فصل: الجسد والروح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفوائد (نسخة منقحة)



.مكر الله عز وجل:

وأما المكر الذي وصف به نفسه فهو مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله، فيقابل مكره السيئ بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبح شيء ومنه أحسن شيء لأنه عدل ومجازاة. وكذلك المخادعة منه جزاء على مخادعة رسله وأوليائه، فلا أحسن من تلك المخادعة والمكر.
وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملا صالحا مقبولا للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يبطله عليه. وقوله: «لم يبق بينه وبينها إلا ذراع» يشكل على هذا التأويل، فيقال: لما كان العمل بآخره وخاتمته لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له، بل كان فيه آفة كامنة ونكتة خذل بها في آخر عمره فخانته تلك الآفة والداهية الباطنة في وقت الحاجة فرجع إلى موجبها وعملت عملها، ولو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه. لقد أورده مع صدقه فيه وإخلاصه بغير سبب منه يقتضي إفساده عليه، والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض.
وأما شأن إبليس: فإن الله سبحانه قال للملائكة: {إني أعلم ما لا تعلمون} سورة البقرة: الآية: 30 فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا يعلمه الملائكة، فلما أمروا بالسجود ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة والخشية والانقياد فبادروا إلى الامتثال، وظهر ما في قلب عدوه من الكبر والغش والحسد فأبى واستكبر وكان من الكافرين.
أما خوف أوليائه من مكره فحق، فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم فيصيرون إلى الشقاء، فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لرحمته، وقوله: {أفأمنوا مكر الله} سورة الأعراف، الآية رقم 99 إنما هو في حق الفجار والكفار. ومعنى الآية: فلا يعصي ويأمن مقابلة الله له على مكر السيئات بمكره به إلا القوم الخاسرون. والذي يخافه العارفون بالله من مكره أن يؤخر عنهم عذاب الأفعال فيحصل منهم نوع اغترار فيأنسوا بالذنوب فيجيئهم العذاب على غرة وفترة.
وأمر آخر: وهو أن يغفلوا عنه وينسوا ذكره فيتخلى عنهم إذا تخلوا عن ذكره وطاعته فيسرع إليهم البلاء والفتنة فيكون مكره بهم تخلية عنهم.
وأمر آخر: أن يعلم من ذنوبهم وعيوبهم ما لا يعلمونه من نفوسهم، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون.
وأمر آخر: أن يمتحنهم ويبتليهم بما لا صبر لهم عليه، فيفتنون به، وذلك مكر.

.شجرة الإخلاص:

السنة شجرة والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها والأنفاس ثمرها. فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل. وإنما يكون الجداد يوم المعاد، فعند الجداد يتبين حلو الثمار من مرها.
والإخلاص والتوحيد شجرة في القلب فروعها الأعمال وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة. وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك.
والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب ثمرها في الدنيا الخوف والهم، والغم وضيق الصدر وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم. وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم.

.مراتب السعادة:

