فصل: فصل فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.فصل فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:

(وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ أَوْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، إنْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إلَّا أَنْ يُكْرَهَ بِمَا يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ) وَكَذَا عَلَى هَذَا الدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، لِأَنَّ تَنَاوُلَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ لِقِيَامِ الْمُحَرَّمِ فِيمَا وَرَاءَهَا، وَلَا ضَرُورَةَ إلَّا إذَا خَافَ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى الْعُضْوِ، حَتَّى لَوْ خِيفَ عَلَى ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ (وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا تُوُعِّدَ بِهِ، فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى أَوْقَعُوا بِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ فَهُوَ آثِمٌ) لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ كَانَ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ مُعَاوِنًا لِغَيْرِهِ عَلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ فَيَأْثَمُ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ إذْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ فَكَانَ آخِذًا بِالْعَزِيمَةِ.
قُلْنَا: حَالَةُ الِاضْطِرَارِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا فَلَا مُحَرَّمَ فَكَانَ إبَاحَةً لَا رُخْصَةً إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِأَنَّ فِي انْكِشَافِ الْحُرْمَةِ خَفَاءٌ فَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ فِيهِ كَالْجَهْلِ بِالْخِطَابِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ.

الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ): لَمَّا ذَكَرَ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ، وَذَكَرَ فِيهِ الْإِكْرَاهَ الْمُلْجِئَ وَهُوَ الَّذِي يَخَافُ فِيهِ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ، وَغَيْرَ الْمُلْجِئِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ الْيَسِيرِ وَالتَّقْيِيدِ، وَالْأَوَّلُ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا سَوَاءً كَانَ عَلَى الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ، وَالثَّانِي إنْ كَانَ عَلَى فِعْلٍ يَسِيرٍ فَلَيْسَ مُعْتَبَرًا وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمُكْرَهَ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى قَوْلٍ فَإِنْ كَانَ قَوْلًا يَسْتَوِي فِيهِ الْجَدُّ وَالْهَزْلُ فَكَذَلِكَ وَإِلَّا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فَعَلَى هَذَا (إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ أَوْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ) يَسِيرٍ لَا يَخَافُ مِنْهُ تَلَفَ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ (أَوْ قَيْدٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ) الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ (وَإِنْ أُكْرِهَ بِمَا يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَسِعَهُ أَنْ يُقْدِمَ، وَعَلَى هَذَا الدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ لِأَنَّ تَنَاوُلَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ لِقِيَامِ الْمُحَرَّمِ فِيمَا وَرَاءَهَا، وَلَا ضَرُورَةَ) عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ (حَتَّى لَوْ خَافَ عَلَى ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَصِيرَ عَلَى مَا تُوُعِّدَ بِهِ) وَأَشَارَ إلَى أَنَّ الْمُلْجِئَ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ لِغَلَّةِ الظَّنِّ، لِأَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ فِي احْتِمَالِ الضَّرْبِ مُتَفَاوِتٌ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ نَصٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ غَالِبُ رَأْيِ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَنْ قَدَرَ فِي ذَلِكَ أَدْنَى الْحَدِّ وَهُوَ أَرْبَعُونَ فَقَالَ: إنْ تُهُدِّدَ بِأَقَلَّ مِنْهَا لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ، لِأَنَّ الْأَقَلَّ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ، وَالتَّعْزِيرُ يُقَامُ عَلَى وَجْهِ الزَّجْرِ لَا الْإِتْلَافِ، لِأَنَّ ذَلِكَ نَصْبُ الْمِقْدَارِ بِالرَّأْيِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ (فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى أَوْقَعُوا بِهِ) أَيْ قَتَلُوهُ أَوْ أَتْلَفُوا عُضْوَهُ (وَلَمْ يَتَنَاوَلْ) وَعَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ (فَهُوَ آثِمٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ) مِنْ حَيْثُ إنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ خَلَلٍ يَعُودُ إلَى الْبَدَنِ أَوْ الْعَقْلِ أَوْ الْعُضْوِ وَحِفْظُ ذَلِكَ مَعَ فَوَاتِ النَّفْسِ غَيْرُ مُمْكِنٍ (كَانَ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْإِقْدَامِ مُعَاوِنًا لِغَيْرِهِ عَلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ فَيَأْثَمُ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى ذَلِكَ رُخْصَةٌ، إذْ الْحُرْمَةُ) بِصِفَةِ أَنَّهَا مَيْتَةٌ أَوْ خَمْرٌ وَهِيَ (قَائِمَةٌ فَ) إذَا امْتَنَعَ (كَانَ آخِذًا بِالْعَزِيمَةِ فَلَا يَأْثَمُ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُرْمَةَ قَائِمَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى حَالَةَ الِاضْطِرَارِ) فَقَالَ {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} (وَالِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا) فَكَانَ لِبَيَانِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ (فَلَا مُحَرَّمَ) حِينَئِذٍ (فَكَانَ إبَاحَةً لَا رُخْصَةً) فَامْتِنَاعُهُ مِنْ التَّنَاوُلِ كَامْتِنَاعِهِ عَنْ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ الْحَلَالِ حَتَّى تَلِفَتْ نَفْسُهُ أَوْ عُضْوُهُ فَكَانَ آثِمًا (لَكِنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِأَنَّ فِي انْكِشَافِ الْحُرْمَةِ خَفَاءً) لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَةِ الْفُقَهَاءِ (فَيُعْذَرُ) أَوْسَاطُ النَّاسِ (بِالْجَهْلِ فِيهِ كَالْجَهْلِ بِالْخِطَابِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ) فَإِنْ قِيلَ: إضَافَةُ الْإِثْمِ إلَى تَرْكِ الْمُبَاحِ مِنْ بَابِ فَسَادِ الْوَضْعِ وَهُوَ فَاسِدٌ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُبَاحَ إنَّمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَالْإِيتَانُ بِهِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ، وَهَاهُنَا قَدْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَتْلُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمِ فَصَارَ التَّرْكُ حَرَامًا لِأَنَّ مَا أَفْضَى إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ. قَالَ (وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أَوْ سَبِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إكْرَاهًا حَتَّى يُكْرَهَ بِأَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ لِمَا مَرَّ، فَفِي الْكُفْرِ وَحُرْمَتُهُ أَشَدُّ أَوْلَى وَأَحْرَى.
قَالَ (وَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا أَمَرُوهُ بِهِ وَيُوَرِّي، فَإِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ) لِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ اُبْتُلِيَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كَيْفَ وَجَدْت قَلْبَك؟ قَالَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}» الْآيَةَ.
وَلِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ لَا يَفُوتُ الْإِيمَانُ حَقِيقَةً لِقِيَامِ التَّصْدِيقِ، وَفِي الِامْتِنَاعِ فَوْتُ النَّفْسِ حَقِيقَةً فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَيْهِ.
قَالَ (فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ وَلَمْ يُظْهِرْ الْكُفْرَ كَانَ مَأْجُورًا) لِأَنَّ «خُبَيْبًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صُلِبَ وَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ، وَقَالَ فِي مِثْلِهِ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ» وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ، وَالِامْتِنَاعُ لِإِعْزَازِ الدِّينِ عَزِيمَةٌ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِلِاسْتِثْنَاءِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ إلَخْ) عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُعْتَبَرُ إكْرَاهًا فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ لَا يُعْتَبَرُ إكْرَاهًا فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ أَشَدُّ، فَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى ذَكَرَهُ بِمَا لَا يَخَافُ بِهِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ لَا يَصِحُّ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا أَمَرُوهُ بِهِ مِنْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، لَكِنَّهُ يُوَرِّي وَالتَّوْرِيَةُ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا اطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَإِنْ أَظْهَرَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوَرِّيًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَأْثَمْ لِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ اُبْتُلِيَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ وَجَدْت قَلْبَك؟ قَالَ: مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ.
