فصل: بَابُ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي لَا يُوجِبُهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.بَابُ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي لَا يُوجِبُهُ:

قَالَ (الْوَطْءُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ هُوَ الزِّنَا) وَإِنَّهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَاللِّسَانِ: وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَشُبْهَةِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ، وَالْحُرْمَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ التَّعَرِّي عَنْ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ثُمَّ الشُّبْهَةُ نَوْعَانِ: شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ وَتُسَمَّى شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ، وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ وَتُسَمَّى شُبْهَةً حُكْمِيَّةً.
فَالْأُولَى تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يُظَنَّ غَيْرُ الدَّلِيلِ دَلِيلًا وَلَا بُدَّ مِنْ الظَّنِّ لِيَتَحَقَّقَ الِاشْتِبَاهُ.
وَالثَّانِيَةُ تَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ.
وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالنَّوْعَيْنِ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ.
وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي الثَّانِيَةِ إذَا ادَّعَى الْوَلَدَ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الْأُولَى وَإِنْ ادَّعَاهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ زِنًا فِي الْأُولَى؛ وَإِنْ سَقَطَ الْحَدُّ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إلَيْهِ وَهُوَ اشْتِبَاهُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَمَحَّضْ فِي الثَّانِيَةِ فَشُبْهَةُ الْفِعْلِ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ: جَارِيَةُ أَبِيهِ وَأُمُّهُ وَزَوْجَتُهُ، وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَبَائِنًا بِالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَأُمُّ وَلَدٍ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَجَارِيَةُ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَالْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ.
فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ إذَا قَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي.
وَلَوْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ وَجَبَ الْحَدُّ.
وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: جَارِيَةُ ابْنِهِ، وَالْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا بِالْكِنَايَاتِ، وَالْجَارِيَةُ الْمَبِيعَةُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَالْمَمْهُورَةُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَالْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ.
فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي لَا يُوجِبُهُ): لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ إقَامَةِ الْحَدِّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَمَا لَا يُوجِبُهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَعْرِيفَ الزِّنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحُدُودِ، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ لِأَنَّ الزِّنَا يَصْدُقُ فِي فِعْلِ الْمَرْأَةِ هَذَا الْفِعْلَ وَلِهَذَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا بِالزِّنَا حَدَّ الْقَذْفِ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَةِ الْمِلْكِ لَيْسَ بِصَادِقٍ عَلَيْهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَصْلِ وَالْمَرْأَةُ تَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا لِمَا سَيَجِيءُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا يَجِبُ فِيهِ عَلَى الرَّجُلِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ.
فَإِنْ قُلْت: قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ تَعْلِيلٌ وَاقِعٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِأَنَّهُ فِي التَّصَوُّرَاتِ.
قُلْت: التَّعْلِيلُ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ التَّعْرِيفِ وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ اعْتِبَارِهِمْ انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ فِي تَحْقِيقِ الزِّنَا.
وَتَقْرِيرُ كَلَامِهِ أَنَّ مَا اعْتَبَرُوا أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ شُبْهَةِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ يُوجِبُ الْحَدَّ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَمَالُ، لِأَنَّ النَّاقِصَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يُوجِبُ عُقُوبَةً كَامِلَةً وَالْكَمَالُ فِي الْحَظْرِ عِنْدَ التَّعَرِّي عَنْ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ (يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ثُمَّ الشُّبْهَةُ) وَهِيَ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَلَى مَا قَالُوا (نَوْعَانِ: شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ وَتُسَمَّى شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ) أَيْ هِيَ شُبْهَةٌ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ بِشُبْهَةٍ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيَّ حُدَّ (وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ وَتُسَمَّى شُبْهَةً حُكْمِيَّةً) وَتُسَمَّى شُبْهَةَ مِلْكٍ أَيْضًا فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ الْحَدَّ، وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ فَالْأُولَى تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَظُنَّ غَيْرَ الدَّلِيلِ دَلِيلًا كَمَا إذَا ظَنَّ أَنَّ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ تَحِلُّ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ نَوْعُ اسْتِخْدَامٍ وَاسْتِخْدَامُ الْجَارِيَةِ يَحِلُّ فَكَذَا الْوَطْءُ فَيَكُونُ تَحَقُّقُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الظَّانِّ (وَالثَّانِيَةُ تَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ) لَكِنْ لَا يَكُونُ عَامِلًا لِمَانِعٍ اتَّصَلَ بِهَا (وَ) هَذِهِ (لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالنَّوْعَيْنِ) جَمِيعًا (لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ) لَكِنْ فِي الْأُولَى عِنْدَ الظَّنِّ وَفِي الثَّانِيَةِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ (وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي الثَّانِي) أَيْ فِي الْوَطْءِ الثَّانِي، وَقِيلَ أَيْ فِي الْمَذْكُورِ الثَّانِي، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي (إذَا ادَّعَى الْوَلَدَ وَلَا يَثْبُتُ فِي الْأَوَّلِ وَإِنْ ادَّعَاهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ) أَيْ خَلَصَ (زِنًا فِي) الشُّبْهَةِ (الْأُولَى وَإِنْ سَقَطَ الْحَدُّ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْوَاطِئِ.
وَقِيلَ هَذَا لَيْسَ بِمُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ يَثْبُتُ فِيهَا النَّسَبُ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ فِي شُبْهَةِ الْعَقْدِ فَيَكْفِي لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ.
وَفِي الْإِيضَاحِ: الْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ بِعِوَضٍ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَعَدَّ شُبْهَةَ الْفِعْلِ وَهِيَ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ كَمَا ذَكَرَ، فَإِذَا قَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي فَلَا حَدَّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَفِعُ بِمَالِ هَؤُلَاءِ حَسْبَ انْتِفَاعِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ فَكَانَ هَذَا ظَنًّا فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فَيَمْتَنِعُ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ وَقَالَتْ الْجَارِيَةُ ظَنَنْت أَنَّهُ يَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِدَعْوَى الشُّبْهَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَلِأَنَّ الزِّنَا يَقُومُ بِهِمَا، فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَرْأَةِ سَقَطَ عَنْ الرَّجُلِ لِمَكَانِ الشَّرِكَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الِاشْتِبَاهِ فِي الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثِ حَتَّى لَا يُحَدَّ إذَا قَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي.
