أو قياسا، ونصوص أحمد المنصوص عنه أكثرها تجري على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط منه. وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط يثبته بدليل خاص من أثر أو قياس، ولا يعارض بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد أو لم يرد به نص، وكان قد بلغه من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ما تجده عند غيره من الأئمة بهذا الخصوص.
وقد جاء في الكتاب والسنة الأمر بالوفاء بالعهود والمواثيق والشروط والعقود وأداء الأمانة ورعاية ذلك، وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده، ومقصود العقد هو الوفاء به، وقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَه صلى الله عليه وسلم: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم» قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، وهو حقيقة المذهب. والمشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما، فما كان مباحا بدون الشرط فالشرط يوجبه، والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث أن اشتراط الزيادة على مطلق القيد واشتراط النقص جائز ما لم يمنع منه الشرع.
الحديث الثاني:
عَنْ جَابِرِ بن عَبْدِ الله رَضيَ الله عَنْهُمَا: أنهُ كَانَ يَسِيُر عَلَى جَمَل فَأعْيَا، فأرَادَ أن يُسَيبهُ.
قال: فَلَحَقَني النبي صَلى الله عليه وَسِلمَ فَدعَا لي، وَضَرَبهُ فَسارَ سيْراً لَم يَسِرْ مِثلَهُ قَطْ، فقالَ: «بعْنِيهَ بأوقِية» قُلْتُ: لا. ثم قال: «بعْنِيه» فَبِعْتُهُ بأوقِيةٍ، وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلانَهُ إلَى أهلي.
فَلَما بَلَغْتُ، أتَيتهُ بَالجَمَلِ، فَنَقَدَني ثمَنَهُ. ثُم رَجَعْتُ. فَأرْسل في أثرِي فَقَالَ: «أتراَني مَاكَستكَ لآخُذَ جَمَلَكَ؟ خذْ جَمَلَكَ وَدرَاهِمَكَ، فهُوَ لَكَ».
الغريب:
فأعيا: أعيا الرجل أو البعير، إذا تعب وَكَل من الَمشي، يستعمل لازما ومتعدياً، تقول: أعيا الرجل، وأعياه اللّه.
أن يسيبه: أن يطلقه، ليذهب على وجهه.
حُمْلانه: بضم الحاء وسكون الميم، أي حمله البائع.
أتراني: بضم التاء، أي أتظنني.
ماكستك: المماكسة:- المكالمة في البيع والشراء، لطلب الزيادة، أو النقص في الثمن.
المعنى الإجمالي:
كان جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما مع النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى غزواته، وكان راكباً على جمل قد هزل فأعيا عن السير ومسايرة الجيش حتى إنه أراد أن يطلقه فيذهب لوجهه، لعدم نفعه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم من رأفته بأصحابه وبأمته- يمشى في مؤخرة الجيوش، رِفْقاً بالضعيف، والعاجز، والمنقطع. فلحق جابراً وهو على بعيره الهزيل، فدعا له وضرب جمله، فصار ضربه الكريم الرحيم قوةً وعوناً للجمل العاجز، فسار سيراً لم يسر مثله. فأراد صلى الله عليه وسلم من كرم خلقه ولطفه- تطييب نفس جابر ومجاذبته الحديث المعين على قطع السفر، فقال: بعنيه بأوقية.
فطمع جابر رضي الله عنه بفضل الله وعلم أن لا نقص على دينه من الامتناع من بيعه للنبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا لم يدخل في الطاعة الواجبة، إذ لم يكن الأمر على وجه الإلزام. ومع هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد عليه الطلب فباعه إياه بالأوقية واشترط أن يركبه إلى أهله في المدينة، فقبل صلى الله عليه وسلم شرطه. فلما وصلوا، أتاه بالجمل، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الثمن. فلما رجع أرسل في أثره فرجع إليه وقال له: أتظنني بايعتك طمعا في جملك لآخذه منك؟ خذ جملك ودراهمك فهما لك. وليس هذا بغريب على كرمه وخلقه ولطفه، فله المواقف العظيمة صلى الله عليه وسلم.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن الأحسن للقائد والأمير أن يكون في مؤخرة الجيش والقافلة، انتظارا للعاجزين والمنقطعين. وكما في الحديث: «الضعيف أمير الركب».
2- رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، ورأفته بأمته.
فحين رأى جابراً على هذه الحال، أعانه بالدعاء، وضَرْبِ الجمل الذي صار قوة له على السير بإذن الله تعالى.
3- معجزة كبرى من معجزاته صلى الله عليه وسلم ناطقة بأنه رسول اللّه حقا، إذ يأتي على هذا الجمل العاجز المتخلف، فيضربه فيسير على إثر الضرب هذا السير الحسن ويلحق بالجيش.
4- جواز البيع والشراء من الإمام لرعيته.
