فصل: (بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ):

(وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَأُخِذَ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ أَوْ جَاءُوا بِهِ سَكْرَانَ فَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ) لِأَنَّ جِنَايَةَ الشُّرْبِ قَدْ ظَهَرَتْ وَلَمْ يَتَقَادَمْ الْعَهْدُ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ».
(وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَهَابِ رَائِحَتِهَا لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُحَدُّ) وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رِيحُهَا وَالسُّكْرُ لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُحَدُّ، فَالتَّقَادُمُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ، غَيْرَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ عِنْدَهُ اعْتِبَارًا بِحَدِّ الزِّنَا، وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَالرَّائِحَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا قِيلَ: يَقُولُونَ لِي انْكَهْ شَرِبْت مُدَامَةً فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ.
وَلِأَنَّ قِيَامَ الْأَثَرِ مِنْ أَقْوَى دَلَالَةٍ عَلَى الْقُرْبِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ، وَإِنَّمَا تَشْتَبِهُ عَلَى الْجُهَّالِ.
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَالتَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ.
وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ، لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلَا إجْمَاعَ إلَّا بِرَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ شَرَطَ قِيَامَ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا.
الشَّرْحُ:
بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ: إنَّمَا أَخَّرَ حَدَّ الشُّرْبِ عَنْ حَدِّ الزِّنَا؛ لِأَنَّ جَرِيمَةَ الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ جَرِيمَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ النَّفْسِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ ذِكْرَهُ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَقَتْلِ النَّفْسِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} وَلِهَذَا لَمْ يَحِلَّ فِي دَيْنٍ مِنْ الْأَدْيَانِ وَأَخَّرَ حَدَّ الْقَذْفِ عَنْ حَدِّ الشُّرْبِ لِمَا أَنَّ جَرِيمَةَ الشُّرْبِ مُتَيَقَّنٌ بِهَا، بِخِلَافِ جَرِيمَةِ الْقَذْفِ فَإِنَّ الْقَذْفَ خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَلِهَذَا كَانَ ضَرْبُ حَدِّ الْقَذْفِ أَخَفَّ مِنْ ضَرْبِ حَدِّ الشُّرْبِ لِضَعْفٍ فِي ثُبُوتِ الْقَذْفِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي نِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا فَلَا يَكُونُ قَذْفًا (وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَأُخِذَ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ أَوْ جَاءُوا بِهِ سَكْرَانَ فَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الشَّارِبِ (بِذَلِكَ) أَيْ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَوُجُودِ الرَّائِحَةِ مِنْ بَابِ قَوْله تَعَالَى {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} (أَوْ شَهِدُوا عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ مَعَ مَجِيئِهِمْ بِهِ وَهُوَ سَكْرَانُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الرَّائِحَةُ بَعْدَمَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِالسُّكْرِ مِنْ الْخَمْرِ، وَلَكِنْ الرِّوَايَاتُ فِي الشُّرُوحِ مُقَيَّدَةٌ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَدِّ بِالشَّهَادَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ (وَالْأَصْلُ فِيهِ) أَيْ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ» قِيلَ تَمَامُ الْحَدِيثِ «فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ» وَهُوَ مَتْرُوكُ الْعَمَلِ بِهِ فَلْيَكُنْ الْبَاقِي كَذَلِكَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ تُرِكَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ لِمُعَارِضٍ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» وَلَيْسَ شُرْبُ الْخَمْرِ مِنْهَا، فَبَقِيَ الْبَاقِي مَعْمُولًا بِهِ لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَهَابِ رَائِحَتِهَا) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الشَّهْرُ (اعْتِبَارًا بِحَدِّ الزِّنَا) وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) يَعْنِي تَقْدِيرَ الزَّمَانِ وَعَدَمَ اعْتِبَارِ الرَّائِحَةِ (لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ) فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ زَمَانٍ، وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَوْ شَهْرٌ وَاحِدٌ فَيُعْلَمُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (وَأَمَّا عَدَمُ اعْتِبَارِ الرَّائِحَةِ فَلِأَنَّهَا مُحْتَمَلَةٌ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِهَا كَمَا قِيلَ: يَقُولُونَ لِي انْكِهِ قَدْ شَرِبْت مُدَامَةً فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا) وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُطَرِّزِيِّ بِكَلِمَةِ قَدْ، وَقَدْ رُوِيَ بِدُونِهَا وَهِيَ رِوَايَةُ الْفُقَهَاءِ، فَعَلَى الْأُولَى تَسْقُطُ هَمْزَةُ الْوَصْلِ مِنْ انْكِهِ فِي اللَّفْظِ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ تُحَرَّكُ بِالْكَسْرِ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَالْمُدَامَةُ بِمَعْنَى الْمُدَامِ وَهُوَ الْخَمْرُ (وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ) وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْقُرْبُ وَ (قِيَامُ الْأَثَرِ) وَهُوَ الرَّائِحَةُ (مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى الْقُرْبِ) وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ) جَوَابٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ بِالزَّمَانِ: أَيْ إنَّمَا يُصَارُ إلَى التَّقْدِيرِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْأَثَرِ.
وَقَوْلُهُ (وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالرَّائِحَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ (وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَالتَّقَادُمُ لَا يُبْطِلُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ) أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُتَّهَمًا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ (وَعِنْدَهُمَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ، لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلَا إجْمَاعَ إلَّا بِرَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ شَرَطَ قِيَامَ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ: فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ, وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى ثُبُوتِ حَدِّ الشُّرْبِ بِاتِّفَاقِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي شَرَطَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ قِيَامُ الرَّائِحَةِ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْبَاقُونَ، وَأَيْضًا كَلَامُ ابْنِ مَسْعُودٍ شَرْطِيَّةٌ وَالشَّرْطِيَّةُ تُفِيدُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ لَا غَيْرُ.
وَجَوَابُ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ لَيْسَ مِنْ مَفْهُومِ الشَّرْطِ بَلْ مِنْ انْتِفَاءِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مَدْفُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا، وَأَيْضًا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ» وَقَالَ هَاهُنَا إنَّهُ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ، وَأَيْضًا اشْتِرَاطُ الرَّائِحَةِ مُنَافٍ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ» (وَإِنْ أَخَذَهُ الشُّهُودُ وَرِيحُهَا تُوجَدُ مِنْهُ أَوْ سَكْرَانُ فَذَهَبُوا بِهِ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ فِيهِ الْإِمَامُ فَانْقَطَعَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا بِهِ حُدَّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ كَبُعْدِ الْمَسَافَةِ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالشَّاهِدُ لَا يُتَّهَمُ فِي مِثْلِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَرِيحُهَا تُوجَدُ مِنْهُ) ظَاهِرٌ. (وَمَنْ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ حُدَّ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى أَعْرَابِيٍّ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ.
وَسَنُبَيِّنُ الْكَلَامَ فِي حَدِّ السُّكْرِ وَمِقْدَارِ حَدِّهِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَمَنْ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ حُدَّ) النَّبِيذُ يَقَعُ عَلَى نَبِيذِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، وَمَا يُتَّخَذُ مِنْ الزَّبِيبِ شَيْئَانِ: نَقِيعٌ وَنَبِيذٌ.
فَالنَّقِيعُ أَنْ يُنْقَعَ الزَّبِيبُ فِي الْمَاءِ وَيُتْرَكَ أَيَّامًا حَتَّى تَخْرُجَ حَلَاوَتُهُ إلَى الْمَاءِ ثُمَّ يُطْبَخَ أَدْنَى طَبْخٍ، فَمَا دَامَ حُلْوًا يَحِلُّ شُرْبُهُ، وَإِذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ يَحْرُمُ.
وَأَمَّا النَّبِيذُ فَهُوَ الَّذِي مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ يَحِلُّ شُرْبُهُ مَا دَامَ حُلْوًا فَإِذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ يَحِلُّ شُرْبُهُ مَا دُونَ السُّكْرِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ.
وَمَا يُتَّخَذُ مِنْ التَّمْرِ ثَلَاثَةٌ: السُّكْرُ وَالْفَضِيخُ وَالنَّبِيذُ.
فَالنَّبِيذُ هُوَ مَاءُ التَّمْرِ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ يَحِلُّ شُرْبُهُ فِي قَوْلِهِمْ مَا دَامَ حُلْوًا، وَإِذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَحِلُّ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي وَالتَّقَوِّي إلَّا الْقَدَحَ الْمُسْكِرَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَحِلُّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، وَسَيَجِيءُ بَيَانُهُ فِي الْأَشْرِبَةِ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي حَدِّ السُّكْرِ وَمِقْدَارِ حَدِّهِ فَسَيُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا) لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ، وَكَذَا الشُّرْبُ قَدْ يَقَعُ عَنْ إكْرَاهٍ أَوْ اضْطِرَارٍ (وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ وَشَرِبَهُ طَوْعًا) لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْمُبَاحِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ، وَكَذَا شُرْبُ الْمُكْرَهِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ (وَلَا يُحَدُّ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ) تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الِانْزِجَارِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا) يَعْنِي إذَا لَمْ يُشَاهَدْ مِنْهُ الشُّرْبُ (لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ) فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّعْلِيلُ مُنَاقِضٌ لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الرَّوَائِحِ مُمْكِنٌ لِلْمُسْتَدِلِّ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي نَفْسِ الرَّوَائِحِ قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّمْيِيزُ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْصَاءِ أَوْ التَّمْيِيزُ مُمْكِنٌ لِمَنْ عَايَنَ الشُّرْبَ وَالِاحْتِمَالُ لِمَنْ لَمْ يُعَايِنْهُ.
