فصل: كتاب المأذون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.كتاب المأذون:

الْإِذْنُ: الْإِعْلَامُ لُغَةً، وَفِي الشَّرْعِ: فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عِنْدَنَا، وَالْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الرِّقِّ بَقِيَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ بِلِسَانِهِ النَّاطِقِ وَعَقْلِهِ الْمُمَيِّزِ وَانْحِجَارُهُ عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَا عَهِدَ تَصَرُّفَهُ إلَّا مُوجِبًا تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَبِكَسْبِهِ، وَذَلِكَ مَالُ الْمَوْلَى فَلَا بُدَّ مِنْ إذْنِهِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى، وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ التَّأْقِيتُ، حَتَّى لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا كَانَ مَأْذُونًا أَبَدًا حَتَّى يَحْجُرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ لَا تَتَوَقَّتُ.
الشَّرْحُ:
إيرَادُ كِتَابِ الْمَأْذُونِ بَعْدَ كِتَابِ الْحَجْرِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ، إذْ الْإِذْنُ يَقْتَضِي سَبْقَ الْحَجْرِ (وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِعْلَامِ، وَفِي الشَّرْعِ: فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عِنْدَنَا) فَإِنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ الَّذِي كَانَ الْعَبْدُ لِأَجْلِهِ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمَوْلَى قَبْلَ إذْنِهِ (وَالْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ الرِّقِّ بَقِيَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ بِلِسَانِهِ النَّاطِقِ وَعَقْلِهِ الْمُمَيِّزِ) لَكِنْ لَمَّا كَانَ تَصَرُّفُهُ يُوجِبُ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ أَوْ كَسْبِهِ وَذَلِكَ حَقُّ الْمَوْلَى انْحَجَرَ عَنْهُ (فَلَا بُدَّ مِنْ إذْنِهِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ) فَقَوْلُهُ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ إلَخْ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ فَكُّ الْحَجْرِ.
وَقَوْلُهُ (عِنْدَنَا) إشَارَةٌ إلَى خِلَافِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ الْإِذْنَ عِنْدَهُ تَوْكِيلٌ وَإِنَابَةٌ، وَصَحَّحَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَوْنَهُ إسْقَاطًا عِنْدَنَا بِقَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ التَّأْقِيتُ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَصَرُّفُهُ بِحُكْمِ مَالِكِيَّتِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَأَنَّهَا عَامَّةٌ لَا تَخْتَصُّ بِنَوْعٍ وَمَكَانٍ وَوَقْتٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْمَوْلَى لَا غَيْرُ، إذْ الْإِسْقَاطَاتُ لَا تَتَوَّقَتْ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ فَكَّ الْحَجْرِ جَوَابٌ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ مَذْكُورٌ فِي حَيِّزِ التَّعْرِيفِ فَكَيْفَ جَازَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِدْلَالٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَصْحِيحُ النَّقْلِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَنَا مُعَرَّفٌ بِذَلِكَ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ.
وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَهُ الشَّرْعِيَّ هُوَ تَعْرِيفُهُ فَكَانَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ حُكْمًا لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ تَعْرِيفًا، وَصَحَّحَ الْمُصَنِّفُ كَوْنَهُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ (وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى) وَهَذَا لِأَنَّ أَوَّلَ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الشِّرَاءُ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ حَتَّى يَبِيعَ، وَالْعَبْدُ فِي الشِّرَاءِ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي ذِمَّتِهِ بِإِيجَابِ الثَّمَنِ فِيهَا، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ عَنْ الْأَدَاءِ حَالَ الطَّلَبِ حُبِسَ وَذِمَّتُهُ خَالِصُ حَقِّهِ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقِصَاصِ صَحَّ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى فَكَانَ الشِّرَاءُ حَقًّا لَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي نَفَاذَ تَصَرُّفَاتِهِ قَبْلَ الْإِذْنِ أَيْضًا، لَكِنْ شَرَطْنَا إذْنَ الْمَوْلَى دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَالرِّضَا بِالضَّرَرِ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ، فَالتَّقْيِيدُ بِالتَّوْقِيتِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَلَا يُعْتَبَرُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ عَدِيمُ الْأَهْلِيَّةِ بِحُكْمِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِنَفْسِ التَّصَرُّفِ، لِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تُرَادُ لِحُكْمِهَا وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ حُكْمَ التَّصَرُّفِ مِلْكُ الْيَدِ وَالرَّقِيقُ أَصْلٌ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قَرَّرْنَا تَمَامَ ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْإِذْنُ فَكَّ الْحَجْرِ وَالْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّتِهِ لَمَا كَانَ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ الْحَجْرِ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الرِّقَّ لَمَّا كَانَ بَاقِيًا كَانَ الْحَجْرُ بَعْدَهُ امْتِنَاعًا بِحَقِّ الْإِسْقَاطِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ ثُمَّ الْإِذْنُ كَمَا يَثْبُتُ بِالصَّرِيحِ يَثْبُتُ بِالدَّلَالَةِ، كَمَا إذَا رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ يَصِيرُ مَأْذُونًا عِنْدَنَا خِلَافًا لَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا مَمْلُوكًا أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَيْعًا صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَآهُ يَظُنُّهُ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا فَيُعَاقِدُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى رَاضِيًا بِهِ لَمَنَعَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ.
الشَّرْحُ:
(ثُمَّ إنَّ الْإِذْنَ كَمَا يَثْبُتُ صَرِيحًا يَثْبُتُ دَلَالَةً، كَمَا إذَا رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ) مِنْ مَالِهِ شَيْئًا (وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ يَصِيرُ مَأْذُونًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَهُوَ مِنْ بَابِ بَيَانِ الضَّرُورَةِ وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأُصُولِ.
قَالَا: السُّكُوتُ مُحْتَمِلٌ لِلرِّضَا وَفَرْطُ الْغَيْظِ وَقِلَّةُ الِالْتِفَاتِ إلَى تَصَرُّفِهِ لِعِلْمِهِ بِكَوْنِهِ مَحْجُورًا، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً.
وَقُلْنَا: جُعِلَ سُكُوتُهُ حُجَّةً لِأَنَّهُ مَوْضِعُ بَيَانٍ، إذْ النَّاسُ يُعَامِلُونَ الْعَبْدَ حِينَ عِلْمِهِمْ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى، وَمُعَامَلَتُهُمْ قَدْ تُفْضِي إلَى لُحُوقِ دُيُونٍ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا تَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَقَدْ يُعْتَقُ وَقَدْ لَا يُعْتَقُ وَفِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِالْمُسْلِمِينَ بِإِتْوَاءِ حَقِّهِمْ وَلَا إضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى فِيهِ ضَرَرٌ مُتَحَقِّقٌ لِأَنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَلْحَقُهُ وَقَدْ لَا يَلْحَقُهُ، فَكَانَ مَوْضِعَ بَيَانِ أَنَّهُ رَاضٍ بِهِ أَوَّلًا، وَالسُّكُوتُ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ.
فَإِنْ قِيلَ: عَيْنُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ الَّذِي رَآهُ مِنْ الْبَيْعِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ غَيْرُهُ، وَكَذَا إذَا رَأَى أَجْنَبِيًّا يَبِيعُ مِنْ مَالِهِ وَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ إذْنًا، وَالْمُرْتَهِنُ إذَا رَأَى الرَّاهِنَ يَبِيعُ الرَّهْنَ وَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ إذْنًا، وَإِذَا رَأَى رَقِيقُهُ يُزَوِّجُ نَفْسَهُ وَسَكَتَ لَا يَكُونُ إذْنًا فَمَا الْفَرْقُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الضَّرَرَ فِي التَّصَرُّفِ الَّذِي رَآهُ مُتَحَقِّقٌ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَمَّا يَبِيعُهُ فِي الْحَالِ فَلَا يَثْبُتُ بِسُكُوتِهِ، وَلَيْسَ فِي ثُبُوتِهِ الْإِذْنُ فِي غَيْرِهِ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا إنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَلْحَقُهُ وَقَدْ لَا يَلْحَقُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ السُّكُوتِ إذْنًا بِالنَّظَرِ إلَى ضَرَرٍ مُتَوَهَّمٍ كَوْنُهُ إذْنًا بِالنَّظَرِ إلَى مُتَحَقَّقٍ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ بَيْعِ الْأَجْنَبِيِّ مَالَهُ، وَفِي الرَّهْنِ لَمْ يَصِرْ سُكُوتُهُ إذْنًا لِأَنَّ جَعْلَهُ إذْنًا يُبْطِلُ مِلْكَ الْمُرْتَهِنِ عَنْ الْيَدِ، وَقَدْ لَا يَصِلُ إلَى يَدِهِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَكَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ مُتَحَقِّقٌ.
لَا يُقَالُ: الرَّاهِنُ أَيْضًا يَتَضَرَّرُ بِبُطْلَانِ مِلْكِهِ عَنْ الثَّمَنِ فَتَرَجُّحُ ضَرَرِ الْمُرْتَهِنِ تَحَكُّمٌ، لِأَنَّ بُطْلَانَ مِلْكِهِ عَنْ الثَّمَنِ مَوْقُوفٌ، لِأَنَّ بَيْعَ الْمَرْهُونِ مَوْقُوفٌ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَبُطْلَانُ مِلْكِ الْمُرْتَهِنِ عَنْ الْيَدِ بَاتَ فَكَانَ أَقْوَى.
وَأَمَّا الرَّقِيقُ عَبْدًا كَانَ أَوْ أَمَةً إذَا زَوَّجَ نَفْسَهُ فَإِنَّمَا لَمْ يَصِرْ السُّكُوتُ فِيهِ إذْنًا.
قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ نَاقِلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِأَنَّ السُّكُوتَ إنَّمَا يَصِيرُ إذْنًا وَإِجَازَةً دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ يَكُونُ مَوْقُوفًا، لِأَنَّ النِّكَاحَ الْمَمْلُوكَ مَمْلُوكُ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إصْلَاحِ مِلْكِهِ، وَمَنَافِعُ بُضْعِ الْمَمْلُوكَةِ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ إبْطَالُ مِلْكِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ مَوْقُوفًا وَأَمْكَنَ فَسْخُهُ فَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ أَحَدٌ.
وَقِيلَ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَا كَلَامَ فِي أَنَّ نِكَاحَ الرَّقِيقِ مَوْقُوفٌ عَلَى إذْنِ الْمَوْلَى وَإِجَازَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ سُكُوتَهُ إجَازَةٌ أَوَّلًا، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا مُحَقَّقًا لِلْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ السُّكُوتُ إذْنًا (ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَيْعًا صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَآهُ يَظُنُّهُ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا فَيُعَاقِدُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى رَاضِيًا بِهِ لِمَنْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ) وَهَذَا الدَّلِيلُ كَمَا تَرَى لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ مِنْ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ: أَعْنِي أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى إلَخْ. قَالَ (وَإِذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ إذْنًا عَامًّا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِي سَائِرِ التِّجَارَاتِ) وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ لَهُ أَذِنْت لَك فِي التِّجَارَةِ وَلَا يُقَيِّدُهُ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ التِّجَارَةَ اسْمٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْجِنْسَ فَيَبِيعُ وَيَشْتَرِي مَا بَدَا لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ التِّجَارَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ) إذَا قَالَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ أَذِنْت لَك فِي التِّجَارَةِ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِشَيْءٍ كَانَ إذْنًا عَامًّا بِالتَّصَرُّفِ فِي جِنْسِ التِّجَارَةِ بِلَا خِلَافٍ، فَيَبِيعُ وَيَشْتَرِي مَا بَدَا لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْيَانِ، لِأَنَّ التِّجَارَةَ اسْمُ جِنْسٍ مُحَلًّى بِاللَّامِ فَكَانَ عَامًّا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْأَعْيَانِ، لِأَنَّهُ أَيْ بَيْعَ الْأَعْيَانِ أَصْلُ التِّجَارَةِ، وَالْمَنَافِعُ لِكَوْنِهَا قَائِمَةً بِالْأَعْيَانِ أُلْحِقَتْ بِهَا (وَلَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ فَهُوَ جَائِزٌ) لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ (وَكَذَا بِالْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا) هُمَا يَقُولَانِ إنَّ الْبَيْعَ بِالْفَاحِشِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ، حَتَّى اُعْتُبِرَ مِنْ الْمَرِيضِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَلَا يَنْتَظِمُهُ الْإِذْنُ كَالْهِبَةِ.
