فصل: مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ:

(وَإِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبَدًا) لِأَنَّهُ نَفَى الْفِعْلَ مُطْلَقًا فَعَمَّ الِامْتِنَاعُ ضَرُورَةَ عُمُومِ النَّفْيِ (وَإِنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا فَفَعَلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً بَرَّ فِي يَمِينِهِ) لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ فِعْلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَيْنٍ، إذْ الْمَقَامُ مَقَامُ الْإِثْبَاتِ فَيَبَرُّ بِأَيِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِمَوْتِهِ أَوْ بِفَوْتِ مَحَلِّ الْفِعْلِ.
الشَّرْحُ:
مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ أَيْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي أَذْكُرُهَا مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ، وَمِنْ دَأْبِ الْمُصَنِّفِينَ ذِكْرُ مَا شَذَّ مِنْ الْأَبْوَابِ فِي آخِرِ الْكِتَابِ (وَإِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبَدًا) الْيَمِينُ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ أَوْ تَرْكِهِ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ كَيَوْمٍ وَشَهْرٍ أَوْ مُطْلَقَةٍ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى التَّرْكِ تَرَكَهُ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْفِعْلِ بَرَّ بِفِعْلِهِ مَرَّةً عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا مُخْتَارًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصْدَرِهِ اشْتِمَالَ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ، وَهُوَ مُنَكَّرٌ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى التَّعْرِيفِ، وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ فَيُوجِبُ عُمُومَ الِامْتِنَاعِ، وَفِي الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ، فَإِنْ فَعَلَهُ فِي صُورَةِ النَّفْيِ مَرَّةً حَنِثَ، وَإِنْ فَعَلَهُ فِي صُورَةِ الْإِثْبَاتِ مَرَّةً بَرَّ (وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِمَوْتِ الْحَالِفِ أَوْ بِفَوْتِ مَحَلِّ الْفِعْلِ) فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِيهِ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ وَإِنْ وَقَعَ الْيَأْسُ بِمَوْتِهِ أَوْ بِفَوْتِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْوَقْتَ مَانِعٌ مِنْ الِانْحِلَالِ، إذْ لَوْ انْحَلَّ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّوْقِيتِ فَائِدَةٌ (وَإِذَا اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لِيُعْلِمَنَّهُ بِكُلِّ دَاعِرٍ دَخَلَ الْبَلَدَ فَهَذَا عَلَى حَالِ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ دَفْعُ شَرِّهِ أَوْ شَرِّ غَيْرِهِ بِزَجْرِهِ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ بَعْدَ زَوَالِ سَلْطَنَتِهِ، وَالزَّوَالُ بِالْمَوْتِ وَكَذَا بِالْعَزْلِ إلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لِيُعْلِمَنهُ بِكُلِّ دَاعِرٍ) أَيْ مُفْسِدٍ خَبِيثٍ مِنْ الدَّعَارَةِ وَهِيَ الْخُبْثُ وَالْفَسَادُ (دَخَلَ الْبَلَدَ كَانَ الْإِعْلَامُ وَاجِبًا حَالَ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً) وَلَيْسَ يَلْزَمُ الْإِعْلَامُ حَالَ دُخُولِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُؤَخِّرَ الْإِعْلَامَ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَالِي أَوْ عَزْلِهِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْإِعْلَامِ (دَفْعُ شَرِّهِ) أَيْ شَرُّ نَفْسِ الدَّاعِرِ (أَوْ شَرُّ غَيْرِهِ بِزَجْرِهِ) فَإِنَّ الْوَالِيَ إذَا زَجَرَهُ وَأَدَّبَهُ لِدِعَارَتِهِ يَنْزَجِرُ غَيْرُهُ مِنْ الدَّعَارَةِ لَوْ كَانَتْ فِي قَصْدِهِ أَوْ نِيَّتِهِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ إنَّمَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ إذَا كَانَ الْوَالِي قَادِرًا عَلَى تَنْفِيذِهِ وَذَلِكَ بِالسَّلْطَنَةِ وَالسَّلْطَنَةُ تَزُولُ بِالْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ (وَكَذَلِكَ بِالْعَزْلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِعْلَامُ عَلَى الْحَالِفِ بَعْدَ عَزْلِ الْمُسْتَحْلَفِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُفِيدٌ فِي الْجُمْلَةِ. (وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ) خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِثْلُهُ.
وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ وَلِهَذَا يُقَالُ وُهِبَ وَلَمْ يَقْبَلْ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ السَّمَاحَةِ وَذَلِكَ يَتِمُّ بِهِ، أَمَّا الْبَيْعُ فَمُعَاوَضَةٌ فَاقْتَضَى الْفِعْلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ) (حَلَفَ أَنْ يَهَبَ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبُولِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِثُبُوتِهِ إلَّا أَنَّهُ بِالرَّدِّ يُنْتَقَضُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِعَدَمِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مَحْرَمًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ الضَّرَرِ فَيَتَوَقَّفُ الثُّبُوتُ عَلَى الْقَبُولِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَكُلِّ عَقْدٍ فِيهِ بَدَلٌ لِأَنَّهُ تَمَلُّكٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ تَمَامُهُ بِهِمَا (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ رَيْحَانًا فَشَمَّ وَرْدًا أَوْ يَاسَمِينًا لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ وَلَهُمَا سَاقٌ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ رَيْحَانًا فَشَمَّ وَرْدًا أَوْ يَاسَمِينًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ وَلَهُمَا سَاقٌ) قِيلَ هَذَا تَفْسِيرُ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَقَلَّدَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَالْمُصَنِّفُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي قَوَانِينِ اللُّغَةِ الرَّيْحَانُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَصْلًا.
وَجَوَابُهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ أَنَّ لِسَاقِهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً كَمَا لِوَرَقِهِ اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي اللُّغَةِ، عَلَى أَنَّ نَفْيَهُ فِي اللُّغَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ فِي أَوْضَاعِ اللُّغَةِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ.
وَقِيلَ فِي الضَّابِطِ بَيْنَ الْوَرْدِ وَالرَّيْحَانِ أَنَّ مَا يَنْبُتُ مِنْ بِزْرِهِ مِمَّا لَا شَجَرَ لَهُ وَلِعَيْنِهِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ فَهُوَ رَيْحَانٌ، وَمَا يَنْبُتُ مِنْ الشَّجَرِ وَلِوَرَقِهِ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ فَهُوَ وَرْدٌ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى دُهْنِهِ) اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ وَلِهَذَا يُسَمَّى بَائِعُهُ بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ وَالشِّرَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ (وَإِنْ حَلَفَ عَلَى الْوَرْدِ فَالْيَمِينُ عَلَى الْوَرَقِ) لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَالْعُرْفُ مُقَرِّرٌ لَهُ، وَفِي الْبَنَفْسَجِ قَاضٍ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا فَاشْتَرَى دُهْنَ بَنَفْسَجٍ حَنِثَ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ وَلِهَذَا يُسَمَّى بَائِعُهُ بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ وَالشِّرَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْبَيْعِ وَهَذَا فِي عُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى الْوَرْدِ فَالْيَمِينُ عَلَى الْوَرَقِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْوَرْدَ (حَقِيقَةٌ فِيهِ) أَيْ فِي الْوَرَقِ (وَالْعُرْفُ مُقَرِّرٌ لَهُ) أَيْ لِوُقُوعِ الْيَمِينِ عَلَى الْحَقِيقَةِ: يَعْنِي أَنَّ اسْمَ الْوَرْدِ عَلَى الْوَرَقِ حَقِيقَةٌ، وَفِي الْعُرْفِ أَيْضًا يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ فَكَانَ الْعُرْفُ مُقَرِّرًا لِلْوُقُوعِ عَلَى الْحَقِيقَةِ (وَفِي الْبَنَفْسَجِ قَاضٍ عَلَيْهِ) أَيْ غَالِبٌ رَاجِحٌ: يَعْنِي أَنَّ اسْمَ الْبَنَفْسَجِ يَقَعُ عَلَى عَيْنِ الْبَنَفْسَجِ حَقِيقَةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا عَلَى دُهْنِهِ، وَلَكِنْ الْعُرْفُ غَيْرُ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ مِنْ عَيْنِهِ إلَى دُهْنِهِ فَكَانَ الْعُرْفُ غَالِبًا وَرَاجِحًا فِي اسْمِ الْبَنَفْسَجِ عَلَى حَقِيقَتِهِ كِتَابُ: الْحُدُودِ.