قَالَ: فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ»
.
وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} وَقِصَّتُهُ مَعْرُوفَةٌ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فَعُدْ» عُدْ إلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ لَا إلَى الْإِجْرَاءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ جَمِيعًا، لِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ فَيَكُونُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مُبَاحًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا تَنْكَشِفُ حُرْمَتُهُ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْإِيمَانَ (لَا يَفُوتُ بِهَذَا الْإِظْهَارِ حَقِيقَةً) لِأَنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ فِيهِ هُوَ التَّصْدِيقُ وَهُوَ قَائِمٌ حَقِيقَةً، وَالْإِقْرَارُ رُكْنٌ زَائِدٌ وَهُوَ قَائِمٌ تَقْدِيرًا لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ بِشَرْطٍ (وَفِي الِامْتِنَاعِ فَوْتُ النَّفْسِ حَقِيقَةً) فَكَانَ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ فَوْتُ حَقِّ الْعَبْدِ يَقِينًا وَفَوْتُ حَقِّ اللَّهِ تَوَهُّمًا (فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ، فَإِنْ صَبَرَ وَلَمْ يُظْهِرْ الْكُفْرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا، لِأَنَّ خُبَيْبًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صُلِبَ، وَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ، وَقَالَ فِي مِثْلِهِ) أَيْ فِيهِ وَكَلِمَةُ مِثْلِ زَائِدٌ (هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ) وَقِصَّتُهُ مَعْرُوفَةٌ أَيْضًا (وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ) لِتَنَاهِي قُبْحِ الْكُفْرِ وَبَقَاؤُهَا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ (فَكَانَ الِامْتِنَاعُ عَزِيمَةً لِإِعْزَازِ الدِّينِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ) مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ لَمْ تَكُنْ بَاقِيَةً (لِلِاسْتِثْنَاءِ) كَمَا تَقَدَّمَ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَيْضًا مُسْتَثْنًى بِقَوْلِهِ {إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} مِنْ قَوْلِهِ {مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ} فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَتَقْدِيرُهُ: مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ وَشَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، فَاَللَّهُ تَعَالَى مَا أَبَاحَ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِمْ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَإِنَّمَا وَضَعَ عَنْهُمْ الْعَذَابَ وَالْغَضَبَ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ نَفْيِ الْغَصْبِ وَهُوَ حُكْمُ الْحُرْمَةِ عَدَمُ الْحُرْمَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ الْحُكْمِ عَدَمُ الْعِلَّةِ كَمَا فِي شُهُودِ الشَّهْرِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ فَإِنَّ السَّبَبَ مَوْجُودٌ وَالْحُكْمَ مُتَأَخِّرٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْغَضَبُ مُنْتَفِيًا مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْغَضَبِ وَهِيَ الْحُرْمَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ إبَاحَةُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلَّةِ إنْ كَانَ هُوَ الْمُصْطَلَحُ فَذَاكَ مُمْتَنِعُ التَّخَلُّفِ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَعْلُولُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا السَّبَبَ الشَّرْعِيَّ كَمَا مَثَّلَ بِهِ فَإِنَّمَا يَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ عَنْهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ تَأْخِيرَهُ كَمَا فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَلَا دَلِيلَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ.
وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» لِلْإِبَاحَةِ، وَقَوْلُهُمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِمَّا لَا يَنْكَشِفُ حُرْمَتُهُ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهًا لَا فِي الْكُفْرِ. قَالَ (وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ بِأَمْرٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ) لِأَنَّ مَالَ الْغَيْرِ يُسْتَبَاحُ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ (وَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ) لِأَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةٌ لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ وَالْإِتْلَافُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِقَتْلِهِ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ وَيَصْبِرُ حَتَّى يُقْتَلَ، فَإِنْ قَتَلَهُ كَانَ آثِمًا) لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ لِضَرُورَةٍ مَا فَكَذَا بِهَذِهِ الضَّرُورَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ) وَإِنْ أُكْرِهَ رَجُلٌ عَلَى إتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ (بِأَمْرٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَالَ الْغَيْرِ يُسْتَبَاحُ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ، وَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرَهَ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةٌ لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ، وَالْإِتْلَافُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ) لِأَنَّ الْمُكْرِهَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُكْرَهَ وَيُلْقِيَهُ عَلَى الْمَالِ فَيُتْلِفَهُ.
وَقَوْلُهُ (فِيمَا يَصْلُحُ) احْتِرَازٌ عَنْ الْأَكْلِ وَالتَّكَلُّمِ وَالْوَطْءِ فَإِنَّهُ فِيهَا لَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ (وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِقَتْلِهِ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ بَلْ يَصْبِرُ حَتَّى يُقْتَلَ، فَإِنْ قَتَلَهُ كَانَ آثِمًا لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ) بِغَيْرِ حَقٍّ (مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ لِضَرُورَةِ مَا فَكَذَا بِالْإِكْرَاهِ) وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ. قَالَ (وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ إنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ زُفَرُ: يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَيْهِمَا.
لِزُفَرَ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْمُكْرَهِ حَقِيقَةً وَحِسًّا، وَقَرَّرَ الشَّرْعُ حُكْمَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِثْمُ، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ لِأَنَّهُ سَقَطَ حُكْمُهُ وَهُوَ الْإِثْمُ فَأُضِيفَ إلَى غَيْرِهِ، وَبِهَذَا يَتَمَسَّكُ الشَّافِعِيُّ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ، وَيُوجِبُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ أَيْضًا لِوُجُودِ التَّسْبِيبِ إلَى الْقَتْلِ مِنْهُ، وَلِلتَّسْبِيبِ فِي هَذَا حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ عِنْدَهُ كَمَا فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَتْلَ بَقِيَ مَقْصُورًا عَلَى الْمُكْرَهِ مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى التَّأْثِيمِ، وَأُضِيفَ إلَى الْمُكْرِهِ مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى الْحَمْلِ فَدَخَلَتْ الشُّبْهَةُ فِي كُلِّ جَانِبٍ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَتْلِ بِطَبْعِهِ إيثَارًا لِحَيَاتِهِ فَيَصِيرُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ وَهُوَ الْقَتْلُ بِأَنْ يُلْقِيهِ عَلَيْهِ وَلَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى دِينِهِ فَيَبْقَى الْفِعْلُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْإِثْمِ كَمَا نَقُولُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ، وَفِي إكْرَاهِ الْمَجُوسِيِّ عَلَى ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ يَنْتَقِلُ الْفِعْلُ إلَى الْمُكْرَهِ فِي الْإِتْلَافِ دُونَ الذَّكَاةِ حَتَّى يَحْرُمَ كَذَا هَذَا.
الشَّرْحُ:
وَأَمَّا وُجُوبُ الْقِصَاصِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّهُ إمَّا إنْ كَانَ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ جَمِيعًا، أَوْ لَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَحْدَهُ، أَوْ عَلَى الْعَكْسِ.
وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالثَّالِثُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَالرَّابِعُ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
لَهُ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْمُكْرَهِ حَقِيقَةٌ لِصُدُورِهِ مِنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَحِسًّا فَإِنَّهُ مُعَايَنٌ مُشَاهَدٌ، وَكَذَا شَرْعًا لِأَنَّهُ قَرَّرَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ وَهُوَ الْإِثْمُ، فَإِيجَابُ الْقِصَاصِ عَلَى غَيْرِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَغَيْرُ مَشْرُوعٍ، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ لِأَنَّهُ سَقَطَ حُكْمُهُ وَهُوَ الْإِثْمُ فَلَمْ يَكُنْ مُقَرَّرًا عَلَيْهِ شَرْعًا فَجَازَ إضَافَتُهُ إلَى غَيْرِهِ، وَبِهَذَا يَتَمَسَّكُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ وَيُوجِبُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ أَيْضًا لِوُجُودِ التَّسْبِيبِ إلَى الْقَتْلِ مِنْهُ، وَلِلتَّسَبُّبِ فِي هَذَا: أَيْ فِي الْقَتْلِ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ عِنْدَهُ، كَمَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ فَاقْتُصَّ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَجَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الشَّاهِدَانِ عِنْدَهُ لِلتَّسْبِيبِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ، لِأَنَّ دَلِيلَ زُفَرَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إضَافَةِ الْقَتْلِ إلَى غَيْرِ الْمُكْرِهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ ذَلِكَ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ يُضِيفُهُ إلَى غَيْرِهِ أَيْضًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ دَلِيلَهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إضَافَتِهِ إلَى غَيْرِ الْمُكْرِهِ مُبَاشَرَةً، وَالشَّافِعِيُّ يُضِيفُهُ إلَى الْغَيْرِ تَسْبِيبًا فَلَا تَنَافِيَ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَتْلَ الْحَاصِلَ مِنْ الْمُكْرَهِ يَحْتَمِلُ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ وَالتَّعَدِّيَ إلَى غَيْرِهِ نَظَرًا إلَى دَلِيلِ زُفَرَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، لِأَنَّ تَأْثِيمَ الشَّارِعِ يَدُلُّ عَلَى تَقْرِيرِ الْحُكْمِ وَقَصْرِهِ عَلَيْهِ، وَكَوْنُهُ مَحْمُولًا عَلَى الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَالْآلَةِ وَالْفِعْلُ يَنْتَقِلُ عَنْهُ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ شُبْهَةً وَالْقِصَاصُ يَنْدَفِعُ بِهَا.
وَلَهُمَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَتْلِ بِطَبْعِهِ إيثَارًا لِحَيَاتِهِ، وَالْمَحْمُولُ عَلَى الْفِعْلِ بِالطَّبْعِ آلَةٌ لِأَنَّ الْآلَةَ هِيَ الَّتِي تَعْمَلُ بِالطَّبْعِ، كَالسَّيْفِ فَإِنَّ طَبْعَهُ الْقَطْعُ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ فِي مَحَلِّهِ فَيَصِيرُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ وَهُوَ الْقَتْلُ بِأَنْ يُلْقِيَهُ عَلَيْهِ، وَالْفِعْلُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ لَا إلَى الْآلَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ آلَةً لَأُضِيفَ الْإِثْمُ إلَى الْمُكْرَهِ كَالْقَتْلِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَلَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى دِيَتِهِ فَيَبْقَى الْفِعْلُ فِي حَقِّ الْإِثْمِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ كَمَا نَقُولُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ) فَإِنَّ إعْتَاقَهُ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُكْرِهِ مِنْ حَيْثُ إتْلَافُ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ التَّكَلُّمُ، فَإِنَّهُ لَوْ انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ التَّكَلُّمُ أَيْضًا لَمْ يُعْتَقْ الْعَبْدُ (وَ) كَمَا نَقُولُ (فِي إكْرَاهِ الْمَجُوسِيِّ عَلَى ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُكْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْإِتْلَافُ دُونَ الذَّكَاةِ حَتَّى يَحْرُمَ كَذَا هَذَا) وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةٌ لِلْمُكْرِهِ فِي الْقَتْلِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ مَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ فَقَتَلَ إنْسَانًا وَأَكَلَ لَحْمَهُ حَتَّى بَقِيَ هُوَ حَيًّا إيثَارًا لِحَيَاتِهِ بِطَبْعِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا كَالْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّةَ مَنْ يَكُونُ آلَةً لَهُ فَيُضَافُ إلَى نَفْسِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْمُكْرِهُ الْآمِرُ عَاقِلًا أَوْ مَعْتُوهًا أَوْ غُلَامًا غَيْرَ بَالِغٍ فَالْقَوَدُ عَلَى الْآمِرِ، وَعَزَاهُ إلَى الْمَبْسُوطِ، وَنَسَبَهُ شَيْخُ شَيْخِي عَلَاءُ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى السَّهْوِ وَقَالَ: الرِّوَايَةُ فِي الْمَبْسُوطِ بِفَتْحِ الرَّاءِ دُونَ كَسْرِهَا، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ فِي مَبْسُوطِهِ: وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّ الْقَاتِلَ فِي الْحَقِيقَةِ هَذَا الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِوُجُوبِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ. قَالَ (وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ أَوْ عِتْقِ عَبْدِهِ فَفَعَلَ وَقَعَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ.
قَالَ (وَيَرْجِعُ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ) لِأَنَّهُ صَلَحَ آلَةً لَهُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِتْلَافُ فَيُضَافُ إلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ السِّعَايَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ أَوْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَلَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِإِتْلَافِهِ.
قَالَ (وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمَرْأَةِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ مُسَمًّى يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ الْمُتْعَةِ) لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ كَانَ عَلَى شَرْفِ السُّقُوطِ بِأَنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالطَّلَاقِ فَكَانَ إتْلَافًا لِلْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيُضَافُ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ.
بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ بِهَا لِأَنَّ الْمَهْرَ قَدْ تَقَرَّرَ بِالدُّخُولِ لَا بِالطَّلَاقِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ) وَإِنْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ (أَوْ) عَلَى (عِتْقِ عَبْدِهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ) فَإِنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُكْرَهِ كُلَّهَا بَاطِلَةٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ إكْرَاهًا بِحَقٍّ (وَقَدْ مَرَّ) دَلِيلُ الْفَرِيقَيْنِ (فِي الطَّلَاقِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ صَلُحَ آلَةً لَهُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِتْلَافُ فَيُضَافُ إلَيْهِ) وَمَنَعَ صَلَاحِيَّتَهُ لِذَلِكَ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ التَّلَفُّظِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِي حَقِّ التَّلَفُّظِ فَكَذَا فِي حَقِّ مَا يَثْبُتُ فِي ضِمْنِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إتْلَافٌ وَهُوَ يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِيهِ، وَاللَّفْظُ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي إعْتَاقِ الصَّبِيِّ فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ آلَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِتْلَافِ دُونَ التَّلَفُّظِ، وَإِذَا صَحَّ كَوْنُهُ آلَةً صَحَّتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ (فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ) أَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ فَفِيمَا إذَا قَالَ الْمُكْرِهُ أَرَدْت بِقَوْلِي هُوَ حُرٌّ عِتْقًا مُسْتَقْبَلًا كَمَا طَلَبَ مِنِّي فَإِنَّهُ يُعْتَقُ الْعَبْدُ قَضَاءً وَدِيَانَةً، وَيَضْمَنُ الْمُكْرَهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أَمَرَهُ بِهِ عَلَى وَفْقِ مَا أَكْرَهَهُ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِي سِوَى الْإِتْيَانِ بِمَطْلُوبِهِ، وَإِنْ قَالَ خَطَرَ بِبَالِي الْإِخْبَارُ بِالْحُرِّيَّةِ فِيمَا مَضَى كَاذِبًا وَأَرَدْت ذَلِكَ لَا إنْشَاءَ الْحُرِّيَّةِ عَتَقَ الْعَبْدُ قَضَاءً لَا دِيَانَةً لِأَنَّهُ عَدَلَ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَكَانَ طَائِعًا فِي الْإِقْرَارِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فِي دَعْوَى الْإِخْبَارِ كَاذِبًا، وَلَا يَضْمَنُ الْمُكْرَهُ شَيْئًا لِأَنَّ الْعَبْدَ عَتَقَ بِالْإِقْرَارِ طَائِعًا لَا بِالْإِكْرَاهِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الْمُكْرَهُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ بِعِوَضٍ وَهُوَ الْوَلَاءُ، وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافٍ.
فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَلَاءَ عِوَضٌ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْعِتْقُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُكْرَهُ مُعَوَّضًا عَمَّا أَتْلَفَهُ بِمَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ أَصْلًا.
سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ إنَّمَا يَكُونُ كَلَا إتْلَافٍ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَالًا كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ طَعَامِ الْغَيْرِ فَأَكَلَ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لِلْمُكْرَهِ عِوَضٌ، أَوْ فِي حُكْمِ الْمَالِ كَمَا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ إذَا أَتْلَفَهَا مُكْرَهًا لِأَنَّ مَنَافِعَهُ تُعَدُّ مَالًا عِنْدَ الدُّخُولِ، وَالْوَلَاءُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا شَهِدَا بِالْوَلَاءِ ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ.
(وَأَمَّا عَدَمُ السِّعَايَةِ فَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ) كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ وَقَدْ خَرَجَ فَلَا يُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ ثَانِيًا (أَوْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَبْدِ حَقُّ الْغَيْرِ فَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ مُوجِبِي السِّعَايَةِ)، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا فَأُكْرِهَ الرَّاهِنُ عَلَى إعْتَاقِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ بِهِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ سَالِمٌ عَنْ النَّقْضِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِهِمَا فَإِنَّهُ يُنْتَقَضُ بِمَا إذَا أُعْتِقَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ، وَقَدْ أَعْتَقَ مِلْكَهُ وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَيُزَادُ لَهُمَا فِي التَّعْلِيلِ فَيُقَالُ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ (وَلَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِإِتْلَافِهِ) يَعْنِي أَنَّ الْمُكْرَهَ إنَّمَا يَضْمَنُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُعِلَ مُتْلِفًا لِلْعَبْدِ حُكْمًا، فَكَأَنَّهُ قَتَلَهُ وَالْمَقْتُولُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا.
قَالَ (وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمَرْأَةِ) الْجَوَابُ فِيمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا نَظِيرُ الْجَوَابِ فِيمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ فِي حَقِّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَرُجُوعِ الزَّوْجِ عَلَى الْمُكْرَهِ، إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ هَاهُنَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ وَثَمَّةَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ رَجَعَ عَلَى الْمُكْرَهِ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ الْمُتْعَةِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْكُلِّ وَاحِدَةٌ وَهُوَ الْإِتْلَافُ.
أَمَّا فِي الْعِتْقِ فَقَدْ تَقَدَّمَ.
أَمَّا فِي الطَّلَاقِ فَلِقَوْلِهِ لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى الزَّوْجِ كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِأَنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا بِتَمْكِينِ ابْنِ الزَّوْجِ مِنْهَا بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، أَوْ بِالِارْتِدَادِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ تَأَكُّدٌ بِالطَّلَاقِ مُكْرَهًا، فَمَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ تَأَكَّدَ بِهِ وَلِلتَّأْكِيدِ شَبَهٌ بِالْإِيجَابِ، فَكَأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى الْمُكْرَهِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً فَكَانَ إتْلَافًا لِلْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْمُكْرَهُ فِي حَقِّ الْإِكْرَاهِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ فَيُضَافُ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ بِهَا لِأَنَّ الْمَهْرَ تَقَرَّرَ بِالدُّخُولِ لَا بِالطَّلَاقِ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ إتْلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ عِنْدَ الْخُرُوجِ، وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يُضْمَنُ بِمَالٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ إذَا رَجَعَا بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يَضْمَنَانِ. (وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ جَازَ اسْتِحْسَانًا) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مُؤَثِّرٌ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ، وَالْوَكَالَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ زَوَالُ مِلْكِهِ إذَا بَاشَرَ الْوَكِيلُ، وَالنَّذْرُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَلَا رُجُوعَ عَلَى الْمُكْرِهِ بِمَا لَزِمَهُ لِأَنَّهُ لَا مُطَالِبَ لَهُ فِي الدُّنْيَا فَلَا يُطَالَبُ بِهِ فِيهَا، وَكَذَا الْيَمِينُ، وَالظِّهَارُ لَا يَعْمَلُ فِيهِمَا الْإِكْرَاهُ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِمَا الْفَسْخَ، وَكَذَا الرَّجْعَةُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ فِيهِ بِاللِّسَانِ لِأَنَّهَا تَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ، وَالْخُلْعُ مِنْ جَانِبِهِ طَلَاقٌ أَوْ يَمِينٌ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ، فَلَوْ كَانَ هُوَ مُكْرَهًا عَلَى الْخُلْعِ دُونَهَا لَزِمَهَا الْبَدَلُ لِرِضَاهَا بِالِالْتِزَامِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ) أَيْ طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ (فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَبْطُلُ بِالْهَزْلِ فَكَذَا مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ فَكَانَ كَالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَالشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْوَكَالَةِ.
أَمَّا أَنَّهُ كَالشَّرْطِ الْفَاسِدِ فَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ بِهِ الِاخْتِيَارُ فَصَارَ كَأَنَّهُ شَرْطًا شُرِطَ فَاسِدًا فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَلَا يَمْنَعُ الِانْعِقَادَ.
