فصل: (فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.فصل: في زكاة الفضة:

(لَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا (فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ) «لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَتَبَ إلَى مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ خُذْ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ نِصْفَ مِثْقَالٍ».
قَالَ (وَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ فِيهَا دِرْهَمٌ ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: مَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ عَلِيِّ «وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِهِ» وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ، وَاشْتِرَاطُ النِّصَابِ فِي الِابْتِدَاءِ لَتَحَقُّق الْغِنَى وَبَعْدَ النِّصَابِ فِي السَّوَائِمِ تَحَرُّزًا عَنْ التَّشْقِيصِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ «لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا» وَقَوْلُهُ (فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ») وَلِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ، وَفِي إيجَابِ الْكُسُورِ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّرَاهِمِ وَزْنُ سَبْعَةٍ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ مِنْهَا وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، بِذَلِكَ جَرَى التَّقْدِيرُ فِي دِيوَانِ عُمَرَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ (وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْوَرِقِ الْفِضَّةَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْفِضَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْغِشُّ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعُرُوضِ يُعْتَبَرُ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ نِصَابًا) لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ لِأَنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ إلَّا بِهِ وَتَخْلُو عَنْ الْكَثِيرِ، فَجَعَلْنَا الْغَلَبَةَ فَاصِلَةً وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى النِّصْفِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي الصَّرْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، إلَّا أَنَّ فِي غَالِبِ الْغِشِّ لابد مِنْ نِيَّةِ التِّجَارَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُرُوضِ، إلَّا إذَا كَانَ تَخْلُصُ مِنْهَا فِضَّةٌ تَبْلُغُ نِصَابًا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي عَيْنِ الْفِضَّةِ الْقِيمَةُ وَلَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ.
الشَّرْحُ:
بَابٌ فِي زَكَاةِ الْمَالِ: لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ زَكَاةِ السَّوَائِمِ لِمَا قُلْنَا أَعْقَبَهُ بِذِكْرِ غَيْرِهَا مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمَالُ كُلُّ مَا يَتَمَلَّكُهُ النَّاسُ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ ثِيَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ الْمَالَ وَأَرَادَ غَيْرَ السَّوَائِمِ عَلَى خِلَافِ عُرْفِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَإِنَّ اسْمَ الْمَالِ عِنْدَهُمْ يَقَعُ عَلَى النَّعَمِ، وَعَلَى عُرْفِ أَهْلِ الْحَضَرِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ يَقَعُ عَلَى غَيْرِ النَّعَمِ.
(فَصْلٌ فِي الْفِضَّةِ):
قَدَّمَ فَصْلَ الْفِضَّةِ عَلَى غَيْرِهَا لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ تَدَاوُلًا فِي الْأَيْدِي، وَالْأُوقِيَّةُ بِالتَّشْدِيدِ أَفُعُولَةٌ مِنْ الْوِقَايَةِ لِأَنَّهَا تَقِي صَاحِبَهَا مِنْ الْفَقْرِ.
وَقِيلَ هِيَ فِعْلِيَّةٌ مِنْ الْأَوْقِ وَهُوَ الثِّقَلُ، وَالْجَمْعُ الْأَوَاقِيُّ بِالتَّشْدِيدِ أَفَاعِيلُ كَالْأَضَاحِيِّ وَبِالتَّخْفِيفِ أَفَاعِلُ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (فَيَكُونُ فِيهَا دِرْهَمٌ) يَعْنِي مَعَ الْخَمْسَةِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ مَعَ مَا سَبَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ: مَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ قُلْت الزِّيَادَةُ أَوْ كَثُرَتْ.
حَتَّى إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ دِرْهَمًا فَفِيهِ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ» وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَالْكُلُّ مَالٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَامَ شُرِطَ النِّصَابُ فِي الِابْتِدَاءِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ لِيَتَحَقَّقَ الْغِنَى لِيَصِيرَ الْمُكَلَّفُ بِهِ أَهْلًا لِلْإِغْنَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ اشْتِرَاطُهُ لِذَلِكَ لَمَا شُرِطَ فِي السَّوَائِمِ فِي الِانْتِهَاءِ كَمَا شُرِطَ فِي الِابْتِدَاءِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ تَحَرُّزًا عَنْ التَّشْقِيصِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ, وَلِأَبِي حَنِيفَةَ «قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ: لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا» قِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تَأْخُذْ مِنْ الشَّيْءِ الَّذِي يَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ كُسُورًا فَسَمَّاهُ كُسُورًا بِاعْتِبَارِ مَا وَجَبَ.
فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا قَبْلَ الْمِائَتَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ عَقِيبَ هَذَا «فَإِذَا بَلَغَ الْوَرِقُ مِائَتِي دِرْهَمٍ فَخُذْ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ» فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا قَبْلَ الْمِائَتَيْنِ وَمَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ قَالَ عَقِيبَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ «فَإِذَا بَلَغَ الْوَرِقُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَخُذْ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَلَا تَأْخُذْ مِمَّا زَادَ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَتَأْخُذُ مِنْهَا دِرْهَمًا» هَكَذَا ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ مُسْنِدًا إلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ «إذَا بَلَغَ الْوَرِقُ» إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ بَيَانًا وَتَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ «لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا» لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ» وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ لَيْسَ فِيهِ وَلَا فِيمَا دُونَهُ صَدَقَةٌ، وَهَذَا مُحَكَّمٌ فَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعُونَ وَاحْتِمَالُهُ مَا ذَكَرُوهُ (وَلِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ) وَهُوَ وَاضِحٌ (وَفِي إيجَابِ الْكُسُورِ ذَلِكَ) أَيْ الْحَرَجُ (لِتَعَسُّرِ الْوُقُوفِ) لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَسَبْعَةَ دَرَاهِمَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَسَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ فَتُعْسَرُ مَعْرِفَةُ سَبْعَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى، فَإِذَا جَاءَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الزَّكَاةِ لِأَنَّ دَيْنَهَا مُسْتَحَقٌّ وَإِنْ لَمْ يُؤَدَّ وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٌ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ وَزَكَاةُ دِرْهَمٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ يَتَعَسَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّرَاهِمِ) رُوِيَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ مِنْهَا كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْهُ عَشْرَةُ مَثَاقِيلَ كُلُّ دِرْهَمٍ مِثْقَالٌ، وَصِنْفٌ مِنْهَا كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْهُ سِتَّةُ مَثَاقِيلَ كُلُّ دِرْهَمٍ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ مِثْقَالٍ، وَصِنْفٌ مِنْهَا كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْهُ خَمْسَةُ مَثَاقِيلَ كُلُّ دِرْهَمٍ نِصْفُ مِثْقَالٍ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَصَرَّفُونَ بِهَا وَيَتَعَامَلُونَ بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا تَوَلَّى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْخَرَاجَ بِالْأَكْثَرِ، فَالْتَمَسُوا مِنْهُ التَّخْفِيفَ، فَجَمَعَ حُسَّابَ زَمَانِهِ لِيُتَوَسَّطُوا وَيُوَفِّقُوا بَيْنَ الدَّرَاهِمِ كُلِّهَا وَبَيْنَ مَا رَامَهُ عُمَرُ وَبَيْنَ مَا رَامَهُ الرَّعِيَّةُ، فَاسْتَخْرَجُوا لَهُ وَزْنَ السَّبْعَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (بِذَاكَ جَرَى التَّقْدِيرُ فِي دِيوَانِ عُمَرَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ) فَتَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِهِ كَالزَّكَاةِ وَالْخَرَاجِ وَنِصَابِ السَّرِقَةِ وَتَقْدِيرِ الدِّيَاتِ وَمَهْرِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا جَعَلُوا ذَلِكَ لِأَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدِهَا: أَنَّك إذَا جَمَعْت مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ صَارَ الْكُلُّ أَحَدًا وَعِشْرِينَ مِثْقَالًا، فَإِذَا أَخَذْت ثُلُثَ ذَلِكَ كَانَ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ.
