فصل: سبب خروجي من الطريقة التجانية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة **


 سبب خروجي من الطريقة التجانية

لقد كنت في غمرة عظيمة، وضلال مبين، وكنت أرى خروجي من الطريقة التجانية كالخروج من الإسلام‏.‏ ولم يكن يخطر لي ببال أن أتزحزح عنها قيد شعرة، وكان الشيخ عبدالحي الكتاني عدوًا للطريقة التجانية لأنه كان شيخًا رسميًا للطريقة الكتانية، وإنما قلت رسميًا لأن أهل ‏(‏سلا‏)‏ أعني الكتانيين أنصار الشيخ محمد بن عبدالكبير الكتاني، مؤسس الطريقة الكتانية، لا يعترفون به أي بالشيخ عبد الحي ويقولون إن الاستعمار الفرنسي هو الذي فرضه على الكتانيين فرضًا، والذي حدثني بذلك هو العالم الأديب النبيل الشيخ عبدالله بن سعيد السلوي فإنه كان حامل لواء نصرة الشيخ محمد بن عبدالكبير الكتاني، وكان يعادي أخاه عبدالحي عداوة شديدة ويرميه بالعظائم والكبائر التي لا يسوغ ذكرها هنا والاستطراد بذكر أسباب العداوة بين الشيخين الكتانيين الأخوين يخرج بنا عن الموضوع، أقول مر بنا الشيخ عبد الحي في ‏(‏وجدة‏)‏ وأنا عند العالم الأديب الشاعر المتفنن في علوم كثيرة الشيخ أحمد سكيرج، قاضي القضاة بناحية ‏(‏وجدة‏)‏، معلمًا لولده الأديب السيد عبدالكريم وابن أخيه السيد عبدالسلام، كنت أعلمهما الأدب العربي بدعوة من الشيخ أحمد سكيرج، فمدحت عبدالحي بقصيدة ضاعت مني ولا أذكر شيئًا منها، ولكنه أعجب بها أيما إعجاب، حتى قال لي عاهدني أنك إذا قدمت ‏(‏فاسًا‏)‏ تنزل عندي ضيفًا فعاهدته على ذلك‏.‏ ففي ربيع الأول من سنة أربعين من هذا القرن الهجري سافرت إلى فاس ونزلت عنده‏.‏ وولد له في تلك الأيام سماه عبدالأحد فالتمس مني نظم أبيات في التهنئة وتاريخ مولده فنظمتها ولا أذكر منها شيئًا، وفي اليوم السابع من مولده عمل مأدبة عظيمة دعا لها خلقًا كثيرًا وبعد ما أكلوا وشربوا قاموا ‏(‏للعمارة‏)‏ ‏(‏ذكر بالرقص والتمايل‏)‏ التي تقدم ذكرها ودعوني أشاركهم في باطلهم فامتنعت لأن من شروط التجاني المخلص أن لا يذكر مع طريقة أخرى ذكرهم وأن لا يرقص معهم‏.‏ وفي كتاب البغية للشيخ العربي ابن السايح وهو شرح المنية للتجاني ابن بابا الشنقيطي حكاية في وعيد شديد لمن يشارك أصحاب الطرائق الأخرى في أورادهم وأذكارهم وحاصلها أن شخصًا تجانيًا ذهب إلى زاوية طريقة أخرى لغرض دنيوي فاستحى أن يبقى منفردًا عنه وهم يذكرون وظيفتهم فشاركهم في الذكر فلما فتح فاه ليذكر معهم أصابه الشلل في فكيه فبقي فاه مفغورًا ولم يستطع سده حتى مات‏.‏ ولكن الجماعة ألحوا علي وجروني جرًا حتى أوقفوني في حلقتهم فرأيت أفواهًا مفغورة من وجوه بعضها فيه لحية سوداء، وبعضها فيه لحيةخطها الشيب، وبعضها أمرد ليس له لحية من الغلمان الذين لم يلتحوا بعد، أما حلق اللحى فلم يكن موجودًا في ذلك الزمن إلا عند الفرنسيين المستعمرين وقليل جدًا من حواشيهم وسمعت أصواتًا تنبعث من تلك الأفواه ليس لها معنى في أي لغة بعضها آآآ وبعضها آه آه آه، وبعضها أحن أح أح فاستنكرت تلك الهيئة وقلت في نفسي إن الله لا يرضى بهذه الحالة أن تكون عبادة له لبشاعتها ثم ندمت على ذلك ندامة الكسعي أو الفرزدق حين طلق نوار فقال‏:‏