وَلَهُ أَنَّهُ تِجَارَةٌ وَالْعَبْدُ مُتَصَرِّفٌ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ فَصَارَ كَالْحُرِّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ بَاعَ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ جَازَ) بِالِاتِّفَاقِ (لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَكَذَا بِالْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا) قَالَا: الْبَيْعُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ خِلَافُ الْمَقْصُودِ، إذْ الْمَقْصُودُ بِالْبَيْعِ الِاسْتِرْبَاحُ دُونَ الْإِتْلَافِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ، وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ مِنْ الْمَرِيضِ مِنْ الثُّلُثِ، وَمَا هُوَ خِلَافُ الْمَقْصُودِ لَا يَنْتَظِمُهُ الْإِذْنُ بِالْمَقْصُودِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْبَيْعَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ تِجَارَةٌ يَمْلِكُهُ الْحُرُّ فَيَمْلِكُهُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْإِذْنِ كَالْحُرِّ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاعْتِبَارُهُ مِنْ الثُّلُثِ مِنْ الْمَرِيضِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ.
وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ مِنْ الْمَأْذُونِ كَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْمَأْذُونِ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي حَقِّ الْمَرِيضِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ سَوَّى هَاهُنَا بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِي الشِّرَاءِ مُتَّهَمًا فِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا ظَهَرَ لَهُ الْعَيْبُ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمَ الْآمِرَ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي تَصَرُّفِ الْمَأْذُونِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى أَحَدٍ فَكَانَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي حَقِّهِ سَوَاءً (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيُّ) إذَا أَذِنَ لَهُ أَبُوهُ فِي التِّجَارَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ بِالِاتِّفَاقِ وَبِالْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَلَوْ حَابَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ كَانَ فَمِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ)؛ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ فِي الْحُرِّ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَلَا وَارِثَ لِلْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَا فِي يَدِهِ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي أَدِّ جَمِيعَ الْمُحَابَاةِ وَإِلَّا فَارْدُدْ الْبَيْعَ كَمَا فِي الْحُرِّ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ حَابَى الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ اعْتَبَرَ مُحَابَاتَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ) فَيَنْفُذُ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ (وَإِنْ كَانَ) عَلَيْهِ دَيْنٌ (فَمِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ) يَعْنِي يُؤَدِّي دَيْنَهُ أَوَّلًا فَمَا بَقِيَ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ يَكُونُ كُلُّهُ مُحَابَاةً (لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ فِي الْحُرِّ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَلَا وَارِثَ لِلْعَبْدِ).
لَا يُقَالُ: الْمَوْلَى وَارِثٌ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْإِذْنِ بِسُقُوطِ حَقِّهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَسْقَطَ الْوَارِثُ حَقَّهُ فِي الثُّلُثَيْنِ لَنَفَذَ تَصَرُّفُ الْمَرِيضِ فِي الْكُلِّ (وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَالِهِ) تَبْطُلُ الْمُحَابَاةُ فَ (يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي: أَدِّ جَمِيعَ الْمُحَابَاةِ وَإِلَّا فَارْدُدْ الْبَيْعَ كَمَا فِي الْحُرِّ) يَعْنِي إذَا حَابَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ (وَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ وَيَقْبَلَ السَّلَمَ)؛ لِأَنَّهُ تِجَارَةٌ.
الشَّرْحُ:
(وَالْمَأْذُونُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ رَبَّ السَّلَمِ وَالْمُسْلَمَ إلَيْهِ وَيُوَكِّلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَهُوَ لَا يَتَفَرَّعُ بِنَفْسِهِ) فَجَازَ الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ (وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ)؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَتَفَرَّغُ بِنَفْسِهِ.
قَالَ (وَيَرْهَنُ وَيُرْتَهَنُ)؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ إيفَاءٌ وَاسْتِيفَاءٌ.
الشَّرْحُ:
(وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ وَيَرْتَهِنَ لِأَنَّهُمَا إيفَاءٌ وَاسْتِيفَاؤُهُمَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ) (وَيَمْلِكُ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَيَسْتَأْجِرَ الْأُجَرَاءَ وَالْبُيُوتَ)؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ.
الشَّرْحُ:
(وَيَمْلِكُ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْأَرْضَ) أَيْ يَسْتَأْجِرَهَا (وَيَسْتَأْجِرَ الْأُجَرَاءَ وَالْبُيُوتَ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ). (وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً)؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ.
الشَّرْحُ:
(وَيَأْخُذَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ الرِّبْحِ) لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَذَلِكَ أَنْفَعُ مِنْ الِاسْتِئْجَارِ بِالدَّرَاهِمِ، لِأَنَّهُ إذْ لَمْ يَحْصُلْ خَارِجٌ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ بِالدَّرَاهِمِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَهُوَ آجَرَ نَفْسَهُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ لِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَلَوْ آجَرَ نَفْسَهُ بِالدَّرَاهِمِ جَازَ كَمَا سَيَجِيءُ فَكَذَا هَذَا (وَيَشْتَرِي طَعَامًا فَيَزْرَعُهُ فِي أَرْضِهِ)؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الرِّبْحَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبَّهُ».
الشَّرْحُ:
(وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا فَيَزْرَعَهُ فِي أَرْضِهِ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الرِّبْحَ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبَّهُ») (وَلَهُ أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ عِنَان وَيَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيَأْخُذُهَا)؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَهُ أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ عَنَانٍ) وَلَيْسَ أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ وَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ، فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَتْ عَنَانًا لِأَنَّ فِي الْمُفَاوَضَةِ عَنَانًا وَزِيَادَةً فَصَحَّتْ بِقَدْرِ مَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ وَهُوَ الْوَكَالَةُ (وَيَدْفَعُ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيَأْخُذُهَا لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ التِّجَارَةِ) (وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ يَقُولُ: لَا يَمْلِكُ الْعَقْدَ عَلَى نَفْسِهِ فَكَذَا عَلَى مَنَافِعِهَا؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا.
وَلَنَا أَنَّ نَفْسَهُ رَأْسُ مَالِهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، إلَّا إذَا كَانَ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ الْإِذْنِ كَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَنْحَجِرُ بِهِ، وَالرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ بِهِ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْمَوْلَى.
أَمَّا الْإِجَارَةُ فَلَا يَنْحَجِرُ بِهِ وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الرِّبْحُ فَيَمْلِكُهُ.
الشَّرْحُ:
(وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ) فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ (لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْعَقْدَ عَلَى نَفْسِهِ) لِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْ مَوْلَاهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ نَفْسِهِ وَلَا رَهْنَهَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ (فَكَذَا عَلَى مَنَافِعِهَا لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا.
وَلَنَا أَنَّ نَفْسَهُ رَأْسُ مَالِهِ) لِأَنَّ الْمَوْلَى أَذِنَ لَهُ بِالِاكْتِسَابِ وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ مَالًا (وَ) مَا هُوَ رَأْسُ الْمَالِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِالِاكْتِسَابِ (يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ) ضَرُورَةً، وَالْمَأْذُونُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي نَفْسِهِ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهَا بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ أَوْ مِنْ حَيْثُ مَنَافِعُهَا، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهَا لِئَلَّا يَعُودَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ فَإِنَّهُ مَا أُذِنَ لَهُ إلَّا لِلرِّبْحِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا التَّصَرُّفَ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ أَفْضَى إلَى عَدَمِ الرِّبْحِ، فَمَا فَرَضْنَاهُ لِلرِّبْحِ لَمْ يَكُنْ لِلرِّبْحِ هَذَا خُلْفٌ بَاطِلٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ الْمَنَافِعُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. قَالَ (فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ مِنْهَا دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي جَمِيعِهَا) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ مَأْذُونًا إلَّا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي نَوْعٍ آخَرَ.
لَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ تَوْكِيلٌ وَإِنَابَةٌ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ لَهُ دُونَ الْعَبْدِ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ حَجْرَهُ فَيَتَخَصَّصُ بِمَا خَصَّهُ بِهِ كَالْمُضَارِبِ.
وَلَنَا أَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ وَفَكُّ الْحَجْرِ عَلَى مَا بَيِّنَاهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَظْهَرُ مَالِكِيَّةُ الْعَبْدِ فَلَا يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ غَيْرِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ مِنْ جِهَتِهِ، وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَاقِعٌ لِلْعَبْدِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالنَّفَقَةِ، وَمَا اسْتَغْنَى عَنْهُ يَخْلُفُهُ الْمَالِكُ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ مِنْهَا دُونَ غَيْرِهِ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِذْنَ عِنْدَنَا فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطَ الْحَقِّ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَإِنَابَةٌ، وَعَلَى ذَلِكَ تَنْبَنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا أُذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ كَالْبَزِّ مَثَلًا دُونَ غَيْرِهِ (كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمَا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ خَاصَّةً، وَكَذَا لَوْ كَانَ أَذِنَ لَهُ إذْنًا عَامًّا ثُمَّ نَهَاهُ عَنْ نَوْعٍ قَالَا: الْإِذْنُ تَوْكِيلٌ وَإِنَابَةٌ مِنْ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ وَالْمِلْكُ وَهُوَ الْحُكْمُ يَثْبُتُ لَهُ) أَيْ لِلْمَوْلَى (دُونَ الْعَبْدِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ حَجْرَهُ فَيُتَخَصَّصُ الْإِذْنُ بِمَا خَصَّهُ بِهِ كَالْمُضَارِبِ) إذَا قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ اعْمَلْ مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ مَثَلًا (وَلَنَا أَنَّ الْإِذْنَ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ وَفَكِّ الْحَجْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمَأْذُونِ (وَعِنْدَ ذَلِكَ تَظْهَرُ مَالِكِيَّةُ الْعَبْدِ فَلَا يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ) لِكَوْنِ التَّخْصِيصِ إذْ ذَاكَ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
وَنُوقِضَ بِالْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ، وَإِذَا أُذِنَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ فُلَانَةَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِذْنَ فِيهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ تَصَرُّفُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَالرِّقُّ أَخْرَجَ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَتْ الْوِلَايَةُ لِلْمَوْلَى، وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَيْهِ فَكَانَ الْعَبْدُ كَالْوَكِيلِ وَالنَّائِبِ عَنْ مَوْلَاهُ فَيَتَخَصَّصُ بِمَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الضَّرَرَ اللَّاحِقَ بِالْمَوْلَى يَمْنَعُ الْإِذْنَ وَقَدْ يَتَضَرَّرُ الْمَوْلَى بِغَيْرِ مَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَالِمًا بِالتِّجَارَةِ فِي الْبَزِّ دُونَ الْخَزِّ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ ضَرَرٌ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، وَلَئِنْ كَانَ فَلَهُ مِدْفَعٌ وَهُوَ التَّوْكِيلُ بِهِ، عَلَى أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْفَعُ ذَلِكَ، وَبِالْجُمْلَةِ إذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّتِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ فَلَيْسَ السُّؤَالُ وَارِدًا (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ كَالْمُضَارِبِ، لِأَنَّ الْمُضَارِبَ وَكِيلٌ وَالْوَكِيلُ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ) جَوَابٌ لِقَوْلِهِ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ لِلْمَوْلَى وَهُوَ مُمَانَعَةٌ بِالسَّنَدِ: أَيْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حُكْمَ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَاقِعٌ لِلْمَوْلَى، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ لِلْعَبْدِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالنَّفَقَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى، وَمَا اسْتَغْنَى عَنْهُ يَخْلُفُهُ الْمَالِكُ فِيهِ، وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ. قَالَ (وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ بِمَأْذُونٍ)؛ لِأَنَّهُ اسْتِخْدَامٌ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِشِرَاءِ ثَوْبٍ مُعَيَّنٍ لِلْكِسْوَةِ أَوْ طَعَامٍ رِزْقًا لِأَهْلِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ مَأْذُونًا يَنْسَدُّ عَلَيْهِ بَابُ الِاسْتِخْدَامِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَدِّ إلَيَّ الْغَلَّةَ كُلَّ شَهْرٍ كَذَا، أَوْ قَالَ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الْمَالَ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْكَسْبِ، أَوْ قَالَ لَهُ اُقْعُدْ صَبَّاغًا أَوْ قَصَّارًا؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ بِشِرَاءِ مَا لابد لَهُ مِنْهُ وَهُوَ نَوْعٌ فَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي الْأَنْوَاعِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ أُذِنَ لَهُ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ) إذَا أَذِنَ الْمَوْلَى فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: اشْتَرِ هَذِهِ الثَّوْبَ بِعَيْنِهِ أَوْ ثَوْبًا لِلْكِسْوَةِ أَوْ طَعَامًا رِزْقًا لِلْأَهْلِ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ التَّخْصِيصَ قَدْ يَكُونُ مُفِيدًا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِخْدَامَ، لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ ذَلِكَ إذْنًا لَانْسَدَّ بَابُ الِاسْتِخْدَامِ لِإِفْضَائِهِ إلَى أَنَّ مَنْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِشِرَاءِ بَقْلٍ بِفَلْسَيْنِ كَانَ مَأْذُونًا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِدُيُونٍ تَسْتَغْرِقُ رَقَبَتَهُ وَيُؤَاخَذُ بِهَا فِي الْحَالِ، فَلَا يَسْتَجْرِئُ أَحَدٌ عَلَى اسْتِخْدَامِ عَبْدِهِ فِيمَا اشْتَدَّتْ إلَيْهِ حَاجَتُهُ لِأَنَّ غَالِبَ اسْتِعْمَالِ الْعَبْدِ فِي شِرَاءِ الْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَدٍّ فَاصِلٍ بَيْنَ الِاسْتِخْدَامِ وَالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ.
وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَذِنَ بِتَصَرُّفٍ يَتَكَرَّرُ صَرِيحًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرِ لِي ثَوْبًا وَبِعْهُ، أَوْ قَالَ بِعْ هَذَا الثَّوْبَ وَاشْتَرِ بِثَمَنِهِ أَوْ دَلَالَةً كَمَا إذَا قَالَ أَدِّ إلَيَّ الْغَلَّةَ كُلَّ شَهْرٍ، أَوْ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ، فَإِنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الْمَالَ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّكَسُّبِ، فَهُوَ دَلَالَةُ التَّكْرَارِ، أَوْ قَالَ اُقْعُدْ صَبَّاغًا أَوْ قَصَّارًا، لِأَنَّهُ أَذِنَ بِشِرَاءِ مَا لابد لَهُ مِنْهُ دَلَالَةً وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْأَنْوَاعِ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْعَمَلِ الْمَذْكُورِ كَانَ ذَلِكَ إذْنًا، وَإِنْ أَذِنَ بِتَصَرُّفٍ غَيْرِ مُكَرَّرٍ كَطَعَامِ أَهْلِهِ وَكِسْوَتِهِمْ لَا يَكُونُ إذْنًا.
وَنُوقِضَ بِمَا إذَا غَصَبَ الْعَبْدُ مَتَاعًا وَأَمَرَهُ مَوْلَاهُ بِبَيْعِهِ فَإِنَّهُ إذْنٌ فِي التِّجَارَةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ بِعَقْدٍ مُكَرَّرٍ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْعَقْدِ الْمُكَرَّرِ دَلَالَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ بَاطِلٌ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَالْإِذْنُ قَدْ صَدَرَ مِنْهُ صَرِيحًا، فَإِذَا بَطَلَ التَّقْيِيدُ ظَهَرَ الْإِطْلَاقُ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْفَاصِلَ هُوَ التَّصَرُّفُ النَّوْعِيُّ وَالشَّخْصِيُّ، وَالْإِذْنُ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَتَأَمَّلْ. قَالَ (وَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِالدُّيُونِ وَالْغُصُوبِ جَائِزٌ وَكَذَا بِالْوَدَائِعِ)؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، إذْ لَوْ لَمْ يَصِحَّ لَاجْتَنَبَ النَّاسُ مُبَايَعَتَهُ وَمُعَامَلَتَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ فِي صِحَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَرَضِهِ يُقَدَّمُ دَيْنُ الصِّحَّةِ كَمَا فِي الْحُرِّ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِمَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ لَا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمَحْجُورِ فِي حَقِّهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِالدُّيُونِ وَالْغُصُوبِ جَائِزٌ) إقْرَارُ الْمَأْذُونِ لَهُ بِالدُّيُونِ وَالْغُصُوبِ وَالْوَدَائِعِ جَائِزٌ (لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ أَمَّا بِالدُّيُونِ وَالْوَدَائِعِ فَظَاهِرٌ)، فَإِنَّ الْبَائِعَ قَدْ لَا يَقْبِضُ الثَّمَنَ فَيَكُونُ دَيْنًا أَوْ يَقْبِضُ فَيُودَعُ عِنْدَهُ، وَأَمَّا بِالْغُصُوبِ فَلِأَنَّ الْغَصْبَ يُوجِبُ الْمِلْكَ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، فَالضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِهِ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ، وَمَنْ مَلَكَ التِّجَارَةَ مَلَكَ تَوَابِعَهَا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهَا لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى انْتِفَاءِ التِّجَارَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا أَنَّ إقْرَارَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ اجْتَنَبُوا عَنْ مُبَايَعَتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ (وَلَا فَرْقَ فِي صِحَّتِهِ مَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ فِي صِحَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَرَضِهِ يُقَدَّمُ دَيْنُ الصِّحَّةِ كَمَا فِي الْحُرِّ) وَالْجَامِعُ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَا فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ الْمَالِ وَالْكَسْبِ (بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِمَا لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ) كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةَ هَذَا الرَّجُلِ بِنِكَاحٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَافْتَضَّهَا فَإِنَّهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِيهِ (لِأَنَّهُ كَالْمَحْجُورِ فِي حَقِّهِ) وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِجِنَايَةٍ عَلَى حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ مَهْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةٍ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ، وَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ، لِأَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التِّجَارَةِ، فَمَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّهِ فَكَانَ إقْرَارُهُ كَإِقْرَارِ الْمَحْجُورِ..
قَالَ (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يَتَزَوَّجَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ). قَالَ (وَلَا يُزَوِّجُ مَمَالِيكَهُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُزَوِّجُ الْأَمَةَ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْمَالِ بِمَنَافِعِهَا فَأَشْبَهَ إجَارَتَهَا.
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ التِّجَارَةَ وَهَذَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَالْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ عِنَانٍ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ.
الشَّرْحُ:
(قَالَ: وَلَا يُزَوِّجُ مَمَالِيكَهُ) لِذَلِكَ (وَجَوَّزَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَزْوِيجَ الْإِمَاءِ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْمَالِ) وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِذْنِ (فَكَانَ كَالْإِجَارَةِ، وَقَالَا: الْإِذْنُ تَضَمَّنَ التِّجَارَةَ وَهَذَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ) وَمَعْنَاهُ سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِذْنَ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ لَكِنْ لَا مُطْلَقًا بَلْ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، وَإِنْكَاحُ الْأَمَةِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ) تَوْضِيحٌ لَيْسَ بِوَاضِحٍ لِعَرَائِهِ عَنْ تَحْصِيلِ الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ فِيهِ تَعْيِيبُ الْعَبْدِ وَشُغْلُ رَقَبَتِهِ بِالْمَهْرِ بِلَا مَنْفَعَةٍ (قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ وَالْمُضَارِبُ وَالشَّرِيكُ شَرِكَةَ عَنَانٍ وَالْأَبُ وَالْوَصِيُّ) يَعْنِي أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا تَزْوِيجَ الْأَمَةِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ لَهُمَا: يَعْنِي الْأَبَ وَالْوَصِيَّ أَنْ يُزَوِّجَا أَمَةَ الصَّغِيرِ بِلَا خِلَافٍ، حَيْثُ جُعِلَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ هُنَاكَ فِي رَقِيقِ الصَّغِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ، وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ لِاسْتِفَادَتِهِ الْمَهْرَ.
قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُكَاتَبِ أَصَحُّ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِعَامَّةِ الرِّوَايَاتِ مِنْ رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَالتَّتِمَّةِ وَمُخْتَصَرِ الْكَافِي وَأَحْكَامِ الصَّفَّارِ.
وَقَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ. قَالَ (وَلَا يُكَاتِبُ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، إذْ هِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَالْبَدَلُ فِيهِ مُقَابَلٌ بِفَكِّ الْحَجْرِ فَلَمْ يَكُنْ تِجَارَةً (إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى قَدْ مَلَكَهُ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ نَائِبًا عَنْهُ وَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْكِتَابَةِ سَفِيرٌ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يُكَاتِبُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ) وَلَا يَجُوزُ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يُكَاتِبَ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ التِّجَارَةَ، وَهَذَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ (لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَالْبَدَلِ) وَإِنْ كَانَ مَالًا (لَكِنَّهُ مُقَابَلٌ بِفَكِّ الْحَجْرِ) وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ (فَلَمْ يَكُنْ تِجَارَةً إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَهُ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ فَتَكُونُ الْإِجَازَةُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَبَيَانُهُ مَا قَالَهُ (لِأَنَّ الْمَوْلَى قَدْ مَلَكَهُ) لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى وَالْمَوْلَى يَمْلِكُ فِيهِ مُبَاشَرَةَ الْكِتَابَةِ فَيَمْلِكُ الْإِجَازَةَ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ نَائِبًا عَنْ الْمَوْلَى وَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ وَهِيَ مُطَالَبَةُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالْفَسْخِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَثُبُوتِ الْوَلَاءِ بَعْدَ الْعِتْقِ (إلَى الْمَوْلَى لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْكِتَابَةِ سَفِيرٌ) لِكَوْنِهَا إسْقَاطًا فَكَانَ قَبْضُ الْبَدَلِ إلَى مَنْ نَفَذَ الْعِتْقُ مِنْ جِهَتِهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْوَكِيلُ سَوَاءٌ كَانَ سَفِيرًا أَوْ لَا إذَا عَقَدَ الْعَقْدَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إجَازَةٍ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ الْوَكَالَةِ بِطَرِيقِ الِانْقِلَابِ، وَإِنَّمَا قَالَ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا بَطَلَتْ كِتَابَتُهُ وَإِنْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِجَازَةِ يُخْرِجُ الْمُكَاتَبَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لِلْعَبْدِ، وَقِيَامُ الدَّيْنِ يَمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ قَلَّ الدَّيْنُ أَوْ كَثُرَ قَالَ (وَلَا يُعْتِقُ عَلَى مَالٍ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْكِتَابَةَ فَالْإِعْتَاقُ أَوْلَى.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يُعْتَقُ عَلَى مَالٍ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْكِتَابَةَ) وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ (فَالْإِعْتَاقُ أَوْلَى) وَهَذَا إذَا لَمْ يُجِزْ الْمَوْلَى، فَإِنْ أَجَازَ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ جَازَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْعِتْقِ فَيَمْلِكُ الْإِجَازَةَ وَقَبْضُ الْمَالِ إلَى الْمَوْلَى دُونَ الْعَبْدِ، وَكَذَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ عِنْدَهُمَا لَكِنْ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَ الْعِتْقَ جَازَ وَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ فَكَذَا إذَا أَجَازَ وَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى الْعِوَضِ، لِأَنَّ مَا يُؤَدِّيهِ (كَسْبُ الْحُرِّ وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي كَسْبِ الْحُرِّ)، بِخِلَافِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى فِي حَالِ الرِّقِّ فَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ (وَلَا يُقْرِضُ)؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ كَالْهِبَةِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يُقْرِضُ) (وَلَا يَهَبُ بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَذَا لَا يَتَصَدَّقُ)؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ بِصَرِيحِهِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَوْ ابْتِدَاءً فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ.
قَالَ (إلَّا أَنْ يُهْدِيَ الْيَسِيرَ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ يُضَيِّفَ مَنْ يُطْعِمُهُ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ اسْتِجْلَابًا لِقُلُوبِ الْمُجَاهِزِينَ، بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ لَهُ أَصْلًا فَكَيْفَ يَثْبُتُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إذَا أَعْطَاهُ الْمَوْلَى قُوتَ يَوْمِهِ فَدَعَا بَعْضَ رُفَقَائِهِ عَلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْطَاهُ قُوتَ شَهْرٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَكَلُوهُ قَبْلَ الشَّهْرِ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَوْلَى.
قَالُوا: وَلَا بَأْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ مَنْزِلِ زَوْجِهَا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ كَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يَهَبُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِهِ وَلَا يَتَصَدَّقُ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ بِصَرِيحِهِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَوْ ابْتِدَاءً فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ، إلَّا أَنْ يُهْدِيَ الْيَسِيرَ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ يُضَيِّفَ) ضِيَافَةً يَسِيرَةً وَقَوْلُهُ (مِنْ الطَّعَامِ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ إهْدَاءَ غَيْرُ الْمَأْكُولَاتِ لَا يَجُوزُ أَصْلًا، وَالْإِهْدَاءُ الْيَسِيرُ رَاجِعٌ إلَى الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ، وَالضِّيَافَةُ الْيَسِيرَةُ مُعْتَبَرَةٌ بِمَالِ تِجَارَتِهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ كَانَ مَالُ تِجَارَتِهِ مَثَلًا عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَاِتَّخَذَ ضِيَافَةً بِمِقْدَارِ عَشْرَةٍ كَانَ يَسِيرًا، وَإِنْ كَانَ مَالُ تِجَارَتِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَثَلًا فَاتَّخَذَ ضِيَافَةً بِمِقْدَارِ دَانَقٍ فَذَاكَ يَكُونُ كَثِيرًا عُرْفًا، وَالْهَدِيَّةُ بِالْمَأْكُولِ كَالضِّيَافَةِ بِهِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، لَكِنْ تَرَكْنَاهُ فِي الْيَسِيرِ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ اسْتِجْلَابًا لِقُلُوبِ الْمُجَاهِزِينَ، وَالْمُجَاهِزُ هُوَ الْغَنِيُّ مِنْ التُّجَّارِ فَكَأَنَّهُ أُرِيدَ الْمُجَهِّزُ وَهُوَ الَّذِي يَبْعَثُ التُّجَّارَ بِالْجِهَازِ وَهُوَ فَاخِرُ الْمَتَاعِ أَوْ يُسَافِرُ بِهِ فَحُرِّفَ إلَى الْمُجَاهِزِ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ. قَالَ (وَلَهُ أَنْ يَحُطَّ مِنْ الثَّمَنِ بِالْعَيْبِ مِثْلَ مَا يَحُطُّ التُّجَّارُ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِهِمْ، وَرُبَّمَا يَكُونُ الْحَطُّ أَنْظَرَ لَهُ مِنْ قَبُولِ الْمَعِيبِ ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ مَا إذَا حَطَّ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَلَيْسَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ (وَلَهُ أَنْ يُؤَجِّلَ فِي دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ التِّجَارَةِ. قَالَ (وَدُيُونُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُبَاعُ وَيُبَاعُ كَسْبُهُ فِي دَيْنِهِ بِالْإِجْمَاعِ.
لَهُمَا أَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى مِنْ الْإِذْنِ تَحْصِيلُ مَالٍ لَمْ يَكُنْ لَا تَفْوِيتُ مَالٍ قَدْ كَانَ لَهُ، وَذَلِكَ فِي تَعْلِيقِ الدَّيْنِ بِكَسْبِهِ، حَتَّى إذَا فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ عَنْ الدَّيْنِ يَحْصُلُ لَهُ لَا بِالرَّقَبَةِ، بِخِلَافِ دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ جِنَايَةٍ، وَاسْتِهْلَاكُ الرَّقَبَةِ بِالْجِنَايَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِذْنِ.
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءً كَدِينِ الِاسْتِهْلَاكِ، وَالْجَامِعُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ التِّجَارَةُ وَهِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ، وَتَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءٌ حَامِلٌ عَلَى الْمُعَامَلَةِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَلُحَ غَرَضًا لِلْمَوْلَى، وَيَنْعَدِمُ الضَّرَرُ فِي حَقِّهِ بِدُخُولِ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ، وَتَعَلُّقُهُ بِالْكَسْبِ لَا يُنَافِي تَعَلُّقَهُ بِالرَّقَبَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِمَا، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْكَسْبِ فِي الِاسْتِيفَاءِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَإِبْقَاءً لِمَقْصُودِ الْمَوْلَى، وَعِنْدَ انْعِدَامِهِ يُسْتَوْفَى مِنْ الرَّقَبَةِ.
وَقَوْلُهُ (فِي الْكِتَابِ) دُيُونُهُ الْمُرَادُ مِنْهُ دَيْنٌ وَجَبَ بِالتِّجَارَةِ أَوْ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ وَضَمَانِ الْغُصُوبِ وَالْوَدَائِعِ وَالْأَمَانَاتِ إذَا جَحَدَهَا، وَمَا يَجِبُ مِنْ الْعُقْرِ بِوَطْءِ الْمُشْتَرَاةِ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ لِاسْتِنَادِهِ إلَى الشِّرَاءِ فَيَلْحَقُ بِهِ قَالَ (وَيُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ) لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالرَّقَبَةِ فَصَارَ كَتَعَلُّقِهَا بِالتَّرِكَةِ (فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ) لِتَقَرُّرِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَعَدَمِ وَفَاءِ الرَّقَبَةِ بِهِ (وَلَا يُبَاعُ ثَانِيًا) كَيْ لَا يَمْتَنِعَ الْبَيْعُ أَوْ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي (وَيَتَعَلَّقُ دَيْنُهُ بِكَسْبِهِ سَوَاءً حَصَلَ قَبْلَ لُحُوقِ الدَّيْنِ أَوْ بَعْدَهُ وَيَتَعَلَّقُ بِمَا يَقْبَلُ مِنْ الْهِبَةِ)؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِي الْمِلْكِ بَعْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَفْرُغْ (وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ) لِوُجُودِ شَرْطِ الْخُلُوصِ لَهُ (وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ غَلَّةَ مِثْلِهِ بَعْدَ الدَّيْنِ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ يَحْجُرُ عَلَيْهِ فَلَا يَحْصُلُ الْكَسْبُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى غَلَّةِ الْمِثْلِ يَرُدُّهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ فِيهَا وَتَقَدُّمِ حَقِّهِمْ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَدُيُونُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ) إذَا وَجَبَ دُيُونٌ عَلَى الْمَأْذُونِ بِالتِّجَارَةِ أَوْ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ بِيعَ بِدَيْنِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ وَتَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ (يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى.
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يُبَاعُ) لِأَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى مِنْ الْإِذْنِ تَحْصِيلُ مَالٍ لَهُ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا لَا تَفْوِيتُ مَالٍ حَاصِلٍ، وَذَلِكَ أَيْ غَرَضُ الْمَوْلَى حَاصِلٌ فِي تَعَلُّقِ الدَّيْنِ يَكْسِبُهُ حَتَّى إذَا فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ عَنْ الدَّيْنِ يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (لَا بِالرَّقَبَةِ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِكَسْبِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا اسْتَهْلَكَ شَيْئًا تَعَلَّقَ دَيْنُهُ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ فَهَذَا كَذَلِكَ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ لِأَنَّهُ نَوْعُ جِنَايَةٍ، وَاسْتِهْلَاكُ الرَّقَبَةِ بِالْجِنَايَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِذْنِ) وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِيعَ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِذْنِ (وَلَنَا أَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ وَاجِبٌ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى) بِالْإِذْنِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ (وَ) كُلُّ دَيْنٍ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى (تَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ اسْتِيفَاءً كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ وَالْجَامِعُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ) (قَوْلُهُ وَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الدَّيْنِ التِّجَارَةُ لِأَنَّهُ الْمَفْرُوضُ وَالتِّجَارَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ بِلَا خِلَافٍ فَسَبَبُهَا دَاخِلٌ تَحْتَهُ، وَإِذَا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَهُ كَانَ مُلْتَزِمًا، فَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءٌ كَانَ إضْرَارًا لِأَنَّ الْكَسْبَ قَدْ لَا يُوجَدُ وَالْعِتْقُ كَذَلِكَ فَتَتْوَى حُقُوقُ النَّاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (وَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءً) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى مِنْ الْإِذْنِ تَحْصِيلُ مَالٍ لَهُ إلَخْ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءً وَعَلِمَ الْمُعَامِلُونَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ حَامِلًا عَلَى الْمُعَامَلَةِ فَتَكْثُرُ الْمُعَامَلَةُ مَعَهُ وَيَزْدَادُ الرِّبْحُ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّ خَوْفَ التَّوَى يَمْنَعُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ غَرَضًا لِلْمَوْلَى.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ غَرَضًا لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ وَالضَّرَرُ لَا يَكُونُ غَرَضًا.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَيَنْعَدِمُ الضَّرَرُ فِي حَقِّهِ بِدُخُولِ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ) وَفِيهِ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَبِيعَ إنْ كَانَ بَاقِيًا وَفِيهِ وَفَاءٌ بِالدُّيُونِ لَا يَتَحَقَّقُ بَيْعُ الْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَاقِيًا أَوْ كَانَ وَلَيْسَ فِيهِ وَفَاءٌ بِهَا لَمْ يَكُنْ دُخُولُهُ فِي مِلْكِهِ دَافِعًا لِلضَّرَرِ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَبِيعٌ قَبَضَهُ الْمَوْلَى حِينَ لَا دَيْنَ عَلَى الْعَبْدِ ثُمَّ رَكِبَتْهُ دُيُونٌ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى رَدُّهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا، وَلَا ضَمَانُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ، بَلْ يُبَاعُ الْعَبْدُ بِالدَّيْنِ إنْ اخْتَارَهُ الْمَوْلَى وَيَكُونُ الْبَيْعُ جَابِرًا لِمَا فَاتَ مِنْ الْعَبْدِ، وَالظَّاهِرُ أَيْ الدَّيْنُ لَمَّا اسْتَغْرَقَ رَقَبَةَ الْعَبْدِ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَبِيعِ مُسَاوِيَةً لِقِيمَةِ الْعَبْدِ.
قِيلَ: وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْكَسْبِ فِي اسْتِيفَاءٍ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ، وَعِنْدَ عَدَمِهِ يُسْتَوْفَى مِنْ الرَّقَبَةِ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى ظُهُورِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا إذَا قَبَضَ مَبِيعًا قَبْلَ تَرَكُّبِ الدُّيُونِ دُونَ غَيْرِهِ، بَلْ الْوَاضِحُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالدُّيُونِ مَا وَجَبَ بِالتِّجَارَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ مَبِيعٍ، أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى وَدُخُولُهُ فِي مِلْكِهِ يُقَابِلُ مَا يَفُوتُهُ، وَهَلَاكُهُ فِي مِلْكِهِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْمُقَابَلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ بِمِقْدَارِ مَا يُؤَدِّي مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِغَبْنٍ نَادِرٍ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمَوْلَى كَأَنَّهُ اشْتَرَى الدُّيُونَ الَّتِي عَلَى الْعَبْدِ بِالْعَبْدِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُسَاوِيَةً لِقِيمَتِهِ كَانَ ذَلِكَ شِرَاءً بِغَبْنٍ وَهُوَ نَادِرٌ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُسَاوِيَةً لَا اخْتَارَ أَدَاءَ الدُّيُونِ دُونَ بَيْعِ الْعَبْدِ.
وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرَ الْمُعْتَرِضُ.
وَالثَّانِي عَامٌّ لَكِنَّهُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا، فَإِنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَهُمَا كَمَا سَيَجِيءُ.
وَقَوْلُهُ (وَتَعَلُّقُهُ بِالْكَسْبِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ أَجْمَعْنَا أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِالْكَسْبِ فَكَيْفَ يَتَعَلَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالرَّقَبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا غَيْرَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْكَسْبِ فِي الِاسْتِيفَاءِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ، وَعِنْدَ عَدَمِهِ يُسْتَوْفَى مِنْ الرَّقَبَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى) إشَارَةً إلَى الْبَيْعِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا، لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ مِنْ الْغَائِبِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لِأَنَّ الْخَصْمَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ هُوَ الْمَوْلَى فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا بِحَضْرَتِهِ أَوْ بِحَضْرَةِ نَائِبِهِ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْكَسْبِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى حُضُورِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْعَبْدَ خَصْمٌ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الْبَيْعِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ وَبَيْعُ الْقَاضِي الْعَبْدَ بِغَيْرِ أَمْرِ مَوْلَاهُ حَجْرٌ عَلَيْهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَجْرٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَحْجُورًا عَنْ بَيْعِهِ، إذْ لَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى بَيْعُ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ بِغَيْرِ رِضَا الْغُرَمَاءِ، وَحَجْرُ الْمَحْجُورِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ وَهُوَ كَالتَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ فِي جَوَازِ أَنْ يَبِيعَهَا الْقَاضِي عَلَى الْوَرَثَةِ إذَا امْتَنَعُوا عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ حَجْرًا لِكَوْنِهِمْ مَحْجُورِينَ عَنْ بَيْعِهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَا الْغُرَمَاءِ قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ (فِي الْكِتَابِ) يَعْنِي مُخْتَصَرَ الْقُدُورِيِّ، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ.
قَالَ (وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ) إذَا بَاعَ الْقَاضِي الْعَبْدَ يُقْسَمُ ثَمَنُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ (لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالرَّقَبَةِ فَصَارَ كَتَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِالتَّرِكَةِ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَفَاءٌ بِالثَّمَنِ يَضْرِبُ كُلُّ غَرِيمٍ فِي الثَّمَنِ بِقَدْرِ حَقِّهِ كَالتَّرِكَةِ إذَا ضَاقَتْ عَنْ إيفَاءِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ (فَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ) أَيْ دُيُونِ الْعَبْدِ (طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِتَقَرُّرِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَعَدَمِ وَفَاءِ الرَّقَبَةِ بِهِ) وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي، وَالدَّيْنُ مَا وَجَبَ بِإِذْنِهِ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهِ (وَلَا يُبَاعُ ثَانِيًا كَيْ لَا يَمْتَنِعَ الْبَيْعُ) فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي يَشْتَرِيهِ يُبَاعُ فِي يَدِهِ ثَانِيًا بِدُونِ اخْتِيَارِهِ امْتَنَعَ عَنْ شِرَائِهِ فَلَا يَحْصُلُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ وَيَتَضَرَّرُ الْغُرَمَاءُ (أَوْ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي) لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَن لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِبَيْعِهِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ، فَلَوْ بِيعَ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ تَضَرَّرَ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ الْآذِنُ فَإِنَّهُ لَا يُبَاعُ عَلَيْهِ ثَانِيًا وَإِنْ كَانَ رَاضِيًا بِالْبَيْعِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَبَدَّلَ وَتَبَدُّلُ الْمِلْكِ كَتَبَدُّلِ الذَّاتِ (قَوْلُهُ وَيَتَعَلَّقُ دَيْنُهُ بِكَسْبِهِ) لِبَيَانِ الْكَسْبِ الَّذِي يَبْدَأُ بِهِ.