.كِتَابُ الْحُدُودِ :

قَالَ: الْحَدُّ لُغَةً: هُوَ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ الْحَدَّادُ لِلْبَوَّابِ.
وَفِي الشَّرِيعَةِ: هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ.
وَالْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ مِنْ شَرْعِهِ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ، وَالطَّهَارَةُ لَيْسَتْ أَصْلِيَّةً فِيهِ بِدَلِيلِ شَرْعِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْحُدُودِ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْأَيْمَانِ وَكَفَّارَتِهَا الدَّائِرَةِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ أَوْرَدَ عَقِيبَهَا الْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةَ.
وَمَحَاسِنُ الْحُدُودِ كَثِيرَةٌ لِمَا أَنَّهَا تَرْفَعُ الْفَسَادَ الْوَاقِعَ فِي الْعَالَمِ وَتَحْفَظُ النُّفُوسَ وَالْأَعْرَاضَ وَالْأَمْوَالَ سَالِمَةً عَنْ الِابْتِذَالِ.
وَأَمَّا سَبَبُهَا فَسَبَبُ كُلٍّ مِنْهَا مَا أُضِيفَ إلَيْهِ مِثْلَ حَدِّ الزِّنَا وَحَدِّ الْقَذْفِ وَغَيْرِهِمَا.
وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ لُغَةً وَشَرِيعَةً وَالْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ مِنْ شَرْعِهِ وَهُوَ الْحُكْمُ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَقَوْلُهُ (الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ) يُرِيدُ بِهِ إفْسَادَ الْفُرُشِ وَإِضَاعَةَ الْأَنْسَابِ وَإِتْلَافَ الْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ، وَكَلَامُهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْحُدُودَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَقْصِدٍ أَصْلِيٍّ يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّاسِ كَافَّةً وَهُوَ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ.
وَغَيْرُ أَصْلِيٍّ وَهُوَ الطَّهَارَةُ عَنْ الذُّنُوبِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ يُجَوِّزُ زَوَالَ الذُّنُوبِ عَنْهُ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَلِهَذَا شُرِعَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ وَلَا يَطْهُرُ عَنْ ذَنْبِهِ بِإِجْرَاءِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. قَالَ (الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ) وَالْمُرَادُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَا الْإِقْرَارُ لِأَنَّ الصِّدْقَ فِيهِ مُرَجَّحٌ لاسيما فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِثُبُوتِهِ مَضَرَّةٌ وَمَعَرَّةٌ، وَالْوُصُولُ إلَى الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ مُتَعَذِّرٌ، فَيُكْتَفَى بِالظَّاهِرِ.
قَالَ (فَالْبَيِّنَةُ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ عَلَى رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ بِالزِّنَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}, «وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي قَذَفَ امْرَأَتَهُ ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِك» وَلِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى السَّتْرِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَالْإِشَاعَةُ ضِدُّهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ) الزِّنَا يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، فَالْقَصْرُ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْمَدُّ لِأَهْلِ نَجْدٍ.
قَالَ الْفَرَزْدَقُ: أَبَا حَاضِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفُ زِنَاؤُهُ وَمَنْ يَشْرَبْ الْخُرْطُومَ يُصْبِحُ مُسْكَرًا يُخَاطِبُ رَجُلًا يُكَنَّى أَبَا حَاضِرٍ، وَالْخُرْطُومُ الْخَمْرُ، وَالْمُسْكَرُ بِفَتْحِ الْكَافِ الْمَخْمُورُ.
وَتَفْسِيرُهُ فِي الشَّرْعِ قَضَاءُ الْمُكَلَّفِ شَهْوَتَهُ فِي قُبُلِ امْرَأَةٍ خَالِيَةٍ عَنْ الْمِلْكَيْنِ وَشُبْهَتِهِمَا لَا شُبْهَةَ الِاشْتِبَاهِ وَتَمْكِينِ الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ.
وَاخْتِيرَ لَفْظُ الْقَضَاءِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِيلَاجِ زِنًا، وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِهِ الْغُسْلُ، وَالْمُكَلَّفُ لِيَخْرُجَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ، وَالْمُرَادُ بِالْمِلْكَيْنِ مِلْكُ النِّكَاحِ وَمِلْكُ الْيَمِينِ وَبِشُبْهَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ مَا إذَا وَطِئَ امْرَأَةً تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَمَا أَشْبَهَهُ.
وَبِشُبْهَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ، مَا إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ، وَبِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ مَا إذَا وَطِئَ الِابْنُ جَارِيَةَ أَبِيهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ.
وَالزِّنَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْمُرَادُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ) وَإِنَّمَا قَالَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الزِّنَا عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ يَثْبُتُ بِفِعْلِهِمَا وَيَتَحَقَّقُ فِي الْخَارِجِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَا بَيِّنَةَ وَلَا إقْرَارَ، وَإِنَّمَا انْحَصَرَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ ثُبُوتُهُ بِعِلْمِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} وَقَوْلُهُ (مَعَرَّةً وَمَضَرَّةً) الْمَضَرَّةُ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْبَدَنِ، وَالْمَعَرَّةُ ضَرَرٌ يَتَّصِلُ بِبَدَنِهِ وَيَسْرِي إلَى بَاطِنِهِ مِنْ لُحُوقِ الْعَارِ بِانْتِسَابِهِ إلَى الزِّنَا.