ندمت ندامة الكسعي لمــا ** غــدت مني مطلقة نوار

وكانت جنتي فخرجت منها ** كآدم حين أخرجه الضرار

وقلت في نفسي كيف يسوغ لي أن أنكر شيئًا حضر مثله خاتم الأولياء القطب سيدي أحمد التجاني فتبت من ذلك الخاطر ولكن جاءني امتحان آخر وذلك أن الشيخ عبد الحي الكتاني قال لي منتقدًا‏:‏ إن الطريقة التجانية مبنية على شفا جرف، وأنه لا ينبغي لعاقل أن يتمسك بها فقلت له‏:‏ ‏(‏والطريقة الكتانية التي أنت شيخها‏)‏‏؟‏ فقال لي كل الطرائق باطلة، وإنما هي صناعة للاحتيال على أكل أموال الناس بالباطل وتسخيرهم واستعبادهم، فقلت إذن أنت تستحل أموال الناس بالباطل وتسخرهم وتستعبدهم، قال‏:‏ أنا لم أؤسس الطريقة وإنما أسسها غيري، وهذه الأموال التي آخذها منهم أنفقتها في مصالح لا ينفقونها هم فيها‏.‏ ثم قلت له‏:‏ ومن الذي حملك على الطعن في الطرائق وما دليلك على بطلانها‏؟‏ قال لي‏:‏ ادعاء كل من الشيخين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحضر بذاته وظيفة أصحابه حين يذكرونها وهذه قلة حياء منهما، وعدم تعظيم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كيف تكلفونه أن يخرج من قبره ويقطع هذه المسافات من البر والبحر ليجلس أمامكم فأنتم تبسطون له ثوبًا أبيض ليجلس عليه وأصحابنا يقومون ويذهبون إلى الباب ليتلقوه، فقلت‏:‏ إذًا أنت لا تعتقد صحة طريقك‏؟‏ فقال‏:‏ لا أعتقدها أبدًا وقد أخبرتك أنها صناعة لأكل أموال الناس بالباطل‏.‏ وأزيدك على ذلك اعتماد طريقتكم على كتاب ‏(‏جواهر المعاني‏)‏ الذي تزعمون أن شيخكم أحمد التجاني أملاه على علي حرازم نصفه مسروق، فأحد المجلدين وهو الأول مسروق بالحرف وهو تأليف لمحمد عبدالله المدفون بكذا وكذا بفاس، وسمى ناحية نسيتها الآن، قال وأنا قابلت الكتابين من أولهما إلى آخرهما فوجدت المجلد الأول من ‏(‏جواهر المعاني‏)‏ مسروقًا كله من كلام الشيخ المذكور ففارقته‏.‏ وبعد أيام كنت جالسًا عند الشيخ عمر بن الخياط بائع الكتب بقرب القرويين فقال لي‏:‏ هل اجتمعت بالأستاذ الشيخ محمد بن العربي العلوي، فقلت ‏:‏لا، فقال لي‏:‏ هذا الرجل من أفضل علماء فاس وعنده خزانة كتب لا يوجد مثلها في فاس وأثنى عليه بالعلم والأدب فقلت له أنا لا أجالس هذا الرجل ولا أجتمع به لأنه يبغض الشيخ أحمد التجاني ويطعن في طريقته فقال لي‏:‏ إن طالب العلم يجب أن يتسع فكره وخلقه لمجالسة جميع الناس وبذلك يتسع علمه وأدبه ولا يجب عليه أن يقلدهم في كل ما يدعون، يأخذ ما صفا ويدع ما كدر، وإن لم تجتمع بهذا الرجل يفوتك علم وأدب كثير فذهبت إليه لأجتمع به، وكان قاضيًا في محكمة فاس الجديدة فنظمت أربعة أبيات لا أحفظ منها إلا شطر البيت الرابع وهو ‏(‏وهذا مدى قصدي وما أنا مستجد‏)‏‏.‏‏.‏ أعني أن غرضي بالاجتماع بك المذاكرة العلمية فهي غاية قصدي وإن اعتبرنا ما موصولة يكون المعنى والذي أستجديه أي أطلبه وإن اعتبرناها نافية تميمية يكون المعنى ولست مستجديًا أي طالبًا مالًا، فلما خرج من المحكمة وأراد أن يركب بغلته التي كانت على باب المحكمة ولجامها بيد خادمه تقدمت إليه وأعطيته الصحيفة التي فيها الأبيات فلما قرأها رحب بي، وقال لطالب كان يرافقني وهو الحاج محمد بن الشيخ الأراري‏:‏ أنت تعرف بيتنا، فقال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فأتى به على الساعة التاسعة صباحًا، فخرجت مع الرفيق المذكور من مدرسة الشراطين، وكان يسكن فيها على الساعة الثامنة والنصف، لنصل إلى الشيخ على الساعة التاسعة، وكان ذلك اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، وهو عيد عند المغاربة وكثير من البلدان الإسلامية وفي المغرب طائفة يسمون ‏(‏العيساويين‏)‏ أتباع الشيخ بن عيسى المكناسي، وهؤلاء لهم موسم في كل سنة يجتمعون فيه في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ويأتون من جميع أنحاء المغرب، فيضربون طبولهم ومزاميرهم، ويترنمون بأناشيدهم إلى أن يظهر للناس أنهم أصيبوا بالجنون وحينئذ يفترسون الغنم والدجاج بدون زكاة بل يقطعونه بأظافرهم ويأكلون لحمه نيئًا والدم يسيل منه وقد ملأوا أزقة فاس وهي ضيقة في ذلك الزمن، وحتى في هذا الزمن، فلم نستطع أن نصل إلى بيت الشيخ إلا بعد مضي ساعتين ونصف من شدة الزحام فلما وصلنا وأخبرنا بوابه ذهب ثم رجع إلينا وقال‏:‏ إنكما لم تجيئا في الموعد المضروب والشيخ مشغول عنده حكام فرنسيون فارجعا إليه بعد صلاة العصر فرجعنا وقلت لصاحبي‏:‏ لا نرجع إليه فقد كفانا الله شر لقائه لأنه مبغض لشيخنا وطريقته فالخير في ما اختاره الله تعالى‏.‏ فقال لي ليس الشيخ بملوم وقد اعتذر بعذر قائم والصواب أن نرجع إليه، فرجعنا إليه بعد العصر، ووجدت عنده من الترحيب والبشاشة والإكرام والتواضع ما لم أجده عند الشيخ الكتاني ولا عند أحد من علماء فاس‏.‏