فَالْكَسْبُ الَّذِي لَمْ يَنْزِعْهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّيْنُ (سَوَاءٌ كَانَ حَصَلَ قَبْلَ لُحُوقِ الدَّيْنِ أَوْ بَعْدَهُ وَيَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الْهِبَةِ، لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِي الْمِلْكِ بَعْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَفْرُغْ) فَكَانَ كَكَسْبٍ غَيْرِ مُنْتَزَعٍ (وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ لِحُصُولِ شَرْطِ الْخُلُوصِ لَهُ) وَهُوَ خُلُوصُ ذِمَّةِ الْعَبْدِ عَنْ الدَّيْنِ حَالَ أَخْذِ الْمَوْلَى ذَلِكَ (وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ غَلَّةَ مِثْلِهِ) وَالْغَلَّةُ كُلُّ مَا يَحْصُلُ مِنْ رِيعِ الْأَرْضِ أَوْ كِرَائِهَا أَوْ أُجْرَةِ غُلَامٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَمَعْنَاهُ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الضَّرِيبَةَ الَّتِي ضَرَبَهَا عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ بَعْدَمَا لَزِمَتْهُ الدُّيُونُ كَمَا كَانَ يَأْخُذُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ رِيعِهِ كَانَ لِلْغُرَمَاءِ، وَلَا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَأْخُذُهُ قَبْلَ الدُّيُونِ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَأْخُذَ أَصْلًا، وَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا رَدَّهُ لِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ كَسْبِهِ وَكَسْبُهُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقِيلَ لِسَلَامَةِ الْمُقَرَّرِ قَبْلَهُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ فِي أَخْذِ الْمَوْلَى ذَلِكَ مَنْفَعَةً لِلْغُرَمَاءِ بِإِبْقَائِهِ عَلَى الْإِذْنِ بِسَبَبِ مَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْغَلَّةِ، فَلَوْ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَلَا يَحْصُلُ الْكَسْبُ.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَأْخُذُهَا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ حَيْثُ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْغَلَّةِ، فَإِنْ أَخَذَهَا رَدَّهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ لِتَقَدُّمِ حَقِّهِمْ فِيهَا. قَالَ (فَإِنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَنْحَجِرْ حَتَّى يَظْهَرَ حَجْرُهُ بَيْنَ أَهْلِ سُوقِهِ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْحَجَرَ لَتَضَرَّرَ النَّاسُ بِهِ لِتَأَخُّرِ حَقِّهِمْ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ وَقَدْ بَايَعُوهُ عَلَى رَجَاءِ ذَلِكَ، وَيُشْتَرَطُ عِلْمُ أَكْثَرِ أَهْلِ سُوقِهِ، حَتَّى لَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي السُّوقِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ لَمْ يَنْحَجِرْ، وَلَوْ بَايَعُوهُ جَازَ، وَإِنْ بَايَعَهُ الَّذِي عَلِمَ بِحَجْرِهِ وَلَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ سُوقِهِ يَنْحَجِرُ، وَالْمُعْتَبَرُ شُيُوعُ الْحَجْرِ وَاشْتِهَارُهُ فَيُقَامُ ذَلِكَ مَقَامَ الظُّهُورِ عِنْدَ الْكُلِّ كَمَا فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ مِنْ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ، وَيَبْقَى الْعَبْدُ مَأْذُونًا إلَى أَنْ يَعْلَمَ بِالْحَجْرِ كَالْوَكِيلِ إلَى أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَزْلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ حَيْثُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَمَا رَضِيَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الشُّيُوعُ فِي الْحَجْرِ إذَا كَانَ الْإِذْنُ شَائِعًا.
أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إلَّا الْعَبْدُ ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ بِعِلْمٍ مِنْهُ يَنْحَجِرُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
ثُمَّ إذْنُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ شَائِعًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَنْحَجِرْ بِحَجْرِهِ حَتَّى يَظْهَرَ الْحَجْرُ لَهُ وَلِأَكْثَرِ أَهْلِ سُوقِهِ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ النَّاسُ بِمَا لَمْ يَرْضَوْا بِهِ مِنْ تَأَخُّرِ حَقِّهِمْ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إنْ اكْتَسَبَ شَيْئًا أَخَذَهُ الْمَوْلَى، وَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ فَيَتَأَخَّرُ حُقُوقُهُمْ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَهُوَ مَوْهُومٌ وَقَدْ بَايَعُوهُ عَلَى رَجَاءِ ذَلِكَ: أَيْ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ وَهُوَ عَلَى إذْنِهِ إلَى أَنْ يَعْلَمَ بِالْحَجْرِ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ حَيْثُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ، فَكَانَ كَالْوَكِيلِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَزْلِ، وَلَوْ حَجَرَ فِي السُّوقِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ فَكَذَلِكَ وَمُبَايَعَتُهُ جَائِزَةٌ، وَإِنْ بَايَعَهُ الَّذِي عَلِمَ بِحَجْرِهِ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يَتَجَزَّأُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءً، وَلَوْ حَجَرَ فِي بَيْتِهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَهْلِ سُوقِهِ انْحَجَرَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ شُيُوعُ الْحَجْرِ وَاشْتِهَارُهُ، فَيُقَامُ ذَلِكَ مَقَامَ الظُّهُورِ عِنْدَ الْكُلِّ دَفْعًا لِلْحَرَجِ كَمَا فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ مِنْ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْإِذْنِ إلَّا الْعَبْدُ ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ بِعِلْمٍ مِنْهُ يَنْحَجِرُ لِعَدَمِ الضَّرَرِ وَالْإِضْرَارِ. قَالَ (وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوْ جُنَّ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا صَارَ الْمَأْذُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ غَيْرُ لَازِمٍ، وَمَا لَا يَكُونُ لَازِمًا مِنْ التَّصَرُّفِ يُعْطَى لِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ أَهْلِيَّةِ الْإِذْنِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وَهِيَ تَنْعَدِمُ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ، وَكَذَا بِاللُّحُوقِ لِأَنَّهُ مَوْتٌ حُكْمًا حَتَّى يُقَسَّمَ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوْ جُنَّ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ) قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّصَرُّفَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا كَانَ لِدَوَامِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ حَالَةَ الْبَقَاءِ كَالِابْتِدَاءِ، وَعَلَى هَذَا إذَا مَاتَ الْمَوْلَى أَوْ جُنَّ جُنُونًا مُطْبِقًا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْوَكَالَةِ تَعْرِيفُهُ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ انْحَجَرَ الْمَأْذُونُ لِانْتِفَاءِ الْأَهْلِيَّةِ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، لِأَنَّ اللِّحَاقَ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ وَلِهَذَا يُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ. قَالَ (وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْقَى مَأْذُونًا؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْإِذْنِ، فَكَذَا لَا يُنَافِي الْبَقَاءَ وَصَارَ كَالْغَصْبِ.
وَلَنَا أَنَّ الْإِبَاقَ حَجْرُ دَلَالَةٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْضَى بِكَوْنِهِ مَأْذُونًا عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَقْضِيَةِ دَيْنِهِ بِكَسْبِهِ، بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا عِنْدَ وُجُودِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا، وَبِخِلَافِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الِانْتِزَاعَ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ مُتَيَسِّرٌ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَبْقَى مَأْذُونًا لِأَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْإِذْنِ) فَإِنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ الْآبِقِ فِي التِّجَارَةِ وَعَلِمَ بِهِ الْعَبْدُ كَانَ مَأْذُونًا، فَلَأَنْ لَا يُنَافِيَ بَقَاءَهُ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ (وَصَارَ كَالْغَصْبِ) فَإِنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ الْمَغْصُوبِ الَّذِي يُمْكِنُ لِلْمَالِكِ أَخْذُهُ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ أَوْ يَكُونَ الْغَاصِبُ مُقِرًّا صَحَّ.
وَكَوْنُهُ مَغْصُوبًا لَا يُنَافِي الْإِذْنَ فَكَذَا كَوْنُهُ آبِقًا (وَلَنَا أَنَّ الْإِبَاقَ حَجْرٌ دَلَالَةً، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْضَى بِكَوْنِهِ مَأْذُونًا عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَقْضِيَةِ دَيْنِهِ بِكَسْبِهِ) وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ مِنْ الْآبِقِ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مَانِعًا فِي الِابْتِدَاءِ لِأَنَّا نَجْعَلُهُ حَجْرًا دَلَالَةً (وَلَا مُعْتَبَرَ بِالدَّلَالَةِ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا وَبِخِلَافِ الْغَصْبِ، لِأَنَّ الِانْتِزَاعَ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ مُتَيَسِّرٌ) وَإِنْ عَادَ مِنْ الْإِبَاقِ هَلْ يَعُودُ الْإِذْنُ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَعُودُ قَالَ (وَإِذَا وَلَدَتْ الْمَأْذُونُ لَهَا مِنْ مَوْلَاهَا) فَذَلِكَ حَجْرٌ عَلَيْهَا خِلَافًا لَزُفَرَ، وَهُوَ يَعْتَبِرُ حَالَةَ الْبَقَاءِ بِالِابْتِدَاءِ.
وَلَنَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُحْصِنُهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَيَكُونُ دَلَالَةَ الْحَجْرِ عَادَةً، بِخِلَافِ الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ قَاضٍ عَلَى الدَّلَالَةِ.
الشَّرْحُ:
(وَاسْتِيلَادُ الْمَأْذُونِ لَهَا حَجْرٌ عَلَيْهَا) إذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِخِلَافِهِ (وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ بِحَجْرٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ) فَإِنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَذِنَ لِأُمِّ وَلَدِهِ جَازَ، فَكَذَا إذَا اسْتَوْلَدَهَا بَعْدَ الْإِذْنِ وَهُوَ الْقِيَاسُ.
وَاسْتَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ حَجْرَهَا بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ فِي الظَّاهِرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُحَصِّنُ أُمَّ وَلَدِهِ وَلَا يَرْضَى بِخُرُوجِهَا وَاخْتِلَاطِهَا بِالنَّاسِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَالتِّجَارَةِ فَيَكُونُ حَجْرًا دَلَالَةً، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ فِي الِابْتِدَاءِ (وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَتَهَا إنْ رَكِبَتْهَا دُيُونٌ) لِإِتْلَافِهِ مَحِلًّا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ، إذْ بِهِ يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ وَبِهِ يُقْضَى حَقُّهُمْ.
الشَّرْحُ:
(وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَتَهَا إنْ رَكِبَتْهَا الدُّيُونُ لِإِتْلَافِهِ مَحَلًّا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ، إذْ بِهِ يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ وَبِهِ يُقْضَى حَقُّهُمْ) قَالَ (وَإِذَا اسْتَدَانَتْ الْأَمَةُ الْمَأْذُونُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فَدَبَّرَهَا الْمَوْلَى فَهِيَ مَأْذُونٌ لَهَا عَلَى حَالِهَا) لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ الْحَجْرِ، إذْ الْعَادَةُ مَا جَرَتْ بِتَحْصِينِ الْمُدَبَّرَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ حُكْمَيْهَا أَيْضًا، وَالْمَوْلَى ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا لِمَا قَرَّرْنَاهُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا اسْتَدَانَتْ الْأَمَةُ الْمَأْذُونُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا) مَعْنَاهُ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِكَوْنِهَا أَكْثَرَ لِتَظْهَرَ الْفَائِدَةُ فِي أَنَّ الْمَوْلَى يَضْمَنُ قِيمَتَهَا دُونَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ حُكْمِهَا) أَيْ حُكْمِ الْإِذْنِ وَالتَّدْبِيرِ لِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ يَثْبُتُ لِلْمُدَبَّرِ حَقُّ الْعِتْقِ، وَحَقُّ الْعِتْقِ إنْ كَانَ لَا يُؤَثِّرُ فِي فَكِّ الْحَجْرِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ. قَالَ (وَإِذَا حُجِرَ عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَمَعْنَاهُ أَنْ يُقَرَّ بِمَا فِي يَدِهِ أَنَّهُ أَمَانَةٌ لِغَيْرِهِ أَوْ غَصْبٌ مِنْهُ أَوْ يُقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ فَيُقْضَى مِمَّا فِي يَدِهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ.
