فصل: (فَصْلٌ فِي غَصْبِ مَا لَا يَتَقَوَّمُ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(فَصْلٌ فِي غَصْبِ مَا لَا يَتَقَوَّمُ):

قَالَ (وَإِذَا أَتْلَفَ الْمُسْلِمُ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَوْ خِنْزِيرَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُمَا، فَإِنْ أَتْلَفَهُمَا لِمُسْلِمٍ لَمْ يَضْمَنْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَضْمَنُهَا لِلذِّمِّيِّ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَتْلَفَهُمَا ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ أَوْ بَاعَهُمَا الذِّمِّيُّ مِنْ الذِّمِّيِّ.
لَهُ أَنَّهُ سَقَطَ تَقَوُّمُهُمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَذَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَنَا فِي الْأَحْكَامِ فَلَا يَجِبُ بِإِتْلَافِهِمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَهُوَ الضَّمَانُ.
وَلَنَا أَنَّ التَّقْوِيمَ بَاقٍ فِي حَقِّهِمْ، إذْ الْخَمْرُ لَهُمْ كَالْخَلِّ لَنَا وَالْخِنْزِيرُ لَهُمْ كَالشَّاةِ لَنَا.
وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ وَالسَّيْفُ مَوْضُوعٌ فَيَتَعَذَّرُ الْإِلْزَامُ، وَإِذَا بَقِيَ التَّقَوُّمُ فَقَدْ وُجِدَ إتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ مُتَقَوِّمٍ فَيَضْمَنُهُ.
بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ لَا يَدِينُ تَمَوُّلَهُمَا، إلَّا أَنَّهُ تَجِبُ قِيمَةُ الْخَمْرِ وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمْلِيكِهِ لِكَوْنِهِ إعْزَازًا لَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَرَتْ الْمُبَايَعَةُ بَيْنَ الذِّمِّيِّينَ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَتَمَلُّكِهَا.
وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى عَنْ عُقُودِهِمْ، وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ يَكُونُ لِلذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّا مَا ضَمِنَّا لَهُمْ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ، وَبِخِلَافِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا إذَا كَانَ لِمَنْ يُبِيحُهُ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ:
فِي غَصْبِ مَا لَا يَتَقَوَّمُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ غَصْبُ مَا يَتَقَوَّمُ لِتَحْقِيقِ الْغَصْبِ فِيهِ حَقِيقَةً بَيَّنَ غَصْبَ مَا لَا يَتَقَوَّمُ بِاعْتِبَارِ عَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ مُتَقَوِّمًا إمَّا بِاعْتِبَارِ دِيَانَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِتَقَوُّمِهِ أَوْ بِتَغَيُّرِهِ فِي نَفْسِهِ إلَى التَّقْوِيمِ (قَالَ: وَإِنْ أَتْلَفَ الْمُسْلِمُ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَوْ خِنْزِيرَهُ إلَخْ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إتْلَافُ الْمُسْلِمِ خَمْرَ الْمُسْلِمِ.
وَإِتْلَافُ الذِّمِّيِّ خَمْرَ الْمُسْلِمِ، وَإِتْلَافُ الذِّمِّيِّ خَمْرَ الذِّمِّيِّ، وَإِتْلَافُ الْمُسْلِمِ خَمْرَ الذِّمِّيِّ.
وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُتْلِفِ فِي الْأَوَّلَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا فِي الْآخَرَيْنِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَاعَهَا الذِّمِّيُّ مِنْ الذِّمِّيِّ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ.
قَالَ (سَقَطَ تَقَوُّمُهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ بِلَا خِلَافٍ فَكَذَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَنَا فِي الْأَحْكَامِ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمِّيِّ فَأَعْلِمُوهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» أَوْ إذَا سَقَطَ تَقَوُّمُهَا (فَلَا يَجِبُ بِإِتْلَافِهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَهُوَ الضَّمَانُ) أَيْ مَا يَضْمَنُ بِهِ (وَلَنَا أَنَّ التَّقَوُّمَ بَاقٍ فِي حَقِّهِمْ، إذْ الْخَمْرُ لَهُمْ كَالْخَلِّ وَالْخِنْزِيرُ عِنْدَهُمْ كَالشَّاةِ عِنْدَنَا) دَلَّ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ سَأَلَ عَمَّا لَهُ: مَاذَا تَصْنَعُونَ بِمَا يَمُرُّ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْخُمُورِ؟ فَقَالُوا: نَعْشِرُهَا، قَالَ: لَا تَفْعَلُوا، وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا، فَقَدْ جَعَلَهَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَهَا وَأَمَرَ بِأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ ثَمَنِهَا وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ إلَّا لِتَدَيُّنِهِمْ بِذَلِكَ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ يَعْنِي لَا نُجَادِلُهُمْ عَلَى التَّرْكِ (وَالسَّيْفُ مَوْضُوعٌ) يَعْنِي لَا يُجْبَرُونَ عَلَى التَّرْكِ بِالْإِلْزَامِ بِالسَّيْفِ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ، وَحِينَئِذٍ تَعْذُرُ الْإِلْزَامُ عَلَى تَرْكِ التَّدَيُّنِ فَبَقِيَ التَّقَوُّمُ فِي حَقِّهِمْ، وَإِذَا بَقِيَ فَقَدْ وُجِدَ إتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ مُتَقَوِّمٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الضَّمَانَ بِالنَّصِّ فَيَضْمَنُهُ، وَنُوقِضَ بِمَا إذَا مَاتَ الْمَجُوسِيُّ عَنْ ابْنَتَيْنِ إحْدَاهُمَا امْرَأَتُهُ فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ شَيْئًا مِنْ الْمِيرَاثِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ صِحَّةَ ذَلِكَ النِّكَاحِ وَصِحَّةُ النِّكَاحِ تُوجِبُ تَوْرِيثَ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْمَانِعُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي دِيَانَتِهِمْ ثُمَّ لَمْ نَتْرُكْهُمْ وَمَا يَدِينُونَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ التَّوْرِيثَ بِأَنْكِحَةِ الْمَحَارِمِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَيَانٍ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ) جَوَابٌ لِمَقِيسٍ عَلَيْهِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ (لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ لَا يَدِينُ تَمَوُّلَهُمَا، إلَّا أَنَّهُ تَجِبُ قِيمَةُ الْخَمْرِ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً) وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ فِي الْكِتَابِ بِتَأْوِيلِ الشَّرَابِ أَوْ الْمَذْكُورِ (لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمَلُّكِهِ لِكَوْنِهِ إعْزَازًا لَهُ) بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَمْنُوعِينَ عَنْ تَمْلِيكِهَا وَتَمَلُّكِهَا، فَإِنْ جَرَتْ بَيْنَهُمَا مُبَايَعَةٌ جَازَ لَهُمْ التَّمْلِيكُ وَالتَّمَلُّكُ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ جَازَ تَسْلِيمُ مِثْلِهَا وَتَسَلُّمُهُ قَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَمَلُّكِ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ، كَذَا قِيلَ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ نَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ إلَى آخِرِهِ لَا تُسَاقُ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْعَطْفِ حِينَئِذٍ وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُقُودِهِمْ) يَعْنِي بِعَدَمِ الْجَوَازِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ» وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِسْقٌ مِنْهُمْ لَا تَدَيُّنٌ لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي دِينِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} (وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ لِلذِّمِّيِّ) فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَتْلَفَهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ اعْتِقَادُ الذِّمِّيِّ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُرْتَدَّ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَهُوَ أَيْضًا فِي الْحَقِيقَةِ مَقِيسٌ عَلَيْهِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَوَجْهُ الْجَوَابِ (أَنَّا مَا ضَمَّنَا لَهُمْ تَرْكُ التَّعَرُّضِ) لِلْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ لِلذِّمِّيِّ (لِمَا فِيهِ) أَيْ فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ (مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ) بِالتَّرْكِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ.