وأخذنا في أحاديث أدبية وكان يقوم ويأتي بالكتب ويضعها أمامي‏.‏ ووجدته كما قال السيد عمر بن الخياط‏.‏ ولما كادت الشمس تغرب استأذنته في الانصراف فقال لي‏:‏ أين تذهب، أنت غريب في هذا البلد وهذا المكان معد للضيوف لا نحتاج إليه فامكث، وبت هنا؛ وقبلت دعوته، وبعد أن صلينا المغرب جاء أصحابه، أذكر منهم الشيخ عبدالسلام الصرغيني، والشيخ المهدي العلوي، وهو لا يزال في قيد الحياة؛ أما الأول فقد مات فأخذ بعضهم يلعب الشطرنج وهو يراهم ولا ينكر عليهم فقلت في نفسي هذا دليل على أنه من العلماء الذين لا يعملون بعلمهم فهو جدير أن ينكر على أولياء الله ما خصهم الله به من كرامة‏.‏ ثم تركوا الشطرنج وأخذوا ينتقدون الطريق الكتانية ويستهزئون بها ويسخرون من أهلها وكل منهم يحكي حكاية‏.‏ فقال الشيخ عندي حكاية هي أعجب وأغرب مما عندكم؛ جاءني شاب كان متمسكًا بالطريقة الكتانية تمسكًا عظيمًا فقال لي‏:‏ أريد أن أتوب على يدك من الطرائق كلها وتعلمني التمسك بالكتاب والسنة، فقلت له‏:‏ وما الذي دعاك إلى الخروج من طريقتك التي كنت مغتبطًا بها‏.‏ فقال لي‏:‏ إنه أمس شرب الخمر وزنا وترك صلاة العصر والمغرب والعشاء فمر بالزاوية الكتانية وسمع المريدين يرقصون ويصيحون بأصوات عالية والمنشد ينشدهم، وكانت بقية سكر لا تزال مسيطرة عليه، فهم أن يدخل الزاوية، ويرقص معهم، ولكنه أحجم عن ذلك لأنه جنب ولم يصل شيئًا من الصلوات في ذلك النهار، إلا أن سكره غلب على عقله فدخل الزاوية ووجد الشيخ محمد بن عبدالكبير في صدر الحلقة، والمريدون يرقصون فاشتغل معهم في الرقص، وكان أنشطهم فلما فرغوا من رقصهم دعاه الشيخ وقبله في فمه وقال ‏(‏رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبلك فاقتديت به‏)‏‏!‏ قال ولما دعاني خفت خوفًا شديدًا وظننت أنه انكشف له حالي وهو يريد أن يوبخني على ذنوبي فلما قال لي أيقنت أنه كاذب في كل ما يدعيه ويدعو إليه وإلا كيف يرضى عني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويقبلني في فمي مع تلك الكبائر التي ارتكبتها في ذلك اليوم‏.‏ قال‏:‏ فهذا سبب مجيئي إليك لأتوب إلى الله من الطرائق كلها وأتبع طريقة الكتاب والسنة‏.‏