إذا بلغ العبد أعطى عهده الذي عهد إليه خالقه ومالكه، فإذا أخذ عهده بقوة وقبول وعزم على تنفيذ ما فيه صلح للمراتب والمناصب التي يصلح لها الموفون بعهودهم، فإذا هز نفسه عند أخذ العهد وانتحاها وقال قد أُهِّلْت لعهد ربي فمن أولى بقبوله وفهمه وتنفيذه مني؟ فحرص أولا على فهم عهده وتدبره وتعرفه وصايا سيده له، ثم وطن نفسه على امتثال ما في عهده والعمل به وتنفيذه حسبما تضمنه عهده، فأبصر بقلبه حقيقة العهد وما تضمنه، فاستحدث همة أخرى وعزيمة غير العزيمة التي كان فيها وقت الصبا، قبل وصول العهد، فاستقال من ظلمة غرة الصبا والانقياد للعادة والمنشأ، وصبر على شرف الهمة وهتك ستر الظلمة إلى نور اليقين، فأدرك بقدر صبره وصدق اجتهاده ما وهبه الله له من فضله.
فأول مراتب سعادته أن تكون له أذن واعية، وقلب يعقل ما تعيه الأذن. فإذا سمع وعقل واستبانت له الجادة ورأى عليها تلك الأعلام، ورأى أكثر الناس منحرفين عنها يمينا وشمالا فلزمها ولم ينحرف مع المنحرفين الذين كان سبب انحرافهم عدم قبول العهد أو قبلوه بكره ولم يأخذوه بقوة ولا عزيمة ولا حدثوا أنفسهم بفهمه وتدبره والعمل بما فيه وتنفيذ وصاياه، بل عرض عليهم العهد ومعهم ضراوة الصبا ودين العادة وما ألفوا عليه الآباء والأمهات، فتلقوا العهد تلقي من هو مكتف بما وجد عليه آباءه وسلفه، وعادتهم لا تكفي من يجمع همه وقلبه على فهم العهد والعمل به، حتى كأن ذلك العهد أتاه وحده وقيل له تأمل ما فيه ثم اعمل بموجبه فإذا لم يتلق عهده هذا التلقي أخلد إلى سيرة القرابة وما استمرت عليه عادة أهله وأصحابه وجيرانه وأهل بلده، فإن علت همته أخلد إلى ما عليه سلفه ومن تقديمه من غير التفات إلى تدبر العهد وفهمه فرضي لنفسه أن يكون دينه دين العادة، فإذا شامه الشيطان ورأى هذا مبلغ همته وعزيمته، رماه بالعصبية والحمية للآباء وسلفه وزين له أن هذا هو الحق وما خالفه باطل، ومثل له الهدى في صورة الضلال، والضلال في صورة الهدى، بتلك العصبية والحمية التي أسست على غير علم، فرضاه أن يكون مع عشيرته وقومه له ما لهم وعليه ما عليهم، فخذل عن الهدى وولاه الله ما تولى، فلو جاءه كل هدى يخالف قومه وعشيرته لم يره إلا ضلالة.
وإذا كانت همته أعلى من ذلك ونفسه أشرف وقدره أعلى، أقبل على حفظ عهده وفهمه وتدبره، وعلم أن لصاحب العهد شأنا ليس كشأن غيره، فأخذ نفسه بمعرفته من نفس العهد، فوجده قد تعرف إليه وعرفه نفسه وصفاته وأسماءه وأفعاله وأحكامه، فعرف من ذلك العهد قيما بنفسه مقيما لغيره غنيا عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه مستو على عرشه فوق جميع خلقه، يرى ويسمع ويرضى ويغضب ويحب ويبغض ويدبر أمر مملكته، وهو فوق عرشه متكلم آمر ناه يرسل رسله إلى أقطار مملكته بكلامه الذي يسمعه من يشاء من خلقه، وأنه قائم بالقسط مُجاز بالإحسان والإساءة، وأنه حليم غفور شكور جواد محسن موصوف بكل كمال منزه عن كل عيب ونقص وأنه لا مثل له. ويشهد حكمته في تدبير مملكته وكيف يقدر مقاديره بمشيئته غير مضادة لعدله وحكمته، وتظاهر عنده العقل والشرع والفطرة فصدق كل منهما صاحبيه وفهم عن الله سبحانه ما وصف به نفسه في كتابه من حقائق أسمائه التي بها نزل الكتاب وبها نطق ولها أثبت وحقق، وبها تعرف إلى عباده حتى أقرت به العقول وشهدت به الفطر.