وَاسْتَشْكَلَ هَذَا التَّعْلِيلُ بِمَا إذَا أَتْلَفَ عَلَى نَصْرَانِيٍّ صَلِيبًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ صَلِيبًا، وَفِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ أَصْلِيٌّ، فَالنَّصْرَانِيُّ مُقِرٌّ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الِارْتِدَادِ وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ) يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ: يَعْنِي لَمَّا أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَلَى مَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ الْبَاطِلِ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَتْرُكَ أَهْلَ الِاجْتِهَادِ عَلَى مَا اعْتَقَدُوهُ مَعَ احْتِمَالِ الصِّحَّةِ فِيهِ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى.
وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ نَقُولَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي اعْتِقَادِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَوَجْهُ الْجَوَابِ مَا قَالَهُ أَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ، وَالدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى حُرْمَتِهِ قَائِمٌ فَلَمْ يَعْتَبِر اعْتِقَادَهُمْ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ هَذَا مَا قَالُوهُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى تَرْكِ الْمُحَاجَّةِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ دَالٌّ عَلَى تَرْكِهَا مَعَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى عَلَى مَا قَرَّرْتُمْ وَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اُتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» وَكَانَ ذَلِكَ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ. قَالَ (فَإِنْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا فَخَلَّلَهَا أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ فَلِصَاحِبِ الْخَمْرِ أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَأْخُذَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ وَيَرُدَّ عَلَيْهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ)، وَالْمُرَادُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ إذَا خَلَّلَهَا بِالنَّقْلِ مِنْ الشَّمْسِ إلَى الظِّلِّ وَمِنْهُ إلَى الشَّمْسِ، وَبِالْفَصْلِ الثَّانِي إذَا دَبَغَهُ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ هَذَا التَّخْلِيلَ تَطْهِيرٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الثَّوْبِ النَّجِسِ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ إذْ لَا تَثْبُتُ الْمَالِيَّةُ بِهِ وَبِهَذَا الدِّبَاغِ اتَّصَلَ بِالْجِلْدِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لِلْغَاصِبِ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهِ فَلِهَذَا يَأْخُذُ الْخَلَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَأْخُذُ الْجِلْدَ وَيُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى قِيمَتِهِ ذَكِيًّا غَيْرَ مَدْبُوغٍ، وَإِلَى قِيمَتِهِ مَدْبُوغًا فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا، وَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَحَقِّ الْحَبْسِ فِي الْبَيْعِ.
قَالَ (وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُمَا ضَمِنَ الْخَلَّ وَلَمْ يَضْمَنْ الْجِلْدَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَضْمَنُ الْجِلْدَ مَدْبُوغًا وَيُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ) وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُهُ بِالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا الْخَلُّ؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ضَمِنَهُ بِالْإِتْلَافِ، يَجِبُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ الْخَلَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ.
وَأَمَّا الْجِلْدُ فَلَهُمَا أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَيَضْمَنُهُ مَدْبُوغًا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ وَيَضْمَنُهُ وَيُعْطِيه الْمَالِكُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّدِّ، فَإِذَا فَوَّتَهُ عَلَيْهِ خَلَّفَهُ قِيمَتَهُ كَمَا فِي الْمُسْتَعَارِ.
وَبِهَذَا فَارَقَ الْهَلَاكُ بِنَفْسِهِ.
وَقَوْلُهُمَا يُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِ.
أَمَّا عِنْدَ اتِّحَادِهِ فَيَطْرَحُ عَنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْبَاقِي لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْأَخْذِ مِنْهُ ثُمَّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ.
وَلَهُ أَنَّ التَّقَوُّمَ حَصَلَ بِصُنْعِ الْغَاصِبِ وَصَنْعَتُهُ مُتَقَوِّمَةٌ لِاسْتِعْمَالِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِيهِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ فَكَانَ حَقًّا لَهُ وَالْجِلْدُ تَبَعٌ لَهُ فِي حَقِّ التَّقَوُّمِ، ثُمَّ الْأَصْلُ وَهُوَ الصَّنْعَةُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ فَكَذَا التَّابِعُ، كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ، بِخِلَافِ وُجُوبِ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْمِلْكَ، وَالْجِلْدُ غَيْرُ تَابِعٍ لِلصَّنْعَةِ فِي حَقِّ الْمِلْكِ لِثُبُوتِهِ قَبْلَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا، بِخِلَافِ الذَّكِيِّ وَالثَّوْبِ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ فِيهِمَا كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الدَّبْغِ وَالصَّبْغِ فَلَمْ يَكُنْ تَابِعًا لِلصَّنْعَةِ، وَلَوْ كَانَ قَائِمًا فَأَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ قِيلَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ، بِخِلَافِ صَبْغِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ لَهُ قِيمَةً.
وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ عَجَزَ الْغَاصِبُ عَنْ رَدِّهِ فَصَارَ كَالِاسْتِهْلَاكِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
ثُمَّ قِيلَ: يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا فِي الِاسْتِهْلَاكِ.
وَقِيلَ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدِ ذَكِيٍّ غَيْرِ مَدْبُوغٍ، وَلَوْ دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ فَهُوَ لِمَالِكِهِ بِلَا شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الثَّوْبِ.
وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا.
وَقِيلَ طَاهِرًا غَيْرَ مَدْبُوغٍ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الدِّبَاغَةِ هُوَ الَّذِي حَصَّلَهُ فَلَا يَضْمَنُهُ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ صِفَةَ الدِّبَاغَةِ تَابِعَةٌ لِلْجِلْدِ فَلَا تُفْرَدُ عَنْهُ، وَإِذَا صَارَ الْأَصْلُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَكَذَا صِفَتُهُ، وَلَوْ خَلَّلَ الْخَمْرَ بِإِلْقَاءِ الْمِلْحِ فِيهِ قَالُوا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: صَارَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَهُمَا أَخَذَهُ الْمَالِكُ وَأَعْطَى مَا زَادَ الْمِلْحُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ دَبْغِ الْجِلْدِ، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا أَنْ يُعْطِيَ مِثْلَ وَزْنِ الْمِلْحِ مِنْ الْخَلِّ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَالِكُ تَرْكَهُ عَلَيْهِ وَتَضْمِينَهُ فَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ.
وَقِيلَ فِي دَبْغِ الْجِلْدِ وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا لَا يَضْمَنُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا كَمَا فِي دَبْغِ الْجِلْدِ، وَلَوْ خَلَّلَهَا بِإِلْقَاءِ الْخَلِّ فِيهِمَا، فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ صَارَ خَلًّا مِنْ سَاعَتِهِ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ لَهُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، وَإِنْ لَمْ تَصِرْ خَلًّا إلَّا بَعْدَ زَمَانٍ بِأَنْ كَانَ الْمُلْقَى فِيهِ خَلًّا قَلِيلًا فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ كِلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ خَلْطَ الْخَلِّ بِالْخَلِّ فِي التَّقْدِيرِ وَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ لِلْغَاصِبِ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْخَلْطِ اسْتِهْلَاكٌ عِنْدَهُ، وَلَا ضَمَانَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِلْكَ نَفْسِهِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا.
وَيَضْمَنُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِلْكَ غَيْرِهِ.
وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ أَجْرَوْا جَوَابَ الْكِتَابِ عَلَى إطْلَاقِهِ أَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُلْقَى فِيهِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي الْخَمْرِ فَلَمْ يَبْقَ مُتَقَوِّمًا.
وَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِ أَقْوَالُ الْمَشَايِخِ وَقَدْ أَثْبَتْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى.
الشَّرْحُ:
قَالَ (فَإِنْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا فَخَلَّلَهَا إلَخْ) مَنْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا فَخَلَّلَهَا أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ فَكُلٌّ مِنْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ، لِأَنَّ التَّخْلِيلَ أَوْ الدِّبَاغَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِخَلْطِ شَيْءٍ وَبِمَا لَهُ قِيمَةٌ أَوْ لَا، فَإِنْ خُلِّلَ بِغَيْرِ شَيْءٍ بِالنَّقْلِ مِنْ الشَّمْسِ إلَى الظِّلِّ وَمِنْهُ إلَيْهَا، أَوْ دُبِغَ بِالْقَرَظِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ وَرَقُ السَّلَمِ وَالْعَفْصِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُون الْخَلُّ وَالْجِلْدُ بَاقِيَيْنِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَا بَاقِيَيْنِ أَخَذَ الْمَالِكُ الْخَلَّ بِلَا شَيْءٍ وَأَخَذَ الْجِلْدَ وَرَدَّ عَلَيْهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ.