ولما رأيتهم أنا يعيبون الطريقة الكتانية ويستهزئون بها أصابني خوف شديد وندمت على زيارتي للشيخ فقلت لنفسي هذا الذي كنت أخافه وقد وقعت فيه فكيف الخلاص‏؟‏

وذكرت قول التجاني ابن بابا في منيته‏:‏

ومن يجالس مبغض الشيخ هلك ** وضل في مهامة وفي حلك

وشدد النهى لنا الــــرسول ** في ذاك فلتـعمل بما أقول

والشيخ قال هو ســـم يسري ** يحل من فــعله في خسر

ومعنى ذلك أن الشيخ أحمد التجاني قال قال لي سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقظة لا منامًا قل لأصحابك لا يجالسوا المبغضين لك فإن ذلك يؤذيني فصممت على أن أخرج من ذلك المجلس‏.‏ فقمت فقال لي الشيخ إلى أين‏؟‏ فقلت‏:‏ إلى بيت الخلاء، كذبت عليه، فلما وصلت إلى الباب منعني البواب من الخروج، وقال لي‏:‏ وهل أذن لك الشيخ في الخروج، فقلت‏:‏ نعم، فقال لي‏:‏ هذا محال لأنك غريب والقانون الفرنسي يقضي بأن التجول بعد الساعة العاشرة ليلًا فيه خطر، فإنك لا تمشي خطوات حتى يقبضوا عليك وتؤخذ إلى السجن، وتبقى فيه إلى ضحى الغد وحينئذ ينظر في إطلاق سراحك‏.‏ وقال لي‏:‏ أنا لا أفتح لك الباب إلا إذا سمعت الإذن من الشيخ، فقلت له‏:‏ إذا أرجع‏.‏ ورجعت وجلست في مكاني، ولم تخفى حالي عن الشيخ فقال لي أراك منقبضًا؛ فما سبب انقباضك‏؟‏ فقلت سببه أنكم انتقلت من الطعن في الطريقة الكتانية إلى الطريقة التجانية، وأنا تجاني لا يجوز لي أن أجلس في مجلس أسمع فيه طعن في شيخي وطريقته‏.‏ فقال لي‏:‏ لا بأس عليك، أنا أيضًا كنت تجانيًا وخرجت من الطريقة التجانية لما ظهر لي بطلانها، فإن كنت تريد أن تتمسك بهذه الطريقة على جهل وتقليد فلك علي ألا تسمع بعد الآن في مجلس انتقادًا لها أو طعنًا فيها‏.‏ وإن كنت تريد أن تسلك مسلك أهل العلم فهلم إلى المناظرة، فإن ظهرت علي رجعت إلى الطريقة، وإن ظهرت عليك خرجت منها كما فعلت أنا‏.‏ فأخذتني النخوة ولم أرض أن أعترف أني أتمسك بها على جهل فقلت قبلت المناظرة‏.‏

مناظرة حول ادعاء الشيخ التجاني في أنه رأى النبي في اليقظة‏:‏

قال الشيخ أريد أن أناظرك في مسألة واحدة إن ثبتت ثبتت الطريقة كلها، وإن بطلت بطلت الطريقة كلها، قلت ما هي‏؟‏ قال‏:‏ ادعاء التجاني أنه رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقظة لا منامًا، وأعطاه هذه الطريقة بما فيها من الفضائل فإن ثبتت رؤيته للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقظة وأخذه منه الطريقة فأنت على حق وأنا على باطل والرجوع إلى الحق، وإن بطل ادعاؤه فأنا على حق وأنت على باطل فيجب عليك أن تترك وتتمسك بالحق‏.‏ ثم قال‏:‏ تبدأ أنت أو أبدأ أنا‏؟‏ فقلت‏:‏ ابدأ أنت، فقال‏:‏ عندي أدلة كل واحد منها كاف في إبطال دعوى التجاني‏.‏ قلت‏:‏ هات ما عندك وعلي الجواب، فقال‏:‏