وَقَوْلُهُ (فَالْبَيِّنَةُ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ تَحْقِيقَ مَعْنَى السَّتْرِ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّمَا اشْتَرَطَ الْأَرْبَعَ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِاثْنَيْنِ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَاحِدِ كَمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ كَذَلِكَ يَثْبُتُ بِهَا فِعْلُ الِاثْنَيْنِ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَبَّ السَّتْرَ عَلَى عِبَادِهِ وَشَرَطَ زِيَادَةَ الْعَدَدِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى السَّتْرِ.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ السَّتْرُ (مَنْدُوبٌ إلَيْهِ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ» وَقَالَ: «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» (وَالْإِشَاعَةُ ضِدُّهُ) أَيْ إظْهَارُ الزِّنَا ضِدُّ سَتْرِ الزِّنَا، فَكَانَ وَصْفُ الْإِشَاعَةِ عَلَى ضِدِّ وَصْفِ السَّتْرِ لَا مَحَالَةَ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ السَّتْرُ أَمْرًا مَنْدُوبًا إلَيْهِ كَانَتْ الْإِشَاعَةُ أَمْرًا مَذْمُومًا (وَإِذَا شَهِدُوا سَأَلَهُمْ الْإِمَامُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَمَتَى زَنَى وَبِمَنْ زَنَى؟) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَفْسَرَ مَاعِزًا عَنْ الْكَيْفِيَّةِ وَعَنْ الْمُزَنِيَّةِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ عَسَاهُ غَيْرُ الْفِعْلِ فِي الْفَرْجِ عَنَاهُ أَوْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي الْمُتَقَادِمِ مِنْ الزَّمَانِ أَوْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ لَا يَعْرِفُهَا هُوَ وَلَا الشُّهُودُ كَوَطْءِ جَارِيَةِ الِابْنِ فَيَسْتَقْصِي فِي ذَلِكَ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ (فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَقَالُوا رَأَيْنَاهُ وَطِئَهَا فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُمْ فَعُدِّلُوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ) وَلَمْ يَكْتَفِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْحُدُودِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، «قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَتَعْدِيلُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ نُبَيِّنُهُ فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ فِي الْأَصْلِ: يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لِلِاتِّهَامِ بِالْجِنَايَةِ وَقَدْ حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ، بِخِلَافِ الدُّيُونِ حَيْثُ لَا يُحْبَسُ فِيهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ، وَسَيَأْتِيك الْفَرْقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا شَهِدُوا سَأَلَهُمْ الْإِمَامُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ) احْتِرَازًا عَنْ الْغَلَطِ فِي الْمَاهِيَّةِ (وَكَيْفَ هُوَ) احْتِرَازًا عَنْ الْغَلَطِ فِي الْكَيْفِيَّةِ (وَأَيْنَ زَنَى) احْتِرَازًا عَنْهُ فِي الْمَكَانِ وَمَتَى زَنَى احْتِرَازًا عَنْهُ فِي الزَّمَانِ (وَعَنْ الْمُزَنِيَّةِ) احْتِرَازًا عَنْهُ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السُّؤَالِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ مَاعِزًا» إلَى أَنْ ذَكَرَ الْكَافَ وَالنُّونَ: يَعْنِي كَلِمَةَ نُكْت لِكَوْنِهِ صَرِيحًا فِي الْبَابِ وَالْبَاقِي كِنَايَةٌ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ الْفِعْلُ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ عَنَاهُ فَلَا يَكُونُ مَاهِيَّةُ الزِّنَا وَلَا كَيْفِيَّتُهُ مَوْجُودَةً، أَوْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، أَوْ فِي الْمُتَقَادِمِ مِنْ الزَّمَانِ وَذَلِكَ يُسْقِطُ الْحَدَّ، أَوْ كَانَ لَهُ فِي الْمُزَنِيَّةِ شُبْهَةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الشُّهُودُ كَوَطْءِ جَارِيَةِ الِابْنِ فَيَسْتَقْصِي فِي ذَلِكَ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ؛ فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَقَالُوا رَأَيْنَاهُ وَطِئَهَا فِي فَرْجِهَا بَيَانًا لِمَاهِيَّتِه وَالْمَزْنِيِّ بِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ بَيَانَ كَيْفِيَّتِهِ وَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُمْ فَعَدَلُوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَمْ يَكْتَفِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِذَلِكَ وَقَالَ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ اكْتَفَى فِيهِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَتَعْدِيلُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ يَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ فِي الْأَصْلِ (يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ) لِأَنَّهُ لَوْ خَلَّى سَبِيلَهُ هَرَبَ فَلَا يَظْفَرُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا وَجْهَ لِأَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْهُ لِأَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ نَوْعُ احْتِيَاطٍ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا فِيمَا بُنِيَ عَلَى الدَّرْءِ.
فَإِنْ قِيلَ: الِاحْتِيَاطُ فِي الْحَبْسِ أَظْهَرُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ حَبْسَهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ بَلْ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ لِلِاتِّهَامِ بِالْجِنَايَةِ وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ» وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْيُونِ سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ (وَالْإِقْرَارُ أَنْ يُقِرَّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ، كَمَا أَقَرَّ رَدَّهُ الْقَاضِي) فَاشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَوْ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ.
وَاشْتِرَاطُ الْأَرْبَعِ مَذْهَبُنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَكْتَفِي بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُظْهِرٌ، وَتَكْرَارُ الْإِقْرَارِ لَا يُفِيدُ زِيَادَةَ الظُّهُورِ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ.
وَلَنَا حَدِيثُ مَاعِزٍ «فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَّرَ الْإِقَامَةَ إلَى أَنْ تَمَّ الْإِقْرَارُ مِنْهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ» فَلَوْ ظَهَرَ بِمَا دُونَهَا لَمَا أَخَّرَهَا لِثُبُوتِ الْوُجُوبِ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ اخْتَصَّتْ فِيهِ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَكَذَا الْإِقْرَارُ إعْظَامًا لِأَمْرِ الزِّنَا وَتَحْقِيقًا لِمَعْنَى السَّتْرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَثَرًا فِي جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ؛ فَعِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِي الْإِقْرَارِ، وَالْإِقْرَارُ قَائِمٌ بِالْمُقِرِّ فَيُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ مَجْلِسِهِ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي.
وَالِاخْتِلَافُ بِأَنْ يَرُدَّهُ الْقَاضِي كُلَّمَا أَقَرَّ فَيَذْهَبَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ ثُمَّ يَجِيءَ فَيُقِرَّ، هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَرَدَ مَاعِزًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى تَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَالْإِقْرَارُ أَنْ يُقِرَّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ (قَوْلُهُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْحُقُوقِ) يَعْنِي فِي سَائِرِ الْعَدَدِ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ) يَعْنِي أَنَّهَا تُفِيدُ زِيَادَةً فِي طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَتَكْرَارُ الْكَلَامِ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَلَنَا حَدِيثُ «مَاعِزٍ فَإِنَّهُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ زَنَيْت فَطَهِّرْنِي، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الثَّالِثِ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الرَّابِعِ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْآنَ أَقْرَرْت أَرْبَعًا فَبِمَنْ زَنَيْت قَالَ بِفُلَانَةَ، قَالَ لَعَلَّك قَبَّلْتهَا لَعَلَّك بَاشَرْتهَا، فَأَبَى إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِصَرِيحِ الزِّنَا، فَقَالَ أَبِكَ خَبَلٌ أَبِكَ جُنُونٌ وَفِي رِوَايَةٍ بَعَثَ إلَى أَهْلِهِ فَقَالَ هَلْ تُنْكِرُونَ مِنْ عَقْلِهِ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: لَا، فَسَأَلَ عَنْ إحْصَانِهِ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ مُحْصَنٌ، فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ» وَعَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَاعِزًا لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَلَمْ يُقِرَّ لَمْ يَرْجُمْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كَانَ مُتَعَارَفًا فِيمَا بَيْنَهُمْ.
وَوَجْهُ الِاسْتِلَالِ بِحَدِيثِ مَاعِزٍ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ أَخَّرَ الْإِقَامَةَ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ إقَامَةَ الْحَدِّ إلَى أَنْ تَمَّ الْإِقْرَارُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ مَرَّةً وَاحِدَةً كَافِيًا لَمْ يُؤَخِّرْ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ عِنْدَ ظُهُورِهِ وَاجِبَةٌ، وَتَأْخِيرُ الْوَاجِبِ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ اعْتَرَفَ بِوَطْءٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَيَجِبُ الْمَهْرُ، وَإِذَا وَجَبَ الْمَهْرُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ مِنْ بَعْدُ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَالْحَدَّ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي وَطْءٍ وَاحِدٍ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لَمَّا اُعْتُبِرَ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ الزِّنَا لَمْ يَتَعَلَّقْ وُجُوبُ الْمَهْرِ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ تَمَّتْ الْحُجَّةُ وَجَبَ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ تَتِمَّ وَجَبَ الْمَهْرُ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَعْرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ اسْتَرَابَ فِي عَقْلِهِ فَقَدْ جَاءَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَصَرَّ عَلَى الْإِقْرَارِ وَدَامَ عَلَى نَهْجِ الْعُقَلَاءِ قَبِلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَزَالَ الشُّبْهَةَ بِالسُّؤَالِ فَقَالَ أَبِكَ خَبَلٌ أَبِكَ جُنُونٌ.