وَطَرِيقُ عِلْمِهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى قِيمَتِهِ ذَكِيًّا غَيْرَ مَدْبُوغٍ وَإِلَى قِيمَتِهِ مَدْبُوغًا فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا، وَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَحَقِّ الْحَبْسِ فِي الْمَبِيعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ نَيِّرٌ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا بَاقِيَيْنِ، فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُمَا الْغَاصِبُ ضَمِنَ الْخَلَّ وَلَمْ يَضْمَنْ الْجِلْدَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَا: يَضْمَنُ الْجِلْدَ مَدْبُوغًا وَيُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ، وَإِنْ هَلَكَا فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ لِأَنَّ دَلِيلَهُ الْإِجْمَاعُ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ ضَمِنَ فَلَا وَجْهَ لِضَمَانِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْغَصْبِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ يَوْمَئِذٍ، وَلَا لِضَمَانِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْهَلَاكِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِفِعْلٍ مَوْصُوفٍ بِالتَّعَدِّي وَالْفَرْضُ عَدَمُهُ وَقَوْلُهُ (أَمَّا الْخَلُّ) دَلِيلُ صُورَةِ الِاسْتِهْلَاكِ وَهُوَ ظَاهِرٌ (وَأَمَّا الْجِلْدُ فَلَهُمَا أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ) قَالَ الْقُدُورِيُّ: يَعْنِي إذَا غَصَبَ الْجِلْدَ مِنْ مَنْزِلِهِ، فَأَمَّا إذَا أَلْقَاهُ صَاحِبُهُ فِي الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُ رَجُلٌ فَدَبَغَهُ فَلَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا.
وَإِذَا كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ (وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ) وَقَدْ اسْتَهْلَكَهُ (يَضْمَنُهُ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ يَضْمَنُهُ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ) وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ نَفْسَ الْغَصْبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُوجِبُ الضَّمَانَ بِخِلَافِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّدِّ) دَلِيلٌ آخَرُ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْجِلْدَ لَوْ كَانَ قَائِمًا وَجَبَ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّهُ، فَإِذَا فَوَّتَ الرَّدَّ خَلَفَهُ قِيمَتُهُ كَمَا فِي الْمُسْتَعَارِ يَضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ لَا الْهَلَاكِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْهَلَاكَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا تَفْوِيتَ مِنْهُ هُنَاكَ.
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَيْرُهُ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: قَوْلُهُمَا يُعْطِي مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِ: يَعْنِي أَنَّ الْقَاضِيَ قَوَّمَ الْجِلْدَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدِّبَاغَ بِالدَّنَانِيرِ، فَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ الْقِيمَةَ وَيَأْخُذُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ، أَمَّا إذَا قَوَّمَهُمَا بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالدَّنَانِيرِ فَيُطْرَحُ عَنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْبَاقِي لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْأَخْذِ مِنْهُ ثُمَّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجِلْدَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُ التَّقَوُّمُ بِصَنْعَةِ الْغَاصِبِ وَصَنْعَتُهُ مُتَقَوِّمَةٌ لِاسْتِعْمَالِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِيهِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ، فَكَانَ التَّقَوُّمُ حَقًّا لِلْغَاصِبِ وَكَانَ الْجِلْدُ تَابِعًا لِصَنْعَةِ الْغَاصِبِ فِي حَقِّ التَّقَوُّمِ، ثُمَّ الْأَصْلُ وَهُوَ الصَّنْعَةُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ فَكَذَا التَّابِعُ لِئَلَّا يَلْزَمَ مُخَالَفَةُ التَّبَعِ أَصْلَهُ، كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ فَإِنَّ عَدَمَ الضَّمَانِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ وَهُوَ الصَّنْعَةُ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَكَذَلِكَ الْجِلْدُ، وَإِلَّا فَالْغَصْبُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فِي الْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الرَّدِّ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّدِّ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهِ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْمِلْكَ، وَالْجِلْدُ غَيْرُ تَابِعٍ لِلصَّنْعَةِ فِي حَقِّ الْمِلْكِ لِثُبُوتِهِ قَبْلَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الضَّمَانَ يَعْتَمِدُ التَّقَوُّمَ وَالْأَصْلُ فِيهِ الصَّنْعَةُ وَهِيَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فَكَذَا مَا يَتْبَعُهَا وَالرَّدُّ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ وَالْجِلْدُ فِيهِ أَصْلٌ لَا تَابِعٌ فَوَجَبَ رَدُّهُ وَتَتْبَعُهُ الصَّنْعَةُ.
قَوْلُهُ (بِخِلَافِ الذَّكِيِّ وَالثَّوْبِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا وَأَقْحَمَ الذَّكِيَّ اسْتِظْهَارًا لِأَنَّ التَّقَوُّمَ فِيهِمَا: أَيْ فِي الذَّكِيِّ وَالثَّوْبِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الدَّفْعِ وَالصَّبْغِ فَلَمْ يَكُنْ تَابِعًا لِلصَّنْعَةِ، وَالتَّقَوُّمُ يُوجِبُ الضَّمَانَ (وَلَوْ كَانَ) الْجِلْدُ (قَائِمًا فَأَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ نَتْرُكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ فِي هَذَا الْوَجْهِ) أَيْ الَّذِي كَانَ الدِّبَاغُ فِيهِ بِشَيْءٍ مُتَقَوِّمٍ (وَيُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ قِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ) بِلَا خِلَافٍ (لِأَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ، بِخِلَافِ صَبْغِ الثَّوْبِ لِأَنَّ لَهُ قِيمَةً.
وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ) وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ) دَلِيلُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ لَا دَلِيلُ الْمُخَالِفِينَ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ إذَا تَرَكَ الْجِلْدَ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمِنَهُ عَجَزَ الْغَاصِبُ عَنْ رَدِّهِ فَصَارَ كَالِاسْتِهْلَاكِ، وَهُوَ أَيْ الِاسْتِهْلَاكُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعَجْزَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ لِأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ وَفِيمَا تَرَكَهُ وَضَمِنَهُ الْقِيمَةُ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ التَّضْمِينِ فِي صُورَةٍ تَعَدَّى فِيمَا الْغَاصِبُ جَوَازُهُ فِيمَا لَيْسَ كَذَلِكَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ عَلَى قَوْلِهِمَا فَقِيلَ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا فِي صُورَةِ الِاسْتِهْلَاكِ.
وَقِيلَ قِيمَةُ جِلْدٍ ذَكِيٍّ غَيْرِ مَدْبُوغٍ، هَذَا كُلُّهُ إذَا دُبِغَ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ وَخُلِّلَ بِغَيْرِ خَلْطِ شَيْءٍ أَمَّا إذَا دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ فَهُوَ لِصَاحِبِهِ بِلَا شَيْءٍ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الثَّوْبِ وَهُوَ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمَالِكِ.
وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّهُ صَارَ مَالًا عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ وَلَا حَقَّ لِلْغَاصِبِ فِيهِ، فَكَانَتْ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ جَمِيعًا حَقَّ الْمَالِكِ فَيَضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ فَقِيلَ: ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا، وَقِيلَ طَاهِرًا غَيْرَ مَدْبُوغٍ.
وَقَدْ ذُكِرَ وَجْهُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَإِذَا خَلَّلَ الْخَمْرَ بِإِلْقَاءِ الْمِلْحِ فِيهِ قَالَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: صَارَ الْخَلُّ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَعِنْدَهُمَا أَخَذَهُ الْمَالِكُ وَأَعْطَى مَا زَادَ الْمِلْحُ فِيهِ كَمَا فِي دِبَاغِ الْجِلْدِ.