وَأَقُولُ: وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَحْسَنُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُسْتَدِلِّ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ هُوَ مَنْ مَعَهُ دَلِيلٌ وَهُوَ مُعَايَنَةُ الشُّرْبِ وَالْجَاهِلُ هُوَ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الشُّرْبُ قَدْ يَقَعُ عَنْ إكْرَاهٍ أَوْ اضْطِرَارٍ) عَلَى قَوْلِهِمَا.
وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ وَشَرِبَهُ طَوْعًا لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْمُبَاحِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ إبَاحَةِ الْبَنْجِ مُوَافِقٌ لِعَامَّةِ الْكُتُبِ خَلَا رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ، فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَلِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ: السُّكْرُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْ الْبَنْجِ حَرَامٌ مَعَ أَنَّهُ مَأْكُولٌ فَمِنْ الْمَشْرُوبِ أَوْلَى.
كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ الْحَاصِلَ مِنْ الْبَنْجِ حَرَامٌ لَا عَلَى أَنَّ الْبَنْجَ حَرَامٌ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَنْجَ مُبَاحٌ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا (وَحَدُّ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ فِي الْحُرِّ ثَمَانُونَ سَوْطًا) لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (يُفَرَّقُ عَلَى بَدَنِهِ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ) ثُمَّ يُجَرَّدُ فِي الْمَشْهُودِ مِنْ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ إظْهَارًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ.
وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّا أَظْهَرْنَا التَّخْفِيفَ مَرَّةً فَلَا يُعْتَبَرُ ثَانِيًا (وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَحَدُّهُ أَرْبَعُونَ سَوْطًا) لِأَنَّ الرِّقَّ مُتَّصِفٌ عَلَى مَا عُرِفَ.
الشَّرْحُ:
(وَحَدُّ الْخَمْرِ وَ) حَدُّ (السُّكْرِ) مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ (فِي الْحُرِّ ثَمَانُونَ سَوْطًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، يُفَرَّقُ عَلَى بَدَنِهِ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَا مَرَّ) فِي أَنَّهُ يُضْرَبُ كُلُّ الْبَدَنِ مَا خَلَا الْوَجْهَ وَالرَّأْسَ وَالْفَرْجَ (ثُمَّ يُجَرَّدُ) عَنْ ثِيَابِهِ (فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ عَنْ ثِيَابِهِ إظْهَارًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ) أَيْ بِالْحَدِّ (نَصٌّ) قَاطِعٌ أَوْ بِالتَّجْرِيدِ (وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّا أَظْهَرْنَا التَّخْفِيفَ مَرَّةً) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ حَيْثُ لَمْ نَجْعَلْهُ مِائَةً كَمَا فِي الزِّنَا (فَلَا يُعْتَبَرُ ثَانِيًا) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُجْمِعِينَ التَّصَرُّفُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الثَّمَانِينَ تَغْلِيظٌ لَا تَخْفِيفٌ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ ضَرَبُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَكْمَامِ وَبِالْأَيْدِي وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ ثُمَّ جَلَدَ عُمَرُ أَرْبَعِينَ، فَالتَّقْدِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ تَغْلِيظٌ لَا تَخْفِيفٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ إنَّا أَظْهَرْنَا التَّخْفِيفَ كَلَامٌ عَنْ لِسَانِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالتَّخْفِيفُ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَازَ لَهُ أَنْ يُقَدِّرَ حَدَّ الشُّرْبِ مِائَةً كَحَدِّ الزِّنَا إذْ هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ، وَحَيْثُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ كَانَ تَخْفِيفًا مِنْهُ، وَلَمَا جَعَلَهُ الصَّحَابَةُ مُعْتَبَرًا بِحَدِّ الْمُفْتَرِينَ ظَهَرَ التَّخْفِيفُ فَلَمْ يُقَدِّرُوا بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا أَظْهَرُوا التَّخْفِيفَ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا بِتَرْكِ التَّنْصِيصِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ أَظْهَرْنَا التَّخْفِيفَ، وَلِلَّهِ دَرُّ لَطَائِفِهِ. (وَمَنْ أَقَرَّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّكَرِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُحَدَّ) لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَقَرَّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّكَرِ) بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ عَصِيرُ الرُّطَبِ إذَا اشْتَدَّ، وَقِيلَ السُّكْرُ كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ (وَيَثْبُتُ الشُّرْبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَ) يَثْبُتُ (بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ الْإِقْرَارَ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي السَّرِقَةِ، وَسَنُبَيِّنُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ (وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ) لِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ وَتُهْمَةَ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ.
الشَّرْحُ:
(وَيَثْبُتُ الشُّرْبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَيَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ: يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّتَيْنِ فِي مَجْلِسَيْنِ اعْتِبَارًا لِعَدَدِ الْإِقْرَارِ بِعَدَدِ الشُّهُودِ (وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي السَّرِقَةِ، وَسَنُبَيِّنُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ) فِي حَدِّ الشُّرْبِ أَيْضًا (لِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ وَتُهْمَةَ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ) يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} إلَى قَوْلِهِ {أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} وَإِنَّمَا قَالَ شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ دُونَ حَقِيقَةِ الْبَدَلِيَّةِ، لِأَنَّ اسْتِشْهَادَ النِّسَاءِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَازَتْ شَهَادَتُهُنَّ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِشْهَادِ الرِّجَالِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَبْدَالِ، وَلَكِنْ فِيهِ صُورَةُ الْبَدَلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ النَّظْمُ ,وَالسَّكْرَانُ الَّذِي يُحَدُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وَلَا يَعْقِلُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ الَّذِي يَهْذِي وَيَخْتَلِطُ كَلَامُهُ) لِأَنَّهُ هُوَ السَّكْرَانُ فِي الْعُرْفِ، وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ.
وَلَهُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ بِأَقْصَاهَا دَرْءًا لِلْحَدِّ.
وَنِهَايَةُ السَّكْرَانِ يَغْلِبُ السُّرُورُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَسْلُبُهُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْرَى عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدَحِ الْمُسْكِرُ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ مَا قَالَاهُ بِالْإِجْمَاعِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ ظُهُورَ أَثَرِهِ فِي مِشْيَتِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَأَطْرَافِهِ وَهَذَا مِمَّا يَتَفَاوَتُ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِهِ.
الشَّرْحُ:
(وَالسَّكْرَانُ الَّذِي يُحَدُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا وَلَا يَعْقِلُ الرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ) هَذَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْخِلَافِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَا: هُوَ الَّذِي يَهْذِي وَيَخْتَلِفُ كَلَامُهُ) أَيْ يَكُونُ غَالِبُ كَلَامِهِ الْهَذَيَانَ، فَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ مُسْتَقِيمًا فَلَيْسَ بِسَكْرَانَ (لِأَنَّهُ السَّكْرَانُ فِي الْعُرْفِ وَإِلَيْهِ) أَيْ إلَى قَوْلِهِمَا (مَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ) وَعَنْ ابْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: سَأَلْت أَبَا يُوسُفَ عَنْ السَّكْرَانِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ قَالَ: أَنْ يُسْتَقْرَأَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقُلْت لَهُ: كَيْفَ عَيَّنْت هَذِهِ السُّورَةَ وَرُبَّمَا أَخْطَأَ فِيهَا الصَّاحِي؟ قَالَ: لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ نَزَلَ فِيمَنْ شُرِعَ فِيهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ قِرَاءَتَهَا.