وَأَمَّا أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَلِأَنَّهَا مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ، فَإِنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ فِي مَالِ الْمُوَكِّلِ قَبْلَ التَّوْكِيلِ كَانَ مَوْقُوفًا حَقًّا لِلْمَالِكِ فَهُوَ بِالتَّوْكِيلِ أَسْقَطَهُ، فَإِذَا لَمْ يَفْسُدْ كَانَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ نَافِذًا (وَيَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ) بِمَا عَزَمَ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ (اسْتِحْسَانًا) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرْجِعَ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ وَقَعَ عَلَى الْوَكَالَةِ، وَزَوَالُ الْمِلْكِ لَمْ يَقَعْ بِهَا، فَإِنَّ الْوَكِيلَ قَدْ يَفْعَلُ وَقَدْ لَا يَفْعَلُ فَلَا يُضَافُ التَّلَفُ إلَيْهِ، كَمَا فِي الشَّاهِدَيْنِ شَهِدَا أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَ فُلَانًا بِعِتْقِ عَبْدِهِ فَأَعْتَقَ الْوَكِيلُ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرَهِ زَوَالُ مِلْكِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ، وَكَانَ مَا فَعَلَهُ وَسِيلَةً إلَى الْإِزَالَةِ فَيَضْمَنُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إكْرَاهٌ (قَوْلُهُ وَالنَّذْرُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ) بَيَانٌ لِمَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ وَمَا لَا يَعْمَلُ فِيهِ، وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ مِنْ حَيْثُ مَنْعُ الصِّحَّةِ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُفَوِّتُ الرِّضَا وَفَوَاتُ الرِّضَا يُؤَثِّرُ فِي عَدَمِ اللُّزُومِ وَعَدَمُ اللُّزُومِ يُمَكِّنُ الْمُكْرَهَ مِنْ الْفَسْخِ، فَالْإِكْرَاهُ يُمَكِّنُ الْمُكْرَهَ مِنْ الْفَسْخِ بَعْدَ التَّحَقُّقِ، فَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ فَيَصِحُّ النَّذْرُ مَعَ الْإِكْرَاهِ، فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً لَزِمَهُ ذَلِكَ (وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِمَا لَزِمَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَلَا يُطَالَبُ بِهِ غَيْرُهُ فِيهَا، وَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى يَمِينٍ) فَحَلَفَ انْعَقَدَتْ (أَوْ عَلَى ظِهَارٍ) فَظَاهِرٌ صَحَّ (وَكَذَا عَلَى رَجْعَةٍ) فَفَعَلَ صَحَّ (أَوْ عَلَى إيلَاءٍ فَآلَى أَوْ عَلَى فَيْءٍ إلَيْهَا بِاللِّسَانِ) فَفَعَلَ صَحَّ (لِأَنَّهَا) أَيْ الرَّجْعَةَ وَالْإِيلَاءَ وَالْفَيْءَ (تَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ) وَمَا صَحَّ مَعَ الْهَزْلِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى إعْتَاقِ عَبْدٍ عَنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْ الظِّهَارِ فَفَعَلَ أَجْزَأَهُ عَنْهَا وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَمَّا لَزِمَهُ وَذَلِكَ مِنْهُ حِسْبَةٌ لَا إتْلَافٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنْ عَيَّنَ عَبْدًا لِذَلِكَ فَفَعَلَ عَتَقَ وَلَمْ يَجُزْ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ بِعَيْنِهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ الرُّجُوعُ لَمْ يَكُنْ كَفَّارَةٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ تَرَكَ الَّتِي آلَى مِنْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى بَانَتْ وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ الصَّدَاقِ، وَإِنْ قَرِبَهَا وَكَفَّرَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرَهِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ أَتَى بِضِدِّ مَا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُخَالِعَ امْرَأَتَهُ فَفَعَلَ صَحَّ الْخُلْعُ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ طَلَاقٌ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِلَا بَدَلٍ فَكَذَا بِبَدَلٍ أَوْ يَمِينٍ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَالْيَمِينِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ (فَلَوْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْخُلْعِ دُونَهَا لَزِمَهَا الْبَدَلُ لِرِضَاهَا بِالِالْتِزَامِ) بِإِزَاءِ مَا سَلِمَ لَهَا مِنْ الْبَيْنُونَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرَهِ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ النِّكَاحُ فَلَا يَضْمَنُ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنْ خَالَعَهَا وَهِيَ غَيْرُ مَلْمُوسَةٍ فَاسْتَحَقَّتْ نِصْفَ الصَّدَاقِ هَلْ يَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْمُكْرَهِ لِتَأْكِيدِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ أَوْ لَا؟ قُلْنَا: لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ سَاقَ الزَّوْجُ الْمَهْرَ إلَيْهَا كُلَّهُ أَوَّلًا، فَإِنْ سَاقَ رَجَعَ عَلَى الْمُكْرَهِ بِنِصْفِهِ بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْخُلْعَ عَلَى مَالٍ مُسَمًّى لَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنْهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بِحُكْمِ النِّكَاحِ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ أَوْجَبَ الْبَرَاءَةَ لَكِنَّهَا بَرَاءَةُ مُكْرَهٍ وَالْبَرَاءَةُ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَا تَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يَسُقْ رَجَعَ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ. قَالَ (وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الزِّنَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، إلَّا أَنْ يُكْرِهَهُ السُّلْطَانُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الزِّنَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا: إنْ أَكْرَهَهُ أَحَدٌ عَلَى الزِّنَا فَزَنَى وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِانْتِشَارِ آلَتِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِلَذَاذَةٍ وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا مَحَلُّ الْفِعْلِ، وَمَعَ الْخَوْفِ يَتَحَقَّقُ التَّمْكِينُ مِنْهَا فَلَا يَكُونُ التَّمْكِينُ دَلِيلَ الطَّوَاعِيَةِ.
ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ هُوَ السُّلْطَانُ، لِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ وَلَا حَاجَةَ مَعَ الْإِكْرَاهِ، لِأَنَّ الِانْزِجَارَ كَانَ حَاصِلًا إلَى إنْ حَصَلَ خَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ قَصْدُهُ بِهَذَا الْفِعْلِ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ لَا قَضَاءَ الشَّهْوَةِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَانْتِشَارُ الْآلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ يَنْشُرُ مِنْ النَّائِمِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ.
وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ.
وَأَمَّا تَقْيِيدُ الْإِكْرَاهِ بِالسُّلْطَانِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ اخْتِلَافِ الْعَصْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ، وَقِيلَ مِنْ قَبِيلِ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِكْرَاهِ كَوْنُهُ مُلْجِئًا وَذَلِكَ بِقُدْرَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِيقَاعِ، وَخَوْفُ الْمُكْرَهِ الْوُقُوعُ كَمَا مَرَّ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ أَكْثَرَ تَحَقُّقًا، لِأَنَّ السُّلْطَانَ يَعْلَمُ أَنْ لَا يَفُوتَهُ فَهُوَ ذُو أَنَاةٍ فِي أَمْرِهِ وَغَيْرُهُ يَخَافُ الْفَوْتَ بِالِالْتِجَاءِ إلَى السُّلْطَانِ فَيَجْعَلُ فِي الْإِيقَاعِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُكْرَهَ يَعْجِزُ عَنْ دَفْعِ السُّلْطَانِ عَنْ نَفْسِهِ، إذْ لَيْسَ فَوْقَهُ مَنْ يَلْتَجِئُ إلَيْهِ وَيَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ اللِّصِّ بِالِالْتِجَاءِ إلَى السُّلْطَانِ، فَإِنْ اتَّفَقَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَادِرٌ لَا حُكْمَ لَهُ، ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْمُكْرَهِ لَا يُحْسَبُ لَهَا الْمَهْرُ، لِأَنَّ الْحَدَّ وَالْمَهْرَ لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ إظْهَارًا لِخَطَرِ الْمَحَلِّ سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْتَكْرَهَةً عَلَى الْفِعْلِ أَوْ أَذِنَتْ لَهُ بِذَلِكَ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِسُقُوطِ حَقِّهَا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ لَيْسَ يَحِلُّ الْوَطْءَ فَكَانَ إذْنُهَا لَغْوًا لِكَوْنِهَا مَحْجُورَةً عَنْ ذَلِكَ شَرْعًا. قَالَ (وَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الرِّدَّةِ لَمْ تَبِنْ امْرَأَتُهُ مِنْهُ) لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَا يَكْفُرُ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُفْرَ شَكٌّ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ، فَإِنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ بِنْتُ مِنْك وَقَالَ هُوَ قَدْ أَظْهَرْتُ ذَلِكَ وَقَلْبِي مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ وَهِيَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَدُّلِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ حَيْثُ يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا، لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ رَجَّحْنَا الْإِسْلَامَ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَهَذَا بَيَانُ الْحُكْمِ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْتَلْ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقَتْلِ.
وَلَوْ قَالَ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَخْبَرْتُ عَنْ أَمْرٍ مَاضٍ وَلَمْ أَكُنْ فَعَلْتُ بَانَتْ مِنْهُ حُكْمًا لَا دِيَانَةً.
لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ طَائِعٌ بِإِتْيَانِ مَا لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ، وَحُكْمُ هَذَا الطَّائِعِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَلَوْ قَالَ أَرَدْت مَا طُلِبَ مِنِّي وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي الْخَبَرُ عَمَّا مَضَى بَانَتْ دِيَانَةً وَقَضَاءً، لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ مُبْتَدِئٌ بِالْكُفْرِ هَازِلٌ بِهِ حَيْثُ عَلِمَ لِنَفْسِهِ مَخْلَصًا غَيْرَهُ.