وَقَوْلُهُ (قَالُوا) يُشِيرُ إلَى أَنَّ ثَمَّةَ قَوْلًا آخَرَ، وَهُوَ مَا قِيلَ إنَّ هَذَا وَالْأَوَّلَ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْمِلْحَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ فَلَا يُعْتَبَرُ، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ سِوَى أَلْفَاظٍ يُشِيرُ إلَيْهَا قَوْلُهُ (فَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ وَقِيلَ) بِتَكْرِيرٍ قِيلَ إشَارَةٌ إلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي دَبْغِ الْجِلْدِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ قَائِمًا فَأَرَادَ الْمَالِكُ، إلَى أَنْ قَالَ: قِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَوْلُهُ (وَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ) أَيْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ أَصْلَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا أَنَّ خَلْطَ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ عِنْدَهُمَا وَحِينَئِذٍ كَانَ الْخَلُّ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا أَتْلَفَهُ فَقَدْ أَتْلَفَ حَقَّ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فَيَضْمَنُ خَلًّا مِثْلَ خَلِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ (هُوَ لِلْغَاصِبِ فِي الْوَجْهَيْنِ) يَعْنِي مَا إذَا صَارَتْ خَلًّا مِنْ سَاعَتِهِ أَوْ بَعْدَ زَمَانٍ، وَقَوْلُهُ (أَجْرَوْا جَوَابَ الْكِتَابِ) يَعْنِي الْجَامِعَ الصَّغِيرَ وَهُوَ قَوْلُهُ لِصَاحِبِ الْخَمْرِ أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّخْلِيلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَعْضُهُمْ أَجْرَوْهُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَقَالُوا لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَهِيَ التَّخْلِيلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالتَّخْلِيلُ بِإِلْقَاءِ الْمِلْحِ وَالتَّخْلِيلُ بِصَبِّ الْخَلِّ فِيهِ لِأَنَّ الْمُلْقَى فِيهِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي الْخَمْرِ فَلَمْ يَبْقَ مُتَقَوِّمًا. قَالَ (وَمَنْ كَسَرَ لِمُسْلِمٍ بَرْبَطًا أَوْ طَبْلًا أَوْ مِزْمَارًا أَوْ دُفًّا أَوْ أَرَاقَ لَهُ سَكَرًا أَوْ مُنَصَّفًا فَهُوَ ضَامِنٌ، وَبَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ جَائِزٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَضْمَنُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا.
وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ فِي الدُّفِّ وَالطَّبْلِ الَّذِي يُضْرَبُ لِلَّهْوِ.
فَأَمَّا طَبْلُ الْغُزَاةِ وَالدُّفُّ الَّذِي يُبَاحُ ضَرْبُهُ فِي الْعُرْسِ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ.
وَقِيلَ الْفَتْوَى فِي الضَّمَانِ عَلَى قَوْلِهِمَا.
وَالسَّكَرُ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ إذَا اشْتَدَّ.
وَالْمُنَصَّفُ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ بِالطَّبْخِ.
وَفِي الْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَهُوَ الْبَاذَقُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ فِي التَّضْمِينِ وَالْبَيْعِ.
لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أُعِدَّتْ لِلْمَعْصِيَةِ فَبَطَلَ تَقَوُّمُهَا كَالْخَمْرِ، وَلِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ بِأَمْرِ الشَّرْعِ فَلَا يَضْمَنُهُ كَمَا إذَا فَعَلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَمْوَالٌ لِصَلَاحِيَّتِهَا لِمَا يَحِلُّ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ وَإِنْ صَلُحَتْ لِمَا لَا يَحِلُّ فَصَارَ كَالْأَمَةِ الْمُغَنِّيَةِ.
وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ فَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ، وَجَوَازُ الْبَيْعِ وَالتَّضْمِينِ مُرَتَّبَانِ عَلَى الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ بِالْيَدِ إلَى الْأُمَرَاءِ لِقُدْرَتِهِمْ وَبِاللِّسَانِ إلَى غَيْرِهِمْ، وَتَجِبُ قِيمَتُهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلَّهْوِ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُغَنِّيَةِ وَالْكَبْشِ النَّطُوحِ وَالْحَمَامَةِ الطَّيَّارَةِ وَالدِّيكِ الْمُقَاتِلِ وَالْعَبْدِ الْخَصِيِّ تَجِبْ الْقِيمَةُ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِهَذِهِ الْأُمُورِ، كَذَا هَذَا، وَفِي السَّكَرِ وَالْمُنَصَّفِ تَجِبُ قِيمَتُهُمَا، وَلَا يَجِبُ الْمِثْلُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمَلُّكِ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَ جَازَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَ عَلَى نَصْرَانِيٍّ صَلِيبًا حَيْثُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ صَلِيبًا؛ لِأَنَّهُ مُقَرٌّ عَلَى ذَلِكَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ كَسَرَ لِمُسْلِمٍ بَرْبَطًا أَوْ طَبْلًا) قَالَ فِي جَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَنْ كَسَرَ لِمُسْلِمٍ بَرْبَطًا وَهُوَ آلَةٌ مِنْ آلَاتِ الطَّرَبِ وَالطَّبْلُ وَالْمِزْمَارُ وَالدُّفُّ مَعْرُوفَةٌ.
وَقَوْلُهُ (أَهَرَاقَ لَهُ سَكَرًا) أَيْ صَبَّهُ، يُقَالُ فِيهِ هَرَاقَ يُهَرِيق بِتَحْرِيكِ الْهَاءِ، وَأَهْرَاق يُهْرِيقُ بِسُكُونِهَا، وَالْهَاءُ فِي الْأَوَّلِ بَدَلٌ عَنْ الْهَمْزَةِ وَفِي الثَّانِي زَائِدَةٌ، وَكَلَامُهُ إلَى آخِرِهِ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُدَبَّرَةً فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْمُدَبَّرَةِ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ أُمِّ الْوَلَدِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَضْمَنُ قِيمَتَهُمَا؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْمُدَبَّرَةِ مُتَقَوِّمَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَالِيَّةَ أُمِّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوِّمَةٌ، وَالدَّلَائِلُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.

.(كِتَابُ الشُّفْعَةِ):

الشُّفْعَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الشَّفْعِ وَهُوَ الضَّمُّ، سُمِّيَتْ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ ضَمِّ الْمُشْتَرَاةِ إلَى عَقَارِ الشَّفِيعِ.
الشَّرْحُ:
(كِتَابُ الشُّفْعَةِ) وَجْهُ مُنَاسَبَةِ الشُّفْعَةِ بِالْغَصْبِ تَمَلُّكُ الْإِنْسَانِ مَالَ غَيْرِهِ بِلَا رِضَاهُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.
وَالْحَقُّ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ لِكَوْنِهَا مَشْرُوعَةً دُونَهُ، لَكِنْ تَوَفُّرُ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ لِلِاحْتِرَازِ مَعَ كَثْرَتِهِ بِكَثْرَةِ أَسْبَابِهِ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْبِيَاعَاتِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْإِجَارَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَالْمُزَارَعَاتِ أَوْجَبَ تَقْدِيمَهَا.
وَسَبَبُهَا اتِّصَالُ مِلْكِ الشَّفِيعِ بِمِلْكِ الْمُشْتَرِي.
وَشَرْطُهَا كَوْنُ الْمَبِيعِ عَقَارًا وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الشَّفْعِ وَهُوَ الضَّمُّ، سُمِّيَتْ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ ضَمِّ الْمُشْتَرَاةِ إلَى عَقَارِ الشَّفِيعِ.
وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ تَمَلُّكِ الْمَرْءِ مَا اتَّصَلَ بِعَقَارِهِ مِنْ الْعَقَارِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِشَرِكَةٍ أَوْ جِوَارٍ. قَالَ (الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْخَلِيطِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ ثُمَّ لِلْخَلِيطِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ ثُمَّ لِلْجَارِ) أَفَادَ هَذَا اللَّفْظُ ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَفَادَ التَّرْتِيبَ، أَمَّا الثُّبُوتُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الشُّفْعَةُ لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ» وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ وَالْأَرْضِ، يَنْتَظِرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سَقَبُهُ؟ قَالَ شُفْعَتُهُ» وَيُرْوَى «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ».