فإذا عرف بقلبه وتيقن صفات صاحب العهد أشرقت أنوارها على قلبه فصارت له كالمعاينة، فرأى حينئذ تعلقها بالخلق والأمر وارتباطهما بها وسريان آثارها في العالم الحسي والعالم الروحي، ورأى تصرفها في الخلائق كيف عمت وخصت وقربت وأبعدت وأعطت ومنعت، فشاهد بقلبه مواقع عدله سبحانه وقسطه وفضله ورحمته، واجتمع له الإيمان بلزوم حجته مع نفوذ أقضيته وكمال قدرته مع كمال عدله وحكمته ونهاية علوه على جميع خلقه مع إحاطته ومعيته وعظمته وجلاله وكبريائه وبطشه وانتقامه مع رحمته وبره ولطفه وجوده وعفوه وحلمه. ورأى لزوم الحجة مع قهر المقادير التي لا خروج لمخلوق عنها. وكيف اصطحاب الصفات وتوافقها وشهادة بعضها لبعض، وانعطاف الحكمة التي هي نهاية وغاية على المقادير التي هي أول بداية. ورجوع فروعها إلى أصولها ومبادئها إلى غاياتها حتى كأنه مشاهد مبادئ الحكمة، وتأسيس القضايا على وفق الحكمة والعدل والمصلحة والرحمة والإحسان، ولا تخرج قضية عن ذلك إلى انقضاء الأكوان وانفصال الأحكام يوم الفضل بين العباد وظهور عدله وحكمته وصدق رسله وما أخبرت به عنه لجميع الخليقة، إنسها وجنها، مؤمنها وكافرها.
وحينئذ يتبين من صفات جلاله ونعوت كماله للخلق ما لم يكونوا يعرفونه قبل ذلك، حتى أن أعرف خلقه به في الدنيا يثني عليه يومئذ من صفات كماله ونعوت جلاله ما لم يكن يحسنه في الدنيا، وكما يظهر ذلك لخلقه تظهر لهم الأسباب التي بها زاغ الزائغون وضل الضالون وانقطع المنقطعون، فيكون الفرق بين العلم يومئذ بحقائق الأسماء والصفات والعلم بها في الدنيا كالفرق بين العلم بالجنة والنار ومشاهدتهما وأعظم من ذلك.
وكذلك يفهم من العهد كيف اقتضت أسماؤه وصفاته لوجود النبوة والشرائع وألا يترك خلقه سدى، وكيف اقتضت ما تضمنته من الأوامر والنواهي، وكيف اقتضت وقوع الثواب والعقاب والمعاد، وأن ذلك من موجبات أسمائه وصفاته بحيث ينزه عما زعم أعداؤه من إنكار ذلك، ويرى شمول القدرة وإحاطتها بجميع الكائنات حتى لا يشذ عنها مثقال ذرة، ويرى أنه لو كان معه إله آخر لفسد هذا العالم فكانت تفسد السموات والأرض ومن فيهن، وأنه سبحانه لو جاز عليه النوم أو الموت لتدكدك هذا العالم بأسره ولم يثبت طرفة عين. ويرى مع ذلك الإسلام والإيمان اللذين تعبد الله بهما جميع عباده كيف انبعاثهما من الصفات المقدسة، وكيف اقتضيا الثواب والعقاب عاجلا وآجلا. ويرى مع ذلك أنه لا يستقيم قبول هذا العهد والتزامه لمن جحد صفاته وأنكر علوه على خلقه وتكلمه بكتبه وعهوده، كما لا يستقيم قبوله لمن أنكر حقيقة سمعه وبصره وحياته وإرادته وقدرته، وأن هؤلاء هم الذين ردوا عهده وأبوا قبوله، وأن من قبله منهم لم يقبله بجميع ما فيه، والله التوفيق.