وَحُكِيَ أَنَّ أَئِمَّةَ بَلْخِي اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِقْرَاءِ هَذِهِ السُّورَةِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُدُودَ يُؤْخَذُ فِي أَسْبَابِهَا بِأَقْصَاهَا دَرْءًا لِلْحَدِّ، وَنِهَايَةُ السُّكْرِ أَنْ يَغْلِبَ السُّرُورُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَسْلُبُهُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْرَى عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ) يَعْنِي أَنَّهُ إذَا كَانَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِعَقْلِهِ مَعَ مَا بِهِ مِنْ السُّرُورِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نِهَايَةً فِي السُّكْرِ وَفِي النُّقْصَانِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلِهَذَا وَافَقَهُمَا فِي السُّكْرِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَهُ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ هُوَ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّهَايَةِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ يُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدَحِ الْمُسْكِرِ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ مَا قَالَاهُ بِالْإِجْمَاعِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ) لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتَقَدَ حُرْمَةَ الْقَدَحِ الَّذِي يَلْزَمُ الْهَذَيَانُ وَاخْتِلَاطُ الْكَلَامِ عِنْدَهُ يَمْتَنِعُ عَنْهُ، فَلَمَّا امْتَنَعَ عَنْهُ وَهُوَ الْأَدْنَى فِي حَدِّ السُّكْرِ كَانَ مُمْتَنِعًا عَنْ الْأَعْلَى فِيهِ وَهُوَ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ ظُهُورُ الْأَثَرِ فِي مِشْيَتِهِ (مِمَّا يَخْتَلِفُ) فَإِنَّ السَّكْرَانَ رُبَّمَا يَتَمَايَلُ فِي مِشْيَتِهِ وَالصَّاحِيَ رُبَّمَا يَزْلَقُ أَوْ يَعْثِرُ فِي مِشْيَتِهِ فَيُرَى التَّمَايُلُ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا. (وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ) لِزِيَادَةِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ فَيَحْتَالُ لِدَرْئِهِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَالسَّكْرَانُ فِيهِ كَالصَّاحِي عُقُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا فِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، وَلَوْ ارْتَدَّ السَّكْرَانُ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ السُّكْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ) يَعْنِي فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ، فَإِذَا صَدَرَ مِنْ سَكْرَانَ مِهْذَارٍ زَادَ احْتِمَالُهُ (فَيَحْتَالُ لِدَرْئِهِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ، وَالسَّكْرَانُ فِيهِ كَالصَّاحِي عُقُوبَةً عَلَيْهِ) بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا إذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِينَ ثَمَانُونَ.
فَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ.
فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحُقُوقِ كَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ (وَلَوْ ارْتَدَّ السَّكْرَانُ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الْإِعْتَاقِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ السُّكْرِ) وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ صَنَعَ طَعَامًا فَدَعَا بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَأَكَلُوا وَسَقَاهُمْ خَمْرًا وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا، فَأَمَّهُمْ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَوْ غَيْرُهُ وَقَرَأَ سُورَةَ الْكَافِرُونَ بِطَرْحِ اللَّاءَاتِ مَعَ أَنَّ اعْتِقَادَهَا كُفْرٌ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُفْرًا مِنْ ذَلِكَ الْقَارِئِ، فَعُلِمَ أَنَّ السَّكْرَانَ لَا يَكْفُرُ بِمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ لَفْظِ الْكُفْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.(بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ):

(وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ رَجُلًا مُحْصَنًا أَوْ امْرَأَةً مُحْصَنَةً بِصَرِيحِ الزِّنَا، وَطَالَبَ الْمَقْذُوفُ بِالْحَدِّ حَدَّهُ الْحَاكِمُ ثَمَانِينَ سَوْطًا إنْ كَانَ حُرًّا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إلَى أَنْ قَالَ {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ الرَّمْيُ بِالزِّنَا بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي النَّصِّ إشَارَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ إذْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالزِّنَا، وَيُشْتَرَطُ مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّهُ مِنْ حَيْثُ دَفْعُ الْعَارِ وَإِحْصَانُ الْمَقْذُوفِ لِمَا تَلَوْنَا.
قَالَ (وَيُفَرَّقُ عَلَى أَعْضَائِهِ) لِمَا مَرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا (وَلَا يُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ) لِأَنَّ سَبَبَهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ فَلَا يُقَامُ عَلَى الشِّدَّةِ، بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا (غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ) لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ إيصَالَ الْأَلَمِ بِهِ (وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا جُلِدَ أَرْبَعِينَ سَوْطًا لِمَكَانِ الرِّقِّ.
وَالْإِحْصَانُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا عَفِيفًا عَنْ فِعْلِ الزِّنَا) أَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} أَيْ الْحَرَائِرِ، وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ لِأَنَّ الْعَارَ لَا يَلْحَقُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا، وَالْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» وَالْعِفَّةُ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَفِيفِ لَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ، وَكَذَا الْقَاذِفُ صَادِقٌ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ: الْقَذْفُ فِي اللُّغَةِ الرَّمْيُ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ نِسْبَةٌ مِنْ أَحْصَنَ إلَى الزِّنَا صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً (إذَا قَذَفَ الرَّجُلُ رَجُلًا مُحْصَنًا أَوْ امْرَأَةً مُحْصَنَةً بِصَرِيحِ الزِّنَا) الْخَالِي عَنْ الشُّبْهَةِ الَّذِي لَوْ أَقَامَ الْقَاذِفُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ الْمَقْذُوفُ لَزِمَهُ حَدُّ الزِّنَا (وَطَالَبَ الْمَقْذُوفُ بِالْحَدِّ) وَعَجَزَ الْقَاذِفُ عَنْ إثْبَاتِ مَا قَذَفَهُ بِهِ (حَدَّهُ الْحَاكِمُ ثَمَانِينَ سَوْطًا إنْ كَانَ حُرًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إلَى أَنْ قَالَ {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ) بِقَوْلِهِ {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ} (الرَّمْيُ بِالزِّنَا بِالْإِجْمَاعِ) وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي النَّصِّ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالزِّنَا.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِصَرِيحِ الزِّنَا غَيْرُ مُفِيدٍ لِتَحَقُّقِهِ بِدُونِهِ بِأَنْ قَالَ لَسْت لِأَبِيك، وَبِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تَجِبَ الْمُطَالَبَةُ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ فِيهِ غَالِبٌ، وَالْمَقْلُوبُ فِي مُقَابَلَتِهِ كَالْمُسْتَهْلَكِ، وَلَئِنْ وَجَبَتْ فَلَيْسَتْ مُطَالَبَةُ الْمَقْذُوفِ بِلَازِمَةٍ، فَإِنَّ ابْنَهُ إذَا طَالَبَهُ حُدَّ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا قَذَفَهُ بِصَرِيحِ الزِّنَا وَوَجَدَ الشَّرْطَ وَجَبَ الْحَدُّ لَا مَحَالَةَ فَتِلْكَ قَضِيَّةٌ صَادِقَةٌ، وَأَمَّا إذَا قَذَفَهُ بِنَفْيِ النَّسَبِ لَا يَجِبُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ لِإِخْرَاجِ مَا كَانَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: يَا زَانِي فَقَالَ آخَرُ صَدَقْت لَا لِإِخْرَاجِ مَا ذَكَرْتُمْ، وَحَقُّ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا لَكِنْ يَصْلُحُ اشْتِرَاطُ مُطَالَبَتِهِ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ، وَابْنُ الْمَقْذُوفِ إنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَقْذُوفِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ إلَّا إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مَيِّتًا لِيَتَحَقَّقَ قِيَامُهُ مَقَامَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَوْلُهُ (وَيُفَرَّقُ) يَعْنِي الضَّرْبَ (عَلَى أَعْضَاءِ الْقَاذِفِ عَلَى مَا مَرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا) وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ يُفْضِي إلَى التَّلَفِ (وَلَا يُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ لِأَنَّ سَبَبَهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْقَاذِفُ صَادِقًا فِي نِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا عَلَى الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ لَا تَكَادُ تَحْصُلُ (فَلَا يُقَامُ عَلَى الشِّدَّةِ بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا) حَيْثُ يُجَرَّدُ فِيهِ مِنْ ثِيَابِهِ لِأَنَّ سَبَبَهُ مُعَايَنٌ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ، وَهَاهُنَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَذْفِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ يَتَوَقَّفُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ كَذِبُهُ فِي النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا وَهُوَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْحَشْوُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يُجَرَّدُ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ ذَلِكَ) يَعْنِي الْفَرْوَ وَالْحَشْوَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْإِحْصَانُ) بَيَانُ شَرْطِهِ.
وَقَوْلُهُ (لِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا) قِيلَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحُدَّ مَنْ قَذَفَ الْمَجْنُونَ الَّذِي زَنَى فِي حَالِ جُنُونِهِ وَلَا يُحَدُّ وَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا الزِّنَا الَّذِي يُؤَثِّمُ صَاحِبَهُ وَيُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا، وَأَمَّا الْوَطْءُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُمَا، وَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا كَانَ الْقَاذِفُ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ وَلَا عَلَى الْمَقْذُوفِ كَمَنْ قَذَفَ رَجُلًا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَالْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» تَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ حَدَّ الْقَذْفِ بِقَذْفِ الْمُحْصَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ.
وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ (وَمَنْ نَفَى نَسَبَ غَيْرِهِ فَقَالَ لَسْت لِأَبِيك فَإِنَّهُ يُحَدُّ) وَهَذَا إذَا كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً، لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَذْفٌ لِأُمِّهِ لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يُنْفَى عَنْ الزَّانِي لَا عَنْ غَيْرِهِ.
