فصل: (بَابُ السَّلَمِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(بَابُ السَّلَمِ):

السَّلَمُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ آيَةُ الْمُدَايَنَةِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ وَأَنْزَلَ فِيهَا أَطْوَلَ آيَةٍ فِي كِتَابِهِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدِينٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الْآيَةُ.
وَبِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» وَالْقِيَاسُ وَإِنْ كَانَ يَأْبَاهُ وَلَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِمَا رَوَيْنَاهُ.
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ إذْ الْمَبِيعُ هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ السَّلَمِ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا قَبْضُ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ، وَقَدَّمَ السَّلَمَ عَلَى الصَّرْفِ لِكَوْنِ الشَّرْطِ فِيهِ قَبْضَ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُفْرَدِ مِنْ الْمُرَكَّبِ.
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ نَوْعِ بَيْعٍ مُعَجَّلٍ فِيهِ الثَّمَنُ.
وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ.
قِيلَ فَهُوَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ إلَّا أَنَّ فِي الشَّرْعِ اقْتَرَنَتْ بِهِ زِيَادَةُ شَرَائِطَ.
وَرُدَّ بِأَنَّ السِّلْعَةَ إذَا بِيعَتْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وُجِدَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى وَلَيْسَ بِسَلَمٍ، وَلَوْ قِيلَ بَيْعُ آجِلٍ بِعَاجِلٍ لَا نَدْفَعُ ذَلِكَ.
وَرُكْنُهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، بِأَنْ يَقُولَ رَبُّ السَّلَمِ لِآخَرَ أَسْلَمْت إلَيْك عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ أَسْلَفْت فَيَقُولُ الْآخَرُ قَبِلْت، وَيُسَمَّى هَذَا رَبَّ السَّلَمِ وَالْآخَرُ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ وَالْحِنْطَةُ الْمُسْلَمُ فِيهِ.
وَلَوْ صَدَرَ الْإِيجَابُ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَالْقَبُولُ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ صَحَّ.
وَشَرْطُ جَوَازِهِ سَيُذْكَرُ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ (السَّلَمُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ إلَخْ) السَّلَمُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ: تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} مَعْنَاهُ إذَا تَعَامَلْتُمْ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَاكْتُبُوهُ، وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ مُسَمًّى الْإِعْلَامُ بِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْأَجَلِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ (مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ وَأَنْزَلَ فِيهَا) أَيْ فِي السَّلَفِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمُدَايَنَةِ, أَطْوَلَ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ} فَإِنْ قِيلَ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ, قُلْنَا: عُمُومُ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُهُ فَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِهِ (قَوْلُهُ: الْمَضْمُونُ) صِفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِلسَّلَفِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} وَمَعْنَاهُ الْوَاجِبُ فِي الذِّمَّةِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ (فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهُ)؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، إذْ الْمَبِيعُ هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ لَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ. قَالَ (وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَالْمُرَادُ بِالْمَوْزُونَاتِ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهُمَا أَثْمَانٌ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لابد أَنْ يَكُونَ مُثَمَّنًا فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِمَا ثُمَّ قِيلَ يَكُونُ بَاطِلًا، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدِينَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ التَّصْحِيحَ إنَّمَا يَجِبُ فِي مَحِلٍّ أَوْجَبَا الْعَقْدَ فِيهِ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ.
قَالَ (وَكَذَا فِي الْمَذْرُوعَاتِ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِذِكْرِ الذَّرْعِ وَالصِّفَةِ وَالصَّنْعَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا لِتَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ صِحَّةِ السَّلَمِ، وَكَذَا فِي الْمَعْدُودَاتِ الَّتِي لَا تَتَفَاوَتُ كَالْجَوْزِ وَالْبِيضِ، لِأَنَّ الْعَدَدِيَّ الْمُتَقَارِبِ مَعْلُومُ الْقَدْرِ مَضْبُوطُ الْوَصْفِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِيهِ سَوَاءٌ لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى إهْدَارِ التَّفَاوُتِ، بِخِلَافِ الْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانُ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا، وَبِتَفَاوُتِ الْآحَادِ فِي الْمَالِيَّةِ يُعْرَفُ الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي بِيضِ النَّعَامَةِ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ كَمَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا عَدَدًا يَجُوزُ كَيْلًا.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ كَيْلًا لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ وَلَيْسَ بِمَكِيلٍ.
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَدَدًا أَيْضًا لِلتَّفَاوُتِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمِقْدَارَ مَرَّةُ يُعْرَفُ بِالْعَدَدِ وَتَارَةٌ بِالْكَيْلِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَعْدُودًا بِالِاصْطِلَاحِ فَيَصِيرُ مَكِيلًا بِاصْطِلَاحِهِمَا وَكَذَا فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا.
وَقِيلَ هَذَا عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ.
وَلَهُمَا أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا بِاصْطِلَاحِهِمَا فَتَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا وَلَا تَعُودُ وَزْنِيًّا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ) السَّلَمُ جَائِزٌ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ, لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلَمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَالْوُجُوبُ يَنْصَرِفُ إلَى كَوْنِهِ مَعْلُومًا وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْجَوَازَ لَا مَحَالَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَنْ أَسْلَمَ شَرْطِيَّةٌ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي الْجَوَازَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ إنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} فَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ عَلَى وُجُودِ السَّلَمِ فِي الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ (وَالْمُرَادُ بِالْمَوْزُونَاتِ غَيْرُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّهُمَا أَثْمَانٌ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا يَكُونُ ثَمَنًا بَلْ يَكُونُ مُثَمَّنًا فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِمَا.
ثُمَّ قِيلَ: يَكُونُ بَاطِلًا، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَالِاعْتِبَارُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي) وَالْأَوَّلُ قَوْلُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ حِنْطَةً أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْعُرُوضِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِيُمْكِنَ أَنْ يَجْعَلَ بَيْعَ حِنْطَةٍ بِدَرَاهِمَ مُؤَجَّلَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا قَصَدَا مُبَادَلَةَ الْحِنْطَةِ بِالدَّرَاهِمِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مِنْ الْأَثْمَانِ بِأَنْ أَسْلَمَ عَشَرَةٌ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ فِي دَنَانِيرَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا ذَكَرَهُ عِيسَى أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التَّصْحِيحَ إنَّمَا يَجِبُ فِي مَحَلٍّ أَوْجَبَا الْعَقْدَ فِيهِ وَهُمَا أَوْجَبَاهُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَهُوَ إذَا كَانَ مِنْ الْأَثْمَانِ لَا يَصِحُّ تَصْحِيحُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ مُثَمَّنًا، وَتَصْحِيحُهُ فِي الْحِنْطَةِ تَصْحِيحٌ فِي غَيْرِ مَا أَوْجَبَاهُ فِيهِ فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا.
قَالَ (وَكَذَا فِي الْمَذْرُوعَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا) أَيْ وَكَجِوَازِ السَّلَمِ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ جَوَازُهُ فِي الْمَذْرُوعَاتِ لِكَوْنِهَا كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ وَهُوَ إمْكَانُ ضَبْطِ الصِّفَةِ وَمَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ لِارْتِفَاعِ الْجَهَالَةِ فَجَازَ إلْحَاقُهَا بِهِمَا.
وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ سَقَطَ مَا قِيلَ الشَّيْءُ إنَّمَا يُلْحَقُ بِغَيْرِهِ دَلَالَةً إذَا تَسَاوَيَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَلَيْسَ الْمَذْرُوعُ مَعَ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ كَذَلِكَ لِتَفَاوُتِهِمَا فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ وُجُوهِ التَّفَاوُتِ وَهُوَ كَوْنُ الْمَذْرُوعِ قِيَمِيًّا، وَهُمَا مِثْلِيَّانِ؛ لِأَنَّ الْمَنَاطَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، إذْ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى النِّزَاعِ تَرْتَفِعُ بِذَلِكَ دُونَ كَوْنِهِ قِيَمِيًّا أَوْ مِثْلِيًّا.
فَإِنْ قِيلَ: الدَّلَالَةُ لَا تَعْمَلُ إذَا عَارَضَهَا عِبَارَةٌ وَقَدْ عَارَضَهَا قَوْلُهُ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ اُخْتُصَّتْ مِنْهُ الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ بِقَوْلِهِ «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ» الْحَدِيثَ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُمَا تَحْتَ قَوْلِهِ لَا تَبِعْ.
فَالْجَوَابُ إنَّا لَا نُسَلِّمُ صَلَاحِيَّةَ مَا ذَكَرْت لِلتَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ شَرْطٌ لَهُ وَهُوَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَهُوَ دُونَ الْقِيَاسِ فَلَا يَكُونُ مُعَارِضًا لِلدَّلَالَةِ (وَكَذَا فِي الْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَهِيَ الَّتِي لَا تَتَفَاوَتُ) آحَادُهَا (كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ؛ لِأَنَّ الْعَدَدِيَّ الْمُتَقَارِبَ مَعْلُومٌ مَضْبُوطُ الْوَصْفِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ) فَكَانَ مَنَاطُ الْحُكْمِ مَوْجُودًا كَمَا فِي الْمَذْرُوعَاتِ (فَجَازَ السَّلَمُ فِيهِ إلْحَاقًا بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَالْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ سَوَاءٌ لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى إهْدَارِ التَّفَاوُتِ) فَإِنَّهُ قَلَّمَا يُبَاعُ جَوْزٌ بِفَلْسٍ وَآخَرُ بِفَلْسَيْنِ، وَكَذَا الْبَيْضُ (بِخِلَافِ الْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ؛ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا) فَصَارَ الضَّابِطُ فِي مَعْرِفَةِ الْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ عَنْ الْمُتَفَاوِتِ تَفَاوُتَ الْآحَادِ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْأَنْوَاعِ، وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ السَّلَمَ لَا يَجُوزُ فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ.
ثُمَّ كَمَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا: أَيْ فِي الْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ عَدَدًا يَجُوزُ كَيْلًا.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ لَا كَيْلِيٌّ.
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَدَدٌ أَيْضًا لِوُجُودِ التَّفَاوُتِ فِي الْآحَادِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمِقْدَارَ مَرَّةً يُعْرَفُ بِالْعَدَدِ وَأُخْرَى بِالْكَيْلِ فَأَمْكَنَ الضَّبْطُ بِهِمَا فَيَكُونُ جَائِزًا وَكَوْنُهُ مَعْدُودًا بِاصْطِلَاحِهِمَا فَجَازَ إهْدَارُهُ، وَالِاصْطِلَاحُ عَلَى كَوْنِهِ كَيْلِيًّا (قَوْلُهُ: وَكَذَا فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا) ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ لِأَحَدٍ.
وَقِيلَ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلَا يَجُوزُ: أَيْ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْفُلُوسِ؛ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ، وَالسَّلَمُ فِي الْأَثْمَانِ لَا يَجُوزُ.
وَلَهُمَا أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ثَابِتَةٌ بِاصْطِلَاحِهِمَا لِعَدَمِ وِلَايَةِ الْغَيْرِ عَلَيْهِمَا فَلَهُمَا إبْطَالُهُمَا بِاصْطِلَاحِهِمَا، فَإِذَا بَطَلَتْ الثَّمَنِيَّةُ صَارَتْ مُثَمَّنًا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَجَازَ السَّلَمُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الرِّبَا فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ.
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْفُلُوسِ قَوْلُ الْكُلِّ، وَهَذَا الْقَائِلُ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالسَّلَمِ، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ الْمُسْلَمِ فِيهِ مُثَمَّنًا مِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ السَّلَمِ، فَإِقْدَامُهُمَا عَلَى السَّلَمِ تَضَمَّنَ إبْطَالَ الِاصْطِلَاحِ فِي حَقِّهِمَا فَعَادَ مُثَمَّنًا، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ الْبَيْعِ كَوْنُ الْمَبِيعِ مُثَمَّنًا فَإِنَّ بَيْعَ الْأَثْمَانِ بَعْضِهِمَا بِبَعْضٍ جَائِزٌ، فَالْإِقْدَامُ عَلَى الْبَيْعِ لَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ الِاصْطِلَاحِ فِي حَقِّهِمَا فَبَقِيَ ثَمَنًا كَمَا كَانَ، وَفَسَدَ بَيْعُ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ. (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوز لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالسِّنِّ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ، وَالتَّفَاوُتُ بَعْدَ ذَلِكَ يَسِيرٌ فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ.
وَلَنَا أَنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ مَا ذَكَرَ يَبْقَى فِيهِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فِي الْمَالِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، بِخِلَافِ الثِّيَابِ لِأَنَّهُ مَصْنُوعُ الْعِبَادِ فَقَلَّمَا يَتَفَاوَتُ الثَّوْبَانِ إذَا نُسِجَا عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ.
وَقَدْ صَحَّ: «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ» وَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَجْنَاسِهِ حَتَّى الْعَصَافِيرُ.
قَالَ (وَلَا فِي أَطْرَافِهِ كَالرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ) لِلتَّفَاوُتِ فِيهَا إذْ هُوَ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ لَا مُقَدَّرٌ لَهَا.
قَالَ (وَلَا فِي الْجُلُودِ عَدَدًا وَلَا فِي الْحَطَبِ حُزَمًا وَلَا فِي الرَّطْبَةِ جُرُزًا) لِلتَّفَاوُتِ فِيهَا، إلَّا إذَا عُرِفَ ذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُ طُولَ مَا يَشُدُّ بِهِ الْحُزْمَةَ أَنَّهُ شِبْرٌ أَوْ ذِرَاعٌ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَفَاوَتُ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ: وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ) وَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مَوْصُوفًا، وَالْأَوَّلُ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
هُوَ يَقُولُ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِبَيَانِ الْجِنْسِ كَالْإِبِلِ، وَالسِّنِّ كَالْجَذَعِ وَالثَّنِيِّ، وَالنَّوْعِ كَالْبُخْتِ وَالْعِرَابِ، وَالصِّفَةِ كَالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ، وَالتَّفَاوُتُ بَعْدَ ذَلِكَ سَاقِطٌ لِقِلَّتِهِ فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ، وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَنْ يَشْتَرِيَ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ فِي تَجْهِيزِ الْجَيْشِ إلَى أَجَلٍ, وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَقْرَضَ بَكْرًا وَقَضَاهُ رُبَاعِيًّا» وَالسَّلَمُ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ مِنْ الِاسْتِقْرَاضِ.