أُجِيبَ بِأَنَّ وَجْهَهُ بَقَاءُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بَعْدَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ مِنْ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَحُرْمَةِ نِكَاحِ الْأُخْتِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ حَتَّى لَوْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: بَيْنَ النَّاسِ اخْتِلَافٌ فِي أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا هَلْ يَقَعُ أَوْ لَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ خِلَافٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ حَتَّى لَوْ قَضَى بِهِ الْقَاضِي لَمْ يَنْفُذْ قَضَاؤُهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى مَالٍ فَوَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ عَلَى مَا يَجِيءُ، وَشُبْهَةُ أُمِّ وَلَدٍ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا هِيَ مَا قُلْنَا فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ قِيَامِ أَثَرِ الْفِرَاشِ فَكَانَ الظَّنُّ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، وَشُبْهَةُ الْعَبْدِ فِي جَارِيَةِ الْمَوْلَى انْبِسَاطُ يَدِ الْعَبْدِ فِي مَالِ مَوْلَاهُ وَالْجَارِيَةُ مِنْ مَالِهِ فَجَازَ أَنْ يَظُنَّ حِلَّ الِانْبِسَاطِ فِيهَا بِالْوَطْءِ (وَالْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ) يَعْنِي إذَا قَالَ الْمُرْتَهِنُ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ سَوَاءٌ ادَّعَى الظَّنَّ أَوْ لَمْ يَدَّعِ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةً انْعَقَدَ لَهُ فِيهَا سَبَبُ الْمِلْكِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَشْتَبِهْ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا انْعَقَدَ لَهُ فِيهَا سَبَبُ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ بِالْهَلَاكِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ مِنْ وَقْتِ الرَّهْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ انْعَقَدَ لَهُ فِيهَا سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ وَيَحْصُلُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْهَلَاكِ.
وَوَجْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ هُوَ أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ عَقْدٌ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ بِحَالٍ فَقِيَامُهُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً حُكْمِيَّةً قِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ بِحَالٍ، فَمَا أَوْرَثَ قِيَامَهَا فِي الْمَحَلِّ شُبْهَةٌ حُكْمِيَّةٌ وَعَلَى هَذَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ اشْتَبَهَ أَوْ لَمْ يَشْتَبِهْ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلْخِدْمَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اشْتِبَاهٍ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَالِ فِي الْجُمْلَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي الرَّهْنِ وَقَدْ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ مِلْكٍ فِي حَقِّ الْمَالِ فَيَشْتَبِهُ أَنَّهُ هَلْ يَثْبُتُ لَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِلْكُ الْمُتْعَةِ أَوْ لَا، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ الثَّابِتَ بِهَا مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبَ مِلْكِ الْمُتْعَةِ بِحَالٍ فَقَدْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا لَا يَشْتَبِهُ، وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ الْمِلْكَ حَالَ قِيَامِ الْجَارِيَةِ وَمِلْكُ الْمَالِ حَالَ قِيَامِ الْجَارِيَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فَقَدْ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ مِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَهَاهُنَا إنَّمَا يَمْلِكُ مَالِيَّةَ الْمَرْهُونِ عِنْدَ الْهَلَاكِ وَمِلْكُ الْمَالِ بَعْدَ الْهَلَاكِ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ.
ثُمَّ عَدَّ الشُّبْهَةَ فِي الْمَحَلِّ وَهِيَ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ عَلَى مَا ذَكَرَهَا (جَارِيَةُ ابْنِهِ) لِقِيَامِ الْمُقْتَضَى لِلْمِلْكِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» (وَالْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا بِالْكِنَايَاتِ) لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي كَوْنِهَا رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً (وَالْجَارِيَةُ الْمَبِيعَةُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ) لِأَنَّ الْيَدَ الَّتِي كَانَ بِهَا مُتَسَلِّطًا عَلَى الْوَطْءِ بَاقِيَةٌ بَعْدُ فَصَارَتْ شُبْهَةً فِي الْمَحَلِّ (وَالْمَمْهُورَةُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ) لِقِيَامِ مِلْكِ الْيَدِ (وَالْمُشْتَرَكَةُ) لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِي النِّصْفِ (وَالْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ) وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَهُ (فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يُحَدُّ) بِكُلِّ تَقْدِيرٍ، وَهَذَانِ النَّوْعَانِ مِنْ الشُّبْهَةِ هُوَ مَا كَانَ رَاجِعًا إلَى الْفَاعِلِ وَالْقَائِلِ. ثُمَّ الشُّبْهَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا تَثْبُتُ إذَا عَلِمَ بِتَحْرِيمِهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ عَلَى مَا يَأْتِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، إذَا عَرَفْنَا هَذَا.
الشَّرْحُ:
وَثَمَّ شُبْهَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ فَإِنَّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَثْبُتُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْدُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاطِئُ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ أَوْ جَاهِلًا بِهَا (وَعِنْدَ) الْعُلَمَاءِ (الْبَاقِينَ لَا تَثْبُتُ إذَا عَلِمَ بِتَحْرِيمِهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ عَلَى مَا يَأْتِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا) أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ بَيَانِ نَوْعَيْ الشُّبْهَةِ سَهْلُ تَخْرِيجِ الْفُرُوعِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ وَاضِحٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ. (وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ) لِزَوَالِ الْمِلْكِ الْمُحَلَّلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَكُونُ الشُّبْهَةُ مُنْتَفِيَةً وَقَدْ نَطَقَ الْكِتَابُ بِانْتِفَاءِ الْحِلِّ وَعَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ، وَلَوْ قَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي مَوْضِعِهِ لِأَنَّ أَثَرَ الْمِلْكِ قَائِمٌ فِي حَقِّ النَّسَبِ وَالْحَبْسِ وَالنَّفَقَةِ فَاعْتُبِرَ ظَنُّهُ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ، وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَالْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ عَلَى مَالٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَقِيَامِ بَعْضِ الْآثَارِ فِي الْعِدَّةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ نَطَقَ الْكِتَابُ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} وَقَوْلُهُ (وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ فِيهِ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَ الزَّيْدِيَّةِ وَالْإِمَامِيَّةِ، فَإِنَّ الزَّيْدِيَّةَ تَقُولُ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جُمْلَةً لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَالْإِمَامِيَّةُ تَقُولُ إنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ أَصْلًا لِكَوْنِهِ خِلَافَ السُّنَّةِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (لِأَنَّهُ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاخْتِلَافَ أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ مُخْتَلِفًا وَالْمَقْصِدُ وَاحِدًا، وَالْخِلَافُ أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا مُخْتَلِفًا.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (فِي حَقِّ النَّسَبِ) يَعْنِي النَّسَبَ بِاعْتِبَارِ الْعُلُوقِ السَّابِقِ عَلَى الطَّلَاقِ لَا النَّسَبِ بِهَذَا الْوَطْءِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ. (وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِّيَّةٌ أَوْ أَمْرُك بِيَدِك فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لَمْ يُحَدَّ) لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيهِ؛ فَمِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي سَائِرِ الْجِنَايَاتِ وَكَذَا إذَا نَوَى ثَلَاثًا لِقِيَامِ الِاخْتِلَافِ مَعَ ذَلِكَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا نَوَى ثَلَاثًا لِقِيَامِ الِاخْتِلَافِ مَعَ ذَلِكَ) أَيْ كَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا نَوَى مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يُحَدُّ وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ لَا يَرْتَفِعُ بِنِيَّةِ الثَّلَاثِ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ قَائِمَةً فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ. (وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ) لِأَنَّ الشُّبْهَةَ حُكْمِيَّةٌ لِأَنَّهَا نَشَأَتْ عَنْ دَلِيلٍ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنْتِ وَمَالُك لِأَبِيك» وَالْأُبُوَّةُ قَائِمَةٌ فِي حَقِّ الْجَدِّ.