أُجِيبَ أَمَّا تَغَيُّرُ الْحَالِ فَإِنَّهُ دَلِيلُ التَّوْبَةِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا دَلِيلُ الْجُنُونِ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبِكَ جُنُونٌ تَلْقِينًا لِمَا يَدْرَأُ بِهِ الْحَدَّ كَمَا قَالَ لَعَلَّك قَبَّلْت وَطِئْتهَا لِيَرْجِعَ عَنْ الزِّنَا إلَى الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ، وَكَمَا قَالَ لِلسَّارِقِ أَسَرَقْت مَا أَخَالُهُ سَرَقَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِمَاعِزٍ لَمَّا أَقَرَّ ثَلَاثًا إنْ أَقْرَرْت الرَّابِعَةَ رَجَمَك، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ كَانَ ظَاهِرًا عِنْدَهُمْ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ اعْتِبَارِهِ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ سَائِرَ الْحُقُوقِ لَيْسَ نِصَابُ الشَّهَادَةِ فِيهِ أَرْبَعَةً وَنِصَابُهَا هُنَا ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَتْ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ مُخْتَصَّةً بِزِيَادَةٍ لَيْسَتْ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فَكَذَلِكَ فِي الْحُجَّةِ الْأُخْرَى إعْظَامًا لِأَمْرِ الزِّنَا وَتَحْقِيقًا لِمَعْنَى السَّتْرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الْإِقَامَةَ إلَى أَنْ تَمَّ الْإِقْرَارُ مِنْهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ وَلِأَنَّ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَثَرًا فِي جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ، فَعِنْدَهُ أَيْ عِنْدَ الِاتِّحَادِ (تَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِي الْإِقْرَارِ) أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ مِنْ إقْرَارِهِ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَكَانَ مِنْهَا مَرَّتَانِ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ نَعْتَبِرْ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ (وَالْإِقْرَارُ قَائِمٌ بِالْمُقِرِّ فَيُعْتَبَرُ اتِّحَادُ مَجْلِسِهِ) فِي دَفْعِ الْحَدِّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَيُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ مَجْلِسِهِ أَيْ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، وَقِيلَ يُعْتَبَرُ مَجْلِسُ الْقَاضِي، وَرَدَّهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي.
وَقَوْلُهُ (وَالِاخْتِلَافُ بِأَنْ يَرُدَّهُ الْقَاضِي) ظَاهِرٌ. قَالَ (فَإِذَا تَمَّ إقْرَارُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ سَأَلَهُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَبِمَنْ زَنَى، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْحَدُّ) لِتَمَامِ الْحُجَّةِ، وَمَعْنَى السُّؤَالِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَيَّنَّاهُ فِي الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ السُّؤَالَ فِيهِ عَنْ الزَّمَانِ، وَذَكَرَهُ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْإِقْرَارِ.
وَقِيلَ لَوْ سَأَلَهُ جَازَ لِجَوَازِ أَنَّهُ زَنَى فِي صِبَاهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْإِقْرَارِ) دَلِيلُهُ أَنَّ التَّقَادُمَ فِي الشَّهَادَةِ مَانِعٌ لِتُهْمَةِ الْحِقْدِ وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْإِقْرَارِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ التَّقَادُمِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا. (فَإِنْ رَجَعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ فِي وَسَطِهِ قُبِلَ رُجُوعُهُ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ لِأَنَّهُ وَجَبَ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ وَإِنْكَارِهِ كَمَا إذَا وَجَبَ بِالشَّهَادَةِ وَصَارَ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ.
وَلَنَا أَنَّ الرُّجُوعَ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ كَالْإِقْرَارِ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكَذِّبُهُ فِيهِ فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ فِي الْإِقْرَارِ.
بِخِلَافِ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ لِوُجُودِ مَنْ يُكَذِّبُهُ، وَلَا كَذَلِكَ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ الشَّرْعِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (كَمَا إذَا وَجَبَ بِالشَّهَادَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْحَدَّ لَا يَبْطُلُ بِإِنْكَارِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ، فَكَذَا لَا يَبْطُلُ بِإِنْكَارِهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُمَا حُجَّتَانِ فِيهِ فَتُعْتَبَرُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَصَارَ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ لَا يَقْبَلَانِ الرُّجُوعَ بَعْدَ الثُّبُوتِ بِالْإِقْرَارِ.
وَقَوْلُهُ (فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ فِي الْإِقْرَارِ) يَعْنِي بِالتَّعَارُضِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ الْمُحْتَمِلَيْنِ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ لِأَحَدِهِمَا. (وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ فَيَقُولَ لَهُ: لَعَلَّك لَمَسْت أَوْ قَبَّلْت) «لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَاعِزٍ لَعَلَّك لَمَسْتهَا أَوْ قَبَّلْتهَا» قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ الْإِمَامُ: لَعَلَّك تَزَوَّجْتهَا أَوْ وَطِئْتهَا بِشُبْهَةٍ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى) أَيْ قَوْلُهُ لَعَلَّك تَزَوَّجْتهَا وَوَطِئْتهَا بِشُبْهَةٍ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ لَعَلَّك مَسِسْتهَا فِي الْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَلْقِينٌ لِلرُّجُوعِ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَعَمْ سَقَطَ الْحَدُّ.

.فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَدِّ وَإِقَامَتِهِ:

(وَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ وَكَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا رَجَمَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ) «لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ مَاعِزًا وَقَدْ أُحْصِنَ».
وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ» وَعَلَى هَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ.
قَالَ (وَيُخْرِجُهُ إلَى أَرْضٍ فَضَاءٍ وَيَبْتَدِئُ الشُّهُودُ بِرَجْمِهِ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ) كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَتَجَاسَرُ عَلَى الْأَدَاءِ ثُمَّ يَسْتَعْظِمُ الْمُبَاشَرَةَ فَيَرْجِعُ فَكَانَ فِي بُدَاءَتِهِ احْتِيَالٌ لِلدَّرْءِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُشْتَرَطُ بُدَاءَتُهُ اعْتِبَارًا بِالْجَلْدِ.
قُلْنَا: كُلُّ أَحَدٍ لَا يُحْسِنُ الْجَلْدَ فَرُبَّمَا يَقَعُ مُهْلِكًا وَالْإِهْلَاكُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَلَا كَذَلِكَ الرَّجْمُ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ.
(فَإِنْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ مِنْ الِابْتِدَاءِ سَقَطَ الْحَدُّ) لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ، وَكَذَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَدِّ وَإِقَامَتِهِ ذَكَرَ هَذَا الْفَصْلَ عَقِيبَ ذِكْرِ وُجُوبِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ بَعْدَ وُجُوبِهِ وُقُوعًا فَأَخَّرَهُ ذِكْرًا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ) أَيْ عَلَى وُجُوبِ الرَّجْمِ إذَا كَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا، وَذَهَبَ الْخَوَارِجُ إلَى أَنَّ الْحَدَّ فِي الزِّنَا الْجَلْدُ لَيْسَ إلَّا لِأَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ أَخْبَارَ الْآحَادِ، وَذَلِكَ خَرْقٌ مِنْهُمْ لِلْإِجْمَاعِ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ مَاعِزٍ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بِالْقَبُولِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِمِثْلِهِ جَائِزَةٌ وَقَوْلُهُ (فَإِنْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ) قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: وَلَوْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ أَوْ بَعْضُهُمْ أَوْ كَانُوا غُيَّبًا أَوْ مَاتُوا أَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ أَوْ عَمِيَ بَعْضُهُمْ أَوْ خَرِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ ارْتَدَّ أَوْ قَذَفَ فَحُدَّ لَمْ يُرْجَمْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمْ إذَا امْتَنَعُوا أَوْ غَابُوا رَجَمَ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَكَذَا فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا، فَعَلَى هَذَا مَا قَيَّدَهُ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ رَاجِعٌ إلَى امْتِنَاعِ الشُّهُودِ عَنْ الرَّجْمِ بَعْدَ الْحُضُورِ إلَخْ، وَلَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِقَوْلِهِ وَكَذَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا، وَإِذَا سَقَطَ بِامْتِنَاعِ أَحَدِهِمْ هَلْ تُحَدُّ الشُّهُودُ أَوْ لَا؟ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ لِأَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ يُفْضِي إلَى اعْتِبَارِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فَتَأَمَّلْ، وَالْغَامِدِيَّةُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ حَيٌّ مِنْ الْأَزْدِ، وَفِي حَدِيثِهَا: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ». (وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ) كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
«وَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَامِدِيَّةَ بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ وَكَانَتْ قَدْ اعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا» (وَيُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ) «لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَاعِزٍ اصْنَعُوا بِهِ كَمَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ» وَلِأَنَّهُ قُتِلَ بِحَقٍّ فَلَا يَسْقُطُ الْغُسْلُ كَالْمَقْتُولِ قِصَاصًا: «وَصَلَّى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْغَامِدِيَّةِ بَعْدَمَا رُجِمَتْ» (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا وَكَانَ حُرًّا فَحَدُّهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} إلَّا أَنَّهُ انْتَسَخَ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَعْمُولًا بِهِ.