.الجسد والروح:

خلق بدن ابن آدم من الأرض وروحه من ملكوت السماء وقرن بينهما. فإذا أجاع بدنه وأسهره وأقامه في الخدمة وجدت روحه خفة وراحة فتاقت إلى الموضع الذي خلت منه، واشتاقت إلى عالمها العلوي. وإذا أشبعه ونعمه ونومه واشتغل بخدمته وراحته، أخلد البدن إلى الموضع الذي خلق منه فانجذبت الروح معه فصارت في السجن، فلولا أنها ألفت السجن لاستغاثت من ألم مفارقتها وانقطاعها عن عالمها الذي خلقت منه كما يستغيث المعذب.
وبالجملة فكلما خف البدن لطفت الروح وخفت وطلبت عالمها العلوي وكلما ثقل وأخلد إلى الشهوات والراحة ثقلت الروح وهبطت من عالمها وصارت أرضية سفلية، فترى الرجل: روحه في الرفيق الأعلى وبدنه عندك، فيكون نائما على فراشه وروحه في السفل تجول حول السفليات. فإذا فارقت الروح البدن التحقت برفيقها الأعلى أو الأدنى، فعند الرفيق الأعلى كل قرة عين وكل نعيم وسرور وبهجة ولذة وحياة طيبة، وعند الرفيق الأسفل كل هم وغم وضيق وحزن وحياة نكدة ومعيشة ضنك، قال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} سورة طه، الآية 124 فذِكْره كلامه الذي أنزله على رسوله والإعراض عنه ترك تدبره والعمل به. والمعيشة الضنك، فأكثر ما جاء في التفسير: أنها عذاب القبر، قاله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن عباس، وفيه حديث مرفوع.
وأصل الضنك في اللغة: الضيق والشدة، وكل ما ضاق فهو ضنك، يقال: منزل ضنك وعيش ضنك، فهذه المعيشة الضنك في مقابلة التوسيع على النفس والبدن بالشهوات واللذات والراحة، فإن النفس كلما وسعت عليها ضيقت على القلب حتى تصير معيشة ضنكا، وكلما ضيقت عليها وسعت على القلب حتى ينشرح وينفسح. فضنك المعيشة في الدنيا بموجب التقوى سعتها في البرزخ والآخرة، وسعة المعيشة في الدنيا بحكم الهوى ضنكها في البرزخ والآخرة، فآثر أحسن المعيشتين وأطيبهما وأدومهما، وأشق البدن بنعيم الروح ولا تشق الروح بنعيم البدن، فإن نعيم الروح وشقاءها أعظم وأدوم، ونعيم البدن وشقاؤه أقصر وأهون , والله المستعان.

.ترك الذنوب أولا:

العارف لا يأمر الناس بترك الدنيا فإنهم لا يقدرون على تركها، ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم، فترك الدنيا فضيلة وترك الذنوب فريضة.
فكيف يؤمر بالفضيلة من لم يقم الفريضة! فإن صعب عليهم ترك الذنوب فاجتهد أن تحبب الله إليهم بذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وصفات كماله ونعوت جلاله، فإن القلوب مفطورة على محبته. فإذا تعلقت بحبه هان عليها ترك الذنوب والإصرار عليها والاستقلال منها. وقد قال يحيى بن معاذ: «طلب العاقل للدنيا خير من ترك الجاهل لها».
العارف يدعو الناس إلى الله من دنياهم فتسهل عليهم الإجابة، والزاهد يدعوهم إلى الله بترك الدنيا فتشق عليهم الإجابة. فإن الفطام عن الثدي الذي ما عقل الإنسان نفسه إلا وهو يرتضع منه،شديد،ولكن تخير من المرضعات أزكاهن وأفضلهن، فإن للبن تأثيرا في طبيعة المرتضع، ورضاع المرأة الحمقى يعود بحمق الولد. وأنفع الرضاعة ما كان من المجامعة، فإن قويت على مرارة الفطام وإلا فارتضع بقدر فإن من البشم ما يقتل.

.ثلاث فوائد:

بين رعاية الحقوق مع الضر ورعايتها مع العافية بون بعيد.
إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه قرن الإنسان: هو الذي يكافئه في القدرة والشجاعة: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} سورة الأنفال، الآية 45
ليس العجب من صحيح فارغ واقف مع الخدمة، إنما العجب من ضعيف سقيم تعتوره الأشغال وتختلف عليه الأحوال وقلبه واقف في الخدمة غير متخلف بما يقدر عليه.