الشَّرْحُ:
وَمَنْ نَفَى نَسَبَ غَيْرِهِ فَقَالَ لَسْت لِأَبِيك يُحَدُّ إنْ كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَذَفَ أُمَّهُ لِأَنَّهُ نَفَى النَّسَبَ (وَالنَّسَبُ إنَّمَا يُنْفَى عَنْ الزَّانِي لَا عَنْ غَيْرِهِ) وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ مَعْرُوفَيْنِ وَنَسَبُهُ مِنْ الْأُمِّ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وَنَفَاهُ عَنْ الْأَبِ الْمَعْرُوفِ فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ زَنَى بِأُمِّهِ وَفِي ذَلِكَ قَذْفٌ لِأُمِّهِ لَا مَحَالَةَ.
قِيلَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالَّتِي بَعْدَهَا.
وَقِيلَ يَجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ هَاهُنَا وَإِنْ كَانَ قَذَفَهُ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْفِيَ النَّسَبَ عَنْ أَبِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ زَانِيَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ تَكُونَ مَوْطُوءَةً بِشُبْهَةٍ وَلَدَتْ فِي عِدَّةِ الْوَاطِئِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَا ذَكَرْته وَجْهُ الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَوُجُوبُ الْحَدِّ فِيهَا بِالِاسْتِحْسَانِ بِالْأَثَرِ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَإِنَّمَا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «لَا حَدَّ إلَّا فِي قَذْفِ مُحْصَنَةٍ أَوْ نَفْيِ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ». (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ فِي غَضَبٍ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ لِأَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى لَهُ يُحَدُّ، وَلَوْ قَالَ فِي غَيْرِ غَضَبٍ لَا يُحَدُّ) لِأَنَّ عِنْدَ الْغَضَبِ يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ سَبًّا لَهُ، وَفِي غَيْرِهِ يُرَادُ بِهِ الْمُعَاتَبَةُ بِنَفْيِ مُشَابَهَتِهِ أَبَاهُ فِي أَسْبَابِ الْمُرُوءَةِ (وَلَوْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ يَعْنِي جَدَّهُ لَمْ يُحَدَّ) لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كَلَامِهِ، وَلَوْ نَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ لَا يُحَدُّ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يُنْسَبُ إلَيْهِ مَجَازًا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ فِي غَضَبٍ إلَخْ) ظَاهِرٌ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ أَوْ غَيْرِهَا لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ وَلَا بِابْنِ فُلَانَةَ وَهِيَ أُمُّهُ الَّتِي تُدْعَى لَهُ حَيْثُ لَا يَكُونُ قَذْفًا مَعَ أَنَّ الْقَذْفَ يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَا بِابْنِ فُلَانَةَ نَفْيٌ عَنْهَا، وَإِنَّمَا يَنْتَفِي عَنْ أُمِّهِ بِانْتِفَاءِ الْوِلَادَةِ فَكَانَ نَفْيًا لِلْوِلَادَةِ، وَنَفْيُ الْوِلَادَةِ نَفْيُ الْوَطْءِ وَنَفْيُ الْوَطْءِ نَفْيُ الزِّنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَفَى عَنْ الْوَالِدِ، وَوِلَادَةُ الْوَلَدِ ثَابِتَةٌ مِنْ أُمِّهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ أَنْتَ وَلَدُ الزِّنَا. (وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ مُحْصَنَةٌ فَطَالَبَ الِابْنُ بِحَدِّهِ حُدَّ الْقَاذِفُ) لِأَنَّهُ قَذَفَ مُحْصَنَةً بَعْدَ مَوْتِهَا (وَلَا يُطَالِبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إلَّا مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ وَهُوَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ) لِأَنَّ الْعَارَ يَلْتَحِقُ بِهِ لِمَكَانِ الْجُزْئِيَّةِ فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلًا لَهُ مَعْنًى.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِكُلِّ وَارِثٍ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يُورَثُ عِنْدَهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ، وَعِنْدَنَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ لَيْسَتْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا لِلْمَحْرُومِ عَنْ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ، وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ الْبِنْتِ كَمَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الِابْنِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ حَالَ قِيَامِ الْوَلَدِ خِلَافًا لِزُفَرَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَةَ وَأُمُّهُ مَيِّتَةٌ مُحْصَنَةٌ فَطَالَبَ الِابْنُ بِحَدِّهِ حُدَّ الْقَاذِفُ لِأَنَّهُ قَذَفَ مُحْصَنَةً بَعْدَ مَوْتِهَا) بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَهَا ثُمَّ مَاتَتْ فَإِنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ (وَلَا يُطَالِبُ بِحَدِّ الْقَذْفِ لِلْمَيِّتِ إلَّا مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِقَذْفِهِ وَهُوَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ) يَعْنِي الْأَبَ وَالْجَدَّ وَإِنْ عَلَا، وَالْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ، نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ، ثُمَّ قَالَ: كَذَا وَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي، وَنَقَلَ غَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ عَنْ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (لِأَنَّ الْعَارَ يُلْتَحَقُ بِهِ) أَيْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ (لِمَكَانِ الْجُزْئِيَّةِ فَيَكُونُ الْقَذْفُ مُتَنَاوِلًا لَهُ مَعْنًى) وَرُدَّ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْجُزْئِيَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا غَائِبًا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِحَدِّهِ إذْ ذَاكَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَابِ هُوَ الْمَقْذُوفُ لَا مَحَالَةَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ جُزْئِيَّةٌ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَإِنَّمَا يَقُومُ الشَّيْءُ مَقَامَ غَيْرِهِ إذَا وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْيَأْسُ بِمَوْتِهِ فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ الْعَارَ يُلْتَحَقُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الِابْنِ) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ (خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ لَا يَثْبُتُ لِوَلَدِ الْبِنْتِ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ.
إلَى أَبِيهِ لَا إلَى أُمِّهِ فَلَا يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِزِنَا أَبِي أُمِّهِ.
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: النَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَيَصِيرُ الْوَلَدُ بِهِ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ (وَيَثْبُتُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ حَالَ قِيَامِ الْوَلَدِ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ لِوَلَدِ الْوَلَدِ حَالَ قِيَامِ الْوَلَدِ أَنْ يُخَاصِمَ، لِأَنَّ الشَّيْنَ الَّذِي يَلْحَقُ الْوَلَدَ فَوْقَ الَّذِي يَلْحَقُ وَلَدَ الْوَلَدِ، فَصَارَ وَلَدُ الْوَلَدِ مَعَ قِيَامِ الْوَلَدِ كَالْوَلَدِ مَعَ بَقَاءِ الْمَقْذُوفِ، وَاعْتُبِرَ هَذَا بِطَلَبِ الْكَفَاءَةِ فَإِنَّهُ لَا خُصُومَةَ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ الْأَقْرَبِ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: حَقُّ الْخُصُومَةِ بِاعْتِبَارِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الشَّيْنِ بِنِسْبَتِهِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ وَلَدِ الْوَلَدِ كَوُجُودِهِ فِي حَقِّ الْوَالِدِ، فَأَيُّهُمَا خَاصَمَ يُقَامُ الْحَدُّ لِخُصُومَتِهِ، بِخِلَافِ الْمَقْذُوفِ فَإِنَّ حَقَّ الْخُصُومَةِ.
لَهُ.
بِاعْتِبَارِ تَنَاوُلِ الْقَاذِفِ مِنْ عِرْضِهِ مَقْصُودًا، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ وَلَدِهِ، وَبِخِلَافِ الْكَفَاءَةِ فَإِنَّ طَلَبَهَا إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْأَقْرَبِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْإِنْكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ» وَفِي الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الْعُصُوبَةِ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ عَلَى الْأَبْعَدِ. (وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا جَازَ لِابْنِهِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ) خِلَافًا لِزُفَرَ.
هُوَ يَقُولُ: الْقَذْفُ يَتَنَاوَلُهُ مَعْنًى لِرُجُوعِ الْعَارِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ عِنْدَنَا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى.
وَلَنَا أَنَّهُ عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ فَيَأْخُذُهُ بِالْحَدِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي الَّذِي يُنْسَبُ إلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَالِ ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ إلَى وَلَدِهِ، وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ، بِخِلَافِ إذَا تَنَاوَلَ الْقَذْفُ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّعْيِيرُ عَلَى الْكَمَالِ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فِي الْمَنْسُوبِ إلَى الزِّنَا (وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ مَوْلَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ، وَلَا لِلِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ) لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ عَبْدِهِ، وَكَذَا الْأَبُ بِسَبَبِ ابْنِهِ، وَلِهَذَا لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَانْعِدَامِ الْمَانِعِ.
الشَّرْحُ:
وَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا وَهُوَ مَيِّتٌ (جَازَ لِابْنِهِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ، خِلَافًا لِزُفَرَ.