وَالثَّانِي أَنَّك إذَا أَخَذْت ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَجَمَعْت بَيْنَ الْأَثْلَاثِ الثَّلَاثَةِ الْمُخْتَلِفَةِ كَانَتْ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ.
وَالثَّالِثُ أَنَّك إذَا أَلْقَيْت الْفَاضِلَ عَلَى السَّبْعَةِ مِنْ الْعَشَرَةِ، أَعْنِي الثَّلَاثَةَ، وَالْفَاضِلَ أَيْضًا عَلَى السَّبْعَةِ مِنْ مَجْمُوعِ السِّتَّةِ وَالْخَمْسَةِ أَعْنِي الْأَرْبَعَةَ ثُمَّ جَمَعَتْ مَجْمُوعَ الْفَاضِلِينَ: أَعْنِي فَاضِلَ السَّبْعَةِ مِنْ الْعَشَرَةِ وَفَاضِلَ الْمَجْمُوعِ مِنْ السِّتَّةِ وَالْخَمْسَةِ وَهُوَ مَا أَلْقَيْته كَانَتْ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ، فَلَمَّا كَانَتْ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ أَعْدَلَ الْأَوْزَانِ فِيهَا وَدَارَتْ فِي جَمِيعِهَا بِطَرِيقِ مُسْتَقِيمٍ اخْتَارُوهَا.
وَقَوْلُهُ (فَهُوَ فِي حُكْمِ الْفِضَّةِ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي سَائِرِ الْعُرُوضِ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ يُنْظَرُ إلَى مَا يَخْلُصُ مِنْهُ مِنْ الْفِضَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي عَيْنِ الْفِضَّةِ الْقِيمَةُ وَلَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُصُ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْمَضْرُوبَةِ مِنْ الصُّفْرِ كَالْقُمْقُمِ لَا شَيْءَ فِيهَا إلَّا إذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ وَقَدْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَيَجِبُ فِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ.

.(فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ):

(لَيْسَ فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ صَدَقَةٌ.
فَإِذَا كَانَتْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ) لِمَا رَوَيْنَا وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ (ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ قِيرَاطَانِ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ رُبْعُ الْعُشْرِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا إذْ كُلُّ مِثْقَالٍ عِشْرُونَ قِيرَاطًا (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ صَدَقَةٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكُسُورِ، وَكُلُّ دِينَارٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي الشَّرْعِ فَيَكُونُ أَرْبَعَةُ مَثَاقِيلَ فِي هَذَا كَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا.
قَالَ (وَفِي تِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَحُلِيِّهِمَا وَأَوَانِيهِمَا الزَّكَاةُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجِبُ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ وَخَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ لِأَنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مُبَاحٍ فَشَابَهُ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ.
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ مَالٌ نَامٍ وَدَلِيلُ النَّمَاءِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً، وَالدَّلِيلُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الثِّيَابِ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ: قَدْ مَرَّ وَجْهُ تَأْخِيرِهِ عَنْ فَصْلِ الْفِضَّةِ وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ فَصْلِ الْفِضَّةِ «كَتَبَ إلَى مُعَاذٍ أَنْ خُذْ، إلَى أَنْ قَالَ: وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ نِصْفَ مِثْقَالٍ».
وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَضَمِيرُ مِنْهَا رَاجِعٌ إلَى مَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ.
قِيلَ تَعْرِيفُ الْمِثْقَالِ بِقَوْلِهِ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ عَرَّفَ الدِّرْهَمَ فِي فَصْلِ الْفِضَّةِ بِقَوْلِهِ.
وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ مِنْهَا وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ فَتَوَقَّفَ مَعْرِفَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ دَوْرٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَا عَرَّفَ الدِّرْهَمَ بِالْمِثْقَالِ فِي فَصْلِ الْفِضَّةِ، وَإِنَّمَا قَالَ الْمُعْتَبَرُ مِنْ أَصْنَافِهَا مَا يَكُونُ وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ قَالَ هَاهُنَا: وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ: أَيْ الْمُرَادُ بِالْمِثْقَالِ هَاهُنَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ الَّذِي عُرِّفَ بِهِ وَزْنُ الدِّرْهَمِ وَلَا دَوْرَ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ قِيرَاطَانِ) يَعْنِي إذَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ وَبَلَغَ الزِّيَادَةُ إلَى أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ فَفِيهَا قِيرَاطَانِ مَعَ نِصْفِ مِثْقَالٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ رُبُعُ الْعُشْرِ وَرُبُعُ الْعُشْرِ حَاصِلٌ فِيمَا قُلْنَا إذْ كُلُّ مِثْقَالٍ عِشْرُونَ قِيرَاطًا فَيَكُونُ أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ ثَمَانِينَ قِيرَاطًا وَرُبُعُ عُشْرِهِ قِيرَاطَانِ وَهَذَا بِصَنْجَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ.
وَالْقِيرَاطُ خُمُسُ شَعِيرَاتٍ، فَالْمِثْقَالُ وَهُوَ الدِّينَارُ عِنْدَهُمْ مِائَةُ شَعِيرَةٍ، وَأَصْلُ الْقِيرَاطِ قِرَّاطٌ بِالتَّشْدِيدِ لِأَنَّ جَمْعَهُ الْقَرَارِيطُ، فَأَبْدَلَ مِنْ أَحَدِ حَرْفَيْ التَّضْعِيفِ يَاءً.
وَقَوْلُهُ (وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكُسُورِ) يَعْنِي الَّتِي بَيَّنَهَا فِي فَصْلِ الْفِضَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ وَالْحِجَجَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِيهِ، وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا خَلَا أَنَّ أَرْبَعَ مَثَاقِيلَ هَاهُنَا قَامَتْ مَقَامَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا هُنَاكَ.