وَلَنَا أَنَّ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي اشْتَرَطَهُ الْخَصْمُ يَبْقَى تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فِي الْمَالِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ، فَقَدْ يَكُونُ فَرَسَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ وَيَزِيدُ ثَمَنُ إحْدَاهُمَا زِيَادَةً فَاحِشَةً لِلْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمُنَافِيَةِ لِوَضْعِ الْأَسْبَابِ، بِخِلَافِ الثِّيَابِ؛ لِأَنَّهُ مَصْنُوعُ الْعِبَادِ، فَقَلَّمَا يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا بَعْدَ ذِكْرِ الْأَوْصَافِ، وَشِرَاءُ الْبَعِيرِ بِبَعِيرَيْنِ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الرِّبَا أَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا رِبَا بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْلِمِ فِيهَا، وَتَجْهِيزُ الْجَيْشِ وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَنَقْلُ الْآلَاتِ كَانَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِعِزَّتِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَوْمَئِذٍ، وَلَمْ يَكُنْ الْقَرْضُ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَضَاهُ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ، وَالصَّدَقَةُ حَرَامٌ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: وَقَدْ صَحَّ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى جَوَابِ مَا يُقَالُ: التَّفَاوُتُ الْفَاحِشُ فِي الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ لَا يُوجَدُ فِي الْعَصَافِيرِ وَالْحَمَامَاتِ الَّتِي تُؤْكَلُ، وَأَنَّ السَّلَمَ فِيهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكُمْ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَضْبُوطٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي الدِّيبَاجِ دُونَ الْعَصَافِيرِ، وَلَعَلَّ ضَبْطَ الْعَصَافِيرِ بِالْوَصْفِ أَهْوَنُ مِنْ ضَبْطِ الدِّيبَاجِ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ.
لَا يُقَالُ: النَّهْيُ عَنْ الْحَيَوَانِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَصْفِ وَالْمُتَنَازَعُ فِيهِ هُوَ الْمَوْصُوفُ مِنْهُ فَلَا يَتَّصِلُ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً إلَى زَيْدِ بْنِ خَلْدَةَ فَأَسْلَمَهَا زَيْدٌ إلَى عِتْرِيسِ بْنِ عُرْقُوبٍ فِي قَلَائِصَ مَعْلُومَةٍ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: اُرْدُدْ مَا لَنَا لَا تُسْلِمُ أَمْوَالَنَا.
وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ لَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْقَلَائِصَ كَانَتْ مَعْلُومَةً فَكَانَ لِكَوْنِهِ حَيَوَانًا.
لَا يُقَالُ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ بِقَوْلِهِ وَلَنَا مَنْقُوضٌ بِالْعَصَافِيرِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْمَطْلُوبِ بَلْ مِنْ حَيْثُ جَوَابُ الْخَصْمِ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ السُّنَّةُ.
قَالَ (وَلَا فِي أَطْرَافِهِ كَالرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ) وَالْكُرَاعُ مَا دُونَ الرُّكْبَةِ مِنْ الدَّوَابِّ، وَالْأَكَارِعُ جَمْعُهُ؛ لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ لَا مُقَدَّرَ لَهُ وَلَا فِي جُلُودِهِ؛ لِأَنَّهَا تُبَاعُ عَدَدًا وَهِيَ عَدَدِيَّةٌ فِيهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فَيُفْضِي السَّلَمُ فِيهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَزْنًا لِقَيْدِهِ عَدَدًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَدَدِيٌّ، فَحَيْثُ لَمْ يَجُزْ عَدَدًا لَمْ يَجُزْ وَزْنًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُوزَنُ عَادَةً.
وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَ لِلْجُلُودِ ضَرْبًا مَعْلُومًا يَجُوزُ وَذَلِكَ لِانْتِفَاءِ الْمُنَازَعَةِ حِينَئِذٍ (وَلَا فِي الْحَطَبِ حُزَمًا) لِكَوْنِهِ مَجْهُولًا مِنْ حَيْثُ طُولُهُ وَعَرْضُهُ وَغِلَظُهُ، فَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ جَازَ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَلَا فِي الرَّطْبَةِ جُرَزًا بِضَمِّ الْجِيمِ بَعْدَهَا رَاءٌ مَفْتُوحَةٌ وَزَايٌ: وَهِيَ الْقَبْضَةُ مِنْ الْقَتِّ وَنَحْوِهِ لِلتَّفَاوُتِ، إلَّا إذَا عُرِفَ ذَلِكَ بِبَيَانِ طُولِ مَا تُشَدُّ بِهِ الْحُزْمَةُ أَنَّهُ شِبْرٌ أَوْ ذِرَاعٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَفَاوَتُ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ إلَى حِينِ الْمَحِلِّ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُنْقَطِعًا عِنْدَ الْعَقْدِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحِلِّ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ أَوْ مُنْقَطِعًا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ إذَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَحِلِّ لِوُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِهِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُسَلِّفُوا فِي الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ بِالتَّحْصِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِمْرَارِ الْوُجُودِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّحْصِيلِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا) وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ إلَى حُلُولِ الْأَجَلِ شَرْطُ جَوَازِ السَّلَمِ عِنْدَنَا، وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ: قِسْمَةٌ عَقْلِيَّةٌ حَاصِرَةٌ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ إلَى الْمَحَلِّ أَوْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ أَصْلًا، أَوْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ دُونَ الْمَحَلِّ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ مَوْجُودًا فِيمَا بَيْنَهُمَا، أَوْ مَعْدُومًا فِيمَا بَيْنَهُمَا.
وَالْأَوَّلُ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَالثَّانِي فَاسِدٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَالثَّالِثُ كَذَلِكَ، وَالرَّابِعُ فَاسِدٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالْخَامِسُ فَاسِدٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَالسَّادِسُ فَاسِدٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
لَهُ عَلَى الرَّابِعِ وَهُوَ دَلِيلُهُمَا عَلَى السَّادِسِ وُجُودُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِهِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تُسْلِفُوا فِي الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَرَطَ لِصِحَّةِ وُجُودِ الْمُسْلَمِ فِيهِ حَالَ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ إنَّمَا تَكُونُ بِالتَّحْصِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِمْرَارِ الْوُجُودِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّحْصِيلِ، وَالْمُنْقَطِعُ وَهُوَ مَا لَا يُوجَدُ فِي سُوقِهِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ وَإِنْ وُجِدَ فِي الْبُيُوتِ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ بِالِاكْتِسَابِ، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ مَوْجُودًا كَفَى مُؤْنَةَ الْحَدِيثِ، وَإِذَا وُجِدَ عِنْدَ الْمَحَلِّ كَانَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ فَلَا مَانِعَ عَنْ الْجَوَازِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ إنَّمَا تَكُونُ مَوْجُودَةً إذَا كَانَ الْعَاقِدُ بَاقِيًا إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ كَانَ وَقْتُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ عَقِيبَهُ، وَفِي ذَلِكَ شَكٌّ.
وَرُدَّ بِأَنَّ الْحَيَاةَ ثَابِتَةٌ فَتَبْقَى.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ ثَابِتٌ فَيَبْقَى.
فَإِنْ قِيلَ: بَقَاءُ الْكَمَالِ فِي النِّصَابِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَلْيَكُنْ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ كَذَلِكَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ وُجُودَهُ كَالنِّصَابِ وُجُودُهُ لَا كَكَمَالِهِ، وَوُجُودُهُ شَرْطٌ فَوُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ كَذَلِكَ. (وَلَوْ انْقَطَعَ بَعْدَ الْمَحِلِّ فَرَبُّ السَّلَمِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ فَسَخَ السَّلَمَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وُجُودَهُ) لِأَنَّ السَّلَمَ قَدْ صَحَّ وَالْعَجْزُ الطَّارِئُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَصَارَ كَإِبَاقِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ: وَلَوْ انْقَطَعَ بَعْدَ الْمَحَلِّ) يَعْنِي أَسْلَمَ فِي مَوْجُودٍ حَالَ الْعَقْدِ وَالْمَحَلِّ ثُمَّ انْقَطَعَ فَالسَّلَمُ صَحِيحٌ عَلَى حَالِهِ، وَرَبُّ السَّلَمِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وُجُودَهُ (لِأَنَّ السَّلَمَ قَدْ صَحَّ وَالْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ طَارِئٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَصَارَ كَإِبَاقِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ) فِي بَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي السَّلَمِ هُوَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ بَاقٍ بِبَقَائِهَا كَالْعَبْدِ الْآبِقِ.
وَفِي قَوْلِهِ وَالْعَجْزُ الطَّارِئُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ إشَارَةٌ إلَى جَوَابِ زُفَرَ عَنْ قِيَاسِهِ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ عَلَى هَلَاكِ الْمَبِيعِ فِي الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَفِي ذَلِكَ يَبْطُلُ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ التَّسْلِيمِ إذَا كَانَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ لَا يَكُونُ كَالْعَجْزِ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنِ الزَّوَالِ عَادَةً فَكَانَ الْقِيَاسُ فَاسِدًا. قَالَ (وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحِ وَزْنًا مَعْلُومًا وَضَرْبًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْقَدْرِ مَضْبُوطُ الْوَصْفِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ إذْ هُوَ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ عَدَدًا) لِلتَّفَاوُتِ.
قَالَ (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي السَّمَكِ الطَّرِيِّ إلَّا فِي حِينِهِ وَزْنًا مَعْلُومًا وَضَرْبًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَنْقَطِعُ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ وَزْنًا لَا عَدَدًا لِمَا ذَكَرْنَا.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي لَحْمِ الْكِبَارِ مِنْهَا وَهِيَ الَّتِي تُقَطَّعُ اعْتِبَارًا بِالسَّلَمِ فِي اللَّحْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحِ إلَخْ) السَّلَمُ فِي السَّمَكِ لَا يَجُوزُ عَدَدًا طَرِيًّا كَانَ أَوْ مَالِحًا لِلتَّفَاوُتِ، وَوَزْنًا إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَالِحِ أَوْ الطَّرِيِّ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِحِ جَازَ فِي ضَرْبٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ لِكَوْنِهِ مَضْبُوطَ الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ لِعَدَمِ انْقِطَاعِهِ.
وَإِنْ كَانَ فِي الطَّرِيِّ إنْ كَانَ فِي حِينِهِ جَازَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ حِينِهِ لَمْ يَجُزْ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَنْقَطِعُ جَازَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي لَحْمِ الْكِبَارِ الَّتِي تُقْطَعُ اعْتِبَارًا بِالسَّلَمِ فِي اللَّحْمِ فِي الِاخْتِلَافِ بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ.
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ السِّمَنَ وَالْهُزَالَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ فِيهِ فَصَارَ كَالصِّغَارِ.
قِيلَ يُقَالُ سَمَكٌ مَلِيحٌ وَمَمْلُوحٌ وَلَا يُقَالُ مَالِحٌ إلَّا فِي لُغَةٍ رَدِيئَةٍ وَهُوَ الْمُقَدَّدُ الَّذِي فِيهِ مِلْحٌ وَلَا مُعْتَبَرَ بِقَوْلِ الرَّاجِزِ: بَصْرِيَّةٌ تَزَوَّجَتْ بَصْرِيًّا يُطْعِمُهَا الْمَالِحَ وَالطَّرِيَّا؛ لِأَنَّهُ مُوَلَّدٌ لَا يُؤْخَذُ بِلُغَتِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ الزَّرْنُوجِيُّ: كَفَى بِذَلِكَ حُجَّةً لِلْفُقَهَاءِ. قَالَ (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا: إذَا وَصَفَ مِنْ اللَّحْمِ مَوْضِعًا مَعْلُومًا بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ) لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مَضْبُوطُ الْوَصْفِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ بِالْمِثْلِ.
وَيَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ وَزْنًا وَيَجْرِي فِيهِ رِبَا الْفَضْلِ، بِخِلَافِ لَحْمِ الطُّيُورِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وَصْفُ مَوْضِعٍ مِنْهُ.
وَلَهُ أَنَّهُ مَجْهُولٌ لِلتَّفَاوُتِ فِي قِلَّةِ الْعَظْمِ وَكَثْرَتِهِ أَوْ فِي سِمَنِهِ وَهُزَالِهِ عَلَى اخْتِلَافِ فُصُولِ السَّنَةِ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ.
وَفِي مَخْلُوعِ الْعَظْمِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَالتَّضْمِينُ بِالْمِثْلِ مَمْنُوعٌ.
وَكَذَا الِاسْتِقْرَاضُ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ فَالْمِثْلُ أَعْدَلُ مِنْ الْقِيمَةِ، وَلِأَنَّ الْقَبْضَ يُعَايَنُ فَيُعْرَفُ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ بِهِ فِي وَقْتِهِ، أَمَّا الْوَصْفُ فَلَا يُكْتَفَى بِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ) خَيْرٌ نَكِرَةٌ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتُفِيدُ نَفْيَ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ بِعُمُومِهِ، وَمَعْنَاهُ لَا يَجُوزُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ، وَقَالَا: إذَا وَصَفَ مِنْهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ لِكَوْنِهِ مَوْزُونًا مَعْلُومًا كَسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ وَلِهَذَا يَجُوزُ ضَمَانُهُ بِالْمِثْلِ وَاسْتِقْرَاضُهُ وَزْنًا وَيَجْرِي فِيهِ رِبَا الْفَضْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَحْمُ الطُّيُورِ مَوْزُونٌ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وَصْفُ مَوْضِعٍ مِنْهُ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ فِيهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي تَعْلِيلِهِ تَأَمُّلٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُمْكِنْ وَصْفُ مَوْضِعٍ مِنْهُ فَوَصْفُهُ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُسْلَمَ فِي لَحْمِ الدَّجَاجِ مَثَلًا بِبَيَانِ سِمَنِهِ وَهُزَالِهِ وَسِنِّهِ وَمِقْدَارِهِ.
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ حَمَلَ الْمَذْكُورَ مِنْ لَحْمِ الطُّيُورِ عَلَى طُيُورٍ لَا تُقْتَنَى وَلَا تُحْبَسُ لِلتَّوَالُدِ فَيَكُونُ الْبُطْلَانُ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَسْلَمَ فِي الْمُنْقَطِعِ، وَالسَّلَمُ فِي مِثْلِهِ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ اتِّفَاقًا وَإِنْ ذَكَرَ الْوَزْنَ، فَأَمَّا فِيمَا يُقْتَنَى وَيُحْبَسُ لِلتَّوَالُدِ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ مَا يَقَعُ مِنْ التَّفَاوُتِ فِي اللَّحْمِ بِسَبَبِ الْعَظْمِ فِي الطُّيُورِ تَفَاوُتٌ لَا يَعْتَبِرُهُ النَّاسُ كَعَظْمِ السَّمَكِ وَإِلَيْهِ مَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا يُقَوِّي وَجْهَ التَّأَمُّلِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّحْمَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا هُوَ مَقْصُودٌ وَعَلَى مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ وَهُوَ الْعَظْمُ، فَيَتَفَاوَتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِتَفَاوُتِ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَجْرِي الْمُمَاكَسَةُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ بِالتَّدْلِيسِ وَالنِّزَاعِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ مَجْهُولًا جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلَا تَرْتَفِعُ بِبَيَانِ الْمَوْضِعِ وَالْوَزْنِ، وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ فِي مَنْزُوعِ الْعَظْمِ وَهُوَ مُخْتَارُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ.