.معرفة الله:

معرفة الله سبحانه نوعان:
الأول: معرفة إقرار وهي التي اشترك فيها الناس البر والفاجر والمطيع والعاصي.
والثاني: معرفة توجب الحياء منه والمحبة له وتعلق القلب به والشوق إلى لقائه وخشيته والإنابة إليه والأنس به والفرار من الخلق إليه. وهذه هي المعرفة الخاصة الجارية على لسان القوم وتفاوتهم فيها لا يحصيه إلا الذي عرفهم بنفسه وكشف لقلوبهم من معرفته ما أخفاه عن سواهم وكل أشار إلى هذه المعرفة بحسب مقام وما كشف له منها. وقد قال أعرف الخلق به: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»، وأخبر أنه سبحانه يفتح عليه يوم القيامة من محامده بما لا يحسنه الآن.
ولهذه المعرفة بابان واسعان:
الباب الأول: التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها، والفهم الخاص عن الله ورسوله.
والباب الثاني: التفكر في آياته المشهودة وتأمل حكمته فيها وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامة بالقسط على خلقه. وجماع ذلك: الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها وتفرده بذلك وتعلقها بالخلق والأمر، فيكون فقيها في أوامره ونواهي، فقيها في قضائه وقدره، فقيها في أسمائه وصفاته، فقيها في الحكم الديني الشرعي والحكم الكوني القدري، و{ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.

.أفضل الكسب وشره:

الدراهم أربعة: درهم اكتسب بطاعة الله وأخرج في حق الله فذاك خير الدراهم، ودرهم اكتسب بمعصية الله وأخرج في معصية الله فذاك شر الدراهم، ودرهم اكتسب بأذى مسلم وأخرج في أذى مسلم فهو كذلك، ودرهم اكتسب بمباح وأنفق في شهوة مباحة فذاك لا له ولا عليه.
هذه أصول الدراهم، ويتفرع عليها دراهم أخر: منها درهم اكتسب بحق وأنفق في باطل، ودرهم اكتسب بباطل وأنفق في حق فإنفاقه كفارته، ودرهم اكتسب من شبهة فكفارته أن ينفق في طاعة، وكما يتعلق الثواب والعقاب والمدح والذم بإخراج الدرهم فكذلك يتعلق باكتسابه. وكذلك يسأل عن مستخرجه ومصروفه من أين اكتسبه وفيما أنفقه.

.مواساة المؤمنين:

المواساة للمؤمنين أنواع: مواساة بالمال، ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن والخدمة، ومواساة بالنصيحة والإرشاد، ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساة بالتوجع لهم. وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة. فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة، وكلما قوي قويت. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس مواساة لأصحابه بذلك كله، فلأتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له.
ودخلوا على بشر الحافي في يوم شديد البرد وقد تجرد وهو ينتفض، فقالوا: ما هذا يا أبا نصر؟ فقال: ذكرت الفقراء وبردهم وليس لي ما أواسيهم، فأحببت أن أواسيهم في بردهم.

.الجهل يوجب التعب:

الجهل بالطريق وآفاتها والمقصود يوجب التعب الكثير مع الفائدة القليلة، فإن صاحبه إما أن يجتهد في نافلة مع إضافة الفرض أو في عمل بالجوارح لم يواطئه عمل القلب، أو عمل بالباطن والظاهر لم يتقيد بالاقتداء، أو همة إلى عمل لم ترق بصاحبها إلى ملاحظة المقصود، أو عمل لم يحترز من آفاته المفسدة له حال العمل وبعده، أو عمل غفل فيه عن مشاهدة المنة فلم يتجرد عن مشاركة النفس فيه، أو عمل لم يشهد تقصيره فيه فيقوم في مقام الاعتذار منه، أو عمل لم يوفه حقه من النصح والإحسان وهو يظن أنه وفاه، فهذا كله مما ينقص الثمرة مع كثرة التعب، والله الموفق.