وَقَوْلُهُ (وَفِي تِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) التِّبْرُ مَا كَانَ غَيْرَ مَضْرُوبٍ مِنْهُمَا، وَالْحُلِيُّ عَلَى فُعُولٍ جَمْعُ حَلْيٍ كَثَدْيٍ فِي جَمْعِ ثَدْيٍ وَهُوَ مَا تَتَحَلَّى بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمَا.
وَقَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجِبُ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ وَخَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ) يَعْنِي الْحُلِيَّ الَّذِي يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مُبَاحٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا زَكَاةَ فِيهِ كَسَائِرِ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمَهْنَةِ (وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ مَالٌ نَامٍ، وَدَلِيلُ النَّمَاءِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً وَالدَّلِيلُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ) فَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا لَا مُعْتَبَرَ بِمَا لَيْسَ بِأَصْلٍ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلِابْتِذَالِ، بِخِلَافِ الثِّيَابِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلُ النَّمَاءِ وَالِابْتِذَالُ فِيهَا أَصْلٌ لِأَنَّ فِيهِ صَرْفًا لَهَا إلَى الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا وَهِيَ دَفْعُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ.

.(فَصْلٌ فِي الْعُرُوضِ):

(الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا مِنْ الْوَرِقِ أَوْ الذَّهَبِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا «يُقَوِّمُهَا فَيُؤَدِّي مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ»، وَلِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلِاسْتِنْمَاءِ بِإِعْدَادِ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ الْمُعَدَّ بِإِعْدَادِ الشَّرْعِ، وَتُشْتَرَطُ نِيَّةُ التِّجَارَةِ لِيَثْبُتَ الْإِعْدَادُ، ثُمَّ قَالَ (يُقَوِّمُهَا بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ) احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي الْأَصْلِ خَيَّرَهُ لِأَنَّ الثَّمَنَيْنِ فِي تَقْدِيرِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ بِهِمَا سَوَاءٌ، وَتَفْسِيرُ الْأَنْفَعِ أَنْ يُقَوِّمَهَا بِمَا تَبْلُغُ نِصَابًا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِمَا اشْتَرَى إنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ النُّقُودِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَالِيَّةِ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ النُّقُودِ قَوَّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ (وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ كَامِلًا فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ فَنُقْصَانُهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ) لِأَنَّهُ يَشُقُّ اعْتِبَارُ الْكَمَالِ فِي أَثْنَائِهِ أَوْ مَا لابد مِنْهُ فِي ابْتِدَائِهِ لِلِانْعِقَادِ وَتَحَقُّقِ الْغِنَى وَفِي انْتِهَائِهِ لِلْوُجُوبِ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَالَةُ الْبَقَاءِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ هَلَكَ الْكُلُّ حَيْثُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ، وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ لِانْعِدَامِ النِّصَابِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ بَعْضَ النِّصَابِ بَاقٍ فَيَبْقَى الِانْعِقَادُ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الْعُرُوضِ): أَخَّرَ فَصْلَ الْعُرُوضِ لِأَنَّهَا تَقُومُ بِالنَّقْدَيْنِ فَكَانَ حُكْمُهَا بِنَاءً عَلَيْهِمَا.
وَالْعُرُوضُ جَمْعُ عَرَضٍ بِفَتْحَتَيْنِ: حُطَامُ الدُّنْيَا: أَيْ مَتَاعُهَا سِوَى النَّقْدَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (كَائِنَةً مَا كَانَتْ) أَيْ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَتْ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالسَّوَائِمِ أَوْ لَمْ تَكُنْ كَالثِّيَابِ وَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ.
وَقَوْلُهُ (وَتُشْتَرَطُ نِيَّةُ التِّجَارَةِ) أَيْ حَالَةَ الشِّرَاءِ أَمَّا إذَا كَانَتْ النِّيَّةُ بَعْدَ الْمِلْكِ فَلَا بُدَّ مِنْ اقْتِرَانِ عَمَلِ التِّجَارَةِ بِنِيَّةٍ لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا تَعْمَلُ كَمَا مَرَّ.
وَقَوْلُهُ (يُقَوِّمُهَا بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ) أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي التَّقْوِيمِ، فَإِنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا هَذَا هُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَمَالِي، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَإِنَّهُ لابد مِنْ مُرَاعَاتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يُقَوِّمُهَا بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ يَتِمُّ النِّصَابُ وَبِالْآخَرِ لَا يَتِمُّ يُقَوَّمُ بِمَا يَتِمُّ بِالِاتِّفَاقِ احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَكَذَلِكَ هَذَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِتَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ لِلْأَنْفَعِ فِي الْكِتَابِ.
وَالثَّانِي مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ أَنْ يُقَوِّمَ صَاحِبُ الْمَالِ بِأَيِّ النَّقْدَيْنِ شَاءَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّقْوِيمَ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ وَالثَّمَنَانِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَالثَّالِثُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَالِيَّةِ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ قِيمَتُهُ مَرَّةً بِهَذَا النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الشِّرَاءُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِقِيمَتِهَا لِأَنَّ الْغَبْنَ نَادِرٌ.
وَالرَّابِعُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ أَنْ يُقَوِّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍّ يَعْنِي سَوَاءً اشْتَرَاهَا بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ أَوْ بِغَيْرِهِ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَبَرٌ بِالتَّقْوِيمِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ، وَمَتَى وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَقْوِيمِ الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ يَقُولُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فَكَذَا هَذَا.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ كَامِلًا فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ فَنُقْصَانُهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ) قَيَّدَ بِالنُّقْصَانِ احْتِرَازًا عَنْ الْهَلَاكِ، فَإِنَّ هَلَاكَ كُلِّ النِّصَابِ يَقْطَعُ الْحَوْلَ بِالِاتِّفَاقِ، وَذَكَرَ النِّصَابَ مُطْلَقًا لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْعُرُوضِ وَالسَّوَائِمِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَلْزَمُ الزَّكَاةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ كَامِلًا لِأَنَّ حَوَلَانَ الْحَوْلِ عَلَى الْمَالِ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْحَوْلِ بِمَعْنَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَلَنَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ زُفَرَ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّصَابِ فِي الِابْتِدَاءِ لِلِانْعِقَادِ وَفِي الِانْتِهَاءِ لِلْوُجُوبِ وَمَا بَيْنَهُمَا بِمَعْزِلٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا فَلَا يَكُونُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْحَوْلِ بِمَعْنَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالنُّقْصَانِ النُّقْصَانُ فِي الذَّاتِ، فَإِنَّ النُّقْصَانَ فِي الْوَصْفِ يَجْعَلُ السَّائِمَةَ عَلُوفَةً يُسْقِطُهَا بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ وَارِدٌ عَلَى كُلِّ النِّصَابِ فَكَانَ كَهَلَاكِ النِّصَابِ كُلِّهِ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ بِفَوَاتِ الْوَصْفِ. قَالَ (وَتُضَمُّ قِيمَةُ الْعُرُوضِ إلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَتَّى يَتِمَّ النِّصَابُ) لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ بِاعْتِبَارِ التِّجَارَةِ وَإِنْ افْتَرَقَتْ جِهَةُ الْإِعْدَادِ (وَيُضَمُّ الذَّهَبُ إلَى الْفِضَّةِ) لِلْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ سَبَبًا، ثُمَّ يُضَمُّ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بِالْإِجْزَاءِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ، حَتَّى إنَّ مَنْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، هُمَا يَقُولَانِ الْمُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْقَدْرُ دُونَ الْقِيمَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي مَصُوغٍ وَزْنُهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْنِ وَقِيمَتُهُ فَوْقَهَا، هُوَ يَقُولُ: إنَّ الضَّمَّ لِلْمُجَانَسَةِ وَهِيَ تَتَحَقَّقُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ دُونَ الصُّورَةِ فَيُضَمُّ بِهَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَتُضَمُّ قِيمَةُ الْعُرُوضِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: حَاصِلُ مَسَائِلِ الضَّمِّ أَنَّ عُرُوضَ التِّجَارَةِ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا، وَكَذَلِكَ يُضَمُّ إلَى النَّقْدَيْنِ بِلَا خِلَافٍ، وَالسَّوَائِمُ الْمُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَا يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ بِاعْتِبَارِ التِّجَارَةِ) يَعْنِي أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ النَّامِي وَالنَّمَاءُ إمَّا بِالْإِسَامَةِ أَوْ بِالتِّجَارَةِ، وَلَيْسَ كُلًّا مِنَّا فِي الْأُولَى فَتَعَيَّنَ الثَّانِيَةُ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ افْتَرَقَتْ جِهَةُ الْإِعْدَادِ) يَعْنِي أَنَّ الِافْتِرَاقَ فِي الْجِهَةِ يَكُونُ الْإِعْدَادُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ لِإِعْدَادِهَا لِلتِّجَارَةِ، وَفِي النَّقْدَيْنِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لِلتِّجَارَةِ لَا يَكُونُ مَانِعًا عَنْ الضَّمِّ بَعْدَ حُصُولِ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ النَّمَاءُ (وَيُضَمُّ الذَّهَبُ إلَى الْفِضَّةِ) عِنْدَنَا لِلْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ، فَإِذَا كَانَ مَا هُوَ أَبْعَدُ فِي الْمُجَانَسَةِ عِلَّةً وَهُوَ الْعُرُوض فَلَأَنْ يَكُونَ فِي الْأَقْرَبِ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ سَبَبًا) أَيْ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَكَانَ هَذَا الْوَجْهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيُوجِبُ الضَّمَّ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُضَمُّ بِالْقِيمَةِ، وَعِنْدَهُمَا بِالْإِجْزَاءِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ، وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَنْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ وَتَبْلُغُ قِيمَتُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا.
وَأَمَّا إذَا كَانَ عَشْرَةَ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا ثُلُثٌ وَمِنْ الْآخَرِ ثُلُثَانِ أَوْ رُبُعٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَإِنَّهُ يُضَمُّ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ، وَدَلِيلُهُمَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ وَهُوَ يَقُولُ: إنَّمَا أَوْجَبْنَا الضَّمَّ بِالْمُجَانَسَةِ وَهِيَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِالْقِيمَةِ دُونَ الصُّورَةِ وَاعْتِبَارُ الْإِجْزَاءِ اعْتِبَارُ الصُّورَةِ، وَمَسْأَلَةُ الْمَصُوغِ لَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، إذْ لَيْسَ فِيهَا ضَمُّ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ آخَرَ حَتَّى تُعْتَبَرَ الْقِيمَةُ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ فِي النُّقُودِ إنَّمَا تَظْهَرُ شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ.

.(بَابٌ فِيمَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ):

(إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ فَقَالَ أَصَبْتُهُ مُنْذُ أَشْهُرٍ أَوْ عَلَيَّ دَيْنٌ وَحَلَفَ صُدِّقَ) وَالْعَاشِرُ مَنْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنْ التُّجَّارِ، فَمَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ تَمَامَ الْحَوْلِ أَوْ الْفَرَاغِ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ مُنْكِرًا لِلْوُجُوبِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ (وَكَذَا إذَا قَالَ: أَدَّيْتُهَا إلَى عَاشِرٍ آخَرَ)، وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ فِي تِلْكَ السُّنَّةِ عَاشِرٌ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى وَضْعَ الْأَمَانَةِ مَوْضِعَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَاشِرٌ آخَرُ فِي تِلْكَ السَّنَةَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ (وَكَذَا إذَا قَالَ: أَدَّيْتُهَا أَنَا) يَعْنِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كَانَ مُفَوَّضًا إلَيْهِ فِيهِ، وَوِلَايَةُ الْأَخْذِ بِالْمُرُورِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْحِمَايَةِ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي صَدَقَةِ السَّوَائِمِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: أَدَّيْتُ بِنَفْسِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ لَا يُصَدَّقُ وَإِنْ حَلَفَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ.
وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ.
ثُمَّ قِيلَ الزَّكَاةُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي سِيَاسَةٌ.
وَقِيلَ هُوَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ يَنْقَلِبُ نَفْلًا وَهُوَ الصَّحِيحُ، ثُمَّ فِيمَا يُصَدَّقُ فِي السَّوَائِمِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ لَمْ يَشْتَرِطْ إخْرَاجَ الْبَرَاءَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَشَرَطَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى، وَلِصِدْقِ دَعْوَاهُ عَلَامَةٌ فَيَجِبُ إبْرَازُهَا.
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَا يُعْتَبَرُ عَلَامَةً.