قَالَ (يَأْمُرُ الْإِمَامُ بِضَرْبِهِ بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ ضَرْبًا مُتَوَسِّطًا) لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ كَسَرَ ثَمَرَتَهُ.
وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْمُبَرِّحِ وَغَيْرِ الْمُؤْلِمِ لِإِفْضَاءِ الْأَوَّلِ إلَى الْهَلَاكِ وَخُلُوِّ الثَّانِي عَنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ (وَتُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ) مَعْنَاهُ دُونَ الْإِزَارِ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالتَّجْرِيدِ فِي الْحُدُودِ، وَلِأَنَّ التَّجْرِيدَ أَبْلَغُ فِي إيصَالِ الْأَلَمِ إلَيْهِ.
وَهَذَا الْحَدُّ مَبْنَاهُ عَلَى الشِّدَّةِ فِي الضَّرْبِ وَفِي نَزْعِ الْإِزَارِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فَيَتَوَقَّاهُ (وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى أَعْضَائِهِ) لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ قَدْ يُفْضِي إلَى التَّلَفِ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ لَا مُتْلِفٌ.
قَالَ (إلَّا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وَفَرْجَهُ) «لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي أَمَرَهُ بِضَرْبِ الْحَدِّ اتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ» وَلِأَنَّ الْفَرْجَ مَقْتَلٌ وَالرَّأْسَ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ، وَكَذَا الْوَجْهُ وَهُوَ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ أَيْضًا فَلَا يُؤْمَنُ فَوَاتُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالضَّرْبِ وَذَلِكَ إهْلَاكٌ مَعْنًى فَلَا يُشْرَعُ حَدًّا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَضْرِبُ الرَّأْسَ أَيْضًا رَجَعَ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَضْرِبُ سَوْطًا لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا.
قُلْنَا: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِيمَنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ.
وَيُقَالُ: إنَّهُ وَرَدَ فِي حَرْبِيٍّ كَانَ مِنْ دُعَاةِ الْكَفَرَةِ وَالْإِهْلَاكُ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ (وَيُضْرَبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا قَائِمًا غَيْرَ مَمْدُودٍ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُضْرَبُ الرِّجَالُ فِي الْحُدُودِ قِيَامًا وَالنِّسَاءُ قُعُودًا، وَلِأَنَّ مَبْنَى إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى التَّشْهِيرِ، وَالْقِيَامُ أَبْلَغُ فِيهِ.
ثُمَّ قَوْلُهُ: غَيْرَ مَمْدُودٍ، فَقَدْ قِيلَ الْمَدُّ أَنْ يُلْقَى عَلَى الْأَرْضِ وَيُمَدَّ كَمَا يُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا، وَقِيلَ أَنْ يَمُدَّ السَّوْطَ فَيَرْفَعَهُ الضَّارِبُ فَوْقَ رَأْسِهِ، وَقِيلَ أَنْ يَمُدَّهُ بَعْدَ الضَّرْبِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُفْعَلُ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ انْتَسَخَ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ) بَيَانُهُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} الْآيَةَ عَامٌّ فِي الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ انْتَسَخَ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ بِآيَةٍ أُخْرَى نَسَخَتْ تِلَاوَتَهَا وَبَقِيَ حُكْمُهَا.
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنِّي خَشِيت إنْ طَالَ بِالنَّاسِ الزَّمَانُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَالرَّجْمُ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إذَا كَانَ مُحْصَنًا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوْ اعْتِرَافٌ، وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتهَا يُرِيدُ بِهِ: الشَّيْخَ وَالشَّيْخَةَ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ هَذِهِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْ حُكْمَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوا} فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ، وَانْتَسَخَتْ تِلَاوَتُهَا بِصَرْفِهَا عَنْ الْقُلُوبِ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ (بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ) قَالَ فِي الصِّحَاحِ: ثَمَرُ السِّيَاطِ عُقَدُ أَطْرَافِهَا، وَمِنْهُ يَأْمُرُ الْإِمَامُ بِضَرْبِهِ بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ: يَعْنِي الْعُقْدَةَ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالثَّمَرَةِ ذَنَبُهُ وَطَرَفُهُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ تَصِيرُ الضَّرْبَةُ ضَرْبَتَيْنِ، وَهَذَا أَصَحُّ.
لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ الْوَلِيدَ بِسَوْطٍ لَهُ طَرَفَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ذَنَبَانِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً، فَكَانَتْ الضَّرْبَةُ ضَرْبَتَيْنِ.
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْكُتُبِ.
الْمُبَرِّحُ مَأْخُوذٌ مِنْ بُرَحَاءِ الْحُمَّى وَغَيْرِهَا، يُقَالُ: بَرِحَ بِهِ الْأَمْرُ تَبْرِيحًا: أَيْ غَلُظَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ.
وَالْمَذَاكِيرُ جَمْعُ الذَّكَرِ الَّذِي هُوَ الْعُضْوُ، وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، كَأَنَّهُمْ فَرَّقُوا بِذَلِكَ الْجَمْعِ بَيْنَ الذَّكَرِ الَّذِي هُوَ الْفَحْلُ وَبَيْنَ الذَّكَرِ الَّذِي هُوَ الْعُضْوُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ هَاهُنَا مَعَ إفْرَادِ قَرِينِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ ذَلِكَ الْعُضْوَ الْمُعَيَّنَ وَمَا حَوْلَهُ، كَقَوْلِهِمْ: شَابَتْ مَفَارِقُ رَأْسِهِ كَذَا فِي الصِّحَاحِ.
وَقَوْلُهُ (مِنْ دُعَاةِ الْكَفَرَةِ) الدُّعَاةُ جَمْعُ دَاعٍ كَالْقُضَاةِ جَمْعُ قَاضٍ: أَيْ كَانَ يَدْعُو النَّاسَ إلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ) قَالُوا: إلَّا أَنْ يُعْجِزَهُمْ عَنْ الضَّرْبِ قَائِمًا فَلَا بَأْسَ.
حِينَئِذٍ أَنْ يَشُدُّوا بِسَارِيَةٍ وَنَحْوِهَا. (وَإِنْ كَانَ عَبْدًا جَلَدَهُ خَمْسِينَ جَلْدَةً) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} نَزَلَتْ فِي الْإِمَاءِ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُنْقِصٌ لِلنِّعْمَةِ فَيَكُونُ مُنْقِصًا لِلْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عِنْدَ تَوَافُرِ النِّعَمِ أَفْحَشُ فَيَكُونُ أَدْعَى إلَى التَّغْلِيظِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِنْ كَانَ عَبْدًا) أَوْ أَمَةً (جَلَدَهُ) أَيْ إنْ كَانَ مَنْ زَنَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً جَلَدَهُ الْإِمَامُ (خَمْسِينَ جَلْدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى) {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} نَزَلَتْ فِي الْإِمَاءِ وَدَخَلَ تَحْتَ حُكْمِهَا الْعَبِيدُ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْهُودِ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ أَنْ تَدْخُلَ النِّسَاءُ تَحْتَ حُكْمِ الرِّجَالِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَكَأَنَّ هَذَا الْأُسْلُوبَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَسْبَابَ السِّفَاحِ فِيهِنَّ وَدَعْوَتَهُنَّ إلَيْهِ غَالِبَةٌ كَمَا فِي تَقْدِيمِهِنَّ فِي قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ثُمَّ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْجَلْدُ دُونَ الرَّجْمِ لِأَنَّهُ لَا يَتَنَصَّفُ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عِنْدَ تَوَافُرِ النِّعَمِ أَفْحَشُ) أَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ)؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ تَشْمَلُهُمَا (غَيْرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يُنْزَعُ مِنْ ثِيَابِهَا إلَّا الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ) لِأَنَّ فِي تَجْرِيدِهَا كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ يَمْنَعَانِ وُصُولَ الْأَلَمِ إلَى الْمَضْرُوبِ وَالسَّتْرُ حَاصِلٌ بِدُونِهِمَا فَيُنْزَعَانِ (وَتُضْرَبُ جَالِسَةً) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا (وَإِنْ حُفِرَ لَهَا فِي الرَّجْمِ جَازَ)؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَفَرَ لِلْغَامِدِيَّةِ إلَى ثُنْدُوَتِهَا، وَحَفَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ وَإِنْ تَرَكَ لَا يَضُرُّهُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ وَهِيَ مَسْتُورَةٌ بِثِيَابِهَا، وَالْحَفْرُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ وَيُحْفَرُ إلَى الصَّدْرِ لِمَا رَوَيْنَا (وَلَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ)؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا حَفَرَهُ لِمَاعِزٍ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْإِقَامَةِ عَلَى التَّشْهِيرِ فِي الرِّجَالِ، وَالرَّبْطُ وَالْإِمْسَاكُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُضْرَبُ الرِّجَالُ فِي الْحُدُودِ قِيَامًا وَالنِّسَاءُ قُعُودًا.