قَالَ (وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ) يَعْنِي وَإِنْ كَانَ وَلَدُهُ حَيًّا، وَقَدْ يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ تَعْلِيلُ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْأُبُوَّةُ قَائِمَةٌ فِي حَقِّ الْجَدِّ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ) أَيْ فِي بَابِ نِكَاحِ الرَّقِيقِ. (وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى قَاذِفِهِ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ، وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ) لِأَنَّ بَيْنَ هَؤُلَاءِ انْبِسَاطًا فِي الِانْتِفَاعِ فَظَنَّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ فَكَانَ شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ إلَّا أَنَّهُ زِنًا حَقِيقَةً فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْجَارِيَةُ: ظَنَنْت أَنَّهُ يَحِلُّ لِي وَالْفَحْلُ لَمْ يَدَّعِ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْجَارِيَةُ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ (فِي الظَّاهِرِ) يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ وَكَذَا أَيْ لَا حَدَّ عَلَى الْعَبْدِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ) فَوُرُودُ الشُّبْهَةِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يَكْفِي لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ الْآخَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ هَذَا بِمَا إذَا زَنَى الْبَالِغُ بِصَبِيَّةٍ حَيْثُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْبَالِغِ دُونَ الصَّبِيَّةِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ هُنَاكَ أَيْضًا وَاحِدٌ.
أُجِيبَ بِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ فِي جَانِبِ الصَّبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَاتِ وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا تَمَكَّنَتْ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ شُبْهَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ (وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ عَمِّهِ وَقَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي حُدَّ) لِأَنَّهُ لَا انْبِسَاطَ فِي الْمَالِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَكَذَا سَائِرُ الْمَحَارِمِ سِوَى الْوِلَادِ لِمَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ عَمِّهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي حُدَّ لِأَنَّهُ لَا انْبِسَاطَ فِي الْمَالِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَكَذَا سَائِرُ الْمَحَارِمِ سِوَى الْوِلَادِ لِمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ لَا انْبِسَاطَ فِي الْمَالِ فِيمَا بَيْنَهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يُجْعَلْ هَذَا كَالسَّرِقَةِ يَعْنِي إذَا سَرَقَ مَالَ أَخُوهُ أَوْ أُخْتِهِ لَا يُقْطَعُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ هُنَاكَ يَدْخُلُ بَيْتَ بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَلَا حِشْمَةٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَاكَ الْحِرْزُ وَالْقَطْعُ دَائِرٌ مَعَ هَتْكِ الْحِرْزِ، وَأَمَّا هُنَا فَالْحِلُّ دَائِرٌ مَعَ الْمِلْكِ أَوْ الْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمِلْكُ وَلَا شُبْهَتُهُ وَلَا الْعَقْدُ فَيَجِبُ الْحَدُّ. (وَمَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ وَقَالَتْ النِّسَاءُ: إنَّهَا زَوْجَتُك فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ) قَضَى بِذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِالْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهُ اعْتَمَدَ دَلِيلًا وَهُوَ الْإِخْبَارُ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ فَصَارَ كَالْمَغْرُورِ، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُنْعَدِمٌ حَقِيقَةً.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ) هَذَا مِنْ بَابِ الشُّبْهَةِ فِي الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْفِعْلَ صَدَرَ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ أَطْلَقَ الشَّرْعُ لَهُ الْعَمَلَ بِهِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَجَعَلَ الْمِلْكَ كَالثَّابِتِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْغُرُورِ كَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ اُعْتُبِرَ الْمِلْكُ كَالثَّابِتِ لِدَفْعِ الْغُرُورِ كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَلِهَذَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَلَوْ كَانَتْ الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْلِ لَمَا ثَبَتَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ (وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) يَعْنِي أَنَّهُ يَقُولُ فِيهَا إنَّ إحْصَانَهُ لَمْ يَسْقُطْ بِهَذَا الْفِعْلِ لِأَنَّهُ بَنَى الْحُكْمَ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَدْ كَانَ هَذَا الْوَطْءُ حَلَالًا فِي الظَّاهِرِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ إحْصَانُهُ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمِلْكَ مُنْعَدِمٌ حَقِيقَةً فَلَمْ يَبْقَ الظَّاهِرُ إلَّا شُبْهَةً وَبِهَا يَسْقُطُ الْحَدُّ وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ. (وَمَنْ وَجَدَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَوَطِئَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ بَعْدَ طُولِ الصُّحْبَةِ فَلَمْ يَكُنْ الظَّنُّ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ، وَهَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا غَيْرُهَا مِنْ الْمَحَارِمِ الَّتِي فِي بَيْتِهَا، وَكَذَا إذَا كَانَ أَعْمَى لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ بِالسُّؤَالِ وَغَيْرِهِ، إلَّا إنْ كَانَ دَعَاهَا فَأَجَابَتْهُ أَجْنَبِيَّةٌ وَقَالَتْ: أَنَا زَوْجَتُك فَوَاقَعَهَا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ دَلِيلٌ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ قَدْ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا غَيْرُهَا مِنْ الْمَحَارِمِ الَّتِي فِي بَيْتِهَا) يَعْنِي فَلَا يَصْلُحُ مُجَرَّدُ النَّوْمِ عَلَى فِرَاشِهَا دَلِيلًا شَرْعِيًّا فَكَانَ مُقَصِّرًا فَيَجِبُ الْحَدُّ.