الشَّرْحُ:
(بَابٌ فِيمَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ) أَلْحَقَ هَذَا الْبَابَ بِكِتَابِ الزَّكَاةِ اتِّبَاعًا لِلْمَبْسُوطِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ لِمُنَاسَبَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْعُشْرَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْمُسْلِمِ الْمَارِّ عَلَى الْعَاشِرِ هُوَ الزَّكَاةُ بِعَيْنِهَا إلَّا أَنَّ هَذَا الْعَاشِرَ كَمَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُسْلِمِ يَأْخُذُ مِنْ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ وَلَيْسَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمَا بِزَكَاةٍ، وَقَدَّمَ الزَّكَاةَ عَلَى هَذَا الْبَابِ وَعَلَى مَا بَعْدَهُ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً مَحْضَةً لَا شَائِبَةَ فِيهَا لِلْغَيْرِ، وَالْعَاشِرُ مُشْتَقٌّ مِنْ عَشَرْت الْقَوْمَ إذَا أَخَذْت عُشْرَ أَمْوَالِهِمْ فَهُوَ تَسْمِيَةٌ لِلشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ أَحْوَالِهِ وَهُوَ أَخْذُهُ الْعُشْرَ مِنْ الْحَرْبِيِّ لَا مِنْ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ عَلَى مَا سَيَجِيءُ (قَوْلُهُ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ) أَيْ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الظَّاهِرَةَ وَهِيَ السَّوَائِمُ لَا يَحْتَاجُ الْعَاشِرُ فِيهَا إلَى مُرُورِ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْأَخْذِ لَهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ عُشْرَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَمُرَّ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّ الْأَدَاءَ لِصَاحِبِ الْمَالِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ إلَى الْحِمَايَةِ لِبُطُونِهَا، فَإِذَا أَخْرَجَهَا إلَى الْمَفَازَةِ احْتَاجَتْ إلَيْهَا فَصَارَتْ كَالسَّوَائِمِ، فَإِذَا مَرَّ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ مِمَّا ذَكَرْنَا وَقَالَ أَصَبْته مُنْذُ أَشْهُرٍ: يُعْنَى لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْمَالِ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّ الْحَوْلَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْجِنْسِ، أَوْ قَالَ عَلَى دَيْنٍ.
يَعْنِي دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا لَهُ مُطَالَبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ صُدِّقَ وَعَرَّفَ الْعَاشِرَ بِقَوْلِهِ مَنْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنْ التُّجَّارِ.
وَنُوقِضَ بِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْكَافِرِ وَلَيْسَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ صَدَقَةً.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نَصْبِهِ أَخْذُ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَمَا عَدَاهَا تَابِعٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَنْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ.
وَقَوْلُهُ (فَمَنْ أَنْكَرَ تَمَّامَ الْحَوْلِ) يَعْنِي بِقَوْلِهِ أَصَبْت مُنْذُ أَشْهُرٍ (أَوْ الْفَرَاغُ مِنْ الدَّيْنِ) بِقَوْلِهِ أَوْ عَلَى دَيْنٍ (كَانَ مُنْكِرًا لِلْوُجُوبِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ مُنْذُ أَشْهُرٍ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا دُونَ الْحَوْلِ فَكَيْفَ عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ فَمَنْ أَنْكَرَ تَمَامَ الْحَوْلِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِلتَّصْدِيقِ فِيهِمَا التَّحْلِيفُ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْأَشْهُرَ تَقَعُ عَلَى الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا لِكَوْنِهِ جَمْعَ قِلَّةٍ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ عِبَادَةً لَكِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْعَاشِرِ فِي الْأَخْذِ وَحَقُّ الْفَقِيرِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ فَالْعَاشِرُ بَعْدَ ذَلِكَ يُدَّعَى عَلَيْهِ مَعْنًى لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَيَسْتَحْلِفُ لِرَجَاءِ النُّكُولِ كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِمَا حَقُّ الْعَبْدِ، وَلَا يَلْزَمُ حَدُّ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ إذَا أَنْكَرَ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ فِي الْحُدُودِ مُتَعَذِّرٌ عَلَى مَا عُرِفَ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا قَالَ أَدَّيْت إلَى عَاشِرٍ آخَرَ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ (ثُمَّ قِيلَ الزَّكَاةُ هُوَ الْأَوَّلُ) بِنَاءً عَلَى مَا لِأَصْحَابِنَا مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ صَادِقًا فِيمَا قَالَ يَبْرَأُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ، فَمَنْ اخْتَارَ الْأَوَّلَ قَالَ الزَّكَاةُ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا لَوْ خَفِيَ عَلَى السَّاعِي مَكَانَ مَالِهِ فَادَّعَى صَاحِبُ الْمَالِ زَكَاتَهُ وَقَعَ زَكَاةً (وَالثَّانِي سِيَاسَةٌ) مَالِيَّةٌ زَجْرًا لِغَيْرِهِ عَنْ الْإِقْدَامِ عَمَّا لَيْسَ إلَيْهِ (وَمَنْ اخْتَارَ الثَّانِيَ قَالَ الزَّكَاةُ هُوَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ يَنْقَلِبُ نَفْلًا) كَمَنْ صَلَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ سَعَى إلَى الْجُمُعَةِ فَأَدَّاهَا وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَقَالَ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازًا عَنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَوَجْهُ الصِّحَّةِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ وِلَايَةُ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ شَرْعًا فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ كَانَ أَدَاءُ رَبِّ الْمَالِ فَرْضًا لَغْوًا كَمَا لَوْ أَدَّى الْجِزْيَةَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ بِنَفْسِهِ.
وَقَوْلُهُ (لَمْ يُشْتَرَطْ إخْرَاجُ الْبَرَاءَةِ) أَيْ الْعَلَامَةِ وَهِيَ اسْمٌ لِخَطِّ الْإِبْرَاءِ مِنْ بَرِئَ مِنْ الدَّيْنِ.
وَالْعَيْبِ بَرَاءَةً وَالْجَمْعُ بَرَاءَاتٌ وَالْبَرَاوَاتُ عَامِّيٌّ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ.
وَقَوْلُهُ (فَيَجِبُ إبْرَازُهَا) أَيْ إظْهَارُ الْعَلَامَةِ كَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ شَجَّةً أَوْ قَطْعًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إبْرَازُ عَلَامَتِهِمَا (وَجْهُ الْأَوَّلِ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ (أَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ) فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ حُكْمًا (فَلَمْ يُعْتَبَرْ عَلَامَةً) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلتُّمُرْتَاشِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِاشْتِرَاطِ الْعَلَامَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ مَعَهَا الْيَمِينُ.
قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ: إنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصُدِّقَ عِنْدَهُمَا قِيلَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَظَرٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ ثُمَّ فِيمَا يَصَّدَّقُ فِي السَّوَائِمِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي السَّوَائِمِ يَصَّدَّقُ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ وَفِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فِي أَرْبَعَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ إخْرَاجُ الْبَرَاءَةِ فِي الْجَمِيعِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ دَيْنٌ أَوْ أَصَبْته مُنْذُ أَشْهُرٍ أَوْ أَدَّيْتهَا إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَدَّيْته إلَى عَاشِرٍ آخَرَ وَفِي تِلْكَ السَّنَةِ عَاشِرٌ آخَرُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ذَكَرَ الْعَامَّ وَأَرَادَ الْخَاصَّ: أَيْ الصُّورَةَ الْمَذْكُورَةَ مَجَازًا. قَالَ (وَمَا صُدِّقَ فِيهِ الْمُسْلِمُ صُدِّقَ فِيهِ الذِّمِّيُّ)؛ لِأَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَتُرَاعَى تِلْكَ الشَّرَائِطُ تَحْقِيقًا لِلتَّضْعِيفِ (وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ إلَّا فِي الْجَوَارِي يَقُولُ: هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي، أَوْ غِلْمَانٍ مَعَهُ يَقُولُ: هُمْ أَوْلَادِي)؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْحِمَايَةِ وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِنَسَبِ مَنْ فِي يَدِهِ مِنْهُ صَحِيحٌ، فَكَذَا بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا تَبْتَنِي عَلَيْهِ فَانْعَدَمَتْ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ فِيهِنَّ، وَالْأَخْذُ لَا يَجِبُ إلَّا مِنْ الْمَالِ.