وَالثَّنْدُوَةُ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْوَاوِ وَبِالضَّمِّ وَالْهَمْزِ مَكَانَ الْوَاوِ وَالدَّالُ فِي الْحَالَتَيْنِ مَضْمُومَةٌ: ثَدْيُ الرَّجُلِ أَوْ لَحْمُ الثَّدْيَيْنِ.
والهمدانية بِسُكُونِ الْمِيمِ مَنْسُوبَةٌ إلَى هَمْدَانَ بِسُكُونِ الْمِيمِ حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مِنْ حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ حَيْثُ حُفِرَ لَهَا إلَى الثَّنْدُوَةِ وَقَوْلُهُ (وَالرَّبْطُ وَالْإِمْسَاكُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ) يَعْنِي إلَّا أَنْ يُعْجِزَهُمْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. (وَلَا يُقِيمُ الْمَوْلَى الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً مُطْلَقَةً عَلَيْهِ كَالْإِمَامِ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ فَصَارَ كَالتَّعْزِيرِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْحُدُودَ» وَلِأَنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْهَا إخْلَاءُ الْعَالِمِ عَنْ الْفَسَادِ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ فَيَسْتَوْفِيهِ مَنْ هُوَ نَائِبٌ عَنْ الشَّرْعِ وَهُوَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلِهَذَا يُعَزَّرُ الصَّبِيُّ، وَحَقُّ الشَّرْعِ مَوْضُوعٌ عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ» وَذَكَرَ مِنْهَا الْحُدُودَ) رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ: الصَّدَقَاتُ، وَالْجُمُعَاتُ، وَالْفَيْءُ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى) حَقُّ اللَّهِ مَشْرُوعٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ نَفْعُ الْعَالَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالتَّنْكِيرُ لِيَتَنَاوَلَ مَا لَنَا وَمَا عَلَيْنَا، وَقَوْلِي عَلَى الْإِطْلَاقِ لِإِخْرَاجِ حَقِّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ نَفْعُ الْعَالَمِ بِالتَّخْصِيصِ كَحُرْمَةِ مَالِ الْغَيْرِ مَثَلًا فَإِنَّهَا حَقُّ الْعَبْدِ لِتَعَلُّقِ صِيَانَةِ مَا لَهُ بِهَا فَلِهَذَا يُبَاحُ بِإِبَاحَةِ الْمَالِكِ وَلَا يُبَاحُ الزِّنَا بِإِبَاحَةِ الْمَرْأَةِ وَلَا بِإِبَاحَةِ أَهْلِهَا، وَتَمَامُ التَّقْرِيرِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي التَّقْرِيرِ. قَالَ (وَإِحْصَانُ الرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا وَهُمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ) فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ شَرْطٌ لِأَهْلِيَّةِ الْعُقُوبَةِ إذْ لَا خِطَابَ دُونَهُمَا، وَمَا وَرَاءَهُمَا يُشْتَرَطُ لِتَكَامُلِ الْجِنَايَةِ بِوَاسِطَةِ تَكَامُلِ النِّعْمَةِ إذْ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ يَتَغَلَّظُ عِنْدَ تَكَثُّرِهَا، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ.
وَقَدْ شُرِعَ الرَّجْمُ بِالزِّنَا عِنْدَ اسْتِجْمَاعِهَا فَيُنَاطُ بِهِ.
بِخِلَافِ الشَّرَفِ وَالْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ بِاعْتِبَارِهِمَا وَنَصْبُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ مُتَعَذِّرٌ، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُمْكِنَةٌ مِنْ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ مُمْكِنٌ مِنْ الْوَطْءِ الْحَلَالِ، وَالْإِصَابَةُ شِبَعٌ بِالْحَلَالِ، وَالْإِسْلَامُ يُمَكِّنُهُ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ وَيُؤَكِّدُ اعْتِقَادَ الْحُرْمَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ مَزْجَرَةً عَنْ الزِّنَا.
وَالْجِنَايَةُ بَعْدَ تَوَفُّرِ الزَّوَاجِرِ أَغْلَظُ وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ لَهُمَا مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ قَدْ زَنَيَا» قُلْنَا: كَانَ ذَلِكَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ثُمَّ نُسِخَ، يُؤَيِّدُهُ «قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ».
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدُّخُولِ إيلَاجٌ فِي الْقُبُلِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ.
وَشَرْطُ صِفَةِ الْإِحْصَانِ فِيهِمَا عِنْدَ الدُّخُولِ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِالْمَنْكُوحَةِ الْكَافِرَةِ أَوْ الْمَمْلُوكَةِ أَوْ الْمَجْنُونَةِ أَوْ الصَّبِيَّةِ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا، وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مَوْصُوفًا بِإِحْدَى هَذِهِ الصِّفَاتِ وَهِيَ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ عَاقِلَةٌ بَالِغَةٌ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ بِذَلِكَ لَا تَتَكَامَلُ إذْ الطَّبْعُ يَنْفِرُ عَنْ صُحْبَةِ الْمَجْنُونَةِ، وَقَلَّمَا يَرْغَبُ فِي الصَّبِيَّةِ لِقِلَّةِ رَغْبَتِهَا فِيهِ وَفِي الْمَمْلُوكَةِ حَذَرًا عَنْ رِقِّ الْوَلَدِ وَلَا ائْتِلَافَ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ.
وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُهُمَا فِي الْكَافِرَةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ وَلَا الْحُرَّ الْأَمَةُ وَلَا الْحُرَّةَ الْعَبْدُ»)
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِحْصَانُ الرَّجْمِ) إنَّمَا قَيَّدَ الْإِحْصَانَ بِالرَّجْمِ احْتِرَازًا عَنْ إحْصَانِ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ غَيْرُ هَذَا عَلَى مَا يَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
إحْصَانُ الرَّجْمِ مَشْرُوطٌ بِسَبْعِ شَرَائِطَ (أَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا وَهُمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ) هَذَا عَلَى قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ.
وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَقَدْ قَالُوا: شَرَائِطُ الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ مِنْهَا شَيْئَانِ: الْإِسْلَامُ، وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِثْلُهُ.