هُوَ يَقُولُ: الْقَذْفُ تَنَاوَلَهُ مَعْنًى لِرُجُوعِ الْعَارِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ عِنْدَنَا) لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ (فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى) فِي رُجُوعِ الْعَارِ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِأَنْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ ابْتِدَاءً لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ إحْصَانِ الْمَقْذُوفِ، فَكَذَا إذَا تَنَاوَلَهُ مَعْنًى.
قِيلَ قَوْلُهُ وَلَيْسَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ غَيْرُ مُفِيدٍ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ طَرِيقُهُ الْإِرْثَ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ، لِأَنَّ الْمَانِعَ عَنْ الْإِرْثِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْكُفْرُ أَوْ الرِّقُّ.
وَقِيلَ تَحْرِيرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْحَدَّ إمَّا أَنْ يَجِبَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى الْقَاذِفِ لِقَذْفِهِ أُمَّ الْمَقْذُوفِ أَوْ لِقَذْفِ نَفْسِ هَذَا الِابْنِ الْكَافِرِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أُمِّهِ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُورَثُ وَلَا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ وَهُوَ كَمَا تَرَى (وَلَنَا أَنَّهُ عَيَّرَهُ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ) وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ وَكُلُّ مَنْ عَيَّرَ بِقَذْفِ مُحْصَنٍ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ بِحَدِّهِ لِأَنَّهُ تَعْيِيرٌ عَلَى الْكَمَالِ فَيَقْتَضِي زَاجِرًا.
وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ (وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي الَّذِي يُنْسَبُ إلَى الزِّنَا شَرْطٌ لِيَقَعَ تَعْيِيرًا عَلَى الْكَمَالِ ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا، التَّعْيِيرُ الْكَامِلُ إلَى وَلَدِهِ) فَجَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَدِّ.
فَإِنْ قِيلَ: جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُ مَوْجُودًا فَلَا يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُقْتَضَى.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ) أَيْ اسْتِحْقَاقَ أَهْلِيَّةِ الْخُصُومَةِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِاعْتِبَارِ لُحُوقِ الشَّيْنِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْوَلَدِ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ لِأَنَّ النِّسْبَةَ لَا تَنْقَطِعُ بِالرِّقِّ وَالْكُفْرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَنَاوَلَ الْقَذْفَ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ التَّعْيِيرُ عَلَى الْكَمَالِ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فِي الْمَنْسُوبِ إلَى الزِّنَا.
قَالَ (وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ مَوْلَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ وَلَا لِلِابْنِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ) أَوْ جَدَّهُ وَإِنْ عَلَا (بِقَذْفِ أُمِّهِ) وَجَدَّتِهِ وَإِنْ عَلَتْ، وَلَا أُمَّهُ وَلَا جَدَّتَهُ وَإِنْ عَلَتْ بِقَذْفِ نَفْسِهِ (لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ عَبْدِهِ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ» فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَسَبَبُهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ حَدُّ الْقَذْفِ وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَسَبَبُهُ وَهُوَ الْقَذْفُ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِيمَا نَسَبَهُ إلَيْهِ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ) وَاضِحٌ. (وَمَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ فَمَاتَ الْمَقْذُوفُ بَطَلَ الْحَدُّ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَبْطُلُ (وَلَوْ مَاتَ بَعْدَمَا أُقِيمَ بَعْضُ الْحَدِّ بَطَلَ الْبَاقِي) عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُورَثُ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يُورَثُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الشَّرْعِ وَحَقَّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَقُّ الْعَبْدِ، ثُمَّ إنَّهُ شُرِعَ زَاجِرًا وَمِنْهُ سُمِّيَ حَدًّا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الزَّاجِرِ إخْلَاءُ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ، وَهَذَا آيَةُ حَقِّ الشَّرْعِ وَبِكُلِّ ذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَحْكَامُ.
وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْجِهَتَانِ، فَالشَّافِعِيُّ مَالَ إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ تَقْدِيمًا لِحَقِّ الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ وَغِنَى الشَّرْعِ، وَنَحْنُ صِرْنَا إلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الشَّرْعِ لِأَنَّ مَا لِلْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ يَتَوَلَّاهُ مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ حَقُّ الْعَبْدِ مَرْعِيًّا بِهِ، وَلَا كَذَلِكَ عَكْسُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْعَبْدِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ الشَّرْعِ إلَّا نِيَابَةً عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمَشْهُورُ الَّذِي يَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ الْفُرُوعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا مِنْهَا الْإِرْثُ، إذْ الْإِرْثُ يَجْرِي فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا فِي حُقُوقِ الشَّرْعِ.
وَمِنْهَا الْعَفْوُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَفْوُ الْمَقْذُوفِ عِنْدَنَا وَيَصِحُّ عِنْدَهُ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ وَعِنْدَهُ لَا يَجْرِي.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعَفْوِ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ؛ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْغَالِبَ حَقُّ الْعَبْدِ وَخَرَّجَ الْأَحْكَامَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَبِكُلِّ ذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَحْكَامُ) أَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ أَنَّهُ يُسْتَوْفَى بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ، وَكَذَلِكَ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِخُصُومَةٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَوْفَى بِخُصُومَةٍ مَا هُوَ حَقُّهُ، بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَإِنَّ خُصُومَتَهُ هُنَاكَ لِلْمَالِ دُونَ الْحَدِّ، حَتَّى لَوْ بَطَلَ الْحَدُّ لِمَعْنَى الشُّبْهَةِ لَا يَبْطُلُ الْمَالُ، وَيُقَامُ هَذَا الْحَدُّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْمُسْتَأْمَنُ بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَيُقَدَّمُ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَى حَدِّ الزِّنَا وَحَدِّ السَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، حَتَّى أَنَّ رَجُلًا لَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَالْقَذْفُ وَفَقْءُ عَيْنِ رَجُلٍ يُبْدَأُ بِالْقِصَاصِ فِي الْعَيْنِ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ بِالتَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ يَخَافُ الْفَوْتَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، إذَا بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَشْهَدُ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إلَى الْإِمَامِ، وَالْإِمَامُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ نَائِبًا فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَاسْتِيفَاؤُهُ إلَيْهِ، وَلَا يَحْلِفُ فِيهِ الْقَاذِفُ وَلَا يَنْقَلِبُ مَالًا عِنْدَ السُّقُوطِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ مَا لِلْعَبْدِ مِنْ الْحَقِّ إلَخْ) قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ حَقُّ الْعَبْدِ غَالِبًا إذَا اجْتَمَعَ الْحَقَّانِ أَصْلًا.
وَهُوَ خِلَافُ الْأُصُولِ وَالْمَنْقُولِ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ مِمَّا اجْتَمَعَا فِيهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ غَالِبٌ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يُنَافِي الْحَقَّيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْمَقْذُوفِ وَشَيْءٌ مِنْ الْحَقَّيْنِ لَا يَسْقُطُ بِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نَقُولُ إنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ خُصُومَةُ الْمَقْذُوفِ وَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْخُصُومَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ) يُرِيدُ بِهِ صَدْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا الْيُسْرِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي مَبْسُوطِهِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالْمَعْقُولُ يَشْهَدُ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ مُنْتَفِعٌ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ.
وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ كَالْقِصَاصِ إلَّا أَنَّهُ فَوَّضَ إقَامَتَهُ إلَى الْإِمَامِ لِأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي كُلُّ أَحَدٍ إلَى إقَامَةِ الْجَلْدِ.
وَقَوْلُهُ (وَخَرَّجَ الْأَحْكَامَ) أَيْ أَجَابَ عَنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ بِجَوَابٍ يُوَافِقُ الْمَذْهَبَ فَقَالَ فِي التَّفْوِيضِ إلَى الْإِمَامِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَهْتَدِي إلَى إقَامَةِ الْجَلْدِ.
وَقَالَ فِي عَدَمِ الْإِرْثِ إنَّ عَدَمَهُ لَا يَسْتَوْجِبُ كَوْنَهُ حَقَّ اللَّهِ كَالشُّفْعَةِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّ الْإِرْثَ يَجْرِي فِي الْأَعْيَانِ.
وَأَجَابَ عَنْ كَوْنِ الْقِصَاصِ يُورَثُ بِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مِلْكِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إتْلَافَ الْعَيْنِ وَمِلْكُ الْإِتْلَافِ مِلْكُ الْعَيْنِ عِنْدَ النَّاسِ.
فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَ الطَّعَامِ إلَّا لِلْإِتْلَافِ وَهُوَ الْأَكْلُ، فَصَارَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ كَالْمَمْلُوكِ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ وَهُوَ بَاقٍ فَيَمْلِكُهُ الْوَارِثُ فِي حَقِّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْأَوَّلُ) وَهُوَ أَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ (أَظْهَرُ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلِيلِ غَلَبَةِ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، وَلِأَنَّ عَامَّةَ أَصْحَابِنَا عَلَيْهِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَظْهَرَ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ. قَالَ (وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ) لِأَنَّ لِلْمَقْذُوفِ فِيهِ حَقًّا فَيُكَذِّبُهُ فِي الرُّجُوعِ، بِخِلَافِ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ) مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَشْهَدُ بِكَوْنِهِ حَقَّ الْعَبْدِ. (وَمَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ لَمْ يُحَدَّ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْأَخْلَاقِ أَوْ عَدَمِ الْفَصَاحَةِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَسْت بِعَرَبِيٍّ لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ) ظَاهِرٌ.