قَالَ (وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعُ الْعُشْرِ وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفُ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرُ) هَكَذَا أَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُعَاتَهُ (وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا مِنْ مِثْلِهَا)؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ زَكَاةٌ أَوْ ضِعْفُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ النِّصَابِ وَهَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ لَا نَأْخُذُ مِنْ الْقَلِيلِ وَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَمْ يَزَلْ عَفْوًا وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ.
قَالَ (وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَا يُعْلَمُ كَمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا نَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ) لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنْ أَعْيَاكُمْ فَالْعُشْرُ (وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا رُبْعَ الْعُشْرَ أَوْ نِصْفَ الْعُشْرِ نَأْخُذُ بِقَدَرِهِ، وَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْكُلَّ لَا نَأْخُذُ الْكُلَّ)؛ لِأَنَّهُ غَدْرٌ (وَإِنْ كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ أَصْلًا لَا نَأْخُذُ) لِيَتْرُكُوا الْأَخْذَ مِنْ تُجَّارِنَا وَلِأَنَّا أَحَقُّ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَيُرَاعَى تِلْكَ الشَّرَائِطُ تَحْقِيقًا لِلتَّضْعِيفِ) يَعْنِي أَنَّ تَضْعِيفَ الشَّيْءِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمُضَعَّفُ عَلَى أَوْصَافِ الْمُضَعَّفِ عَلَيْهِ وَإِلَّا لَكَانَ تَبْدِيلًا لَا تَضْعِيفًا وَقَوْلُهُ (وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ) يَعْنِي فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا (إلَّا فِي الْجَوَارِي يَقُولُ هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي أَوْ غِلْمَانٍ مَعَهُ يَقُولُ هُمْ أَوْلَادِي لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْحِمَايَةِ وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ يَحْتَاجُ إلَيْهَا) وَإِنَّمَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْفُصُولِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي تَصْدِيقِهِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَمْ يَتِمَّ الْحَوْلُ عَلَى مَالِي فَفِي الْأَخْذِ مِنْهُ لَا يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْحَوْلِ لِتَمَامِ الْحِمَايَةِ لِتَحْصِيلِ النَّمَاءِ وَالْحِمَايَةِ لِلْحَرْبِيِّ تَتِمُّ بِنَفْسِ الْأَمَانِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَمَانُ صَارَ مَسْبِيًّا مَعَ أَمْوَالِهِ، وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُطَالَبُ بِهِ فِي دَارِنَا وَإِنْ قَالَ الْمَالُ بِضَاعَةٌ فَلَا حُرْمَةَ لِصَاحِبِهَا وَلَا أَمَانَ، وَإِنْ قَالَ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّفُ لِلنَّقْلِ إلَى غَيْرِ دَارِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا، وَإِنْ قَالَ أَدَّيْتهَا إلَى عَاشِرٍ آخَرَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ أُجْرَةُ الْحِمَايَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ بِنَفْسِ الْأَمَانِ كَمَا مَرَّ آنِفًا، وَلَوْ قَالَ أَدَّيْتهَا أَنَا كَذَّبَهُ اعْتِقَادُهُ غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِنَسَبِ مَنْ فِي يَدِهِ مِنْهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ حَرْبِيًّا لَا يُنَافِي الِاسْتِيلَادَ وَالنَّسَبُ كَمَا يَثْبُتُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَبِهِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا وَالْأَخْذُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الْمَالِ الْمَمْرُورِ بِهِ.
قَالَ (وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ رُبُعُ الْعُشْرِ) رَوَى الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصَّبَ الْعُشَارَ فَقَالَ لَهُمْ: خُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِ رُبُعَ الْعُشْرِ، وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ، وَكَانَ هَذَا بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، فَكَانَ إجْمَاعًا.
وَالْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ فِيهِ مَا قِيلَ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ رُبُعُ الْعُشْرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَاتُوا رُبُعَ عُشُورِ أَمْوَالِكُمْ، مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ وِلَايَةُ الْأَخْذِ لِلْعَاشِرِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْحِمَايَةِ، وَحَاجَةُ الذِّمِّيِّ إلَى الْحِمَايَةِ أَكْثَرُ لِأَنَّ طَمَعَ اللُّصُوصِ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْفَرُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ كَمَا فِي صَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ، ثُمَّ الْحَرْبِيُّ مِنْ الذِّمِّيِّ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ مِنْ الْمُسْلِمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَهُمْ مَقْبُولَةٌ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِم عَلَى الذِّمِّيِّ، ثُمَّ الذِّمِّيُّ يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ، فَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ تَضْعِيفًا لَا تَبْدِيلًا.
(وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا مِنْ مِثْلِهَا) لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ إلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سُئِلَ حِينَ نَصَّبَ الْعَاشِرَ فَقِيلَ لَهُ: كَمْ نَأْخُذُ مِمَّا مَرَّ بِهِ الْحَرْبِيُّ؟ فَقَالَ: كَمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا؟ فَقَالُوا: الْعُشْرَ، فَقَالَ: خُذُوا مِنْهُمْ الْعُشْرَ.
وَلَسْنَا نَعْنِي بِقَوْلِنَا بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ أَنَّ أَخْذَنَا لِمُقَابَلَةِ أَخْذِهِمْ أَمْوَالَنَا، فَإِنَّ أَخْذَهُمْ أَمْوَالَنَا ظُلْمٌ وَأَخْذَنَا أَمْوَالَهُمْ حَقٌّ، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّا إذَا عَامَلْنَاهُمْ بِمِثْلِ مَا يُعَامِلُونَنَا كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلَى مَقْصُودِ الْأَمَانِ وَاتِّصَالِ التِّجَارَاتِ.
لَا يُقَالُ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَنَافٍ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْحِمَايَةِ، وَقَالَ هَاهُنَا: لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَخْذُ مَعْلُولًا لِأَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ مَعْلُولًا لِغَيْرِهِ لِئَلَّا يَتَوَارَدَ عِلَّتَانِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ لِأَنَّا نَقُولُ: الْأَخْذُ مِنْهُمْ مَعْلُومٌ لِلْحِمَايَةِ.