.الرحلة إلى الله وما يعترضها:

إذا عزم العبد على السفر إلى الله تعالى وإرادته عرضت له الخوادع والقواطع، فينخدع أولا بالشهوات والرياسات والملاذ والمناكح والملابس. فإن وقف معها انقطع وإن رفضها ولم يقف معها وصدق في طلبه ابتلي بوطء عقبه وتقبيل يده والتوسعة له في المجلس والإشارة إليه بالدعاء ورجاء بركته، ونحو ذلك فإن وقف معه انقطع به عن الله وكان حظه منه، وإن قطعه ولم يقف معه ابتلي بالكرامات والكشوفات، فإن وقف معها انقطع بها عن الله وكانت حظه، وإن لم يقف معها ابتلي بالتجريد والتخلي ولذة الجمعية وعزة الوحدة والفراغ من الدنيا. فإن وقف مع ذلك انقطع به عن المقصود، وإن لم يقف معه وسار ناظرا إلى مراد الله منه وما يحبه منه بحيث يكون عبده الموقوف على محابه ومراضيه أين كانت وكيف كانت، تعب بها أو استراح، تنعم أو تألم، أخرجته إلى الناس أو عزلته عنهم،لا يختار لنفسه غير ما يختاره له وليه وسيده، واقف مع أمره ينفذه بحسب الإمكان، ونفسه عنده أهون عليه أن يقدم راحتها ولذتها على مرضاة سيده وأمره. فهذا هو العبد الذي قد وصل ونفذ ولم يقطعه عن سيده شيء ألبتة، وبالله التوفيق.

.أنواع النعم:

النعم ثلاثة: نعمة حاصلة يعلم بها العبد، ونعمة منتظرة يرجوها، ونعمة هو فيها لا يشعر بها، فإذا أراد الله إتمام نعمته على عبده عرفه نعمته الحاضرة وأعطاه من شكره قيدا يقيدها به حتى لا تشرد،فإنها تشرد بالمعصية وتقيد بالشكر. ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة وبصَّره بالطرق التي تسدها وتقطع طريقها ووفقه لاجتنابها. وإذا بها قد وافت إليه على أتم الوجوه، وعرفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها.
ويحكى أن أعرابيا دخل على الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين ثبت الله عليك النعم التي أنت فيها بإدامة شكرها، وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته، وعرفك النعم التي أنت فيها ولا تعرفها لتشكرها. فأعجبه ذلك منه وقال: ما أحسن تقسيمه.

.مبدأ كل علم وعمل:

مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرشادات، والإرشادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة. فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها. فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحابه، فإنه سبحانه به كل صلاح، ومن عنده كل هدى، ومن توفيقه كل رشد، ومن توليه لعبده كل حفظ، ومن توليه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء. فيظفر العبد بكل خير وهدى ورشد بقدر إثبات عين فكرته في آلائه ونعمه وتوحيده وطرق معرفته وطرق عبوديته وإنزاله إياه حاضرا معه مشاهدا له ناظرا إليه رقيبا عليه مطلعا على خواطره وإرادته وهمه. فحينئذ يستحيي منه ويجله أن يطلعه منه على عورة يكره أن يطلع عليه مخلوق مثله أو يرى في نفسه خاطرا يمقته عليه.
فمتى أنزل ربه هذه المنزلة منه رفعه وقربه منه، وأكرمه واجتباه ووالاه، وبقدر ذلك يبعد عن الأوساخ والدناءات والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة. كما أنه كلما بعد منه وأعرض عنه قرب من الأوساخ والدناءات والأقذار، ويقطع عن جميع الكمالات ويتصل بجميع النقائص.
فالإنسان خير المخلوقات إذا تقرب من بارئه والتزم أوامره ونواهيه وعمل بمرضاته وآثره على هواه. وشر المخلوقات إذا تباعد عنه ولم يتحرك قلبه لقربه وطاعته وابتغاء مرضاته. فمتى اختار التقرب إليه وآثره على نفسه وهواه فقد حكم قلبه وعقله وإيمانه على نفسه وشيطانه، وحكم رشده على غيه وهداه على هواه. ومتى اختار التباعد منه فقد حكم نفسه وهواه وشيطانه على عقله وقلبه ورشده.