وَهَذَا الشَّرْطُ الثَّانِي مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَشَرْطٌ لِأَهْلِيَّةِ الْعُقُوبَةِ لِعَدَمِ الْخِطَابِ بِدُونِهِمَا، وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَشَرْطُ تَكْمِيلِ الْعُقُوبَةِ بِوَاسِطَةِ تَكَامُلِ النِّعْمَةِ، وَالْمُصَنِّفُ وَافَقَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي جَعْلِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ شَرْطًا لِأَهْلِيَّةِ الْعُقُوبَةِ، وَجَعَلَ الْبَاقِيَةَ شَرْطًا لِتَكَامُلِ الْجِنَايَةِ بِوَاسِطَةِ تَكَامُلِ النِّعْمَةِ لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ يَتَغَلَّظُ عِنْدَ تَكَثُّرِهَا وَتَغَلُّظُهُ يَسْتَدْعِي أَغْلَظَ الْعُقُوبَاتِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ فَكُفْرَانُهَا يَكُونُ سَبَبًا لِأَفْحَشِ الْعُقُوبَاتِ وَهُوَ الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ إلَى الْمَوْتِ لِيَكُونَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِقَدْرِ سَبَبِهِ، وَانْحَصَرَ الشَّرَائِطُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ لِأَنَّ الرَّجْمَ بِالزِّنَا قَدْ شُرِعَ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِهَا فَيُنَاطُ بِهَا، وَالشَّرَفُ وَالْعِلْمُ وَالْجَمَالُ وَالْحَسَبُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِاعْتِبَارِهَا وَنَصْبُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ مُتَعَذِّرٌ وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ دَلِيلٌ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى تِلْكَ الشَّرَائِطِ يَتَضَمَّنُ أَنَّ لَهَا مَدْخَلًا فِي الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الزِّنَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُمَكِّنَةٌ مِنْ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ) لِأَنَّ الْحُرَّ يَتَوَلَّى أُمُورَ نَفْسِهِ لَيْسَ تَحْتَ وِلَايَةِ أَحَدٍ.
(وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ مُمَكِّنٌ مِنْ الْوَطْءِ الْحَلَالِ) لَا مَحَالَةَ وَالدُّخُولُ بِهِ شِبَعٌ بِالْحَلَالِ (وَالْإِسْلَامُ مُمَكِّنٌ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ وَمُؤَكِّدٌ اعْتِقَادَ الْحُرْمَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ مَزْجَرَةً عَنْ الزِّنَا، وَالْجِنَايَةُ عِنْدَ تَوَافُرِ الزَّوَاجِرِ أَغْلَظُ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الزِّنَا مِنْ الْفَسَادِ عَاجِلًا وَالْعُقُوبَةِ آجِلًا مِنْ الزَّوَاجِرِ لَا مَحَالَةَ، وَالْجَمَالُ فِي الْمَنْكُوحَةِ مُقْنِعٌ لِلزَّوْجِ عَنْ النَّظَرِ إلَى غَيْرِهَا، وَالشَّرَفُ يَرْدَعُ عَنْ لُحُوقِ مَعَرَّةِ الزِّنَا وَعِقَابِهِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرَائِطِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُسْلِمَ النَّاشِئَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرْت، وَالْجَمَالُ وَالشَّرَفُ لَيْسَ لَهُمَا حَدٌّ مَعْلُومٌ يُضْبَطَانِ بِهِ فَلَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً.
وَأَمَّا وَجْهُ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ فَسَنَذْكُرُهُ (وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ) مُسْتَدِلِّينَ بِمَا رَوَى مُسْنَدًا إلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الزِّنَا؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ إنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا فَجَعَلَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ ثُمَّ جَعَلَ يَقْرَأُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَك، فَرَفَعَهَا فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالَ: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا» قُلْنَا كَانَ ذَلِكَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ثُمَّ نُسِخَ، يُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» وَقَوْلُهُ (وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدُّخُولِ إيلَاجٌ فِي الْقُبُلِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ) لِبَيَانِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ مِنْ الْجِمَاعِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَالْإِصَابَةُ شِبَعٌ بِالْحَلَالِ، فَإِنَّ الشِّبَعَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِنْزَالِ دُونَ الْإِيلَاجِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَتَّى تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ وَيَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِك» بِالتَّصْغِيرِ.
وَقَوْلُهُ (وَشَرْطُ صِفَةِ الْإِحْصَانِ فِيهِمَا) ظَاهِرٌ.
وَقِيلَ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَافِرًا وَالْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ صُورَتَهُ أَنْ يَكُونَا كَافِرَيْنِ فَأَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِالْإِبَاءِ عِنْدَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ فَهُمَا زَوْجَانِ وَقَدْ مَرَّ (وَأَبُو يُوسُفَ يُخَالِفُهُمَا فِي الْكَافِرَةِ) فِي أَنَّ إسْلَامَ الْمَنْكُوحَةِ وَقْتُ الدُّخُولِ بِهَا شَرْطُ إحْصَانِ الزَّانِي.
فَعِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِالْمَنْكُوحَةِ الْكَافِرَةِ يَصِيرُ مُحْصَنًا (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى أَبِي يُوسُفَ (مَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ وَلَا ائْتِلَافَ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ: «لَا تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ وَلَا الْحُرَّ الْأَمَةُ وَلَا الْحُرَّةُ الْعَبْدَ» ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مُرْسَلًا فِي مَبْسُوطِهِ. قَالَ (وَلَا يُجْمَعُ فِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَجْمَعْ، وَلِأَنَّ الْجَلْدَ يَعْرَى عَنْ الْمَقْصُودِ مَعَ الرَّجْمِ؛ لِأَنَّ زَجْرَ غَيْرِهِ يَحْصُلُ بِالرَّجْمِ إذْ هُوَ فِي الْعُقُوبَةِ أَقْصَاهَا وَزَجْرُهُ لَا يَحْصُلُ بَعْدَ هَلَاكِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَا يَجْمَعُ فِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِمَا رَوَى عُبَادَةَ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ» وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي مَاعِزٍ وَلَا فِي الْغَامِدِيَّةِ وَلَا الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ.
وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} وَحَدِيثُ مَاعِزٍ بَعْدَهُ فَيَكُونُ نَاسِخًا.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْجَلْدَ يَعْرَى) ظَاهِرٌ. قَالَ (وَلَا يُجْمَعُ فِي الْبِكْرِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ) وَالشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَدًّا «لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» وَلِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ بَابِ الزِّنَا لِقِلَّةِ الْمَعَارِفِ.
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوا} جَعَلَ الْجَلْدَ كُلَّ الْمُوجَبِ رُجُوعًا إلَى حَرْفِ الْفَاءِ وَإِلَى كَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ، وَلِأَنَّ فِي التَّغْرِيبِ فَتْحَ بَابِ الزِّنَا لِانْعِدَامِ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ الْعَشِيرَةِ ثُمَّ فِيهِ قَطْعُ مَوَادِّ الْبَقَاءِ، فَرُبَّمَا تَتَّخِذُ زِنَاهَا مَكْسَبَةً وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ وُجُوهِ الزِّنَا، وَهَذِهِ الْجِهَةُ مُرَجَّحَةٌ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةٌ، وَالْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ كَشَطْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» وَقَدْ عُرِفَ طَرِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
قَالَ (إلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً فَيُغَرِّبَهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى) وَذَلِكَ تَعْزِيرٌ وَسِيَاسَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُفِيدُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَكُونُ الرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ النَّفْيُ الْمَرْوِيُّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَدًّا) أَيْ فِي حَدِّ الزِّنَا بِنَفْيِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا (لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ») وَلِأَنَّ التَّغْرِيبَ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِّ، فَكَمَا أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ فِي حَقِّ الْجَلْدِ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ التَّغْرِيبِ (وَلِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي التَّغْرِيبِ (حَسْمَ مَادَّةِ الزِّنَا لِقِلَّةِ الْمَعَارِفِ) أَيْ لِقِلَّةِ مَنْ يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَهُ مِنْ الْأَحِبَّاءِ وَالْحَبِيبَاتِ، لِمَا أَنَّ الزِّنَا إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ الصُّحْبَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ وَالتَّغْرِيبُ قَاطِعٌ لِذَلِكَ (وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوا} جَعَلَ الْجَلْدَ كُلَّ الْمُوجِبِ رُجُوعًا إلَى حَرْفِ الْفَاءِ) وَرُجُوعًا نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْفَاءَ لِلْجَزَاءِ، وَإِذَا ذُكِرَ الْجَزَاءُ بَعْدَ الشَّرْطِ بِالْفَاءِ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ هُوَ الْجَزَاءُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَيْسَ جَزَاءُ الشَّرْطِ إلَّا مَا هُوَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ الْفَاءِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِلَى كَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ) أَيْ رُجُوعًا إلَى كَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ذَكَرَ الْجَلْدَ دُونَ النَّفْيِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْبَيَانِ، فَلَوْ بَقِيَ شَيْءٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَزِمَ الْإِخْلَالُ فِي الْبَيَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ وَالْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ نَسْخٌ لِلْكِتَابِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فِي التَّغْرِيبِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ فِيهِ) أَيْ فِي التَّغْرِيبِ (قَطْعَ مَادَّةِ الْبَقَاءِ) يَعْنِي مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَلْبُوسِ (فَرُبَّمَا تَتَّخِذُ زِنَاهَا مَكْسَبَةً وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ وُجُوهِ الزِّنَا) لَا زِيَادَةَ شَهْوَةٍ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذِهِ الْجِهَةُ مُرَجِّحَةٌ لِقَوْلِ عَلِيٍّ) نُقِلَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا؛ فَوَجْهُ الْفَتْحِ أَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ مِنْ الْعِلَّةِ أَقْوَى مِنْ عِلَّةِ الْخَصْمِ بِشَهَادَةِ قَوْلِ عَلِيٍّ لِصِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ.