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا شُفْعَةَ بِالْجِوَارِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمُ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطَّرِيقُ فَلَا شُفْعَةَ» وَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمَلُّكِ الْمَالِ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ تَلْزَمُهُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الدَّخِيلِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ وَقَرَارٍ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَاوَضَةِ بِالْمَالِ اعْتِبَارًا بِمَوْرِدِ الشَّرْعِ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاتِّصَالَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إنَّمَا انْتَصَبَ سَبَبًا فِيهِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ، إذْ هُوَ مَادَّةُ الْمَضَارِّ عَلَى مَا عُرِفَ، وَقَطْعُ هَذِهِ الْمَادَّةِ بِتَمَلُّكِ الْأَصْلِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي حَقِّهِ بِإِزْعَاجِهِ عَنْ خُطَّةِ آبَائِهِ أَقْوَى، وَضَرَرُ الْقِسْمَةِ مَشْرُوعٌ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِتَحْقِيقِ ضَرَرِ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا التَّرْتِيبُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ، وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ الشَّفِيعِ» فَالشَّرِيكُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ وَالْخَلِيطُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَالشَّفِيعُ هُوَ الْجَارُ.
وَلِأَنَّ الِاتِّصَالَ بِالشَّرِكَةِ فِي الْمَبِيعِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ جُزْءٍ، وَبَعْدَهُ الِاتِّصَالُ فِي الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّهُ شَرِكَةٌ فِي مَرَافِقِ الْمِلْكِ، وَالتَّرْجِيحُ يَتَحَقَّقُ بِقُوَّةِ السَّبَبِ، وَلِأَنَّ ضَرَرَ الْقِسْمَةِ إنْ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً صَلَحَ مُرَجِّحًا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْخَلِيطِ إلَخْ) الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ: أَيْ ثَابِتَةٌ لِلْخَلِيطِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ: أَيْ لِلشَّرِيكِ ثُمَّ لِلْخَلِيطِ فِي حَقِّهِ كَالشَّرَابِ وَالطَّرِيقِ، ثُمَّ لِلْجَارِ: يَعْنِي الْمُلَاصِقَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (أَفَادَ هَذَا اللَّفْظُ ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَفَادَ التَّرْتِيبَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الشُّفْعَةُ لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ») أَيْ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ إذَا كَانَتْ الدَّارُ مُشْتَرَكَةً فَبَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، أَمَّا إذَا بَاعَ بَعْدَهَا فَلَمْ يَبْقَ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ حَقٌّ لَا فِي الْمَدْخَلِ وَلَا فِي نَفْسِ الدَّارِ فَحِينَئِذٍ لَا شُفْعَةَ وَقَوْلُهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ وَالْأَرْضُ يَنْتَظِرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا») وَالْمُرَادُ بِالْجَارِ الشَّرِيكُ فِي حَقِّ الدَّارِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ إنْ كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا، وَقَوْلُهُ (يَنْتَظِرُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا) يَعْنِي يَكُونُ عَلَى شُفْعَتِهِ مُدَّةَ غَيْبَتِهِ، إذْ لَا تَأْثِيرَ لِلْغَيْبَةِ فِي إبْطَالِ حَقٍّ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ.
قِيلَ مَعْنَاهُ أَحَقُّ بِهِ عَرْضًا عَلَيْهِ لِلْبَيْعِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ فَسَّرَ الْحَقَّ بِالِانْتِظَارِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُ أَحَقَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَبَعْدَهُ.
وَقَوْلُهُ (يَنْتَظِرُ) تَفْسِيرٌ لِبَعْضِ مَا شَمَلَهُ كَلِمَةُ أَحَقُّ وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَى شُفْعَتِهِ مُدَّةَ الْغَيْبَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ, قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سَقَبُهُ؟ قَالَ: شُفْعَتُهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ» وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ وَالثَّانِي لِلشَّرِيكِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ، وَالثَّالِثُ لِلْجَارِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا شُفْعَةَ لِلْجَارِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ»).
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّامَ لِلْجِنْسِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» فَتَنْحَصِرُ الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ: يَعْنِي إذَا كَانَ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ قَالَ «فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ» وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى عَدَمِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَقْسُومِ وَالشَّرِيكُ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ وَالْجَارِ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْسُومٌ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ.
قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ) دَلِيلٌ لَهُ مَعْقُولٌ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمَلُّكِ الْمَالِ عَلَى الْغَيْرِ بِلَا رِضَاهُ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الشُّفْعَةِ أَصْلًا، لَكِنْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ قِيَاسًا أَصْلًا، وَلَا دَلَالَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (وَهَذَا) أَيْ الْجَارُ: يَعْنِي شُفْعَةَ الْجَارِ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، لِأَنَّ ثُبُوتَهَا فِيهِ لِضَرُورَةِ دَفْعِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ الَّتِي تَلْزَمُهُ.
وَقَوْلُهُ (فِي الْأَصْلِ) أَيْ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، وَلَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ الْمَقْسُومُ، وَيُفْهَمُ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ أَنَّ نِزَاعَهُ لَيْسَ فِي الْجَارِ وَحْدَهُ بَلْ فِيهِ وَفِي الشَّرِيكِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ مَقْسُومٌ أَيْضًا، وَفِيمَا لَمْ يَحْتَمِلْ الْقِسْمَةَ كَالْبِئْرِ وَالْحَمَّامِ (وَلَنَا مَا رَوَيْنَا) مِنْ الْأَحَادِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ») رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد (وَلِأَنَّ مِلْكَ الشَّفِيعِ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الدَّخِيلِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ وَقَرَارٍ) وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ الْمَفْرُوضُ.
وَقَوْلُهُ (تَأْبِيدٍ) احْتِرَازٌ عَنْ الْمَنْقُولِ وَالسُّكْنَى بِالْعَارِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ (وَقَرَارٍ) احْتِرَازٌ عَنْ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا فَإِنَّهُ لَا قَرَارَ لَهُ لِوُجُوبِ النَّقْضِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَلَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَارَضَةِ بِالْمَالِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الْإِجَارَةِ وَالْمَرْهُونَةِ وَالْمَجْعُولَةِ مَهْرًا اعْتِبَارًا: أَيْ إلْحَاقًا بِالدَّلَالَةِ بِمَوْرِدِ الشَّرْعِ وَهُوَ مَا لَا يُقْسَمُ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ (لِأَنَّ الِاتِّصَالَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ) يَعْنِي اتِّصَالَ التَّأْبِيدِ وَالْقَرَارِ (إنَّمَا انْتَصَبَ سَبَبًا فِي مَوْرِدِ الشَّرْعِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ إذْ الْجِوَارُ مَادَّةُ الْمَضَارِّ) مِنْ إيقَادِ النَّارِ وَإِثَارَةِ الْغُبَارِ وَمَنْعِ ضَوْءِ النَّهَارِ وَإِعْلَاءِ الْجِدَارِ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ (وَقَطْعُ هَذِهِ الْمَادَّةِ بِتَمَلُّكِ الْأَصْلِ) يَعْنِي الشَّفِيعَ (أَوْلَى لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي حَقِّهِ بِإِزْعَاجِهِ عَنْ خُطَّةِ آبَائِهِ أَقْوَى) فَيُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَصِيلَ دَافِعٌ وَالدَّخِيلَ رَافِعٌ وَالدَّفْعُ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ (قَوْلُهُ وَضَرَرُ الْقِسْمَةِ مَشْرُوعٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ تَلْزَمُهُ جَعَلَ الْعِلَّةَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ الْبَيْعِ لُزُومَ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ الشَّفِيعُ الْمَبِيعَ بِالشُّفْعَةِ طَالَبَهُ الْمُشْتَرِي بِالْقِسْمَةِ فَيَلْحَقُهُ بِسَبَبِهِ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ وَذَلِكَ ضَرَرٌ بِهِ فَمَكَّنَهُ الشَّرْعُ مِنْ أَخْذِ الشُّفْعَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ لَا يَصْلُحُ عِلَّة لِتَحْقِيقِ ضَرَرِ غَيْرِهِ وَهُوَ التَّمَلُّكُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِالْحَدِيثِ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ.
وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ «فَإِنْ وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ» مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ عَدَمَ الشُّفْعَةِ بِالْأَمْرَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَلَمْ تُصْرَفْ الطُّرُقُ بِأَنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاحِدًا تَجِبُ الشُّفْعَةُ، وَإِنَّمَا نَفْيُ الشُّفْعَةِ فِي هَذَا الصُّورَةِ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ، لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، فَرُبَّمَا يُشْكِلُ أَنَّهُ هَلْ يَسْتَحِقُّ بِهَا الشُّفْعَةَ أَوْ لَا، فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَمَ الشُّفْعَةِ فِيهَا (الدَّلِيلُ عَلَى الثَّانِي) أَعْنِي عَلَى التَّرْتِيبِ (قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ، وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ الشَّفِيعِ») قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (فَالشَّرِيكُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ وَالْخَلِيطُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَالشَّفِيعُ هُوَ الْجَارُ) وَدَلَالَتُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ غَيْرُ خَافِيَةٍ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَلِأَنَّ الِاتِّصَالَ) دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ ضَرَرَ الْقِسْمَةِ) يَعْنِي قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ دَفْعَ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ، لَكِنَّهُ إنْ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ صَلَحَ مُرَجِّحًا، لِأَنَّ التَّرْجِيحَ أَبَدًا إنَّمَا يَقَعُ بِمَا لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ. قَالَ (وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ وَالشِّرْبِ وَالْجَارِ شُفْعَةٌ مَعَ الْخَلِيطِ فِي الرَّقَبَةِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُقَدَّمٌ.
قَالَ (فَإِنْ سُلِّمَ فَالشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ سُلِّمَ أَخَذَهَا الْجَارُ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ التَّرْتِيبِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْجَارُ الْمُلَاصِقُ، وَهُوَ الَّذِي عَلَى ظَهْرِ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ وَبَابُهُ فِي سِكَّةٍ أُخْرَى.
عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعَ وُجُودِ الشَّرِيكِ فِي الرَّقَبَةِ لَا شُفْعَةَ لِغَيْرِهِ سَلَّمَ أَوْ اسْتَوْفَى؛ لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِهِ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ السَّبَبَ تَقَرَّرَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، إلَّا أَنَّ لِلشَّرِيكِ حَقُّ التَّقَدُّمِ، فَإِذَا سَلَّمَ كَانَ لِمَنْ يَلِيهِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ مَعَ دَيْنِ الْمَرَضِ، وَالشَّرِيكُ فِي الْمَبِيعِ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضٍ مِنْهَا كَمَا فِي مَنْزِلٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الدَّارِ أَوْ جِدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ فِي مَنْزِلٍ، وَكَذَا عَلَى الْجَارِ فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَهُ أَقْوَى وَالْبُقْعَةَ وَاحِدَةٌ.
ثُمَّ لابد أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ أَوْ الشِّرْبُ خَاصًّا حَتَّى تَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةُ بِالشَّرِكَةِ فِيهِ فَالطَّرِيقُ الْخَاصُّ أَنْ لَا يَكُونَ نَافِذًا، وَالشِّرْبُ الْخَاصُّ أَنْ يَكُونَ نَهْرًا لَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ وَمَا تَجْرِي فِيهِ فَهُوَ عَامٌّ.
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْخَاصَّ أَنْ يَكُونَ نَهْرًا يُسْقَى مِنْهُ قَرَاحَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَامٌّ، وَإِنْ كَانَتْ سِكَّةٌ غَيْرَ نَافِذَةٍ يَتَشَعَّبُ مِنْهَا سِكَّةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ وَهِيَ مُسْتَطِيلَةٌ فَبِيعَتْ دَارٌ فِي السُّفْلَى فَلِأَهْلِهَا الشُّفْعَةُ خَاصَّةً دُونَ أَهْلِ الْعُلْيَا، وَإِنْ بِيعَتْ لِلْعُلْيَا فَلِأَهْلِ السِّكَّتَيْنِ، وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي.
وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ صَغِيرٌ يَأْخُذُ مِنْهُ نَهْرٌ أَصْغَرُ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقِ فِيمَا بَيَّنَّاهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ وَالشِّرْبِ إلَخْ) إذَا ثَبَتَ التَّرْتِيبُ ثَبَتَ أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ إلَّا إذَا سَلَّمَ الْمُتَقَدِّمَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَإِنْ سَلَّمَ فَلِلْمُتَأَخِّرِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، إلَّا أَنَّ لِلشَّرِيكِ حَقَّ التَّقَدُّمِ، لَكِنْ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْجَارُ طَلَبَ الشُّفْعَةَ مَعَ الشَّرِيكِ إذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ لِيُمْكِنَهُ الْأَخْذُ إذَا سَلَّمَ الشَّرِيكُ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ حَتَّى سَلَّمَ الشَّرِيكُ فَلَا حَقَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ جَعَلَ الْمُتَقَدِّمَ حَاجِبًا، فَلَا فَرْقَ إذْ ذَاكَ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالشَّرِيكُ فِي الْبَيْعِ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضٍ مِنْهَا كَمَا فِي مَنْزِلٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الدَّارِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي دَارٍ كَبِيرَةٍ بُيُوتٌ وَفِي بَيْتٍ مِنْهَا شَرِكَةٌ فَالشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ دُونَ الْجَارِ، وَكَذَا هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ اتِّصَالَهُ أَقْوَى لِأَنَّ الْمَنْزِلَ مِنْ حُقُوقِ الدَّارِ وَمَرَافِقِهِ، وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الدَّارِ مَتَى ذُكِرَ مَعَ كُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا وَالْبُقْعَةُ وَاحِدَةٌ أَرَادَ الْمَوْضِعَ الَّذِي هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالشَّفِيعِ وَذَلِكَ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا صَارَ أَحَقَّ بِالْبَعْضِ كَانَ أَحَقَّ بِالْجَمِيعِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى أَنَّهُ وَالْجَارُ سَوَاءٌ فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ، ثُمَّ لابد أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ وَالشِّرْبُ خَاصًّا حَتَّى يَسْتَحِقَّ بِهِ الشُّفْعَةَ، وَفُسِّرَ الْخَاصُّ بِمَا اخْتَارَهُ مِنْ بَيْنِ التَّفَاسِيرِ الْمَذْكُورَةِ لَهُ.
وَالْقِرْوَاحُ مِنْ الْأَرْضِ: كُلُّ قِطْعَةٍ عَلَى حِيَالِهَا لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ وَلَا شَائِبَةُ شَجَرٍ.
وَذَكَرَ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ فِي السِّكَّةِ وَأَحَالَهُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ فَتْحَهُ لِلْمُرُورِ وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمُرُورِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ وَجَوَازَ فَتْحِ الْبَابِ يَتَلَازَمَانِ، فَكَانَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ فَتْحِ الْبَابِ فِي سِكَّةٍ فَلَهُ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ فِي تِلْكَ السِّكَّةِ وَمَنْ لَا فَلَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ صُورَةُ ذَلِكَ، وَمَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ (وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ صَغِيرٌ يَأْخُذُ مِنْهُ نَهْرٌ أَصْغَرُ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقِ فِيمَا بَيَّنَّاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَإِنْ كَانَتْ سِكَّةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ يَتَشَعَّبُ مِنْهَا سِكَّةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ، إلَخْ، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ جَوَازِ التَّطَرُّقِ فَلِذَلِكَ قَالَ عَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقِ: يَعْنِي لَوْ بِيعَ أَرْضٌ مُتَّصِلَةٌ بِالنَّهْرِ الْأَصْغَرِ كَانَتْ الشُّفْعَةُ لِأَهْلِ النَّهْرِ الْأَصْغَرِ لَا لِأَهْلِ النَّهْرِ الصَّغِيرِ كَمَا فِي السِّكَّةِ الْمُتَشَعِّبَةِ مَعَ السِّكَّةِ الْمُسْتَطِيلَةِ الْعُظْمَى، وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ صَاحِبِ الْجُذُوعِ وَهِيَ وَاضِحَةٌ. قَالَ (وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ بِالْجُذُوعِ عَلَى الْحَائِطِ شَفِيعَ شَرِكَةٍ وَلَكِنَّهُ شَفِيعُ جِوَارٍ)؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الشَّرِكَةُ فِي الْعَقَارِ وَبِوَضْعِ الْجُذُوعِ لَا يَصِيرُ شَرِيكًا فِي الدَّارِ إلَّا أَنَّهُ جَارٌ مُلَازِقٌ.