وَالنِّبْطُ جِيلٌ مِنْ النَّاسِ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ.
وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِقُرَشِيٍّ يَا نَبَطِيُّ فَقَالَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ إلَخْ. (وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْجُودِ وَالسَّمَاحَةِ وَالصَّفَاءِ، لِأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ لُقِّبَ بِهِ لِصَفَائِهِ وَسَخَائِهِ (وَإِنْ نَسَبَهُ إلَى عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ إلَى زَوْجِ أُمِّهِ فَلَيْسَ بِقَذْفٍ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يُسَمَّى أَبًا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {نَعْبُدُ إلَهَك وَإِلَهَ آبَائِك إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمًّا لَهُ.
وَالثَّانِي لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْخَالُ أَبٌ».
وَالثَّالِثُ لِلتَّرْبِيَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ لُقِّبَ بِهِ) أَيْ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَمَاءُ السَّمَاءِ هُوَ لَقَبُ أَبِي الْمُزَيْقِيَاءِ، وَالْمُزَيْقِيَاءُ هُوَ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، لُقِّبَ بِالْمُزَيْقِيَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ يُمَزِّقُ فِي كُلِّ يَوْمٍ حُلَّتَيْنِ يَلْبَسُهُمَا وَيَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِيهِمَا وَيَأْنَفَ أَنْ يَلْبَسَهُمَا غَيْرُهُ، وَأَبُوهُ عَامِرُ بْنُ حَارِثَةَ الْأَزْدِيُّ كَانَ يُلَقَّبُ بِمَاءِ السَّمَاءِ لِأَنَّهُ وَقْتَ الْقَحْطِ كَانَ يُقِيمُ مَالَهُ مَقَامَ الْقَطْرِ عَطَاءً وَجُودًا وَقَوْلُهُ (وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمًّا لَهُ) أَيْ لِيَعْقُوبَ، فَإِنَّ إسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ابْنَا إبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ بْنَ إِسْحَاقَ فَكَانَ إسْمَاعِيلُ عَمًّا لَهُ فَأَدْخَلُوهُ تَحْتَ الْآبَاءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَمَّ يُسَمَّى أَبًا. (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ زَنَأْتَ فِي الْجَبَلِ وَقَالَ عَنَيْتُ صُعُودَ الْجَبَلِ حُدَّ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُحَدُّ) لِأَنَّ الْمَهْمُوزَ مِنْهُ لِلصُّعُودِ حَقِيقَةٌ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ: وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأَ فِي الْجَبَلِ وَذِكْرُ الْجَبَلِ يُقَرِّرُهُ مُرَادًا.
وَلَهُمَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَاحِشَةِ مَهْمُوزًا أَيْضًا لِأَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ كَمَا يُلَيِّنُ الْمَهْمُوزَ، وَحَالَةُ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ تُعَيِّنُ الْفَاحِشَةَ مُرَادًا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قَالَ يَا زَانِي أَوْ قَالَ زَنَأْت، وَذِكْرُ الْجَبَلِ إنَّمَا يُعَيِّنُ الصُّعُودَ مُرَادًا إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِكَلِمَةِ عَلَى إذْ هُوَ لِلْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ زَنَأْت عَلَى الْجَبَلِ لَا يُحَدُّ لِمَا قُلْنَا، وَقِيلَ يُحَدُّ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ زَنَأَتْ فِي الْجَبَلِ) بِالْهَمْزِ (وَقَالَ عَنَيْت صُعُودَ الْجَبَلِ حُدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْمَهْمُوزَ مِنْهُ لِلصُّعُودِ حَقِيقَةً) وَاسْتَشْهَدَ الْمُصَنِّفُ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأَ فِي الْجَبَلِ قَالَ (وَذِكْرُ الْجَبَلِ يُقَرِّرُهُ) أَيْ يُقَرِّرُ الصُّعُودَ (مُرَادًا) تَأْكِيدًا لِكَوْنِ الْمَهْمُوزِ لِلصُّعُودِ حَقِيقَةً وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ إلَخْ) وَاضِحٌ.
وَقِيلَ كَلَامُهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمَهْمُوزَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفَاحِشَةِ وَالصُّعُودِ، وَحَالَةِ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ تُعَيِّنُ أَحَدَ الْمُحْتَمَلَيْنِ عِنْدَهُمَا.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الصُّعُودِ مَجَازٌ فِي الْفَاحِشَةِ وَحِينَئِذٍ يَتَرَجَّحُ قَوْلُهُ لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا دَارَ بَيْنَ كَوْنِهِ مُشْتَرَكًا وَحَقِيقَةً وَمَجَازًا فَالثَّانِي يَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَوَّلِ لِعَدَمِ إخْلَالِهِ بِالْفَهْمِ وَلِأَنَّ الْبَابَ بَابُ الْحَدِّ فَيَحْتَالُ لِلدَّرْءِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِكَلِمَةِ عَلَى.
وَقَوْلُهُ (لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ وَحَالَةُ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ تُعَيِّنُ الْفَاحِشَةَ مُرَادًا (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ يَا زَانِي فَقَالَ لَا بَلْ أَنْتَ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ) لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا بَلْ أَنْتَ زَانٍ، إذْ هِيَ كَلِمَةُ عَطْفٍ يُسْتَدْرَكُ بِهَا الْغَلَطُ فَيَصِيرُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَوَّلِ مَذْكُورًا فِي الثَّانِي.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ يَا زَانِي) ظَاهِرٌ.
وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِهِ فَيَصِيرُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَوَّلِ مَذْكُورًا فِي الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ هُوَ قَوْلُهُ يَا زَانِي وَمَا ثَمَّةَ خَبَرٌ أَصْلًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ الْجُزْءُ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ لِأَنَّ الْخَبَرَ جُزْءٌ أَخَصُّ فَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ لِلْأَعَمِّ (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ لَا بَلْ أَنْتَ حُدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَا لِعَانَ) لِأَنَّهُمَا قَاذِفَانِ وَقَذْفُهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَقَذْفُهَا الْحَدَّ، وَفِي الْبُدَاءَةِ بِالْحَدِّ إبْطَالُ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ وَلَا إبْطَالَ فِي عَكْسِهِ أَصْلًا فَيُحْتَالُ لِلدَّرْءِ، إذْ اللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحَدِّ (وَلَوْ قَالَتْ زَنَيْت بِك فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ) مَعْنَاهُ قَالَتْ بَعْدَمَا قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ الزِّنَا قَبْلَ النِّكَاحِ فَيَجِبُ الْحَدُّ دُونَ اللِّعَانِ لِتَصْدِيقِهَا إيَّاهُ وَانْعِدَامِهِ مِنْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ زِنَايَ مَا كَانَ مَعَك بَعْدَ النِّكَاحِ لِأَنِّي مَا مَكَّنْت أَحَدًا غَيْرَك.
وَهُوَ الْمُرَادُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَجِبُ اللِّعَانُ دُونَ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لِوُجُودِ الْقَذْفِ مِنْهُ وَعَدَمِهِ مِنْهَا فَجَاءَ مَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
(وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ لَا بَلْ أَنْتَ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلِّعَانِ) دَلِيلُهُ أَنَّ أَهْلِيَّةَ اللِّعَانِ تَعْتَمِدُ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ وَإِقَامَةُ حَدِّ الْقَذْفِ تُبْطِلُ أَهْلِيَّةَ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا إبْطَالَ فِي عَكْسِهِ أَصْلًا) يَعْنِي لَوْ قَدَّمْنَا اللِّعَانَ لَا يَبْطُلُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ إحْصَانَ الرَّجُلِ لَا يَبْطُلُ بِجَرَيَانِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ اللِّعَانَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا عَنْ فِعْلِ الزِّنَا فَيَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الْمَرْأَةِ احْتِيَالًا لِدَرْءِ اللِّعَانِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْحَدِّ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَتْ زَنَيْت بِك) يَعْنِي فِي جَوَابِ قَوْلِهِ لَهَا يَا زَانِيَةُ.
وَقَوْلُهُ (وَانْعِدَامُهُ) أَيْ انْعِدَامُ التَّصْدِيقِ مِنْ الزَّوْجِ.