وَإِنَّمَا قَالَ (وَقَالَتْ أَنَا زَوْجَتُك) لِأَنَّهَا إذَا أَجَابَتْ بِالْفِعْلِ وَلَمْ تَقُلْ ذَلِكَ فَوَاقَعَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَذَا فِي الْإِيضَاحِ (وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فَوَطِئَهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَلَكِنْ يُوجَعُ عُقُوبَةً إذَا كَانَ عَلِمَ بِذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَيَلْغُو كَمَا إذَا أُضِيفَ إلَى الذُّكُورِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ، وَحُكْمُهُ الْحِلُّ وَهِيَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَقْدَ صَادَفَ مَحَلَّهُ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يُقْبَلُ مَقْصُودُهُ، وَالْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ قَابِلَةٌ لِلتَّوَالُدِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ إفَادَةِ حَقِيقَةِ الْحِلِّ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ لَا نَفْسَ الثَّابِتِ، إلَّا أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فَوَطِئَهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَكِنْ يُوجَعُ عُقُوبَةً إذَا كَانَ عَلِمَ بِذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ عَلِمَ بِذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ) وَكُلُّ عَقْدٍ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ يَلْغُو (كَمَا إذَا أُضِيفَ إلَى الذُّكُورِ) قَوْلُهُ (وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ عَقْدٌ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ (مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ) وَهَذَا الْمَحَلُّ لَيْسَ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ (لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحِلُّ وَهِيَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَقْدَ صَادَفَ مَحَلَّهُ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يَكُونُ قَابِلًا لِمَقْصُودِهِ) وَهُوَ التَّوَالُدُ هَاهُنَا (وَبَنَاتُ آدَمَ قَابِلَةٌ لِذَلِكَ) قَوْلُهُ وَهَذَا الْمَحَلُّ لَيْسَ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ.
قُلْنَا: لَيْسَ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ أَصْلًا أَوْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ كَانَ مَحَلًّا لَهُ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلِنَا.
وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ كَوْنُهُ مَحَلًّا فِي الْجُمْلَةِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ فَإِنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ زِنًا لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الزِّنَا وَغَيْرِهِ إلَّا بِالْعَقْدِ وَالْفَرْضُ وُجُودُهُ، وَأَوْلَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ مَحَارِمِهِمْ لَا تُنْسَبُ إلَى الزِّنَا فِي الْعُرْفِ وَهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَلَا يُقَرُّونَ عَلَى الزِّنَا بَلْ يُحَدُّونَ عَلَيْهِ (وَ) إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَقْدَ صَادَفَ مَحَلَّهُ (كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ إفَادَةِ حَقِيقَةِ الْحِلِّ) بِتَحْرِيمِ الشَّرْعِ فِي دِينِنَا (فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ إلَّا أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ) (وَمَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ يُعَزَّرُ) لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (وَمَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ) أَيْ فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَالتَّفْخِيذِ وَالتَّبْطِينِ (عُزِّرَ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُنْكَرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ) (وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ أَوْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُعَزَّرُ، وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَيُودَعُ فِي السِّجْنِ، وَقَالَا: هُوَ كَالزِّنَا فَيُحَدُّ) وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ فِي قَوْلٍ يُقْتَلَانِ بِكُلِّ حَالٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ» وَيُرْوَى: «فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ» وَلَهُمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهٍ تَمَحَّضَ حَرَامًا لِقَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ.
وَلَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مُوجِبِهِ مِنْ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ وَهَدْمِ الْجِدَارِ وَالتَّنْكِيسِ مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ بِاتِّبَاعِ الْأَحْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إضَاعَةُ الْوَلَدِ وَاشْتِبَاهُ الْأَنْسَابِ، وَكَذَا هُوَ أَنْدَرُ وُقُوعًا لِانْعِدَامِ الدَّاعِي مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَالدَّاعِي إلَى الزِّنَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ أَوْ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ عِنْدَهُ لِمَا بَيَّنَّاهُ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً) قِيلَ يُرِيدُ أَجْنَبِيَّةً لِأَنَّهُ إذَا أَتَى امْرَأَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ (فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ) أَيْ الدُّبُرِ لَا يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا عِنْدَهُمَا أَيْضًا وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الزِّيَادَاتِ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَحِلُّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَحَلٍّ وَمَحَلٍّ (أَوْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُعَزَّرُ.
وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَيُودَعُ فِي السِّجْنِ، وَقَالَا: هُوَ كَالزِّنَا فَيُحَدُّ) حَدَّ الزِّنَا جَلْدًا إنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ وَرَجْمًا إنْ كَانَ مُحْصَنًا (وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ فِي قَوْلٍ آخَرَ: يُقْتَلَانِ بِكُلِّ حَالٍ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُونَا (لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ» وَيُرْوَى «فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ» وَلَهُمَا أَنَّهُ) أَيْ اللِّوَاطَ (فِي مَعْنَى الزِّنَا) وَقِيلَ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ وَفِعْلِ اللِّوَاطِ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: إنَّهُمَا فِي مَعْنَى الزِّنَا (لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهٍ تَمَحَّضَ حَرَامًا لِقَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ وَهُوَ مَنَاطُ الْحَدِّ فِي الزِّنَا) فَيَلْحَقُ بِهِ اللِّوَاطُ فِي الدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَدْخُلُ فِيمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ (وَلَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي مُوجِبِهِ مِنْ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ وَهَدْمِ الْجِدَارِ عَلَيْهِ وَالتَّنْكِيسِ مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ بِإِتْبَاعِ الْأَحْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ) مِنْ الْحَبْسِ فِي أَنْتَنِ الْمَوَاضِعِ حَتَّى يَمُوتَا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي مُوجِبِ الزِّنَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا (وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إضَاعَةُ الْوَلَدِ وَاشْتِبَاهُ الْأَنْسَابِ) بِخِلَافِ الزِّنَا (وَكَذَا هُوَ أَنْدَرُ وُقُوعًا) مِنْ الزِّنَا (لِانْعِدَامِ الدَّاعِي فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ) يَعْنِي عَلَى مَا هُوَ الْجِبِلَّةُ السَّلِيمَةُ (وَالدَّاعِي إلَى الزِّنَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ) وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً فَبَقِيَ الْقِيَاسُ وَالْقِيَاسُ فِي مِثْلِهِ بَاطِلٌ (وَمَا رَوَاهُ) مِنْ قَتْلِهِمَا أَوْ رَجْمِهِمَا (مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ أَوْ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ) لِلْكُفْرِ بِذَلِكَ (إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ.
قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: وَالرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ إنْ شَاءَ قَتَلَهُ إنْ اعْتَادَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ ضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ؛ فَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا. (وَمَنْ وَطِئَ بَهِيمَةً لَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الزِّنَا فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً وَفِي وُجُودِ الدَّاعِي لِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَنْفِرُ عَنْهُ وَالْحَامِلُ عَلَيْهِ نِهَايَةُ السَّفَهِ أَوْ فَرْطُ الشَّبَقِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ سَتْرُهُ إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنَّهُ تُذْبَحُ الْبَهِيمَةُ وَتُحْرَقُ فَذَلِكَ لِقَطْعِ التَّحَدُّثِ بِهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
الشَّرْحُ:
وَمَنْ وَطِئَ بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الزِّنَا فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً إذْ لَيْسَ فِيهِ تَضْيِيعُ الْوَلَدِ وَلَا إفْسَادُ الْفِرَاشِ وَ لَا فِي وُجُودِ الدَّاعِي لِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَنْفِرُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ نِهَايَةُ السَّفَهِ أَوْ فَرْطُ الشَّبَقِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ سَتْرُهُ أَيْ سَتْرُ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ، وَإِنَّمَا أُضْمِرَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُهُ لِأَنَّ ذِكْرَ الْبَهِيمَةِ يَسْتَلْزِمُهُ فَكَانَ مَرْجِعُهُ حُكْمِيًّا (إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ، وَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ» شَاذٌّ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ فَتَأْوِيلُهُ مُسْتَحِلُّ ذَلِكَ الْفِعْلِ (وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنْ تُذْبَحَ الْبَهِيمَةُ) وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ أَتَى بِرَجُلٍ أَتَى بَهِيمَةً فَأَمَرَ بِالْبَهِيمَةِ فَذُبِحَتْ وَأُحْرِقَتْ بِالنَّارِ (فَذَلِكَ لِقَطْعِ التَّحَدُّثِ بِهِ) كَيْ لَا يُعَيَّرَ بِهَا الرَّجُلُ إذَا كَانَتْ الْبَهِيمَةُ بَاقِيَةً (لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ) (وَمَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ).
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُحَدُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِإِسْلَامِهِ أَحْكَامَهُ أَيْنَمَا كَانَ مَقَامُهُ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِانْزِجَارُ وَوِلَايَةُ الْإِمَامِ مُنْقَطِعَةٌ فِيهِمَا فَيُعَرَّى الْوُجُوبُ عَنْ الْفَائِدَةِ، وَلَا تُقَامُ بَعْدَ مَا خَرَجَ لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً فَلَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا) وَأَقَرَّ عِنْدَ الْإِمَامِ بِالزِّنَا (لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحَدُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِإِسْلَامِهِ أَحْكَامَهُ أَيْنَمَا كَانَ مُقَامُهُ.
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ»).
وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ عَدَمِ الْإِقَامَةِ حِسًّا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْرِفُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْإِمَامِ عَنْهَا فَكَانَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ الْإِقَامَةِ عَدَمَ وُجُوبِ الْحَدِّ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ «فَاجْلِدُوا» فَلَا يُقْبَلُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ مَوَاضِعَ الشُّبْهَةِ خُصَّتْ مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ حُجَّةً قَطْعِيَّةً عَلَى هَذَا أَطْبَقَ الشَّارِحُونَ، وَفِيهِ نَظَرٌ يُعْرَفُ بِاسْتِحْضَارِ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ.
وَهُوَ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِهِمَا إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ بِلَفْظٍ مُقَارَنٍ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بِمَوْجُودٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ حَصَلَ التَّخْصِيصُ بِلَفْظٍ مُقَارَنٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} فَإِنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إلَى الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ.
وَالزِّنَا وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَخَرَجَ مِنْهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ رَجُلًا.
وَإِذَا خَصَّ مُقَارَنًا جَازَ التَّخْصِيصُ بَعْدَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِانْزِجَارُ) يَعْنِي أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ لَيْسَ لِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلِانْزِجَارِ، وَالِانْزِجَارُ يَحْصُلُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَالِاسْتِيفَاءُ مُتَعَذَّرٌ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْإِمَامِ.
فَلَوْ وَجَبَ الْحَدُّ لَعَرَى عَنْ الْفَائِدَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لَا يُقَامُ بَعْدَمَا خَرَجَ لِئَلَّا يَقَعَ الْحُكْمُ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ بِتَأْوِيلِ الْفَاحِشَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أَوْ بِتَأْوِيلِ الْوَطْأَةِ وَلَوْ غَزَا مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ بِنَفْسِهِ كَالْخَلِيفَةِ وَأَمِيرِ مِصْرَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ زَنَى فِي مُعَسْكَرِهِ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِهِ، بِخِلَافِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ وَالسَّرِيَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ تُفَوَّضْ إلَيْهِمَا الْإِقَامَةُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ غَزَا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (فِي مُعَسْكَرِهِ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ مِنْ مُعَسْكَرِهِ وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَزَنَى فِيهَا ثُمَّ خَرَجَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ (وَالسَّرِيَّةُ) قِيلَ هُمْ الَّذِينَ يَسِيرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَخْتَفُونَ بِالنَّهَارِ، وَمِنْهُ «خَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ» (وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَزَنَى بِذِمِّيَّةٍ أَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِحَرْبِيَّةٍ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ وَالذِّمِّيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ وَالْحَرْبِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الذِّمِّيِّ) يَعْنِي إذَا زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ، فَأَمَّا إذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ بِذِمِّيَّةٍ لَا يُحَدَّانِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّلًا (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحَدُّونَ كُلُّهُمْ) وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ.
لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي دَارِنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ، كَمَا أَنَّ الذِّمِّيَّ الْتَزَمَهَا مُدَّةَ عُمُرِهِ وَلِهَذَا يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا، بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ مَا دَخَلَ لِلْقَرَارِ بَلْ لِحَاجَةٍ كَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَلِهَذَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ وَلَا الذِّمِّيُّ بِهِ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ مِنْ الْحُكْمِ مَا يَرْجِعُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ حُقُوقُ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَمِعَ فِي الْإِنْصَافِ يَلْتَزِمْ الِانْتِصَافَ، وَالْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِهِمْ، أَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَمَحْضُ حَقِّ الشَّرْعِ.
وَلِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي بَابِ الزِّنَا فِعْلُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ التَّبَعِ، أَمَّا الِامْتِنَاعُ فِي حَقِّ التَّبَعِ لَا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْأَصْلِ.