وَالثَّانِي أَنَّ اللَّحْمَ يَشْتَمِلُ عَلَى السِّمَنِ وَالْهُزَالِ، وَمَقَاصِدُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ.
وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ فُصُولِ السَّنَةِ وَبِقِلَّةِ الْكَلَإِ وَكَثْرَتِهِ وَالسَّلَمُ لَا يَكُونُ إلَّا مُؤَجَّلًا، وَلَا يُدْرَى أَنَّهُ عِنْدَ الْمَحَلِّ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ يَكُونُ.
وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةٌ إلَى النِّزَاعِ وَلَا تَرْتَفِعُ بِالْوَصْفِ.
وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِهِ فِي مَخْلُوعِ الْعَظْمِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ (قَوْلُهُ: وَالتَّضْمِينُ بِالْمِثْلِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلِهَذَا يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ بِالْمَنْعِ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ فَالْمِثْلُ أَعْدَلُ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، وَالْقَبْضُ يُعَايِنُ: يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِقْرَاضَ حَالٌ فَيُعْرَفُ حَالُ مِثْلِ الْمَقْبُوضِ، وَلَا تُفْضِي الْجَهَالَةُ بِهِ إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ وَلَا تَرْتَفِعُ لِجَهَالَةٍ فَلَا يُكْتَفَى بِهِ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَّا مُؤَجَّلًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ حَالًّا لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فِيمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ شُرِعَ رُخْصَةً دَفْعًا لِحَاجَةِ الْمَفَالِيسِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَجَلِ لِيَقْدِرَ عَلَى التَّحْصِيلِ فِيهِ فَيُسَلِّمُ، وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ لَمْ يُوجَدْ الْمُرَخِّصُ فَبَقِيَ عَلَى النَّافِي.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَّا مُؤَجَّلًا) السَّلَمُ الْحَالُّ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
اسْتَدَلَّ بِإِطْلَاقِ رُخَصٍ فِي السَّلَمِ.
لَا يُقَالُ: مُطْلَقٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» لِمَا نَذْكُرُهُ.
وَلَنَا قَوْلُهُ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» شَرَطَ لِجَوَازِ السَّلَمِ إعْلَامَ الْأَجَلِ كَمَا شَرَطَ إعْلَامَ الْقَدْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ أَرَادَ سَلَمًا مُؤَجَّلًا فَلْيُسْلِمْ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَبِهِ نَقُولُ، وَالْحَصْرُ مَمْنُوعٌ وَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ مُقَيَّدًا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمُطْلَقُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: «فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ» فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَكَانَ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إنْ كَانَ كَيْلِيًّا وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إنْ كَانَ وَزْنِيًّا، فَيُقَدَّرُ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ إنْ كَانَ مُؤَجَّلًا.
فَالْجَوَابُ أَنَّ قَضِيَّةَ الْعَقْلِ كَفَتْ مُؤْنَةَ التَّمْيِيزِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ.
سَلَّمْنَاهُ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَحْذُورِ لِضَرُورَةٍ تَحَمُّلُهُ لَا لِضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي التَّقْدِيرِ فِي الْأَجَلِ.
لَا يُقَالُ: الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِينَ ضَرُورَةٌ فَيُتَحَمَّلُ التَّقْدِيرُ لِأَجَلِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ رَخَّصَ فِي السَّلَمِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ لِضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ فِي السَّلَمِ الْحَالِّ.
عَلَى أَنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ لِبَيَانِ شُرُوطِ السَّلَمِ لَا لِبَيَانِ الْأَجَلِ فَلْيُتَأَمَّلْ؛ وَلِأَنَّ السَّلَمَ شُرِعَ رُخْصَةً لِدَفْعِ حَاجَةِ الْمَفَالِيسِ.
إذْ الْقِيَاسُ عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَمَا شُرِعَ لِذَلِكَ لابد وَأَنْ يَثْبُتَ عَلَى وَجْهٍ يَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَةُ الْمَفَالِيسِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لِمَا شُرِعَ لَهُ، وَالسَّلَمُ الْحَالُّ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْحَاجَةِ يَعْتَمِدُ الْحَاجَةَ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِيهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ فِي الْحَالِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا حَاجَةَ فَلَا دَفْعَ فَلَا مُرَخِّصَ فَبَقِيَ عَلَى النَّافِي، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَجَلِ لِيَحْصُلَ فَيُسْلَمُ وَإِلَّا لَأَدَّى إلَى النِّزَاعِ الْمُخْرِجِ لِلْمُفْلِسِ وَعَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ شَرْعِيَّةُ السَّلَمِ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَمَا جَازَ مِمَّنْ عِنْدَهُ أَكْرَارُ حِنْطَةٍ.
أُجِيبَ بِأَنَّ السَّلَمَ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَدْنَى الثَّمَنَيْنِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْعَدَمِ، وَحَقِيقَتُهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ فَأُقِيمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ مَقَامَهُ وَبُنِيَ عَلَيْهِ هَذِهِ الرُّخْصَةُ كَمَا فِي رُخْصَةِ الْمُسَافِرِ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَالْأَجَلُ أَدْنَاهُ شَهْرٌ وَقِيلَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ) إذَا ثَبَتَ اشْتِرَاطُ الْأَجَلِ فِي السَّلَمِ لابد مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا بِمَا رَوَيْنَا؛ وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ الْجَهَالَةَ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، فَهَذَا يُطَالِبُهُ بِمُدَّةٍ قَرِيبَةٍ وَذَلِكَ يُؤَدِّيهِ فِي بِعِيدِهَا.
وَاخْتُلِفَ فِي أَدْنَى الْأَجَلِ فَقِيلَ أَدْنَاهُ شَهْرٌ اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ.
حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ عَاجِلًا فَقَضَاهُ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، فَإِذَا كَانَ مَا دُونَ الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ كَانَ الشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ فِي حُكْمِ الْآجِلِ، وَقِيلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ الْبَغْدَادِيُّ أُسْتَاذُ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَصْحَابِنَا اعْتِبَارًا بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ ثَمَّ بَيَانُ أَقْصَى الْمُدَّةِ، فَأَمَّا أَدْنَاهُ فَغَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ مَا كَانَ مَقْبُوضًا فِي الْمَجْلِسِ وَالْمُؤَجَّلُ مَا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ عَنْ الْمَجْلِسِ وَلَا يَبْقَى الْمَجْلِسُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِكَوْنِهِ مُدَّةً يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِيهَا وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ. (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَلَا بِذِرَاعِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ) مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُهُ لِأَنَّهُ تَأَخَّرَ فِيهِ التَّسْلِيمُ فَرُبَّمَا يَضِيعُ فَيُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمِكْيَالُ مِمَّا لَا يَنْقَبِضُ وَلَا يَنْبَسِطُ كَالْقِصَاعِ مَثَلًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْكَبِسُ بِالْكَبْسِ كَالزِّنْبِيلِ وَالْجِرَابِ لَا يَجُوزُ لِلْمُنَازَعَةِ إلَّا فِي قُرْبِ الْمَاءِ لِلتَّعَامُلِ فِيهِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ (وَلَا فِي طَعَامِ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا) أَوْ ثَمَرَةِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا لِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَرِيهِ آفَةٌ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّمَرَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» وَلَوْ كَانَتْ النِّسْبَةُ إلَى قَرْيَةٍ لِبَيَانِ الصِّفَةِ لَا بَأْسَ بِهِ عَلَى مَا قَالُوا كالخشمراني بِبُخَارَى وَالْبَسَاخِيِّ بِفَرْغَانَةَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ) لَا يَصِحُّ السَّلَمُ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَلَا بِذِرَاعِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُهُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِي السَّلَمِ مُتَأَخِّرٌ فَرُبَّمَا يَضِيعُ الْمِكْيَالُ أَوْ الذِّرَاعُ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمِكْيَالَ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالذِّرَاعَ كَذَلِكَ أَوْ بَاعَ بِذَلِكَ الْإِنَاءَ الْمَجْهُولَ الْقَدْرِ يَدًا بِيَدٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِحُصُولِ الْأَمْنِ مِنْ الْمُنَازَعَةِ، وَقَدْ مَرَّ: يَعْنِي فِي أَوَّلِ الْبُيُوعِ أَنَّ الْبَيْعَ يَدًا بِيَدٍ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يُتَعَجَّلُ فِيهِ فَيَنْدُرُ الْهَلَاكُ، لَكِنْ لابد أَنْ يَكُونَ الْمِكْيَالُ مِمَّا لَا يَنْقَبِضُ وَلَا يَنْبَسِطُ كَمَا إذَا كَانَ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ خَزَفٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ نَحْوِهَا، أَمَّا إذَا كَانَ مِمَّا يَنْكَبِسُ بِالْكَبْسِ كَالزِّنْبِيلِ بِكَسْرِ الزَّايِ؛ لِأَنَّ فُعَيْلًا بِفَتْحِ الْفَاءِ لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَتِهِمْ وَالْجَوَابُ وَالْغِرَارَةُ وَالْجُوَالِقُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمُنَازَعَةِ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَحْسَنَ فِي قِرَبِ الْمَاءِ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ سِقَاءٍ كَذَا كَذَا قِرْبَةً بِهَذِهِ الْقِرْبَةِ مِنْ مَاءٍ لِلتَّعَامُلِ.
قَالَ (وَلَا فِي طَعَامِ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ ثَمَرَةِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا)؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَهُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ بِعُرُوضِ آفَةٍ مَوْهُومٌ (فَتَنْتَفِي الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ) أَشَارَ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حِينَ سُئِلَ عَنْ السَّلَمِ فِي ثَمَرِ فُلَانٍ أَمَّا مِنْ ثَمَرِ حَائِطِ فُلَانٍ فَلَا، أَرَأَيْت لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ التَّمْرَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» وَلَا خَفَاءَ فِي كَوْنِهِ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَانًا بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ لِعَدَمِ الْجَوَازِ فِي ثَمَرَةِ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا.
وَقَوْلُهُ: مَالَ أَخِيهِ أَرَادَ بِهِ رَأْسَ الْمَالِ: أَيْ لَوْ لَمْ تَحْصُلْ الثَّمَرَةُ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ يَحِلُّ رَأْسُ الْمَالِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَلَوْ كَانَ النِّسْبَةُ إلَى قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا لِبَيَانِ الصِّفَةِ: أَيْ لِبَيَانِ أَنَّ صِفَةَ تِلْكَ الْحِنْطَةِ الَّتِي هِيَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِثْلُ صِفَةِ حِنْطَةِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ الْمُعَيَّنَةِ كالخشمراني بِبُخَارَى وَالْبَسَاخِيِّ بِفَرْغَانَةَ جَازَ الْعَقْدُ، فَإِنَّ تَعْيِينَ الْخَشْمَرَانِيِّ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنْ تَكُونَ الْحِنْطَةُ مِنْهُ لَيْسَ إلَّا، بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ صِفَةَ الْحِنْطَةِ مَثَلًا مِثْلُ صِفَةِ حِنْطَةِ الْخَشْمَرَانِيِّ، وَعَلَى هَذَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ مِنْ حِنْطَةِ هَرَاةَ وَبَيْنَ مَا إذَا أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ فِي جَوَازِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ نِسْبَةَ الثَّوْبِ إلَى هَرَاةَ لِبَيَانِ جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَا لِتَعْيِينِ الْمَكَانِ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ مَا يُنْسَجُ عَلَى صِفَةٍ مَعْلُومَةٍ فَسَوَاءٌ نُسِجَ عَلَى تِلْكَ عَلَى الصِّفَةِ بِهَرَاةَ أَوْ بِغَيْرِهَا يُسَمَّى هَرَوِيًّا.
وَإِذَا أَتَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِثَوْبٍ نُسِجَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فِي غَيْرِ هَرَاةَ أُجْبِرَ رَبُّ السَّلَمِ عَلَى الْقَبُولِ، بِخِلَافِ الْحِنْطَةِ فَإِنَّ حِنْطَةَ هَرَاةَ مَا نَبَتَتْ بِأَرْضِ هَرَاةَ وَالنَّابِتُ فِي غَيْرِهَا لَا يُنْسَبُ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَكَانَ تَعْيِينًا لِلْمَكَانِ وَهُوَ مَوْهُومُ الِانْقِطَاعِ حَتَّى لَوْ كَانَ لِبَيَانِ الصِّفَةِ عَادَ كَالْأَوَّلِ. قَالَ (وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا بِسَبْعِ شَرَائِطَ: جِنْسٌ مَعْلُومٌ) كَقَوْلِنَا حِنْطَةٌ أَوْ شَعِيرٌ (وَنَوْعٌ مَعْلُومٌ) كَقَوْلِنَا سَقِيَّةٌ أَوْ بَخْسِيَّةٌ (وَصِفَةٌ مَعْلُومَةٌ) كَقَوْلِنَا جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ (وَمِقْدَارٌ مَعْلُومٌ) كَقَوْلِنَا كَذَا كَيْلًا بِمِكْيَالٍ مَعْرُوفٍ وَكَذَا وَزْنًا (وَأَجَلٌ مَعْلُومٌ) وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا وَالْفِقْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا (وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ) كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ (وَتَسْمِيَةُ الْمَكَانِ الَّذِي يُوفِيهِ فِيهِ إذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ) وَقَالَا: لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْمِيَةِ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا وَلَا إلَى مَكَانِ التَّسْلِيمِ وَيُسَلِّمُهُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ، فَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ.
وَلَهُمَا فِي الْأُولَى أَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ وَصَارَ كَالثَّوْبِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رُبَّمَا يُوجَدُ بَعْضُهَا زُيُوفًا وَلَا يَسْتَبْدِلُ فِي الْمَجْلِسِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهُ لَا يَدْرِي فِي كَمْ بَقِيَ أَوْ رُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إلَى رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ، وَالْمَوْهُومُ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَالْمُتَحَقِّقِ لِشَرْعِهِ مَعَ الْمُنَافِي، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا لِأَنَّ الذَّرْعَ وَصْفٌ فِيهِ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا بِسَبْعِ شَرَائِطَ) صِحَّةُ السَّلَمِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى وُجُودِ سَبْعِ شَرَائِطَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَعِنْدَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ، فَأَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي جِنْسٍ مَعْلُومٍ حِنْطَةً أَوْ غَيْرَهَا وَنَوْعٍ مَعْلُومٍ سَقِيَّةً أَوْ بَخْسِيَّةً.