وَوَجْهُ الْكَسْرِ أَنَّ الْخَصْمَ يُنْكِرُ صِحَّةَ نَقْلِ قَوْلِ عَلِيٍّ فَقَالَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْجِهَةُ مِنْ جِهَاتِ الْعِلَلِ تُؤَيِّدُ صِحَّةَ قَوْلِ عَلِيٍّ، فَكَانَتْ اللَّامُ لِلصِّلَةِ دَاخِلَةً عَلَى الْمَفْعُولِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ أَنَّ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا وَهَذِهِ الْجِهَةُ عِلَّةٌ فَكَيْفَ صَلَحَتْ مُرَجِّحَةً.
أُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ لَيْسَتْ بِمُثْبِتَةٍ لِلْحَدِّ بَلْ هِيَ نَافِيَةٌ، مَعَ أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ بِحُكْمٍ وَاجِبٍ فِي الْحَدِّ فَيَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ، فَفِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُذْكَرُ الْعِلَلُ مُوَضِّحًا بَعْضُهَا بَعْضًا، وَمَا أَرَى اخْتِيَارَ الْمُصَنِّفِ لَفْظَ الْجِهَةِ عَلَى لَفْظِ الْعِلَّةِ إلَّا لِهَذَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْحَدِيثُ) يَعْنِي قَوْلَهُ: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» (مَنْسُوخٌ كَشَطْرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» وَقَدْ عُرِفَ طَرِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ) قِيلَ يَعْنِي فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إثْبَاتُ النَّسْخِ: بِالْقِيَاسِ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ بَيَانٌ لِكَوْنِ الْحَدِيثِ مَنْسُوخًا بِنَاسِخٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ النَّاسِخَ مَا هُوَ.
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الزِّنَا فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ إمْسَاكَ الزَّوَانِي فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ وَالْإِيذَاءَ بِاللِّسَانِ، فَانْتُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» ثُمَّ اُنْتُسِخَ هَذَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي» وَلَوْ كَانَ انْتِسَاخُ إمْسَاكِ الزَّوَانِي فِي الْبُيُوتِ بِقَوْلِهِ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} لَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خُذُوا عَنْ اللَّهِ.
وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ الَّتِي هِيَ دَلَالَةُ التَّقَدُّمِ هَاهُنَا مِثْلُ دَلَالَةِ التَّقَدُّمِ فِي حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ وَقَدْ عُرِفَ طَرِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ: أَيْ دَلَّ فِي حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَنْزِهُوا الْبَوْلَ» وَهُوَ جَوَازُ الْمُثْلَةِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا دَلَّ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَرَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَجْمَعُ فِي الْبِكْرِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ يَعْنِي إذَا رَأَى الْإِمَامُ تَغْرِيبَ الزَّانِي مَصْلَحَةً لِدِعَارَتِهِ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَاهُ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ وَالسِّيَاسَةِ (لِأَنَّهُ قَدْ يُفِيدُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَكُونُ الرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ النَّفْيُ الْمَرْوِيُّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ) رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ بِكْرَيْنِ وَنَفَاهُمَا إلَى فَدَكَ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ قَائِلَةً تَقُولُ: هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا أَوْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ إلَى فَتًى مَاجِدِ الْأَعْرَاقِ مُقْتَبِلٍ سَهْلِ الْمُحَيَّا كَرِيمٍ غَيْرِ مِلْجَاجِ فَطَلَبَ نَصْرًا وَنَفَاهُ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ النَّفْيَ، وَلَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ ظَهَرَتْ لَهُ، فَقَالَ: مَا ذَنْبِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: لَا ذَنْبَ لَك، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لِي حَيْثُ لَا أُطَهِّرُ دَارَ الْهِجْرَةِ مِنْكَ.
وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ زَانِيًا وَنَفَاهُ إلَى مِصْرَ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ وَنَفَى ثُمَّ قَالَ: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً، وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ وَالتَّعْزِيرِ. (وَإِذَا زَنَى الْمَرِيضُ وَحَدُّهُ الرَّجْمُ رُجِمَ)؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مُسْتَحَقٌّ فَلَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ (وَإِنْ كَانَ حَدُّهُ الْجَلْدَ لَمْ يُجْلَدْ حَتَّى يَبْرَأَ) كَيْلَا يُفْضِيَ إلَى الْهَلَاكِ وَلِهَذَا لَا يُقَامُ الْقَطْعُ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا زَنَى الْمَرِيضُ إلَخْ) ظَاهِرٌ. (وَإِنْ زَنَتْ الْحَامِلُ لَمْ تُحَدَّ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا) كَيْلَا يُؤَدِّيَ إلَى هَلَاكِ الْوَلَدِ وَهُوَ نَفْسٌ مُحْتَرَمَةٌ (وَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الْجَلْدَ لَمْ تُجْلَدْ حَتَّى تَتَعَالَى مِنْ نِفَاسِهَا) أَيْ تَرْتَفِعَ يُرِيدُ بِهِ تَخْرُجُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعُ مَرَضٍ فَيُؤَخَّرُ إلَى زَمَانِ الْبُرْءِ.
بِخِلَافِ الرَّجْمِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لِأَجْلِ الْوَلَدِ وَقَدْ انْفَصَلَ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُؤَخَّرُ إلَى أَنْ يَسْتَغْنِيَ وَلَدُهَا عَنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ صِيَانَةَ الْوَلَدِ عَنْ الضَّيَاعِ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ بَعْدَمَا وَضَعَتْ ارْجِعِي حَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَلَدُك» ثُمَّ الْحُبْلَى تُحْبَسُ إلَى أَنْ تَلِدَ إنْ كَانَ الْحَدُّ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ كَيْ لَا تَهْرُبَ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْهُ عَامِلٌ فَلَا يُفِيدُ الْحَبْسُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ) رُوِيَ: «أَنَّ الْغَامِدِيَّةَ لَمَّا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ حَامِلًا قَالَ لَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ارْجِعِي حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِك، فَلَمَّا وَضَعَتْ جَاءَتْ ثَانِيًا وَأَقَرَّتْ، فَقَالَ: لَهَا ارْجِعِي حَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَلَدُك، فَقَالَتْ: أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أُحَدَّ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا أَقُومُ بِتَرْبِيَةِ وَلَدِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهَا» فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ التَّأْخِيرُ عَنْ هَذَا الزَّمَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا مُرَ بٍّـ (بَابُ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي لَا يُوجِبُهُ).