نَظِيرُهُ إذَا زَنَى الْبَالِغُ بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ وَتَمْكِينُ الْبَالِغَةِ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ أَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ زِنًا لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْحُرُمَاتِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ عَلَى أَصْلِنَا وَالتَّمْكِينُ مِنْ فِعْلٍ هُوَ زِنًا مُوجِبٌ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَا يُخَاطَبَانِ، وَنَظِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا زَنَى الْمُكْرَهُ بِالْمُطَاوِعَةِ تُحَدُّ الْمُطَاوِعَةُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لَا تُحَدُّ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ) حَاصِلُ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شُمُولُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمِّيِّ وَالذِّمِّيَّةِ وَشُمُولُ الْعَدَمِ فِي الْحَرْبِيِّ وَالْحَرْبِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا الشُّمُولُ لَا يَتَغَيَّرُ بِمُغَايَرَةِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لِلْآخَرِ بِكَوْنِهِ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَدَمُ التَّغَيُّرِ ثَابِتٌ فِي جَانِبِ الْحَرْبِيِّ وَالْحَرْبِيَّةِ.
وَأَمَّا فِي جَانِبِ الذِّمِّيِّ فَيَتَفَاوَتُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ حَالُهُمَا حَيْثُ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ وَلَا تُحَدُّ الْحَرْبِيَّةُ، وَفِي الْعَكْسِ لَا يُحَدَّانِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، وَقَالَ آخِرًا بِشُمُولِ الْوُجُوبِ فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا (لَهُ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي دَارِنَا كَمَا أَنَّ الذِّمِّيَّ الْتَزَمَهَا مُدَّةَ عُمُرِهِ) وَمَنْ الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا تَنْفُذُ عَلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ (وَلِهَذَا يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا) فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِنَا.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ) فَإِنْ قُلْت: فَهُوَ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَقَذْفِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَصَّ مِنْهُ وَلَا يُحَدُّ لِقَذْفِهِ.
قُلْت: الْمَعْنَى بِاعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا، وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْقَذْفِ حَرَامٌ فِي دِينِهِمْ، فَإِبَاحَتُهُمْ ذَلِكَ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ، وَإِنَّمَا هُوَ هَوًى وَتَعَصُّبٌ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْتِزَامَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا هُوَ بِالْتِزَامِ الْقَرَارِ فِي الدَّارِ، لِأَنَّ الِاتِّصَافَ بِكَوْنِهِ مِنْ دَارِنَا إنَّمَا يَكُونُ بِذَلِكَ، وَالْحَرْبِيُّ مَا الْتَزَمَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَخَلَ لِحَاجَةٍ كَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَلِهَذَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ وَلَا الذِّمِّيُّ بِهِ) وَإِذَا لَمْ يَصِرْ مِنْ دَارِنَا وَكَانَ دُخُولُهُ لِحَاجَةٍ (كَانَ مُلْتَزِمًا مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَرْجِعُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ حُقُوقُ الْعِبَادِ) لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَدْخُلْ إلَّا طَامِعًا فِي الْإِنْصَافِ: أَيْ الْعَدْلِ لِأَجْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ (يَلْتَزِمُ الِانْتِصَافَ) أَيْ الْعَدْلَ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ.
(وَالْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ) فَكَانَ دَاخِلًا فِي الِانْتِصَافِ (وَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَمَحْضُ حَقِّ الشَّرْعِ) فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ شَرَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي إثْبَاتِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ (الْأَصْلُ فِي بَابِ الزِّنَا فِعْلُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةُ تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَا يَأْتِي؛ فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَصْلِ) فِيمَا إذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ بِذِمِّيَّةٍ (يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ التَّبَعِ) وَإِلَّا لَا يَكُونُ تَبَعًا فَكَانَ خَلَفًا (وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ فِي حَقِّ التَّبَعِ) فِيمَا إذَا زَنَى الذِّمِّيُّ بِحَرْبِيَّةٍ (فَلَا يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ) وَإِلَّا لَكَانَ مُسْتَتْبَعًا فَكَانَ أَصْلًا، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ تَبَعٌ وَذَلِكَ خَلَفٌ بَاطِلٌ (نَظِيرُ ذَلِكَ إذَا زَنَى الْبَالِغُ بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ) فَإِنَّهُ يُحَدُّ الْبَالِغُ دُونَهُمَا لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ التَّبَعِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ (وَتَمْكِينُ الْبَالِغَةِ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ) فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يَسْتَلْزِمُهُ فِي حَقِّ التَّبَعِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ زِنًا حَقِيقَةً لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْحُرُمَاتِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ عَلَى أَصْلِنَا) وَلِهَذَا لَوْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِوُجُوبِ تَبْلِيغِهِ مَأْمَنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَمْكِينُ الْمَرْأَةِ مِنْهُ زِنًا لِأَنَّ التَّمْكِينَ مِنْ فِعْلِ الزِّنَا زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ وَهُوَ تَبْلِيغُهُ مَأْمَنَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْحُرُمَاتِ تَرْكُ الِامْتِثَالِ بِالْأَوَامِرِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ النَّوَاهِي، فَإِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْعِبَادَاتِ مِنْ حَيْثُ التَّرْكُ تَضْعِيفًا لِلْعَذَابِ عَلَيْهِمْ (قَوْلُهُ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا الْعِرَاقِيِّينَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِكَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ بِالشَّرَائِعِ كُلِّهَا بِالْعِبَادَاتِ وَالْحُرُمَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ عَلَى أَصْلِنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا الْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالشَّرَائِعِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَمَشَايِخُ دِيَارِنَا يَقُولُونَ: إنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِأَدَاءِ مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ مِنْ الْعِبَادَاتِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ) جَوَابٌ عَنْ مُسْتَشْهَدِ مُحَمَّدٍ عَلَى أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ الْأَصْلِ يُوجِبُ السُّقُوطَ مِنْ التَّبَعِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ نَظِيرَ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا يُخَاطَبَانِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُمَا زِنًا، وَالتَّمْكِينُ مِنْ غَيْرِ الزِّنَا لَيْسَ بِزِنًا فَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَالْحَرْبِيُّ مُخَاطَبٌ فَفِعْلُهُ زِنًا، وَالتَّمْكِينُ مِنْ الزِّنَا زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ (وَنَظِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا زَنَى الْمُكْرَهُ بِالْمُطَاوِعَةِ تُحَدُّ الْمُطَاوِعَةُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تُحَدُّ). قَالَ (وَإِذَا زَنَى الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ بِامْرَأَةٍ طَاوَعَتْهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا).