لَهُمَا أَنَّ الْمُصَحِّحَ لِإِقْرَارِهِ إنْ كَانَ الْإِذْنَ فَقَدْ زَالَ بِالْحَجْرِ، وَإِنْ كَانَ الْيَدَ فَالْحَجْرُ أَبْطَلَهَا؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَحْجُورِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَصَارَ كَمَا إذَا أَخَذَ الْمَوْلَى كَسْبَهُ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ إقْرَارِهِ أَوْ ثَبَتَ حَجْرُهُ بِالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الرَّقَبَةِ بَعْدَ الْحَجْرِ، وَلَهُ أَنَّ الْمُصَحِّحَ هُوَ الْيَدُ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ فِيمَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ وَالْيَدُ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً، وَشَرْطُ بُطْلَانِهَا بِالْحَجْرِ حُكْمًا فَرَاغُهَا عَنْ حَاجَتِهِ، وَإِقْرَارُهُ دَلِيلُ تَحَقُّقِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا تَبْطُلُ بِإِقْرَارِهِ، وَكَذَا مِلْكُهُ ثَابِتٌ فِي رَقَبَتِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِإِقْرَارِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ تَبَدَّلَ بِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ فَلَا يَبْقَى مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِيمَا بَاشَرَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا حُجِرَ عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ) إذَا حُجِرَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فَأَقَرَّ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ لِغَيْرِ مَوْلَاهُ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمَعْنَاهُ أَنْ يُقِرَّ بِمَا فِي يَدِهِ أَنَّهُ أَمَانَةٌ لِغَيْرِهِ) وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ يُفْهَمُ مِنْهُ مَا كَانَ مَضْمُونًا كَالدُّيُونِ وَالْغُصُوبِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّعْمِيمُ وَقَدَّمَ الْأَمَانَةَ لِذَلِكَ فَيُقْضَى بِمَا فِي يَدِهِ لِلْمُقَرِّ لَهُ.
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ) لِأَنَّ الْمُصَحِّحَ لِإِقْرَارِهِ إمَّا الْإِذْنُ أَوْ الْيَدُ، وَلَا شَيْءَ مِنْهُمَا بِمَوْجُودٍ بَعْدَ الْحَجْرِ.
أَمَّا الْإِذْنُ فَلِزَوَالِهِ بِالْحَجْرِ، وَأَمَّا الْيَدُ فَلِأَنَّ الْحَجْرَ أَبْطَلَهَا لِأَنَّ يَدَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا.
وَرُدَّ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ يَدَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَوْدَعَ وَدِيعَةً ثُمَّ غَابَ لَيْسَ لِمَوْلَاهُ أَخْذُهَا، وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ كَثَوْبٍ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي حِجْرِ رَجُلٍ وَكَانَ حُضُورُ الْعَبْدِ وَغَيْبَتُهُ سَوَاءً.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَأْوِيلَهَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُودَعُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ كَسْبُ الْعَبْدِ.
أَمَّا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ فَلِلْمَوْلَى أَخْذُهُ وَكَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَالُ الْمَوْلَى وَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهُ كَسْبُ الْعَبْدِ (قَوْلُهُ وَصَارَ كَمَا إذَا أَخَذَ الْمَوْلَى كَسْبَهُ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ إقْرَارِهِ) بَيَانٌ لِإِبْطَالِ الْحَجْرِ يَدَهُ بِمَسَائِلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمَوْلَى إذَا انْتَزَعَ مَا بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ إقْرَارَ الْعَبْدِ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِهِ وَثَبَتَ الْحَجْرُ بِهِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الرَّقَبَةِ بَعْدَ الْحَجْرِ حَتَّى لَا تُبَاعُ رَقَبَتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ بِالِاتِّفَاقِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُصَحِّحَ لِإِقْرَارِهِ هُوَ الْيَدُ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِمَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ) لِزَوَالِ الْمُصَحِّحِ (وَالْيَدُ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً) وَحُكْمًا، أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْإِقْرَارِ بِمَا فِي يَدِهِ.
وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّ شَرْطَ بُطْلَانِهَا بِالْحَجْرِ حُكْمًا فَرَاغُهَا عَنْ حَاجَتِهِ وَإِقْرَارُهُ دَلِيلُ تَحَقُّقِهَا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِقْرَارُ دَلِيلُ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ مُطْلَقًا أَوْ عِنْدَ صِحَّتِهِ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ صِحَّةَ هَذَا الْإِقْرَارِ فِي حَيِّزِ النِّزَاعِ فَلَا يَصْلُحُ أَخْذُهُ فِي الدَّلِيلِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ مُطْلَقَهُ دَلِيلُ تَحَقُّقِهَا حَمْلًا لِحَالِ الْمُقِرِّ عَلَى الصَّلَاحِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ إقْرَارُهُ دَلِيلَ تَحَقُّقِهَا لَصَحَّ بِمَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا.
أَمَّا حَقِيقَةً فَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا انْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ.
وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّ النَّزْعَ كَانَ قَبْلَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ فَلَا تَبْطُلُ يَدُهُ بِإِقْرَارِهِ، لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِمَا لَيْسَ فِي يَدِهِ أَصْلًا وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ قَوْلَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى إلَخْ أَجْوِبَةٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَا بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا عُرِفَ) إشَارَةٌ إلَى حَدِيثِ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَوْلُهُ (فَلَا يَبْقَى مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ) يَعْنِي بِهِ الْإِذْنَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِلْعَبْدِ بِحُكْمِ أَنَّهُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمِلْكُ.
وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ خَصْمًا) تَوْضِيحٌ لِتَبَدُّلِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا بَاشَرَ شَيْئًا قَبْلَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِيهِ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَالرَّدِّ بِعَيْبٍ وَغَيْرِهِ بَعْدَهُ كَعَبْدٍ آخَرَ لَمْ يُبَاشِرْهُ وَلَوْلَا تَبَدُّلُهُ لَكَانَ خَصْمًا لِصُدُورِ الْمُبَاشَرَةِ عَنْهُ حَقِيقَةً. قَالَ (وَإِذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ تُحِيطُ بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ لَمْ يَمْلِكْ الْمَوْلَى مَا فِي يَدِهِ.
وَلَوْ أَعْتَقَ مِنْ كَسْبِهِ عَبْدًا لَمْ يَعْتِقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَا: يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ وَيَعْتِقُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ)؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي كَسْبِهِ وَهُوَ مِلْكُ رَقَبَتِهِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ إعْتَاقَهَا، وَوَطْءَ الْجَارِيَةِ الْمَأْذُونِ لَهَا، وَهَذَا آيَةُ كَمَالِهِ، بِخِلَافِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ نَظَرًا لِلْمُوَرِّثِ وَالنَّظَرُ فِي ضِدِّهِ عِنْدَ إحَاطَةِ الدَّيْنِ بِتَرِكَتِهِ.
أَمَّا مِلْكُ الْمَوْلَى فَمَا ثَبَتَ نَظَرًا لِلْعَبْدِ.
وَلَهُ أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى إنَّمَا يَثْبُتُ خِلَافُهُ عَنْ الْعَبْدِ عِنْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَتِهِ كَمِلْكِ الْوَارِثِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ وَالْمُحِيطُ بِهِ الدَّيْنُ مَشْغُولٌ بِهَا فَلَا يَخْلُفُهُ فِيهِ، وَإِذَا عُرِفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَعَدَمُهُ فَالْعِتْقُ فُرَيْعَتُهُ، وَإِذَا نَفَذَ عِنْدَهُمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ.
قَالَ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَالِهِ جَازَ عِتْقُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ، وَكَذَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ قَلِيلِهِ، فَلَوْ جُعِلَ مَانِعًا لَانْسَدَّ بَابُ الِانْتِفَاعِ بِكَسْبِهِ فَيَخْتَلُّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِذْنِ وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ وَالْمُسْتَغْرَقُ يَمْنَعُهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ) إذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تُحِيطَ بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ أَوْ لَا تُحِيطُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَحَاطَتْ بِمَالِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ، فَالْأَوَّلُ كَمَا إذَا أُذِنَ لِلْعَبْدِ فَاشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا وَالْمَأْذُونُ أَيْضًا يُسَاوِي أَلْفًا وَعَلَيْهِ أَلْفَا دِرْهَمٍ.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَفِي الْأَوَّلِ لَمْ يَمْلِكْ الْمَوْلَى مَا فِي يَدِهِ (وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ كَسْبِهِ لَمْ يُعْتَقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا: لَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ وَيُعْتَقُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ فِي كَسْبِهِ وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ قَدْ وُجِدَ) فَإِنَّ مِلْكَ الْأَصْلِ عِلَّةٌ لِمِلْكِ الْفَرْعِ (وَلِهَذَا يَمْلِكُ إعْتَاقَهَا) يَعْنِي الرَّقَبَةَ (وَوَطْءَ الْأَمَةِ الْمَأْذُونِ لَهَا، وَهَذَا) أَيْ الْمَذْكُورُ مِنْ مِلْكِ الْإِعْتَاقِ وَحِلِّ الْوَطْءِ (آيَةُ كَمَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ) فَكَانَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْكَسْبِ مَوْجُودًا عَلَى الْكَمَالِ فَيَمْلِكُهُ وَيَنْفُذُ فِيهِ إعْتَاقُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنَّ الْمَانِعَ مُتَحَقِّقٌ وَهُوَ إحَاطَةُ الدَّيْنِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا فِي التَّرِكَةِ إذَا اسْتَغْرَقَتْهَا الدُّيُونُ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ إعْتَاقَ الْوَارِثِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ الْوَارِثِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ نَظَرًا لِلْمُوَرِّثِ) بِإِيصَالِ مَالِهِ إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ؛ وَلِهَذَا يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، وَلَا نَظَرَ لِلْمُوَرِّثِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ إحَاطَةِ الدَّيْنِ بِتَرِكَتِهِ (بَلْ النَّظَرُ فِي ضِدِّهِ) أَيْ فِي ضِدِّ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْهِ وَالْمِيرَاثُ صِلَةٌ، وَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْمِلْكِ النَّظَرَ وَقَدْ فَاتَ فَاتَ الْمِلْكُ وَلَا عِتْقَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ (أَمَّا مِلْكُ الْمَوْلَى فَمَا ثَبَتَ نَظَرًا لِلْعَبْدِ) لِيُرَاعَى ذَلِكَ بِعَدَمِ الْعِتْقِ حَتَّى تُقْضَى دُيُونُهُ (وَإِذَا نَفَذَ الْعِتْقُ عِنْدَهُمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى إنَّمَا يَثْبُتُ خِلَافَةً عَنْ الْعَبْدِ عِنْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَتِهِ كَمِلْكِ الْوَارِثِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ) يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِكَسْبِهِ (وَالْمَالُ الَّذِي أَحَاطَ بِهِ الدَّيْنُ مَشْغُولٌ بِهَا فَلَا يَخْلُفُهُ فِيهِ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ الدَّيْنَ الْمُحِيطَ بِالتَّرِكَةِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ فِي الرَّقَبَةِ فَكَذَلِكَ الدَّيْنُ الْمُحِيطُ بِالْكَسْبِ وَالرَّقَبَةِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْمَوْلَى، لِأَنَّ الْخِلَافَةَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ فِي الْمَالِ، فَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ كَالرَّقِيقِ، لِأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ، وَالْمَوْتُ وَالرِّقُّ يُنَافِيَانِ ذَلِكَ، بَلْ مُنَافَاةُ الْمَوْتِ أَظْهَرُ وَالْمَيِّتُ جُعِلَ كَالْمَالِكِ حُكْمًا لِقِيَامِ حَاجَتِهِ إلَى قَضَاءِ دُيُونِهِ فَكَذَلِكَ الرَّقِيقُ (وَإِذَا عُرِفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ عِنْدَهُمَا وَعَدَمُهُ عِنْدَ عُرْفِ الْعِتْقِ وَعَدَمِهِ لِكَوْنِهِ فَرْعَهُ) فَمَنْ قَالَ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ نَفَذَ الْعِتْقُ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَبْطَلَهُ، وَفِي الثَّانِي يَمْلِكُ الْمَوْلَى كَسْبَهُ (وَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ، وَكَذَا عِنْدَهُ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لَا يَعْرَى عَنْ قَلِيلِ الدَّيْنِ، فَلَوْ جُعِلَ مَانِعًا لَانْسَدَّ بَابُ الِانْتِفَاعِ بِكَسْبِهِ فَيَخْتَلُّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِذْنِ وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ الْقَلِيلُ مِلْكَ الْوَارِثِ وَالْمُسْتَغْرِقُ يَمْنَعُهُ) وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ.
وَنَقَلَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ عَنْ بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْعِتْقَ فِيهِ جَائِزٌ. قَالَ (وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ)؛ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِكَسْبِهِ (وَإِنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ مُطْلَقًا)؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِأَنَّ حَقَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ حَتَّى كَانَ لِأَحَدِهِمْ الِاسْتِخْلَاصُ بِأَدَاءِ قِيمَتِهِ.