الشَّرْحُ:
وَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الرِّدَّةِ لَمْ تَبِنْ امْرَأَتُهُ مِنْهُ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَمْ يَكْفُرْ، وَفِي تَبَدُّلِهِ شَكٌّ وَكَانَ الْإِيمَانُ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا تَثْبُتُ الرِّدَّةُ بِالشَّكِّ وَلَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْبَيْنُونَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ كَلَامَهُ دَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ إنَّ الرِّدَّةَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَتَبَدُّلُ الِاعْتِقَادِ لَيْسَ بِثَابِتٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ الرِّدَّةُ بِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُفْرَ شَكٌّ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُغَيَّبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا بِتَرْجَمَةِ اللِّسَانِ وَقِيَامُ الْإِكْرَاهِ يَصْرِفُ عَنْ صِحَّةِ التَّرْجَمَةِ (فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ) الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْكُفْرِ (بِالشَّكِّ، فَإِنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ بِنْت مِنْك وَقَالَ الرَّجُلُ قَدْ أَظْهَرْت ذَلِكَ وَقَلْبِي مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ اسْتِحْسَانًا) وَفِي الْقِيَاسِ: الْقَوْلُ قَوْلُهَا فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ، لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ كَالتَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الطَّائِعُ وَالْمُكْرَهُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ (أَنَّ اللَّفْظَ) يَعْنِي كَلِمَةَ الْكُفْرِ (غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ) يَعْنِي لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا ظُهُورًا بَيِّنًا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ حَتَّى يَكُونَ صَرِيحًا يَقُومُ اللَّفْظُ فِيهِ مَقَامَ مَعْنَاهُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ بَلْ دَلَالَتُهَا عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّفْظَ دَلِيلٌ وَتَرْجَمَةٌ لِمَا فِي الْقَلْبِ، فَإِنْ دَلَّ عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْفُرْقَةِ كَانَ دَلَالَتُهُ عَلَيْهَا دَلَالَةً مَجَازِيَّةً، وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَدُّلِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِيهِ يَقُومُ لَفْظُهُ مَقَامَ مَعْنَاهُ (فَ) لِهَذَا (كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ حَيْثُ يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ) أَنْ يَكُونَ لَفْظُهُ يُوَافِقُ اعْتِقَادَهُ (وَاحْتَمَلَ) أَنْ لَا يَكُونَ لَفْظُهُ (رَجَّحْنَا الْإِسْلَامَ فِي الْحَالَيْنِ) قِيلَ أَيْ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الرِّدَّةِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ (لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى) فَلَمْ يُجْعَلْ كَافِرًا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَجُعِلَ مُسْلِمًا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ تَرْجِيحًا لِلْإِسْلَامِ (وَهَذَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ، أَمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ الْإِسْلَامَ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ) وَكَأَنَّ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ شَرْطُ إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَ أَهْلِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْإِقْرَارَ رُكْنًا (وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْتَلْ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ) أَيْ شُبْهَةِ عَدَمِ الِارْتِدَادِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ التَّصْدِيقُ غَيْرَ قَائِمٍ بِقَلْبِهِ عِنْدَ الشَّهَادَتَيْنِ (وَالشُّبْهَةُ دَارِئَةٌ لِلْقَتْلِ) (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ الَّذِي أُكْرِهَ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَقَالَ هُوَ قَدْ أَظْهَرْت ذَلِكَ: يَعْنِي لَوْ قَالَ فِي جَوَابِ قَوْلِهَا قَدْ بِنْت مِنْك أَخْبَرَتْ عَنْ أَمْرٍ مَاضٍ وَلَمْ أَكُنْ فَعَلْت بَانَتْ مِنْهُ قَضَاءً لَا دِيَانَةً لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ طَائِعٌ بِإِتْيَانِ مَا لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى الْإِنْشَاءِ دُونَ الْإِقْرَارِ.
وَمَنْ أَقَرَّ بِالْكُفْرِ طَائِعًا ثُمَّ قَالَ عَنَيْت بِهِ الْكَذِبَ لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، إذْ الظَّاهِرُ هُوَ الصِّدْقُ حَالَةَ الطَّوَاعِيَةِ، لَكِنَّهُ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لِأَنَّهُ ادَّعَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ (وَلَوْ قَالَ أَرَدْت مَا طَلَبَ مِنِّي مِنْ الْكُفْرِ وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي الْخَبَرُ عَمَّا مَضَى بَانَتْ قَضَاءً وَدِيَانَةً لِأَنَّهُ مُبْتَدِئٌ بِالْكُفْرِ هَازِلٌ بِهِ حَيْثُ عَلِمَ لِنَفْسِهِ مُخَلِّصًا غَيْرَهُ) لِأَنَّهُ لَمَّا خَطَرَ هَذَا بِبَالِهِ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ عَمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ بِأَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ، وَالضَّرُورَةُ قَدْ انْدَفَعَتْ بِهَذَا الْإِمْكَانِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ وَأَنْشَأَ الْكُفْرَ كَمَنْ أَجْرَى كَلِمَةَ الْكُفْرِ طَائِعًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ كُفْرٌ فَتَبِينُ امْرَأَتُهُ قَضَاءً وَدِيَانَةً.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ لَا يَكْفُرُ لَا قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً، وَفِي وَجْهٍ يَكْفُرُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَفِي وَجْهٍ يَكْفُرُ قَضَاءً يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَلَمْ يَكْفُرْ دِيَانَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا أَجْرَاهَا فَإِمَّا أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِهِ غَيْرُ مَا طُلِبَ مِنْهُ أَوْ لَا، وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْأَوَّلُ إنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَيُرِيدَ الْإِخْبَارَ عَمَّا مَضَى كَاذِبًا وَأَرَادَهُ فَهُوَ الثَّالِثُ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ فَهُوَ الثَّانِي. وَعَلَى هَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الصَّلَاةِ لِلصَّلِيبِ وَسَبِّ مُحَمَّدِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَفَعَلَ وَقَالَ نَوَيْت بِهِ الصَّلَاةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُحَمَّدًا آخَرَ غَيْرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَانَتْ مِنْهُ قَضَاءً لَا دِيَانَةً، وَلَوْ صَلَّى لِلصَّلِيبِ وَسَبَّ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِهِ الصَّلَاةُ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَبِّ غَيْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَانَتْ مِنْهُ دِيَانَةً وَقَضَاءً لِمَا مَرَّ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ زِيَادَةً عَلَى هَذَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَإِذَا ظَهَرَ لَك هَذَا أَمْكَنَك أَنْ تُخْرِجَ مَسْأَلَةَ الصَّلَاةِ لِلصَّلِيبِ وَسَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا مَرَّ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُبْتَدِئٌ بِالْكُفْرِ هَازِلٌ بِهِ حَيْثُ عَلِمَ لِنَفْسِهِ مُخَلِّصًا غَيْرَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.(كِتَابُ الْحَجْرِ):

قَالَ (الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَجْرِ ثَلَاثَةٌ: الصِّغَرُ، وَالرِّقُّ، وَالْجُنُونُ، فَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الصَّغِيرِ إلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَلَا تَصَرُّفُ الْعَبْدِ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَا تَصَرُّفُ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ بِحَالٍ).
أَمَّا الصَّغِيرُ فَلِنُقْصَانِ عَقْلِهِ، غَيْرَ أَنَّ إذْنَ الْوَلِيِّ آيَةُ أَهْلِيَّتِهِ، وَالرِّقُّ لِرِعَايَةِ حَقِّ الْمَوْلَى كَيْ لَا يَتَعَطَّلَ مَنَافِعُ عَبْدِهِ.
وَلَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ رَضِيَ بِفَوَاتِ حَقِّهِ، وَالْجُنُونُ لَا تُجَامِعُهُ الْأَهْلِيَّةُ فَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ بِحَالٍ، أَمَّا الْعَبْدُ فَأَهْلٌ فِي نَفْسِهِ وَالصَّبِيُّ تُرْتَقَبُ أَهْلِيَّتُهُ فَلِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ.
قَالَ (وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَجَازَهُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ) لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي الْعَبْدِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَخَيَّرُ فِيهِ، وَفِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ نَظَرًا لَهُمَا فَيَتَحَرَّى مَصْلَحَتَهُمَا فِيهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْقِلَا الْبَيْعَ لِيُوجَدَ رُكْنُ الْعَقْدِ فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ، وَالْمَجْنُونُ قَدْ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُرَجِّحُ الْمَصْلَحَةَ عَلَى الْمَفْسَدَةِ وَهُوَ الْمَعْتُوهُ الَّذِي يَصْلُحُ وَكِيلًا عَنْ غَيْرِهِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْوَكَالَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: التَّوَقُّفُ عِنْدَكُمْ فِي الْبَيْعِ.
أَمَّا الشِّرَاءُ فَالْأَصْلُ فِيهِ النَّفَاذُ عَلَى الْمُبَاشِرِ.
قُلْنَا: نَعَمْ إذَا وَجَدَ نَفَاذًا عَلَيْهِ كَمَا فِي شِرَاءِ الْفُضُولِيِّ، وَهَاهُنَا لَمْ نَجِدْ نَفَاذًا لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ أَوْ لِضَرَرِ الْمَوْلَى فَوَقَفْنَاهُ.
قَالَ (وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ) لِأَنَّهُ لَا مَرَدَّ لَهَا لِوُجُودِهَا حِسًّا وَمُشَاهَدَةً، بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا مَوْجُودَةً بِالشَّرْعِ وَالْقَصْدُ مِنْ شَرْطِهِ (إلَّا إذَا كَانَ فِعْلًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) فَيُجْعَلُ عَدَمُ الْقَصْدِ فِي ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
الشَّرْحُ:
(كِتَابُ الْحَجْرِ) أَوْرَدَ الْحَجْرَ عَقِيبَ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا سَلْبَ وِلَايَةِ الْمُخْتَارِ عَنْ الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ اخْتِيَارِهِ، إلَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا كَانَ أَقْوَى تَأْثِيرًا لِأَنَّ فِيهِ سَلْبَهَا عَمَّنْ لَهُ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ وَوِلَايَةٌ كَامِلَةٌ، بِخِلَافِ الْحَجْرِ كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ، وَهُوَ حَسَنٌ لِكَوْنِهِ شَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ أَحَدُ قُطْبَيْ أَمْرِ الدِّيَانَةِ، وَالْآخَرُ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ.
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْعِ، وَفِي عُرْفِهِمْ هُوَ الْمَنْعُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الصَّغِيرُ وَالرَّقِيقُ وَالْمَجْنُونُ.
وَأَسْبَابُهُ مَصَادِرُ هَذِهِ الْأَسَامِي، وَأُلْحِقَ بِهَا الْمُفْتِي الْمَاجِنُ وَالطَّبِيبُ الْجَاهِلُ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَلَمَّا كَانَ أَسْبَابُهُ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُ الصَّغِيرِ إلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَلَا تَصَرُّفُ الْعَبْدِ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ بِحَالٍ مَا.
وَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مَغْلُوبًا وَهُوَ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ كَتَصَرُّفِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ كَمَا سَيَجِيءُ.
أَمَّا عَدَمُ جَوَازِ تَصَرُّفِ الصَّبِيِّ فَلِنُقْصَانِ عَقْلِهِ وَأَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ إنَّمَا هِيَ بِالْعَقْلِ لَكِنَّ أَهْلِيَّتَهُ مُتَرَقَّبَةٌ، وَإِذْنُ وَلِيِّهِ آيَةُ أَهْلِيَّتِهِ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَهُ أَهْلِيَّةٌ لَكِنَّهُ حَجَرَ عَلَيْهِ لِرِعَايَةِ حَقِّ الْمَوْلَى كَيْ لَا تَتَعَطَّلَ عَلَيْهِ مَنَافِعُ عَبْدِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ الْحَجْرُ لَنَفَذَ الْبَيْعُ الَّذِي بَاشَرَهُ وَشِرَاؤُهُ فَيَلْحَقُهُ دُيُونٌ فَيَأْخُذُ أَرْبَابُهَا أَكْسَابَهُ الَّتِي هِيَ مَنْفَعَةُ الْمَوْلَى وَذَلِكَ تَعْطِيلٌ لَهَا عَنْهُ، وَلِئَلَّا يَمْلِكَ رَقَبَةً يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ، غَيْرَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ فَقَدْ رَضِيَ بِفَوَاتِ حَقِّهِ، وَالْجُنُونُ الْغَالِبُ لَا يُجَامِعُهُ أَهْلِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ بِحَالٍ.
قَالَ (وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا) أَرَادَ بِهَؤُلَاءِ الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ وَالْمَجْنُونَ الَّذِي يَجِنُّ وَيُفِيقُ، وَتَصَرُّفُهُمْ فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ وَالشِّرَاءَ جَالِبٌ وَيَقْصِدُهُ لِإِفَادَةِ هَذَا الْحُكْمِ: أَعْنِي كَوْنَ الْبَيْعِ سَالِبًا وَالشِّرَاءِ جَالِبًا وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الْهَازِلِ، فَإِنَّ بَيْعَهُ لَيْسَ لِإِفَادَةِ هَذَا الْحُكْمِ (وَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَهُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ، لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي الْعَبْدِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَخَيَّرُ فِيهِ وَفِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ نَظَرًا لَهُمَا فَيَتَحَرَّى مَصْلَحَتَهُمَا فِيهِ) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ، وَأَرَادَ سُؤَالًا عَلَى الشِّرَاءِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشِّرَاءِ النَّفَاذُ عَلَى الْمُبَاشِرِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ هَاهُنَا مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ.
وَأَجَابَ بِأَنَّ عَدَمَ التَّوَقُّفِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا وُجِدَ عَلَى الْمُبَاشِرِ نَفَاذًا كَمَا فِي شِرَاءِ الْفُضُولِيِّ، وَهَاهُنَا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةٍ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ أَوْ لِضَرَرِ الْمَوْلَى فَوَقَفْنَاهُ.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ الْإِشْكَالِ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى لَفْظِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا أَوْ اشْتَرَى، أَمَّا هَاهُنَا يَعْنِي فِي الْهِدَايَةِ فَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ أَوْ اشْتَرَى فَلَا يَرِدُ الْإِشْكَالُ، وَلَكِنْ جَعَلَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُدُورِيِّ مَذْكُورًا وَهَاهُنَا فَأَوْرَدَ الْإِشْكَالَ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَكَذَا فِي نُسْخَةٍ سَمَاعِيٌّ، وَكَذَا ذَكَرَهُ شَيْخِي فِي شَرْحِهِ (قَوْلُهُ وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ) يَعْنِي الصِّغَرَ وَالرِّقَّ وَالْجُنُونَ (تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ) يَعْنِي مَا تَرَدَّدَ مِنْهَا بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: أَيْ هَذِهِ الْمَعَانِي تُوجِبُ التَّوَقُّفَ عَلَى الْإِجَازَةِ عَلَى الْعُمُومِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ.