الأول‏:‏ إن أول خلاف وقع بين الصحابة بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان بسبب الخلافة؛ قالت الأنصار للمهاجرين منا أمير ومنكم أمير، وقال المهاجرون‏:‏ إن العرب لا تذعن إلا لهذا الحي من قريش‏.‏ ووقع نزاع شديد بين الفريقين حتى شغلهم عن دفن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبقي ثلاثة أيام بلا دفن صلاة الله وسلامه عليه فكيف لم يظهر لأصحابه ويفصل النزاع بينهم ويقول الخليفة فلان فينهي النزاع‏؟‏ كيف يترك هذا الأمر العظيم لو كان يكلم أحدًا يقظة بعد موته لكلم أصحابه وأصبح بينهم، وذلك أهم من ظهوره للشيخ التجاني ألف ومائتي سنة، ولماذا ظهر‏؟‏ ليقول له أنت من الآمنين، ومن أحبك من الآمنين، ومن أخذ وردك يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب هو ووالده وأزواجه لا الحفدة، فكيف يترك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الظهور يقظة والكلام لأفضل الناس بعده في أهم الأمور ويظهر لرجل لا يساويهم في الفضل ولا يقاربهم لأمر غير مهم فقلت له‏:‏

إن الشيخ ـ رضي الله عنه ـ قد أجاب عن هذا الاعتراض في حياته فقال‏:‏ إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يلقى الخاص للخاص والعام للعام في حياته، أما بعد وفاته فقد انقطع إلقاء العام للعام وبقي إلقاء الخاص للخاص لم ينقطع بوفاته وهذا الذي ألقاه إلى شيخنا من إعطاء الورد والفضائل هو من الخاص للخاص‏.‏ فقال أنا لا أسلم في أن الشريعة خاصًا وعامًا لأن أحكام الشرع خمسة وهذا الورد وفضائله إن كان من الدين فلا بد أن يدخل في الأحكام الخمسة لأنه عمل أعد الله لعامله ثوابًا؛ فهو إما واجب أو مستحب ولم ينتقل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الرفيق الأعلى حتى بين لأمته جميع الواجبات والمستحبات‏.‏ وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قيل له هل خصكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معشر أهل البيت بشيء فقال‏:‏ والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما خصنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشيء إلا فهمًا يعطاه الرجل في كتاب الله، وإلا ما في هذه الصحيفة ففتحوها فإذا فيها العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر فكيف لا يخص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل بيته وخلفاءه بشيء ثم يخص رجلًا في آخر الزمان بما يتنافى مع أحكام الكتاب والسنة‏.‏ فقلت‏:‏ إن الشيخ عالم بالكتاب والسنة وفي جوابه مقنع لمن أراد أن يقنع‏.‏ قال احفظ هذا‏.‏

الثاني‏:‏ اختلاف أبي بكر مع فاطمة الزهراء ـ رضي الله عنه ـ ما على الميراث فلا يخفى أن فاطمة طلبت من أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ حقها من ميراث أبيها واحتجت عليه بأن إذا مات هو يرثه أبناؤه، فلماذا يمنعها من ميراث أبيها، فأجابها أبو بكر الصديق بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة‏.‏ وقد حضر ذلك جماعة من الصحابة فبقيت فاطمة الزهراء مغاضبة لأبي بكر حتى ماتت بعد ستة أشهر بعد وفاة أبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏ فهذا حبيبان لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه قال‏:‏ فاطمة بضعة مني يسؤني ما ساءها، أو كما قال عليه الصلاة والسلام وصرح بأن أبا بكر الصديق أحب الناس إليه، وقال ما أحد أمنّ علي في نفس ولا مال من أبي بكر الصديق رواه البخاري‏.‏ وهذه المغاضبة التي وقعت بين أبي بكر وفاطمة، تسوء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلو كان يظهر لأحد بعد وفاته لغرض من الأغراض لظهر لأبي بكر الصديق وقال له‏:‏ إني رجعت عما قلته في حياتي فأعطها حقها من الميراث، أو لظهر لفاطمة وقال لها يا ابنتي لا تغضبي على أبي بكر فإنه لم يفعل إلا ما أمرته به فقلت له ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت قال احفظ هذا‏.‏