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا زَنَى الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ) صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرَةٌ، وَوَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ قِيَاسُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْآخَرِ (وَإِنْ زَنَى صَحِيحٌ بِمَجْنُونَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ يُجَامَعُ مِثْلُهَا حُدَّ الرَّجُلُ خَاصَّةً) وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ.
لَهُمَا أَنَّ الْعُذْرَ مِنْ جَانِبِهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِهِ فَكَذَا الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِهِ.
وَلَنَا أَنَّ فِعْلَ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هِيَ مَحَلُّ الْفِعْلِ وَلِهَذَا يُسَمَّى هُوَ وَاطِئًا وَزَانِيًا وَالْمَرْأَةُ مَوْطُوءَةً وَمَزْنِيًّا بِهَا، إلَّا أَنَّهَا سُمِّيَتْ زَانِيَةً مَجَازًا تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَالرَّاضِيَةِ فِي مَعْنَى الْمَرْضِيَّةِ، أَوْ لِكَوْنِهَا مُسَبِّبَةً بِالتَّمْكِينِ فَتَعَلَّقَ الْحَدُّ فِي حَقِّهَا بِالتَّمْكِينِ مِنْ قَبِيحِ الزِّنَا وَهُوَ فِعْلُ مَنْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِالْكَفِّ عَنْهُ وَمُؤْتَمٌّ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يُنَاطُ بِهِ الْحَدُّ.
الشَّرْحُ:
قَالَا: (الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِهَا) كَمَا فِي صُورَةِ الْإِجْمَاعِ (لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِهِ فَكَذَا الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِهِ) وَهُوَ فِي الصُّورَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ مِنْ جَانِبِهَا، وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِهِ، وَدَلِيلُنَا ظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا آنِفًا لِمُحَمَّدٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّكْرَارِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ غَيْرَ الْمُحْصَنِ إذَا زَنَى بِالْمُحْصَنَةِ يَجِبُ الرَّجْمُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الرَّجُلِ فَعَدَمُ الرَّجْمِ عَلَى الْأَصْلِ لَا يُوجِبُ عَدَمَهُ عَلَى التَّبَعِ فَلْيَكُنْ نَفْسُ الْحَدِّ كَذَلِكَ.
وَالثَّانِي أَنَّ الصَّبِيَّ أَوْ الْمَجْنُونَ إذَا زَنَى بِالْمُطَاوِعَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْمَهْرُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ الْمُوجِبَيْنِ: إمَّا الْحَدُّ أَوْ الْمَهْرُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ فِيمَا إذَا طَاوَعَتْهُ الْمَرْأَةُ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إحْصَانِ الزَّانِي إحْصَانُ الزَّانِيَةِ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ مَوْقُوفٌ عَلَى شَرَائِطَ أُخَرَ، وَيَلْزَمُ مِنْ تَحْقِيقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُ تَحْقِيقُهُ مِنْهَا بِسَبَبِ التَّمْكِينِ لِأَنَّ تَمْكِينَهَا سَبَبٌ لِفِعْلِ الرَّجُلِ فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ فِي حَقِّهَا.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا الْمَهْرَ عَلَى الصَّبِيِّ فِيمَا إذَا طَاوَعَتْهُ لَخَلَا الْإِيجَابُ عَنْ الْفَائِدَةِ، لِأَنَّ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ الرُّجُوعَ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمَّا طَاوَعَتْهُ صَارَتْ آمِرَةً لِلصَّبِيِّ بِالزِّنَا مَعَهَا وَقَدْ لَحِقَهُ بِذَلِكَ غُرْمٌ، وَصَحَّ الْأَمْرُ مِنْ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ لَهَا وِلَايَةً عَلَى نَفْسِهَا فَلَا يُفِيدُ الْإِيجَابَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ صَبِيَّةً فَإِنَّ الْمُكْرَهَةَ لَيْسَتْ بِآمِرَةٍ وَالصَّبِيَّةَ لَا يَصِحُّ أَمْرُهَا لِعَدَمِ وِلَايَتِهَا عَلَى نَفْسِهَا فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُكْرَهَةِ، فَإِيجَابُ الْمَهْرِ كَانَ مُفِيدًا ثَمَّةَ، إذْ لَيْسَ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ حِينَئِذٍ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ. قَالَ (وَمَنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ حَتَّى زَنَى فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ) وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا يُحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَعْدَ انْتِشَارِ الْآلَةِ وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ.
ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَقَالَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْمُلْجِئَ قَائِمٌ ظَاهِرًا، وَالِانْتِشَارُ دَلِيلٌ مُتَرَدِّدٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ قَصْدٍ لِأَنَّ الِانْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لَا طَوْعًا كَمَا فِي النَّائِمِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَإِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ حُدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَهُمَا قَدْ يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ خَوْفُ الْهَلَاكِ وَأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَلَهُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَدُومُ إلَّا نَادِرًا لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالسُّلْطَانِ أَوْ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُمْكِنُهُ دَفْعُهُ بِنَفْسِهِ بِالسِّلَاحِ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ وَلَا الْخُرُوجُ بِالسِّلَاحِ عَلَيْهِ فَافْتَرَقَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ إلَخْ) ظَاهِرٌ. (وَمَنْ أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَقَالَتْ هِيَ: تَزَوَّجَنِي أَوْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا وَقَالَ الرَّجُلُ تَزَوَّجْتهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي ذَلِكَ) لِأَنَّ دَعْوَى النِّكَاحِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَهُوَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ تَعْظِيمًا لِخَطَرِ الْبُضْعِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي ذَلِكَ) يَعْنِي فِي كِلْتَا الصُّورَتَيْنِ: دَعْوَى الرَّجُلِ النِّكَاحَ وَدَعْوَاهُ الْمَرْأَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْمَهْرُ فِيمَا إذَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِالزِّنَا لِأَنَّهَا تَنْفِي وُجُوبَ الْمَهْرِ فَكَيْفَ وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ وَهِيَ مُنْكِرَةٌ لِلنِّكَاحِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ النِّكَاحَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ وَالزَّوْجُ يَدَّعِي النِّكَاحَ فَبِدَعْوَاهُ النِّكَاحَ انْتَفَى الْحَدُّ عَنْهُ فِي هَذَا الْوَطْءِ لِأَنَّهُ فِي دَعْوَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُصَدَّقًا أَوْ مُكَذَّبًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ أَثْبَتَ النِّكَاحَ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَاحْتِمَالُ الصِّدْقِ قَائِمٌ لَا مَحَالَةَ، وَالِاحْتِمَالُ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُلْحَقٌ بِالْيَقِينِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ، وَسُقُوطُهُ يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الْمَهْرِ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَخْلُو عَنْ غَرَامَةٍ أَوْ عُقُوبَةٍ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْمَلْزُومُ بِدُونِ اخْتِيَارِهَا تَحَقَّقَ اللَّازِمُ كَذَلِكَ فَيَثْبُتُ لَهَا الْمَهْرُ وَإِنْ رَدَّتْهُ. (وَمَنْ زَنَى بِجَارِيَةٍ فَقَتَلَهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ) مَعْنَاهُ: قَتَلَهَا بِفِعْلِ الزِّنَا لِأَنَّهُ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَيُوَفِّرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ تَقَرُّرَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ سَبَبٌ لَمِلْكِ الْأَمَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَاهَا بَعْدَ مَا زَنَى بِهَا وَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَاعْتِرَاضُ سَبَبِ الْمِلْكِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ يُوجِبُ سُقُوطَهُ، كَمَا إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ قَبْلَ الْقَطْعِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ ضَمَانُ قَتْلٍ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ، وَلَوْ كَانَ يُوجِبُهُ فَإِنَّمَا يُوجِبُهُ فِي الْعَيْنِ كَمَا فِي هِبَةِ الْمَسْرُوقِ لَا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ لِأَنَّهَا اُسْتُوْفِيَتْ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا فَلَا يَظْهَرُ فِي الْمُسْتَوْفَى لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِهَا فَأَذْهَبَ عَيْنَهَا حَيْثُ تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَالِكَ يَثْبُتُ فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ وَهِيَ عَيْنٌ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ زَنَى بِجَارِيَةٍ فَقَتَلَهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ) إنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَارِيَةِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْجَارِيَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْحُرَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَا أَنَّ شُبْهَةَ عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ إنَّمَا تَرِدُ فِي حَقِّ الْجَارِيَةِ لَا فِي حَقِّ الْحُرَّةِ، لِأَنَّ الْأَمَةَ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لِلزَّانِي عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ بِشُبْهَةِ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، كَمَا إذَا زَنَى بِهَا فَأَذْهَبَ عَيْنَهَا وَهُوَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ) أَيْ شِرَاءُ الْجَارِيَةِ بَعْدَ الزِّنَا بِهَا قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُحَدُّ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَكَانَ رَدُّ الْمُخْتَلَفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ، لَكِنْ الْخِلَافُ فِي الْمُشْتَرَاةِ بَعْدَ الزِّنَا مَذْكُورٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ (وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ ضَمَانُ قَتْلٍ وَضَمَانَ الْقَتْلِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ) وَالدَّمُ بِمَا لَا يَمْلِكُ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَرَّرُ هَكَذَا لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ، وَضَمَانُ الدَّمِ يَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْمِلْكِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ يُوجِبُهُ) يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَكِنْ إنَّمَا يُوجِبُهُ فِي الْعَيْنِ كَمَا ذَكَرْتُمْ فِي هَيْئَةِ الْمَسْرُوقِ لَا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ لِأَنَّهَا اُسْتُوْفِيَتْ وَتَلَاشَتْ فَلَمْ تَكُنْ قَابِلَةً لِلْمِلْكِ حَالَةَ الضَّمَانِ وَلَا مُسْتَنِدَةً لِأَنَّ الْمُسْتَنِدَ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَعْدُومِ وَالْمَنَافِعُ الْمُسْتَوْفَاةُ مَعْدُومَةٌ.
قِيلَ فَلْيَكُنْ الْمِلْكُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ التَّبَيُّنِ لِئَلَّا يُشْتَرَطَ الْوُجُودُ كَمَا فِي الْحَيْضِ دَرْءًا فِي بَابِ الْحُدُودِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّبَيُّنَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حُكْمٍ مُغَيَّا بِغَايَةٍ يُنْتَظَرُ الْوُصُولُ إلَيْهَا، فَإِنْ وَصَلَ حُكِمَ بِثُبُوتِهِ وَإِلَّا فَلَا كَمَا فِي الْحَيْضِ، وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِهَا) جَوَابٌ لِصُورَةٍ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَشْهِدَ بِهَا أَبُو يُوسُفَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الزَّانِيَ بِالضَّمَانِ يَمْلِكُ الْجُثَّةَ الْعَمْيَاءَ لِكَوْنِهَا قَابِلَةً لِلْمِلْكِ إذْ هِيَ مَوْجُودَةٌ فَتُورِثُ الشُّبْهَةَ، وَهَذَا الْجَوَابُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ الْجَوَابِ دُونَ التَّنَزُّلِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمِلْكُ يَثْبُتُ فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ مُسْتَنِدًا فَلَا يَظْهَرُ فِي الْمُسْتَوْفِي: أَعْنِي الْمَنَافِعَ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً، وَأَمَّا إذَا نَظَرْت إلَى أَصْلِ الْجَوَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ إنَّهُ ضَمَانُ قَتْلٍ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ وَهُوَ لَيْسَ بِعَيْنٍ تُمْلَكُ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِالنَّظَرِ إلَى التَّنَزُّلِ أَيْضًا بِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِيهِ أَيْضًا لَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ فَتَكُونُ فِي الْمَنَافِعِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهَا حَقِيقَةً فَيَكُونُ فِي الْمَنَافِعِ الشُّبْهَةُ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ، لَكِنْ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُشِيرُ إلَى هَذَا أَصْلًا قَالَ (وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْإِمَامُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إلَّا الْقِصَاصُ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ وَبِالْأَمْوَالِ) لِأَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِقَامَتُهَا إلَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ، بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِيهِ وَلِيُّ الْحَقِّ إمَّا بِتَمْكِينِهِ أَوْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقِصَاصُ وَالْأَمْوَالُ مِنْهَا.
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ قَالُوا الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
(وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْإِمَامُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ) وَفَسَّرَهُ أَبُو اللَّيْثِ بِالْخَلِيفَةِ (فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إلَّا الْقِصَاصُ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ وَبِالْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِقَامَتُهَا إلَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ» وَعَدَّ مِنْهَا إقَامَةَ الْحُدُودِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقَّ الشَّرْعِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُحَدَّ الْمُسْتَأْمَنُ إذَا قَذَفَ كَمَا لَوْ زَنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُحَدُّ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقَّيْنِ لَا مَحَالَةَ فَيُعْمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَمَا يَلِيقُ بِالْحَرْبِيِّ أَنْ يَكُونَ حَقَّ الْعَبْدِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ، وَمَا يَلِيقُ بِالْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ يَسْتَوْفِيهِ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.