وَقَوْلُهُ (وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ زِنَايَ مَا كَانَ مَعَك بَعْدَ النِّكَاحِ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْوَطْءَ بَعْدَ النِّكَاحِ لَا يُسَمَّى زِنًا فَلَا يَصْلُحُ مَحْمَلًا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الزِّنَا يُطْلَقُ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى «بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ» حَمَلَهَا عَلَى ذَلِكَ لِتَرْكِيبِ فَرْطِ غَيْظِهَا بِإِطْلَاقِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ لَا تَكُونُ مُصَدِّقَةً لِزَوْجِهَا فَيَجِبُ اللِّعَانُ عَلَى الزَّوْجِ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَفِي حَالٍ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا وَيَجِبُ اللِّعَانُ عَلَى الزَّوْجِ، وَفِي حَالٍ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا وَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ، فَوَقَعَ الشَّكُّ وَجَاءَ مَا قُلْنَا أَنَّهُ لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ. (وَمَنْ أَقَرَّ بِوَلَدٍ ثُمَّ نَفَاهُ فَإِنَّهُ يُلَاعَنُ) لِأَنَّ النَّسَبَ لَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ وَبِالنَّفْيِ بَعْدَهُ صَارَ قَاذِفًا فَيُلَاعَنُ (وَإِنْ نَفَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ حُدَّ) لِأَنَّهُ لَمَّا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَطَلَ اللِّعَانُ لِأَنَّهُ حَدٌّ ضَرُورِيٌّ صُيِّرَ إلَيْهِ ضَرُورَةَ التَّكَاذُبِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ.
فَإِذَا بَطَلَ التَّكَاذُبُ يُصَارُ إلَى الْأَصْلِ، وَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي اللِّعَانِ (وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ) فِي الْوَجْهَيْنِ لِإِقْرَارِهِ بِهِ سَابِقًا أَوْ لَاحِقًا، وَاللِّعَانُ يَصِحُّ بِدُونِ قَطْعِ النَّسَبِ كَمَا يَصِحُّ بِدُونِ الْوَلَدِ (وَإِنْ قَالَ لَيْسَ بِابْنِي وَلَا بِابْنِك فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ) لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الْوِلَادَةَ وَبِهِ لَا يَصِيرُ قَاذِفًا.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ اللِّعَانَ (حَدٌّ ضَرُورِيٌّ صَيَّرَ إلَيْهِ ضَرُورَةُ التَّكَاذُبِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَةَ (وَإِذَا بَطَلَ التَّكَاذُبُ) بِإِكْذَابِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ (يُصَارُ إلَى الْأَصْلِ وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ فِي الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّ ثُمَّ نَفَى وَعَكْسِهِ.
قَوْلُهُ (لِإِقْرَارِهِ بِهِ سَابِقًا أَوْ لَاحِقًا) أَيْ لِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْوَلَدِ سَابِقًا عَلَى النَّفْيِ فِيمَا إذَا أَقَرَّ ثُمَّ نَفَى أَوْ لَاحِقًا فِيمَا إذَا نَفَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَاللِّعَانُ يَصِحُّ بِدُونِ قَطْعِ النَّسَبِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ سَبَبَ اللِّعَانِ هُنَا هُوَ نَفْيُ الْوَلَدِ فَلَمَّا لَمْ يَنْتِفْ الْوَلَدُ وَجَبَ أَنْ لَا يَجْرِيَ بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْمُتَضَمِّنِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْمُتَضَمَّنِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ قَطْعَ النَّسَبِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اللِّعَانِ فَاعْتُبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَيْ مِنْ نِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا وَمَنْ نَفَى الْوَلَدَ مُنْفَصِلًا عَنْ الْآخَرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى الزِّنَا مِنْ غَيْرِ نَفْيِ الْوَلَدِ بِأَنْ قَالَ يَا زَانِيَةُ وَفِيهِ اللِّعَانُ، فَكَذَا هَاهُنَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا تَطَاوَلَتْ مُدَّةُ وِلَادَةِ مَنْكُوحَتِهِ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ثُمَّ قَالَ لَيْسَ بِابْنِي فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ مَعَ أَنَّ سَبَبَ اللِّعَانِ نَفْيُ الْوَلَدِ، وَلَمْ يَنْتِفْ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ زَانِيَةٌ.
قَوْلُهُ (وَإِنْ قَالَ لَيْسَ بِابْنِي وَلَا بِابْنِك) ظَاهِرٌ. (وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَةً وَمَعَهَا أَوْلَادٌ لَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ أَبٌ أَوْ قَذَفَ الْمُلَاعَنَةَ بِوَلَدٍ وَالْوَلَدُ حَيٌّ أَوْ قَذَفَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِقِيَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا مِنْهَا وَهِيَ وِلَادَةُ وَلَدٍ لَا أَبَ لَهُ فَفَاتَتْ الْعِفَّةُ نَظَرًا إلَيْهَا وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ (وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَاعَنَتْ بِغَيْرِ وَلَدٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِانْعِدَامِ أَمَارَةِ الزِّنَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (أَوْ قَذَفَ الْمُلَاعَنَةَ بِوَلَدٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ كَذَا نَقَلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بِخَطِّ شَيْخِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَمَعْنَاهُ الَّتِي لَاعَنَتْ بِوَلَدٍ كَذَا فِي الْكَافِي.
وَقَوْلُهُ (بِوَلَدٍ) يَتَّصِلُ بِالْمُلَاعَنَةِ.
وَقَوْلُهُ (فَفَاتَتْ الْعِفَّةُ نَظَرَ إلَيْهَا) أَيْ إلَى إمَارَةِ الزِّنَا (وَهُوَ) أَيْ الْعِفَّةُ وَذَكَرَهُ نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ شَرْطٌ وَمَعْنَاهُ الْعِفَّةُ شَرْطُ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ وَهِيَ فَائِتَةٌ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَاعَنَتْ بِغَيْرِ وَلَدٍ) ظَاهِرٌ.
فَإِنْ قِيلَ: اللِّعَانُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا فَقَدْ وَجَدَ أَمَارَةَ الزِّنَا مِنْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ نَظَرًا إلَى هَذَا.
قُلْنَا: بَلَى لَكِنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ فَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُحْصَنَةً فَتَعَارَضَ الْوَجْهَانِ فَتَسَاقَطَا فَبَقِيَ الْقَذْفُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ فَوَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَوَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي فِي جَوَابِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ.
قُلْنَا: نَعَمْ إنَّ اللِّعَانَ فِي جَانِبِهَا قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّوْجِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ، فَكَانَتْ هِيَ مُحْصَنَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ الزَّوْجِ فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا. فَقَالَ (وَمَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ) لِفَوَاتِ الْعِفَّةِ وَهِيَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ، وَلِأَنَّ الْقَاذِفَ صَادِقٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا لِعَيْنِهِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا هُوَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ لِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِغَيْرِهِ يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا فَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ وَكَذَا الْوَطْءُ فِي الْمِلْكِ، وَالْحُرْمَةُ مُؤَبَّدَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُؤَقَّتَةً فَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَشْتَرِطُ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ لِتَكُونَ ثَابِتَةً مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ (وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ (وَكَذَا إذَا قَذَفَ امْرَأَةً زَنَتْ فِي نَصْرَانِيَّتِهَا) لِتَحَقُّقِ الزِّنَا مِنْهَا شَرْعًا لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ) اعْلَمْ أَنَّ الْوَطْءَ الْحَرَامَ بِالْقِسْمَةِ الْأَوَّلِيَّةِ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَرَامٌ لِعَيْنِهِ، وَالْآخَرُ لِغَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ مَنْشَأُ حُرْمَتِهِ شَيْئَانِ: حُصُولُهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَوَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَحُصُولُهُ فِي امْرَأَةٍ هِيَ حَرَامٌ عَلَى الْوَاطِئِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً كَوَطْءِ أَمَتِهِ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي كَوَطْءِ أَمَتِهِ الْمَجُوسِيَّةِ وَوَطْءِ أَمَتَيْهِ الْأُخْتَيْنِ، وَالْقَاذِفُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ بِوَجْهَيْهِ لَا يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ لِفَوَاتِ الْعِفَّةِ وَهُوَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ، وَلِأَنَّ الْقَاذِفَ صَادِقٌ لِأَنَّ الزِّنَا هُوَ الْوَطْءُ الْحَرَامُ لِعَيْنِهِ (وَأَبُو حَنِيفَةَ شَرَطَ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ) كَمَوْطُوءَةٍ لِلْأَبِ بَعْدَ مِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ إذَا اشْتَرَاهَا ابْنُهُ فَوَطِئَهَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ أَوْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ كَحُرْمَةِ وَطْءِ الْمَنْكُوحَةِ بِلَا شُهُودٍ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِالشُّهُودِ» وَهُوَ مَشْهُورٌ.