قَالَ (وَالشَّرِيكُ فِي الْخَشَبَةِ تَكُونُ عَلَى حَائِطِ الدَّارِ جَارٌ) لِمَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الشَّرِكَةُ فِي الْعَقَارِ. قَالَ (وَإِذَا اجْتَمَعَ الشُّفَعَاءُ فَالشُّفْعَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ وَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الْأَمْلَاكِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ عَلَى مَقَادِيرِ الْأَنْصِبَاءِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهَا لِتَكْمِيلِ مَنْفَعَتِهِ فَأَشْبَهَ الرِّبْحَ وَالْغَلَّةَ وَالْوَلَدَ وَالثَّمَرَةَ.
وَلَنَا أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ فَيَسْتَوُونَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ كُلَّ الشُّفْعَةِ.
وَهَذَا آيَةُ كَمَالِ السَّبَبِ وَكَثْرَةُ الِاتِّصَالِ تُؤْذِنُ بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ، وَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الدَّلِيلِ لَا بِكَثْرَتِهِ، وَلَا قُوَّةَ هَاهُنَا لِظُهُورِ الْأُخْرَى بِمُقَابِلَتِهِ وَتَمَلُّكُ مِلْكِ غَيْرِهِ لَا يُجْعَلُ ثَمَرَةً مِنْ ثَمَرَاتِ مِلْكِهِ، بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ وَأَشْبَاهِهَا، وَلَوْ أَسْقَطَ بَعْضُهُمْ حَقَّهُ فَهِيَ لِلْبَاقِينَ فِي الْكُلِّ عَلَى عَدَدِهِمْ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَاصَ لِلْمُزَاحَمَةِ مَعَ كَمَالِ السَّبَبِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَقَدْ انْقَطَعَتْ.
وَلَوْ كَانَ الْبَعْضُ غُيَّبًا يَقْضِي بِهَا بَيْنَ الْحُضُورِ عَلَى عَدَدِهِمْ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ لَعَلَّهُ لَا يَطْلُبُ، وَإِنْ قَضَى لِحَاضِرٍ بِالْجَمِيعِ ثُمَّ حَضَرَ آخَرُ يَقْضِي لَهُ بِالنِّصْفِ، وَلَوْ حَضَرَ ثَالِثٌ فَبِثُلُثِ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ، فَلَوْ سَلَّمَ الْحَاضِرَ بَعْدَمَا قَضَى لَهُ بِالْجَمِيعِ لَا يَأْخُذُ الْقَادِمُ إلَّا النِّصْفَ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْكُلِّ لِلْحَاضِرِ يَقْطَعُ حَقَّ الْغَائِبِ عَنْ النِّصْفِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا اجْتَمَعَ الشُّفَعَاءُ إلَخْ) إذَا اجْتَمَعَ الشُّفَعَاءُ فَالشُّفْعَةُ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِذَا كَانَ الدَّارُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا وَلِلْآخَرِ سُدُسُهَا بَاعَ صَاحِبُ النِّصْفِ نَصِيبَهُ وَطَلَبَ الشَّرِيكَانِ الشُّفْعَةَ قَضَى بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ نِصْفَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَثْلَاثًا بِقَدْرِ مِلْكِهِمَا لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ لِأَنَّهَا لِتَكْمِيلِ مَنْفَعَتِهِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِ الْمِلْكِ كَالرِّبْحِ وَالْغَلَّةِ وَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ.
وَلَنَا أَنَّهُمْ تَسَاوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ كُلَّ الشُّفْعَةِ وَهَذَا آيَةُ كَمَالِ السَّبَبِ، وَالتَّسَاوِي فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يُوجِبُ التَّسَاوِي فِيهِ لَا مَحَالَةَ لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الِاتِّصَالُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وَصَاحِبُ الْكَثِيرِ أَكْثَرُ اتِّصَالًا فَأَتَى يَتَسَاوَيَانِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَكَثْرَةُ الِاتِّصَالِ تُؤْذِنُ بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ، لِأَنَّ الِاتِّصَالَ بِكُلِّ جُزْءٍ عِلَّةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ لَوْ انْفَرَدَ اسْتَحَقَّ الْجَمِيعَ، وَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ بِقُوَّةٍ فِي الدَّلِيلِ لَا بِكَثْرَتِهِ، وَلَا قُوَّةَ هَاهُنَا لِظُهُورِ الْأُخْرَى بِمُقَابَلَتِهَا حَيْثُ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْقَلِيلِ، وَلَوْ كَانَ مَرْجُوحًا لَمَا اسْتَحَقَّ شَيْئًا لِأَنَّ الْمَرْجُوحَ يَنْدَفِعُ فِي مُقَابَلَةِ الرَّاجِحِ.
وَعُورِضَ بِأَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ قَدْ تَسْتَلْزِمُ مَالًا يَسْتَلْزِمُهُ الْأَفْرَادُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ يَسْتَحِقُّ الْجَمِيعَ، وَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَثِيرِ يَتَفَاوَتَانِ، كَالِابْنِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ التَّرِكَةِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ وَالثُّلُثَيْنِ مَعَ الْبِنْتِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ مُطْلَقًا تَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، أَوْ الَّتِي لَمْ تَجْتَمِعْ مِنْ عِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ عِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ وَالْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مِنْهُمَا لَا تَسْتَلْزِمُ زِيَادَةً وَإِلَّا لَزِمَ التَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ وَالْأَرْبَعَةَ سَوَاءٌ وَلَمْ تَسْتَلْزِمْ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ زِيَادَةً، وَمَسْأَلَةُ الْمِيرَاثِ لَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، إذْ لَمْ يَجْتَمِعْ فِي الِابْنِ عِلَّتَانِ إنْ ضَمِنَتْ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى فَاسْتَلْزَمَتْ الزِّيَادَةُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ تَفَاوُتِ فِي عُصُوبَتِهِ بِجَعْلِ الشَّارِعِ كَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْحَالَتَانِ.