وَأَمَّا الْمِقْدَارُ الْمُعَيَّنُ وَهُوَ الْعُشْرُ فَمَعْلُولٌ لِلْمُجَازَاةِ إلَخْ، وَلَا تَنَافِيَ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ أَعْيَاكُمْ فَالْعُشْرُ) تَقُولُ عَيِيت بِأَمْرِي إذَا لَمْ تَهْتَدِ لِوُجْهَتِهِ، وَأَعْيَانِي هُوَ، وَقِيلَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْعِيِّ وَهُوَ الْجَهْلُ، فَإِنْ أَعْيَاكُمْ: أَيْ جَهْلُكُمْ: يُعْنَى إذَا اشْتَبَهَ الْحَالُ بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ الْعَاشِرُ مَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ غَدْرٌ) أَيْ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الْحِمَايَةِ وَالْغَدْرُ حَرَامٌ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ» وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُؤْخَذُ مِنْهُ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ إلَّا قَدْرُ مَا يُبَلِّغُهُ مَأْمَنَهُ، لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِتَبْلِيغِهِ مَأْمَنَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُؤْخَذُ مِنْهُ الْكُلُّ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ فَيُجَازِيهِمْ بِمِثْلِ صَنِيعِهِمْ لِيَنْزَجِرُوا. قَالَ (وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ عَلَى عَاشِرٍ فَعَشَرَهُ ثُمَّ مَرَّ مَرَّةً أُخْرَى لَمْ يَعْشُرْهُ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ)؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ اسْتِئْصَالُ الْمَالِ وَحَقُّ الْأَخْذِ لِحِفْظِهِ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ بَاقٍ، وَبَعْدَ الْحَوْلِ يَتَجَدَّدُ الْأَمَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ إلَّا حَوْلًا، وَالْأَخْذُ بَعْدَهُ لَا يَسْتَأْصِلُ الْمَالَ (فَإِنْ عَشَرَهُ فَرَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ عَشَرَهُ أَيْضًا)؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ بِأَمَانٍ جَدِيدٍ.
وَكَذَا الْأَخْذُ بَعْدَهُ لَا يُفْضِي إلَى الِاسْتِئْصَالِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ عَلَى عَاشِرٍ إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْعُشْرَ إنَّمَا يَتَكَرَّرُ فِيمَا يَمُرُّ بِهِ بِكَمَالِ الْحَوْلِ أَوْ بِتَجْدِيدِ الْعَهْدِ بِالرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ بِالْمُرُورِ عَلَى الْعَاشِرِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْهُمَا لَمْ يُعَشِّرْهُ ثَانِيًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ نَصْرَانِيًّا مَرَّ بِفَرَسٍ لَهُ عَلَى عَاشِرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَشَّرَهُ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ ثَانِيًا فَهَمَّ أَنْ يُعَشِّرَهُ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: كُلَّمَا مَرَرْت بِكَ عَشَّرْتَنِي إذًا يَذْهَبُ فَرَسِي كُلُّهُ؟ فَتَرَكَ الْفَرَسَ عِنْدَهُ وَذَهَبَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ أَتَى الْمَسْجِدَ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى عَتَبَتَيْ الْبَابِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا الشَّيْخُ النَّصْرَانِيُّ، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَا الشَّيْخُ الْحَنِيفِيُّ، فَقَصَّ النَّصْرَانِيُّ الْقِصَّةَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَتَاك الْغَوْثُ فَنَكَّسَ رَأْسَهُ، وَرَجَعَ إلَى مَا كَانَ فِيهِ، فَظَنَّ النَّصْرَانِيُّ أَنَّهُ اسْتَخَفَّ بِظُلَامَتِهِ فَرَجَعَ كَالْخَائِبِ، فَلَمَّا انْتَهَى إلَى فَرَسِهِ وَجَدَ كِتَابَ عُمَرَ قَدْ سَبَقَهُ إنَّك إنْ أَخَذْت الْعُشْرَ مَرَّةً فَلَا تَأْخُذْهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: إنَّ دِينًا يَكُونُ الْعَدْلُ فِيهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَحَقِيقٌ أَنْ يَكُونَ حَقًّا فَأَسْلَمَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ قَالَ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ، ثُمَّ قَالَ لَا يُمْكِنُ مِنْ الْمَقَامِ إلَّا حَوْلًا، وَالْمُرَادُ بِهِ إلَّا قَرِيبًا مِنْ الْحَوْلِ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ حَوْلًا كَامِلًا.
أُجِيبَ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ: إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْإِمَامُ بِحَالِهِ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ ثَانِيًا. (وَإِنْ مَرَّ ذِمِّيٌّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ عَشَرَ الْخَمْرَ دُونَ الْخِنْزِيرِ) وَقَوْلُهُ (عَشَرَ الْخَمْرَ): أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَعْشُرُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُمَا.