وَأَمَّا مَا يَتَمَحَّضُ مِنْهَا ضَرَرًا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْإِعْدَامَ مِنْ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ دُونَ الْعَبْدِ، وَأَمَّا مَا يَتَمَحَّضُ مِنْهَا نَفْعًا كَقَبُولٍ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ لَا حَجْرَ فِيهِ عَلَى الْعُمُومِ (قَوْلُهُ دُونَ الْأَفْعَالِ) يَعْنِي أَنَّ الْمَعَانِيَ الثَّلَاثَةَ لَا تُوجِبُ الْحَجْرَ عَنْ الْأَفْعَالِ (لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنَّ الْأَفْعَالَ لَا مَرَدَّ لَهَا) حَتَّى إنَّ ابْنَ آدَمَ لَوْ انْقَلَبَ عَلَى قَارُورَةِ إنْسَانٍ فَكَسَرَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي الْحَالِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْمَجْنُونُ إذَا أَتْلَفَا شَيْئًا لَزِمَهُمَا الضَّمَانُ فِي الْحَالِ (لِأَنَّ الْأَفْعَالَ تُوجَدُ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً) وَيَحْصُلُ بِهَا الْإِتْلَافُ، وَالْإِتْلَافُ بَعْدَ الْحُصُولِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَلَا إتْلَافَ، بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا حَالَ كَوْنِهَا مَوْجُودَةً حَاصِلٌ (بِالشَّرْعِ وَالْقَصْدِ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِبَارِ) وَلَيْسَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ قَصْدٌ لِقُصُورِ الْعَقْلِ فَيَنْتَفِي الْمَشْرُوطُ بِهِ.
وَأَمَّا فِي الْعَبْدِ فَالْقَصْدُ وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ لَكِنَّهُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ لِلُزُومِ الضَّرَرِ عَلَى الْمَوْلَى بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْأَقْوَالُ مَوْجُودَةٌ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً فَمَا بَالُهَا شَرْطُ اعْتِبَارِهَا مَوْجُودَةً شَرْعًا بِالْقَصْدِ دُونَ الْأَفْعَالِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَوْجُودَةَ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً لَيْسَتْ عَيْنَ مَدْلُولَاتِهَا بَلْ هِيَ دَلَالَاتٌ عَلَيْهَا وَيُمْكِنُ تَخَلُّفُ الْمَدْلُولِ عَنْ دَلِيلِهِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْقَوْلُ الْمَوْجُودُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ، بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهَا عَيْنُهَا فَبَعْدَمَا وُجِدَتْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ، وَالثَّانِي أَنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَقَعُ صِدْقًا وَقَدْ يَقَعُ كَذِبًا وَقَدْ يَقَعُ جِدًّا وَقَدْ يَقَعُ هَزْلًا، فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَصْدِ، أَلَا يَرَى أَنَّ الْقَوْلَ مِنْ الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ إذَا وُجِدَ هَزْلًا لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْعًا فَكَذَا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا حَيْثُ وَقَعَتْ وَقَعَتْ حَقِيقَةً فَلَا يُمْكِنُ تَبْدِيلُهَا، وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا كَانَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَا مَرَدَّ لَهَا: يَعْنِي أَنَّ الْأَفْعَالَ إذَا وُجِدَتْ لَا مَرَدَّ لَهَا، لَكِنْ إذَا كَانَ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ يُجْعَلُ عَدَمُ الْقَصْدِ فِي ذَلِكَ شُبْهَةً دَارِئَةً لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. قَالَ (وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا تَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَلَا إقْرَارُهُمَا) لِمَا بَيَّنَّا (وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُمَا وَلَا عَتَاقُهُمَا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ» وَالْإِعْتَاقُ يَتَمَحَّضُ مَضَرَّةً، وَلَا وُقُوفَ لِلصَّبِيِّ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ بِحَالٍ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ، وَلَا وُقُوفَ لِلْوَلِيِّ عَلَى عَدَمِ التَّوَافُقِ عَلَى اعْتِبَارِ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ، فَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفَانِ عَلَى إجَازَتِهِ وَلَا يَنْفُذَانِ بِمُبَاشَرَتِهِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُقُودِ.
قَالَ (وَإِنْ أَتْلَفَا شَيْئًا لَزِمَهُمَا ضَمَانُهُ) إحْيَاءً لِحَقِّ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ كَوْنَ الْإِتْلَافِ مُوجِبًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَصْدِ كَاَلَّذِي يَتْلَفُ بِانْقِلَابِ النَّائِمِ عَلَيْهِ وَالْحَائِطِ الْمَائِلِ بَعْدَ الْإِشْهَادِ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ عُقُودُهُمَا) أَرَادَ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ عَدَمَ النَّفَاذِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ، وَإِنَّمَا أَعَادَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الثَّلَاثَةَ تُوجِبُ الْحَجْرَ عَنْ الْأَقْوَالِ لِتَنْسَاقَ الْقَوْلِيَّاتُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَالْقَصْدُ مِنْ شَرْطِهِ (وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُمَا وَلَا عَتَاقُهُمَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٌ إلَّا طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ») رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَالْإِعْتَاقُ يَتَمَحَّضُ مَضَرَّةً) لَا مَحَالَةَ (وَ) الطَّلَاقُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَتَرَدَّدَ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِاعْتِبَارِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لَكِنَّ الصَّبِيَّ (لَا وُقُوفَ لَهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ بِحَالٍ) أَمَّا فِي الْحَالِ (فَلِعَدَمِ الشَّهْوَةِ) وَأَمَّا فِي الْمَآلِ فَلِأَنَّ عِلْمَ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِتَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَتَنَافُرِ الطِّبَاعِ عِنْدَ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ (وَ) الْوَلِيُّ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَصْلَحَتِهِ فِي الْحَالِ، لَكِنْ (لَا وُقُوفَ لَهُ عَلَى عَدَمِ التَّوَافُقِ عَلَى اعْتِبَارِ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ، فَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفَانِ عَلَى إجَازَتِهِ وَلَا يَنْفُذَانِ بِمُبَاشَرَتِهِ) أَيْ الْوَلِيِّ (بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُقُودِ) وَقَوْلُهُ (وَإِنْ أَتْلَفَا شَيْئًا) بَيَانٌ لِتَفْرِيعِ الْأَفْعَالِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْحَائِطُ الْمَائِلُ بَعْدَ الْإِشْهَادِ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا قَصْدَ مِنْ صَاحِبِ الْحَائِطِ فِي وُقُوعِ الْحَائِطِ وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ الضَّمَانُ (قَوْلُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ وَالْقَصْدُ مِنْ شَرْطِهِ. قَالَ (فَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِقْرَارُهُ نَافِذٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ) لِقِيَامِ أَهْلِيَّتِهِ (غَيْرُ نَافِذٍ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ) (رِعَايَةً لِجَانِبِهِ)، لِأَنَّ نَفَاذَهُ لَا يَعْرَى عَنْ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ أَوْ كَسْبِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ إتْلَافُ مَالِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِقْرَارُهُ نَافِذٌ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَلَا إقْرَارُهُمَا، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ. قَالَ (فَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَزِمَهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ) لِوُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ وَزَوَالِ الْمَانِعِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحَالِ لِقِيَامِ الْمَانِعِ (وَإِنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ لَزِمَهُ فِي الْحَالِ) لِأَنَّهُ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ حَتَّى لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ (وَيَنْفُذُ طَلَاقُهُ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ شَيْئًا إلَّا الطَّلَاقَ» وَلِأَنَّهُ عَارِفٌ بِوَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ فَكَانَ أَهْلًا، وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ مِلْكِ الْمَوْلَى وَلَا تَفْوِيتُ مَنَافِعِهِ فَيَنْفُذُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٌ إلَّا طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ» وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.