وَالْبَخْسِيُّ خِلَافُ السَّقِيِّ مَنْسُوبٌ إلَى الْبَخْسِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي تَسْقِيهَا السَّمَاءُ؛ لِأَنَّهَا مَبْخُوسَةُ الْحَظِّ مِنْ الْمَاءِ.
وَصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ جَيِّدَةٍ أَوْ رَدِيئَةٍ، وَمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ عِشْرِينَ كُرًّا بِمِكْيَالٍ مَعْرُوفٍ أَوْ عِشْرِينَ رِطْلًا، وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْقُولِ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ» إلَخْ، وَمِنْ الْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ مُفْضِيَةٌ إلَى النِّزَاعِ.
فَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ (فَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ إنْ كَانَ مِمَّا يُتَوَقَّفُ عَلَى مِقْدَارِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ) وَتَسْمِيَةُ الْمَكَانِ الَّذِي يُوَفِّيهِ فِيهِ إذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَمُؤْنَةٌ وَمَعْنَاهُ مَا لَهُ ثِقَلٌ يَحْتَاجُ فِي حَمْلِهِ إلَى ظَهْرٍ أَوْ أُجْرَةِ حَمَّالٍ، فَهَذَانِ شَرْطَانِ لِصِحَّتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خِلَافًا لَهُمَا.
قَالَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى: إنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ: يَعْنِي إذَا جُعِلَ الْمَكِيلُ أَوْ الْمَوْزُونُ ثَمَنَ الْمَبِيعِ أَوْ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَةِ وَأُشِيرَ إلَيْهِمَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُهُمَا، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ فِي رَأْسِ الْمَالِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ بَدَلًا وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا فَإِنَّ الْإِشَارَةَ فِيهِ تَكْفِي اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ ذُرْعَانُهُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رُبَّمَا يُوجَدُ بَعْضُهَا زُيُوفًا وَلَا يُسْتَبْدَلُ فِي الْمَجْلِسِ، فَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُهُ لَا يُدْرَى فِي كَمْ بَقِيَ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ تَسْتَلْزِمُ جَهَالَةَ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ يُنْفِقُ رَأْسَ الْمَالِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَرُبَّمَا يَجِدُ بَعْضَ ذَلِكَ زُيُوفًا وَلَا يَسْتَبْدِلُهُ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ مَا رَدَّهُ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا لَا يُعْلَمُ فِي كَمْ اُنْتُقِضَ السَّلَمُ أَوْ فِي كَمْ بَقِيَ وَجَهَالَةُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَفْسَدَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا مَا يَسْتَلْزِمُهَا.
وَقَوْلُهُ: (أَوْ رُبَّمَا) وَجْهٌ آخَرُ لِفَسَادِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ (قَدْ يَعْجِزُ عَنْ تَحْصِيلِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلَيْسَ لِرَبِّ السَّلَمِ حِينَئِذٍ إلَّا رَأْسُ مَالِهِ) وَإِذَا كَانَ مَجْهُولَ الْمِقْدَارِ تَعَذَّرَ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: ذَلِكَ أَمْرٌ مَوْهُومٌ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِيمَا بُنِيَ عَلَى الرُّخَصِ.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ (الْمَوْهُومَ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَالْمُتَحَقِّقِ) لِشَرْعِهِ مَعَ الْمُنَافِي إذْ الْقِيَاسُ يُخَالِفُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ لِتَوَهُّمِ هَلَاكِ ذَلِكَ الْمِكْيَالِ وَعَوْدِهِ إلَى الْجَهَالَةِ لاسيما عَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ أَدْنَى الْأَجَلِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا اعْتِبَارٌ لِلنَّازِلِ عَنْ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ بَعْضِ رَأْسِ الْمَالِ زُيُوفًا فِيهِ شُبْهَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ وَبَعْدَ الْوُجُودِ الرَّدُّ مُحْتَمَلٌ فَقَدْ لَا يُرَدُّ، وَبَعْدَ الرَّدِّ تَرْكُ الِاسْتِبْدَالِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ، وَالْمُعْتَبَرُ هِيَ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا.
فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعْنَى مِنْ الْمَوْهُومِ هُوَ ذَاكَ، وَقِيلَ بَلْ هَذِهِ شُبْهَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِهِ زَيْفًا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الثَّوْبِ) جَوَابٌ عَمَّا قَاسَاهُ عَلَيْهِ مِنْ الثَّوْبِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الثَّوْبَ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ؛ (لِأَنَّ الذَّرْعَ) فِي الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ (صِفَةٌ) وَلِهَذَا لَوْ وَجَدَهُ زَائِدًا عَلَى الْمُسَمَّى سَلَّمَ لَهُ الزِّيَادَةَ مَجَّانًا، وَلَوْ وَجَدَهُ نَاقِصًا لَمْ يَحُطَّ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ فَكَانَ قِيَاسًا مَعَ الْفَارِقِ، وَلَمْ يَجِبْ عَنْ الثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ تَضَمَّنَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ لَا يَنْفَسِخَانِ بِرَدِّ الثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ وَتَرْكِ الِاسْتِبْدَالِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ.
وَمِنْ فُرُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ مَا إذَا أَسْلَمَ مِائَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ رَأْسَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْمِائَةَ تَنْقَسِمُ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْحَزْرُ فَلَا يَكُونُ مِقْدَارُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومًا.
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الْعَيْنِ تَكْفِي لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَقَدْ وُجِدَتْ، أَوْ أَسْلَمَ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَدْ عَلِمَ وَزْنَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ أَحَدِهِمَا إذَا كَانَ مَجْهُولًا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي حِصَّتِهِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْجَوَازِ فِي حِصَّتِهِ فَيَبْطُلُ فِي حِصَّةِ الْآخَرِ أَيْضًا لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ أَوْ لِجَهَالَةِ حِصَّةِ الْآخَرِ، وَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ لِوُجُودِ الْإِشَارَةِ. وَمِنْ فُرُوعِهِ إذَا أَسْلَمَ فِي جِنْسَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ رَأْسَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ أَسْلَمَ جِنْسَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ أَحَدِهِمَا.
وَلَهُمَا فِي الثَّانِيَةِ أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ يَتَعَيَّنُ لِوُجُودِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلتَّسْلِيمِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُهُ مَكَانٌ آخَرَ فِيهِ فَيَصِيرُ نَظِيرُ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فِي الْأَوَامِرِ فَصَارَ كَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّسْلِيمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَالِّ فَلَا يَتَعَيَّنُ، بِخِلَافِ الْقَرْضِ وَالْغَصْبِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَالْجَهَالَةُ فِيهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، لِأَنَّ قِيَمَ الْأَشْيَاءِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ، وَصَارَ كَجَهَالَةِ الصِّفَةِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَهُ يُوجِبُ التَّخَالُفَ كَمَا فِي الصِّفَةِ.
وَقِيلَ عَلَى عَكْسِهِ لِأَنَّ تَعَيُّنِ الْمَكَانِ قَضِيَّةُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ وَالْقِسْمَةُ، وَصُورَتُهَا إذَا اقْتَسَمَا دَارًا وَجَعَلَا مَعَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ.
وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الثَّمَنِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الدَّارِ وَمَكَانُ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ لِلْإِيفَاءِ.
قَالَ (وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ (وَيُوفِيهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْبُيُوعِ.
وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّهُ يُوفِيهِ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ كُلَّهَا سَوَاءٌ، وَلَا وُجُوبَ فِي الْحَالِّ.
وَلَوْ عَيَّنَا مَكَانًا، قِيلَ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ، وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ، وَلَوْ عَيَّنَ الْمِصْرَ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يُكْتَفَى بِهِ لِأَنَّهُ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا ذَكَرْنَا.
الشَّرْحُ:
وَقَالَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ: إنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ يَتَعَيَّنُ لِلْإِيفَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُوجِبَ لِلتَّسْلِيمِ وُجِدَ فِيهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ كَمَا فِي بَيْعِ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا فَإِنَّ التَّسْلِيمَ يَجِبُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُهُ مَكَانٌ آخَرُ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُهُ وَمَا هُوَ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ كَأَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فِي الْأَوَامِرِ، فَإِنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ يَتَعَيَّنُ لِلسَّبَبِيَّةِ لِعَدَمِ مَا يُزَاحِمُهُ، وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَصَارَ كَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ فِي تَعَيُّنِ مَكَانِهِمَا لِلتَّسْلِيمِ.
وَنُوقِضَ بِمَا إذَا بَاعَ طَعَامًا وَهُوَ فِي السَّوَادِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنْ كَانَ يَعْلَمُ مَكَانَ الطَّعَامِ فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ الْخِيَارُ، وَلَوْ تَعَيَّنَ مَكَانُ الْبَيْعِ لِلتَّسْلِيمِ لَمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ.
وَعُورِضَ بِأَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ لَوْ تَعَيَّنَ لَبَطَلَ الْعَقْدُ بِبَيَانِ مَكَان آخَرَ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى كُرَّ حِنْطَةٍ وَشَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ الْحَمْلَ إلَى مَنْزِلِهِ يَفْسُدُ عَقْدُهُ اشْتَرَاهَا فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجَهُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ النَّقْضِ أَنَّ مَكَانَ الْبَيْعِ يَتَعَيَّنُ لِلتَّسْلِيمِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا وَالْمَبِيعُ فِي السَّلَمِ حَاضِرٌ؛ لِأَنَّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَهُوَ حَاضِرٌ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ الْمَبِيعُ حَاضِرًا بِحُضُورِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ قَيْدًا لَمْ يُذْكَرْ فِي التَّعْلِيلِ وَمِثْلُهُ يُعَدُّ انْقِطَاعًا.
وَعَنْ الْمُعَارَضَةِ بِأَنَّ التَّعْيِينَ بِالدَّلَالَةِ، فَإِذَا جَاءَ بِصَرِيحٍ يُخَالِفُهَا يُبْطِلُهَا، وَإِنَّمَا فَسَدَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ الثَّمَنَ بِالْمَبِيعِ وَالْحَمْلِ فَتَصِيرُ صَفْقَةً فِي صَفْقَةٍ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ السَّلَمَ تَسْلِيمُهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَالِ لِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكُلُّ مَا هُوَ تَسْلِيمُهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَالِ لَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ فِيهِ لِلتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الِالْتِزَامِ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّسْلِيمِ بِسَبَبٍ يَسْتَحِقُّ فِيهِ التَّسْلِيمَ بِنَفْسِ الِالْتِزَامِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا عَلَى طِبْقِ سَبَبِهِ، وَالسَّلَمُ لَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ بِنَفْسِ الِالْتِزَامِ لِكَوْنِهِ مُؤَجَّلًا، بِخِلَافِ الْقَرْضِ وَالْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ فَإِنَّ تَسْلِيمَهَا يُسْتَحَقُّ بِنَفْسِ الِالْتِزَامِ فَيَتَعَيَّنُ مَوْضِعُهُ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَرَأَيْت لَوْ عَقَدَا عَقْدَ السَّلَمِ فِي السَّفِينَةِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ أَكَانَ يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، هَذَا مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْإِيفَاءِ بَقِيَ مَكَانُ الْإِبْقَاءِ مَجْهُولًا جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ قِيَمَ الْأَشْيَاءِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُهُ فِي مَوْضِعٍ يُكْثِرُ فِيهِ السَّلَمَ، وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ يُسَلِّمُهُ فِي خِلَافِ ذَلِكَ فَصَارَ كَجَهَالَةِ الصِّفَةِ فِي اخْتِلَافِ الْقِيَمِ بِاخْتِلَافِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ.
(وَعَنْ هَذَا) أَيْ عَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ جَهَالَةَ الْمَكَانِ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ (قَالَ: مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ إنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْمَكَانِ يُوجِبُ التَّخَالُفَ) عِنْدَهُ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ (وَقِيلَ عَلَى عَكْسِهِ) أَيْ لَا يُوجِبُ التَّخَالُفَ عِنْدَهُ بَلْ الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ.
وَعِنْدَهُمَا يُوجِبُهُ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْمَكَانِ قَضِيَّةُ الْعَقْدِ: أَيْ مُقْتَضَاهُ عِنْدَهُمَا فَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَكَانِ كَالِاخْتِلَافِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ.
وَعِنْدَهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجَلِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ لَا يُوجِبُ التَّخَالُفَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ وَالْقِسْمَةُ.
وَصُورَةُ الثَّمَنِ: اشْتَرَى شَيْئًا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ وَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ.
وَقِيلَ إنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ)؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مِثْلُ الْأُجْرَةِ وَهِيَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ.
وَصُورَةُ الْأُجْرَةِ: اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ دَابَّةً بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا وَيَتَعَيَّنُ فِي إجَارَةِ الدَّارِ مَكَانُهَا، وَفِي الدَّابَّةِ تُسَلَّمُ فِي مَكَانِ تَسْلِيمِهَا.
وَصُورَةُ الْقِسْمَةِ: اقْتَسَمَا دَارًا وَأَخَذَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ وَالْتَزَمَ فِي مُقَابَلَةِ الزَّائِدِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ خِلَافًا لَهُمَا وَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْقِسْمَةِ.
قَالَ (وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ إلَخْ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ.
وَقِيلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ هُوَ الَّذِي لَوْ أَمَرَ إنْسَانًا بِحَمْلِهِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ حَمَلَهُ مَجَّانًا.
وَقِيلَ هُوَ مَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بَيَانَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ السَّلَمِ لِعَدَمِ اخْتِلَافِ الْقِيمَةِ، وَلَكِنْ هَلْ يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ (فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَبُيُوعُ الْأَصْلِ) يَتَعَيَّنُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الِالْتِزَامِ فَيُرَجَّحُ عَلَى غَيْرِهِ وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَاتِ (يُوَفِّيهِ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ كُلَّهَا سَوَاءٌ) إذْ الْمَالِيَّةُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ فِيهِ.
(قَوْلُهُ: وَلَا وُجُوبَ فِي الْحَالِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَيَّنَ مُؤَنُ الْعَقْدِ ضَرُورَةَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَقَالَ التَّسْلِيمُ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِيَتَعَيَّنَ بِاعْتِبَارِهِ، فَلَوْ عَيَّنَ مَكَانًا قِيلَ لَا يَتَعَيَّنُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ حَيْثُ لَا يَلْزَمُ بِنَقْلِهِ مُؤْنَةٌ، وَلَا تَخْتَلِفُ مَالِيَّتُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ: وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ رَبَّ السَّلَمِ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ، وَلَوْ عَيَّنَ الْمِصْرَ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يُكْتَفَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْمِصْرَ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلَّةِ.
وَقِيلَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ وَهِيَ السَّلَمُ وَالثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ وَالْقِسْمَةُ.
وَقِيلَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمِصْرُ عَظِيمًا، فَلَوْ كَانَ بَيْنَ نَوَاحِيهِ مِثْلُ فَرْسَخٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ نَاحِيَةً مِنْهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فِيهِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ. قَالَ (وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ حَتَّى يَقْبِضَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ فِيهِ) أَمَّا إذَا كَانَ مِنْ النُّقُودِ فَلِأَنَّهُ افْتِرَاقٌ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا»، فَلِأَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ، إذْ الْإِسْلَامُ وَالْإِسْلَافُ يُنْبِئَانِ عَنْ التَّعْجِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الِاسْمِ، وَلِأَنَّهُ لابد مِنْ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ لِيَتَقَلَّبَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِيهِ فَيَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إذَا كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْض لِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَكَذَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ حَتَّى يَقْبِضَ رَأْسَ الْمَالِ) مَعْنَاهُ أَنَّ السَّلَمَ لَا يَبْقَى صَحِيحًا بَعْدَ وُقُوعِهِ عَلَى الصِّحَّةِ إذَا لَمْ يَقْبِضْ رَأْسَ الْمَالِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ صَاحِبَهُ بَدَنًا لَا مَكَانًا، حَتَّى لَوْ مَشَيَا فَرْسَخًا قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يُفْسَخْ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ غَيْرِ قَبْضٍ، فَإِذَا افْتَرَقَا كَذَلِكَ فَسَدَ، أَمَّا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ النُّقُودِ فَلِأَنَّهُ افْتِرَاقٌ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ»: أَيْ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا؛ فَلِأَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ، إذْ الْإِسْلَامُ وَالْإِسْلَافُ يُنْبِئَانِ عَنْ التَّعْجِيلِ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ آجِلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَاجِلًا لِيَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الِاسْمُ لُغَةً كَالصَّرْفِ وَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ فَإِنَّهَا عُقُودٌ ثَبَتَتْ أَحْكَامُهَا بِمُقْتَضَيَاتِ أَسْمَائِهَا لُغَةً، وَهَذَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ، وَالْقِيَاسُ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ فَتَرْكُ شَرْطِ التَّعْجِيلِ لَمْ يُؤَدِّ إلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ؛ وَلِأَنَّهُ لابد مِنْ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ لِيَتَقَلَّبَ: أَيْ لِيَتَصَرَّفَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِيهِ فَيَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ (قُلْنَا لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إذَا كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ لِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ) وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَالْقَبْضِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ مَانِعًا مِنْ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ فَهُوَ مَانِعٌ عَنْ الْمَبْنِيِّ، وَكَذَا لَا يَثْبُتُ فِي السَّلَمِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ الْفَسْخُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ وَالْوَاجِبُ بِعَقْدِ السَّلَمِ الدَّيْنُ وَمَا أَخَذَهُ عَيْنٌ، فَلَوْ رَدَّ الْمَأْخُوذَ عَادَ إلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ فِيمَا أَخَذَهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ فَائِدَتَهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ وَفِي بَيْعِ الْعَيْنِ يُفِيدُ فَائِدَتَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ إذَا رَدَّ الْمَبِيعَ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ عَيْنَ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ فَيُفْسَخُ.
قِيلَ فِيهِ إشْكَالَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فِيهِ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ رَأْسُ الْمَالِ أَوْ الْمُسْلَمُ فِيهِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ ثَابِتٌ فِي رَأْسِ الْمَالِ، صَرَّحَ بِهِ فِي التُّحْفَةِ وَقَالَ: لَا يَفْسُدُ بِهِ السَّلَمُ، وَلَا إلَى الثَّانِي لِانْتِفَاءِ التَّقْرِيبِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ اشْتِرَاطِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَعَدَمُهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَكَانَ أَجْنَبِيًّا.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمَبِيعَ فِي الِاسْتِصْنَاعِ دَيْنٌ وَمَعَ ذَلِكَ لِلْمُسْتَصْنِعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَعُودُ لِلْمُسْلَمِ فِيهِ وَذَكَرَهُ اسْتِطْرَادًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ إنْ كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ يَتَسَلْسَلُ وَلَا يُفِيدُ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا وَجَبَ أَنْ لَا يُفِيدَ لِإِفْضَائِهِ إلَى التُّهْمَةِ.
وَعَنْ الثَّانِي أَنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِصْنَاعِ دَيْنٌ بَلْ هُوَ عَيْنٌ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي الِاسْتِصْنَاعِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِتَمَامِ الصَّفْقَةِ وَتَمَامُهَا بِتَمَامِ الرِّضَا وَهُوَ مَوْجُودٌ وَقْتَ الْعَقْدِ. وَلَوْ أُسْقِطَ خِيَارُ الشَّرْطِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَرَأْسُ الْمَالِ قَائِمٌ جَازَ خِلَافًا لَزُفَرَ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ أَسْقَطَ) رَبُّ السَّلَمِ (خِيَارَ الشَّرْطِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ) فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ قَائِمًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِالْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ بِرَأْسِ مَالٍ هُوَ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ فَكَذَا إتْمَامُهُ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ اتِّفَاقِيٌّ فَالتَّشْكِيكُ فِيهِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَازَ خِلَافًا لِزُفَرَ وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ، وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ ثُمَّ أَسْقَطَ الْأَجَلَ قَبْلَ الْحُلُولِ فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ جَائِزًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ. (وَجُمْلَةُ الشُّرُوطِ جَمَعُوهَا فِي قَوْلِهِمْ إعْلَامُ رَأْسِ الْمَالِ وَتَعْجِيلُهُ وَإِعْلَامُ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَتَأْجِيلُهُ وَبَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ مِائَتِي دِرْهَمٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ مِائَةٌ مِنْهَا دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَمِائَةٌ نَقْدٌ فَالسَّلَمُ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ بَاطِلٌ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ وَيَجُوزُ فِي حِصَّةِ النَّقْدِ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ وَلَا يَشِيعُ الْفَسَادَ لِأَنَّ الْفَسَادَ طَارِئٌ، إذْ السَّلَمُ وَقَعَ صَحِيحًا، وَلِهَذَا لَوْ نَقَدَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ إلَّا أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ لِمَا بَيَّنَّا، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فَيَنْعَقِدُ صَحِيحًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَجُمْلَةُ الشُّرُوطِ جَمَعُوهَا) جَمَعَ الْمَشَايِخُ جُمْلَةَ شُرُوطِ السَّلَمِ فِي إعْلَامِ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ وَفِي تَعْجِيلِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّسْلِيمُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي إعْلَامِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، وَفِي تَأْجِيلِهِ: يَعْنِي إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مِقْدَارِهِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ كَمَا مَرَّ، وَفِي الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ كَمَا بَيَّنَّا (فَإِنْ أَسْلَمَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ مِائَةٌ مِنْهَا دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَمِائَةٌ نَقْدٌ فَالسَّلَمُ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ بَاطِلٌ) سَوَاءٌ أَطْلَقَ الْمِائَتَيْنِ ابْتِدَاءً أَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ فِي إحْدَاهُمَا إلَى الدَّيْنِ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ.
وَيَجُوزُ فِي حِصَّةِ النَّقْدِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ، وَلَا يَشِيعُ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ طَارِئٌ إذْ السَّلَمُ وَقَعَ صَحِيحًا؛ أَمَّا إذَا أَطْلَقَ ثُمَّ جَعَلَا الْمِائَةَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ قِصَاصًا بِالدَّيْنِ فَلَا إشْكَالَ فِي طُرُوِّهِ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ الْبَاقِي مَبِيعًا بِالْحِصَّةِ الطَّارِئَةِ، وَأَمَّا إذَا أَضَافَ إلَى الدَّيْنِ ابْتِدَاءً فَكَذَلِكَ وَلِهَذَا لَوْ نَقَدَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ إذَا كَانَتْ عَيْنًا فَكَذَا إذَا كَانَتْ دَيْنًا فَصَارَ الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ سَوَاءً؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ حَيْثُ لَمْ يَتَعَيَّنْ الدَّيْنُ فَيَنْعَقِدُ السَّلَمُ صَحِيحًا فَيَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ».
وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ (مِائَةٌ مِنْهَا دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى غَيْرِهِ يُوجِبُ شُيُوعَ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي حَقِّهِمَا. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي رَأْسِ الْمَالِ الْمُسْلَمِ فِيهِ إلَخْ) لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ صِحَّةِ السَّلَمِ احْتِرَازًا عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، فَلَوْ جَازَ التَّصَرُّفُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا فَاتَ الشَّرْطُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَلَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، وَلَا بَأْسَ بِهِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِعَقْدِ السَّلَمِ كَالْعَيْنِ الْمُشْتَرَى، فَرَأْسُ الْمَالِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا جَازَ أَنْ يَبِيعَ مُرَابَحَةً، وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا لَا يَجُوزُ إلَّا مِمَّنْ عِنْدَهُ الثَّمَنُ. (وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَالتَّوْلِيَةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ) لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ) وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ شَخْصٌ آخَرُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ (وَ) لَا (التَّوْلِيَةُ) وَصُورَتُهَا ظَاهِرَةٌ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ بَعْدَمَا دَخَلَا فِي الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُمَا أَكْثَرُ وُقُوعًا مِنْ الْمُرَابَحَةِ وَالْوَضِيعَةِ.
وَقِيلَ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْبَعْضِ إنَّ التَّوْلِيَةَ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهَا إقَامَةُ مَعْرُوفٍ فَإِنَّهُ يُوَلِّي غَيْرَهُ مَا تَوَلَّى. (فَإِنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِرَأْسِ الْمَالِ شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضَهُ كُلَّهُ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَكَ أَوْ رَأْسَ مَالِكَ» أَيْ عِنْدَ الْفَسْخِ، وَلِأَنَّهُ أَخَذَ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ فَلَا يَحِلُّ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلَ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَبِيعًا لِسُقُوطِهِ فَجَعَلَ رَأْسَ الْمَالِ مَبِيعًا لِأَنَّهُ دَيْنٌ مِثْلُهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ الِابْتِدَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
(فَإِنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِرَأْسِ الْمَالِ شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضَهُ كُلَّهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَك أَوْ رَأْسَ مَالِكَ») يَعْنِي حَالَةَ الْبَقَاءِ وَعِنْدَ الْفَسْخِ، وَهَذَا نَصٌّ فِي ذَلِكَ (وَلِأَنَّهُ أَخَذَ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ)؛ (لِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعُ جَدِيدٍ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ) وَهُوَ الشَّرْعُ، وَالْبَيْعُ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ (لِسُقُوطِهِ) بِالْإِقَالَةِ (فَ) لابد مِنْ (جَعْلِ رَأْسِ الْمَالِ مَبِيعًا) لِيَرُدَّ عَلَيْهِ الْعَقْدَ، وَإِلَّا لَكَانَ مَا فَرَضَاهُ بَيْعًا لَمْ يَكُنْ بَيْعًا هَذَا خَلَفٌ بَاطِلٌ وَهُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ لِكَوْنِهِ دَيْنًا مِثْلَ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَإِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ ابْتِدَاءً فِيمَا هُوَ بَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ عَقْدُ السَّلَمِ فَلَأَنْ يُمْكِنَ ذَلِكَ انْتِهَاءً فِيمَا هُوَ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَانَ أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ شَبَهُهُ بِالْمَبِيعِ، وَالْمَبِيعُ لَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ اعْتِبَارًا لِلِانْتِهَاءِ بِالِابْتِدَاءِ: أَجَابَ بِقَوْلِهِ؛ (لِأَنَّهُ) أَيْ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِقَالَةِ (لَيْسَ فِي حُكْمِ الِابْتِدَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ)؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَالْإِقَالَةُ بَيْعٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ لَا غَيْرُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْأَوَّلِ اشْتِرَاطُهُ فِي الثَّانِي بِالضَّرُورَةِ، فَإِنْ ثَبَتَ بِالتَّنْبِيهِ وَهُوَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ سَقَطَ بِالْإِقَالَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ ذَلِكَ فَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ، وَالتَّأَمُّلُ يُغْنِي عَنْ هَذَا السُّؤَالِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا صَارَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ سَقَطَ اشْتِرَاطُ قَبْضِهِ، فَالسُّؤَالُ بِوُجُوبِ قَبْضِهِ لَا يَرِدُ، لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ دَفَعَ وَهْمَ مَنْ عَسَى يَتَوَهَّمُ نَظَرًا إلَى كَوْنِهِ رَأْسَ الْمَالِ وُجُوبُ قَبْضِهِ، وَلَوْ أَبْرَزَ ذَلِكَ فِي مَبْرَزِ الدَّلِيلِ عَلَى انْقِلَابِهِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ.
وَلَوْ بَقِيَ رَأْسُ الْمَالِ لَوَجَبَ كَانَ أَدَقَّ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَيَجُوزُ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ سِوَى الْفَارِسِيَّةِ وَهِيَ طَرِيقَةُ قَوْلِهِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ قَوْلُهُ: وَفِيهِ أَيْ فِي جَعْلِ رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ مَبِيعًا (خِلَافُ زُفَرَ) هُوَ يَقُولُ رَأْسُ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، فَكَمَا جَازَ الِاسْتِبْدَالُ بِسَائِرِ الدُّيُونِ جَازَ بِهَذَا الدَّيْنِ (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ) مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْقُولِ. قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ قَضَاءٌ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً، وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ ثُمَّ يَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ فَاكْتَالَهُ لَهُ ثُمَّ اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ جَازَ) لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ الصَّفْقَتَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَيْلِ مَرَّتَيْنِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ، وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا مَرَّ وَالسَّلَمُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا لَكِنْ قَبْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَاحِقٌ وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً.