5- أن الامتناع على النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه القصة، لا يُعَد إثما وعقوقاً وتركا لطاعته، فإن هذه عنه، ليست على وجه الإلزام والتحتيم، وإنما على وجه التخيير والترغيب.
ومثلها قصة بريرة، حين شفع إليها أن ترجع إلى زوجها مغيث فقد سألته: أتأمرني بذلك؟ فقال: بل شافع. فقالت: لا حاجة لي به. فقد فهم الصحابة رضي الله عنهم أن مثل هذه الأشياء لا تلزم الإجابة، وإلًا لكانوا أسرع الناس إلى الامتثال.
6- أخذ من هذا الحديث ابن رجب رحمه الله، قاعدة عامة وهى: أنه يجوز للإنسان نقل الملك في شيء، واستثناء نفعه، المعلوم، مدة معلومة. وهذا يعم كل شيء من إجارة، وهبة، ووقف، ووصية، إلا بُضْعَ الأًمَة فلا يجوز استثناؤه، لأنها منفعة لا تحل إلا بالزوجية أو ملك اليمين.
7- جواز البيع واستثناء نفع المبيع، إذا كان النفع المستثنى معلوما.
وهذه المسألة جزء من القاعدة السابقة. وفى هذا خلاف يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء:- هل يجوز للبائع أن يشترط نفعا معلوما في المبيع- كسكنى الدار المبيعة شهراً؟ وهل يجوز- أيضا- للمشترى أن يشترط على البائع نفعه المعلوم في المبيع، كأن يشترط عليه حمل ما اشتراه منه إلى موضع معين، أو خياطة الثوب المبيع ونحو ذلك؟
فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي. إلى عدم صحة العقد والشرط- إلا أن مالكا أجاز شرط الحمل على الدابة إلى المكان القريب.
وذهب الإمام أحمد إلى جواز شرط واحد فقط، ووافقه على رأيه إسحاق، وابن المنذر، والأوزاعي، وإن جمع في العقدين شرطين بطل البيع.
وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أن البيع صحيح مع الشروط العائدة للبائع من منافع معلومة في المبيع، أو عائدة للمشترى من منافع معلومة في المبيع من البائع.
واختار هذه الرواية شيخ الإسلام والمسلمين أبو العباس (ابن تيمية)، وتلميذه شمس الدين ابن القيم.
ونصرها وأكدها شيخنا العلامة المحقق عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي، رحمهم الله جميعاً والمسلمين.
وهذا ما أعتقد صحته، كما يأتي تبيين أدلة العلماء، رحمهم الله تعالى، ومآخذهم.
أدلة المذاهب السابقة:
استدل الأئمة الثلاثة على ما ذهبوا إليه، بما رواه الخمسة عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الثنيَا إلا أن يعلم». وبما رواه الترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل شرطان في بيع». وقد روى أبو حنيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع وشرط» وفسروا الشرطين في البيع، والشرط فيه بمثل هذه الشروط، التي يشترطها البائع أو المشترى على الآخر مما فيه مصلحة المبيع، أو منفعة البائع، كاشتراط خياطة الثوب، أو تفصيله، أو تكسير المشترى الحطب، أو حمله، أو استثناء نفع معلوم في المبيع للبائع، كسكنى الدار المبيعة، أو حمل الدابة ونحو ذلك.
وأجابوا عن حديث جابر الذي معنا، بأن المبايعة ليست حقيقية، وإنما أراد كلية أن ينفع جابراً بالهبة، فاتخذ بيع الجمل ذريعة إلى ذلك بدليل ذلك قوله: «أتراني ماكستك لاَخذ جملك؟» وأجاب بعضهم إلى أن اختلاف الرواة في ألفاظ حديث جابر، مما يمنع الاحتجاج به على هذا المطلب، فإن بعض ألفاظه: «بعته واشترطت حملانه إلى أهلي» وفى لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاره ظهره إلى المدينة. وفى لفظ قال: بعت النبي صلى الله عليه وسلم جملا فأفقرني ظهره إلى المدينة والإفقار إعارة الظهر.
أما أدلة الذين يرون جواز اشتراط البائع المنافع المعلومة في البيع، أو اشتراط المشترى على البائع المنافع العائدة على المبيع، فكثيرة.
منها: قوله عليه الصلاة والسلام: «المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحلَّ حراماً، أو حرم حلالا» وهذه ليست مما يحل حراماً، ولا مما يحرم حلالا.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الثنيا إلا أن يعلم»، وهذه شروط واستثناءات معلومة، فتكون غير داخلة في النهى.
ومنها- حديث جابر، الذي معنا، إذ شرط على النبي صلى الله عليه وسلم ظهر جمله إلى المدينة. وليس في هذه الشروط شيء من المحاذير، كالربا، والغرر، والضرر، والظلم. فكيف تكون محرمة والأصل في المعاملات الإباحة،والسعة؟ وكما أنه لا مفسدة فيها، فليست- أيضا- وسيلة إلى المفسدة.