وَفِي النَّوْعِ الثَّانِي يُحَدُّ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِيهِ بِعَارِضٍ عَلَى وَجْهِ الزَّوَالِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجُوسِيَّةَ إذَا أَسْلَمَتْ أَوْ أَخْرَجَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ حَلَّ لَهُ الْوَطْءُ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَبَقِيَّةُ كَلَامِهِ ظَاهِرٌ. (وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا أَتَى أَمَتَهُ وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ أَوْ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ مُكَاتَبَةً لَهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَهِيَ مُؤَقَّتَةٌ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ وَطْءَ الْمُكَاتَبَةِ يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ زَائِلٌ فِي حَقِّ الْوَطْءِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ بِالْوَطْءِ، وَنَحْنُ نَقُولُ مِلْكُ الذَّاتِ بَاقٍ وَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ إذْ هِيَ مُؤَقَّتَةٌ. (وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا يُحَدُّ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُؤَبَّدَةٌ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ (وَلَوْ قَذَفَ مُكَاتَبًا مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً لَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ لِمَكَانِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: بِوَطْئِهَا لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ الْمُبِيحُ لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ كَوَطْءِ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ أَوْ الْمَجُوسِيَّةِ أَوْ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ الْمُحَرَّمَةُ أَوْ أَمَتُهُ الَّتِي زَوَّجَهَا وَهِيَ فِي عِدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ قَائِمٌ بِبَقَاءِ سَبَبِهِ.
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ تَنَافِيًا، فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا يَنْتَفِي الْآخَرُ، وَالْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ثَابِتَةٌ فَيَنْتَفِي الْحِلُّ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ مَالِكَ الْحِلِّ قَائِمٌ بِبَقَاءِ سَبَبِهِ)، قُلْنَا: السَّبَبُ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ إلَّا فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلْحِلِّ فِي حَقِّهِ لَا يَثْبُتُ مِلْكُ الْحِلِّ فَكَانَ فِعْلُهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا وَقَوْلُهُ (لِمَكَانِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ) يَعْنِي فِي أَنَّهُ مَاتَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا عَلَى مَا يَجِيءُ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَلَوْ قَذَفَ مَجُوسِيًّا تَزَوَّجَ بِأُمِّهِ ثُمَّ أَسْلَمَ يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَزَوُّجَ الْمَجُوسِيِّ بِالْمَحَارِمِ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا.
وَقَدْ مَرَّ فِي النِّكَاحِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ مَرَّ فِي النِّكَاحِ) أَيْ فِي بَابِ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ. (وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا حُدَّ) لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَقَدْ الْتَزَمَ إيفَاءَ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلِأَنَّهُ طَمِعَ فِي أَنْ لَا يُؤْذِيَ فَيَكُونَ مُلْتَزَمًا أَنْ لَا يُؤْذِيَ وَمُوجِبُ أَذَاهُ الْحَدُّ (وَإِذَا حُدَّ الْمُسْلِمُ فِي قَذْفٍ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقْبَلُ إذَا تَابَ وَهِيَ تُعْرَفُ فِي الشَّهَادَاتِ (وَإِذَا حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ) لِأَنَّ لَهُ الشَّهَادَةَ عَلَى جِنْسِهِ فَتُرَدُّ تَتِمَّةً لَحَدِّهِ (فَإِنْ أَسْلَمَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ اسْتَفَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الرَّدِّ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ ثُمَّ أُعْتِقَ حَيْثُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهُ أَصْلًا فِي حَالِ الرِّقِّ فَكَانَ رَدُّ شَهَادَتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ.
(وَإِنْ ضُرِبَ سَوْطًا فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ ضُرِبَ مَا بَقِيَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ) لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَمِّمٌ لِلْحَدِّ فَيَكُونُ صِفَةً لَهُ وَالْمُقَامُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَعْضُ الْحَدِّ فَلَا يَكُونُ رَدُّ الشَّهَادَةِ صِفَةً لَهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إذْ الْأَقَلُّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَقَذَفَ مُسْلِمًا حُدَّ) جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ حَدِّ الزِّنَا.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ اسْتَفَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الرَّدِّ) رُدَّ بِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَفَادَ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَدْ كَانَتْ الْأَهْلِيَّةُ مَوْجُودَةً وَقَدْ صَارَتْ مَجْرُوحَةً بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ اسْتَفَادَ بِالْإِسْلَامِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ تَبَعًا لِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ غَيْرُ مَا كَانَتْ حِينَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَإِنَّ تِلْكَ كَانَتْ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهَذِهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَشْرَافِ تَقْتَضِي أَهْلِيَّتَهَا عَلَى الْأَخَسِّ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: سَلَّمْنَا وُجُودَ الْمُقْتَضِي لَكِنْ الْمَانِعُ وَهُوَ الرَّدُّ أَوَّلًا مَوْجُودٌ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْعَبْدِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْعَبْدُ إذَا قَذَفَ فَضُرِبَ الْحَدَّ ثُمَّ أُعْتِقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَكَيْفَ قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ؟ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمَعْقُولَ هُنَا انْعِكَاسُ حُكْمِهِمَا.
لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْكَافِرِ شَهَادَةٌ فِي جِنْسِهِ يَجِبُ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ بِحَدِّ الْقَذْفِ تَتْمِيمًا لِحَدِّ الْقَذْفِ ثُمَّ يَدُومُ ذَلِكَ الرَّدُّ إلَى مَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ شَهَادَةٌ فِي شَيْءٍ أَصْلًا لَمْ يَنْعَقِدْ الْحَدُّ حَالَ وُجُودِهِ مُوجِبًا لِرَدِّ الشَّهَادَةِ فَكَيْفَ يَنْقَلِبُ مُوجِبًا لِلرَّدِّ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي كَانَتْ فِي جِنْسِهِ مَرْدُودَةٌ بِحَدِّ الْقَذْفِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، وَالشَّهَادَةُ الْمَقْبُولَةُ هِيَ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ اكْتَسَبَهَا بِالْإِسْلَامِ فَلَا تُرَدُّ، وَلَمْ نَقُلْ فِي الْعَبْدِ بِأَنَّ غَيْرَ الْمُوجِبِ انْقَلَبَ مُوجِبًا، وَإِنَّمَا تَوَقَّفْنَا فِي إيجَابِهِ إلَى حِينِ إمْكَانِ الْمُوجِبِ وَهُوَ الرَّدُّ.
قَوْلُهُ (وَإِنْ ضُرِبَ سَوْطًا فِي قَذْفٍ) ظَاهِرٌ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمَقَامَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إنْ كَانَ بَعْضَ الْحَدِّ فَالْمَقَامُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَذَلِكَ، فَكَمَا لَا يَكُونُ رَدُّ الشَّهَادَةِ صِفَةً لِمَا أُقِيمَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَا أُقِيمَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، بَلْ جَعْلُهُ صِفَةً لِمَا أُقِيمَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْلَى لِمَا أَنَّ الْعِلَّةَ إذَا كَانَتْ ذَاتَ وَصْفَيْنِ فَالِاعْتِبَارُ لِلْوَصْفِ الْأَخِيرِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَمْ نَجْعَلْ الرَّدَّ صِفَةً لَا لِلْمَقَامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَلَا لِلْمَقَامِ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الرَّدَّ صِفَةٌ لِلْحَدِّ وَالْحَدُّ ثَمَانُونَ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ تَتَرَتَّبْ التَّتِمَّةُ.
وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ النَّصُّ.
وَرَدَ بِالْأَمْرِ بِالْحَدِّ وَالنَّهْيِ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَكُلُّ.
وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُرَتَّبٍ عَلَى الْآخَرِ نَصًّا فَيَتَعَلَّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يُمْكِنُ، وَالْمُمْكِنُ زَمَانَ النَّهْيِ رَدُّ شَهَادَةٍ قَائِمَةٍ لِلْحَالِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَالْأَقَلُّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ) فَكَأَنَّ الْكُلَّ وُجِدَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا (وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْأَمْرِ بِالْحَدِّ وَالنَّهْيِ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ إلَخْ. قَالَ (وَمَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَحُدَّ فَهُوَ لِذَلِكَ كُلِّهِ) أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى الِانْزِجَارُ، وَاحْتِمَالُ حُصُولِهِ بِالْأَوَّلِ قَائِمٌ فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ فِي الثَّانِي، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى وَقَذَفَ وَسَرَقَ وَشَرِبَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ غَيْرُ الْمَقْصُودِ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَتَدَاخَلُ.
وَأَمَّا الْقَذْفُ فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ عِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ اخْتَلَفَ الْمَقْذُوفُ أَوْ الْمَقْذُوفُ بِهِ وَهُوَ الزِّنَا لَا يَتَدَاخَلُ، لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَذَفَ أَوْ زَنَى إلَخْ) ظَاهِرٌ.
وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ قَالَ يَا أَيُّهَا الزُّنَاةُ، أَوْ كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَنْ قَالَ يَا زَيْدُ أَنْتَ زَانٍ وَيَا عَمْرُو أَنْتَ زَانٍ وَيَا خَالِدُ أَنْتَ زَانٍ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ قَذَفَهُمْ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ يُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ حَقُّ الْمَقْذُوفِ عِنْدَهُ فَلَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ فَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.