الثالث‏:‏ الذي وقع بين طلحة والزبير وعائشة من جهة، وعلي بين أبي طالب من جهة أخرى واشتد النزاع بينهما حتى وقعت حرب الجمل، في البصرة فقتل فيها خلق كثير من الصحابة والتابعين وعقر جمل عائشة فكيف يهون على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سفك هذه الدماء ووقوع هذا الشر بين المسلمين بل بين أخص الناس به، وهو يستطيع أن يحقن هذه الدماء بكلمة واحدة، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى في آخر سورة التوبة برأفته ورحمته بالمؤمنين وأنه يشق عليه كل ما يصيبهم من العنت، وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏‏.‏ فقلت له ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت وظهوره وكلامه للشيخ التجاني فضل من الله، والله يؤتي فضله من يشاء‏.‏ قال احفظ هذا وفكر فيه‏.‏

الرابع‏:‏ خلاف علي مع الخوارج وقد سفكت فيه دماء كثيرة، ولو ظهر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرئيس الخوارج وأمره بطاعة إمامه لحقنت تلك الدماء، فقلت الجواب هو ما سمعت، فقال لي‏:‏ احفظ هذا وفكر فيه، فإني أرجو أنك بعد التفكير ترجع إلى الحق‏.‏

الخامس‏:‏ النزاع الذي وقع بين معاوية وعلي، وقد قتل في الحرب التي وقعت بينهما خلق كثير، منهم عمار بن ياسر، فكيف يترك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الظهور لأفضل الناس بعده وفي ظهوره هذه المصالح المهمة من جمع كلمة المسلمين وإصلاح ذات بينهم وحقن دمائهم، وهو خير المصلحين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأصلحوا ذات بينكم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏1‏]‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ثم يظهر للشيخ التجاني في آخر الزمان لغرض غير مهم وهو في نفسه غير معقول لأنه مضاد لنصوص الكتاب والسنة‏.‏

فلم يجد عندي جوابًا غير ما تقدم ولكني لم أسلم له فقال فكر في هذه الأدلة وسنتباحث في المجلس الآخر، فعقدنا بعد هذا المجلس سبعة مجالس كل منها كان يستمر من بعد صلاة المغرب إلى ما بعد العشاء بكثير‏.‏ وحينئذ أيقنت أنني كنت ضلال، ولكن أردت أن أزداد يقينًا فقلت له ‏(‏من معك من العلماء هنا في المغرب على هذه العقيدة وهي أن مسألة في العقائد أو في الفروع يجب أن نعرضها مع قصر باعنا وقلة اطلاعنا على كتاب الله وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما ظهر لنا أنه موافق لهما قبلناه وما ظهر لنا أنه مخالف رددناه‏)‏ فقال لي يوافقني على هذا أكبر مقدم للطريقة التجانية في المغرب كله وهو الشيخ الفاطمي الشرادي، فكدت أكذبه لأن المشهور في جميع أنحاء المغرب أن هذا الرجل من كبار العلماء، وهو أكبر مقدم للطريقة التجانية، ولم أقل أكبر شيخ لأن الشيخ التجاني لا يبيح أن يكون شيخًا للطريقة سواه، لأن تلقيبه بالشيخ قد يفهم منه أنه يجوز لغيره أن يتصرف في أوراد الطريقة وفضائلها وعقائدها وذلك ممنوع لأن الذي أعطى هذه الطريقة هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقظة لا منامًا كما تقدم والمتلقي الأول لها هو الشيخ أحمد التجاني والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سماه شيخًا لهذه الطريقة، وكل ناشر للطريقة وملقن لأورادها يسمى مقدمًا فقط فالطريقة لها مصدر واحد وشيخ واحد ولا يجوز تعدد المصدر ولا تعدد الشيخ حسبما في كتب الطريقة‏.‏