وَقَالَ زُفَرُ: يَعْشُرُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَعْشُرُهُمَا إذَا مَرَّ بِهِمَا جُمْلَةً كَأَنَّهُ جَعَلَ الْخِنْزِيرَ تَبَعًا لِلْخَمْرِ، فَإِنْ مَرَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ عَشَرَ الْخَمْرَ دُونَ الْخِنْزِيرِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْقِيمَةَ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَهَا حُكْمُ الْعَيْنِ وَالْخِنْزِيرُ مِنْهَا، وَفِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لَيْسَ لَهَا هَذَا الْحُكْمُ وَالْخَمْرُ مِنْهَا، وَلِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْحِمَايَةِ وَالْمُسْلِمُ يَحْمِي خَمْرَ نَفْسِهِ لِلتَّخْلِيلِ فَكَذَا يَحْمِيهَا عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يَحْمِي خِنْزِيرَ نَفْسِهِ بَلْ يَجِبُ تَسْيِيبُهُ بِالْإِسْلَامِ فَكَذَا لَا يَحْمِيهِ عَلَى غَيْرِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ مَرَّ ذِمِّيٌّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ عُشِّرَ الْخَمْرُ دُونَ الْخِنْزِيرِ) إذَا مَرَّ الذِّمِّيُّ عَلَى الْعَاشِرِ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ وَتَبْلُغُ الْقِيمَةُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا فَسَّرَ بِقَوْلِهِ (أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا) احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ يُعَشَّرُ عَيْنُهَا وَنَفْيًا لِظَاهِرِ مَا يُفْهَمُ فَإِنَّ السَّامِعَ يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يُعَشِّرُ عَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمُسْلِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ اقْتِرَابِهَا ثُمَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ بِأَنَّهُ لَا مَالِيَّةَ وَلَا قِيمَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ الْمُسْلِمُ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَوْ خِنْزِيرَهُ لَا يَضْمَنُ عِنْدَهُ، وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَتْلَفَ خِنْزِيرَ الذِّمِّيِّ ضَمِنَهُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ خَمْرَهُ، وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ التَّبَعِيَّةَ فَجَعَلَ الْخِنْزِيرَ تَابِعًا لِلْخَمْرِ لِأَنَّ الْخَمْرَ أَقْرَبُ إلَى الْمَالِيَّةِ بِوَاسِطَةِ التَّخْلِيلِ، وَقَدْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ تَبَعًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مَقْصُودًا.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ اُعْتُرِضَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الشُّفْعَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَقَالَ وَإِذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ دَارًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَشَفِيعُهَا ذِمِّيٌّ، إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنْ كَانَ شَفِيعُهَا مُسْلِمًا أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَلَوْ كَانَ لِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ حُكْمُهُ لَمَا أُخِذَ بِقِيمَتِهِ كَمَا لَا يَأْخُذُهَا بِعَيْنِهِ وَبِمَسْأَلَةِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَتْلَفَ خِنْزِيرًا لِذِمِّيٍّ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ وَلَوْ كَانَ لَهَا حُكْمُ الْعَيْنِ لَمَا ضَمِنَهَا كَمَا لَا يَضْمَنُ عَيْنَهَا، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَبِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَوْ الذِّمِّيَّ إذَا غَصَبَ خِنْزِيرَ ذِمِّيٍّ وَتَحَاكَمَا إلَى الْقَاضِي يَأْمُرُهُ الْقَاضِي بِالرَّدِّ وَالتَّسْلِيمِ وَذَلِكَ حِمَايَةً لَهُ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ قِيمَةَ ذَوَاتِ الْقِيَمِ بِمَنْزِلَةِ عَيْنِهَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ عَيْنِهَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَبِمَنْزِلَتِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَدَاءَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالتَّعْيِينِ وَلَا تَعْيِينَ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ فَأَخَذَتْ الْقِيمَةُ حُكْمَ الْعَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلِهَذَا إذَا تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ امْرَأَةً عَلَى خِنْزِيرٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى قَبُولِهَا كَمَا لَوْ أَتَاهَا بِعَيْنِهِ، فَلَمَّا دَارَتْ الْقِيمَةُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ لَا تَكُونَ أُعْطِيت حُكْمَ الْعَيْنِ فِي حَقِّ الْأَخْذِ وَالْحِيَازَةِ وَهُوَ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، وَلَمْ تُعْطَ فِي حَقِّ الْإِعْطَاءِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إزَالَةٍ وَتَبْعِيدٍ وَهُوَ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ وَالْإِتْلَافِ، وَنُوقِضَ بِذِمِّيٍّ أَخَذَ قِيمَةَ خِنْزِيرٍ لَهُ اسْتَهْلَكَهُ ذِمِّيٌّ وَقَضَى بِهَا دَيْنًا لِمُسْلِمٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَلَوْ كَانَ أَخْذُ الْقِيمَةِ كَأَخْذِ الْعَيْنِ لَمَا جَازَ الْقَضَاءُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا قَضَى بِهَا دَيْنًا عَلَيْهِ وَقَعَتْ الْمُعَاوَضَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ السَّبَبُ، وَاخْتِلَافُ الْأَسْبَابِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ عَلَى مَا عُرِفَ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ خِنْزِيرِ نَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ خِنْزِيرِ غَيْرِهِ لِغَرَضٍ يَسْتَوْفِيهِ، وَالْعَاشِرُ لَوْ حَمَاهُ حَمَاهُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْقَاضِي. (وَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ بِمَالٍ فَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ شَيْءٌ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ مَا عَلَى الرَّجُلِ) لِمَا ذَكَرْنَا فِي السَّوَائِمِ (وَمَنْ مَرَّ عَلَى عَاشِرٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ مِائَةً أُخْرَى قَدْ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ لَمْ يُزَكِّ الَّتِي مَرَّ بِهَا) لِقِلَّتِهَا وَمَا فِي بَيْتِهِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ حِمَايَتِهِ (وَلَوْ مَرَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِضَاعَةً لَمْ يَعْشُرْهَا)؛ لِأَنَّهُ غَيْرَ مَأْذُونٍ بِأَدَاءِ زَكَاتِهِ.
قَالَ (وَكَذَا الْمُضَارَبَةُ) يَعْنِي إذَا مَرَّ الْمُضَارِبُ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا يَعْشُرُهَا لِقُوَّةِ حَقِّ الْمُضَارِبِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ رَبُّ الْمَالِ نَهْيَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بَعْدَ مَا صَارَ عُرُوضًا فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ يَبْلُغُ نَصِيبُهُ نِصَابًا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمِائَةٍ) يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ بِأَدَاءِ زَكَاتِهِ) يَعْنِي هُوَ مَأْذُونٌ بِالتِّجَارَةِ فَقَطْ، فَلَوْ أَخَذَ أَخَذَ غَيْرَ زَكَاةٍ وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ سِوَى الزَّكَاةِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا نَائِبَ عَنْهُ) أَيْ إنَّمَا هُوَ نَائِبٌ فِي التِّجَارَةِ لَا غَيْرُ، وَالنَّائِبُ تَقْتَصِرُ وِلَايَتُهُ عَلَى مَا فُوِّضَ إلَيْهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَبْضَعِ. (وَلَوْ مَرَّ عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَشَرَهُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا أَدْرِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنْ هَذَا أَمْ لَا.
وَقِيَاسُ قَوْلِهِ الثَّانِي فِي الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّهُ لَا يَعْشُرُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيمَا فِي يَدِهِ لِلْمَوْلَى وَلَهُ التَّصَرُّفُ فَصَارَ كَالْمُضَارِبِ.
وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى فَكَانَ هُوَ الْمُحْتَاجَ إلَى الْحِمَايَةِ، وَالْمُضَارِبُ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ حَتَّى يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُحْتَاجَ.
فَلَا يَكُونُ الرُّجُوعُ فِي الْمُضَارِبِ رُجُوعًا مِنْهُ فِي الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ مَعَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ إلَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ أَوْ لِلشُّغْلِ.
قَالَ (وَمَنْ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْخَوَارِجِ فِي أَرْضٍ قَدْ غَلَبُوا عَلَيْهَا فَعَشَرَهُ يُثَنَّى عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ) مَعْنَاهُ: إذَا مَرَّ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ إنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ مَرَّ عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ) ظَاهِرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْمُضَارِبِ رُجُوعٌ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ كَذَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ الْإِيضَاحِ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ مَوْلَاهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ) يَعْنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (أَوْ لِلشَّغْلِ) أَيْ عِنْدَهُمَا.
فَإِنَّ الشَّغْلَ بِالدَّيْنِ مَانِعٌ عَنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْخَوَارِجِ) وَاضِحٌ.