وَقَوْلُهُ (وَتَمَلَّكَ مِلْكَ غَيْرِهِ) جَوَابٌ عَنْ جَعْلِهِ الشُّفْعَةَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْمِلْكِ: يَعْنِي أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ التَّمَلُّكِ لَا يَجْعَلُ الشُّفْعَةَ مِنْ ثَمَرَاتِ مِلْكِهِ كَالْأَبِ فَإِنَّ لَهُ التَّمَكُّنَ مِنْ تَمَلُّكِ جَارِيَةِ ابْنِهِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ ثَمَرَاتِ مِلْكِهِ (قَوْلُهُ وَلَوْ أَسْقَطَ بَعْضُهُمْ) يَعْنِي وَإِذَا اجْتَمَعَ الشُّفَعَاءُ وَأَسْقَطَ بَعْضُهُمْ حَقَّهُ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَهُ بِحَقِّهِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَالشُّفْعَةُ لِلْبَاقِينَ فِي الْكُلِّ عَلَى عَدَدِهِمْ دُونَ أَنْصِبَائِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَامِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالِانْتِقَاصُ كَانَ لِلْمُزَاحَمَةِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ بِالتَّسْلِيمِ وَلَوْ كَانَ الْبَعْضُ غَائِبًا يُقْضَى بِهَا بَيْنَ الْحَاضِرِينَ عَلَى عَدَدِهِمْ لِأَنَّ الْغَائِبَ لَعَلَّهُ لَا يَطْلُبُ: يَعْنِي قَدْ يَطْلُبُ وَقَدْ لَا يَطْلُبُ، فَلَا يُتْرَكُ حَقُّ الْحَاضِرِينَ بِالشَّكِّ؛ وَإِنْ قُضِيَ لِحَاضِرٍ بِالْجَمِيعِ ثُمَّ حَضَرَ آخَرُ وَطَلَبَهَا يُقْضَى لَهُ بِالنِّصْفِ، فَإِنْ حَضَرَ ثَالِثٌ فَبِثُلُثِ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَهُ فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا النِّصْفَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بَيْنَهُمَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْضِيًّا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبٍ فِيمَا قُضِيَ بِهِ لِصَاحِبِهِ، وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ فِي قَضِيَّةٍ لَا يَصِيرُ مَقْضِيًّا لَهُ فِيهَا، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ مَا اسْتَوَوْا فِي سَبَبِهَا وَبَيْنَ مَا يَكُونُ بَعْضُهُمْ أَقْوَى كَالشَّرِيكِ مَعَ الْجَارِ، وَكَذَا لَوْ سَلَّمَ: أَيْ أَصَرَّ بَعْدَمَا قُضِيَ لَهُ بِالْجَمِيعِ لَا يَأْخُذُ الْقَادِمُ إلَّا النِّصْفَ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْكُلِّ لِلْحَاضِرِ قَطَعَ حَقَّ الْغَائِبِ عَنْ النِّصْفِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ قَالَ (وَالشُّفْعَةُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ) وَمَعْنَاهُ بَعْدَهُ لَا أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا الِاتِّصَالُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ إذَا رَغِبَ الْبَائِعُ عَنْ مِلْكِ الدَّارِ، وَالْبَيْعُ يُعَرِّفُهَا وَلِهَذَا يُكْتَفَى بِثُبُوتِ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَأْخُذَهَا الشَّفِيعُ إذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يُكَذِّبُهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَالشُّفْعَةُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ) وَهُوَ يُوهِمُ أَنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ فَيَكُونُ سَبَبُهَا الْعَقْدَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ (لِأَنَّ سَبَبَهَا الِاتِّصَالُ عَلَى مَا بَيَّنَّا) يَعْنِي فِي قَوْلِهِ وَلَنَا أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ عَنْ الْأَصِيلِ لِسُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَالضَّرَرُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِاتِّصَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ بِمِلْكِ الشَّفْعِ، وَلِهَذَا قُلْنَا بِثُبُوتِهَا لِلشَّرِيكِ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَلِلْجَارِ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّبَبُ لَجَازَ تَسْلِيمُهَا قَبْلَ الْمَبِيعِ لِوُجُودِهِ بَعْدَ السَّبَبِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ صَحِيحٌ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَبِيعَ شَرْطٌ وَلَا وُجُودَ لِلْمَشْرُوطِ قَبْلَهُ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ بَعْدَ تَحْقِيقِ السَّبَبِ فِي حَقِّ صَحِيحَةِ التَّسْلِيمِ كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَإِسْقَاطِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي شَرْطِ الْجَوَازِ وَامْتِنَاعِ الْمَشْرُوطِ قَبْلَ تَحْقِيقِ الشَّرْطِ غَيْرُ خَافٍ عَلَى أَحَدٍ قَوْلُهُ وَالْوَجْهُ فِيهِ أَيْ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ (أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ إذَا رَغِبَ الْبَائِعُ عَنْ مِلْكِ الدَّارِ) وَرَغْبَتُهُ عَنْهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ، وَلَهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْبَيْعُ فَيُقَامُ مَقَامَهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْمِلْكِ سَبَبٌ، وَالرَّغْبَةُ عَنْ الْمِلْكِ شَرْطٌ، وَالْبَيْعُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْبَيْعَ إذَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ بِهِ صَحَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُشْتَرِي.
وَنُوقِضَ بِمَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ أَوْ وَهَبَ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الرَّغْبَةَ عَنْهُ قَدْ عُرِفَتْ وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَرَدُّدًا لِبَقَاءِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، بِخِلَافِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يُخْبِرُ بِهِ عَنْ انْقِطَاعِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَعُومِلَ بِهِ كَمَا زَعَمَهُ، وَالْهِبَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إذْ غَرَضُ الْوَاهِبِ الْمُكَافَأَةُ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فَلَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ حَقُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ. قَالَ (وَتَسْتَقِرُّ بِالْإِشْهَادِ، وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ) لِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِشْهَادِ وَالطَّلَبِ لِيُعْلَمَ بِذَلِكَ رَغْبَتُهُ فِيهِ دُونَ إعْرَاضِهِ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ طَلَبِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِالْإِشْهَادِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَتَسْتَقِرُّ بِالْإِشْهَادِ) لِلشُّفْعَةِ أَحْوَالُ اسْتِحْقَاقٍ، وَهُوَ بِالِاتِّصَالِ بِالْمِلْكِ بِشَرْطِ الْبَيْعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاسْتِقْرَارٍ وَهُوَ بِالْإِشْهَادِ وَهُوَ يَعْتَمِدُ الطَّلَبَ، وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ: أَيْ مِنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ عَلَى الْمُسَارَعَةِ قَضَى فِي الطَّلَبِ إلَى الْمُوَاثَبَةِ لِتَلَبُّسِهِ بِهَا لِأَنَّهُ: أَيْ الشُّفْعَةَ ذَكَّرَ الضَّمِيرَ نَظَرًا إلَى حَقٍّ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَالشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ، إنْ قَيَّدَهَا ثَبَتَ» وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ السُّقُوطِ، كُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لابد مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهُ أَوْ دَامَ عَلَيْهِ.
وَالْإِشْهَادُ وَالطَّلَبُ يَدُلَّانِ عَلَى الدَّوَامِ فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ طَلَبِهِ عِنْدَ الْقَاضِي، وَلَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِالْإِشْهَادِ.
وَتُمْلَكُ.
وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَخْذِ إمَّا بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَدَلِيلُهُ الْمَذْكُورُ ظَاهِرٌ. قَالَ (وَتُمْلَكُ بِالْأَخْذِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ حَكَمَ بِهَا الْحَاكِمُ)؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي قَدْ تَمَّ فَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الشَّفِيعِ إلَّا بِالتَّرَاضِي أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي كَمَا فِي الرُّجُوعِ وَالْهِبَةِ.
وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا فِيمَا إذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الطَّلَبَيْنِ وَبَاعَ دَارِهِ الْمُسْتَحَقَّ بِهَا الشُّفْعَةُ أَوْ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ تَسْلِيمِ الْمُخَاصِمِ لَا تُوَرَّثُ عَنْهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ فِي الثَّانِيَةِ وَلَا يَسْتَحِقُّهَا فِي الثَّالِثَةِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ لَهُ.
ثُمَّ قَوْلُهُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ بَيَانٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا) أَيْ تَوَقُّفُ الْمِلْكِ فِي الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ بَعْدَ الطَّلَبَيْنِ إلَى وَقْتِ أَخْذِ الدَّارِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (يَعْنِي فِي الصُّورَةِ الْأُولَى) إذَا مَاتَ الشَّفِيعُ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا فَلَا تُورَثُ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ (فِي الثَّانِيَةِ) يَعْنِي إذَا بَاعَ دَارِهِ لِزَوَالِ السَّبَبِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ.
وَقَوْلُهُ (فِي الثَّالِثَةِ) يَعْنِي إذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الْمَشْفُوعَةَ فَكَيْفَ يَمْلِكُ بِهَا غَيْرَهَا.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ قَوْلُهُ تَجِبُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ) يَعْنِي قَوْلَ الْقُدُورِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.