وَإِنْ جَعَلَ عَيْنَهُ فِي حَقٍّ حُكْمٌ خَاصٌّ وَهُوَ حُرْمَةُ الِاسْتِبْدَالِ فَيَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَمًا وَكَانَ قَرْضًا فَأَمَرَهُ بِقَبْضِ الْكُرِّ جَازَ لِأَنَّ الْقَرْضَ إعَارَةٌ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ فَكَانَ الْمَرْدُودُ عَيْنَ الْمَأْخُوذِ مُطْلَقًا حُكْمًا فَلَا تَجْتَمِعُ الصَّفْقَتَانِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ إلَخْ) رَجُلٌ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَهُوَ سِتُّونَ قَفِيزًا (فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ قَضَاءً لِحَقِّهِ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً) حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِ رَبِّ السَّلَمِ كَانَ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ (وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ لِأَجْلِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ثُمَّ لِنَفْسِهِ فَاكْتَالَهُ لَهُ ثُمَّ اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ صَفْقَتَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ) الْأُولَى صَفْقَةُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مَعَ بَائِعِهِ وَالثَّانِيَةُ صَفْقَتُهُ مَعَ رَبِّ السَّلَمِ (فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَيْلِ مَرَّتَيْنِ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ»، وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا مَرَّ) فِي الْفَصْلِ الْمُتَّصِلِ بِبَابِ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ قَالَ فِيهِ: وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ اجْتِمَاعُ الصَّفْقَتَيْنِ عَلَى مَا يَتَبَيَّنُ.
(قَوْلُهُ: وَالسَّلَمُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مَعَ رَبِّ السَّلَمِ كَانَ سَابِقًا عَلَى شِرَاءِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مِنْ بَائِعِهِ فَلَا يَكُونُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بَائِعًا بَعْدَ الشِّرَاءِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الصَّفْقَةُ الثَّانِيَةُ لِتَدْخُلَ تَحْتَ النَّهْيِ، وَتَقْرِيرُهُ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ.
سَلَّمْنَا ذَلِكَ (لَكِنَّ قَبْضَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَاحِقٌ) وَقَبْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ (بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ)؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَالْمَقْبُوضُ عَيْنٌ، وَهُوَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً وَإِنْ جُعِلَ عَيْنُهُ فِي حَقِّ حُكْمٍ خَاصٍّ وَهُوَ حُرْمَةُ الِاسْتِبْدَالِ ضَرُورَةً فَلَا يَتَعَدَّى فَيَبْقَى فِيمَا وَرَاءُ كَالْبَيْعِ فَيَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَقَدْ اجْتَمَعَتْ الصَّفْقَتَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَكْرَارِ الْكَيْلِ.
(وَ) إنْ (كَانَ) الْكُرُّ (قَرْضًا فَأَمَرَ) الْمُسْتَقْرِضُ الْمُقْرِضَ (بِقَبْضِ الْكُرِّ) فَفَعَلَ (جَازَ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ إعَارَةٌ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إعَارَةً لَزِمَ تَمْلِيكُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً وَهُوَ رِبًا وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُ التَّأْجِيلُ فِي الْقَرْضِ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْعَوَارِيِّ غَيْرُ لَازِمٍ فَيَكُونُ الْمَرْدُودُ عَيْنَ الْمَقْبُوضِ (مُطْلَقًا حُكْمًا فَلَا تَجْتَمِعُ الصَّفْقَتَانِ) وَكَذَا لَوْ اسْتَقْرَضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ يُكْتَفَى فِيهِ بِكَيْلٍ وَاحِدٍ. قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَأَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ أَنْ يَكِيلَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِي غَرَائِرِ رَبِّ السَّلَمِ فَفَعَلَ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً) لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْكَيْلِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مِلْكَ الْآمِرِ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ دُونَ الْعَيْنِ فَصَارَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُسْتَعِيرًا لِلْغَرَائِرِ مِنْهُ وَقَدْ جَعَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ فِيهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمَ دَيْنٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ كِيسًا لِيَزِنهَا الْمَدْيُونُ فِيهِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا.
وَلَوْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ مُشْتَرَاةٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا صَارَ قَابِضًا لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ صَحَّ حَيْثُ صَادَفَ مِلْكَهُ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَيْنَ بِالْبَيْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ بِالطَّحْنِ كَانَ الطَّحِينُ فِي السَّلَمِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَفِي الشِّرَاءِ لِلْمُشْتَرِي لِصِحَّةِ الْأَمْرِ، وَكَذَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يَصُبَّهُ فِي الْبَحْرِ فِي السَّلَمِ يَهْلَكُ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَفِي الشِّرَاءِ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي، وَيَتَقَرَّرُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَلِهَذَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ الْكَيْلِ فِي الشِّرَاءِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْكَيْلِ وَالْقَبْضِ بِالْوُقُوعِ فِي غَرَائِرِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ أَمَرَهُ فِي الشِّرَاءِ أَنْ يَكِيلَهُ فِي غَرَائِرِ الْبَائِعِ فَفَعَلَ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا لِأَنَّهُ اسْتَعَارَ غَرَائِرَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهَا فَلَا تَصِيرُ الْغَرَائِرُ فِي يَدِهِ، فَكَذَا مَا يَقَعُ فِيهَا، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ وَيَعْزِلَهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ بَيْتِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْبَيْتَ بِنَوَاحِيهِ فِي يَدِهِ فَلَمْ يَصِرْ الْمُشْتَرِي قَابِضًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ إلَخْ رَجُلٌ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ أَنْ يَكِيلَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِي غَرَائِرِ رَبِّ السَّلَمِ فَفَعَلَ وَهُوَ) أَيْ رَبُّ السَّلَمِ (غَائِبٌ لَمْ يَكُنْ) لَهُ فِي غَرَائِرِهِ طَعَامٌ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ (قَضَاءً) فَلَوْ هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ؛ (لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْكَيْلِ لَمْ) يُصَادِفْ مِلْكَ الْآمِرِ إذْ حَقُّهُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ فَلَا (يَصِحُّ) الْأَمْرُ (وَصَارَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُسْتَعِيرًا لِلْغَرَائِرِ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ وَقَدْ جَعَلَ مِلْكَهُ فِيهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ دَيْنٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ كِيسًا لِيَزِنَهَا الْمَدْيُونُ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا) وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ حِنْطَةً بِعَيْنِهَا وَدَفَعَ غَرَائِرَهُ إلَى الْبَائِعِ وَقَالَ لَهُ اجْعَلْهَا فِيهَا فَفَعَلَ وَالْمُشْتَرِي غَائِبٌ صَارَ قَابِضًا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالشِّرَاءِ لَا مَحَالَةَ فَصَحَّ الْأَمْرُ لِمُصَادَفَتِهِ الْمِلْكَ، وَإِذَا صَحَّ صَارَ الْبَائِعُ وَكِيلًا عَنْهُ فِي إمْسَاكِ الْغَرَائِرِ فَبَقِيَتْ الْغَرَائِرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي حُكْمًا فَمَا وَقَعَ فِيهَا صَارَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي (قَوْلُهُ: أَلَا تَرَى) تَوْضِيحٌ لِتَمَلُّكِهِ بِالْبَيْعِ (فَإِنَّهُ إذَا أَمَرَهُ بِالطَّحْنِ فِي السَّلَمِ كَانَ الطَّحِينُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَفِي الشِّرَاءِ لِلْمُشْتَرِي) وَإِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَصُبَّهُ فِي الْبَحْرِ فِي السَّلَمِ فَفَعَلَ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ (وَفِي الشِّرَاءِ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي) وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ الْأَمْرِ وَعَدَمِهَا، وَصِحَّتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمِلْكِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مَلَكَهُ لَمَا صَحَّ أَمْرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ صَحَّ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ صَحَّ (يُكْتَفَى بِذَلِكَ الْكَيْلِ فِي الشِّرَاءِ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْكَيْلِ) فَإِنْ قِيلَ: الْبَائِعُ مُسَلِّمٌ فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَسَلِّمًا.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْقَبْضُ بِالْوُقُوعِ) أَيْ وَتَحَقُّقُ الْقَبْضِ بِالْوُقُوعِ (فِي غَرَائِرِ الْمُشْتَرِي) فَلَا يَكُونُ مُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَمَّا قِيلَ لَا يُكْتَفَى بِكَيْلٍ وَاحِدٍ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي» وَقَدْ مَرَّ قَبْلَ بَابِ الرِّبَا (وَلَوْ أَمَرَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَنْ يَكِيلَهُ فِي غَرَائِرِ الْبَائِعِ فَفَعَلَ لَمْ يَصِرْ) الْمُشْتَرِي (قَابِضًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَعَارَ غَرَائِرَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهَا فَلَمْ تَصِرْ الْغَرَائِرُ فِي يَدِهِ)؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ تَبَرُّعٌ فَلَا تَتِمَّ بِدُونِ الْقَبْضِ، فَكَذَا مَا وَقَعَ فِيهَا وَصَارَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ وَيَعْزِلَهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ بَيْتِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ بِنَوَاحِيهِ فِي يَدِهِ فَلَمْ يَصِرْ الْمُشْتَرِي قَابِضًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعِيرٌ لَمْ يَقْبِضْ. وَلَوْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْعَيْنُ وَالْغَرَائِرُ لِلْمُشْتَرِي، إنْ بَدَأَ بِالْعَيْنِ صَارَ قَابِضًا، أَمَّا الْعَيْنُ فَلِصِحَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ وَبِمِثْلِهِ يَصِيرُ قَابِضًا، كَمَنْ اسْتَقْرَضَ حِنْطَةً وَأَمَرَهُ أَنْ يَزْرَعهَا فِي أَرْضِهِ، وَكَمَنْ دَفَعَ إلَى صَائِغٍ خَاتَمًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَهُ مِنْ عِنْدِهِ نِصْفَ دِينَارٍ، وَإِنَّ بَدَأَ بِالدَّيْنِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا، أَمَّا الدَّيْنُ فَلِعَدَمِ صِحَّةِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا الْعَيْنُ فَلِأَنَّهُ خَلَطَهُ بِمُلْكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيُنْتَقَضُ الْبَيْعُ، وَهَذَا الْخَلْطُ غَيْرُ مَرْضِيٌّ بِهِ مِنْ جِهَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْبُدَاءَةَ بِالْعَيْنِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِي الْمَخْلُوطِ لِأَنَّ الْخَلْطَ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ عِنْدَهُمَا.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ: وَلَوْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْعَيْنُ) صُورَتُهُ رَجُلٌ أَسْلَمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ كُرًّا آخَرَ بِعَيْنِهِ وَدَفَعَ غَرَائِرَهُ إلَيْهِ لِيَجْعَلَ الدَّيْنَ: أَيْ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَالْعَيْنَ وَهُوَ الْمُشْتَرِي فِيهَا فَلَا يَخْلُو الْبَائِعُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا أَوَّلًا الدَّيْنَ أَوْ الْعَيْنَ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي (صَارَ) الْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُمَا جَمِيعًا، أَمَّا الْعَيْنُ فَلِصِحَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ لِمُصَادَفَتِهِ الْمِلْكَ فَكَانَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ كَفِعْلِ الْآمِرِ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ الْمُشْتَرِي فِي الْقَبْضِ كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ كَذَلِكَ نَصًّا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ثَبَتَ ضِمْنًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ قَصْدًا.
وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ بِرِضَاهُ وَالِاتِّصَالُ بِالْمِلْكِ بِالرِّضَا يُثْبِتُ الْقَبْضَ (كَمَنْ اسْتَقْرَضَ حِنْطَةً وَأَمَرَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا فِي أَرْضِهِ، وَكَمَنْ دَفَعَ إلَى صَائِغٍ خَاتَمًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَهُ مِنْ عِنْدِهِ نِصْفَ دِينَارٍ) وَلَا يُشْكِلُ بِالصَّبْغِ، فَإِنَّ الصَّبْغَ وَالْبَيْعَ اتَّصَلَا بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَمْ يَصِرْ قَابِضًا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ الْفِعْلُ لَا الْعَيْنُ، وَالْفِعْلُ لَا يَتَجَاوَزُ الْفَاعِلَ فَلَمْ يَصِرْ مُتَّصِلًا بِالثَّوْبِ فَلَا يَكُونُ قَابِضًا، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا.
أَمَّا الدَّيْنُ فَلِعَدَمِ صِحَّةِ الْأَمْرِ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهِ الْمِلْكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ وَهَذَا عَيْنٌ فَكَانَ الْمَأْمُورُ بِجَعْلِهِ فِي الْغَرَائِرِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْآمِرِ (وَأَمَّا الْعَيْنُ فَلِأَنَّهُ خَلَطَهُ بِمِلْكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ اسْتِهْلَاكٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ) فَإِنْ قِيلَ: الْخَلْطُ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي فَلَا يُنْقَضُ الْبَيْعُ.
أَجَابَ بِأَنَّ الْخَلْطَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا حَصَلَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي بَلْ الْخَلْطُ عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ بِهِ الْآمِرُ قَابِضًا هُوَ الَّذِي كَانَ مَأْذُونًا بِهِ، وَفِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِكَوْنِ الْخَلْطِ غَيْرَ مَرْضِيٍّ بِهِ جَزْمًا، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ (لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْبُدَاءَةَ بِالْعَيْنِ) فَيَكُونُ الدَّلِيلُ أَعَمَّ مِنْ الْمُدَّعَى وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كَلَامُهُ فِي قُوَّةِ الْمُمَانَعَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْخَلْطَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ بِهِ (قَوْلُهُ: لِجَوَازِ) سَنَدُ الْمَنْعِ فَاسْتَقَامَ الْكَلَامُ (وَعِنْدَهُمَا الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِي الْمَخْلُوطِ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ عِنْدَهُمَا). قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ جَارِيَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَبَضَهَا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ ثُمَّ تَقَايَلَا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ قَبْضِهَا، وَلَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ هَلَاكِ الْجَارِيَةِ جَازَ) لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ تَعْتَمِدُ بَقَاءَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ بِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَفِي السَّلَمِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ فَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ حَالَ بَقَائِهِ، وَإِذَا جَازَ ابْتِدَاءٌ فَأَوْلَى أَنْ يَبْقَى انْتِهَاءٌ، لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ انْفَسَخَ فِي الْجَارِيَةِ تَبَعًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا وَقَدْ عَجَزَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا (وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَقَايَلَا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ، وَلَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا هُوَ الْجَارِيَةُ فَلَا يَبْقَى الْعَقْدُ بَعْدَ هَلَاكِهَا فَلَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ ابْتِدَاءً وَلَا تَبْقَى انْتِهَاءً لِانْعِدَامِ مَحِلِّهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ حَيْثُ تَصِحُّ الْإِقَالَةُ وَتَبْقَى بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ جَارِيَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ إلَخْ) رَجُلٌ أَسْلَمَ جَارِيَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَدَفَعَ الْجَارِيَةَ إلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ثُمَّ تَقَايَلَا فَمَاتَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ قَبَضَهَا وَلَمْ تَبْطُلْ الْإِقَالَةُ بِهَلَاكِهَا؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ هَلَاكِ الْجَارِيَةِ كَانَتْ الْإِقَالَةُ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ بَقَاءَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ بِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَفِي السَّلَمِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ فَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ حَالَ بَقَائِهِ، وَإِذَا صَحَّ ابْتِدَاءً صَحَّ انْتِهَاءً؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ انْفَسَخَ فِي الْجَارِيَةِ تَبَعًا فَيَجِبُ رَدُّهَا وَقَدْ عَجَزَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا وَقَامَتْ مَقَامَ الْجَارِيَةِ، فَكَأَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ كَانَ قَائِمًا فَلَا يَرِدُ مَا قِيلَ إنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ هَلَكَتْ، وَالْمُسْلَمَ فِيهِ سَقَطَ بِالْإِقَالَةِ فَصَارَ كَهَلَاكِ الْعِوَضَيْنِ فِي الْمُقَايَضَةِ وَهُوَ يَمْنَعُ الْإِقَالَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْإِقَالَةِ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُقَايَضَةِ وَبَيْنَ بَيْعِ الْجَارِيَةِ بِالدَّرَاهِمِ حَيْثُ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ مِلَاكِهَا بَقَاءً وَابْتِدَاءً، وَمَا فِي الْكِتَابِ طَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ. قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَقَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ شَرَطْتُ رَدِيئًا وَقَالَ رَبُّ السَّلَم لَمْ تَشْتَرِطْ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ) لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ الصِّحَّةَ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فِي الْعَادَةِ، وَفِي عَكْسِهِ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُنْكِرًا.
وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ إلَخْ) إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ، فَمَنْ كَانَ مُتَعَنِّتًا وَهُوَ الَّذِي يُنْكِرُ مَا يَنْفَعُهُ كَانَ كَلَامُهُ بَاطِلًا وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ، وَمَنْ كَانَ مُخَاصِمًا وَهُوَ الَّذِي يُنْكِرُ مَا يَضُرُّهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إنْ ادَّعَى الصِّحَّةَ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ خَصْمُهُ هُوَ الْمُنْكِرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ شَرَطْت رَدِيئًا وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ لَمْ تَشْتَرِطْ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ صِحَّةَ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ عَادَةً فَكَانَ الْقَوْلُ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ وَاخْتَلَفَا فِيمَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِدُونِهِ وَهُوَ بَيَانُ الْوَصْفِ وَالظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِمَا مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ عَلَى وَصْفِ الصِّحَّةِ دُونَ الْفَسَادِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَقَوْلُ مَنْ شَهِدَ لَهُ الظَّاهِرُ أَقْرَبُ إلَى الصِّدْقِ.
وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَإِنَّ النَّقْدَ الْقَلِيلَ خَيْرٌ مِنْ النَّسِيئَةِ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً.
سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ يَرْبُو عَلَيْهِ إذَا كَانَ جَيِّدًا.
وَأَمَّا إذَا كَانَ رَدِيئًا فَمَمْنُوعٌ.
سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّاسَ مَعَ وُفُورِ عُقُولِهِمْ وَشِدَّةِ تَحَرُّزِهِمْ عَنْ الْغَبْنِ فِي الْبِيَاعَاتِ وَكَثْرَةِ رَغْبَتِهِمْ فِي التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ يُقْدِمُونَ عَلَى السَّلَمِ مَعَ اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ، وَذَلِكَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى رِبَا الْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ رَدِيئًا وَالِاعْتِبَارُ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّورَةِ، فَمُنْكِرُ صِحَّةِ الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لَكِنَّهُ مُدَّعٍ فِي الْمَعْنَى فَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَإِنْ انْعَكَسَتْ الْمَسْأَلَةُ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَبُّ السَّلَمِ الْوَصْفَ، وَأَنْكَرَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْمَشَايِخِ (قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُنْكِرًا) وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ (قَوْلُهُ: وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ) يُرِيدُ بِهِ مَا يَذْكُرُهُ بَعْدَهُ بِخُطُوطِ الْقَوْلِ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَهُمَا، وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْبَعِيدِ وَالْمُطَابِقِ وَنُقَرِّرُهُ. (وَلَوْ قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجَلٌ وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ بَلْ كَانَ لَهُ أَجَلٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السَّلَمِ) لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ حَقًّا لَهُ وَهُوَ الْأَجَلُ، وَالْفَسَادُ لِعَدَمِ الْأَجَلِ غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ لِمَكَانِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُعْتَبَرُ النَّفْعُ فِي رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ، بِخِلَافِ عَدَمِ الْوَصْفِ، وَفِي عَكْسِهِ الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ يُنْكِرُ حَقًّا لَهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ كَرَبِّ الْمَالِ إذَا قَالَ لِلْمُضَارِبِ شَرَطْتُ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ إلَّا عَشَرَةَ وَقَالَ الْمُضَارِبُ لَا بَلْ شَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ فَكَانَا مُتَّفِقِينَ عَلَى الصِّحَّةِ ظَاهِرًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فَلَا يُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فَيَبْقَى مُجَرَّدُ دَعْوَى اسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ، أَمَّا السَّلَمُ فَلَازِمٌ فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ مَنْ خَرَجَ كَلَامُهُ تَعَنُّتًا فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ خَرَجَ خُصُومَةٌ وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ فَالْقَوْلُ لِمُدَعِّي الصِّحَّةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لِلْمُنْكِرِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ.
الشَّرْحُ:
وَلَوْ قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجَلٌ وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ بَلْ كَانَ لَهُ أَجَلٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ الْأَجَلُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ بِإِنْكَارِهِ يَدَّعِي فَسَادَ الْعَقْدِ وَسَلَامَةَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَهُ وَهُوَ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فِي الْعَادَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ (بِأَنَّ الْفَسَادَ بِعَدَمِ الْأَجَلِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ لِمَنْ كَانَ الِاجْتِهَادُ) فَإِنَّ السَّلَمَ الْحَالَّ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَيَقَّنًا بِعَدَمِهِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ إنْكَارِهِ رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ النَّفْعُ بِرَدِّ رَأْسِ الْمَالِ مُعْتَبَرًا، بِخِلَافِ عَدَمِ الْوَصْفِ وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَإِنَّ الْفَسَادَ بِعَدَمِهِ مُتَيَقَّنٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خِلَافِ مُخَالِفٍ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَ وَضْعِهَا غَيْرُ صَحِيحٍ.
فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إنَّ الِاخْتِلَافَ كَانَ ثَابِتًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ، لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ، وَفِي عَكْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ الْأَجَلَ وَرَبُّ السَّلَمِ يُنْكِرُهُ الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ حَقًّا عَلَيْهِ وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ كَرَبِّ الْمَالِ إذَا قَالَ لِلْمُضَارِبِ شَرَطْت لَك نِصْفَ الرِّبْحِ إلَّا عَشَرَةً وَقَالَ الْمُضَارِبُ لَا بَلْ شَرَطْت لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَإِنَّ الْقَوْلَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ وَاحِدٌ، إذْ السَّلَمُ الْحَالُّ فَاسِدٌ لَيْسَ بِعَقْدٍ آخَرَ.
وَاخْتَلَفَا فِي جَوَازِهِ وَفَسَادِهِ، وَكَانَا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى الصِّحَّةِ ظَاهِرًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِمَا مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ.
الثَّانِي أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْعَقْدِ الْتِزَامٌ لِشَرَائِطِهِ، وَالْأَجَلُ مِنْ شَرَائِطِ السَّلَمِ فَكَانَ اتَّفَقَاهُمَا عَلَى الْعَقْدِ إقْرَارًا بِالصِّحَّةِ، فَالْمُنْكِرُ بَعْدَهُ سَاعٍ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ وَإِنْكَارُهُ إنْكَارٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِيهَا تَنَوَّعَ مَحَلُّ الِاخْتِلَافِ فَإِنَّهَا إذَا فَسَدَتْ كَانَتْ إجَارَةً، وَإِذَا صَحَّتْ كَانَتْ شَرِكَةً، فَإِذَا اخْتَلَفَا فَالْمُدَّعِي لِلصِّحَّةِ مُدَّعٍ لِعَقْدٍ، وَالْمُدَّعِي لِلْفَسَادِ مُدَّعٍ لِعَقْدٍ آخَرَ خِلَافَهُ، وَوَحْدَةُ الْعَقْدِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ تَسْتَلْزِمُ اعْتِبَارَ الِاخْتِلَافِ الْمُوجِبِ لِلتَّنَاقُضِ الْمَرْدُودِ لِوَحْدَةِ الْمَحَلِّ، وَعَدَمُ وَحْدَتِهِ تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ اعْتِبَارِ الِاخْتِلَافِ لِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ.
وَلَمَّا كَانَ السَّلَمُ عَقْدًا وَاحِدًا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ إنْكَارًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَهُوَ تَنَاقُضٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ الْإِنْكَارُ، وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَهِيَ لَيْسَتْ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فَكَانَ الْمَحَلُّ مُخْتَلِفًا وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ الِاخْتِلَافُ مُعْتَبَرًا فَكَأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ فِي مَالِ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ.
وَعَبَّرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْوَحْدَةِ بِاللُّزُومِ؛ لِأَنَّهُ بِالْفَسَادِ لَا يَنْقَلِبُ عَقْدًا آخَرَ وَعَنْ غَيْرِهَا بِغَيْرِ اللُّزُومِ لِانْقِلَابِهِ عَقْدًا آخَرَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْعُذْرُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ فِي الْمُضَارَبَةِ يُشْكِلُ بِمَا لَوْ قَالَ شَرَطْت لَك نِصْفَ الرِّبْحِ وَزِيَادَةَ عَشَرَةٍ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ لَا بَلْ شَرَطْت لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَإِنَّ الْقَوْلَ لِلْمُضَارِبِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ الِاخْتِلَافُ وَيَكُونَ الْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لِإِنْكَارِهِ مَا يَدَّعِيهِ الْمُضَارِبُ فِي مَالِهِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُذْرَ الْمَذْكُورَ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى انْتِفَاءِ وُرُودِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَهَاهُنَا قَدْ وَرَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَدْ أَثْبَتَ لَهُ بِقَوْلِهِ شَرَطْت لَك نِصْفَ الرِّبْحِ مَا يَدَّعِيهِ وَيَدَّعِي بِقَوْلِهِ وَزِيَادَةَ عَشَرَةٍ فَسَادَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ إنْكَارٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ يُقَرِّرُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ، كَمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي فَيَكُونُ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ وَرَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ بَاطِلٌ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ وَهُوَ الْمُضَارِبُ كَمَا فِي السَّلَمِ، وَهَذَا الْمَحَلُّ مُخْتَصٌّ بِهَذَا الْكِتَابِ وَجُهْدُ الْمُقِلِّ دُمُوعُهُ. قَالَ (وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ إذَا بَيَّنَ طُولًا وَعَرْضًا وَرُقْعَةً) لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي مَعْلُومٍ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ ثَوْبُ حَرِيرٍ لابد مِنْ بَيَانِ وَزْنِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ إلَخْ) السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ جَائِزٌ إذَا بَيَّنَ الطُّولَ وَالْعَرْضَ وَالرُّقْعَةَ.
يُقَالُ رُقْعَةُ هَذَا الثَّوْبِ جَيِّدَةٌ يُرَادُ غِلَظُهُ وَثَخَانَتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي مَعْلُومٍ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبَ حَرِيرٍ وَهُوَ الْمُتَّخَذُ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ الْمَطْبُوخِ لابد مِنْ بَيَانِ وَزْنِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحَرِيرِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ، فَذِكْرُ الطُّولِ وَالْعَرْضِ لَيْسَ بِكَافٍ وَلَا ذِكْرُ الْوَزْنِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ رُبَّمَا يَأْتِي وَقْتُ حُلُولِ الْأَجَلِ بِقَطْعِ حَرِيرٍ بِذَلِكَ الْوَزْنِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُرَادٍ لَا مَحَالَةَ، وَأَمَّا فِي الثِّيَابِ فَالْوَزْنُ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اشْتِرَاطَ الْوَزْنِ فِي الْوَذَارِيِّ وَمَا يَخْتَلِفُ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ. (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجَوَاهِرِ وَلَا فِي الْخَرَزِ) لِأَنَّ آحَادَهَا مُتَفَاوِتَةٌ تَفَاوُتًا فَاحِشًا وَفِي صِغَارِ اللُّؤْلُؤِ الَّتِي تُبَاعُ وَزْنًا يَجُوزُ السَّلَمُ لِأَنَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْوَزْنِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجَوَاهِرِ إلَخْ) الْعَدَدِيُّ الَّذِي تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ كَالْجَوَاهِرِ وَاللَّآلِئِ وَالرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ لِإِفْضَائِهِ إلَى النِّزَاعِ.
وَفِي الَّذِي لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ جَازَ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَفِي صِغَارِ اللُّؤْلُؤِ الَّتِي تُبَاعُ وَزْنًا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْوَزْنِ فَلَا تَفَاوُتَ فِي الْمَالِيَّةِ. (وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي اللَّبِنِ وَالْآجُرِّ إذَا سَمَّى مَلْبَنًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَقَارِبٌ لاسيما إذَا سُمِّيَ الْمَلْبَنُ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي اللَّبَنِ وَالْآجُرِّ) إذَا اشْتَرَطَ فِيهِ مَلْبَنًا مَعْرُوفًا؛ لِأَنَّهُ إذَا سَمَّى الْمَلْبَنَ صَارَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ لَبَنٍ وَلَبَنٍ يَسِيرًا فَيَكُونُ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ. قَالَ (وَكُلُّ مَا أَمْكَنَ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ) لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ (وَمَا لَا يُضْبَطُ صِفَتُهُ وَلَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ، وَبِدُونِ الْوَصْفِ يَبْقَى مَجْهُولًا جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَكُلُّ مَا أَمْكَنَ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ إلَخْ) هَذِهِ قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ تَشْمَلُ جَمِيعَ جُزْئِيَّاتِ مَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ وَمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَكَسَهَا فَقَالَ وَمَا لَا يُضْبَطُ صِفَتُهُ وَلَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَلَا يَنْعَكِسُ قَوْلُنَا كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ إلَى كُلُّ مَا لَيْسَ بِإِنْسَانٍ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ ذَكَرَ الْقَاعِدَةَ بَعْدَ ذِكْرِ الْفُرُوعِ، وَالْأَصْلُ ذِكْرُ الْقَاعِدَةِ أَوَّلًا ثُمَّ تَفْرِيعُ الْفُرُوعِ عَلَيْهَا.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ جَوَازَ السَّلَمِ يَسْتَلْزِمُ إمْكَانَ ضَبْطِ الصِّفَةِ وَمَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ» الْحَدِيثَ، وَحِينَئِذٍ كَانَ مِثْلَ قَوْلِنَا كُلُّ إنْسَانٍ نَاطِقٌ وَهُوَ يَنْعَكِسُ إلَى قَوْلِنَا كُلُّ مَا لَيْسَ بِإِنْسَانٍ لَيْسَ بِنَاطِقٍ.
وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْقَاعِدَةِ عَلَى الْفُرُوعِ يَلِيقُ بِوَضْعِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَمَّا فِي الْفِقْهِ فَالْمَقْصُودُ مَعْرِفَةُ الْمَسَائِلِ الْجُزْئِيَّةِ فَتُقَدَّمُ الْفُرُوعُ ثُمَّ يُذْكَرُ مَا هُوَ الْأَصْلُ الْجَامِعُ لِلْفُرُوعِ الْمُتَقَدِّمَةِ. (وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي طَسْتٍ أَوْ قُمْقُمَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إذَا كَانَ يُعْرَفُ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ السَّلَمِ (وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ فَلَا خَيْرَ فِيهِ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ مَجْهُولٌ.
قَالَ (وَإِنْ اسْتَصْنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَجَلٍ جَازَ اسْتِحْسَانًا) لِلْإِجْمَاعِ الثَّابِتِ بِالتَّعَامُلِ.
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعًا لَا عِدَةً، وَالْمَعْدُومُ قَدْ يُعْتَبَرُ مَوْجُودًا حُكْمًا، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ دُونَ الْعَمَلِ، حَتَّى لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا لَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ مِنْ صَنْعَتِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَأَخَذَهُ جَازَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالِاخْتِيَارِ، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ الصَّانِعُ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ جَازَ، وَهَذَا كُلُّهُ هُوَ الصَّحِيحُ.
قَالَ (وَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ) لِأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ وَلَا خِيَارَ لِلصَّانِعِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ قَطْعُ الصَّرْمِ وَغَيْرِهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُمَا.
أَمَّا الصَّانِعُ فَلِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا الْمُسْتَصْنِعُ فَلِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ إضْرَارًا بِالصَّانِعِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَشْتَرِيهِ غَيْرُهُ بِمِثْلِهِ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لِلنَّاسِ كَالثِّيَابِ لِعَدَمِ الْمُجَوَّزِ وَفِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا أَمْكَنَ إعْلَامُهُ بِالْوَصْفِ لِيُمْكِنَ التَّسْلِيمُ، وَإِنَّمَا قَالَ بِغَيْرِ أَجَلٍ لِأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ الْأَجَلَ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ يَصِيرُ سَلَمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ ضَرَبَهُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ يَصِيرُ سَلَمًا بِالِاتِّفَاقِ.
لَهُمَا أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ لِلِاسْتِصْنَاعِ فَيُحَافَظُ عَلَى قَضِيَّتِهِ وَيُحْمَلُ الْأَجَلُ عَلَى التَّعْجِيلِ، بِخِلَافِ مَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لِأَنَّهُ اسْتِصْنَاعٌ فَاسِدٌ فَيُحْمَلُ عَلَى السَّلَمِ الصَّحِيحِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ دَيْنٌ يَحْتَمِلُ السَّلَمَ، وَجَوَازُ السَّلَمِ بِإِجْمَاعٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَفِي تَعَامُلِهِمْ الِاسْتِصْنَاعُ نَوْعُ شُبْهَةٍ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى السَّلَمِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي طَسْتٍ أَوْ قُمْقُمٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ فِيهَا شَرَائِطُ السَّلَمِ، وَإِلَّا فَلَا خَيْرَ فِيهِ) أَيْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ خَيْرٌ فَيَنْتَفِي.
قَالَ (وَإِنْ اسْتَصْنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ ذِكْرِ الْأَجَلِ جَازَ إلَخْ) الِاسْتِصْنَاعُ هُوَ أَنْ يَجِيءَ إنْسَانٌ إلَى صَانِعٍ فَيَقُولَ اصْنَعْ لِي شَيْئًا صُورَتُهُ كَذَا وَقَدْرُهُ كَذَا بِكَذَا دِرْهَمًا وَيُسْلِمُ إلَيْهِ جَمِيعَ الدَّرَاهِمِ أَوْ بَعْضَهَا أَوْ لَا يُسْلِمُ، وَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ: أَيْ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ طَسْتٍ وَقُمْقُمٍ وَخُفَّيْنِ أَوْ لَا.
وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا كَمَا سَيَجِيءُ وَالْأَوَّلُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَقَدْ نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَلَمٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضْرَبْ لَهُ أَجَلٌ، إلَيْهِ أَشَارَ قَوْلُهُ: بِغَيْرِ أَجَلٍ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الْإِجْمَاعُ الثَّابِتُ بِالتَّعَامُلِ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ تَعَارَفُوا الِاسْتِصْنَاعَ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِمِثْلِهِ كَدُخُولِ الْحَمَّامِ، وَلَا يُشْكِلُ بِالْمُزَارَعَةِ فَإِنَّ فِيهَا لِلنَّاسِ تَعَامُلًا، وَهِيَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِيهَا كَانَ ثَابِتًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ دُونَ الِاسْتِصْنَاعِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ هَلْ هُوَ بَيْعٌ أَوْ عِدَةٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بَيْعٌ لَا عِدَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا، وَكَانَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ يَقُولُ: هُوَ مُوَاعَدَةٌ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِالتَّعَاطِي إذَا جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا، وَلِهَذَا يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ.
وَجْهُ الْعَامَّةِ أَنَّهُ سَمَّاهُ فِي الْكِتَابِ بَيْعًا وَأَثْبَتَ فِيهِ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، وَذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ لَا فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ، كَمَا إذَا طَلَبَ مِنْ الْحَائِكِ أَنْ يَنْسِجَ لَهُ ثَوْبًا بِغَزْلٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ الْخَيَّاطِ أَنْ يَخِيطَ لَهُ قَمِيصًا بِكِرْبَاسَ مِنْ عِنْدِهِ، وَالْمُوَاعَدَةُ تَجُوزُ فِي الْكُلِّ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَاعَدَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا إذَا تَبَايَعَا عَرَضَا بِعَرْضٍ وَلَمْ يَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا اشْتَرَاهُ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارَ وَهُوَ بَيْعٌ مَحْضٌ لَا مَحَالَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْعًا وَالْمَعْدُومُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا.
أَجَابَ (بِأَنَّ الْمَعْدُومَ قَدْ يُعْتَبَرُ مَوْجُودًا حُكْمًا) كَالنَّاسِي لِلتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ جُعِلَتْ مَوْجُودَةً لِعُذْرِ النِّسْيَانِ، وَالطَّهَارَةِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ جُعِلَتْ مَوْجُودَةً لِعُذْرِ جَوَازِ الصَّلَوَاتِ لِئَلَّا تَتَضَاعَفَ الْوَاجِبَاتُ، فَكَذَلِكَ الْمُسْتَصْنَعُ الْمَعْدُومُ جُعِلَ مَوْجُودًا حُكْمًا لِلتَّعَامُلِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَيْنَ الْمُسْتَصْنَعَ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الصُّنْعَ.
أَجَابَ (بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْعَيْنُ دُونَ الْعَمَلِ، حَتَّى لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا لَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ مِنْ صَنْعَتِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَأَخَذَهُ جَازَ) وَفِيهِ نَفْيٌ لِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِصْنَاعَ طَلَبُ الصُّنْعِ وَهُوَ الْعَمَلُ.
وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْعًا لَمَا بَطَلَ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَكِنَّهُ يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، ذَكَرَهُ فِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ لِلِاسْتِصْنَاعِ شَبَهًا بِالْإِجَارَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهِ طَلَبَ الصُّنْعِ وَهُوَ الْعَمَلُ، وَشَبَهًا بِالْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْعَيْنُ الْمُسْتَصْنَعُ، فَلِشَبَهِهِ بِالْإِجَارَةِ قُلْنَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَلِشَبَهِهِ بِالْبَيْعِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ أَجْرَيْنَا فِيهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَأَثْبَتْنَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَلَمْ نُوجِبْ تَعْجِيلَ الثَّمَنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الصَّبَّاغِ، فَإِنَّ فِي الصَّبْغِ الْعَمَلَ وَالْعَيْنَ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ، وَذَلِكَ إجَارَةٌ مَحْضَةٌ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الصَّبْغَ أَصْلٌ وَالصَّبْغُ آلَتُهُ فَكَانَ الْمَقْصُودُ فِيهِ الْعَمَلَ وَذَلِكَ إجَارَةٌ وَرَدَتْ عَلَى الْعَمَلِ فِي عَيْنِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَهَاهُنَا الْأَصْلُ هُوَ الْعَيْنُ الْمُسْتَصْنَعُ الْمَمْلُوكُ لِلصَّانِعِ فَيَكُونُ بَيْعًا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ مِنْ حَيْثُ وَصْفُهُ إلَّا بِالْعَمَلِ أَشْبَهَ الْإِجَارَةَ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ لَا غَيْرُ (وَلَا يَتَعَيَّنُ) الْمُسْتَصْنَعُ (إلَّا بِاخْتِيَارِ) الْمُسْتَصْنِعِ (حَتَّى لَوْ بَاعَهُ الصَّانِعُ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ جَازَ وَهَذَا كُلُّهُ) أَيْ كَوْنُهُ بَيْعًا لَا عِدَةً، وَكَوْنُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ هُوَ الْعَيْنَ دُونَ الْعَمَلِ، وَعَدَمُ تَعَيُّنِهِ إلَّا بِاخْتِيَارِهِ (هُوَ الصَّحِيحُ) وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ فِي كُلٍّ مِنْهَا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
قَالَ (وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ إلَخْ) أَيْ الْمُسْتَصْنِعُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ فَلَهُ الْخِيَارُ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا خِيَارَ لِلصَّانِعِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، فَيُجْبَرُ عَلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ بَائِعٌ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ لَا خِيَارَ لَهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ بِنَاءً عَلَى جَعْلِهِ بَيْعًا لَا عِدَةً.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ أَيْضًا إنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ قَطْعُ الصَّرْمِ وَإِتْلَافُ الْخَيْطِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُمَا.
أَمَّا الصَّانِعُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا، وَأَمَّا الْمُسْتَصْنِعُ فَلِأَنَّ الصَّانِعَ أَتْلَفَ مَالَهُ بِقَطْعِ الصَّرْمِ وَغَيْرِهِ لِيَصِلَ إلَى بَدَلِهِ، فَلَوْ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ تَضَرَّرَ الصَّانِعُ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَشْتَرِيهِ بِمِثْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاعِظَ إذَا اسْتَصْنَعَ مِنْبَرًا وَلَمْ يَأْخُذْهُ فَالْعَامِّيُّ لَا يَشْتَرِيهِ أَصْلًا.
فَإِنْ قِيلَ: الضَّرَرُ حَصَلَ بِرِضَاهُ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا.
أُجِيبَ بِجَوَازٍ أَنْ يَكُونَ الرِّضَا عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْمُسْتَصْنِعَ مَجْبُورٌ عَلَى الْقَبُولِ فَلَمَّا عَلِمَ اخْتِيَارَهُ عَدَمَ رِضَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: ذَلِكَ لِجَهْلٍ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ خِيَارَ الْمُسْتَصْنِعِ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَمْ يَجِبْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عِلْمُ أَقْوَالِ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِنَّمَا الْجَهْلُ لَيْسَ بِعُذْرٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْفَرَائِضِ الَّتِي لابد لِإِقَامَةِ الدِّينِ مِنْهَا لَا فِي حِيَازَةِ اجْتِهَادِ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ إذَا زَوَّجَ الصَّغِيرَةَ بِحُرٍّ ثُمَّ بَلَغَتْ فَإِنَّ لَهَا خِيَارَ الْبُلُوغِ، فَإِنْ سَكَتَتْ لِجَهْلِهَا بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِعُذْرٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْفَرَائِضِ الَّتِي لابد لِإِقَامَةِ الدِّينِ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِصْنَاعُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الثِّيَابِ وَالْقُمْصَانِ إبْقَاءً لَهُ عَلَى الْقِيَاسِ السَّالِمِ عَنْ مُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ أَجَلٍ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا ضُرِبَ لَهُ أَجَلٌ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ سَلَمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا.
وَأَمَّا إذَا ضُرِبَ الْأَجَلُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ سَلَمًا بِالِاتِّفَاقِ، وَالْمُرَادُ بِضَرْبِ الْأَجَلِ مَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْهَالِ، أَمَّا الْمَذْكُورُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْجَالِ بِأَنْ قَالَ عَلَى أَنْ يَفْرُغَ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ لَا يُصَيِّرُهُ سَلَمًا؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ حِينَئِذٍ لِلْفَرَاغِ لَا لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ وَيُحْكَى عَنْ الْهِنْدُوَانِيِّ أَنَّ ذِكْرَ الْمُدَّةِ إنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمُسْتَصْنِعِ فَهُوَ لِلِاسْتِعْجَالِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ سَلَمًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الصَّانِعِ فَهُوَ سَلَمٌ؛ لِأَنَّهُ يَذْكُرُهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْهَالِ، وَفِيمَا إذَا صَارَ سَلَمًا يُعْتَبَرُ شَرَائِطُ السَّلَمِ الْمَذْكُورَةِ لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِي الِاسْتِصْنَاعِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِصْنَاعِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ سَلَمًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَهُوَ مُمْكِنُ الْعَمَلِ، وَذِكْرُ الْأَجَلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ سَلَمًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُحَكَّمٍ فِيهِ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْجِيلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ اجْتَمَعَ الْمُحَكَّمُ وَالْمُحْتَمَلُ فَيُحْمَلُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ (بِخِلَافِ مَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ فَإِنَّهُ اسْتِصْنَاعٌ فَاسِدٌ فَيُحْمَلُ عَلَى السَّلَمِ الصَّحِيحِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ دَيْنٌ يَحْتَمِلُ السَّلَمِ) وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّفْظَ مُحَكَّمٌ فِي الِاسْتِصْنَاعِ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْأَجَلِ أَدْخَلَهُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ، وَإِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى السَّلَمِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ بِالْإِجْمَاعِ بِلَا شُبْهَةٍ فِيهِ (وَفِي تَعَامُلِهِمْ الِاسْتِصْنَاعُ نَوْعُ شُبْهَةٍ) يُرِيدُ بِهِ أَنَّ فِي فِعْلِ الصَّحَابَةِ فِي تَعَامُلِهِمْ الِاسْتِصْنَاعُ شُبْهَةٌ؛ وَلِأَنَّ السَّلَمَ ثَابِتٌ بِآيَةِ الْمُدَايَنَةِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الِاسْتِصْنَاعِ