 مع الشيخ الفاطمي الشرادي

فتوجهت إلى الشيخ الفاطمي رحمه الله وكان الوقت ضحى وقد أوصاني شيخنا محمد بن العربي ألا أسأله إلا في خلوة فوجدت عنده جماعة فانصرف بعضهم وجاء آخرون وبقيت عنده أنتظر أن أخلو به حتى صلينا الظهر وجاء الغداء فلم أستطع أن أخلو به وكان ثلاثة ممن كانوا في مجلسه حاضرين فقلت له إن الشيخ محمد بن العربي العلوي يقول يجب علينا أن نعرض جميع المسائل أصولًا وفروعًا على كتاب الله وسنة رسوله فما وافق في نظرنا القاصر قبلناه وما خالف رددنا ولو قال به الإمام مالك أو الشيخ أحمد التجاني، فأشار إلي بيده يستمهلني، وكان جلوسي عنده قد طال فانصرفت إلى مدرسة الشراطين حيث كنت نازلًا قبل لقائي بالشيخ العلوي، وفي ذلك اليوم بعد صلاة العشاء جاءني بواب المدرسة وقال لي إن الشيخ الفاطمي الشرادي أرسل إليك عبده وبغلته يطلب أن تزوره فتعجبت كثيرًا لأمرين، أحدهما أن الوقت ليس وقت زيارة، وثانيهما أنه لم تجر العادة أن كبار العلماء الطاعنين في السن، يبعثون الدابة للركوب إلا لمن هو مثلهم في السن والعلم وأنا شاب فركبت البغلة وسار العبد أمامي حتى وصلت إليه وسلمت عليه فرد أحسن رد ورحب بي وقال لي يا ولدي أنا رجل كبير طاعن في السن ليس لي قدرة على القتال، أما سيدي محمد بن العربي العلوي فهو شاب مستعد للقتال وأنت سألتني أمام الناس عن مسألة مهمة لا يسعني أن أكتم جوابها، ولا أستطيع أن أصرح به أمام الناس، فأعلم أن ما قال لك سيدي محمد بن العربي العلوي هو الحق الذي لا شك فيه، وقد أخذت الطريقة القادرية وبقيت فيها زمانًا، ثم أخذت الطريقة الوزانية وبقيت فيها زمانًا، ثم أخذت الطريقة التجانية والتزمتها حتى صرت مقدمًا فيها فلم أجد في هذه الطرائق فائدة، وتركتها كلها ولم يبق عندي من التصوف إلا طلب الشيخ المربي على الكتاب والسنة علمًا وعملًا، ولو وجدته لصاحبته وصرت تلميذًا له، وأنت تريد أن تسافر إلى الشرق فإن ظفرت بشيخ مرب متخلق بأخلاق الكتاب والسنة علمًا وعملًا فاكتب إلي وأخبرني به حتى أشد الرحال إليه فازددت يقينًا بالنتيجة التي وصلت إليها في مناظرتي مع الشيخ العلوي‏.‏ ولو كان عندي من العلم مثل ما عندي الآن لقلت له إن ضالتك المنشودة هي أقرب إليك من كل قريب فإن هذا الشيخ الذي تطلبه وتريد أن تشد الرحال إليه ولو بعدت الدار وشط المزار هو أنت نفسك‏.‏ بشرط أن يكون عندك العزم التام على العمل بالكتاب والسنة وطرح التقليد جانبًا كيفما كان الأمر فجزاهم الله خيرًا وتغمدهما برحمته‏.‏

 مع الشيخ عبدالعزيز بن إدريس

وبعد ذلك بعشرين سنة اجتمعت مع الشيخ عبدالعزيز بن إدريس من علماء تطوان وهو أحد تلامذة الشيخ الفاطمي فذكرت له الحكاية السالفة فقال لي وأنا أيضًا وقع لي ما يشبه هذا فإني بعد إتمام دراستي في جامع القرويين ذهبت إليه وهو أفضل شيوخي فقلت له أيها الشيخ أريد أن أرجع إلى وطني تطوان فأريد أن تزودني بدعائك الصالح وأن تلقنني ورد الطريقة التجانية، فقال لي يا أسفي عليك، أنت تحفظ كتاب الله وقد درست العلوم الإلهية التي تمكنك من فهم كتابه وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يكفك ذلك كله حتى تطلب الهدى في غيره، والطريقة لا شيء فعليك بكتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكشف الله عني بفضله ظلام الشرك والبدعة، وفتح لي باب التوحيد والاتباع فله الحمد والمنة نسأله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه الهادي إلى الصراط المستقيم ‏(‏الهدية الهادية من ص7ـ21‏)‏ انتهى منه بلفظه‏.‏