وأجابه عن أدلة المفسدين للعقد مع الشرط، بأن حديث: «نهى النبي عن الثنيا إلا أن يعلم» مفهومه دليل من أدلتنا، فهو رد عليكم. وأما حديث نهى عن بيع وشرط، فلم يصح، وإنما الوارد: «لا يحل شرطان في بيع».
اختلاف العلماء:
واختلف العلماء في تفسير الشرطين. وأحسن ما فُسرا به، أن المراد بذلك مسألة العينة. وهى أن يقول: خذ هذه السلعة بعشرة نقداً، وآخذها منك بعشرين نسيئة.
فهذا هو المعنى المطابق لمعنى الحديث، وهو نظير البيعتين في ييعة، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسُهُماَ، أو الربا» وقد فسر ببيع العينة. ولا يحتمل حديث الشرطين في بيع، غير هذا المعنى. والمراد بالشرطين: الأول: العقد نفسه، فإنه عهد تشارطا على الوفاء به. والثاني:- ما صحبه من شرط العقد مرة أخرى بأزيد من الثمن الأول.
وأما حديث جابر، فلا يرد عليه أنه قصد به الهبة، لا البيع حقيقة. فإننا لو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد البيع حقيقة، فلم يكن معلوما لجابر وهو الذي ابتدأ شرط ظهر الجمل، فكأن هذا الشيء معلوم جوازه لديهم.
وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على شرطه، وهو لا يقر على باطل، لا في جد، ولا في هَزْلٍ. وأما الاعتراض على الحديث باختلاف الرواة في ألفاظه، فقد أجاب عن ذلك العلامة ابن دقيق العيد بما نصه: هذا صحيح لكن بشرط تكافؤ الروايات أو تقاربها. أما إذا كان الترجيح واقعا لبعضها- لأن رواته أكثر وأحفظ- فينبغي العمل بها، إذ الأضعف لا يكون مانعاً من العمل بالاًقوى، والمرجوح لا يدفع التمسك بالراجح. فتمسك بهذا الأصل، فإنه نافع في مواضيع عديدة. اهـ.
وأما دليل مشهور مذهب الحنابلة، فالاقتصار في الاستدلال بحديث: «ولا شرطان في بيع».
والصحيح الذي تطمئن إليه النفس، ويرتاح له الضمير، الرواية التي اختارها شيخا الإسلام، ورجحها شيخنا السعدي لقوة أدلتها النقلية والقياسية، وعدم ما يعارضها. والله الموفق للصواب.
فائدة:
الشروط في البيع قسمان. أحدهما: ما هو منفعة في المبيع يستثنيها البائع، أو نفع من البائع في المبيع، يشترطه المشترى. وهذه هي مواطن الخلاف بين العَلماء، يتقدم الكلام فيها. والقسم الثاني: ما هو من مقتضى العقد، كالتقابض، وحلول الثمن. أو من مصلحة العقد، كاشتراط تأجيل الثمن، أو الرهن، أو الضمين. أو صفة في المبيع مقصودة، ككون العبد كاتباً أو صانعاً، أو الأمة بكراً، أو خياطة ونحو ذلك. فهذه الشروط لا خلاف في جوازها، كثرت أو قَلتْ.
الحديث الثالث:
عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عَنْهُ قالَ: «نَهَى رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن يبيع حَاضِر لِبَادٍ، وَلا تَنَاَجَشُوا، وَلا يَبع الرجُلُ عَلَى بيع أخيه. وَلا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ، وَلا تَسْأل المَرأة طَلاقَ أخْتِهَا لِتُكفِئَ مَا في إنَاِئهَا»
ما يستفاد من الحديث:
الكلام على بيع الحاضر للبادي، والنجش، وبيع الرجل على بيع أخيه، تقدم مفصلا في الحديثين، بما أغنى عن إعادتها ههنا. وفيه من الفوائد الزوائد ما يأتي:
1- تحريم خطبة النكاح على خطبة أخيه، حتى يعلم أن الخاطب رُد عن طلبه، ولم يُجَبْ، لما تسبب الخِطْبة على خِطبةْ الغير من العداوة والبغضاء، والتعرض لقطع الرزق.
2- تحريم سؤال المرأة زوجها أن يطلق ضرتها، أو توغير صدره عليها، أو الفتنة بينهما، ليحصل بينهما الشر، فيفارقها، فهذا حرام، لما يحتوى عليه من المفاسد الكبيرة، من توريث العداوات، وجلب الإحن، وقطع رزق المطلقة، الذي كنى عنه بِكَفْءِ ما في إنائها من الخير، الذي سببه النكاح، وما يوجبه من نفقة وكسوة وغيرها من الحقوق الزوجية. فهذه أحكام جليلة وآداب سامية، لتنظيم حال المجتمع، وإبعاده عما يسبب الشر والعداوة والبغضاء، ليحل محل ذلك المحبة والمودة والوئام والسلام.