أَمَّا حَقُّ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِيَّةِ لَا غَيْرَ فَافْتَرَقَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ يَجُوزُ الْبَيْعُ، وَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى إنْ شَاءَ أَزَالَ الْمُحَابَاةَ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ، وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ الْيَسِيرُ مِنْ الْمُحَابَاةِ وَالْفَاحِشُ سَوَاءٌ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغُرَمَاءِ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُمْ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْمُحَابَاةِ الْيَسِيرَةِ حَيْثُ يَجُوزُ وَلَا يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ، وَالْمَوْلَى يُؤْمَرُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْيَسِيرِ مِنْهُمَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ التَّبَرُّعِ وَالْبَيْعِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَاعْتَبَرْنَاهُ تَبَرُّعًا فِي الْبَيْعِ مَعَ الْمَوْلَى لِلتُّهْمَةِ غَيْرَ تَبَرُّعٍ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لِانْعِدَامِهَا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْكَثِيرِ مِنْ الْمُحَابَاةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ أَصْلًا عِنْدَهُمَا، وَمِنْ الْمَوْلَى يَجُوزُ وَيُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ لَا تَجُوزُ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ عَلَى أَصْلِهِمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى، وَلَا إذْنَ فِي الْبَيْعِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ إذْنٌ بِمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، غَيْرَ أَنَّ إزَالَةَ الْمُحَابَاةِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَهَذَانِ الْفَرْقَانِ عَلَى أَصْلِهِمَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ) إذَا بَاعَ الْعَبْدَ الْمَدْيُونَ الَّذِي لَزِمَتْهُ دُيُونٌ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ (لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ) وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ (وَإِذَا بَاعَ مِنْهُ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ مُطْلَقًا) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا (لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ) بِمَيْلِهِ إلَيْهِ عَادَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: التُّهْمَةُ فِيهِ قَدْ تَكُونُ مَوْجُودَةً.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَوْهُومٌ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضَ) مَرْوِيٌّ بِالْوَاوِ وَبِغَيْرِهِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهَذَا الْخِلَافُ مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَبِخِلَافِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ بِلَا مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ، بَلْ الْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ عَدَمُ الْوَاوِ.
وَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِدُونِ الْوَاوِ فَيَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ قَوْلِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ: أَيْ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي كُلِّ حَالٍ: أَعْنِي إذَا كَانَتْ الْمُحَابَاةُ يَسِيرَةً أَوْ فَاحِشَةً أَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ: وَبَيْعُ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا أَوْجَهُ، وَلَكِنَّ النُّسْخَةَ بِالْوَاوِ تَأْبَاهُ.
قُلْت: ذَلِكَ أَوْجَهُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ بِالْقُرْبِ دُونَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ جَوَازُ الْمُحَابَاةِ مَعَهُ مُطْلَقًا، وَلَا يُرَدُّ بَيْعُ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إشْكَالًا عَلَيْهِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ. وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْوَاوِ بِجَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِأَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِي كَلَامِهِ تَعْقِيدٌ، وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ هَكَذَا: وَإِنْ بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ جَازَ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ، لِأَنَّ حَقَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ: أَيْ عَيْنِ مَالِ الْمَيِّتِ حَتَّى كَانَ لِأَحَدِهِمْ الِاسْتِخْلَاصُ بِأَدَاءِ قِيمَتِهِ، أَمَّا حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ لَا غَيْرُ فَافْتَرَقَا: أَيْ الْمَوْلَى وَالْمَرِيضُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مِنْ الْمَوْلَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ دُونَ الْوَارِثِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْكُرُ قَوْلَهُ وَإِنْ بَاعَ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ إلَخْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ يَجُوزُ الْبَيْعُ وَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى، إنْ شَاءَ أَزَالَ الْمُحَابَاةَ بِإِيصَالِ الثَّمَنِ إلَى تَمَامِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَتَخْصِيصُهُمَا بِهَذَا الْحُكْمِ اخْتِيَارٌ مِنْ الْمُصَنِّفِ لِقَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ.
قِيلَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَوْلُ الْكُلِّ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِسَبِيلٍ مِنْ تَخْلِيصِ كَسْبِهِ لِنَفْسِهِ بِالْقِيمَةِ بِدُونِ الْبَيْعِ، فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ أَوْلَى، فَصَارَ الْعَبْدُ فِي تَصَرُّفِهِ مَعَ مَوْلَاهُ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ فِي تَصَرُّفِهِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ (قَوْلُهُ وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ) أَيْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَذْهَبِ صَاحِبَيْهِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ لِبَيَانِ تَسَاوِي الْمُحَابَاةِ بِالْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ، فَإِنَّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا بَاعَ مِنْ مَوْلَاهُ بِنُقْصَانٍ يَسِيرٍ أَوْ كَثِيرٍ لَا يَجُوزُ فَلَا يُخَيَّرُ، وَعَلَى مَذْهَبِهِمَا يَجُوزُ وَلَكِنْ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى (وَوَجْهُ ذَلِكَ) أَيْ وَجْهُ الْجَوَازِ مَعَ التَّخْيِيرِ (أَنَّ الِامْتِنَاعَ) عَنْ الْبَيْعِ بِالنُّقْصَانِ (لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغُرَمَاءِ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُمْ، وَهَذَا) أَيْ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْجَوَازِ وَالتَّخْيِيرِ (بِخِلَافِ الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْمُحَابَاةِ الْيَسِيرَةِ حَيْثُ يَجُوزُ وَلَا يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ، وَالْمَوْلَى يُؤْمَرُ بِهِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْيَسِيرِ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ التَّبَرُّعِ وَالْبَيْعِ.
أَمَّا التَّبَرُّعُ فَلِخُلُوِّ الْبَيْعِ عَنْ الثَّمَنِ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ (فَلِدُخُولِهِ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَاعْتَبَرْنَاهُ تَبَرُّعًا فِي الْبَيْعِ مَعَ الْمَوْلَى لِلتُّهْمَةِ غَيْرَ تَبَرُّعٍ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لِانْعِدَامِهَا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْكَثِيرِ مِنْ الْمُحَابَاةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا أَصْلًا، لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ لَا تَجُوزُ عَلَى أَصْلِهِمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَلَا إذْنَ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ إذْنٌ بِمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، غَيْرَ أَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْغُرَمَاءِ فَيُزَالُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ، وَهَذَانِ الْفَرْقَانِ) بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهَذَا الْفَرْقَانِ: قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ لِوُجُودِ هَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ عَلَى قَوْلِهِمَا وَكَوْنُهُ مُثْبَتًا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْفَرْقَيْنِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ فِي حَقِّ الْمُحَابَاةِ الْيَسِيرَةِ حَيْثُ يُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِإِزَالَتِهَا دُونَ الْأَجْنَبِيِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَثِيرَةِ حَيْثُ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا مَعَ الْأَجْنَبِيِّ أَصْلًا وَتَجُوزُ مَعَ الْمَوْلَى وَيُؤْمَرُ بِالْإِزَالَةِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ فَلَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ مَعَ الْمَوْلَى شَيْئًا مِنْ الْمُحَابَاةِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ مُطْلَقًا وَمَعَ الْمَوْلَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ. قَالَ (وَإِنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَقَلَّ جَازَ الْبَيْعُ)؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَا تُهْمَةَ فِي هَذَا الْبَيْعِ؛ وَلِأَنَّهُ مُفِيدٌ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَيَتَمَكَّنُ الْمَوْلَى مِنْ أَخْذِ الثَّمَنِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا التَّمَكُّنُ وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ تَتْبَعُ الْفَائِدَةَ (فَإِنْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ بَطَلَ الثَّمَنُ)؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْحَبْسُ، فَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ سُقُوطِهِ يَبْقَى فِي الدَّيْنِ وَلَا يَسْتَوْجِبُهُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ عَرَضًا؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ وَجَازَ أَنْ يَبْقَى حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ.
قَالَ (وَإِنْ أَمْسَكَهُ فِي يَدِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ جَازَ)؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْمَبِيعِ وَلِهَذَا كَانَ أَخَصَّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلَى حَقٌّ فِي الدَّيْنِ إذَا كَانَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ (وَلَوْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ أَوْ بِنَقْضِ الْبَيْعِ) كَمَا بَيَّنَّا فِي جَانِبِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى شَيْئًا) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ، إلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَيْهِ: أَيْ الْعَبْدَ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ بَطَلَ الثَّمَنُ، وَتَقْرِيرُ دَلِيلِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى ثَابِتٌ فِي الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْحَبْسُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِمَالِيَّةِ الْعَيْنِ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَالثَّابِتُ فِي الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْحَبْسُ سَقَطَ بِالتَّسْلِيمِ فَحَقُّ الْمَوْلَى سَقَطَ بِهِ، فَلَوْ فُرِضَ بَقَاءُ حَقِّهِ بَعْدَ سُقُوطِهِ لَكَانَ ذَلِكَ فِي الدَّيْنِ لِكَوْنِهِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُهُ عَلَى عَبْدِهِ، حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لَمْ يَضْمَنْ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ عَرْضًا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَسْتَوْجِبُهُ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِعَيْنِهِ بِالْعَقْدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ مِلْكِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَوْدَعَ عِنْدَ عَبْدِهِ شَيْئًا أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ (وَإِنْ أَمْسَكَ الْمَوْلَى الْمَبِيعَ فِي يَدِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ جَازَ لَهُ لِأَنَّهُ بَائِعٌ، وَلِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْمَبِيعِ، وَلِهَذَا كَانَ هُوَ أَخَصَّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ) فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ اسْتَوْجَبَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ حَتَّى حَبَسَ الْمَبِيعَ لِأَجْلِهِ وَهُوَ لَا يَسْتَوْجِبُهُ عَلَى مَا قُلْتُمْ آنِفًا.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلَى حَقٌّ فِي الدَّيْنِ إذَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ) يَعْنِي يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا إذَا كَانَ ذَلِكَ الدَّيْنُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ كَالْمُكَاتَبِ فَإِنَّ الْمَوْلَى اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَهُوَ دَيْنٌ لَمَّا تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُزِيلُ الْعَيْنَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يُزِيلُ يَدَهُ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ الثَّمَنَ، فَإِذَا كَانَتْ الْيَدُ بَاقِيَةً تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِالْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ هِيَ وَبِالدَّيْنِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِهِ بِالْعَيْنِ (وَلَوْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ جَازَ لَكِنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ إزَالَةِ الْمُحَابَاةِ وَنَقْضِ الْبَيْعِ كَمَا بَيَّنَّا فِي جَانِبِ الْعَبْدِ) سَوَاءٌ كَانَتْ يَسِيرَةً أَوْ كَثِيرَةً (لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هَذَا عَلَى اخْتِيَارِ صَاحِبِ الْمَبْسُوطِ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ صَاحِبِ الْكِتَابِ وَهُوَ رِوَايَةُ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ هَذَا الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَصْلًا بِمَا ذُكِرَ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ. قَالَ (وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْمَأْذُونَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ فَعِتْقُهُ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ بَاقٍ وَالْمَوْلَى ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ بَيْعًا وَاسْتِيفَاءً مِنْ ثَمَنِهِ (وَمَا بَقِيَ مِنْ الدُّيُونِ يُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ)؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ وَمَا لَزِمَ الْمَوْلَى إلَّا بِقَدْرِ مَا أَتْلَفَ ضَمَانًا فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَيْهِ كَمَا كَانَ (فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ ضَمِنَ الدَّيْنَ لَا غَيْرَ)؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ بِقَدْرِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ الْمَأْذُونِ لَهُمَا وَقَدْ رَكِبَتْهُمَا دُيُونٌ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِمَا اسْتِيفَاءً بِالْبَيْعِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى مُتْلِفًا حَقَّهُمْ فَلَمْ يَتَضَمَّنْ شَيْئًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى) عَبْدَهُ (الْمَأْذُونَ) لَهُ (وَعَلَيْهِ دُيُونٌ) لَزِمَتْهُ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ أَوْ الْغَصْبِ أَوْ جُحُودِ الْوَدِيعَةِ أَوْ إتْلَافِ الْمَالِ (فَإِعْتَاقُهُ جَائِزٌ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِلْغُرَمَاءِ قِيمَتَهُ) بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مِثْلَهَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا عَلِمَ بِالدَّيْنِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ بَيْعًا وَاسْتِيفَاءً مِنْ ثَمَنِهِ وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْعِلْمِ وَعَدَمِهِ وَلَا يُوجِبُ أَزْيَدَ مِنْ مِقْدَارِ مَا أَتْلَفَهُ (فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَيْهِ كَمَا كَانَ) وَيُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ (فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ ضَمِنَ الدَّيْنَ لَا غَيْرُ لِأَنَّ حَقَّهُمْ بِقَدْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْمُدَبَّرَ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَهُوَ وَاضِحٌ قَالَ (وَإِنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَغَيَّبَهُ، فَإِنْ شَاءَ الْغُرَمَاءُ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُشْتَرِيَ)؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ حَتَّى كَانَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ، إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ وَالْبَائِعُ مُتْلِفٌ حَقَّهُمْ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ وَالتَّغْيِيبِ فَيُخَيَّرُونَ فِي التَّضْمِينِ (وَإِنْ شَاءُوا أَجَازُوا الْبَيْعَ وَأَخَذُوا الثَّمَنَ)؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْإِذْنِ السَّابِقِ كَمَا فِي الْمَرْهُونِ (فَإِنْ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ ثُمَّ رُدَّ عَلَى الْمَوْلَى بِعَيْبٍ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِالْقِيمَةِ وَيَكُونَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي الْعَبْدِ)؛ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ قَدْ زَالَ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ، وَصَارَ كَالْغَاصِبِ إذَا بَاعَ وَسَلَّمَ وَضَمِنَ الْقِيمَةَ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمَالِكِ وَيَسْتَرِدَّ الْقِيمَةَ كَذَا هَذَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَغَيَّبَهُ) مَعْنَاهُ بَاعَهُ بِثَمَنٍ لَا يَفِي بِدُيُونِهِمْ بِدُونِ إذْنِ الْغُرَمَاءِ وَالدَّيْنُ حَالٌّ (فَإِنْ شَاءَ الْغُرَمَاءُ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُشْتَرِيَ)، لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِالْعَبْدِ حَتَّى كَانَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ وَقَدْ أَتْلَفَاهُ، أَمَّا الْبَائِعُ فَبِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَبِالْقَبْضِ وَالتَّغْيِيبِ، فَيُخَيَّرُ الْغُرَمَاءُ فِي التَّضْمِينِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِأَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ بِمُجَرَّدِهِمَا، بَلْ بِتَغْيِيبِ مَا فِيهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَهُوَ الْعَبْدُ لِأَنَّهُمْ يَسْتَسْعَوْنَهُ أَوْ يَبِيعُونَهُ كَمَا يُرِيدُونَ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَفُوتُ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّغْيِيبِ لَا بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (وَإِنْ شَاءُوا أَجَازُوا الْبَيْعَ وَأَخَذُوا الثَّمَنَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ فَلَهُمْ الْإِجَازَةُ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ كَالْإِذْنِ السَّابِقِ) وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِإِذْنِهِمْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضَمَانٌ فَكَذَا إذَا أَجَازُوا، وَكَذَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ وَفَّى بِدُيُونِهِمْ وَوَصَلَ إلَيْهِمْ فَلَيْسَ لَهُمْ تَضْمِينُ الْبَائِعِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الدُّيُونُ عَلَى الْمَأْذُونِ مُؤَجَّلَةً إلَى أَجَلٍ فَبَاعَهُ الْمَوْلَى بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهَا جَازَ بَيْعُهُ، وَلَيْسَ لَهُمْ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ حَتَّى يَحِلَّ دَيْنُهُمْ، فَإِنْ حَلَّ ضَمَّنُوهُ قِيمَتَهُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ مَحَلَّ حَقِّهِمْ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ، وَهَذِهِ فَوَائِدُ الْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي الْمَرْهُونِ) يَعْنِي أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا بَاعَ الْمَرْهُونَ بِدُونِ إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ أَجَازَهُ الْمُرْتَهِنُ جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ (فَإِنْ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ ثُمَّ رُدَّ عَلَى الْمَوْلَى) إلَخْ مَعْنَاهُ إذَا قَبِلَهُ بِقَضَاءٍ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا رَدَّهُ فَقَدْ فَسَخَ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا فَعَادَ إلَى الْحَالِ الْأُولَى وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى قَدْ رَفَعَ عَنْهُمْ الْمُؤْنَةَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَالْوَصِيِّ إذَا بَاعَ التَّرِكَةَ بِغَيْرِ إذْنِ الْغُرَمَاءِ.
وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ حَقَّهُمْ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي الْبَيْعِ بَلْ لَهُمْ الِاسْتِسْعَاءُ وَقَدْ فَاتَ بِالْبَيْعِ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ مُنْحَصِرٌ فِي بَيْعِ التَّرِكَةِ فَافْتَرَقَا. قَالَ (وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ وَأَعْلَمَهُ بِالدَّيْنِ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرُدُّوا الْبَيْعَ) لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ وَهُوَ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَائِدَةٌ، فَالْأَوَّلُ تَامٌّ مُؤَخَّرٌ وَالثَّانِي نَاقِصٌ مُعَجَّلٌ، وَبِالْبَيْعِ تَفُوتُ هَذِهِ الْخِيرَةُ فَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ.
قَالُوا: تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ، فَإِنْ وَصَلَ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ لِوُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ.
قَالَ (فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ غَائِبًا فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي) مَعْنَاهُ إذَا أَنْكَرَ الدَّيْنَ وَهَذَا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْمُشْتَرِي خَصْمُهُمْ وَيَقْضِي لَهُمْ بِدَيْنِهِمْ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اشْتَرَى دَارًا وَوَهَبَهَا وَسَلَّمَهَا وَغَابَ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ.
وَعَنْهُمَا مِثْلُ قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ.
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدَّعِي الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ خَصْمًا لِكُلِّ مَنْ يُنَازِعُهُ.
وَلَهُمَا أَنَّ الدَّعْوَى تَتَضَمَّنُ فَسْخَ الْعَقْدِ وَقَدْ قَامَ بِهِمَا فَيَكُونُ الْفَسْخُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ وَأَعْلَمَهُ بِالدَّيْنِ) إذَا قَالَ الْمَوْلَى هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي أَبِيعُهُ مَدْيُونٌ يُرِيدُ بِهِ سُقُوطَ خِيَارِ الْمُشْتَرِي فِي الرَّدِّ بِعَيْبِ الدَّيْنِ لِيَكُونَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا لَازِمًا فَذَلِكَ لَا يُوجِبُ اللُّزُومَ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ (فَلَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الْبَيْعَ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ وَهُوَ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِ) بِهِ وَكَلِمَةُ بِهِ مَحْذُوفَةٌ مِنْ الْمَتْنِ (وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَائِدَةٌ) فَالْأَوَّلُ يَعْنِي الِاسْتِسْعَاءَ (تَامٌّ مُؤَخَّرٌ وَالثَّانِي نَاقِصٌ) إنْ لَمْ يَفِ بِدُيُونِهِمْ (مُعَجَّلٌ وَبِالْبَيْعِ تَفُوتُ هَذِهِ الْخِيَرَةُ فَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ.
قَالَ الْمَشَايِخُ: تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ، فَإِنْ وَصَلَ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ لِوُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ) قَبِلَ فِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ وُصُولَ الثَّمَنِ إلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِ الْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الرَّدِّ لِجَوَازِ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ لَكِنْ لَا يَفِي الثَّمَنُ بِدُيُونِهِمْ فَيَبْقَى لَهُمْ وِلَايَةُ الرَّدِّ وَالِاسْتِسْعَاءُ فِي الدُّيُونِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ قَدْ رَضُوا بِسُقُوطِ حَقِّهِمْ حَيْثُ قَبَضُوا الثَّمَنَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ وِلَايَةُ الرَّدِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِفَائِدَةِ قَوْلِهِ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّهُمْ إذَا قَبَضُوا الثَّمَنَ وَرَضُوا بِهِ سَقَطَ حَقُّهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُحَابَاةٌ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ مَعْنَاهُ أَنَّ الثَّمَنَ يَفِي بِدُيُونِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَالثَّانِي نَاقِصٌ مُعَجَّلٌ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ نَاقِصًا إذَا لَمْ يَفِ بِالدُّيُونِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا بَاعَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْجَانِي بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ كَانَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فَمَا بَالُ هَذَا لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِقَضَاءِ الدُّيُونِ مِنْ مَالِهِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ الدَّفْعُ عَلَى الْمَوْلَى، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ طُولِبَ بِهِ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَهُوَ وَاجِبٌ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ بِحَيْثُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْبَيْعِ وَالْإِعْتَاقِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْبَيْعُ مِنْ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ أَنَا أَقْضِي دَيْنَهُ وَذَلِكَ عِدَةٌ مِنْهُ بِالتَّبَرُّعِ فَلَا يَلْزَمُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنَا أَقْضِي دَيْنَهُ يَحْتَمِلُ الْكَفَالَةَ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ عِدَةً.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعِدَةَ أَدْنَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَيَثْبُتُ بِهِ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ (فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ غَائِبًا فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي إذَا أَنْكَرَ الدَّيْنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالْإِنْكَارِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنِهِمْ وَصَدَّقَهُمْ فِي الدَّعْوَى كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الْبَيْعَ بِلَا خِلَافٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُشْتَرِي خَصْمُهُمْ وَيَقْضِي لَهُمْ بِدَيْنِهِمْ، لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ خَصْمًا لِكُلِّ مَنْ يُنَازِعُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ خَصْمًا لَادَّعَى عَلَيْهِ، وَالدَّعْوَى تَتَضَمَّنُ فَسْخَ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ قَدْ قَامَ بِهِمَا فَيَكُونُ الْفَسْخُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ) قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ دَارًا لَهَا شَفِيعٌ ثُمَّ وَهَبَهَا لِرَجُلٍ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ وَغَابَ الْوَاهِبُ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَإِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ وَعَنْهُمَا، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ (وَمَنْ قَدِمَ مِصْرًا وَقَالَ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانٍ فَاشْتَرَى وَبَاعَ لَزِمَهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ التِّجَارَةِ)؛ لِأَنَّهُ إنْ أَخْبَرَ بِالْإِذْنِ فَالْإِخْبَارُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْ فَتَصَرُّفُهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَحْجُورَ يَجْرِي عَلَى مُوجِبِ حَجْرِهِ وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَيْ لَا يَضِيقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ، (إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاعُ حَتَّى يَحْضُرَ مَوْلَاهُ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهَا خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى، بِخِلَافِ الْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (فَإِنْ حَضَرَ فَقَالَ هُوَ مَأْذُونٌ بِيعَ فِي الدَّيْنِ)؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الدَّيْنُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى (وَإِنْ قَالَ هُوَ مَحْجُورٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ)؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ قَدِمَ مِصْرًا) رَجُلٌ قَدِمَ مِصْرًا وَقَالَ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانِ فَاشْتَرَى وَبَاعَ لَزِمَهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ التِّجَارَةِ، لِأَنَّهُ إنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فَإِخْبَارُهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْ فَتَصَرُّفُهُ دَلِيلٌ عَلَى إذْنِهِ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ.
وَالثَّانِي أَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَةِ وَهَذَا إقْرَارٌ عَلَى الْمَوْلَى، وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (كَيْ لَا يَضِيقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ) تَوْضِيحُهُ أَنَّ لِلنَّاسِ حَاجَةً إلَى قَبُولِ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَبْعَثُ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ فِي التِّجَارَةِ، فَلَوْ لَوْ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَبْعَثَ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ عِنْدَ كُلِّ تَصَرُّفٍ أَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الضِّيقِ مَا لَا يَخْفَى.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَزِمَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي كَسْبِهِ وَفَاءٌ لَا يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ حَتَّى يَحْضُرَ مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّقَبَةِ لِأَنَّ بَيْعَهَا لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أُذِنَ لِلْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَلَحِقَهُمَا الدَّيْنُ لَا يُبَاعَانِ فِيهِ فَكَانَتْ خَالِصَ حَقِّ الْمَوْلَى وَحِينَئِذٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا وَلَا يُبَاعُ، بِخِلَافِ الْكَسْبِ فَإِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ لَوَازِمِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَهُوَ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ فِي وَسَطِ كِتَابِ الْمَأْذُونِ وَيَتَعَلَّقُ دَيْنُهُ بِكَسْبِهِ، إلَى أَنْ قَالَ: لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِي الْمِلْكِ بَعْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ (فَإِنْ حَضَرَ مَوْلَاهُ فَقَالَ هُوَ مَأْذُونٌ لَهُ بَيْعٌ فِي الدَّيْنِ لِظُهُورِهِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَإِنْ قَالَ هُوَ مَحْجُورٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ) وَعَلَى الْغُرَمَاءِ الْبَيِّنَةُ، لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْإِذْنَ كَدَعْوَاهُ الْإِعْتَاقَ وَالْكِتَابَةَ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عِنْدَ جُحُودِ الْمَوْلَى، إلَّا بِبَيِّنَةٍ.